المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما يفسد الصلاة وما لا يفسدها - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٣

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب ما يفسد الصلاة وما لا يفسدها

‌باب ما يفسد الصلاة وما لا يفسدها

هذه الترجمة مسوقة؛ لبيان ما حُمِلَ من المناهي على الفساد، وما حمل منها على الكراهة دون الفساد، أو لبيان ما يفسد، وما لا يفسد مع مشابهته لما يفسد، وألا فما لا يفسد الصلاة لا ينحصر من حيث الصورة، وإن حصره بيان ماي فسد.

قال: إذا أحدث في صلاته بطلت صلاته؛ لقوله-عليه السلام:"إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف وليتوضأ، وليعد صلاته" رواه أبو داود [و] قال الترمذي: وهو حسن. وهو إجماع، ولا فرق في ذلك بين أن يفعله قصداً أو سهواً، ومن هنا يظهر لك أن ما يقع في بعض النسخ من تقييد البطلان بالحدث عامداً لا صحة له؛ بل الصحيح ما ذكرناه، وهو المضبوط عن نسخة عليها خط المصنف، وكذا لا فرق بين أن يصدر ذلك في وقت السلام أو قبله؛ لما تقدم من دليل اشتراط السلام.

قال: "وإن سبقه الحدث ففيه قولان: أحدهما: لا تبطل؛ فيتوضأ، ويبني

ص: 387

على صلاته"؛ لقوله عليه السلام: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على صلاته، ما لم يتكلم".

قال الإمام: وهذا الحديث مدون في الصحاح، عن رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة، وليس المراد ما إذا فعل ذلك عامداً بالإجماع؛ فتعين أن يكون السبق مراداً، ولأنه حدث حصل في صلاته بغير فعله؛ فوجب ألا يبطلها قياساً على حدث المستحاضة وسلسل البول، وهذا ما نص عليه في القديم، قال الماوردي في "باب صلاة المسافر": وفي "الإملاء" أيضاً. وقال البندنيجي هنا: إنه في "الإملاء".

ص: 388

ولا فرق على هذا بين الحدث الأصغر والأكبر-ويتصور بأن ينام في الصلاة؛ فيجنب-ولا بين أن يستقبل القبلة في حال مضيّه إلى الطهارة أو يستدبرها؛ إذا كان لا يمكنه إلا ذلك.

وله يشترط قرب الفصل بين حدثه وطهارته أم لا؟ الذي أورده الماوردي: نعم، والذي أورده الإمام: أنه لا يشترط، حتى لو كان بينهما فرسخ لم يضر، ولا يجب عليه أن يخرج في مشيته عن مألوف عادته من عدو ويدار إلى رفع الحدث، ولكنه يقتص، ويجوز له استقاء الماء من البئر؛ لأنه من مصلحة الصلاة.

قال: والثاني: أنها تبطل؛ لما روى أبو داو بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليعد صلاته". ولأنه حدث في الصلاة يمنعه من المضي فيها؛ فوجب أن يمنعه من البناء عليها، أصله: حدث العامد، وعكسه: سلس البول والاستحاضة.

والحديث الأول، فقد قال الشيخ أبو حامد: إنه مرسل؛ لأنه يرويه ابن جريج، عن ابن أبي مليكة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أسنده- وهو إسماعيل بن عياش عن ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم -فهو سيء الحفظ، كثير الغلط فيما يرويه عن غير الشاميين.

وابن أبي مليكة ليسمنهم، ولو سلم من ذلك كله لكان قوله-عليه السلام:"وبنى علىصلاته"[محتملاً لأمرين]:

أحدهما: أن معنى البناء: الاستئناف؛ كما تقول العرب: بنى الرجل داره، إذا استأنفها.

والثاني: أنه محمول على مسافر أحرم بالصلاة ينوي الإتمام، ثم أحدث؛ فعليه البناء على حكم صلاته في وجوب الإتمام.

فيحمل على أحدهما بدليل ما ذكرناه، وهذا هو الجديد، والصحيح بالاتفاق،

ص: 389

بل ادعى الإمام هاهنا أن القول القديم ليس معدوداً من المذهب؛ فإن الشافعي [بما] نص عليه في الجديد على جزم رجع عما صار إليه في القديم، ولكن أئمة المذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة على أقصى الإمكان. وماقاله فيه منازعة من وجهين:

أحدهما: [أنا حكينا القول] الأول عن "الإملاء" أيضاً، وهو-كما قال الرافعي في غير ما موضع-معدود من الكتب الجديدة.

والثاني: أن الأصحاب مختلفون في أن الشافعي إذا نص في القديم على شيء وفي الجديد [على] خلافه-هل يكون رجوعاً عن القديم كما لو صرح به، أم لا؟

وقد حكينا ذلك عن رواية الصيدلاني والقاضي الحسين، في باب صفة الأئمة، عند الكلام في الاقتداء بالأمي.

ثم إذا قلنا بالجديد فلا تفريع.

وإن قلنا بالقديم فعليه فروع:

الأول: إخراج باقي الحدث عمداً هل يبطلها؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ كما لو فعل ذلك ابتداء، وهذا ماصدر به الإمام كلامه.

والثاني: لا، وهو ما حكاه القاضي الحسين، عن الشافعي، ولم يورد ابن الصباغ والشيخ في "المهذب" والبغوي غيره.

قال ابن الصباغ وغيره: واختلف أصحابنا في تعليله:

فقيل: لأن الحدث لا يؤثر بعد نقض الطهارة.

قال: وهذا يلزمه أن يقول: إذا أحدث حدثاً آخر: لا يبطل.

قال بعضهم: ولا قائل به.

قلت: بل قيل به، وبه صرح صاحب "البيان"، وادعى المتولي أنه الصحيح من

ص: 390

المذهب، ولفظ البندنيجي: أن الشافعي قال في القديم: لو خرج للوضوء، فحدث عامداص غير الأول-لم تبطل صلاته؛ لأنه حدث يرد على حدث؛ فلا يؤثر في الأول، ولايزداد.

وقيل: لأنه يحتاج إلى إخراج بقيته، وهو حدث واحد؛ فكان حكم آخر حكم أوله.

الثاني: هل له أن يعود بعد طهارته إلى موضع صلاته، [أو يتمها حيث أمكنه بعد الطهارة؟

قال في "التتمة": إن كان مأموماً، والإمام -بعد- في الصلاة- كان عليه أن يعود إلى موضع صلاته،] إلا أن ينوي مفارقته، وإن كان منفرداً، [أو إماماً]، أو مأموماً علم أنه لا يدرك الإمام في الصلاة-فلا يجوز له العود؛ فلو عاد، بطلت، إلا أن يكون بينه وبين موضع الصلاة قدر خطوتين؛ فلا تبطل.

وفي "الرافعي": أن في "التتمة" أن الإمام إذا لم يستخلف كان له العود، وهذا أشار إليه المتولي عند الكلام في مسألة الاستخلاف.

الثالث: يجب عليه أن يسلك أقرب الطرق إلى موضع الطهارة، فلو كان للمسجد بابان، أحدهما أقرب؛ فسلك الأبعد- بطلت صلاته؛ قاله القاضي الحسين.

الرابع: إذا تطهر هل يعود إلى الركن الذي أحدث فيه، أو إلى ما بعده؟ حكى الرافعي عن الصيدلاني أنه قال: إن سبقه في الركوع فيعود إلى الركوع، لا يجزئه غيره، وهو ما حكاه الإمام عن أبي حنيفة، ثم قال: وهذا فيه تفصيل عندي على القديم، فأقول: إن سبق الحدث في الركوع مثلاً قبل حصول الطمأنينة عاد إليه، وإن جرى بعدها ففيالعود احتمال، والظاهر أنه لا يعود؛ فإن موجب هذا القول أن الحدث لا يبطل ما مضى.

وهذا ما أورده في "الوسيط"، والذي يظهر قول الصيدلاني؛ فإن الرفع من الركوع جزء من الصلاة، وإن لم يكن مقصوداً؛ فيشترط أن يكون على طهارة، ولم توجد.

ص: 391

ثم الكلام في هذا التفات على ما إذا قدر المريض على القيام في أثناء الصلاة، وستعرف ما ذكرناه عن الإمام فيه.

الخامس-وهو كالأجنبي-: إذا صلى بطهارة المسح، وظهرت الرّجل في أثناء الصلاة بسبب تقطعه-فهل يلتحق بسبق الحدث، أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا؛ لتقصيره بلبس خف خلق؛ فشابه ما لو انقضت المدة وهو فيها؛ فإنها تبطل قولاً واحداً، ولا يتخرج على سبق الحدث، قال الرافعي: وعلىقياس هذا ينبغي أن يقال: لو شرع في الصلاة على مدافعة الأخبثين، وهو يعلم أنه لا يبقى له قوة التماسك في أثنائها، ووقع ما علمه-فتبطل-لا محالة-صلاته، ولا يتخرج على القولين.

والثاني: نعم؛ لان التقصير لا يظهر فيه.

قال الرافعي: وهذا أظهر.

قال: وإن لاقى نجاسة غير معفو عنها بطلت صلاته؛ كما لو تعمد الحدث.

ولا فرق في ذلك بينأن ينسى أنه في الصلاة، أو عرف ذلك على القول الجديد.

أما إذا قلنا بالقديم: إن اجتناب النجاسة من قبيل المناهي؛ فإذا نسي ذلك لم تبطل، ولو لاقى نجاسة معفواً عنها، مثل: أن قتل قملة ونحوها لم تبطل صلاته؛ لأن دمها معفو عنه، قاله البندنيجي في باب العمل في الصلاة.

قال: وإن وقعت عليه نجاسة يابسة؛ فنحاها في الحال-لم تبطل صلاته؛ لتعذر الاحتراز عن ذلك، مع أنه لا تقصير منه، والرفع في الحال، وبهذا فارق سبق الحدث؛ حيث كان الجديد فيه البطلان؛ لأن زمن الطهارة يطول.

فإن قلت: لو جرى سبق الحدث وهو في ماء كثير؛ فانغمر فيه [وهو] على قرب من الزمان-فقد شابه هذه الصورة؛ فينبغي أن يجزم فيها بالبناء.

قيل: في جوابه نظر الشرع إلى الطهارة من الحدث آكد من الطهارة من الخبث؛ بدليل العفو عن اليسير من الدماء وما لا يدركه الطرف من النجاسات.

وصورة التنحية التي لا تقدح في الصلاة: أن ينفض ثوبه؛ فتسقط. قاله في

ص: 392

"المهذب" وغيره. ولا يجوز أن ينحيها بيده أو كمّه؛ لأنه يكون حاملاً لنجاسة قصداً، وذلك مبطل؛ كما سلف.

وفي "تعليق" القاضي الحسين، عند الكلام في "ستر العورة": أنه إذا كانت النجاسة يابسة، ووقعت على مسجده-فإن نحاها وسجد، جاز، ولو سترها بثوب آخر، جاز، ولو نحاها، بكمه تبطل، ولو أخذ قدراص من الأرض نحاها به عن مسجده فوجهان، ولوأخذ طرفاً من مسجده، وزعزعه حتى سقط؛ فالظاهر أنه لا تبطل صلاته. أما إذا كانت النجاسة رطبة، واحتاج في إزالتها إلى مدة- فالكلام فيها كما سبق في الحدث؛ قاله الماوردي.

قال: وكذا الحكم فيما لو خرجت من بدنه نجاسة مثل قيء، أو رعاف، أو دم خراج حصل على ظاهر البدن- فعلى قوله القديم: يغسل النجاسة، ويبني على صلاته [ما لم يتطاول] الفصل، وعلى الجديد: يستأنف، ولو ثار دم جرحه فلم يصب شيئاًمن بدنه، مضى على صلاته في القولين معاً، قال في "التتمة": لأن المنفصل منه غير مضاف إليه.

قال الرافعي: ولعل هذا فيما [إذا] لم يمكن غسل موض الانفتاق، أو كان ما أصابه قليلاً؛ فإن القليل من الدم معفو عنه، وألا فقد تنجس [ذلك] القدر من الظاهر؛ فيجب غسله.

قال: وإن كَشَفَ عورته، بطلت صلاته، هكذا ضبط عن نسخة المصنف.

ووجهه: أن الستر شرط فيها، وقد زال بفعله؛ فشابه الحدث.

قال: وإن كشفها الريح لم تبطل، أي: إن أعاد السترة عن قرب؛ كام لو وقعت عليه نجاسة؛ فنحاها في الحال، وكما لو غصبت منه فردها في الحال، وهكذا الحكم فيما لو انحل الإزار، وأعاده على قرب.

ولو قيل: إنها تبطل؛ لأنه ينسب في انحلاله إلى تريط-لم يبعد، فلو

ص: 393

طال الزمان في الرد بطلت على الجديد، وحد الطول -كما قاله الإمام-: أن يكون بينهما مكث محسوس، وهذه المسألة التي ذكرها الشيخ مما استأنس بها الغزالي للقول القديم في سبق الحدث، وسببه: أن الإمام قال: القياس تنزيلها على قولي سبق الحدث، ولو كان ذلك محطوطاً عنه؛ لقرب الزمان-لكان إذا تعمد كشف الإزار ورده على القرب لا تبطل صلاته، وقد قالوا بالبطلان.

وغيره فرق بينهما بأن نظر الشرع إلى الطهارة آكد؛ بدليل: أنه يوجب الإعادة عند الصلاة بفقدها على الصحيح، ولا كذلك عند فقد السترة على الصحيح؛ فاقتضى ما بينهما من التفاوت اختلافهما في الحكم، وإن اتفقا في الشرطية.

واستؤنس كذلك بأن استقبال القبلة شرط في [صحة] الصلاة؛ كالطهارة، ولو تيقن الخطأ فيها كان في الإعادة قولان، ولا كذلك إذا تيقن أنه صلى بغير طهارة.

قال: وإن قطع النية، أو عزم على قطعها، أو شك هل يقطعها، أو ترك فرضاً من فروضها-بطلت صلاته.

هذا الفصل ينظم أربع صور:

الأولى: إذا قطع النية، مثل: أن نوى الخروج من الصلاة بطلت؛ لأنها إما شرط في جميع الصلاة أو ركن؛ لقوله-عليه السلام:"لا عمل إلا بنية"، واكتفى الشرع بالاستمرار الحكمي؛ لعسر الوفاء باستمرار حقيقة النية، وقد زال بالقطع، وهذا مما لا خلاف فيه.

والفرق بين ذلك وبين ما إذا نوى الخروج من الصوم؛ حيث لا يبطل على الصحيح: أن الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات؛ فهو من باب التروك؛ فضعف تأثير النية في إبطاله، بخلاف الصلاة؛ فإنها مخصوصة بوجوه الربط، ولا

ص: 394

يتخللها ما ليس منها إلا على قدر الحاجة، ثم هي ذات أفعال مختلفة، والرابط بينها النية؛ فإذا زالت زال ما ينظمها، وخالف ما نحن فيه أيضاً ما لو نوى وهو في أثناء الفاتحة قطعها، واستمر على القراءة: لا تبطل؛ لأن النية لا تشطر في القراءة؛ فلا يؤثر قطعها فيها.

[فرع]: قال: لو نقل النية من عبادة إلى عبادةهل تنزل منزلة قطع النية، أو تنقلب نفلاً؟ فيه خلاف مشهور، وانقلابها نفلاً [فيما إذا نقل نية الفرض إلى النفل أولى من انقلابها نفلاص وقد نقلها] من فرض إلى فرض، واستهشد القاضي الحسين على الإطلاق في كتاب الجمعة بثلاثة نصوص:

أحدها: لو [أحرم بالحج في غير أشهره، قال: انعقد إحرامه عمرة؛ كما لو] أحرم بالظهر قبل الزوال ينعقد نفلاً.

والثاني: [أن] مسبوقاً لو كبر هاوياً إلى الركوع؛ ليدرك الإمام فيه- قال: تنعقد صلاته نفلاً.

والثالث: لو أحرم بالصلاة منفرداً، ثم حضر القوم؛ ليقيموا الجماعة- قال: يسلم من ركعتين، وتكونان له نافلة.

الثانية: إذا عزم علىقطعها، مثل: أن جزم وهو في الأولى أنه يقطعها] في الثانية، بطلت صلاته في الحال؛ لقطعه موجب النية؛ إذ موجبها الاستمرار إلى منتهى الصلاة.

فإن قيل: قد حكى [عن] المتولي أنه لو عزم في أثناء صلاته على أن يفعل فعلاً مخالفاً للصلاحة، أو يتكلم عامداً- لم تبطل صلاته في الحال، وهو نظير العزم على قطع النية؛ فهلا سويتم بينهما؟

قلنا: يمكن أن يكون في كل واحدة في المسألتين قول مخرج من

ص: 395

الأخرى، وإن لم يصرح الأصحاب بالتخريج، لكن في كلامهم ما يدل على الحكم؛ وذلك أن القاضي أبا الطيب قال في "صلاة الخوف"-كما حكاه نه بعضهم-: ثم إن في [تصحيح صلاة الطائفة الأولى] والثانية، فيما إذا كانت الصلاة رباعية، وفرقهم أربع فرق، وقلنا: تبطل صلاة الإمام-ما يعرفك أن الإنسان إذا نوى بعدما أحرم بالصلاة أن يفعل ما يبطل الركعة الثانية والرابعة، لا تبطل صلاته في الحال، وأن من قال ببطلانها في الحال من الأصحاب فقد أخطأ. وهذا منه تصريح بالبطلان في الصورة المحكية عن المتولي، ويشبه أن يكون قد خرج من مسألتنا.

وقد حكى الإمام ان في كلام الشيخ أبي علي في "شرح التلخيص" ما يدل علىن من علق الخروج بانتصاف الصلاة أو مضى ركعة مثلاً- أن الصلاة لا تبطل في الحال، ولو رفض المصلي ذلك قبل الانتهاء إلى الغاية التي ضربها، فتصح صلاته.

وهذا تصريح في مسألتنا بعدم البطلان في الحال، فيشبه أن يكون قدخرج من الصورة الأخرى.

والصحيح - عند الجمهور-: أن الصلاة تبطل بالعزم على قطع النية دون العزم على فعل ما يبطل.

والفرق: أن النية لما كان سحبها على جميع أفعال الصلاة شرطاً، فالعزم على قطعها يخل بما يقع بعده؛ لفوات الجزم في الحال، والفعل المناقض لا يتحقق قبل حصوله، والله أعلم.

الثالثة: إذا شك هل يقطعها، مثل: أن تردد في أنه هل يخرج منها أو يستمر- بطلت؛ لأن الاستمرار الذي اكتفى به الشرع في الدوام زال بهذا التردد؛ فبطلت، وشبه ذلك بالإيمان؛ فإنا وإن لم نشترط استمراره على وجه الذكر والجزم، فلا بد من اشتراط ألا يدركه شك وتردد.

قال الإمام: وليس من الشك عرض التردد بالبال كما يجري للموسوس؛ فإن

ص: 396

الإنسان قد يعرض بذهنه تصور الشك وما يترتب [عليه][على] تقدير الجواز، وذلكمن الفكر والهواجس، ولو أبطل الصلاة لما سلمت صلاة مفكر.

قال الإمام: والحكم ببطلان الصلاة عند التردد في قطعها لم أر فيه خلافاً للأئمة. نعم، لو علق نية الخروج علىمر يجوز أن يفرض طرآنه ويجوز ألا يفرض، مثل: أن ينوي الخروج لو دخل فلان، فهل نقضي ببطلان الصلاة أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنها لا تبطل؛ فإنه لا يمتنع ألا يدخل من ذكره، وتتم الصلاة على مقتضى ما أحدثه من التردد، وهذا غير سديد.

والأقيس والأصح: البطلان؛ كما لو نوى الخروج عن اسلام، وكما لو شرع في الصلاة علىهذهالنية لا تنعقد صلاته بلا خلاف؛ كذا قاله الرافعي، وما قاله لا يسلم عن نزاع؛ فإن القاضي الحسين قال- بعد حكاية الخلاف في الصورة الأولى-: إن هذه الصورة أولى بعدم الانعقاد؛ لأن المضاد قَرَنَهُ بالعقد.

ويؤيده أن الإمام حكى في "باب الاعتكاف": أنه لو نذر صوماً، ثم شرع فيه وفاء بالنذر، وشرط أن يتحلل منه إن عرض عارض عيّنه مما يعد عرضاً، [وإن لم يكن] في عينه مُبيحاً [للخروج]-قال العراقيون: ينعقد الصوم، ويثبت التحلل على شرط القضاء؛ لأجل الاستثناء، وعلى هذا لا تفريع، وعلى الأول إذا وجدت الصفة التي علق الخروج عليها، وكان ذاهلاً عما قدمه من تعليق النية-قال الإمام: فهذا فيه احتمال، وحفظي عن الإمام: أن الصالة لا تبطل.

وفي كلام الشيخ أبي علي أنا نقضي بالبطلان.

وهذا ما حكاه الرافعي عن الأكثرين، وادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف فيه.

قال الإمام: والذي أراه أنه إن صح هذا أن يقال: إنا نتبين عند وجود الصفة أن

ص: 397

الصلاة بطلت من وقت تغير النية؛ فإنا يجريان الصفة نتبين أن ما جرى من التغيير خالف مقتضى النية على كل ما وقع.

أما إذا وجدت الصفة، وهو ذاكر للتعليق، قال الرافعي: بطلت بلا خلاف.

الرابعة: إذا ترك فرضاً من فروضها، أي: من فروض الصلاة -بطلت؛ لقوله –عليه السلام للمسيء في صلاته-حيث لم يطمئن: "ارجع فصلّ؛ فإنك لم تصلّ".

وإذا كانذلك في فرض هو صفة لفرض آخر، ففي الفرض الذي ليس بصفة أولى.

فإن قلت: الصلاة لم يتقدم لها هاهنا ذكر حتى يعود الضمير في قوله: "من فروضها" إليها، بل المتقدم ذكره إنما هو النية؛ فلم لا أعدته إليها، ويكون التقدير: أو شك هل ترك فرضاً من فروض النية، مثل: اقترانها بالتكبير، وتعيين الصلاة، وكونها فرضاً على رأي، ونحوذلك، وحينئذ تكون حقيقة ذلك أنه شك هل نوى أو لا؟

قلت: لأن الشيخ أطلق القول بالبطلان فيها، ولو كان مراده ما ذكره السائل لم يطلقه؛ لأن الأصحاب فصلوا، فقالوا: لو شك [هل نوى مع تكبيرة الإحرام أو قبلها أو بعدها؟ أو شك] هل قطع النية أم لا؟ فإن زال الشك والتردد على قرب، وظهر أنه نوى في محل النية [قبل مضي ركن في حال الشك] والتردد-استمرت الصلاة على الصحة، وهذا بخلاف ما إذا شك المسافر هل نوى القصر، ثمظهر أنه نواه على قرب؛ فنه يلزمه الإتمام. وقد ذكرنا الفرق بينهما ثَمَّ.

وإن دام الشك في النية حتى مضى ركن بطلت، ولو بان عدم القطع.

قال الإمام: لأن الركن الذي قام به التردد لا يعتد به؛ فيأتي ببدله؛ فكأنه زاد في صلاته ركناً في غير أوانه، ولو فعل هذا لحكمنا بالبطلان، كما ستعرفه؛ فكذا هنا، وهو وإن كان معذوراً في الإعادة فهو غير معذور في الإنشاء على الشك؛ فإنه كان يجب عليه التوقف.

ص: 398

وهذا التعليل من الإمام يقتضي أن محل الكلام فيما إذا زاد ركناً فعلياً؛ كما إذا حصل التردد وهو قائم فركع، ورفع، ثم تذكر، ويفهم أن الذكر لو كان قولياً كالقراءة لم تبطل على المنصوص، دون القول المخرج الذي سنذكره، وبذلك صرح القاضي الحسين، لكن الماوردي جزم القول بالتسوية بين القراءة والركوع، وهو ما حكاه ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، عن الشافعي، وأنه ألحق بهما الرفع من الركوع أيضاً، وقياسه: أن يلحق به ما إذا تشهد مع الشك، وقد قال في "التهذيب": إن الشيخ الحقه بالفاتحة.

ثم إذا قلنا بالبطلان عند قراءتها في الشك، فلو جرى بعضها مع التردد، ثم زال، وأعادما جرى في حال الشك-لم تبطل، قاله الإمام، وجزم به.

وقال فيما إذا طرأ الشك في الركوع، ثم زال، وهو في بقيته، واستمر صاحب الواقعة بعد الذكر ساعة راكعاً، ثم رفع: إن الأئمة قطعوا بعدم البطلان؛ لأن الركو الممتد واحد في الصورة؛ فلا يجعل بعضه كركوع منفرد زائد غير محسوب. ولو لم يمض في حال الشك والتردد ركن قولي ولا فعلي، لكن طال الزمان-ففي البطلان وجهان حكاهما الماوردي والإمام:

أظهرهما-في "الرافعي"-: البطلان.

ومقابله: هو ظاهر النص في "الأم"،ولم يحك في "المهذب" غيره، وعليه أورد ابن الصباغ سؤالاً، فقال: فإن قيل: هو في هذه الحالة متلبس بالصلاة، وقد مضى جزء منها مع الشك؛ فينبغي أن تبطل جزماً قبل ذلك الجزء، [و] لو خلت منه الصلاة لجاز؛ فعفى عن الشك فيه، وبهذا خالف الأفعال.

قلت: وفيه نظر؛ لأن خلو الصلاة عنه لا يقطع الموالاة، وكونه بغير نية يقطع ذلك.

ثم الوجهان مصوران في "النهاية" بما إذا كان الشك قد طرأ في التشهد الأول، والقاضي الحسين حكاهما [فيما] إذا كان ذلك في القيام، وبناهما على أن السكوت الطويل في القيام هل يبطل الصلاة، أم لا؟

ص: 399

فإن قلنا: يبطل، فهاهنا أولى، وألا فوجهان. والفرق: أن هناك لم يكن له غرض ومقصود [في السكوت]؛ فأولى أن تبطل [به صلاته]، بخلاف ما نحن فيه، قال: و [هكذا] لوحصل الشك في أثناء الفاتحة، سكت سكوتاً طويلاً-كان فيه الوجهان، فإن قلنا: لا تبطل [الصلاة]، يلزمه استئناف الفاتحة.

قال الماوردي: وما ذكرناه عند مضي الركن وعدمه في حال الشك، يجري فيما لو شك هل نوى ظهراً أو عصراً [ثم انكشف] الحال. وهذا ما اختاره القاضي الحسين بعد أن حكى عن القفال أنه قال: تبطل صلاته بكل حال؛ لأن ما مضى في حال الشك يكون نفلاً؛ صار كما لو قلب الفرض نفلاص، ولو قلبه نفلاً يبطل فرضه؛ فهاهنا كذلك، وإن لم يغير النية فقد شك في وجودها؛ فحل محل تغير النية إلى فرض آخر، وليس كما قلنا: إذا شك في أصل النية، فتذكر من بعد؛ لأن هاهنا شك في صفتها دون أصلها، وقد عكس في "البيان" هذه الطريقة، قال: لو شك هل عين النية للفرض أم لا؟ ثم ذكر أنه عينها-ففيه التفصيل السابق، وإن كان شكه في أصل النية؛ فوجهان:

أحدهما: أن الحكم كذلك.

والثاني: تبطل الصلاة بنفس الشك؛ لأنه لم يتيقن الدخول في الصلاة.

وإذا عرفت ما قاله الأصحاب في ذلك عرفت أن الشيخ لم يرده، وتعين عود الضمير إلى الصلاة؛ لأنها مذكورة في التبويب، والله أعلم.

قال: وإن ترك القراءة ناسياً ففيه قولان، أصحهما: أنها تبطل؛ لأنها ركن واجب في الصلاة؛ فلم تسقط بالنسيان؛ كالركوع والسجود، وهذا هو الجديد.

ومقابله، وهوالقديم: أنها لا تبطل؛ لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "صلى بنا عمر- رضي الله عنه-المغرب، فترك القراءة، فلما فرغ قيل له: تركت القراءة؛ فقال: كيف كان الركو والسجود؟ قالوا: حسناً. فلا بأس إذن".

ص: 400

قال الشافعي: وهذا من الأمر العام، ولأن النسيان عذر لا يتقاعد عن السبق، والسبق مسقط لها، والقائلون بالجديد أجابوا عن أثر عمر بجوابين:

أخدهما: أنه إنما ترك الجهر بالقراءة، قال الشافعي: وهو الأشبه بعمر، رضي الله عنه.

والثاني: أن الشعبي روى عن عمر "أنه أعاد تلك الصلاة"، وليس النسيان كالسبق؛ ألا ترى أنه لا يسقط القيام، والسبق يسقطه؟!

ومحل القولين في المسألة إذا لم يتذكر الترك إلا بعد السلام وطول الفصل؛ فإن تذكر في الصلاة فعلى الجديد: إن كان في الركوع عاد إلى القيام، وقرأ، وإن تذكر بعد القيام للثانية صارت أولى، ويلغو ما سبق.

وإن تذكر بعد السلام وقرب الفصل، فهو كما لو ترك السجود ونحوه.

وعلى القديم: إن تذكر بعد الركوع لا يلزمه أن يأتي بها.

قال القاضي الحسين: ويحتمل أن يقال: يأتي بها ما لم يسلم؛ لأن الظاهر من أثر عمر أنه إنما سئل بعد الفراغ من الصلاة.

قال: وإن زاد في صلاته ركوعاً، أو سجوداً، أو قياماً، أو قعوداً عامداً، أي: وهو عالم بالتحريم-بطلت صلاته؛ لأنه متلاعب بالصلاة.

قال الإمام: ولا يشترط في زيادة ذلك أن يطمئن فيه كما يشترط في الركوع والسجود المعتد به؛ لأن ذلك إنما بطل لأن فيه تغيير نظمها، وهذا المعنى يحصل وإن لم يطمئن، بخلاف الركن المعتد به؛ فإن المقصود منه الخضوع، ولا يتأتى ذلك من غير تثبت ومكث يفصل الركن [عن الركن].

فإن قيل: العمل القليل في الصلاة لا يبطلها مع العمد، وهذا لا يبلغ مبلغ العمل الكثير؛ فينبغي ألا تبطل؛ كما صار إليه أبو حنيفة.

فجوابه: أن القلة والكثرة [لا يعنيان لأعيانهما]، وإنما المتبع المعني، وهو

ص: 401

تغيير نظم الصلاة ظاهراً، وعدمه، وزيادة الركن وإن لم تكن عملاً كثيراً تظهر به المخالفة، فكذلك، ولا فرق في زيادة ذلك [بين أن يكون] ليتدارك ما فاته من ذكر فيه أو لا.

وما حكي عن الربيع من أنه إذا أعاده لأجل الذكر، لا تبطل-محمول على ما إذا كان جاهلاً بالمنع من العود.

فرع: تطويل الركن القصير عمداً: كالرفع من الركوع إذا طوله بالسكوت-هل يبطل الصلاة؛ كزيادته، أم لا؟ فيه وجهان:

وجه البطلان، وهو الظاهر: أنه يقطع الموالاة.

فإن قلنا به فلا كلام.

وإن قلنا بمقابله؛ فلو نقل معه إليه ركناً كالفاتحة، والتشهد، والقنوت-فثلاثة أوجه، ثالثها قاله القفال: إن طوله بالقنوت بطلت، وإلا فلا، واختاره في "المرشد".

وقال غيره: [الظاهر] البطلان مطلقاً، [وسيكون لنا عودة إلى ذلك في الباب الذي يليه؛ فليطلب منه].

قال: وإن قرأ [الفاتحة مرتين، أي: في قومة واحدة] عامداً-لم تبطل صلاته على المنصوص؛ لأن المعنى في إبطالها بتكرار الركن الفعلي اختلاف نظم الصلاة [به]، وهو لا يختلف بتكرار الفاتحة، ولأنه تكرار ذكر؛ فلا تبطل؛ كما لو قرأ غيرها مرتين.

قال ابن الصباغ عند الكلام في صلاة القاعد: وهذا أخذ من قول الشافعي: "إن المريض إذا قدر على القيام بعد قراءة الفاتحة استحب له أن يعيد القراءة؛ ليكون قد أتى بها في الحالة الكاملة"؛ فإنه يدل على أن تكرار الفاتحة لا يبطل الصلاة، وقد حكى عن أبي الوليد النيسابوري صاحب ابن سريج أن الصلاة تبطل؛ لأنها ركن من الأركان؛ فأشبهت الركوع؛ كذا حكاه نه ابن الصباغ والإمام، ونسب

ص: 402

القاضي الحسين هذا القول إلى تخريج أبي سعيد البلخي، والمتولي نسبه إليه وإلى ابن سريج، [ثم] قال الإمام حكاية عن الأصحاب: وهذا من غوامض محال الاستقرار، والأمر فيه قريب، والفرق ما قدمناه.

وقال ابن الصباغ: إنه ليس بصحيح؛ لأنه لا تقاس الأذكار على الأفعال في ذلك؛ ألا ترى أن تكرار ما ليس بركن في الصلاة، مثل: الجلوس للتشهد الأول-لا يجوز، والقراءة التي ليست بواجبة يجوز تكرارها، ولا تبطل الصلاة؟! كذلك الواجب فيها، ولأن الركوع إذا كرره فإنما يأتي به في غير موضعه، وهاهنا يأتي بالقراءة ثانياً في موضع القراءة؛ فوزانه أن يطيل الركوع.

والخلاف المذكرو جار فيما إذا كرر التشهد الواجب في الصلاة في محله، أما إذا كرر الفاتحة في غير القيام: فإن كان في رنك قصير فقد ذكرناه، وإن كان في ركن طويل، وقلنا: لا يبطل إذا كررها في محل القراءة- فهاهنا وهجان [حكاهما الماوردي في باب صفة الصلاة]، ويجريان فيما لو قرأ في الركن الطويل غير الفاتحة؛ كما ستعرفه في سجود السهو.

وتكرار الكلمة الواحدة من الفاتحة ليس كتكرارها بجملتها؛ لأن الكلمة ركن فيها، لا في الصلاة، [وهي ركن في الصلاة]، صرح به القاضي الحسين، نعم لو كررها عمداً هل يقطع نظم الفاتحة؟ فيه كلام سبق عن الشيخ أبي محمد وغيره.

قال: وإن تكلم عامداً، أي: بما يصلح لخطاب الآدميين؛ لمصلحة الصلاة أو غيرها، أو قهقه عامداً- بطلت صلاته.

هذا الفصل ينظم مسألتين:

الأولى: أن الكلام عمداً يبطل الصلاة، والأصل فيه: ما روي عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]؛ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام" أخرجه مسلم.

ص: 403

وقال عليه السلام-لمعاوية بن الحكم السلمي- وقد شمت في الصلاة عاطساً-:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآ،"،أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي وائل:"إن الله-عز وجل -يحدث من أمره ما شاء، وإن الله قد أحدث [من أمره] ألا تكلموا في الصلاة" رواه أبو داود، وأخرجه النسائي.

ص: 404

فإن قيل: قد روى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي الظهر- أو العصر-فسلم على ركعتين؛ فخرج سرعان القوم، وقالوا: قصرت الصلاة؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجلس على خشبة المسجد كالمتفكر، وهبنا أن نسأله، وكان في القوم رجل [إحدى يديه أطول من الأخرى]، يقال له: ذو اليدين؛ فقام فقال: أقصرت الصلاة أم نسيتها يا رسول الله؟ فقال-عليه السلام:"كل ذلك لم يكن"؛ فقال: لقد كان بعض ذلك، وكان في القوم أبو بكر وعمر؛ فقال لهما-عليه السلام:"أكما قال ذو اليدين؟ " فقالا: نعم؛ فقام وأتم الصلاة، وسجد سجدتين"، وهذا يدل على أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها؛ فوجب أن تختص الأحاديث [الأول] بما لا يتعلق بمصلحة الصلاة، وهو إجماع.

قيل: لا حجة في هذه القصة للمدعي؛ لأن كلام ذي اليدين إنما لم يبطل صلاته؛ لاعتقاده أن الصلاة قد قصرت، وجوابه عليه السلام لاعتقاده تمام صلاته، وكلام أبي بكر وعمر إجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي لا تبطل الصلاة -كما ستعرفه- على أنه روي أنهما أشارا بذلك ولم يتكلما.

ص: 405

وأيضاً فقوله عليه السلام:"إذا نابكم شيء في [الصلاة، فليسبّح] الرّجال، وليُصَفِّح النساء"-كما أخرجه أبو داود- يقتضي عدم التفرقة بين ما هو لمصلحة الصلاة وغيرها.

ثم الكلام المبطل هو المسموع المهجي، وأقله حرفان إن لم يحصل الإفهام بدونهما، ولا يشترط فيهما أن يكونا مفهمين، بل لو نطق بحرفين [ليس] لهما معنى بطلت صلاته، والحرف الواحد إن كان مفهماً، مثل: قوله: ["قِ"] من الوقاية، و"عِ" من وعاية الكلام، و"شِ" من: وَشَى يُشِي-مبطل للصلاة؛ كالحرفين، صرح به البندنيجي وغيره من اهل الطريقين، وإن كان غير مفهم فلا يبطل.

ولو كان بعده صوت غُفْلٌ مُوصَلاً به، قال [الإمام]: فقد كان شيخي يتردد فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكلام حروف، والأصوات المرسلة من مباني الكلام، والأظهر -عندي - أنه مع الحرف كحرف مع حرف؛ فإن الصوت [الغفل]- مدة، والمدات تقع "ألفا" أو "واواً" أو "ياءً"، وإن كانت إشباعاً لحركات ممدودة، وعندي أن شيخي لم يتردد فيها، وإنما تردد في صوت غفل لا يقع على صورة المدات، والحرف إذا سبقه همزة، كقوله:"آه"، مبطل، سواء

ص: 406

كان من خوف النار أو [من] غيرها، قاله البندنيجي، وهو جار على ما سلف؛ لأنه نطق بحرفين.

وقال المحاملي: إن كان ذلك من خوف النار لم يبطل. وهو يقرب مما سنذكره عن السرخسي، والمشهور: خلاه.

ثم ظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في كون الكلام مبطلاً بين الكلام الواجب وغيره، وقد فصل الأصحاب؛ فقالوا: الحكم كذلك فيما ليس بواجب، أما الواجب: كمكالمةرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاه، فلا يبطل؛ لقصة أبي بن كعب، وهي مشهورة.

وفي "الرافعي" في "كتاب النكاح" حكاية وجه: أن إجابته لم تكن واجبة، ولو أجابه بطلت الصلاة.

والذي ذكره الأصحاب هاهنا: الأول، وألحق أبو إسحاق به إنذار الأعمى والصغير ونحوهما من الوقوع فيما يهلكه، وهو الأصح في "الحاوي"، واختيار جماعة من أصحابنا.

وقيل: [إن] ذلك لا يجب عليه، ولو فعله بطلت صلاته؛ كذا قاله في "المهذب".

وغيره جزم بالوجوب، وقال بالبطلان عند الإنذار، وفرق بين ذلك وبين إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد لا يقع فيما يخاف عليه الهلاك فيه.

وهذا ماحكاه البندنيجي لا غير، وقال الرافعي: إنه الأصح عند الأكثرين.

ص: 407

ثم محل الخلاف إذا لم يمكن الإنذار بغير الكلام؛ فإن أمكن يفعل واحد أو فعلين، فتكلم-بطلت؛ لأن الكلام في هذه الحالة مستغني عنه.

فرع: قراءة الآية المنسوخة في الصلاة مبطلة لها؛ كما في الكلام [عمدا]، وفي "الرافعي" عند الكلام في [حد الزنى] حكاية وجه عن رواية ابن كج: أنها لا تبطل بقراءة [آية] الرجم، والقراءة بالرواية الشاذة لا تبطل، لكنها تكره. قاله القاضي الحسين.

واشتراط الرافعي: ألا يكون فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف، ولا نقصان حرف؛ كذا حكاه في [باب] صفة الصلاة.

الصورة الثانية: أن القهقهة عامداً تبطل الصلاة؛ لأن منافاتها للصلاة أشد من منافاة الكلام؛ فكانت بالإبطال أولى، وهذا ما نص عليه في "البويطي"؛ حيث قال: من ضحك في صلاته أعادها. والقهقهة هي الضحك بالصوت.

وقد استدل لذلك بعضهم بما روي أنه-عليه السلام-قال: "الضحك ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء"، وروي: "الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض

ص: 408

الوضوء".

والتبسم لا يبطلها بحال؛ لأنه عليه السلام: "تبسم في الصلاة، فلما سلم قيل له في ذلك؛ فقال: مر بي ميكائيل؛ فضحك لي؛ فتبسمت له".

قال: وإن كان ناسياً، أي:[كونه] في الصلاة، أو جاهلاً بالتحريم، أي: لقرب عهده بالإسلام، كما قاله البندنيجي والماوردي وغيرهما، أو لكونه سلم من اثنتين ناسياً؛ كما قاله البندنيجي والماوردي وغيرهما، أو لكونه سلم من اثنتين ناسياً؛ فظن أنه خرج من الصلاة؛ فتكلم عامداً، كما قاله البندنيجي في كتاب الصيام، أو مغلوباً" [عليه]، أي: مثل: أن غلبه الضحك، أو بدره الكلام

ص: 409

من غير قصد، "ولم يُطِل"- لم تبطل؛ لقصة ذي اليدين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين كلمه كان غير ذاكر أنه في الصلاة، وذو اليدين كان جاهلاً بتحريم الكلام، وكلام أبي بكر وعمر كان على حكم الغلبة؛ لأنه كان يجب عليهما الإجابة.

وقد توهم بعضهم أن هذه القصة كانت بـ"مكة" قبل تحريم الكلام في الصلاة، وحينئذ فلا حجة فيها، وغلط فيه؛ لأن أبا هريرة راويها، وإسلامه سنة سبع من الهجرة.

[قيل:] وإذا كان كذلك ففي الحديث اضطراب؛ لأن ذا اليدين قتل يوم بدر سنة اثنتين من الهجرة.

قيل: هذا غلط أيضاص؛ فإن الذي قتل يوم بدر ذو الشمالين، وذو اليدين مات في زمن معاوية، ثم لو لم يكن [في] هذه القصة دلالة على المدعي لاكتفينا بقوله عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، ولأجله قال [بعض] أصحابنا: لو أكره على الكلام لم تبطل صلاته، لكن الأصح البطلان، وبه جزم في "التهذيب"؛ لأن ذلك نادر، بخلاف ما ذكرناه.

ولأنه لو أكره على الصلاة قاعداص أو بغير وضوء؛ ففعل- وجبت الإعادة؛ فكذا هنا، والخلاف في الإكراه مشبه بالقولين في أن الصوم هل يبطل بالأكل مكرهاً [أم لا؟].

قال: وإن أطال فقد قيل: تبطل؛ لأن ذلك يقطع نظم الصلاة؛ فألحق بكثير الأعال، أو لأنه يمكن الاحتراز عن ذلك؛ فإنه نادر، بخلاف القصير منه. هذا ما ادعى في "التتمة" أنه ظاهر المذهب؛ لأن الشافعي قال في "المختصر": وإذا تكلم ساهياً، أو سلم ناسياً، أو ترك شيئاً من صلب الصلاة-بنى ما لم يتطاول، وإذا تطاول استأنف.

وقال في "المهذب": إنه نص عليه في "البويطي"، وكذا ابن الصباغ، واختاره

ص: 410

وتبعه صاحب "المرشد" وغيره.

وقيل: لا تبطل؛ لعموم الخبر؛ ولأنه لوأبطل كثيره أبطل قليله؛ كالعمد.

قال في "المهذب": ولأنه لا يبطل قليله البادة؛ فكذا كثيره؛ كالأكل في الصوم، وهذا قول أبي إسحاق، وهو الأصح في "الحاوي".

قال: ويفارق الفعل؛ لأنه فيما نحن فيه آكد من القول، وقول الشافعي عائد إلى ما ترك من صلب الصلاة، لا إلى الكلام.

والقائلون بالول لم يسلموا مسألة الصوم، بل بعضهم قال بالبطلان فيها أيضاً؛ كما قلنا هنا بالبطلان، وبعضهم قال: في بطلان الصوم بالأكل الكثير ناسياً خلاف مبني [على] أن العلة في بطلان الصلاة ماذا؟ فإن قلنا بالمعنى الألو لم يبطل الصوم؛ إذ ليس في الصوم نظم [يقطع بالفعل]، وإن قلنا بالمعنى الثاني، وهو إمكان الاحتراز-بطل الصوم أيضاً.

وقد أفهم قول الشيخ: "أو جاهلاً بالتحريم"، أنه لو كان عالماً بالتحريم جاهلاً بأنه مبطل- أنها تبطل، وبه صرح الغزالي وغيره؛ قياساً على ما لو علم أن الزنى حرام، وجهل أنه يوجب الحد؛ فإنه يجب عليه الحد، وعقب الغزالي ذلك بقوله: وإذا جهل كون التنحنح مبطلاً أو ما يجري مجراه، هل يكون عذراً؟ فيه تردد، وهو وجهان.

قال الرافعي: ويبعد أن يكون التصوير فيما إذا جهل كون التنحنح مبطلاً [مع العلم بتحريمه؛ فإنه لا يظهر بينه وبين المسألة قبلها فرق] مع التسوية في الحرمة والجهل بكونهما مبطلين، ولكن الأقرب شيئان:

أحدهما: أن يكون التردد في الجاهل بكون التنحنح مبطلاً، بعد العلم بكون الكلام مبطلاً وحراماً؛ لأن التنحنح وإن بان منه حرفان لا يعد كلاماً؛ فلا يلزم من العلم بالمنع من الكلام العلم بالمنع منه، والتردد على هذا الترتيب قريب من التردد فيما [إذا علم أن] جنس الكلام محرم على الجملة، وجهل أن ما أتى به

ص: 411

هل هو محرم أم لا؟

وقد قال الفوراني والمتولي: إن صلاته تبطل.

وقال الإمام: الذي يظهر أنها لا تبطل.

والثاني: أن يكون التردد في حق بعيد العهد بالإسلام، إذا جهل كون التنحنح مبطلاً: هل يعذر أم لا؟

فعلى رأي: لا؛ كما إذا جهل كون الكلام مبطلاً.

وعلى رأي: نعم؛ [لأن تحريمه] مشهور لا يكاد يجهله مسلم، بخلاف هذا.

قال: وإن نفخ، ولم يبن منه حرفان-لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يسمى كلاماً، وهكذا الحكم فيما لو بكى، أو ضحك، أو تنحنح، ولم يبن منه حرفنا، ومصداقه قول الشافعي [في "الإملاء"] كما قال ابن الصباغ: التنس والتنحنح [والنفخ] ليس من الكلام إلا أن يكون معه كلام؛ كقوله: "أفّ" ونحوذ لك؛ لأنه لا يسمى كلاماً، ولا يفهم منه معناه، أما لو بان منه حرفان فقد أفهم كلام الشيخ بطلان صلاته؛ لأن أقل الكلام إذا لم يكن مفهماً حرفان، كما تقدم، ونصه في "الإملاء" يرشد إليه أيضاً، وفي "التتمة" أن الشافعي قال في "الإملاء": التنفس والتنحنح والنفخ ليس بكلام إلا أن يكون معه كلام.

وقال في "البويطي": إن من ضحك في صلاته أعادها. وأصحابنا جعلوا المسألة على قولين:

أحدهما: أن جميع ذلك لا يبطل وإن بان من حرفان، وفعله مختاراً.

والثاني: أن جميع ذلك يبطل؛ لأن التفوه بما يتهجى حرفين قد وجدوا على وجه يسمع عن قصد؛ فصار كما لو تكلم بكلمة واحدة.

قال: ولعل الأظهر في الضحك البطلان؛ لما في ذلك من هتك الحرمة، [واختار في التنحنح عدم الإبطال؛ لأن الكلام ما تحرك به اللسان من الشفة،

ص: 412

وأما صوت يخرج من الحلق فليس من جنس الكلام، والتنحنح يحصل عند طبق الشفتين؛ فجرى مجرى صوت يخرج من الأمعاء والأحشاء،] وقد حكى عن القفال أنه فرق في المتنحنح بين أن يكون منطبق الفم؛ فلا تبطل صلاته؛ لأنه لا يكون على هيئة الحروف، وبين أن يكون فاتحاً فاه؛ فتبطل.

قال الإمام: وليس بشيء؛ لأن الأصوات لا تختلف في السمع بذلك، وهذا – [كما ذكرنا-مصور بما] إذا فعله مختاراً.

أما لو فعله لامتناع القراءة عليه إلا به، فلا خلاف في أنه لا يبطل، ولو كانت القراءة ممكنة بدونه، لكن امتنع عليه الجهر بها إلا به: فهل يكون عذراً أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأنه تابع لها فكان [كامتناعها].

والثاني: لا؛ لأن الجهر هيئة وأدب، وترك ما هو من قبيل الكلام حتم، وهذا ما رجحه الرافعي.

ثم الخلاف المذكرو في التنفس والضحك ونحوهما-جار-كما قاله المتولي-في البكاء في الصلاة إذا بان معه حرفانن ولا فرق على القول بالبطلان-وهو المشهور-بين أن يكون بكاؤه للخوف من النار ونحوها، أو لحزن على ميت ونحوه.

وعن الروياني أن القاضي أبا الطيب الطبري قال: سمعت الماسرجسي يقول: إن كان [بكاؤه] من خشية الله فلا تبطل، وإن كان لحزن على ميت بطلت، وهذا محكي عن أبي حنيفة، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، والله أعلم.

ولا خلاف في أن فيض العين بالدمع من غير شهيق ولا إظهار حرف: أنه لا يبطل.

ص: 413

قال: وإن خطا ثلاث خطوات متواليات، أو ضرب ثلاث ضربات متواليات- بطلت صلاته.

الأصل في ذلك: [أن الإجماع] منعقد على أن العمل الكثير في الصلاة يبطلها؛ لأنه مغير لنظامها وهيئاتها، ومخالف لمقصودها؛ فإنه يذهب الخشوع، وهو مقصودها. روي أنه عليه السلام قال فيمن يعبث بيده في الصلاة:"لو خشع هذا لخشعت جوارحه"، ولأن القليل لا يبطلها؛ فإنه في محل الحاجة، وليس منه بد؛ فإنه يقع بحكم حركة الجبلة؛ فعفي عنه، ويشهد لذلك قوله عليه السلام وفعله؛ قال –عليه السلام في مسح الحصا:"إن كنت فاعلاص فمرة واحدةً" أخرجه مسلم، وأمر بدفع المار بين يدي المصلي، وبقتل الأسودين في الصلاة؛ الحية، والعقرب، وأدار ابن عباس من يساره إلى يمينه، وغمز

ص: 414

رجل عائشة في السجود، وأشار لجاب"، كل ذلك على ما ثبت في الصحيح.

ص: 415

[و] روى الدارقطني أنه عليه السلام "كان يشير في الصلاة"، وذلك

ص: 416

مشعر بالحالة الدائمة، وقد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي، والباب عليه مغلق، فجئت، فاستفحت، [فمشى]، ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه" رواه أبو داود، وفيه أن الباب بالقبلة.

فثبت بما ذكرناه أن الكثير مبطل، وأن القليل لا يبطل، وليس لذلك ضابط؛ فرجع فيه إلى العرف، والعرف يعد الثلاث المتواليات كثيرة، ولأن ما نقل عنه-عليه السلام-من قول أو فعل لم يبلغ الثلاث، والفعل بوضعه مناف للصلاة؛ فليقع العفو عما ورد بمثله الشرع، ولايتعداه؛ أخذاً بالأصل. وما ذكره الشيخ هو طريقة الشيخ أبي حامد، ولم يخالف منطوقها أحد من الأصحاب. نعم، مفهومها يقتضي أن الخطوة والخطوتين والضربة والضربتين لا تبطل، وبه صرح الشيخ في الباب بعده، وهو المحكي عن أبي حامد أيضاً، و [قال] القاضي أبو الطيب: إن الفعلة الواحدة لا تبطل، وفي الفعلتين وجهان:

ص: 417

أحدهما: البطلان؛ لتكرر الفعل كالثلاث. قال الروياني في "تلخيصه" في صلاة الخوف: وهو ظاهر النص، واختيار كثير من أصحابنا.

وأصحهما -وهو الذي أورده البغوي وغيره ثم-: عدم البطلان؛ لأنه عليه السلام "خلع نعله في الصلاة، ووضعها إلى جنبه"، وذلك فعلان، ثم الخطوة الواحدة إنام لا تؤثر إذا لم تخرج عن المعتاد؛ فإن خرجت: كالطَّفْرة والوثبة، أبطلت- قاله في "التتمة"- لمنافاة ذلك [الصلاة] عرفاً.

ويؤيد ذلك قول الإمام: إن قول الأئمة: إن الخطوة والضربة لاتبطل، والثلاث تبطل -ليس الرجوع في هذا التقريب إلى القدر؛ فإن من حرك أصابعه مراراً كثيرة لم يقابل ذلك خطوة، ولست أنكر أن للتعدد والتقطع أثراً معتبراً في هذا الباب؛ فإن الخطوة الواحدة لا تبطل، ولو قطعها المصلي، فجعلها ثلاث خطوات متواليات -أبطلت، ولست أنكر أنه لو خطا خطوتين واسعتين ولاءً؛ فإنهما في العرف قد يوازيان ثلاث خطوات.

والخطوة، بفتح الخاء: المرة الواحدة، وبالضم: اسم لما بين القدمين، وقيل: لغتان مطلقاً.

ثم في ضبط ما عدا ما ذكرناه من الأفعال قلة وكثرة، وراء القول باعتبار العرف فيها، طرق:

إحداها -قالها القفال-: أن ما يظن الناظر إلى فاعله -إذا رآه من البعد- أنه ليس في الصلاة من أجل فعله-فهو كثير، وما اكن بخلاف ذلك فهو قليل، وهذا في الحقيقة راجع إلى [أن] الاعتبار بالعرف، وبه صرح الإمام.

وقال الغزالي: إن هذا غاية ما قيل فيه، وهو لا يقبل التحديد، واعترض الرافعي على القفال، فقال: الظن الحاصل لمن يراه إما أن ينشأ من أنه غير محتمل في الصلاة شرعاً، أو من ان غالب عادات المصلين الاحتراز عنه عن غير أن ينظر إلى أنه محتمل أم لا؟ فإن كان الأول فإنما يحصل هذا الظن أو

ص: 418

الخيال لمن عرف حد الكثير المبطل، ونحن نجيب عنه؛ فكأنا قلنا: الكثير هو الذي يحكم ببطلان الصلاة به من عرف أنه مبطل، ومعلوم أن هذا لا يفيد شيئاً، وإن كان الثاني أشكل بما إذا رآه حاملاً صبياًّ، أو يقتل حية أو عقرباً؛ فإنه محتمل، مع أن الناظر إليه يتخيل أنه ليس في الصلاة؛ لأنه على خلاف عادة المصلين غالباً.

ثم إذا قلنا بهذه الطريقة، فلو وقع تردد في فعل هل انتهى إلى حد الكثرة أم لا؟ قال الإمام: فينقدح فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: استصحاب حكم الصحة.

والثاني: الحكم بالبطلان؛ فإنا مطالبون بالإتيان بهيئة مخصوصة، ونحن شاكون في حصولها.

والثالث: أنا نتبع الظن؛ فإن استوى الظنان فالأصل دوام الصحة، والأظهر استصحاب الحكم بدوامها؛ فإن الهيئة التي ذكرناها وبينا الكلام عليها ليست ركناص مقصوداً في الصلاة، وكأنها النظام والرابطة للأركان؛ فإذا لم يتحقق انقطاعها دامت.

والطريقة الثانية- حكاها الفوراني، والمتولي، وغيرهما-: أن الفعل الكثير [ما يحتاج] فيه إلى اليدين: كتكتوير العمامة وربط السراويل، والقليل ما لا يحتاج إلى ذلك، ومنه: وضع العمامة عن الرأس وحل السراويل. وهذهالطريقة قال القاضي الحسين: إن القفال سمع أبا نصر المؤدب ينحاز بقولها.

قال الفوراني والمسعودي: [و] ليست بشيء.

والطريقة الثالثة- حكاها الرافعي عن صاحب "العدة"-: أن القليل ما لا يسع زمانه لفعل ركعة من الصلاة؛ فإن وسع فهو كثير.

وقد أفهم إطلاق الشيخ القول بالبطلان عند وجود الثلاث: أنه لا فرق فيه بين العمد والسهو، والعالم بالتحريم والجاهل به، وبه صرح العراقيون والماوردي، وقالوا: الفرق بينه وبين الكلام الكثير إذا وقع على وجه السهو أو الجهل؛ حيث

ص: 419

لا تبطل على أحد الوجهين: أن تأثير الفعل أقوى؛ بدليل اعتبار إحبال المجنون في أم الولد، وعتقا بموته، ولا يعتبر إعتقاه، وأن المكره على القتل يجب عليه القصاص؛ على أصح القولين، والمكره على الطلاق لا يقع طلاقه.

وأما المراوزة فإنهم حكوا في ذلك طريقين:

أحداهما: أن الفعل الكثير كالكلام الكثير ناسياً؛ فيأتي فيه الوجهان، وهذه الطريقة لم يحك في "الكاي" غيرها، وصحح القول بالبطلان، وكذا القاضي الحسين، وقال: إن الذي يقتضيه قول الشافعي فيما لو انحرفت به دابته عن جهة قصده، وطال ذلك: أن صلاته تبطل، سواء كان مخطئاً أو ساهياً؛ قاله في باب استقبال القبلة.

والمتولي صحح مقابله، مستدلاص بقصة ذي اليدين؛ فإنه-عليه السلام-لم يأمر سرعان الناس بالإعادة

والطريقة الثانية: القطع بأنه لا يبطل كالكلام اليسير ناسياً؛ لأن الفعل الكثير عمداً مساوٍ للكلام القليل عمداً في الإبطال؛ فوجب أن ستويا عند النسيان في عدمه؛ هكذا حكاه مجلي عن الغزالي.

والمذكرو في "النهاية" وغيرها موضع هذه الطريقة: أن أول مبلغ الكثير في الفعل هو الذي يبطل الصلاة كالكلام اليسير عامداص؛ فإن الكلام اليسي ريحرم أبهة الصلاة؛ كما أن الفعل الكثير يحرمه؛ فإذا وقع هذا من الناسي لم يبطل، وما تجاوز مبلغ أول الكثرةوينتهي إلى السرف، فهو من الناسي كالكلام الكثير في حال النسيان، وفيه الخلاف.

وأجاب العراقيون عن ذلك: بأن مناط العفو في الكلام اليسير مشقة الاحتراز عنه، وهي الناط في الفعل القليل؛ فنه لما شق الاحتراز نه عفي عن سهوه وعمده، والمشقة منتفية في الفعل الكثير.

فرع: لو عد الآي في الصلاة عقداً بدون التلفظ لم تبطل صلاته.

قال الشافعي: وتركه أحب إلي؛ ولأجل هذا قال بعض أصحابنا: إنه يكره.

ص: 420

واختاره في "المرشد"، والمذهب أنه لا يكره، بل [هو] جائز؛ لأنه روي أنه –عليه السلام-عد الفاتحة في الصلاة، وهذا يدل على أنه جائز.

قال ابن الصباغ: ولكنه يحتمل أن يقال: إنما فعل ذلك؛ ليبين عددها؛ فجاز لغرض، ومن هنا قال مجلي: يحتمل أن يقال: إن كان لغير حاجة [كره]، وإن احتاج إليه لميكره.

فإن قلت: قد تردد جواب القفال في تحريك الإصبع على التوالي في حساب، أو إدارة مسبحة أو حكة، ونحو ذلك-هل يبطل، أم لا؟ من حيث إن الفعل متكرر، لكن كثير البدن ساكن، وهيئة الخشوع غير مختلة؛ فهل يستدل بها [على] النص على عدم البطلان؟

قلت: نعم، إن قلنا: إن حد التوالي قدر ركعة كما تقدم، ثم محل تردد القفال إذا وضع يده في موضع واحد وحك بإصبع واحد مراراً، أو بالجميع مراراً، من غير أن يحرك كفه ذاهباً وجائياً، وفي هذه الحالة جزم صاحب "الكافي" و"التتمة" بأنها لا تبطل.

وقال في "الكافي": إنه [إن] كرر الحك عمداً بذهاب جميع يده وردها-بطلت، إلا أن يدفعه إلى ذلك جرب لا يقدر معه على عدم الحك؛ فلا تبطل.

وعلى هذه الحالة يحمل ما أطلقه البغوي أن الحك ثلاث مرات يبطل الصلاة، ورد اليد وجذبها حكة واحدة، وكذا رفع اليد عن الصدر ووضعها في محل الحك جذبة واحدة، قال في "الكافي".

قال: وإن أكل عامداً بطلت صلاته؛ لأنه إذا أبطل الصوم، وهو لا يبطل بالأفعال؛ فلأن يبطل الصلاة وهي تبطل بها أولى.

والمعنى فيه: أنه يعد معرضاً عن الصلاة؛ فإن المقصود من الصلاة ونحوها من

ص: 421

العبادات البدنية: تجديد الإيمان، ومحادثة القلب بالمعرفة، والرجوع إلى الله-سبحانه-ولذلك وجب الانقطاع عن الأفعال المعتادة، وخطاب الآدميين، وملازمة صوب واحد، وهو القبلة، والأكل والشرب يناقض هذا المقصود.

قال: وإن كان ساهياً لم تبطل صلاته؛: كالصوم، وهكذا لو كان جاهلاً بتحريم ذلك لقرب عهده بالإسلام ونحوه، كما تقدم: لا تبطل؛ لأن الجهل بالتحريم ملحق بالنسيان فيما نحن فيه، ومن هاهنا يظهر لك من كلام الشيخ أمران:

أحدهما: أنه لم يسلك بالأكل في الصلاة مسلك الأفعال [فيها] وإن كان فعلاً؛ إذ لو سلك به هذا المسلك لما فرق فيه بين العامد والساهي، [ولا فرق] فيه بين القليل والكثير عند السهو، وظاهر كلامه يقتضي التسوية.

والثاني: إجراء الصلاة في وجوب الإمساك فيها مجرى الصيام، ويلزم منه الحكم بالبطلان فيما إذا وضع في فيه سكرة، ووصلت إلى جوفه من غير فعل، أو تعاطي في الصلاة ما يبطل الصيام، وهو وجه محكي عن العراقيين في "النهاية"، ولم يورد البندنيجي والماوردي غيره، واختاره الشيخ أبو محمد، وقال: إنه الذي قطع به الأئمة في طرقهم، وعلى هذا: إذا كان بين [أسنانه] ما يجري به الريق إلى المعدة، ولم يتمكن من قلعه؛ فجرى إليها-لا تبطل الصلاة؛ كما لا يبطل الصوم، وبه صرح البندنيجي أيضاً، وحكاه مجلي عن نصه في "الجامع الكبير".

وقال في "البسيط"؛ تبعاً لإمامه: إن من العراقيين من لاحظ في الأكل في الصلاة كونه فعلاً؛ ففرق بين القليل والكثير مع العمد، وقد حكاه في "التتمة" أيضاً.

قال الرافعي: والمرجع فيه على هذا قلةً وكثرةً إلى العرف.

وأفهم كلامه أن كلامهم عائد إلى قلة المأكول كثرته. والذي يظهر على هذه

ص: 422

الطريقة: أن يكون النظر إلى قلة الفعل والمضغ وكثرته، وهذا الوجه قال مجلي: لعمري له وجه.

والفرق بينه وبين الصيام: [أن حقيقة الصوم الإمساك: مع النية؛ فإذا وجد الأكل لم يوجد حقيقة الصوم]؛ فانتفت العبادة، وهاهنا الصلاة موجودة، وإنما أحدث فيها ما ليس منها؛ فكان كسائر الأفعال، وما ذكره من مقصود الصلاة بغير الأكل من الأفعال-أيضاً-ينافيه، وقد فرقوا فيه بين القليل والكثير.

والمنتصرون من المتأخرين للأول قالوا: القليل من الفعل في محل الحاجة، ولا يكاد يستغني عنه في الصلاة؛ ففي الاحتراز عنه مشقة، ولا كذلك جنس الأكل والشرب.

ثم ما ذكره الشيخ من عدم البطلان عند السهو من غير تفرقة بين القليل منه والكثير جرى فيه على قاعدته في أن الأكل لا يفسد الصوم كيف كان، ومن قال بأن الكير [منه] يبطل الصوم؛ فهو قائل به هنا من طريق الأولى، وقد صرح بحكاية الخلاف فيه الرافعي، وصحح القول بالبطلان، والماوردي والبغوي وأبو الفتح سليم جزموا بهن وسلك القاضي الحسين في ذلك طريقاً آخر؛ فقال: إن أكل أقل من سمسمة لم تبطل صلاته، وإن أكل بقدر سمسمة فوجهان، الأظهر: البطلان، وحكى عنه مجلي وجهين فميا إذا وضع في فيه شيئاً يذوب: كسكر، أو فانيذ مما يجري به الريق، فوصل إلى جوفه-هل تبطل صلاته أم لا؟ وأنه قال: إن الأظهر البطلان ثَمَّ.

ص: 423

ثم قال مجلي: وهذا بناء على قولنا: إن الفعلة الواحدة منه تبطل الصلاة، ولا خلاف في أنه إذا وضع في فيه شيئاً لا يذوب، ولمي رد رده، ولم يمنعه من القراءة الواجبة-أن صلاته لا تبطل، وأن ذلك مكروه؛ لأنه يزيل الخشوع، قال: وإن فكر في الصلاة، أي: في أمور الدنيا، أو في مسألة فقهية ونحوها، كما قال القاضي الحسين، او التفت فيها، أي: من غير حاجة يميناً أو شمالاً، ولم يحول قدميه عن القبلة-كره.

أما في الأولى: فلما روى أبو داود عن عقبة بن عامر [قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين يقبل عليهما بقلبه [ووجهه] إلا وقد أوجب الله له الجنة".

وأما في الثانية: فلقوله-عليه السلام: "لا يزال الله مقبلاً على العبد، وهو في صلاته ما لم يلتفت؛ فإذا التفت انصرف عنه" أخرجه أبو داود والنسائي.

ص: 424

...........................................................................

ص: 425

وقالت عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة، فقال:"هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" أخرجه البخاري.

ولأن مقصود الصلاة الخضوع والخشوع، والتفكر والالتفات يمنعهما؛ فكرها لذلك، وقد قال الله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] فكان ترك الخشوع دالاً على عدم الفلاح.

قال العلماء: وعماد الصلاة وعلامة قبولها الخشوع، وهذا هو المشهور، وفي "التتمة" في صفة الصلاة: أن الالتفات في الصلاة حرام؛ لما ذكرناه من الخبر.

قال: ولم تبطل صلاته؛ أما في الأولى فلقوله عليه السلام: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها" رواه أبو داود. وأما في الانية فبالقياس على الأولى.

[ولأنه لم يفقد من الصلاة] في الصورتين إلا الخشوع، وذلك لا يوجب البطلان؛ فإنه عليه السلام "صلى، وعليه خميصة ذات أعلام، فلما فرغ قال: ألهتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانية" أخرجه

ص: 426

البخاري ومسلم. ولم ينقل أنه أعاد الصلاة.

والخميصة: كساء أسود معلم، قال في "المجمل": فإن لم يكن معلماص فليس بخميصة.

والإبنجانية: بهمزة مكسورة، ونون خفيفة ساكنة، وباء مكسورة معجمة بواحدة، وجيم، وألف، وبعدها نون مكسورة، وياء آخر الحروف مشددة، منسوبة إلى أنبجان -بفتح الهمزة- وهو اسم موضع.

وما ذكره الشيخ هو المشهور.

وفي "الرافعي" حكاية وجه عن القاضي ابن كج: أن حديث النفس إذا كثر أبطل الصلاة، وسيأتي مثله. وقال القاضي الحسين في باب سجودالسهو: يخاف لمن فكر في أمور الدنيا [فيها] أن يحرم فضيلة الجماعة؛ لقوله عليه السلام: "لا صلاة لامرئ لا يحضر قلبه".

أما لو فكر في الصلاة في مقروئه فيها فهو مستحبن ولو تفكر في أمور الآخرة فلا بأس. وإذا حول قدميه عن جهة القبلة: فإن فعله عامداً بطلت صلاته، وكذا إن كان ناسياً، وطال الزمان، وإن قرب وقصر كانت جائزة؛ لأنه عمل يسير، وعليه سجود السهو.

وقد استقصيت الكلام في ذلك في باب استقبال القبلة؛ فليطلب منه.

وإن كان الالتفات لحاجة لم يكره؛ لأنه عليه السلام -التفت لأجل ذلك. وقراءة شيء مكتوب في الصلاة في نسه من غير تلفظ لا يبطل الصالة، ولكن يكره؛ لأنه نوع من التفكر.

ص: 427

قال الشافعي: ولأنا لو أبطلنا صلاته بذلك لأبطلناها بما يخطر على باله.

قال: ولا يصلي، وهو يدافع الأخبثين، أي: أو أحدهما؛ لقوله عليه السلام: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين" رواه مسلم.

وهكذا لا يصلي، وهو يدافع الريح.

قال: ولا يدخل فيها وقد حضره العشاء، ونفسه تتوق إليه؛ للخبر، وقد قال عليه السلام:"إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة، فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب" رواه البخاري ومسلم.

قال الأصحاب: والمراد بالبداءة: أن يتناول منه لقمة أو لقمتين يكسر بهما

ص: 428

سَوْرة الجوع، لا أن يتم أكله، اللهم إلا أن يكون مشروباً كالسويق ونحوه، فيستوفيه؛ فإن زمنه يسير.

والتوقان: الاشتياق إلى الشيءن وتعلق [القلب به].

قال: فإن فعل ذلك أجزأته صلاته؛ لأن الموجود لا يقدح في غير الخشوع؛ فلم يمنع من الصحة؛ كحديث النفس.

قال الإمام في باب صلاة الجماعة: وقد بلغت عن القاضي حسين أنه قال: لو صلى، وضاق الأمر عليه في مدافعة البول او الغائط، وخرج عن أن يتأتى منه الخشوع أصلاً لو أراده-فلا تصح صلاته؛ فإن ما هو عليه ليس يوافق هيئة المصلين، بل هو في التقحيق هازئ بنفسه، مستوعب الفكر بالكلية فيما هو مدفوع إليه، ومن أنكر أن المقصود من الصلاة الخشوع والاستكانة؛ فليس عالماً بسر الصلاة.

قال: وهذا إن صح فهو غير بعيد عن التحقيق، ولكنه هجوم على أمر لم يسبق إليه، وليست أعرف خلافاً أن الساهي البارق الذي يلتفت في جانبيه، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة والتشهد، ولا يأتي بذكر غيرهام-بعيد عن هيئة المصلين، ثم لم نحكم في ظاهر الأمر ببطلان صلاته.

قلت: وقوله: "إن ما قاله القاضي لم يسبق إليه"، فيه نظر؛ لأن أبا زيد المروزي قاله أيضاً، وقدتقدم مثله في حديث النفس.

ثم النهي عن الصلاة عند مدافعة أحد الأخبثين كيف كان، وما في معناه وهو

ص: 429

مدافعة الريح، وعن الصلاة بحضرة العشاء مع توقان النفس، واستحباب إزالة ذلك قبل الشروع فيها- مخصوص بما إذا كان في الوقت سعة؛ فإن ضاق الوقت عن إزالة ذلك صلى على حسب حاله؛ لأن إخراج الصلاة عن الوقت مع الإمكان لا يجوز بحال؛ كذا قاله القاضي الحسين في باب صلاة الجماعة.

وحكى البغوي ثم في هذه الحالة [في صورة] المدافعة وجهاً آخر: أنه يزيل ما يدافعه، ويصلي خارج الوقت.

قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا مفرعاً على أنه لا تصح صلاته؛ لانسلاب الخشوع.

قال المتولي: هل الأولى هذا أو ذاك؟ فيه وجهان: وطردهما في الصورة الأخرى.

قال: وإن كلمه إنسان، أو استأذن عليه، وهو في الصلاة -سبح إن كان رجلاً، وصفقت إن كانت امراة؛ لما روى أبو داود في الحديث المشتمل على قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يصلي بالناس [، وتصفيق الناس] حين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لي رأيتكم أكثرتم من التصفيق؟! من نابه شيء في صلاته فليسبح؛ [فإنه إذا] سبح التفت إليه، وإنما التصفيح للنساء] وأخرجه البخاري ومسلم.

وقد قيل: إن التصفيح والتصفيق بمعنى [واحد]، وقيل خلافه، كما سنذكره.

وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء".

واختلف أصحابنا في كيفية تصفيقهن:

فقيل: تضرب ظهر كفها الأيمن على بطن كفها الأيسر.

وقيل: بل تضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر.

وقيل: تضرب بإصبعي يمينها على بطن كفها الأيسر. وهذا ما قال أبو أيوب: إنه التصفيح في الحديث؛ كما رواه أبو داود.

ص: 430

وفي "الحاوي": أن ظاهر مذه الشافعي أنها كيفما صفقت جاز، سواء فيه بباطن الكف على ظاهر الآخر، وبباطن أحدهما على باطن الآخر.

وقال الإصطخري: لا تصفق بباطن الكف على باطن الكف، ولو صفق الرجل، وسبحت المرأة-لم تبطل الصلاة، لكنهما تركا السنة.

قال في "الحاوي": وقال بعض أصحابنا: تسبيح المرأة جائز، وتصفيق الرجل عامداً يبطل، وساهياً لا يبطل، لكنه إن تطاول سجد للسهو كالعمل الكثير، وإن لم يتطاول فلا سهو عليه.

قال: وهذا غير صحيح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبطل صلاة من صفق خلف أبي بكر، ولا أمرهم بالإعادة.

قلت: وفي هذا الرد نظر؛ لأنهم كانوا جاهلين بمشروعية التسبيح لهم وعدم مشروعية التصفيق؛ فال جرم لم يأمرهم بالإعادة، مع أنه محتمل أن يكون كثرة التصفيق التي نقلت عنهم باعتبار صدورها من الأشخاص، لا باعتبار كثرتها من كل شخص شخص، والظاهر من كلام الشيخ في "المهذب" عدم البطلان.

ولو تكرر التصفيق من المرأة لم يبطل، ولم أر فيه خلافاً.

فرع: لو أبدل المصلي التصفيق او التسبيح عند الاستئفان بالدخول، بقوله:"ادخلوها بسلام آمنين" وقصد الإذن في الدخول، وكذا لو رأى شخصاً يمشي على بساطه بنعله؛ فقال:"اخلع نعليك" وقصد أمره بخلع نعليه-فهل تبطل صلاته؟

قال الأصحاب: إن قصد مع ذلك القراءة لم تبطل؛ لأن عليّاً رضي الله عنه "كان في الصلاة بـ"الكوفة" فدخل شخص من الخوارج، وهو يقول: لا حكم إلا لله ولرسوله، وأراد بذلك الإنكار على علي-عليه السلام حيث حكم؛ فتلا عليِّ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60]، ولما سلم قال: "كلمة حق أريد بها باطل"، ولو كان ذلك يبطل الصلاة لما أقدم عليه عليّ.

ص: 431

وعن صاحب "البيان" حكاية وجه آخر: أنها تبطل، وعزاه الطبري إلى العراقيين.

وإن قصد المصلي بما ذكره المخاهطبة فقط بطلت صلاته، ولاخلاف في أنه إذا قصد القراءة فقط انها لا تبطل وإن نبه بها الداخل؛ كما لو رفع صوته بالتكبير والتأمين في الصلاة.

نعم، لو جمع كلمات من القرآن، ونطق بها موصولاً- بطلت صلاته، وإن فرقها فلا.

قال: وإن سلم عليه رد بالإدارة، يعني: برأسه أو بإصبعه؛ لما روى [أبو داود والترمذي عن] ابن عمر، عن صهيب قال:"مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه؛ فرد علي، قال: ولا أعلم إلا قال: إشارة بإصبعه".

وروى أبو داود، عن عبد الله بن عمر قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، فجاءه الأنصار، فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل ظهره إلى فوق"،وقد أخرجه الترمذي، وقال: إنه صحيح.

وما ذكره الشيخ هو ما نص عليه في القديم، وبه قال جميع الأصحاب؛ كذا قاله الروياني في "تلخيصه".

وفي "التتمة" أن الأولى ألا يرد حتى يفرغ من الصلاة، وقد يستدل له بما روي عن ابن مسعود قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد عليه السلام؛ فأخذني ما قدم وما حدث؛ فلما قضى صلاته قال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة. فرَدَّ علي

ص: 432

السلام".

وفي "الذخائر" أنه حكي عن الشافعي: أن الرد بالإشارة في الصلاة مكروه وإن جاز، والذي نقله أصحابنا نه ما ذكرناه مطلقاً، ولم يذكروا عنه كراهة، ولا يجب الرد في هذه الحالة ولا بعد السلام بحال؛ إذ وجوبه منوط باستحباب الابتداء؛ فحيث يستحب يجب، وألا فلا، والسلام على المصلي لا يستحب، بل قد نص الشافعي على كراهة السلام على الإمام في الخطبة.

قال ابن الصباغ: والمصلي أولى بذلك، ويشهد له قوله عليه السلام:"لا غرار في الصلاة ولا تسليم" أخرجه أبو داود.

وقال أحمد بن حنبل: يعني -فيما أرى-: لا تسلم ولا يسلم عليك.

وقيل غيره.

ص: 433

وقد أفهمك قول الشيخ: "رد بالإشارة" أمرين:

أحدهما: أنه لا يرد بالقول؛ فلو رد به فقد أفهم كلام ابن الصباغ أن الصلاة تبطل، وبه صرح الروياني في "تلخيصه"، وحكاه مجلي عن النص، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: إن رد عليه خطاباً بالكاف؛ بأن قال: وعليك السلام- بطلت صلاته؛ لأنه كلام آدمي، وإن قال: وعليه السلام-لم تبطل. وهذا ما أورده في "التتمة".

قال مجلي: وليس بشيء؛ لأن الجميع خطاب لآدمي-في العادة- ولذلك يحصل به الجواب في رد السلام.

ثم إذا امتنع رد السلام بالقول من المصلي فامتناع تشميت العاطس أولى؛ لأن الرد واجب في الجملة، بخلاف التشميت، وقد يقال: ليس الأمر كذلك؛ لأن المسلم مقصِّر في التسليم على المصلي، بخلاف العاطس، ويشهد لذلك ما ستعرفه في باب هيئة الجمعة، وبالجملة: فلو شمت العاطس، وهو في الصلاة- قال ابن الصباغ: فالمذهب أن صلاته بطلت [، وهو ما حكاه الروياني عن عامة الأصحاب؛ لأنه موضوع لخطاب الآدميين] وإن كان دعاء.

وحكى يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي أنه قال: لا بأس أن يقول له: يرحمك الله.

قلت له: ولم؟ قال: لأنه دعاء.

ص: 434

وقد حكى البويطي هذا عنه أيضاً.

قال الروياني في "تلخيصه": وهو أصح إذا قصد به الدعاء، لا الخطاب، وفارق السلام؛ لأنه موضوع لخطاب الآدمي، وهذا موضوع للدعاء.

وقال ابن الصباغ: الأول أشبه بالسنة؛ فإن معاوية بن الحكم قال: "صلتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم؛ فقلت: يرحمك الله؛ فرماني القوم بأبصارهم .. وساق الحديث، إلى أن قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح يها شيء من كلام الناس

" رواه أبو داود، وأخرجه مسلم.

وعن القاضي الحسين: أنه إن واجهه بالخطاب، فقال: يرحمك الله-بطلت صلاته؛ كما لو قال لوالديه: يرحمكما الله.

وإن قال: يرحمهما الله-لم تبطل؛ كما لو قال في حق والديه: اللهم ارحمهما؛ لأنه يخاطب بذلك الله، عز وجل. واختاره في "المرشد"، وهذا وزان ما حكيناه عن المتولي في رد السلام.

وقد قال مجلي هنا حكايةً عن الأصحاب: إنه ليس بشيء؛ لأن الجميع خطاب آدمي، وبه يحصل جواب ما وضع له كيف فرض بالكاف والهاء.

وتشميت العاطس وتسميته-بالشين والسين-بمعنى واحد. واستحبابه منوط بما إذا قال العاطس: الحمد لله. ويستحب له إذا قال له المشمت: يرحمك الله، ان يقول: يهديك الله ويصلح بالك، أو نحوه.

[و] الثاني من الأمرين: [أن] الإشارة في الصلاة لا تبطلها وإن أفهمت، وذلك مما لا خلاف فيه إذا صدرت من الناطق؛ لما روى جابر قال: "أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق، أتيته وهو يصلي على بعيره؛ فقال بيده هكذا، ثم كلمته؛ فقال بيده هكذا، وأنا أسمعه يقرأ؛ فلما فرغ قال: ما فعلت في الذي

ص: 435

أرسلتك؟ فإنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أنني كنت أصلي" أخرجه أبو داود.

وأما الأخرس فإشارته تقوم مقام عبارته؛ فإذا أشار في الصلاة بما يقوم مقام الكلام من الناطق، فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في باب حد الزنى، والذي أجاب به منهما القاضي الحسين في "الفتاوي"-كما حكاه بعضهم-: البطلان، وهو ما قال الرافعي: إنه رآه بخط والده وجهاً في المسألة، والذي أجاب به الغزالي في "الفتاوى": مقابله، وادعى في "الوسيط" في كتاب الطلاق: أنه الأصح.

واعلم أنه كما يكره السلام على المصلي والخطيب، ولا يستحق فاعله الرد-يكره على من كان مشغولاً بأم ريكره قطعه: من أكل، أو نوم، أو قضاء حاجة؛ لخبر ورد فيه؛ كذا قاله المتولي.

وكذا لا يستحب لمن دخل الحمام أن يسلم على من فيه؛ لأنه بيت الشيطان، وليس موضع تحية.

وقد يكون الابتداء بالسلام حرماً، وذلك مثل أن تسلم الرأة [الشابة على شاب غير محرم لها، صرح به في "التتمة". ومثله: إذا ابتدأ الشاب بالسلام على الشابة] الأجنبية، ويكره له الرد، وعند وجود المحرمية أو الزوجية فلا تحريم، وكذا لوكان أحدهما شيخاً.

ويستحق الرد، وقد يكون الابتداء به أدباً، وليس بسنة متأكدة، قال الماوردي في "السير": وهو سلام المتلاقيين، وهو خاص، وليس بعام؛ فإنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل [به عن] كلمهم، وليقصد به أحد أمرين: إما جلب مودة، أو دفع شر.

ص: 436

والأولى فيه: أن يبتدئ الصغير بالسلام على الكبير، والراكب على الماشي، والقائم على القاعد؛ فإن استويا فأيهما بدأ كان له فضل التحية، ولو لقي الشخص الواحد جماعة، فأراد أنا يخص طائفة منهم بالسلام-يكره؛ لما فيه من إيغار [صدور من] لم يسلم عليهم؛ فهو [ضد] مطلوبه.

نعم، لو سلم على الجميع، وخص بعد ذلك بعضهم بالسلام-قال في "الحاوي": فهو أدب. وفيه-أيضاً- نظر.

والسلام عند دخول مسجد أو بيت ليس فيه أحد، مطلوب، ويشبه أن يكون ملحقاً بهذا النوع.

ومن هذا النوع: السلام عند القيام عن القوم ومفارقتهم؛ فإنه دعاء مستحب، ولا يجب به الرد؛ كذا قاله المتولي، وفيه نظر؛ لأن أبا داود روى عن سعيد [بن أبي سعي] المقبري عن أبي هريرة قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم؛ فإذا أراد أن يقوم فليسلم؛ فليست الأولى [بأحق من الآخرة] " وأخرجه النسائي، وكذا الترمذي وقال: إنه حسن.

والسلام الذي ندب الشرع إليه وحث عليه، وسنه بغير سبب مجتلب- هو سلام القاصد على المقصود.

قال الماوردي: وهو عام يبتدئ به كل قاصد على كل مقصود صغير وكبير، وراكب وماش.

ص: 437

والأصل فيه قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور: 61] ومعناه: فليسلم بعضكم على بعض، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر منادياً حتى نادى:"أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

ثم حيث كان الابتداء به أدباً أو سنة، فالرد على المبتدأ-إذا كان مكلفاً-واجب؛ لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وظاهره الوجوب، وهل الأفضل الرد، أو الابتداء بالتسليم؟ [قال القاضي الحسين:] فيه وجهان.

ثم إن اكن المسلم عليه واحداً فالرد [عليه] فرض عين؛ إذا كان من أهل الوجوب، ويكفيه إذا كان واحداً والمسلم عليه جماعة أن يقول: وعليكم السلام، ويقصد به الرد على الجميع؛ كما يسقط الفرض بصلاة الواحد على جمع من الجنائز: وإن كان المسلم عليهم جماعة فالرد فرض كفاية يسقط بفعل البعض، ويأثم الكل بالترك، ولو كان فيهم صبي لم يسقط الفرض به؛ كذا قاله القاضي الحسين في "كتاب الجمعة"، والمتولي، وأشار القاضي في موضع آخر منه إلى أنه يسقط على وجه، والخلاف جار فيما لو سلم الصبي على مكلف: هل يجب عليه الرد أم لا؟ وقد اختلف في أصله:

فالقاضي [الحسين] بناه على أن عمده عمد أو خطأ؟

والمتولي بناه على أنه يصح إسلامه أم لا؟

والاختلاف في البناء يقتضي الاختلاف في التصحيح، ولا خلاف في أنه يستحب إذا لم يجب.

ص: 438

وأكمل السلام أن يقول للواحد والجمع: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولو اقتصر علىقوله: السلام عليكم، للجمع، أو: عليك، للواحد- تأدت السنة، [وفيه نظر؛ لأنه روي عن أبي جري الهُجَيمي قال:"أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله. قال: لا تقل: عليك السلام؛ فإن "عليك السلام" تحية الموتى" أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح].

ولو قال: سلام عليكم، أو عليك- كفى أيضاً، ولو قال: سلامي عليكم، أو عليك- لم يكن مسلماص؛ فلا يستحق الرد، بخلاف ما لو قال: سلام الله عليمك، أو عليك، وهذا حكم الابتداء.

وأما الجواب فأكمله أن يقول [للواحد والجمع]: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأقله-كما قال المتولي-أن يقول: وعليك السلام؛ فلو ترك واو العطف لا يكون مجيباً، ولو قال كل منهما لصاحبه معاً، أو على الترتيب: السلام [عليكم]، استحق على صاحبه الرد، وقال القاضي الحسين: إن ذلك

ص: 439

يكفي، ويسقط الرد، وكذا فيما لو قال كل [واحد] منهما لصاحبه ابتداءً. وعليكم السلام-سقط الرد. نعم، لو قال الشخص ابتداء: عليكم السلام-لا يستحق الجواب، قاله القاضي الحسين.

وقوله: إنه يسقط [الرد] عند [قول] كل واحد منهام: وعليكم السلام مؤذن بأن المبتدئ بذلك يستحق الجواب.

وقد قال في "التتمة": إنه لا يكون مسلماً؛ فلا يستحق الجواب، وبه يحصل في المسألة وجهان.

ولو قال الشخص ابتداء: وعليكم السلام [، فقال الآخر: عليك السلام-[وجعلناه ابتداءً]-لا يسقط الجواب،]؛ لأنه للابتداء؛ فكأنه لم يقبل سلامه، بخلافما إذا قال: وعليكم السلام؛ فإن إتيانه بالواو قبول؛ كذا قاله القاضي [الحسين].

ثم [إنما يسقط] الرد إذا سمع المسلم الجواب؛ كما لا يستحق المسلم الجواب ما لم يسمع سلامه.

ولو سلم عليه من وراء حائط، أو كان غائباً فكتب إليه كتاباً، وكتب فيه: السلام على فلان، أو أرسل إليه رسولاً، وقال له: سلم على فلان، فبلغه الصوت والكتاب والرسالة-قال في "التتمة": يجب عليه الجواب؛ لأن تحية الغائب تكون بالمناداة والكتاب والرسالة؛ فعليه أن يجيب بمثله أو بخير منه.

والأخرس إذا سلم بالإشارة يردعليه باللسان، إلا أن يكون أصم؛ فيشير إليه بالإصبع.

وقال في "التتمة": إنه يسلم عليه بلسانه، ويشير إليه، واشترط في استحقاق الناطق الجواب على الأصم: أن يتلفظ بالسلام بلسانه؛ لقدرته عليه، ويشير إليه باليد ليحصل له الإفهام؛ فإن فعل أحدهما لم يستحق الرد عليه.

وهذا الفصل ذكرته؛ لأن له تعلقاً بكلام الشيخ هنا، وبعض الأصحاب ذكره

ص: 440

في كتاب "الجمعة"، وبعضهم في "السير"، والشيخ أهمله بالكلية؛ فأحببت ذكره في هذا الباب؛ لأن له تعلقا به، وقد بقي منه، ومما يتعلق به فروع، نذكر منها ما تيسر؛ لأن الشروع ملزم:

قال الماوردي: إذا دخل على قوم فيهم كثرة، بحيثلاتعمهم المرة الواحدة-فسنة السلام تحصل بابتدائه به أول دخوله، ويدخل في فرض الرد جميع من سمعه؛ فلو أرا الجلوس فيمن لم يسمع سلامه ففي سقوط سنة السلام وجهان يظهر أثرهما في أنه لو رد عليه من لم يسمع سلامه: فإن قلنا: إن سقطت، [سقط] برد هذا وجوب الرد على من سمع، وإلا لم يسقط.

إذا كان الداخل على قوم يحتاج إلى الاستئذان؛ فهو مامور بالاستئذان والسلامن وبايهما يبدأ؟ فيه وجهان.

قال الماوردي: والأولى-عندي- حمل الوجهين على حالين: فإن وقع بصره ابتداء على المقصود بدأ بالسلام، وألا بدأ بالاستئذان.

ثم إذا أمرناه بتقديم السلام؛ فسلم، فهل يكون سلامه استئذاناً؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وعلى هذا يكون الرد عليه أدباً.

والثاني: لا؛ فعلى هذا يكون الرد عليه واجباً، ويكون هذا السلام مسنوناً، وتسقط به سنة السلام.

إذا كان الداخل على الشخص الواحد جماعة، فالسلام في حقهم سنة على الكفاية إذا أتى به البعض سقطت [به] السنة عن الباقين؛ قاله القاضي الحسين في باب الجمعة.

قال: ولا توجد سنة على الكفاية إلا هذه، وغيره أضاف إليها الأضحية، كما ستعرفه في موضعه.

جرت عادة بعض أهل زماننا عند السلام أن يقبل يد المسلم عليه، وينحني له، وتقبيل اليد جائز لأجل فقه، أو زهد، أو أبوة، أو أمومة، وغير جائز إذا فقد ذلك، وكان المقبل يده من أرباب الدنيا أو الأغنياء.

ص: 441

وحكم القيام للشخص حكم تقبيل يده، قاله المتولي، وهذا عند الأمن من ضرر يلحق الشخص إن لم يفعل.

والانحناء أطلق بعضهم جوازه مع كراهة فيه.

وفي "التهذيب" عند الكلام في الركوع في الصلاة: أنه لا يجوز لأحد أن يثني ظهره لمخلوق. والله أعلم.

قال: وإن بدره البصاق، أي: في الصالة؛ كما يشعر به سياق الكلام، [وإن كان لفظ الكتاب عاماً]، [ويقتضيه الخبر الذي سنذكره،] وهو في المسجد-بصق في ثوبه، أي: دون المسجد؛ لقوله-عليه السلام:"البزاق في المسجد-وفي رواية: النخاعة في المسجد-خطيئة، وكفارتها دفنها" رواه أنس بن مالك، وأخرجه البخاري.

ورواية مسلم عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النفل في المسجد خطيئة، وكفارته أن يواريه".

وإذا كان البصاق في المسجد ممتنعاً؛ والخروج منه في الصلاة ممتنعاً- تعين أن يضعه أي ثوبه، وسيأتي في الخبر ما يرشد إليه.

قال: وحك بعضه ببعض؛ إذهاباً لصورته.

ص: 442

وفي الخبر الذي سنذكره ما يدل عليه أيضاً.

ولو بصق في المسجد كان كفارته دفنه؛ للخبر.

قال: وإن كان في غير المسجد بصق على يساره، أو تحت قدمه؛ لما روى أبو داود، عن أبي سعيد الخدري:"أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فرأى نخامة في قبلة المسجد؛ فحكها، ثم أقبل على الناس مغضباً، فقال: "أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه؛ إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه- عز وجل والملائكة عن يمينه؛ فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه؛ فإن عجل به أمر فليتفل هكذا". ووصف لنا ابن عجلان ذلك: أن يتفل في ثوبه، ثم يدلك بعضه على بعض".

قال بعضهم: وهذا الخبر [فيه] دليل على أن المصلي لا يكون عن يساره ملك؛ لأنه لا يجد ما يكتب؛ لكونه في طاعة، وإنما قال ذلك؛ لأنه-عليه السلام-علل منع البصاق عن اليمين بكون الملك هناك، وأباحه على اليسار.

ص: 443

ثم قوله: "عن يساره أو تحت قدمه" ليس على التخيير؛ بل هو على حالين، يدل عليه ما روى أبو داود، عن طارق بن عبد الله المحاربي قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام الرجل إلى الصلاة- أو: إذا صلى أحدكم-فلا يبزق أمامه ولا عن يساره، ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغاً، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به" وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن.

وعلى هذا يجب حمل كلام الشيخ أيضاً، ولوتعذر عليه جهة اليسار وتحت القدم بصق عن يمينه ودفنه، لكنه يتحامى ذلك ما أمكن.

قال: وإن مر بين يديه مار، وبينهما، أي: بين المصلي والمار سترة، أو عصا بقد رعظم [الذراع]- لم يكره، أي: المرور؛ لأنه لا يؤثر في صلاة المصلي، قال عليه السلام:"إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل-فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك" رواه مسلم.

ص: 444

وروى مسلم-أيضاً-عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره؛ إذا كانبين يديه مثل آخرة الرحل، وإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي، سألت رسولا لله صلى الله عليه وسلم كما سألتني؛ فقال: الكلب الأسود شيطان".

وقد أخذ بهذا الحديث الإمام احمد، ولخلافه أثر ستعرفه.

ومؤخرة الرحل. ذراع. قاله عطاء.

وقيل: إنها تداني ثلثي ذراع.

وروى مسلم أيضاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركزت له عنزة؛ فتقدم، فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع".

وفي طريق آخر: "ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة". وفي أخرى: "فكان يمر من ورائها المرأة والحمار".

والعنزة: عصا في أسفلها زج من حديد، وفي رأسها سنان مثل الحربة.

[قال الإمام: ولعل السر في ذلك أن يتبين للمار المسجد الذي يتجنب

ص: 445

المرور فيه، فيتنكبه. وإذا لم يكن بين يديه شيء يعلم حده، والمار في مروره يعسر عليه الاشتغال برعاية ذلك-فيكون المصلي في تركماي ستتر به كالمقصر فيالاهتمام بحماية حد مصلاه.

قال: ولا يحاول في الستر [الستر] الحقيقي، كما ذكرناه في نصب شيء في سطح الكعبة يستقبله المصلي؛ فإن ذلك الشاخص قبلة للمصلي، وهذا لإعلام حد المصلي؛ حتى] [يمر]، ولو كان مروره من وراء السترة كره، بلا خلاف؛ كما أفهمه كلام الشيخ؛ لقوله-عليه السلام:"لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي" أخرجه مسلم.

وفي رواية [له]: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه".

و [في] رواية البخاري: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه".

ص: 446

قال أصحابنا: وقوله: "يقف أربعين" يحتمل أنه أراد أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعة، ويوافقه قول أبي النضر: لا أدري أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة. لكن في "مسند" البازر:"أربعين خريفاً".

وظاهر الخبر: أن الكراهة كراهة تحريم، وهو ما صرح به العجلي، وعبارة صاحب "التهذيب" و"التتمة" توافقه؛ حيث قالا: ولا يجوز لأحد أن يمر بين يدي المصلي إذا صلى إلى سترة، وهو الأظهر في "الرافعي"، وفي "الوسيط" تبعاً لـ "النهاية" أن المرور ليس بمحظور، وإنما هو مكروه، والمبالغة؛ لتأكد الكراهة، وقد ادعى بعض المتأخرين أنه الأصح اقتفاء لأثر صاحب "المحيط"؛ فإن أم سلمة قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة، فمر بين ييه عبد الله، أو عمر بن [أبي] سلمة؛ فقال بيده؛ فرجع؛ فمرت زينب بنت أم سلمة؛ فقال بيده هكذا؛ فمضت؛ فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هن أغلب" رواه ابن ماجه، ولو

ص: 447

كان المرور حراماً لصرح به.

ثم على كلا الوجهين للمصلي دفعه ومنعه من المرور؛ لقوله-عليه السلام: "إذا كان أحدكم يصلي إلى سترة تستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه-فليدفعه في نحره، فإن أبي فليقاتله؛ فإنما هو شيطان" أخرجه مسلم.

وفي لفظ البخاري: "إذا مر بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه، [فإن أبي فليمنعه]، فإن أبي فليقاتله؛ فإنما هو شيطان".

واختلف في [معنى] قوله: "فإنما هو شيطان".

فقيل: معه شيطان؛ لأن الشيطان لا يجسر أن يمر بين يدي المصلي منفرداً.

وقيل: هو شيطان من شياطين الإنس، لكن هل الدفع مستحب أو واجب؟

المحكي عن "المحيط": أنه مستحب؛ إذ لو كان واجباً لما أهمله النبي صلى الله عليه وسلم في القصة التي اسلفناها عن رواية أم سلمة؛ ولأجل الخبر المذكور قال الإمام: إنه لا ينتهي دفع المصلي المار إلى منع محقق، بل يومئ ويشير برفق في صدر من يمر به، وينبغي تنبيهه.

وعن "الكافي" للروياني: أن للمصلي أن يدفعه، وله أن [يصر على ذلك] وإن أدى إلى قتله. وهذا يظهر أنه تفريع على القول بأن الكراهة كراهة تحريم، وما قاله الإمام بناء على ما اعتقده: أنها كراهة تنزيه.

ص: 448

قال: وكذلك إن لم تكن عصا، وخط بين يديه على ثلاثة أذرع خطّاً- لم يكره أي: المرور؛ لأن مروره لا يؤثر في صلاة المصلي؛ لقوله-عليهالسلم-:" إذا صلى أحدكم فليجعل أمام وجهه شيئاً؛ فإن لم يجد فلنيصب عصاً؛ فإن لم يكن معه عصا فليخط خطّاً، ثم لا يضره ما مر أمامه" أخرجه أبو داود، ثم قال: والخط بالطول.

وما ذكره الشيخ من الخط ذكره القاضي أبو حامد في "جامعه".

وقال ابن المنذر: إن الشافعي كان يأمر به في العراق، وقد كتبه في كتبه الجديدة، ثم خط عليه.

قال الإمام: [فاستقر أن] الخط لا يكفي؛ إذ الغرض الإعلام، وهو لا يحصل بالخط. لكن الشافعي حكى عنه البويطي: أنه لا يخط المصلي بين يديه خطّاً إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت؛ فيتبع؛ فعلق القول [فيه] بصحة الخبر، وقد صححه الإمام أحمد وابن المديني.

وابن المنذر أطلق القول بأنه صح؛ فلا جرم جزم الشيخ القول به، واختاره الغزالي في "الخلاصة"، وكذا البغوي وصاحب "المرشد" والأكثرون، كما قال الرافعي: إن حكم الخط الشاخص من الأرض فيكراهة المرور بينه وبين المصلي، وتسليط المصلي على الدفع، [لكن لمن] قال باستقرار الأمر على أن الخط لا يكفي- ومنهم الإمام والغزالي في "الوسيط"- أن

ص: 449

يقولوا: الخبر، وإن صححه من ذكرتم، فقد ضعفه غيرهم؛ كما قاله عبد الحق وغيره، وإن ما ورد [فيه] عن أبي هريرة من طرق مختلفة لا يصح [في كتب الحديث].

ثم إذا قلنا بما قاله الشيخ ففي كيفية الخط وجهان:

أحدهما: يكون كهيئة الهلال، وهو اختيار الإمام أحمد.

والثاني متوافقان على أن الخط يكون من المشرق إلى المغرب، وإليه أشار [الشيخ] بقوله:"بين يديه".

وقد قيل: إنه يكون خطّاً مستقيماً إلى جهة القبلة؛ لما ذكرناه من قولأبي داود، وقد يستأنس له بما روى أبو داود عن المقداد قال:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على جانبه الأيمن، أو الأيسر، [ولا يصمد إليه صمداً] " يعني: لمي جعله قصده بين عينيه، والصمد في اللغة: القصد.

ص: 450

ووجه التمسك به –على المدعي-أنه لم يجعل السترة قصده، وجعل الخط بين يديه يكون قصده؛ فكان جعله بالطول يمنة المصلي أو يساره أقرب إلى ذلك. وقد نبه الشيخ بقوله:"على ثلاثة أذرع خطّاً، لم [يكره" على أن حريم] المصلي يكون إلى ثلاثة أذرع، وأن السترة أو العصا ينبغي أن يكون بينهوبينها قدر ذلك، وبه صرح في "المهذب" وغيره، فقال: يستحب أن يجعل بينه وبين ما يستتر به قدر ذراعين إلى ثلاثة، وكذا بين الصفين، وهو مقدار مسجد على التوسع.

قال الشافعي: وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وكان بينه وبين الحائط قريب من ثلاثة أذرع، [و] هكذا رواه البخاري عن ابن عمر.

ورواية مسلمعن سهل بن سعد قال: "كان بين مصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة".

فلو خالف المصلي ذلك، فتباعد عن سترته أكثر من ذلك-[كان] كما

ص: 451

لو صلى إلى غير سترة.

قال ابن المنذر: كان مالك يصلي متباعداً عن السترة، فمر به رجل لا يعرفه، فقال له: أيها المصلي، ادن من سترتك، [قال]: فجعل يتقدم ويقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113].

ثم [في] معنى الخط بسط شيء للصلاة كالسجادة ونحوها؛ قاله في "النهاية" و"الوسيط" و"التهذيب".

قال: وإن لم يكن شيء من ذلك كره، أي: المرور؛ لأنه يقطع صلاة المصلي على مذهب أحمد [بن حنبل]، ما تقدم؛ للخبر السابق.

وأجزأته صلاته؛ لقوله –عليه السلام: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم؛ فإنما هو شيطان" أخرجه أبو داود عن رواية أبي سعيد الخدري، وهذا ناسخ لما تمسك به أحمد.

وكذا مارواه البخاري ومسلم: "أنه عليه السلام كان يصلي وعائشة معترضةبين يديه كالجنازة".

ص: 452

ورواية مسلم عن ابن عباس قال: أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فتخطيت بين يدي بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليّ أحد. قال البخاري: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار. وفي بعض طرقه: "فصار الحمار بين يدي بعض الصف".

وروىلنسائي في هذا الحديث: فلم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً.

وكل هذه الأحاديث دالة على النسخ.

ثم إذا ثبت أن المرور فيهذه الحالة مكروه فهل للمصلي منع المار منه؟ حكى الإمام ومن تبعه فيه وجهين:

أحدهما: نعم؛ لعموم الخبر، وهو ما أورده البندنيجي.

والثاني: لا؛ لتقصيره، وهو ما صححه الرافعي، ولمي ورد البغوي غيره.

وهل القول بالكراهة مطرد في حالة إمكان المرور من موضع آخر وعدمه، أو مختص بالحالة الأولى؟

الذي حكاه الإمام عن الأئمة: الثاني، وتبعه في "الوسيط"، وقال الرافعي: إن الكتب ساكتة عن ذلك.

وفي "صحيح" البخاري ما ينازع فيما حكاه الإمام، وتعميم الكراهة.

وقد صرح الأصحاب بأنه لو كان بالصف الأول فرجة لم يسدها الصف

ص: 453

الثاني، جاز المرور بين يدي الصف الثاني لسد الفرجة، وليس لهم دفعه؛ لأنه كان عليهم أن يفعلوا ذلك، فلما لم يفعلوه جاز المرور، ومن هذا يؤخذ أن محل النزاع فيالمسألة قبلها إذا لم يكن المصلي منسوباً إلى التقصير بالصلاة في المكان، فإن كان مقصراً-كما إذا وقف في قارعة الطريق-فلا كراهة.

فرع: قال في "التتمة": لو تستر بآدمي أو حيوان، لم يستحب له ذلك؛ لأنه يشبه عبادة من يعبد الأصنام، [و] لأنه لا يؤمن أن يشتغل به؛ فيتغافل عن صلاته.

وفي مسلم ما يرد عليه؛ فإنه روى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها، قلت: أرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: كان يأخذ الرحل، فيعدله، فيصلي إلى آخرته، أو قال: مؤخره، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله، والله أعلم.

ص: 454