الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة الجماعة
الأصل في مشروعية الجماعة في الصلوات الخمس- قبل الإجماع- من الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية [النساء: 102] فأمر بالجماعة في حال الخوف والشدة؛ ففي غيرها أولى.
ومن السنة ما سنذكره من الأخبار، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة ثلاث عشرة سنة، لا يصلي جماعة؛ لأن أصحابه كانوا مقهورين متفرقين، فلما هاجر إلى المدينة، أقام الجماعة، وواظب عليها.
قال: والجماعة سنة في الصلوات الخمس؛ لما روى أبو هريرة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة"[أخرجه مسلم].
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" أخرجه البخاري، ومسلم.
ووجه الدلالة منهما على السنة أن لفظة "أفضل" موضوعة فيما لأحدهما مزية فيما شاركه فيه، وسأذكر من الأخبار في الباب ما يدل عليه أيضاً.
ولأن الجماعة فضيلة في الصلاة لا تبطل بتركها؛ [فلم] تكن واجبة فيها؛ كالتكبيرات والتسبيحات.
وهذا ما حكاه أبو علي في "الإفصاح" عن بعض الأصحاب؛ كما حكاه أبو الطيب.
وقال الماوردي: إن به قال ابن أبي هريرة، وسائر أصحابنا، واختاره الغزالي، والبغوي.
قال: وقيل: هي فرض على الكفاية؛ للآية؛ [فإنه أمره] بالجماعة في حال الخوف؛ ففي حال الأمن أولى، والأمر للوجوب.
وعن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقول:]"ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا [قد استحوذ] عليهم الشيطان؛ فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية" أخرجه أبو داود، [والنسائي].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " [لقد] هممت أن آمر [ناساً أن يجمعوا] حزماً من حطب، ثم آتى قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، فأحرقها عليهم" قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف، الجمعة عني، أو غيرها؟ قال:[صمّتا] أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة، ولا غيرها. أخرجه مسلم، والترمذي مختصراً.
والأخبار والآثار [الدالة] على ذلك كثير، ولا جرم صار إليه ابن سريج، وأبو إسحاق.
قال الماوردي وجماعة من أصحابنا، وهم الأكثرون؛ كما قال ابن الصباغ، كقول الشافعي- رضي الله عنه في "المختصر" ها هنا: "ولا أرخص لمن قدر
على صلاة [الجماعة] في ترك إتيانها إلا من عذر، وإن جمع في بيته، أو مسجد وإن صغر أجزأ عنه".
قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والشيخ في "المهذب"، وغيرهم: قد نص عليه الشافعي- أيضاً- في كتاب الإمامة.
والقائلون به يحملون الأدلة السالفة على ما إذا كان ثم عذر من مرض أو نحوه، أو على صلاة النافلة.
[وعلى هذا] قال [الشيخ]: فإن اتفق أهل بلد على تركها من غير عذر، قوتلوا؛ لأن هذا شأن فروض الكفايات [وعلى هذا] إذا عطله من توجه عليه قوتل؛ لأنه آثم، والمقاتل لهم هو الإمام، أو نائبه دون آحاد الرعية.
أما إذا قلنا بالأول، فقد أطلق البندنيجي والماوردي وابن الصباغ وغيرهم القول بأنهم لا يأثمون، ولا يقاتلون، [وقد] تركوا خيراً كثيراً، وأجراً عظيماً.
وفي "الرافعي" حكاية وجهين في المقاتلة؛ كما سيأتي مثلهما في العيد؛ إذا قلنا: إنه سنة.
واعلم أن ما ذكرناه في حكاية لفظ الشيخ هو الموجود في أكثر النسخ، وقال النواوي: إن الذي ضبطناه عن نسخة المصنف: "وقيل: هي فرض على الكفاية؛ إن اتفق أهل بلد على تركها من غير عذر، قوتلوا"؛ بحذف الفاء، والحكم لا يختلف.
وفي "تعليق" القاضي الحسين، والتتمة: أن أبا سليمان الخطابي خرج قولاً للشافعي: أنها فرض عين من كلام له في الكبير، وذلك أنه تلا آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} [المائدة: 58]، والثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} الآية [الجمعة: 11]، ثم قال: ويحتمل أن اله قصد به الرد على المنافقين، وزجرهم عما هم عليه. ويحتمل أن [الذي] قصد [به] التحذير لمن ترك الجماعة، وهذا القول قد اختاره أبو ثور، وابن المنذر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا؛ كما قال الرافعي، والصحيح أنه ليس في المسألة إلا ما ذكره الشيخ، بل ادعى الماوردي أنه لا يختلف مذهب الشافعي وسائر أصحابه: أنها ليست فرضاً على الأعيان؛ إذ لو كان كذلك، لكانت شرطاً كالجمعة.
ثم هذا الخلاف إذا فعلت الخمس في وقتها؛ فإن فعلت قضاء خارج الوقت، فلا يتأتى القول بأنها فرض عين، ولا كفاية، بل الجماعة فيها سنة قولاً واحداً؛ لأن في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه [الصبح] جماعة حين فاتتهم الصلاة في الوادي.
وما أطلقه الرافعي فيما إذا أقيمت الصلاة، وهو في قضاء فائتة، لا يقتصر على ركعتين من أن الفائتة لا تشرع فيها الجماعة محمول على أنه لا يصليها في جماعة خلف من يصلي أداء؛ لأن صلاة الفائتة عندنا لا تستحب خلف من يصلي أداء؛ كما قاله المتولي وغيره للخروج من خلال العلماء في صحة ذلك.
واحترز الشيخ بقوله: "في الصلوات الخمس" عن المنذورة؛ فإن ما ذكره لا يجري فيها، صرح به الرافعي في أثناء باب الأذان، وغيره هنا، وعلته ظاهرة؛ فإنه لا شعار يظهر في إقامتها؛ بخلاف الخمس.
تنبيه: كلام الشيخ يفهم أموراً:
أحده: أن بعض أهل البلد لو أقاموا الجماعة [فيه]، لم يقاتلوا، وحصل تأدية الفرض، وهو ما يفهمه كلام الصيدلاني أيضاً؛ فإن الإمام حكى عنه أنه قال: إذا فعله قوم، سقط الفرض عن الباقين، ولاشك في ذلك إذا ظهر به الشعار، وذلك يختلف باختلاف البلاد؛ فإن كان البلد صغيراً، كفى أن يظهر في موضع واحد، وإن كان كبيراً، قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي والفوراني: وجب إقامتها في كل محلة منه، فلو تعطلت محلة، كان كتعطل البلد.
وعبارة الماوردي- فيما إذا كان البلد واسعاً-: لا تسقط بإقامتها في مسجد واحد؛ لعدم ظهورها وانتشارها حتى تقام في عدة مساجد تظهر بها
الجماعة وتنتشر؛ فيسقط الفرض عن الباقين، ويجوز أن يصلوا منفردين.
والمحكي عن الشيخ أبي حامد [أنه قال:] حد الظهور [فيها] إن كانت قرية [فيها] عشرون، أو ثلاثون رجلاً- أن تقام في مسجد واحد، وإن كانت قرية عظيمة؛ فبأن تقام في كل طرف منها، وإن كانت مثل بغداد فبأن تقام في كل محلة منها.
وكلام الإمام قريب من كلام الماوردي، وعطف عليه [أنه] لا يضر مع ظهور الشعائر تخلف معظم أهل البلد [عن] إقامتها؛ كما في الصلاة على الموتى، نعم لو كان [يحضر في كل مسجد] اثنان أو ثلاثة؛ بحيث [لا يبدون للمارِّين]؛ فلا يحصل ظهور الشعائر بهذا. ثم قال: ولا يبعد أن [يقال: لا] يعتبر في القرى الصغيرة من البلاد إظهارها [إذا استقلت البلد بإظهارها]؛ ولهذا اختصت الجمعة بالبلاد والقرى [الكبيرة].
قلت: وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن خبر أبي ذر الذي هو دليل على هذا القول يرد عليه.
الثاني: أن إظهارها في القرى التي لا تقام بها الجمعة أولى؛ كي لا تتعطل عن إظهار شعار فيها، وهل يكفي إقامتها في البيوت؟
الأظهر- كما حكاه الروياني في "تلخيصه" عن بعض الأصحاب-: أنه يكفي؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه قال: "وإن جمع في بيته أجزأه"، وهذا ما حكاه القاضي الحسين.
وقال أبو إسحاق- كما حكاه البندنيجي وغيره عنه-: لا يكفي؛ إذا اتفقوا على ذلك، وألا يخرجوا إلى المساجد؛ فلا يسقط الفرض عنهم. وظاهر هذا أنه لا فرق [فيه] بين أن يشتهر بذلك الشعار أو لا، لكن القاضي أبو الطيب حكى [وجهاً] عنه: أنه قال: [إن] هذا إذا كانت المحلة [التي] صليت
فيها الجماعة في البيوت، والأسواق، [غير ظاهرة، فإن كانت ظاهرة كفى في تحصيل السنة وإسقاط الواجب]. وهذا قريب مما حكاه ابن الصباغ، وإليه يرشد قول الماوردي: إذا كان البلد واسعاً لا يكتفي بإقامتها في المنازل والبيوت؛ لعدم ظهورها وانتشارها.
وحكى الروياني في "تلخيصه" وجهاً آخر: أنه لا يكفي في إسقاط فرضها إقامتها في البيوت، وقال: إنه الأصح.
وبالجملة فصلاة الفرض في المسجد جماعة أفضل منها في البيت؛ لقوله عليه السلام: "خير صلاة [المرء] في بيته إلا المكتوبة".
نعم لو كان إذا صلى في بيته صلى في جماعة، وإذا صلى في المسجد صلى وحده، كانت صلاته في بيته في الجماعة أولى؛ قاله الأصحاب عند الكلام في القرب من البيت في الطواف في كتاب الحج.
ولو كانت الجماعة في بيته أكثر من الجماعة في المسجد، قال في "الحاوي": الجماعة اليسيرة في المسجد أفضل منها في المنزل.
وقال القاضي أبو الطيب: الصلاة مع الجماعة الكبيرة في بيته أفضل؛ كما حكاه في كتاب الاعتكاف.
وأفضل الصلاة في المساجد [الثلاثة:] الصلاة في المسجد الحرام، ثم بعده مسجد المدينة، ثم المسجد الأقصى؛ قاله في "التتمة".
[وآكد الصلوات في الجماعة الصبح والعشاء، قال في "التتمة"]: وآكدهما صلاة الصبح؛ قاله في الروضة، وهو في يوم الجمعة آكد منه في غيره؛ لورود الأخبار الصحاح في ذلك.
الأمر الثاني: أن أهل البوادي إذا اتفقوا على تركها، لا يقاتلون، وأبدى الإمام
فيهم لنفسه احتمالين، الذي جزم به في "الكافي" منهما: أنهم كأهل القرى؛ لأنه قال: لو امتنع أهل البادية أو [قرية أو] محلة، أو قبيلة على تركها؛ قوتلوا. وهذا [ما] يدل عليه خبر أبي ذر.
والمسافرون لا يتعرضون لهذا الفرض بلا شك، [كما] قاله الإمام.
وهذا الحكم فيما إذا قل عدد الساكنين في البلد؛ فإنهم وإن أظهروا الجماعة فلا يحصل بهم ظهور الشعار؛ لأن الإنسان في نفسه بصلاته لا يتعرض لهذا الفرض، وإنما المرعي فيه أمر كلي عائد إلى شعائر الإسلام.
الثالث: اختصاص ما ذكره من أن الجماعة سنة أو فرض كفاية بالرجال، أو فرض الكفاية الذي هو [من] الشعائر إنما يخاطب به الرجال، وهذا ما ذكره القاضي الحسين في باب [إمامة النساء]؛ حيث قال: إقامة الجماعة لا تشرع للنساء؛ حيث تشرع للرجال؛ فإنها فرض كفاية على الرجال، أو سنة مؤكدة، ليست بفريضة، ولا سنة على النساء؛ كما أن النساء لا يسن لهن الأذان، ولا يشرع لهن الإقامة.
وقال غيره: لا خلاف عندنا أنها [لا] تكون فرضاً بالنسبة إليهن، وهي مستحبة لهن في بيوتهن؛ لأنه عليه السلام أمر [أم] ورقة بنت نوفل أن تتخذ لها مؤذناً، وأن صلي في دارها، كما خرجه أبو داود، والترمذي.
وقد روى عن عائشة- رضي الله عنها وأم سلمة أنهما أمتا نسوة، ووقفتا وسطهن.
قال الإمام في باب اختلاف نية الإمام والمأموم: فإن قيل: هلا قدمتم استحباب الجماعة فيما قدمتموه في باب الأذان في الاختلاف في أذانهن [وإقامتهن؟].
قلنا: في الأذان إظهار وترك للستر، وليس في إقامة الجماعة ذلك؛ فلو خفضت المرأة صوتها- أي: في الأذان- كان [تركا لمقصوده].
قلت: هذا فرق بين الأذان والصلاة جماعة، وبه يحصل الفرق بين الجماعة والإقامة؛ لأن السنة أن يقيم المؤذن.
ثم فضيلة جماعة النساء هل تساوي فضيلة جماعة الرجال، أو هي دونها؟
قال الماوردي: في باب إمامة النساء، ومن تبعه: فيه وجهان، أظهرهما: الثاني؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
والذي أورده أبو الطيب مقابله.
قلت: ويمكن أخذ الوجهين من أنها فرض كفاية أو سنة:
فإن قلنا: إنها فرض كفاية، رجحت جماعة الرجال على جماعة النساء؛ لأنها تسقط فرضاً في الجملة.
وإن قلنا: إنها سنة، فيجوز أن يقال بالاستواء، ويجوز أن يقال بالترجيح أيضاً.
وأما حضورهن المساجد، فالشواب المستحب لهن ترك ذلك، والستر، ولزوم
البيت لهن؛ لقوله عليه السلام: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" أخرجه أبو داود.
وحجرتها: صحن بيتها.
والمخدع: بضم الميم وكسرها: البيت [الذي] في جوف البيت تخبئ المرأة فيه ثيابها.
ولو خالفن، وحضرن المسجد، كره لهن، وصح اقتداؤهن بالإمام، سواء نوى الإمام بهن أو لا.
والعجائز لا يكره لهن الخروج لذلك؛ لقوله عليه السلام: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وبالحالين يحصل الجمع بين الخبرين.
وقد روي أنه- عليه السلام كره للنساء الخروج إلى الجماعة إلا أن تكون عجوزاً في منقلها، والمنقل: الخف.
وقيل: المندل، وهوب كسر الميم، قاله الهروي وقال في "الصحاح": إنه
بفتحها، والوجه الكسر، لولا أنها وردت في الحديث.
وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى [أنها في] خروجها تكون مبتذلة، وأنها لو تشبهت بالشواب كره لها ذلك [بلا خلاف].
ثم حيث نفينا الكراهة قال الإمام: والذي رأيته للأئمة أنه لا يترجح خروجها على لزومها بيتها؛ فإنه يتعارض في حقها رعاية الستر، وإقامة الجماعة مع الرجال؛ فيخرج على تعارض الأمرين نفي الكراهة في الحضور، واستواء الأمرين.
قال: وأقل الجماعة، [أي]: التي تحصل بها السنة، وسقوط الفرض اثنان: إمام، ومأموم؛ لقوله عليه السلام:"الاثنان فما فوقهما جماعة"[رواه ابن ماجة] وروى أبو موسى الأشعري قال: جاء رجل، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أيكم يتجر على هذا؟ "؛ فقام رجل فصلى معه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
ولا فرق في ذلك بين أن يصلي الشخص مع زوجته، أو ولده، أو رقيقه، نص عليه في "الأم".
وفي "الزوائد"[للعمراني] أن صاحب "الفروع" ذكر أن أقل الجماعة [في الصلاة] ثلاثة يؤمهم أحدهم؛ فأما اثنان يؤم أحدهما صاحبه، فقد توقف الشافعي فيه في موضع، وقطع في آخر بأنه جماعة.
وقد حكاه الروياني في "تلخيصه" عن بعض الأصحاب، وقال: إنه غلط.
فإن قيل: المشهور من مذهب الشافعي أن أقل الجماعة ثلاثة؛ فما الفرق على هذا؟
قيل: الفرق أن الحكم [على الاثنين] بالجماعة حكم شرعي، مأخذه التوقيف الشرعي، وأقل الجمع بحث لغوي [مأخذه اللسان].
قال: ولا تصح الجماعة حتى ينوي المأموم الائتمام؛ لأن التبعية عمل؛ فافتقر إلى النية؛ لعوم قوله عليه السلام: "لا عمل إلا بنية".
ويكفيه أن يقتدي بالمتقدم من القوم، وإن لم يعرف عينه.
قال الإمام: وهو الأولى؛ فلو عين شخصاً، وكان الإمام غيره، نظرت:
فإن لم يوجد مع التعيين إشارة؛ مثل: أن نوى الصلاة خلف زيد؛ فإذا هو عمرو- لم تصح بلا خلاف، واستبعد الإمام تصوير ذلك من غير ربط بمن في المحراب، وقال: إنه في غاية العسر، أو يعلم [أنه]؛ يعني: من حضر، ومن [سيركع بركوعه ويسجد بسجوده؛].
وإن وجد مع [ذلك] التعيين إشارة؛ مثل: أن نوى الاقتداء بزيد هذا؛ فإذا هو عمرو- فالمنقول عدم الصحة أيضاً.
[و] قال الإمام: يتجه أن يتخرج فيه وجه آخر: أنه يصح؛ نظراً إلى
الإشارة؛ كما إذا قال: بعتك هذه الشاة؛ [فإذا هي] رمكة؛ فإنه يصح على وجه؛ ولأجل ذلك أثبت الغزالي في المسألة وجهين.
وهذه المسألة من المسائل التي [لا] يشترط فيها التعيين، بل أصل الشيء، وإذا عين، و [أخطأ، ضر] ومثله: ما إذا نوى التكفير عن الظهار، وكان عليه كفارة يمين، أو الصلاة على زيد؛ فإذا هو عمرو، أو الزكاة عن ماله الغائب، وكان تالفاً- لا يجزئه، ولو أطلق لأجزأه.
ويقوم مقام نية الائتمام نية الصلاة في جماعة، أو مأموماً؛ كما قاله مجلي.
وقد أفهم من كلام الشيخ أمرين:
أحدهما: صحة صلاة المأموم وإن لم ينو الائتمام، بل تابعه في الأفعال من غير نية؛ إذ لو كان عنده أنه لا يصح- لكان بالبيان أولى.
والذي جزم [به] الغزالي، و [أبو نصر] المقدسي [في "تهذيبه"]: البطلان، وحكى القاضي الحسين، والمتولي في باب النية للصلاة وجهين في البطلان.
قال الطبري في "عدته": وهما مذكوران في طريقة العراق؛ وطريقة القفال، والخراسانيين من أصحابنا: البطلان.
وقال في "الذخائر": إن هذا يحتاج إلى تفصيل؛ فيقال: إن تابعه في الأفعال، وأخل بشيء [من ترتيب صلاته الواجب عليه؛ لأجل المتابعة- بطلت، وإن أخل بسنة، أو لم يخل بشيء][من ذلك؛] فإن انتظر في القيام، أو السجود، أو الركوع، مع ترك اشتغاله بالذكر؛ فينبغي أن يكون [على] القولين في السكوت الطويل، وأولى بالبطلان؛ لانتفاء الإخلاص، وإن انتظره مع الاشتغال بالأذكار؛ فقد أشرك في عبادته؛ فينبني على انتظار الإمام في الركوع إذا أحس بداخل.
قال: وينبغي أن يبطل هاهنا قولاً واحداً على قول الفوراني؛ لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى.
الثاني: أن الجماعة تصح وإن لم ينو الإمام [الإمامة]، وهو ما ادعى القاضي الحسين في باب صفة الصلاة أنه المذهب؛ فإنه قال ثَمَّ: الصحيح [من المذهب] أنه لا [يلزمه نية] الجماعة؛ لأنه مستقل بالفعل؛ فلا يحتاج إلى النية؛ بخلاف المأموم؛ فإنه تابع؛ فافتقر إلى قصد الإتباع.
قال: وقال الأستاذ [الإمام] أبو إسحاق: إنه ينوي الجماعة؛ لأنه أحد ركني الجماعة؛ فيلزمه نية الجماعة؛ كالمأموم. والفرق ما تقدم.
نعم يستحب له أن ينوي؛ للخروج من الخلاف؛ لأن الإمام أحمد يوجب ذلك [ويقول:] ولو لم ينو لبطلت [صلاة المأمومين] خلفه. وقد حكاه العبادي في "الزيادات" وجهاً لبعض أصحابنا، وعزاه في "الحاوي"- قبيل باب صلاة الجماعة وصفة الأئمة- إلى أبي إسحاق، وهو فاسد؛ لما سنذكره من خبر ابن عباس، وجابر، وجبار بن صخر في باب صفة الأئمة.
وعلى المشهور هل يحصل له فضيلة الجماعة؛ إذا لم ينوها؟ قال الغزالي: لا.
قال مجلي: وهذا لم أره لغيره.
ويحتمل أن يقال: تحصل؛ لأن أصل نية الإمام غير واجبة، ومعنى كونه إماماً وجود القدوة [به]، وقد وجدت؛ فينبغي أن يحصل له فضيلة الجماعة، ويشهد لذلك أن المأمومين يكثر أجرهم بكثرة العدد، وليس لهم نية في ذلك.
وقد حكى في "التتمة" في حصول فضل الجماعة وجهين، وبنى عليهما ما لو لم ينو الإمامة في الجمعة، هل تصح [له]، أم لا؟ إن قلنا: يحصل له
فضيلة الجماعة، صحت له، وإلا فلا.
ولا خلاف على المذهب في أنه إذا نوى الإمامة بزيد، وكان عمراً أنه لا يضر؛ لأن [أصل النية ليست] بشرط في حقه، بخلاف نية الائتمام.
قال: وفعلها فيما كثر فيه الجمع من المساجد [أفضل]، لرواية أبي داود في أثناء حديث أنه عليه السلام قال:"وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل".
وهذا مخصوص عندنا بما إذا لم يكن إمام الجماعة [الكثيرة] مبتدعاً، ولا حنفياً، فإن كان، وصححنا الصلاة خلفه- كما ستعرفه- فالصلاة في المسجد القليل الجماعة أفضل بالاتفاق، وهل الأفضل صلاته منفرداً، أو مع الحنفي في جماعة؟ فيه خلاف سنذكره.
ولا فرق فيما [ذكره الشيخ] بين أن يكون المسجد الكثير الجمع قريباً من الشخص، أو بعيداً منه.
وقيل: إنها في مسجد الجوار أولى، مع قلة الجماعة فيه؛ قاله المسعودي، وغيره.
قال الإمام: وهو غير سديد؛ فإن صح النقل فيه فيشبه أنه قد يحظر
قصد الجماعة الكثيرة لغيره؛ فيؤدي ذلك إلى تعطيل مسجد الجوار، ولعل ذلك في مسجد السكة-[أي: التي يسكنها]- فأما إذا كان على طريقه، وكان أقرب من المسجد المشهور، فلا ينقدح الوجه الضعيف في هذه الصورة.
وفي "التهذيب" أنه يصلي في مسجد الجوار، ثم يلحق بالمسجد الأكثر جماعة؛ فيصلي معهم أيضاً؛ ليحوز الفضيلتين.
والذي أورده العراقيون: الأول، وأيده أبو الطيب بأن الشافعي- رضي الله عنه كان ببغداد بالقرب منه مسجد لا يغلس فيه، وبالبعد مسجد يغلس فيه بالصلاة، وكان يمضي إلى المسجد الذي يغلس فيه، ويترك المسجد الذي لا يغلس فيه.
قال: فإن كان [في] جواره مسجد ليس فيه جماعة، [أي]: وبصلاته فيه تحصل الجماعة، كان فعلها في مسجد الجوار أفضل؛ لما في ذلك من عمارة مسجد الجوار وإحيائه بالجماعة.
قال الروياني في "تلخيصه": وفيه وجه آخر: أن فعلها في المسجد [الأكثر] جماعة أولى بكل حال، وهو غلط.
أما إذا كان لو صلى في مسجد الجوار صلى وحده، فقد قال في "التهذيب" تبعاً للقاضي الحسين: الأولى أن يصلي منفرداً، ثم يدرك [مسجد] الجماعة؛ فيصلي معهم. وعلى هذا يمكن إجراء لفظ الشيخ على ظاهره، ولا يعارضه ما ذكرناه من قبل من أنه إذا صلى في بيته صلى في جماعة، وإذا صلى في المسجد صلى منفرداً- أن صلاته في بيته أولى؛ لأن ذلك يمكن حمله على غير مسجد الجوار، أو على مسجد أقيمت الجماعة فيه [قبل حضوره إليه، والله أعلم.
فرع: إذا كان بجواره مسجدان استوت الجماعة فيهما، فإن كان يسمع النداء
من أحدهما فصلاته فيه أولى، وإن كان يسمعه منهما]، فإن كان أحدهما [أقرب من الآخر] إليه؛ فصلاته فيه أولى، وإلا تخير؛ قاله الروياني.
والجوار: بكسر الجيم وضمها.
قال: وإن كان للمسجد إمام راتب، كره لغيره [إقامة] الجماعة فيه- أي: بغير إذنه- لما فيه من الإيحاش وإيذاء القلوب، وهذا ما نص عليه في "الأم".
وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الإمام الراتب قد صلى فيه أو لا، وإذا لم يصل بين أن يخاف [فوات] فضيلة [أولي الوقت، أو آخره [أو لا].
وللأصحاب فيما إذا كان الإمام قد صلى [فيه في جواز إقامة جماعة ثانية- فيه]- خلاف، والمنصوص: الكراهة.
قال الشافعي- رضي الله عنه: لأنه روي هذا عن بعض السلف. ثم قال: وأحسب الكراهة في حق قوم يعادون الإمام الراتب؛ فكره ذلك؛ لأنه يؤدي إلى العداوة وإلى الاختلاف؛ [فيفقد] مقصود الجماعة.
وحكى الروياني في "تلخيصه" وجهاً عن أبي إسحاق: أنه يجوز من غير كراهة؛ كما لو لم يكن للمسجد إمام راتب، واختاره ابن المنذر.
وقيل: إنه يكره أيضاً في المسجد الذي لا إمام له راتب، ولا مؤذن؛ حكاه القاضي الحسين.
والوجهان ضعيفان، والمذهب: الكراهة عند وجود الإمام الراتب، وعدمها عند عدمه.
وكذا لا يكره إقامة جماعة بعد الجماعة في مسجد [في موضع] لا
يسمع [فيه] جيرانه لضيق المكان؛ قاله البندنيجي، والروياني.
ثم محل الخلاف السابق إذا كان [المسجد] في غير ممر الناس، ولم تجر العادة فيه [بتكرار الجماعات]، أما إذا كان كذلك، فلا [تكره].
قال في "المهذب": [لأنه لا يحمل التكرار فيه على الكياد].
وقال في "الذخائر": إن بعض أصحابنا استحب إقامة الجماعة ثانية فيه.
ولو كان الإمام تأخر عن الحضور وإقامة الجماعة [فيه]، قال القاضي أبو الطيب وغيره: إن كان [بيته] قريباً؛ [أي]: بحيث لو أراد الحضور لم يفتهم إذا صلى بهم فضيلة أول الوقت- كما نص عليه في "الأم"- بعثوا إليه حتى يحضر، أو يستنيب؛ وإن كان موضعه بعيداً؛ بحيث لا يدرك أن يصلي بهم في أول الوقت، أو لم يحضر: فإن لم يخافوا فتنة في صلاتهم جماعة فيه قدموا واحداً منهم، وإن خافوا الفتنة انتظروه إلى أن يخافوا فوت الصلاة، ثم يقدموا واحداً [منهم] يصلي بهم.
قيل: والأصل في ذلك أنه عليه السلام لما مضى إلى صلح بني عمرو بن عوف قدم الصحابة أبا بكر الصديق- رضي الله عنه فصلى بهم.
وروي أنه عليه السلام في غزوة تبوك تأخر عن صلاة الصبح؛ لحاجة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فصلى ركعة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه الركعة الثانية، فلما سلم قال:"أحسنتم".
وجه الدلالة منه: أنهم كانوا آمنين منه صلى الله عليه وسلم.
قال: ومن صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة يصلون، استحب له أن يصليها معهم؛ لما روى الترمذي عن يزيد بن الأسود قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [حجة الوداع]؛ فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف؛ فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه؛ فقال: علي بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما؛ فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟! " قالا: يا رسول الله [إنا] [كنا] قد صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، إن صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة؛ فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة".
قال: وهو حسن [صحيح].
ورواية أبي داود: "إذا صلى أحدكم [في رحله]، ثم أدرك الإمام، ولم يصل، فليصل معه؛ فإنها له نافلة".
والفرائص: جمع "الفريصة"، وهي لحمة في وسط الجنب قريبة من القلب ترتعد عند الفزع؛ قاله الخطابي.
وهذا الخبر كالمصرح بأنه لا فرق في الصلاة المعادة بين أن تكون مما يكره الصلاة بعدها، أو لا؛ لأنه نص في الصبح وهو مما تكره الصلاة بعده؛ فغيرها أولى، وهذا ما يقتضيه كلام الشيخ، وهو المذكور في "الشامل"، و"الحاوي"، و"تعليق" القاضي الحسين، وغيرها.
[و] في "المهذب" أن أبا إسحاق حكى عن بعض [الأصحاب] أنه لا يعيد صلاة الصبح والعصر، ويعيد ما سواهما؛ لأن الصلاة بعد الصبح والعصر مكروهة بغير سبب.
وحكى الإمام [عن شيخه أنه] حكى في درسه و"تعليقه" وجهاً عن بعض الأصحاب: أنه لا يعيد الصبح والعصر؛ لما ذكرناه، وكذا المغرب؛ لأنها وتر النهار، ويعيد الظهر والعشاء.
والوجهان ضعيفان باتفاق الأصحاب؛ للخبر، بل قال الإمام- فيما حكاه عن رواية شيخه:[إني] لا أعتد به.
وعلى كل حال: إذا أعاد الصلاة في جماعة؛ حيث استحببناه، فأي الصلاتين فرضه؟ فيه قولان:
الجديد- وهو الصحيح-: أنه الأولى، والثانية نفل.
والقديم- كما قال أبو إسحاق-: أن الله تعالى يتقبل أيتهما شاء.
وقال القاضي الحسين: إنه قول مخرج، وقد قيل: إنه مذكور في "الإملاء"، ولم
يورد في "الوجيز" سواه، ووراء القولين وجهان:
أحدهما حكاه الإمام عن رواية شيخه عن بعض الأصحاب-: أن الفرض الثانية؛ لأنه استحب له إعادة الفريضة؛ ليكملها بالجماعة، ولو كانت نفلاً لما حصل فيها الكمال؛ فتبين بالآخرة أن الأولى وقعت نفلاً، وبعضهم نسب هذا إلى القديم أيضاً.
قال الإمام: وهو مزيف، لا أعده من المذهب.
وبعضهم يقول: إنه ليس بشيء؛ لأجل أنه [يخالف الخبر].
وقد قال في "الذخائر": إنه موافق للخبر؛ لأن أبا داود روى عن يزيد بن عامر قال: جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، [فجلست، ولم أدخل معهم في الصلاة، فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم]؛ فرأى يزيد جالساً؛ فقال: "ألم تسلم يا يزيد؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: "فما منك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ " فقال: إني كنت قد صليت في منزلي، وأنا أحسب أن قد صليتم. قال:"إذا جئت إلى الصلاة فوجدت [قوماً من الناس يصلون]؛ فصل معهم وإن كنت قد صليت، تكن لك نافلة"، وهذه مكتوبة.
والثاني- حكاه في "التتمة"، ولم أره في غيرها-: أن كلتا الصلاتين فرض؛ لأن الخطاب سقط بالأولى، وكانت فرضاً، وقد فاتت صفة الجماعة فيها، فأمرناه بإعادتها، وليس يمكن إعادة الصفة وحدها؛ فحكمنا بأن الجميع فرض.
التفريع: إن قلنا بما عدا الجديد، نوى بالثانية الفرض؛ [فلو نوى الظهر مثلاً، ولم يتعرض للفرضية- كان كمن [ترك نية الفرضية] في] الصلاة
المقامة من غير إعادة، وفي وقوعها عن الفرض وجهان:
فإن قلنا: لا تقع عن الفرض، فهل تبطل]، أو تنقلب نفلاً؟ فيه الخلاف المشهور.
وإن قلنا بالجديد، حكى الإمام عن الصيدلاني تردداً في كيفية نيته:
أحدهما: أنه ينوي بها [النفل.
والثاني: أنه ينوي] الفرض، واختاره، وادعى في التتمة أنه الصحيح.
والرافعي [قال:] إن به قال الأكثرون.
قال الإمام: وهو هفوة من الصيدلاني؛ فإن أمره بنية الفرض مع القطع بأن الصلاة [التي يقيمها] ليست فريضة محال.
وقد حكى الروياني في "تلخيصه" الوجهين، ووجهاً ثالثاً ذكره في "الإبانة" أيضاً: أنه يتخير بين أن يطلق النية وبين أن ينوي الفرض، واختار الإمام أنه ينوي الظهر، أو العصر، أو نحو ذلك؛ كما ينوي الصبي؛ فإن نية الفريضة- ولا فريضة- محال؛ كما قدمناه.
ولو نوى النفل، ولم ينو الظهر أو العصر؛ [بعد أن يصير بالجماعة] الثانية مستدركاً لما فات من الجماعة في صلاة الظهر والعصر، وقال القاضي الحسين: إنه على القول الجديد والقديم معاً ينوي إعادة ما صلى، أو نفل ما صلى؛ لأنا إن قلنا: الثانية نفل؛ فهو يريد [أن يكتسب بها فضل] الفريضة المؤداة، وهو فضيلة الجماعة؛ فكان فضيلة الجماعة منها؛ فتلحق بالأولى، وبقيت [هي] نفلاً.
قال الشيخ أبو علي: وعلى القولين يجوز أن يصلي الصلاتين بتيمم واحد.
قال مجلي: وهذا إنما يتجه على القول القديم إذا قلنا: إن من نسي صلاة من الخمس، يصليها بتيمم واحد، دون ما إذا قلنا: لابد من خمسة تيممات.
[قلت:] وعلى القول بأن الثانية هي الفرض، لا يحتاج إلى الإعادة، وعلى القول بأنهما فرض [يقرب الشبه من] صلاة من الخنمس.
قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: ولو كانت الصلاة [المعادة مغرباً]، وقلنا بالجديد: إن المعادة نفل زاد فيها حال الإعادة [ركعة]؛ فإن الأحب في النوافل أن تكون شفعاً.
وهذا ما حكاه القاضي الحسين لا غير، وقال الإمام: إنه حسن بالغ. ثم قال: لكنه مع القول بأنه ينوي بالثانية الفرض- كما اختاره- خبط وخروج عن الضبط؛ فإن المغرب لا يكون أربع [ركعات].
وقد أفهم قول الشيخ: "وإن صلى منفرداً
…
" إلى آخره، أنه لو صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة يصلون-[لا يستحب له أن يصليها معهم، كيف كانت] وهو وجه حكاه الشيخ أبو محمد، وغيره، وصححه الصيدلاني، والغزالي، وصاحب المرشد؛ لأن أبا داود روي عن سليمان- يعني: مولى ميمونة- قال: أتيت ابن عمر- رضي الله عنهما[على] البلاط، وهم يصلون؛ فقلت: [ألا] تصلي معهم؟ قال: قد صليت؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة [في يوم] مرتين".
والبلاط: موضع مبلط بالحجارة بين المسجد والسوق، بالمدينة، [شرفها الله تعالى].
ولأن الإعادة لتحصيل فضيلة الجماعة، [وقد حصلت له، ولو قيل بالإعادة، لقيل: إنه يعيدها في جماعة] ثانية وثالثة ورابعة، وهو مخالف لما كان عليه الأولون.
[وخبر يزيد بن الأسود مختص بحالة الانفراد؛ تدل عليه الرواية الأخرى؛ فعلى هذا: إذا [أعاد] الظهر أو العشاء، كانت نفلاً وجهاً واحداً]، وإذا أعاد الصبح، أو العصر، [كان فاعلاً] مكروهاً، وإذا أعاد المغرب، قال في "التتمة": فالصحيح أنها كإعادة الظهر، وفيه وجه: أنه يكره إعادتها.
[وعلى الصحيح يأتي قول الصيدلاني إنه يضيف إليها ركعة أخرى. وبه صرح الرافعي وغيره، و] قال الروياني: إن القفال قال به، وإنه قيل: إنه ظاهر المذهب، وإنه لا يضم إليها شيئاً.
وقيل: إنه لا يستحب له الإعادة في الصبح والعصر [والمغرب]، أما الصبح والعصر؛ فلنهيه عليه السلام عن الصلاة بعدهما، وأما المغرب؛ فلأنها وتر النهار.
ويستحب في الظهر والعشاء؛ إذ التنفل بعدهما جائز؛ [حكاه القاضي الحسين.
وقيل: إنه لا يستحب له إعادة الصبح والعصر، واستحبوا إعادة ما سواهما]؛ حكاه ابن الصباغ، والماوردي.
وهذا والذي قبله مفرعان على المذهب [في أنه] إذا صلى منفرداً الصبح والعصر والمغرب، يستحب إعادتها [في جماعة، أما إذا قلنا في هذه الصورة: لا يعيد ذلك، فها هنا أولى.
وقيل: يستحب إعادة ما صلاها] في جماعة كيف كان؛ لأنه عليه السلام صلى في خوف الظهر؛ فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو؛ فصلى
ركعتين، ثم سلم، [فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم]، أخرجه أبو داود، والنسائي، وقصة معاذ مشهورة، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم التطويل دون الإعادة؛ فثبت في الظهر والعشاء استحباب ذلك، وقيس باقي الصلوات عليهما، ولا نظر إلى أن الصلاة بعد الصبح والعصر مكروهة؛ لأن ذلك إذا لم يكن ثم سبب، [وها هنا سبب]، وهو حيازة فضيلة الجماعة.
قال ابن الصباغ: وهذا [أشبه بكلام] الشافعي؛ لأنه أطلق، ولم يفصل.
وقال الرافعي: إنه الأصح عند عامة الأصحاب.
وقال القاضي الحسين: يحتمل أن يقال: إن كانت الجماعة [الثانية] أكثر، وإمامهم أروع، وأهدى لأركان الصلاة، وشرائطها، وهيئاتها- يستحب له أن يعيد الصلاة التي صلاها مع الجماعة؛ لأنه يكتسب زيادة فضيلة [الجماعة التي] لم تحصل له في الأولى، [وإن كانت الجماعة الثانية مثل الأولى] أو دونها، لا يستحب، وهذا ما صححه في "الكافي"، والله أعلم.
وقد اتفق الكلام على أن من رأى شخصاً يصلي منفرداً؛ لسبق الجماعة له استحب [له] أن يصلي معه، وإن كان قد صلى في جماعة؛ لورود الخبر بذلك.
قال: ويعذر في ترك الجماعة- أي: على [كل] قول- المريض؛ لقوله عليه السلام: "من سمع النداء، فمل يجبه؛ فلا صلاة له إلا من عذر". قالوا: وما العذر؟ قال: "خوف، أو مرض".
ولأنه عليه السلام ترك الجماعة، واستناب أبا بكر- رضي الله عنه لمرض حصل له.
قال في "الحاوي": وهو وفاق.
قال الرافعي: ولا "يشترط] فيه أن يبلغ مبلغاً يجوز القعود في الفريضة، ولكن المعتبر أن تلحقه مشقة؛ مثل ما يلقاه الماشي في المطر؛ قاله في "النهاية".
قال: ومن تأذى بالمطر؛ لما روى مسلم، عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا؛ فقال: "ليصل من شاء في رحله".
وروى أبو داود عن أسامة بن عمير: "أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في يوم الجمعة؛ فأصابهم مطر، لم يبتل أسفل نعالهم؛ فأمرهم أن يصلوا في رحالهم"؛ وفي تأويل النعال أربعة أوجه:
أحدها: التي يمشي فيها، والثاني: أنها وجه الأرض؛ حكاه القاضي الحسين وغيره، والثالث: أنها الأقدام.
[والرابع: أنها الحجارة الصغار تكون في الطريق، فإنها تسمى: النعال؛ حكاه والذي قبله الماوردي].
قال الصيدلاني: ويستحب أن يقول المؤذن في أذانه وقت المطر بعد الحيعلتين: "الصلاة في الرحال".
قال الإمام: وهو مشكل؛ فإنه لم يصح فيه [شيء] ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغيير الأذان بشيء يثبت في أثنائه من غير نقل فيه صحيح بعيد عندي، وليس في ذكره بعد الأذان ما يفوت مقصود النداء.
والقاضي الحسين قال: إن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بعد الحيعلتين موضع التثويب.
وقيل: كان يقوله بعد الفراغ من الأذان؛ فإن صح ذلك، كان حجة لما قاله الإمام، لكن في "مسلم" أن ابن عباس- رضي الله عنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فلا تقل: حي على الصلاة، [لكن] قل: صلوا في بيوتكم. قال: وكأن الناس استنكروا ذلك؛ فقال: أتعجبون من ذا؟! قد [فعل هذا] من هو خير منه. إن الجماعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم؛ فتمشوا في الطين [والدّحض].
والدحض: من أدحضت الثوب؛ إذا غسلته؛ [كني به] عن المطر.
قال: والوحل، أي: الذي لا يؤمن معه التلويث؛ لأنه أشد من المطر [في الأذى].
وحكى المراوزة وجهاً آخر: أنه بمجرده ليس بعذر ما لم ينضم إليه المطر،
وعليه ينطبق قوله في "الوسيط": والمطر مع الوحل عذر فيها. ومثل ذلك قاله القاضي الحسين في الجمعة.
وعلى هذا فالفرق بينه [وبين] المطر: أن الوحل [له أمد] ينتظر، ولا كذلك المطر.
والأظهر عند الإمام: الأول، وإن لم يتفاحش الوحل.
قال: والريح الباردة في الليلة المظلمة؛ لما روى البخاري ومسلم، عن ابن عمر- رضي الله عنهما قال: أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح؛ فقال عليه السلام: "ألا صلوا في الرحال".
أما الريح الباردة في النهار فليست بعذر في تركها عند الجمهور.
وحكى مجلي وجهاً آخر: أنها عذر فيها.
قال: ومن له مريض يخاف ضياعه؛ أي: قريباً كان، أو أجنبياً، أو قريب يخاف موته؛ لأن ذلك يسقط حضور الجمعة؛ كما ستعرفه؛ فالجماعة أولى؛ ولأن المشقة في ذلك فوق مشقة المطر، وهي تجوز الترك.
قال: ومن حضره الطعام ونفسه تتوق إليه؛ لما روى مسلم، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قرب العشاء، وحضرت الصلاة فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم".
وروى أيضاً عن عائشة- رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا [و] هو يدافع الأخبثين".
وهذه المسألة مصورة في الحاوي وغيره بما إذا حضر الطعام عشاء، أو غداء، ونفسه تتوق إليه، وكان [بحيث] إذا تشاغل بأكل تمرة، أو تمرتين، أو لقمة، أو لقمتين فاتته الجماعة- فإنه يعذر بذلك، ويكمل [أكله] إذا لم يخش منه فوات الوقت.
أما إذا كان لا يفوته مع تناول اللقمة واللقمتين الجماعة؛ فلا تسقط عنه؛ لأن سورة الجوع قد انكسرت بتناول ذلك؛ فلا يُتِمّ طعامه حتى يصلي.
قال الإمام: اللهم إلا أن يكون مما يستوفي في دفعة واحدة؛ كالسويق واللبن يشرب.
والحكم فيما إذا لم [يكن بحضرة] الطعام، وكانت نفسه تتوق إليه- كما لو حضره؛ لوجود المعنى، وهو [ترك] الخضوع المطلوب في الصلاة، وإنما أراد الشيخ التبرك بالخبر.
قال: أو يدافع الأخبثين؛ لخبر عائشة- رضي الله عنها السابق، وليس
المراد أن يجتمعا، بل المراد [أنه] متى وجد أحدهما، كان عذراً، والحكم فيما لو كان يدافع الريح كذلك.
ومدافع الغائط يقال له: حاقب، ومدافع البول يقال له: حاقن؛ قاله في "الغريبين"، ومدافع الريح يقال له: حازق؛ حكاه القاضي الحسين.
قال: أو يخاف ضرراً في نفسه؛ مثل: أن يخاف من ظالم، أو [فوت] القافلة، والسير معهم، ونحو ذلك، أو ماله؛ أي: مثل: أن يكون قد نسي باب داره مفتوحاً، وإذا رجع لغلقه [فاتته] الجماعة، أو كان يحرس متاعه، ولا يتمكن أن يمضي ويتركه، أو كان له مال؛ فخرج في طلبه [ولو لم يبتدر ذلك لفات]، ونحو ذلك.
والأصل فيه: قوله عليه السلام في الحديث السابق: "خوف، أو مرض"، وقد دخل فيما ذكرناه من عليه دين، وهو معسر عن وفائه، ويخاف أن يحبس عليه، وهل يدخل في قول الشيخ:"أو يخاف ضرراً [في نفسه] " من [عليه] قصاص ويخشى أن يمسك؛ فيستوفي منه، أم لا؟ فيه كلام استوفيناه في باب صلاة الجمعة.
وقد ألحق الأصحاب بهذه الأعذار غيرها:
فمنها: ما إذا كان [قد أكل ما له] رائحة كريهة، وعجز عن دفع ذلك: كالثوم والبصل قبل الطبخ؛ لقوله عليه السلام: "من أكل من هاتين الشجرتين، فلا يقربن مصلانا" يعني: الثوم والبصل، أما إذا [كان قد] أمتهما طبخاً، وأكلهما، لم يكن ذلك عذراً في الترك.
ومنها: الحر الشديد، عده ابن الصباغ منها، وصورته: أن تقام [الجماعة]
في وقت الحر من غير إبراد.
قال في "الكافي": ولم يكن في طريقه كن يمشي فيه إليها.
والقاضي أبو الطيب جعل شدة الحر عذراً في تأخير [الجماعة]، لا في تركها؛ للخبر المشهور.
ومنها: البرد الشديد؛ كما قاله في "التهذيب"، ولم يفرق فيه بين الليل والنهار.
ومنها: أن يخاف إذا حضر وانتظر إقامة الصلاة أن يغلبه النوم؛ قاله الروياني وغيره.
ومنها: أن يكون عارياً في بيته؛ قاله الفوراني والغزالي.
قال الرافعي: ولا فرق في ذلك بين أن يجد ما يستر عورته، أو لا.
وهذا يندرج تحت قول الشيخ: "أو يخاف ضرراً في نفسه".
ومنها: حصول الزلزلة؛ كما قاله الماوردي.
واعلم أن هذه الأعذار؛ كما تنفي الحرج عن التارك تحصل له فضيلة الجماعة وإن صلى منفرداً؛ إذا كان قصده الجماعة [لولا العذر؛ للأخبار] الواردة في ذلك؛ قاله الروياني في "تلخيصه"، ويشهد له ما رواه أبو داود، عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن وضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا- أعطاه الله [مثل] أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً". أخرجه النسائي.
ثم حصر الأصحاب الأعذار فيما ذكرناه مفهم أن الرق ليس بعذر في ترك الجماعة.
وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب كفارة [يمين] العبد بعد أن يعتق أن للسيد [أن] يمنع [عبده] من حضور الجماعات، إلا ألا يكون له معه شغل، أو يقصد تفويت الفضيلة عليه [فحينئذ] لا يجوز له منعه منها.
قال: ومن أحرم منفرداً، ثم نوى متابعة الإمام؛ أي: من غير أن يقطع صلاته- جاز في أحد القولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بأصحابه، ثم ذكر أنه جنب؛ فقال لهم:"كونوا كما أنتم"، ودخل واغتسل، وخرج ورأسه يقطر ماء، واستأنف الإحرام، وبقي القوم على إحرامهم. فملا سبقوه بالإحرام، ولم يأمرهم باستئنافه؛ فقد خرجوا بعلمهم بجنابته من الإمامة؛ ودل [ذلك] على صحة صلاة من سبق الإمام ببعض الصلاة.
وقال الإمام: إن وجه الاستدلال منه أنا علمنا أنهم أنشأوا اقتداء جديداً؛ فإن اقتداءهم الأول لم يكن [صحيحاً. وفيه نظر؛ لأن ظهور الإمام محدثاً لا يقدح في كون صلاة المأمومين] جماعة على الأصح؛ كما ستعرفه.
[و] لأن أبا بكر [الصديق] صلى بالناس عند ضعف رسول الله صلى الله عليه وسلم [بأمره]؛ فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة خرج يتهادى بين [اثنين] العباس وعلي، والقوم في الصلاة؛ فوقف عن يسار أبي بكر، وصلى بالناس، وأبو بكر يبلغ عنه.
ووجه الدلالة منه: أن أبا بكر [صار] مأموماً بعدما كان إماماً، والإمام في حكم المنفرد؛ [لأنه لا يتبع غيره.
ولأنه لما جاز أن يكون منفرداً ثم يكون إماماً بأن يأتي من يقتدي به- جاز أن يكون منفرداً]، ثم يكون مأموماً؛ لأن الجماعة تتوقف على المأموم كما تتوقف على الإمام.
وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب وصاحب "التهذيب" و"الكافي" عن الجديد، والشيخ في "المهذب" عن القديم والجديد.
وقال البندنيجي: إنه نص عليه في القديم و"الأم" و"المختصر"، ولفظه فيه: ويصلي الرجل، وقد صلى مرة مع الجماعة كل صلاة؛ فالأولى فريضة، والثانية سنة، وهو الأصح عند الجمهور.
واقتصر القاضي الحسين والصيدلاني والغزالي على نسبته إلى القديم وأن المزني اختاره، [و] عن بعضهم القطع به.
ومقابله: أنه لا يجوز؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبر فكبروا" فأمر بالتكبير بعد تكبير الإمام، وهذا كبر قبل تكبير الإمام؛ ولأن في صحة ذلك تضادّاً للأحكام؛ من حيث إنه كان يسجد لسهو [نفسه] دون من اقتدى به، وقد انعكس ذلك، وقد كان في ابتداء الإسلام إذا حضر المسبوق سأل من في الصلاة عما فاته، فيشيرون بالأصابع إلى أعداد الركعات التي فاتت؛ فيبتدر إلى فعل ما فاته، ثم يصل صلاته بصلاة الإمام فيما يصادفه من بقية صلاته؛ فدخل [معاذ] يوماً [وكان] مسبوقاً؛ فاقتدى وصلى ما وجد، ثم قام لما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى ما فاته؛ [ثم لما] تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم [عن صلاته] قال:"إن معاذاً سن لكم سنة حسنة؛ فاتبعوها، وأكد ذلك بقوله: "فما أدركتم؛ فصلوا، وما فاتكم فأتموا، أو: فاقضوا"؛ ولأجل ذلك قال الشافعي- رضي الله
عنه- في "الكبير"- كما قال الإمام-: إن جعل [صلاة] الانفراد جماعة كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ. أي: ولا يجوز العمل بالمنسوخ، وهذا القول حكاه القاضي أبو الطيب عن نصه في "الإملاء" والقديم؛ لأنه قال في "الإملاء": ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه، ثم يأتم بغيره، وهذا منسوخ. وقال في القديم: إذا افتتح الصلاة فرداً، ثم جاء الإمام، وأحرم بالصلاة؛ فمن الناس من قال: يضم صلاته إلى صلاة الإمام. وعندي: أنه لا يجوز، ومن أجاز هذا، أجاز الصلاة بإمامين، ومن لم يجز الصلاة بإمامين، لم يجزه. وعني بالإمامين: مسألة الاستخلاف.
والقاضي الحسين والصيدلاني والغزالي قالوا: إنه نص عليه في الجديد. ولا بعد في ذل؛ لأن "الإملاء" معدود من الجديد.
وعن بعضهم القطع به، حكاه القاضي الحسين؛ فإنه حمل قوله في "المختصر":"وكرهت أن يفتتحها صلاة انفراد، ثم يجعلها صلاة جماعة" على كراهة التحريم، والصحيح أنها على القولين.
واختلف الأصحاب في أنهما أصلان بأنفسهما، أو [مبنيان] على غيرهما:
فمنهم من قال: إنهما أصلان، وهو الأصح في "تلخيص" الروياني وغيره.
ومنهم من قال: إنهما مبنيان على القولين. [وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين] في الاستخلاف هل يجوز، أم لا؟
وهذا يعضده قول الشافعي- رضي الله عنه في القديم: "من أجاز هذا، أجاز الصلاة بإمامين، ومن لم يجز الصلاة بإمامين، لم يجزه".
وقال القاضي الحسين [بناء] على ما نقله: إن هذا لا يصح؛ لأن جواز الاستخلاف قول جديد، وجواز جعل صلاة الانفراد جماعة قول قديم، ولا
يجوز بناء القديم [على الجديد].
ومنهم من قال: هما مبنيان على أنه إذا أخرج نفسه من الجماعة هل يجوز، أم لا؟
ووجه البناء: أنه يصلي بعض صلاته مع الإمام دون بعض.
[وقال القاضي [الحسين:] هذا لا يصح أيضاً؛ لأن المسبوق تصح صلاته، وقد فعل بعض صلاته مع الإمام، دون بعض]؛ لأن المسبوق يخرج من صلاة الإمام بغير فعله، وذلك [بسلام الإمام]؛ فجاز أن يخرج بنفسه؛ بخلاف [ما لو صلى] بصلاة الإمام؛ فإنه لا يحصل بالشروع من غير فعله وقصده.
وإذا ثبت ضعف هذين القولين، تعين الأول، وهو أنهما أصلان بأنفسهما، واختلف الأصحاب في محلهما على ثلاث طرق، حكاها القاضي أبو الطيب وغيره:
إحداها: إذا لم يختلف [ترتيب] صلاة الإمام والمأموم؛ بأن يكون [قد] تابعه قبل أن يركع في الأولى أو الثانية، وهي أولى الإمام، أما إذا اختلف بأن تابعه في الثانية، وهي أولى [الإمام]، فلا يجوز قولاً واحداً؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه نص على المنع بعد الركعة في القديم؛ فقال: إذا صلى ركعة، ثم جاء الإمام؛ شفعها بركعة وقطع، وقال قائل: يدخل مع الإمام، ويعتد بما مضى، ولسنا نقول به، وأطلق الجواز في الجديد، وأطلق المنع في "الإملاء".
وهذه الطريقة تنسب إلى أبي إسحاق.
[والثانية: أن محلهما إذا اختلف الترتيب، أما إذا لم يختلف فيجوز قولاً
واحداً، وقد نسبت إلى أبي إسحاق] أيضاً.
وقال ابن الصباغ: إن القاضي أبا الطيب اختارها.
والثالثة: طرد القولين في الجميع، وهي التي اقتضاها إطلاق الشيخ هنا، وقال البندنيجي: إنها ظاهر المذهب.
وقال في "المهذب"، و"التهذيب"، و"التتمة"، و"الكافي": إنها الصحيحة.
قال ابن الصباغ: وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب مع التي قبلها لا غير.
[و] الأولى حكاها الشيخ أبو حامد مع الثالثة لا غير.
ثم إذا قلنا بالجواز، وجب على المأموم أن يتابع الإمام في ترتيب صلاته؛ كالمسبوق، [ثم] إن كان قد سبق الإمام بركعة؛ فإذا قام الإمام إلى الإتيان بها، فلا يتابعه فيه؛ فإن تابعه، بطلت صلاته، ثم هو بالخيار بين أني خرج نفسه من صلاة الإمام ويتشهد ويسلم، وبين أن يطول الدعاء في التشهد حتى يفرغ الإمام ويسلم؛ لأن مفارقة الإمام بالعذر جائزة؛ كما ستعرفه، والانتظار بعذر جائز؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر الطائفة الثانية في صلاة ذات الرقاع؛ لتأتي، وقعد [في] أثنائها؛ لتتم صلاتها، مع أنه ليس بتابع لغيره، والتابع أولى.
وبالجملة فمتابعة الإمام من غير قطع الصلاة التي يحرم بها منفرداً مكروهة؛ كما هو ظاهر نصه في "المختصر".
وقد أطلق الشيخ في "المهذب" القول بأنه إذا أحرم منفرداً، ثم أدرك جماعة يصلون: أن المستحب [له] أن يقطع الصلاة، ويبتدئها في الجماعة.
وقال في "المختصر": أحب له أن يكمل ركعتين ويسلم، تكونان له نافلة، ويبتدئ الصلاة معه.
ونصه في القديم الذي حكيناه من قبل يوافقه، وجمهور الأصحاب عليه؛ وقالوا: يستحب له أن يتجوز فيهما، وهذا إذا كانت [الصلاة] ثلاثية أو رباعية،
ووجدت الجماعة قبل تمام الركعتين، ولو وجدت بعد قيامه إلى الثالثة، أتمها.
ومحل ذلك إذا لم يخف خروج الوقت عليه لو قطع الصلاة وصلى معهم؛ فإن خاف ذلك، لم يجز، [القطع]؛ قاله في "التتمة"؛ لأن مراعاة الوقت فرض عين، والجماعة سنة، أو فرض كفاية، ولو قطع الصلاة حيث قلنا: يستحب أن يتمها ركعتين ويسلم، قال في "الحاوي": جاز.
وقال في "الكافي": إنه غير مستحب.
وقال في "التهذيب": إنه مكروه.
وفي "التتمة": لا خلاف [في] أنه لا يجوز؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
والقاضي الحسين قال: يستحب له أن يتمها ركعتين، ثم يسلم، ثم قال: وفيه ثلاث مسائل:
إحداها: أن يسلم من [كل] ركعتين من غير أن يغير نيته الأولى؛ فتبطل صلاته.
والثانية: أن يترك نية الفريضة، ولا يغير نية الأصل فتصح صلاته نافلة وترتفض الفريضة.
والثالثة: أن يغير نية الفرض إلى النافلة، وظاهر النص: أنها تنقلب نافلة، ولا تبطل، وقد ذكرنا في نظائرها قولين [فيخرج] في هذه المسألة قول آخر: أنها تبطل، وقد حكاه في "التتمة" أيضاً، والأصح هو الأول، وبه جزم البندنيجي، ونسبه إلى نصه في "الأم" أيضاً.
وقال: إنه في غير هذه الصورة إذا نوى الفرض، [ثم قلبه] إلى نفل مطلق، هل يصح، أو يبطل؟ فيه طريقان:
إحداهما: القطع بالبطلان.
والثانية: أن في المسألة قولين:
أحدهما: هذا؛ قاله في بعض كتبه.
والثاني: يصح؛ قاله في "الأم"، ونقله المزني.
وعكس ابن الصباغ؛ فقال: إن الذي نص عليه في "الأم" البطلان، وها هنا الجواز. والأصح- كما قال، وكذا الماوردين وأبو الطيب-: البطلان؛ لأن النفل لم ينوه في جميع صلاته، وما نص عليه في "الإبانة" ليس بقول آخر في المسألة، وإنما أجازه للحاجة إلى إدراك الجماعة.
ولا خلاف [في] أنه لو نقل الفرض إلى فرض آخر، لا يجوز، وكذا لو نقله إلى نافلة راتبة؛ كما قال البندنيجي وغيره، ولم يحرم بالظهر قبل الزوال، جزم الماوردي ها هنا بصحة النفل.
وقال القاضي أبو الطيب: إنه لا يختلف المذهب في ذلك. لكنه صور المسألة بما إذا ظن دخول الوقت، ثم تبين أنه لم يدخل.
فرعان:
أحدهما: إذا كان الشخص في جماعة، وحضرت جماعة أخرى، وأحرموا بتلك الصلاة؛ فهل يجوز أن يدخل فيها، ويترك الأولى؟
قال في "التتمة": [إنه] على المسألتين، وقد ذكرناهما. وأراد أن ذلك مفرع على ما إذا أحرم منفرداً، ثم نوى متابعة إمام- هل يجوز، أم لا؟ وعلى ما إذا أحرم مع الإمام، ثم أخرج نفسه من الجماعة، هل يجوز أم لا؟
فإن قلنا: لا يجوز لم يجز ها هنا.
وإن قلنا: يجوز، كان كما لو أحرم منفرداً، ثم نوى متابعة إمام، وقد سلف.
الثاني: لو أحرم منفرداً بفائتة ما، ثم حضر من يصلي صلاة الوقت في جماعة، لا يجوز أن يسلم من ركعتين؛ ليصلي معهم؛ لأنه إن أراد أن يصلي تلك الفائتة التي يقطعها معهم فقد أراد خلاف الأفضل؛ لأن الأفضل ألا يصلي فائتة خلف من يصلي صلاة الوقت؛ للخروج من خلاف العلماء، وهذا ما حكاه
في "التتمة"، ونسبه البغوي إلى القاضي الحسين. وإن أراد أن يصلي معهم صلاة الوقت؛ فكذلك؛ فإنه لا يجوز أن يقطع فريضة لمراعاة مصلحة فرضية أخرى. نعم، لو كان قد شرع في الفائتة ظانّاً أن الوقت متسع، ثم زال الغيم، وظهر ضيق الوقت عن الصلاتين- فيستحب أن يقطع الفائتة، ويصلي صلاة الوقت؛ قاله القاضي الحسين في "الفتاوى" ونقله عنه في "التهذيب".
قال: ومن أحرم مع الإمام؛ أي: في غير الجمعة، ثم أخرج نفسه من الجماعة؛ لعذر، وأتم منفرداً- جاز؛ لأن الطائفة الأولى في صلاة ذات الرقاع فارقت النبي صلى الله عليه وسلم وأتمت لنفسها، وهي مفارقة بعذر.
قال: وإن كان لغير عذرن ففيه قولان:
أصحهما: أنه يجوز؛ لما روي أن معاذ بن جبل- رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم يصليها بقومه، وكان عادته إذا افتتح سورة لا يقطعها حتى يتمها؛ فأخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ليلة؛ فصلى معه، ثم عاد على قومه؛ فصلى بهم؛ فشرع في سورة البقرة فأخرج رجل نفسه من صلاته؛ فلما سلم معاذ، أخبر بذلك؛ فقال: نافق الرجل؛ فبلغ [ذلك] الرجل قول معاذ؛ فغاظه ذلك، وقال: والله لأغدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بصنيع معاذ؛ فجاء في الغد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقص عليه القصة؛ فلم يقل شيئاً حتى دخل معاذ؛ فلما دخل [معاذ] قال له: "أفتان أنت يا معاذ؟ أين أنت من سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى
…
}، فما رُئِي رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد منه فيها.
وجه الدلالة [منه]: أنه عليه السلام أنكر على معاذ، ولم ينكر على الرجل، ولا أمره بإعادة الصلاة، ولو بطلت [الصلاة، لأمره بها؛] ولأنه تبرع بالاقتداء، والتبرع بالصلاة لا يلزم بالشروع؛ فكذا في وصفها، وهذا ما نص عليه في الجديد، والشيخ في تصحيحه متبع لسائر الأصحاب، وحكى الروياني والرافعي: أن الإصطخري قطع به.
ومقابله- وهو القديم-: أنه لا يجوز؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه".
ولأن صلاة الجماعة تخالف صلاة الانفراد في الأحكام؛ فلا يجوز الانتقال من إحداهما إلى الأخرى؛ كما لا يجوز أن ينتقل من الظهر إلى العصر، وقد رأيت في "تعليق" البندنيجي: أن الإصطخري قطع به.
وهذه الطريقة هي الطريقة المشهورة الصحيحة، ووراءها طريقان:
إحداهما: أن المفارقة إن كانت بغير عذر فلا يجوز قولاً واحداً، وإن كانت بعذر فقولان؛ حكاهما القاضي الحسين والبغوي.
والثانية: إجراء القولين في الحالين، وهذه الطريقة تحكي عن اختيار الحليمي.
[ثم إن العذر المجوز] لذلك على الطريق الأول ما يجوز بسببه ترك الجماعة، هكذا قاله الإمام، وألحق بذلك ما إذا ترك الإمام سنة مقصودة كالتشهد [الأول] والقنوت. وأما إذا لم يصبر؛ لطول القراءة؛ لضعف، أو شغل، قال الرافعي: وعن الشيخ أبي محمد ما ينازع في الأخير؛ لأن صاحب "البيان" حكى عنه أنه جعل انفراد الرجل عن معاذ [انفراداً] من غير عذر.
[قلت]: وهذا ما اقتضاه كلام غيره؛ حيث جعلوا حديث معاذ حجة لأحد القولين في المفارقة بغير عذر.
وفي "الذخائر": أن من الأصحاب من حكى قولين في أن ترك القنوت هل يكون عذراً في المفارقة، أم لا؟ وأن المأموم لو شك بعد ركوع الإمام: هل أتى هو بالقراءة، أم لا- هل يكون [عذراً] في المفارقة، أم لا؟ فيه قولان.
فرع: لو كان في جماعة، فانتقل إلى جماعة أخرى- قال بعضهم: جاز على القول الذي يجوز المفارقة بغير عذر؛ لأنه إذا جاز أن ينتقل إلى نقصان؛ فإلى زيادة أولى.
قلت: هذا ظاهر إن قلنا: إن القولين في جواز الانتقال من الانفراد إلى الجماعة مبنيان على القولين في الانتقال من الجماعة إلى الانفراد، أما إذا قلنا: إنهما أصلان، فيشبه أن [يكون] القول بالجواز من جماعة إلى جماعة مفرعاً على القول الصحيح في جواز الانتقال من الانفراد إلى الجماعة، وحيث جاز فهو من جماعة إلى جماعة غير مستحب، ومن جماعة إلى انفراد مكروه، [و] الانتقال من الجماعة إلى الانفراد لا يجوز؛ ولو كان في الركعة الثانية.
قال: وإن أحدث الإمام، [أي:] في أثناء الصلاة؛ فاستخلف مأموماً-
جاز في أصح القولين؛ لأن أكثر ما فيه أن القوم يصلون بعض صلاتهم خلف من لم يكن إماماً لهم في ابتداء صلاتهم، وهذا لا يمنع صحة الصلاة؛ لقصة أبي بكر- رضي الله عنه لأنه أم الناس في ابتداء صلاتهم، و [أمَّهُ و] أمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في باقيها، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وقد وافق الشيخ على تصحيحه كل الأصحاب.
قال: إلا أنه لا يستخلف إلا من لا يخالفه في ترتيب الصلاة؛ حفظاً لنظام صلاة المأمومين، ومراده بذلك- والله أعلم-: ألا يستخلف إلا من علم كيفية صلاة الإمام، وما صلى منها؛ فإنه إذا استخلف من لا يعرف ذلك؛ بأن كان مسبوقاً، لم يمكنه المشي على ترتيبها، وهذا أحد القولين؛ كما حكاه صاحب "الكافي" وغيره.
ومقابله: أنه يجوز غير أنه إذا صلى ركعة رقب لقوم، فإن هموا بالقيام، قام، وإلا قعد؛ كالإمام إذا سبح به القوم.
وقد حكى القولين هكذا في "العدة" عن رواية صاحب "التلخيص"؛ فإن الشيخ أبا علي قال: إنهما لابن سريج، وإنما القولان إذا سبح القوم ينبهونه على السهو، وهو لا يذكر هل يقلدهم؟ قولان:
أحدهما: لا، بل يبني على يقينه.
والثاني: [أن المنبهين إن كانوا] جمعاً كثيراً؛ بحيث لا يقع [لهم الغلط]، قلدهم؛ [لأجل قصة] ذي اليدين.
قال: والصحيح من وجهي ابن سريج: الجواز.
قلت: والذي أجاب به القاضي الحسين في "الفتاوى" مقابله؛ ويتعين حمل كلام الشيخ عليه، وإلا فمتى استخلف مأموماً [مسبوقاً أو غير مسبوق]، وجب [عليه] أن يمشي على ترتيب [صلاة] إمامه على المذهب؛ كما
سنذكره، ولا حاجة مع ذلك إلى قوله "إلا [أنه] لا يستخلف إلا من لا يخالفه في ترتيب الصلاة"، ولما عرف بعض الشارحين ذلك، وضاق عليه الأمر، قال: الصواب أن يقول: فاستخلف إنساناً. ويشبه أن يكون هذا عين الخطأ؛ إذ لو كان كذلك، لاختص محل [ذلك بغير صلاة الجمعة]؛ لما ستعرفه [أنه لا يجوز أن يستخلف] في صلاة الجمعة إلا مأموماً، وكلام الشيخ الآتي صريح في أن ما ذكره جار في الجمعة وغيرها؛ فافهم ذلك.
والقول الثاني الذي سكت عنه الشيخ: أنه لا يجوز أن يستخلف؛ لأنه عليه السلام لما ذكر أنه جنب؛ لم يستخلف، وقال:"مكانكم"، ودخل واغتسل، وخرج، وصلى بهم، ولو كان يجوز لفعله؛ ولأنه لا يجوز الاتئمام بشخصين معاً في صلاة واحدة، [فكذا على] التعاقب فيها، وهذا ما نص عليه في القديم، و"الإملاء".
وأجاب المنتصرون للأول عن الخبر بأن رواية البخاري له صريحة في أنه لم يكن قد أحرم بعد، وإنما ذكر ذلك قبل التحرم؛ فلا حجة فيه، وإن كان ذلك بعد إحرامه فليس فيه أكثر من أنه لم يستخلف، وذلك جائز عندنا، وأما أن الاستخلاف لا يجوز، فليس في الخبر ما يدل عليه، على أنه لو كان فيه ما يدل لقلنا: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخلاف؛ فإن استخلاف أبي بكر- رضي الله عنه كان في [اليوم] الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والفرق بين ذلك وبين ما إذا اقتدى باثنين معاً: أنه لا يمكنه متابعتهما، وها هنا يمكنه [ذلك].
ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في جريان القولين [بين] أن يكون ذلك في الجمعة، وغيرها، وبه صرح الجمهور، وحكى الإمام وغيره أن منهم من خصص القولين بصلاة الجمعة؛ فإن الجماعة ركن [فيها]، ويشترط فيها شرائط لا يشترط منها شيء في سائر الصلوات؛ فيليق بها اشتراط اتحاد الإمام، ويجوز في غير الجمعة قولاً واحداً.
التفريع:
على المشهور: إن قلنا: يمنع الاستخلاف؛ فإن كان حدث الإمام في غير الجمعة، أتم المأمومون لأنفسهم فرادى، وإن كان في الجمعة؛ فهل يجوز للمأمومين أن يتموا لأنفسهم صلاتهم، ظهراً، أو جمعة؟ قال القاضي أبو الطيب والمتولي: فيه قولان:
أحدهما- نقله المزني في "المختصر" عن الشافعي- رضي الله عنه: أنه يجوز إن كان حدث الإمام في الثانية، ولا يجوز إن كان في الأولى؛ لقوله عليه السلام:"من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى".
وقد قيل: إن من هذا القول خرج المزني: أن القوم لو انفضوا في الركعة الثانية، أتمها الإمام جمعة؛ كما ستعرفه في موضعه.
والقول الثاني نقله المزني في "جامعه الكبير": أنه يجوز، سواء أكان حدثه في [الركعة] الأولى أو الثانية؛ لأن المعنى الذي لأجله منعنا الإمام من الاستخلاف هو أن حكم صلاته باق لم يبطل، وإن كان حكمها باقياً، جاز لهم أن يتموها جمعة؛ كما لو كان حدثه بعد أن صلى ركعة.
وقد قيل: إن المزني خرج منه قولاً فيما إذا انفض القوم عن الإمام في الأولى: أنه يتمها جمعة، والقولان هكذا حكاهما ابن الصباغ عن رواية أبي إسحاق، وملخصهما: أنه إذا [كان] حدثه في الثانية، أتموها جمعة [قولاً واحداً، وإن كان في الأولى، فهل يتمونها جمعة،] أو ظهراً؟ [قولان.
وعكس الماوردي ذلك؛ فقال: إن كان حدثه في الأولى، أتموها ظهراً،] لا
يختلف فيه مذهب الشافعي، وسائر أصحابه، وإن كان في الثانية، فمذهب الشافعي: أنهم يتمونها ظهراً، وعلى قياس مذهب المزني في مسألة الانفضاض، يتمونها جمعة.
ويجيء من مجموع النقلين في المسألة ثلاثة أقوال، حكاها مجلي:
أحدها: أنهم يتمونها جمعة، كيف كان الأمر.
والثاني: يتمونها ظهراً، كيف كان الأمر، وهذا إذا ضاق الوقت عن إمكان إعادة الخطبة والصلاة؛ فإن أمكن أعيدت.
والثالث: إن كان حدثه في الأولى، أتموها ظهراً إن ضاق الوقت، وإن كان في الثانية، أتموها جمعة، وهذا ما أورده البندنيجي والبغوي.
قال الإمام: إن الأصحاب قطعوا بما إذا كان حدثه في الثانية أنهم يتمونها جمعة، وإن كان في الأولى؛ فهل يتمونها ظهراً، أو نفلاً، أو تبطل؟ فيه خلاف يأتي مثله في مسألة الزحام ونظائرها. ثم قال: وكان شيخي يقول: قد ذكرنا في مسألة الانفضاض قولاً: أن القوم إذا انفضوا في الركعة الأولى، وبقي الإمام وحده- أن الجمعة تصح، وعلى هذا لا يمتنع أن نقول: إذا بطلت صلاة الإمام في الركعة الأولى، وزال [الإمام] عنهم- كان كانفضاضهم عن الإمام، فإذا كان الإمام يتم الجمعة، [فأولى أن يتم المأمومون]، وإن جرى الانفضاض في الركعة [الأولى]، فكذلك القوم يتمون الجمعة وإن زال إمامهم في الركعة الأولى، وهذا قياس حسن، غير أن قياسه: أن صلاة الإمام إذا بطلت في الركعة الثانية ألا يتم المأمومون الجمعة على قول؛ [بناء] على أن الانفضاض لو حصل في الركعة الثانية، لا يتمها الإمام جمعة، وقد قال الأصحاب: إنهم يتمونها جمعة، ووافقهم شيخي، وعندي [أنه] يقتضي طرد القياس؛ إذ لا يكاد يظهر فرق؛ فإن الإمام ركن الجماعة في حق المقتدين؛ كما أن القوم ركن الجماعة في حق الإمام، وليس كانفراد المسبوق بركعة؛ فإنه قد صحت الجمعة للإمام والجمع؛ فأثبت للمسبوق إدراك الجمعة على طريق التبعية لأقوام صحت جمعتهم.
قلت: وأنت إذا تأملت ما ذكره من التخريجين، عرفت أن ما قاله شيخه هو الذي نقله المزني في الجامع الكبير عن الشافعي، وما قاله الإمام هو عين ما حكاه الماوردي عن النص؛ فلا يحتاج إلى التخريج، ثم فيما قاله شيخه نظر من وجه آخر، وهو: أنا قد حكينا أن القول بصحة جمعة الإمام [إذا انفض القوم بجملتهم في الأولى مخرج من هنا؛ فكيف يخرج من الفرع أصله؟! نعم ستقف في باب صلاة الجمعة على أن القول بصحة جمعة الإمام] مع انفضاضهم في الأولى منصوص للشافعي، وحينئذ يستقيم التخريج منه إلى هنا لو عدم النص فيه، وأما تخريج الإمام، وقوله:"إنه لا يكاد يظهر بين المسألتين فرق"، فالأصحاب صرحوا به في كتاب الجمعة، وسنذكره ثم- إن شاء الله تعالى- فإن قلنا: يجوز الاستخلاف، جاز أن يستخلف في غير الجمعة من كان معه قبل حدثه من أول الصلاة، أو في آخرها، ويجب عليه أن يمشي على ترتيب صلاة إمامه؛ فيجلس؛ للتشهد [في موضع تشهد إمامه، ويقنت حيث يقنت، وإن لم يكن ذلك محلاً لتشهده] وقنوته؛ قاله ابن الصباغ. فإذا تمت صلاة المأمومين، قام إلى تتمة صلاته، وقنت في موضع قنوته، وتشهد في موضع تشهده، ويخير القوم بين أن ينتظروه حتى يسلم بهم، وبين أن ينووا المفارقة [ويسلموا، وبين أن يقدموا واحداً منهم، ليسلم بهم؛ أي: بعد نية المفارقة].
وحكى مجلي في جواز انتظارهم له خلافاً، والمشهور: الأول.
وفي "زوائد" العمراني أن القاضي سليم قال في "فروعه": إنه لا يجب على المستخلف أن يمشي على ترتيب صلاة مستخلفه، بل على ترتيب صلاة نفسه، وهو في حكم إمام منفرد، وهل يشترط أن ينوي المأموم الاقتداء بالخليفة، أم لا؟ الجمهور على عدم الاشتراط.
قال في "الكافي": وهو الأصح. وأشار بذلك إلى وجه حكاه في "التهذيب": أنه يشترط ذلك.
قلت: ولا يبعد أن يكون قائله هو الصائر إلى أن الخليفة يمشي على ترتيب صلاة نفسه.
وهذا كله فيما إذا كان الاستخلاف في غير الجمعة، أما إذا كان في الجمعة فيجوز أن يستخلف من كان معه في الركعة الأولى، سواء كان حدثه في الثانية، أو [في] الأولى، لكن [هل] يشترط أن يكون قد سمع الخطبة؟ فيه قولان حكاهما الصيدلاني وغيره:
أحدهما: لا، وهو ما نص عليه في "الأم".
والثاني: نعم، وهو ما حكاه القفال وغيره عن نصه في "البويطي".
والأصح الذي لم يورد العراقيون سواه: الأول.
وهل يجوز أن يستخلف من لم يكن معه في الأولى؟
فيه خلاف صرح به الشيخ؛ حيث قالك وقيل: لا يجوز أن يستخلف في صلاة الجمعة إلا من كان معه في الركعة الأولى.
ووجهه: أنه إذا لم يكن معه في الأولى دار بين أن يكون قد اقتدى بالإمام بعد ركوعه في الثانية، أو قبله، وأيّاً ما كان؛ ففرضه الظهر، أما في الأولى، فظاهر، وأما في الثانية؛ فلأنه لم يدرك معه ركعة تامة، والجمعة لا تدرك بركعة ناقصة؛ كما ستعرفه في مسائل الزحام، وإذا كان كذلك، فالجمعة لا تصح خلف من يصلي الظهر؛ كما سيأتي.
وهذا القول حكاه المراوزة، وعبارتهم في حكايته: أنه هل يجوز أن يستخلف من لم يكن معه في الأولى؟ ذلك [ينبني] على أنه هل يجوز أن يستخلف في الأولى من كان معه فيها قبل الركوع، لكنه لم يسمع الخطبة؟ وفيه ما تقدم:
فإن قلنا: لا يصح [ثمّ]، لم يصح هاهنا.
وإن قلنا: يصح ثم، [فهاهنا] قولان، وهذا يجوز أني كون مرادهم به ما إذا كان من لم يدرك الأولى، لم يسمع الخطبة؛ إذ هو الغالب، أما إذا كان قد سمعها، لكنه لحقه وسوسة؛ فلم يدرك الإمام إلا في الثانية؛ فلا يجيء فيه إلا قولان من غير ترتيب، ويجوز أن يقولوا: مأخذ الترتيب عندنا [أنا] إذا شرطنا
في المستخلف [في الأولى] أن يكون قد سمع الخطبة؛ فكأنا نشترط فيه أن يدرك كل واجبات الجمعة مع الإمام، وإذا كان كذلك؛ فهو إذا لم يدرك الأولى مع الإمام، وأدرك الثانية، و [قد] سمع الخطبة- لم يدرك كل واجباتها معه، وحينئذ يأتي الترتيب والله أعلم.
قال: والمنصوص: أنه يجوز أن يستخلف في الجمعة [في] الثانية من لم يكن معه في الأولى؛ لأنه باستخلافه ناب منابه، ولو استمر لصحت القدوة؛ فكذا من ناب منابه، وإن لم توجد فيه الشرائط؛ ألا ترى أن الإمام في الجمعة لو أحرم بأربعين سمعوا الخطبة، ولحقهم أربعون لم يسمعوها؛ فأحرموا معه، ثم انفض الذين سمعوا الخطبة، وبقي من لم يسمعها- لم يقدح ذلك في صحة الجمعة؛ لأن بإحرامهم معهم، انسحب عليهم حكمهم؛ فكذا هنا.
وقد أفهم كلام الشيخ أن المنصوص الجواز، سواء أدرك المستخلف الإمام قبل الركوع في الثانية، أو أدركه في الركوع، أو أدركه بعد الرفع منه؛ لأن من لم يدرك الأولى، يتنوع حاله إلى ذلك، وهو فيما إذا أدرك الركعة الثانية منصوصه في "الأم"؛ لأنه قال فيه:"ولو أحدث في الركعة الأولى؛ فاستخلف من أحرم معه، صح، ثم إذا صلى المستخلف منها ركعة؛ فلما قام إلى الثانية أحدث، واستخلف من أدرك الركعة الثانية، وأشار إليهم أن يسلم بهم أحدهم، وقام هو؛ فأتمها ظهراً"؛ ولأجل هذا جزم القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما بصحة استخلافه فيها.
وأما إذا كان المستخلف لم يحرم مع الإمام إلا بعد الرفع من الركوع؛ فالجواز في هذه الصورة محكى في "المهذب" و"تعليق" أبي الطيب وغيرهما وجهاً عن بعض الأصحاب، ونسبه البندنيجي إلى الشيخ أبي حامد، وأبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه؛ أخذاً من نصه في "الأم" في المسألة قبلها؛ لأنه لما صح استخلافه؛ مع أنه التزم إتمام صلاته ظهراً، دل هذا منه على أنه يجوز أن يستخلف في الثانية من يصلي الظهر، ومن أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع يصلي ظهراً؛ فوجب صحة استخلافه.
وقال في "الحاوي": إن الجواز في هذه الصورة، قال الأكثرون: إنهم حكوه عن النص.
وإذا صح ذلك، صح ما قاله الشيخ: إن الجواز مطلقاً هو المنصوص، وعلى هذا فلا خلاف في أن المأمومين الذين أدركوا مع المستخلف ركعة قبل حدثه يتمون صلاتهم جمعة، وهل يكون المستخلف مدركاً للجمعة؟ إن كان إحرامه بعد رفع الإمام رأسه من الركوع فلا، وإن كان قبل الركوع أو فيه، فالذي حكاه القاضي أبو الطيب، والماوردي أن يكون مدركاً للجمعة؛ لأنه أدرك مع الإمام الركوع؛ فأدرك به الجمعة؛ كالمسبوق، وكما لو استخلف في الأولى من أدرك معه الركوع فيها؛ فإنه لا خلاف في أن صلاته جمعة؛ كما قاله القاضي الحسين، مع أنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة؛ فإذا أتم الركعة وتشهد- قام وأتى بركعة أخرى وتخير القوم في انتظاره، ومفارقته، وتقديم من يسلم بهم؛ كما سبق مثله في غير الجمعة.
وقال في "الذخائر": [إن في جواز] انتظارهم له الخلاف السابق أيضاً. والمشهور: الأول، وهذا ما حكاه البندنيجي عن الأصحاب، وابن الصباغ والمتولي عن أكثرهم.
ثم قالوا: وظاهر النص أنه لا يكون مدركاً للجمعة، بل يتمها ظهراً، وأشاروا بذلك إلى ما حكيناه عن الإمام، وبعضهم صرح به، وقد أخذ به المراوزة، وقالوا: لا يكون مدركاً للجمعة بلا خلاف؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة تامة من الجمعة، وهو ما اختاره ابن سريج، وصححه الرافعي وغيره، وفرقوا بين ما نحن فيه وبين المسبوق بفرقين:
أحدهما- قاله أبو حامد-: أن المسبوق تبع لإمامه، وإمامه قد حصلت له الجمعة كاملة مع الجماعة؛ فتبعه فيها، ولا كذلك هاهنا؛ فإن المستخلف والمستخلف لم يكمل لواحد منهما الجمعة مع الجماعة.
والثاني- أشار إليه الإمام-: أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع، وكمل معه الركعة، حصلت له ركعة كاملة [تحسب له، وها هنا لم يدرك معه ركعة كاملة]؛ [فلم تحسب] له من الجمعة، ويشهد لذلك أن من أدرك الإمام في الركوع، وزوحم عن
السجود حتى سلم الإمام، [لا يكون] مدركاً للجمعة، وفرقوا بين ما نحن فيه، وبين ما إذا استخلف في الأولى من كان معه فيها بفرقين:
أحدهما- قاله القاضي الحسين-: أنه إذا استخلفه في الأولى، تأكد إدراكه؛ بأن توقف صحة جمعة القوم على صلاة الإمام؛ فصار [الإمام] ركناً في صحة جمعتهم؛ فلهذا يحصل له الجمعة، بخلاف الركعة الثانية؛ فإنه لم يتأكد إدراكه؛ فإنه لم تتوقف صحة جمعة القوم على صلاة الإمام؛ [فإنهم] لو صلوا وحداناً، جاز؛ فالإمام في حقهم، وعدمه سواء؛ فلهذا قلنا: لا يصير مدركاً للجمعة.
والثاني- قاله المتولي-: أنه إذا استخلفه في الأولى، حصل له مع الجماعة ركعتان؛ فكان الحكم بإدراك الصلاة جمعة من طريق الحقيقة، لا من طريق الحكم، والبناء على صلاة الغير، وها هنا هو منفرد في إحدى الركعتين؛ فلابد أن يوجد ما يمكن البناء عليه، وخالف المسبوق بركعة بما ذكرناه.
وقد حكى الرافعي عن رواية صاحب "التلخيص" وجهاً فيما إذا استخلف من أدركه في الركعة الأولى أنه يصلي الظهر [أيضاً]] والقوم يصلون الجمعة.
وأوهم كلام الرافعي: أنه لا فرق [فيه] بين أن يكون حدثه في الأولى أو الثانية، وإن صح فيما إذا كان حدثه في الثانية كان في غاية الإشكال، والمشهور الأول.
ثم إذا قلنا بظاهر النص الذي جزم به المراوزة، فأدركه مسبوق في الركعة الأخيرة التي استخلف فيها في الركوع؛ فهل يكون ذلك المسبوق مدركاً للجمعة، أم لا؟ فيه خلاف مبني على أن المستخلف هل يتم صلاته نفلاً، أو ظهراً؟
وفيه خلاف خرجه ابن سريج على أصلين:
أحدهما: أن من نوى [الأول لو بقى في الصلاة، ولكنه في نفسه مدرك للجمعة؛ لما ذكرناه، وعلى هذا من يؤدي] الجمعة، ولم تحصل له هل تقع صلاته نفلاً، أو ظهراً؟ وفيه قولان.
والثاني: أن المتحرم بالظهر قبل فوات الجمعة ممن لا عذر له؛ هل ينعقد ظهره، أو ينقلب نفلاً؟ فيه قولان، والوجه: الترتيب؛ فيقال: إن قلنا: إذا نوى
الجمعة، ولم تحصل [له] تنعقد صلاته ظهراً، انبنى على أن من لا عذر له إذا صلى لظهر قبل فوات الجمعة؛ هل تصح ظهره، أم لا؟ فإن قلنا: تصح، أتمها ظهراً، وغلا أتمها نفلاً، وإنما كان كذلك؛ لأنه كان يمكنه ألا يقبل الاستخلاف؛ فهو المفوت على نفسه الجمعة بغير عذر.
وعن بعض الأصحاب القطع بالصحة هاهنا، [وإن لم تصح صلاة الظهر قبل فوات الجمعة؛ لأنه هاهنا] معذور؛ حيث استخلفه الإمام، وإن تقدم هو؛ لأنه لا يمنع من الإمامة؛ فإذا تقدم، صارت الجمعة في حقه؛ كالفائتة؛ فصح ظهره، وهذا ما صححه الروياني، وقال الرافعي: إنه [الأظهر] عند الأكثرين.
قال الإمام: [فإن قلنا]: إن صلاته تكون ظهراً، أدرك المسبوق الجمعة؛ إذا أدرك [معه] الركوع، وأتم الصلاة.
قال في "التهذيب": ولا يتخرج فيه الوجه المذكور في أن الجمعة لا تصح خلف من يصلي الظهر؛ لأنه صلى ركعة خلف من يراعي صلاة الإمام؛ بخلاف مصلي الظهر.
وإن قلنا: إنها تقع نفلا، انبنى على [أن] المتنفل هل يجوز أن يكون إماماً في الجمعة؟ وفيه قولان: فإن قلنا: يجوز أن يكون إماماً في الجمعة، كان مدركاً أيضاً، وإلا فلا؛ لأن الجماعة شرط في إدراك الجمعة؛ فإذا لم يجز أن يكون الإمام متنفلاً؛ فقد انتفت الجماعة؛ فلا يكون مدركاً.
فإن قيل: هذا يقدح في اقتداء المأمومين غير هذا المسبوق به، وقد قلتم بالجواز؛ إذ هذا تفريع على جواز استخلافه.
قيل في جوابه: إنما جاز اقتداء المأمومين به الذين ليسوا بمسبوقين، مع أنهم يتمون صلاتهم جمعة؛ لأنهم أدركوا مع الإمام المستخلف الركعة الأولى، ولو انفردوا بالثانية لكانوا مدركين للجمعة؛ فليست الجماعة شرطاً في حقهم؛ فلا يمتنع أن يقتدوا فيها بمتنفل؛ كما يشرع الاقتداء في سائر الفرائض بالمتنفل.
فإن قيل: [قد قيل:] إن من نوى الجمعة، ولم [تصح تبطل] صلته على وجه، وكذا من تحرم بالظهر قبل فوات [الجمعة] ولا عذر له، لا تصح صلاته [ظهراً، ولا نفلاً على وجه؛ فهلا فرعتم عليه؟
قلنا: لو فرع على ذلك، لامتنع استخلافه؛ إذ به تبطل صلاته]، والتفريع على صحة استخلافه؛ فلذلك امتنع التخريج عليه.
وبالجملة: فظاهر نص الشافعي في "الأم" أن المستخلف يتم صلاته ظهراً، وقد حكي عنه أنه نص على [أن] المسبوق؛ إذا أدركه في الركوع في الثانية، وأتمها معه، يكمل صلاته جمعة، وأن القفال تعجب منه.
ووجهه الإمام وغيره: بأن المستخلف يجري على ترتيب صلاة الإمام؛ فكأنه هو في حق المقتدين؛ فهو حال محل الأول لو بقي في الصلاة، ولكنه في نفسه غير مدرك للجمعة؛ [لما ذكرناه]، والله أعلم.
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً بالتصريح، والتلويح:
الأول: أنه لا يشترط في استخلاف الإمام أن يكون [قبل] حدثه، بل يجوز بعد تعمده الحدث، ومع سبقه من طريق الأولى؛ لأنه معذور، وقصد الشيخ بهذا اللفظ التنبيه على مذهب أبي حنيفة؛ فإنه قائل بعدم الجواز عند تعمد الحدث، وبه عند سبق الحدث؛ بناءً على أصله في أن سبق الحدث لا يبطل الصلاة، وتعمده يبطل صلاته وصلاة المأمومين خلفه، و [قد] قال القاضي الحسين في الكرة الثانية في دروسه: عندي أنه إذا أحدث متعمداً، لا يجوز له الاستخلاف؛ كما صار إليه أبو حنيفة؛ لأن صلاته قد بطلت، ولا يجوز البناء على صلاة باطلة، ولو سبقه الحدث، لم تبطل صلاته على القديم؛ فيجوز له الاستخلاف. [وقيل:[إن الشافعي] جوز الاستخلاف] على قوله الجديد،
وسبق الحدث على هذا القول يبطل الصلاة؛ فكيف يستقيم هذا البناء؟
وهذا السؤال قد تعرض له الإمام في "النهاية"، وإن لم يذكر مذهب القاضي، وقد أجاب عنه القاضي بأن قال:[من] هنا يستنبط [أن] للشافعي قولاً في الجديد: أن سبق الحدث لا يبطل الصلاة؛ كذا رأيته في "تعليقه".
قلت: ويجوز أن يكون لهذه الطريقة التي اختارها [القاضي مأخذٌ آخر، وإن قلنا بأن سبق الحدث يبطل صلاة الإمام علي] الجديد: وهو أن صاحب "التلخيص" حكى قولاً للشافعي: أن الإمام إذا تعمد الحدث، بطلت صلاة من خلفه دون ما إذا سبقه الحدث؛ كما صار إليه أبو حنيفة، وحينئذ لا يرد السؤال، والله أعلم.
فرع: هل يجوز الاستخلاف قبل الحدث؟
قال أبو حاتم مُلْقِي أبي العباس بن سريج: نعم، إذا أحس بالحدث.
وقد سئل الشيخ أبو محمد عنه، فجعل الإحساس عذراً، وقال: متى حضر إمام هو أفضل منه، أو حاله أكمل من حاله يجوز استخلافه؛ كذا قاله الرافعي في باب صلاة المسافر عند رعاف الإمام، وسنذكره فيه- إن شاء الله تعالى- مع شيء يتعلق بما نحن فيه.
الثاني: اختصاص جواز الاستخلاف بالإمام؛ كما هو مذهب أبي حنيفة، وقد قال الأصحاب كافة: إنه يجوز للمأمومين أن يستخلفوا واحداً منهم يتم بهم الصلاة؛ إذا لم يستخلف الإمام قبل استخلافهم أحدهم، ولو تقدم واحد منهم من غير استخلاف، قال الإمام: ففيه احتمال عندي من جهة أنه من القوم؛ فتقديمه نفسه كتقديمه [آخر. وهذا] ما صححه بعضهم، وهو يؤخذ من ظاهر نصه في "المختصر"؛ فإنه قال: وإن أحدث الإمام في صلاة الجمعة؛ فتقدم رجل بأمره، أو بغير أمره، وقد [كان] دخل مع الإمام قبل حدثه؛ فإنه يصلي بهم ركعتين.
ولو استخلف الإمام شخصاً، والقوم غيره، قال الإمام: فليس عندي في هذه المسألة نقل، والمسألة محتملة، ولعل الأظهر أن المتبع من يستخلفه القوم؛ فإن الإمام قد بطلت صلاته، وإنما يستخلف بعلقة إمامة كانت وزالت، والقوم باقون
في الصلاة؛ فهم أولى بالاستخلاف.
ولو تقدم شخصان معاً، قال القاضي الحسين: ليس لهم أن يقتدوا بواحد منهما، ولا يجوز لبعضهم أن يقتدي بواحد، وللبعض بالآخر؛ لأن الإمام الأصل واحد؛ فيجب أن يكون الخليفة واحداً، و [قد] ذكر في الكرة الثانية أنه في صلاة الجمعة لا يجوز، وفي سائر الصلوات يجوز؛ لأن الجمعتين لا تقامان في بلد واحد، بخلاف سائر الصلوات، وهذا ما أورده في "الكافي".
الثالث: اختصاص جواز استخلاف [الإمام] بالمأموم، دون من لم يكن مأموماً معه.
قال الرافعي: وهذا ما أطلق جماعة من الأئمة اشتراطه، ولاشك في أن ما ذكره من التفاريع في الجمعة وغيرها يختص بما إذا كان المستخلف مأموماً، أما إذا كان غير مأموم، فقد قال الإمام:[إنه] إن كان في غير الجمعة فتقديم الإمام له ليس باستخلاف، والمتقدم ليس خليفة، وإنما هو عاقد صلاة نفسه، جار على ترتيبها، وقد انقطعت قدوة المقتدين بإمامهم؛ فإن اقتدوا بهذا الرجل، فسبيلهم كسبيل منفردين يقتدون في أثناء الصلاة برجل، وقد ذكرنا ما فيه من الخلاف، وإن كان في الجمعة:
فإن كان حدثه في الركعة الأولى، ففي صحة الظهر لهذا المتقدم قولان؛ فإن قلنا: لا تصح، ففي صحة صلاته نفلاً وبطلانها قولان؛ فإن لم نصححها أصلاً، فلاشك أنه لا يصح الاقتداء به، وإن صصحناها، فقد انقطعت قدوة القوم؛ فلا جمعة لهم؛ فإنهم لم يدركوا ركعة مع إمام الجمعة، فلم تصح الخلافة على هذه الصورة في حق [هذا] الرجل، وهل تنقلب صلاتهم نفلاً، أو تبطل؟ فيه الخلاف؛ فإن صحت، ونووا الاقتداء بهذا المتقدم، كانوا كما لو نوى القدوة في أثناء الصلاة.
وفي "تلخيص" الروياني: أنا إذا حكمنا بصحة صلاة هذا المستخلف ظهراً، جاز استخلافه؛ لأن الشافعي جوز الجمعة خلف الصبي في أحد القولين، وصلاته نافلة؛ فإذا جازت خلف من يصلي نافلة، جازت خلف من يصلي الظهر. قال:
وهذا خلاف النص.
وإن كان حدثه في الركعة الثانية، وفرعنا على المشهور في أنا إذا منعنا الاستخلاف يتم المأمومون صلاتهم- والحالة هذه- جمعة؛ فلو تقدم الدخل، ونوى الجمعة، فقد نقول: لا تصح صلاة المتقدم؛ [فلا يصح اقتداؤهم به؛ فإن اقتدى القوم به مع العلم بذلك- بطلت صلاتهم، وأن تصح صلاة المتقدم]؛ [فلا تصح صلاته ظهراً]، أو نفلاً؛ فالقوم قد انقطعت قدوتهم، ولم يصح الاستخلاف؛ فإن اقتدوا به، كان هذا اقتداء طارئاً على الصلاة، بعد ثبوت جمعة الانفراد، وفي جواز ذلك الخلاف السابق.
هذا ما ذكره الإمام، وكلام العراقيين، والماوردي يوافقه ويخالفه:
أما موافقته له ففي منع استخلافه في صلاة الجمعة غير مأموم، قال الماوردي: ولا يختلف في ذلك.
وأما مخالفته له ففي غير الجمعة؛ فإنهم قالوا: يجوز أني ستخلف فيها من أحرم بعد حدثه، والفرق بينها وبين الجمعة: أنه لما صح أداء الفرض منفرداً، [صح استخلاف من لم يعلق صلاته بصلاته، ولما لم يصح أداء الجمعة منفرداً]، لم يصح استخلاف من لم يعلق صلاته بصلاته، لكنه لا يستخلف إلا من لا يخالفه في ترتيب صلاته؛ مثل: أن يكون حدث الإمام في الركعة الأولى قبل الركوع أو في الركعة الثالثة، فاستخلف من شرع في الصلاة، والمعنى في ذلك: صيانة صلاة المأمومين عن اختلال الترتيب؛ فلو كان حدث الإمام في الثانية أو في الرابعة؛ فاستخلف من شرع في الصلاة- لا يجوز؛ لأنه لا يلزمه أن يمشي على ترتيب صلاة المستخلف؛ لأنه لم يلزمها، بل يمشي على ترتيب صلاة نفسه، وذلك يقتضي المخالفة؛ وهي: تمنع القدوة.
قلت: ويشهد لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم فوجد عبد الرحمن بن عوف صلى ركعة من الصبح صلاها خلفه؛ فلما سلم، صلى أخرى، ولم يتقدم؛ لأنه لو تقدم إماماً، لاقتضى المخالفة، وفي واقعة أبي بكر تقدم؛ لأن ترتيب صلاته لم
يخالف [ترتيب] صلاتهم.
[الأمر] الرابع: أن استخلاف الإمام جائز، غير واجب، ولاشك أنه كذلك، نعم هل يجب على القوم أن يستخلفوا من يتم بهم الصلاة؟ قال الأصحاب: إن كان ذلك في غير الجمعة، فلا يجب، وإن كان في الجمعة؛ فإن كان في الركعة الأولى، وجب؛ غذ عليه ترتيب إدراك الجمعة، ولو أرادوا أن ينفردوا، لم تصح جمعتهم، وإقامة الجمعة واجبة عليهم؛ فتعين الاستخلاف.
قال الإمام: ثم ينبغي أن يجري الاستخلاف على القرب؛ بحيث لا يطول الفصل؛ فإن فعلوا ركناً على الانفراد، ثم استخلفوا، لم يجز، وإن طولوا الركن الذي هم فيه، ثم استخلفوا بعد طول الزمان، ففي المسألة احتمال.
قال: وهذا تفريع على ما ذكره الأصحاب من أنهم لو لم يستخلفوا [في الركعة الأولى، لا يتمون الصلاة جمعة، يعنيك على القول بمنع الاستخلاف] كما سبق.
قال: والذي حكيته عن شيخي في تخريج ذلك على الانفضاض لا تفريع عليه.
قلت: ولو فرع عليه، لاقتضى القياس وجوب الاستخلاف أيضاً هاهنا؛ لأن الإمام في مسألة الانفضاض لا سبيل له إلى استدراك ما فات من الخلل؛ فلا جرم حسن التخريج منه إلى القوم عند حدث الإمام، وقد منعنا الاستخلاف؛ لأن القوم- أيضاً- لا سبيل لهم إلى استدراك الخلل. أما إذا جوزنا الاستخلاف، فهم سبيل من استدراكه [بالاستخلاف]؛ فيجب.
ولو كان حدث الإمام في الثانية، فلا يجب عليهم؛ إذ سبب وجوبه في الأولى أنهم لم يدركوا مع الإمام ركعة، فأما إذا صلوا ركعة؛ فلو انفردوا وقد فسدت صلاة الإمام، لصحت جمعتهم؛ فلا يلزمهم الاستخلاف.
قال الإمام: بل لو استخلف الإمام، فهم بالخيار: إن شاءوا تابعوه، وإن شاءوا انفردوا، ولو اقتدى بعضهم، وانفرد آخرون؛ جاز.
قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن الإمام حكى عن الأصحاب أن الإمام إذا استخلف، استمرت صلاة المأمومين، ولا حاجة بهم إلى تجديد نية الاقتداء بالخليفة؛ فإن
فائدة الاستخلاف تنزيل الخليفة منزلة الإمام الأول حتى كأنه هو، ولو استمرت الإمامة من الأول لم يكن [لتجديد نية الاقتداء معنى، ولو انقطعت القدوة من الأول، لكان الظاهر] من القياس: انقطاع الجمعة، وهذا مع القول بأنه لا يجب على المأمومين متابعة الخليفة، مما لا يجتمعان.
وجوابه: أنا نحمل كلامه في عدم اشتراط النية على ما إذا كان الاستخلاف في الأولى؛ ألا ترى إلى قوله: إن القدوة لو انقطعت من الأول، لكان الظاهر من القياس انقطاع الجمعة؟! وانقطاع الجمعة إنما يكون عند انقطاع القدوة في الركعة الأولى دون الثانية. نعم، ما قاله من عدم وجوب الاستخلاف في الثانية يظهر أنه قاله تفريعاً على ما حكاه عن الأئمة في أن حدث الإمام إذا كان في الثانية، وقد منعنا الاستخلاف، يتم القوم صلاتهم جمعة. أما إذا قلنا: إنهم يتمونها ظهراً؛ كما حكيناه عن رواية الماوردي عن المذهب- فيظهر أن يلزمهم الاستخلاف أيضاً؛ كما لو كان حدثه في الأولى؛ فاعلم ذلك.
قال: ويستحب للإمام أن يخفف في الأذكار؛ أي: كالتسبيح في الركوع والسجود والتشهد؛ بحيث لا يزيد على أدنى الكمال، ولا ينقص.
والأصل في ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إذا أم أحدكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم الكبير والضعيف والمريض، وإذا صلى وحده فليطل كيف شاء".
وروى مسلم أيضاً، عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطول بنا؛ فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ؛ فقال: "أيها الناس، إن منكم منفرين؛ فأيكم أم الناس أم الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة".
قال: إلا أن يعلم من حال المأمومين أنهم يؤثرون التطويل؛ أي: بأن يكونوا في موضع غير مطروق، أو في سفر، وفهم منهم ذلك؛ فحينئذ يطول حتى يأتي بأعلى الكمال؛ لأن العلة في التخفيف انتفت، ولو كان بعضهم يؤثر التطويل دون بعض، قال الجيلي: راعى الأكثر، ويحتمل أن يقصر مطلقاً.
قلت: وهو الذي يدل عليه الخبر؛ قال عليه السلام: " [إني] لأدخل في الصلاة أريد أن أطول فيها؛ فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه"، أخرجه البخاري.
قال القاضي الحسين في "تعليقه": وحيث يستحب له التطوير، فالمستحب له أن يطول القراءة في القيام، والقيام فيها أشد استحباباً من القيام في سائر الأركان، وهل يكون جميع قيامه فرضاً، أو قدر الفاتحة فقط؟ فيه وجهان.
واحترز الشيخ بقوله: "في الأذكار" عن التخفيف في القراءة؛ فإنه غير مستحب، بل المستحب فيها ما تقدم، وهو في الصبح والظهر من طوال
المفصل، وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، وفي المغرب من قصار المفصل؛ كما قال القاضي الحسين.
أما المنفرد فإنه يزيد ما شاء.
وقوله: "يخفف في الأذكار" يعرفك أنه لا يترك شيئاً منها، ويندرج في ذلك طلب الرحمة عند قراءة آية المغفرة، والتعوذ عند قراءة آية العذاب، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وقد صرح بذلك القاضي الحسين، عند الكلام في صلاة القاعد.
فإن قلت: قد قال الشافعي عقيب ذكره الخبر الذي ذكرناه في أول الباب: "ومعنى التخفيف: أن يقصر الأذكار؛ فيذكر ما لابد منه، ويطيل الأفعال؛ فيأتي بها على الكمال"، فقوله:"فيذكر ما لابد منه"، يوهم أنه يترك الأذكار.
قلت: مراده: بما لابد منه في إدراك الفضيلة، ألا ترى إلى قوله:"يقصر الأذكار"؟! والله أعلم.
قال: وإذا أحس الإمام بداخل، وهو راكع، استحب له أن ينتظره في أصح القولين؛ لما روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر
رجلاً يصلي وحده؛ فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا؛ فيصلي معه" وأخرجه الترمذي، ولفظه:"أيكم يتجر على هذا" وقال: حديث حسن. وفيه: فقام رجل يصلي معه.
وهذا يدل على أن الصلاة لأجل إتمام صلاة أخيه فضيلة.
وروي: أنه عليه السلام صلى إلى جنب الحسن عند قدميه؛ فلما سجد، ركب الحسن ظهره؛ فأطال السجود؛ فلما فرغ، قيل له: أطلت السجود؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ابني ركبني؛ فأطلت؛ ليقضي وطره"؛ فإذا جاز الانتظار لحاجة غير الصلاة، فلحاجة الصلاة أولى.
ويشهد له أيضاً انتظاره عليه السلام في صلاة ذات الرقاع، وهذا ما نقله القاضي [أبو الطيب] في تعليقه عن حكاية أبي إسحاق في شرحه عن الجديد.
قال: ويكره في [القول الآخر]؛ لقوله عليه السلام: "إذا أم أحدكم بالناس، فليخفف".
ولأنه يأتي بجزء من صلاته؛ لأجل الآدمي، وهو مأمور بالإخلاص، وألا يشرك بعبادة ربه أحداً.
قالا لإمام: ولأنه لو أقيمت الصلاة، لم يحل له انتظار من لم يحضر، لا يختلف فيه المذهب؛ فلألا يجوز ذلك [في] وسط الصلاة أولى، وهذا ما
اختاره المزني والإمام، وقال صاحب "الفروع": إنه الصحيح.
والقائلون بالأول قالوا: محل ما ذكرناه [إذا قصد بانتظاره وجه الله تعالى بنفع الآدمي، وذلك لا يقدح في العبادة؛ دليله رفع الصوت في الأذان وتكبيرة الإحرام. أما] إذا قصد [بذلك] غير وجه الله تعالى بأن كان يميز [في انتظاره] بين داخل وداخل- لم يصح قولاً واحداً؛ للإشراك.
وهذه الطريقة التي ذكرها الشيخ حكاها أبو إسحاق المروزي في "الشرح"، ووراءها طرق:
إحداها: أنه لا يستحب قولاً واحداً، والقولان في أنه هل يكره، أم لا؟ وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، والبندنيجي، واختارها الماوردي وصاحب "الفروع"، وقالا: إن القول بالكراهة هو الجديد، ومقابله هو القديم.
وفي "تعليق" البندنيجي نسبته إلى أبي إسحاق.
والثانية: أنه لا يكره قولاً واحداً، وهل يستحب، أم لا؟ فيه قولان، حكاهما مجلي وغيره.
والثالثة: أن القولين في البطلان.
قال الإمام: وهذا فيه بعد، ولكن في كلام الشافعي ما يدل عليه.
والقاضي الحسين حكى في باب: صلاة الخوف القولين في الاستحباب، وعدمه، ثم قال: فإذا قلنا: لا يستحب، فهل تبطل الصلاة، أم لا؟ فيه قولان مخرجان من القولين في بطلان صلاة الإمام؛ إذا فرق الناس في صلاة الخوف الرباعية أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة.
والرابعة: نفي الخلاف عن المسألة، وتنزيل النصين على حالين، والقائلون بهذا اختلفوا:
فمنهم من قال: إن كان يعرف الداخل بعينه [فلا ينتظره؛ لأنه لا يخلو عن تقرب إليه، وإن كان لا يعرفه بعينه] انتظره، وعليهما تنزيل القولين؛ [حكاهما في "التتمة".
ومنهم من قال: إن كان الداخل ممن يلازم الجماعة وعرفه انتظره، وإن كان غريباً فلا، وعليهما ينزل القولان]، حكاهما صاحب "البيان"، عن [رواية] صاحب "الفروع".
ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في الانتظار الذي جرى فيه الخلاف بين أن يطول أو يقصر. وقد قيل: إن محله إذا لم يزد على حد الركوع المشروع للأئمة، أشار إليه ابن الصباغ وغيره. ولعل المراد [به] إذا زاد على الركوع المشروع للأئمة؛ إذا آثر القوم التطويل، وإلا فقد حكى الإمام عن الصيدلاني أنه قال: إن محل الخلاف إذا كان لا يطول على السابقين، ثم قال: وهذا موضع التأمل؛ فإنه لو لم يطل الركوع الذي هو فيه- لم يجعل الانتظار قصوراً حتى يفرض التردد فيه، وإن طول الركوع، وزاد على المعتاد فيه، فقد حصل التطويل؛ فالذي أراه في ذلك أنه لو طول ركوعاً واحداً تطويلاً لو وزع على [جميع] الصلاة، لم يظهر له في كل ركعة أثر محسوس في التطويل، لكن يظهر في الركن الذي انتظره فيه، ولو كان يظهر على كل الصلاة ظهوراً محسوساً؛ فهو ممنوع عند الصيدلاني قولاً واحداً، وهذا حسن بالغ، ولا وجه غيره، وعلى هذا لو حصل الانتظار في ركوعين؛ فإن لم يظهر التطويل؛ كما ذكرنا- قال الإمام-: هذا فقد يخرج على الخلاف، وإن كان يظهر فقد يقطع بالمنع؛ كما لو كان الإفراط في ركوع واحد.
وإذا تأملت ما قاله الصيدلاني، كان طريقة سادسة في أصل المسألة، وهو التفرقة بين الانتظار القليل والكثير، وقد حكاها صاحب "الفروع"، وقد يقال: إن كلام الشيخ دال عليها؛ لأنه قال: "إذا أحس [الإمام] بداخل"؛ أي: في المسجد، ومسافة انتظار من دخل [المسجد] قريبة؛ فاختص كلامه بها، ويؤيد ذلك أن البندنيجي والقاضي أبا الطيب وغيرهما قالوا: إن محل الخلاف إذا كان الشخص قد دخل المسجد، أما إذا لم يكن قد دخل بعد، فلا ينتظره قولاً واحداً.
قلت: ولو قيل: إن محله إذا لم يدخل، أما إذا دخل فلا ينتظره قولاً واحداً-
لكان له وجه؛ لأنه إذا دخل أمكنه الإحرام والاقتداء بالإمام؛ فتحصل له فضيلة الجماعة، وإدراك الركعة التي شرع لأجلها الانتظار عند من يراه، ولا كذلك إذا كان خارج المسجد؛ فإنه قد لا يمكنه ذلك، والمنقول الأول.
ولعل القصد بالانتظار مع ما ذكرناه القرن من الإمام، وهو لا يحصل بدونه؛ لأن الإحرام في آخر المسجد، والانتقال في أثناء الصلاة إلى قرب الإمام منهي عنه [لأنه] جاء أبو بكرة مسرعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ فأحرم في طرف المسجد، ثم انتقل إلى قرب النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال [له] النبي صلى الله عليه وسلم:"زادك الله حرصاً، ولا تعد".
واحترز الشيخ بقوله: "وهو راكع" عما إذا أحس به وهو قائم في القراءة، أو بعد [الرفع من] الركوع؛ فإنه لا ينتظره قولاً واحداً؛ لأنه لا فائدة فيه؛ قاله ابن الصباغ وغيره.
قال الإمام: وقد رأيت لبعض الأئمة طرد القولين في الانتظار في القيام والسجود؛ لإفادة الداخل بركة الجماعة، وهذا لا أعتمده.
وأغرب منه ما حكاه ابن كج: أن محل القولين في الانتظار في القيام، أما الركوع، فلا ينتظر فيه قولاً واحداً؛ لأن القيام موضع تطويل، والركوع ليس موضع تطويل.
قلت: وكلام صاحب "التتمة" يشير إلى القطع بأنه يجوز في حال القيام؛ لأنه لما ذكر قول المنع من الاستخلاف- قال: إن قائله أجاب عن انتظار النبي صلى الله عليه وسلم الطائفة الثانية في صلاة الخوف بذات الرقاع؛ بأنه كان في القيام؛ [فلا يلحق به الركوع، وهذا يدل على أنه لو انتظره في القيام] لجاز، والمشهور الأول.
وألحق العراقيون [والمتولي] الانتظار في التشهد الأخير بالانتظار في
الركوع؛ لأجل إدراك فضيلة الجماعة، وحكوا فيه القولين، وبعضهم يرونهما وجهين، واختار في "المرشد" منهما الانتظار أيضاً.
وعلى قياس طريقة الفوراني والغزالي التي سنذكرها من أنه لا يدرك فضيلة الجماعة بدون ركعة: أنه لا ينتظره فيه، وأعرض الرافعي عن ملاحظة هذا الأصل، وقال: القياس أن يكون الانتظار فيه كالانتظار في القيام. والأوجه ما ذكرناه.
وإذا قلنا بما قاله العراقيون، قال بعضهم: ينبغي أن نجري الخلاف في الانتظار في القيام في الركعة الأولى، وإن لم نُجْرِهِ في مطلق القيام ولا في السجود؛ بناءً على أن فضيلة تكبيرة الإحرام تدرك بإدراك القيام فقط؛ كما سنذكره في آخر الباب، وهو حسن. قال: ويعضد ذلك ما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في الأولى من الصبح، ويقصر [في] الثانية، أخرجه البخاري ومسلم، وفيه قال:"فظننت أنه كان يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى".
فائدة: هل محل الخلاف في الاستحباب وغيره مخصوص بما إذا لم يؤثر [المأمومون التطويل، أو يشمل الحالين؟ هذا لم أقف فيه على نقل، ولكن كلام بعضهم يفهم أنه مخصوص بما إذا لم يؤثروه]، أما إذا آثروه، فلا؛ لأنه يستحب له التطويل.
وينطبق على هذا ما حكاه الرافعي، عن صاحب "الإفصاح": أن الانتظار إن كان لا يضر بالمأمومين، ولا يدخل عليهم مشقة- جاز؛ كانتظار النبي صلى الله عليه وسلم في
حمل أمامة ووضعها في الصلاة، وإن كان ذلك مما يطول، ففيه الخلاف.
وما ذكرته مما أفهمه كلام بعضهم يعضده ما [أسلفناه] من أن المراد من التطويل أن يبلغه حد الركوع المشروع للأئمة، عند إيثار المأمومين التطويل، وقد يقال: إنه يجري فيما إذا آثروه، ويكون محل الخلاف إذا كان انتظاره يزيد على ما يؤثر من التطويل. والله أعلم.
قال: [و] من أدرك الإمام قبل أن يسلم؛ أي: وإن لم يدرك الركوع [من] الركعة الأخيرة معه- فقد أدرك الجماعة؛ لقوله عليه السلام: "إذا جاء أحدكم الصلاة ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع؛ فقد أدرك الركعة".
وروى الترمذي [عن معاذ نحوه، وقال عليه السلام: "فما أدركتم فصلوا"، ولو لم يكن مدركاً]، لفضيلة الجماعة بذلك لم يكن لأمره بفعل ما لا يعتد له من الصلاة فائدة، ولما جاز له المتابعة؛ لكونها زيادة في الصلاة غير معتد بها عن قصد وذكر.
[و] لأنه قد أدرك في الجماعة ما يعتد له به، وهو النية، وتكبيرة الإحرام؛ فوجب أن يكون به مدركاً لفضيلة الجماعة؛ كما لو أدرك ركعة، وهذا ما حكاه العراقيون والمتولي عند الكلام في المسألة قبلها، وهو قياس قول القفال المروزي شيخ المراوزة وأستاذهم بجواز اقتداء مصلي الظهر خلف من يصلي على
الجنازة، ولا يتبعهم في التكبيرات، وأن فائدة الاقتداء: اكتساب فضيلة الجماعة، بل قد صرح بحكايته عنه القاضي الحسين في باب سجود السهو؛ حيث قال:
فرع: الإمام إذا قام على خامسة ساهياً؛ فجاء مسبوق واقتدى به، وهو عالم بحاله، قال القفال: تنعقد صلاته جماعة؛ لأن قيامه إلى الخامسة لم يخرجه من الصلاة؛ فانعقد تحريمه خلفه، إلا أنه لا يتابعه في شيء.
وهذا المذهب قد أشار إليه القاضي الحسين في موضع آخر ولم يحك سواه؛ حيث قال: هل يسن للمسبوق دعاء الاستفتاح؟ نظر: إن أدرك جزءاً من الصلاة مع الإمام فلا، وإن لم يدرك جزءاً من الصلاة مع الإمام، مثل: أن سلم لمَّا كبر للافتتاح-[فإنه] يأتي به؛ لأنه افتتاح، وفي الصورة الأولى إذا قام هو غير مفتتح للصلاة، فإن الجزء الذي أدركه من صلاة الإمام، وهو محسوب له في استحقاق الفضيلة والثواب، وفي هذه الصورة هو يفتتح الصلاة، وصرح به قبيل باب سجود الشكر؛ حيث قال: لو دخل جماعة المسجد، فوجدوا الإمام في القعدة الأخيرة- فالمستحب لهم أن يقتدوا به، ولا يتركوا الاقتداء به حتى يسلم فيصلوا الجماعة ثانياً؛ لأن تلك الفضيلة محققة، وها هنا موهومة. لكنه قال في باب سجود الشكر، في الفرع الذي أسلفنا حكايته عنه: إن الذي قال به عامة أصحابنا: أن صلاته لا تنعقد جماعة، بل تنعقد منفرداً؛ ولذلك قال الفوراني، وتبعه الغزالي: فضيلة الجماعة لا تحصل، إلا إذا أدرك ركعة مع الإمام، ولو أدركه بعد الركوع الأخير، لا يكون مدركاً للجماعة؛ لأنه ليس محسوباً له من صلاته، والمختار الأول.
قال القاضي: والخلاف المذكور جار بين القفال، وعامة الأصحاب فيما إذا اقتدى من يصلي الفرض بمن يصلي على الجنازة؛ فعند عامة أصحابنا لا تنعقد صلاته بالجماعة، وعند القفال تنعقد، وكذا لو اقتدى به وهو في سجود التلاوة، فعلى هذا الاختلاف.
وهذا ما يدرك به أصل فضيلة [الجماعة]، أما ما يدرك به أكملها؛ فهو: إدراك تكبيرة الإحرام؛ لأنه [قد] ورد في فضلها أخبار، وقد اختلف
الأصحاب فيه على خمسة أوجه:
أحدها- وهو ما صححه الرافعي، ومجلي-: أن يشاهد تكبيرة الإحرام، ويشتغل عقيبها بعقد الصلاة؛ فإن أخر، لم يدركها.
والثاني: أن يشرع في الاقتداء به قبل شروعه في القراءة للفاتحة، حكاه القاضي الحسين.
والثالث: أن يدركها من أدرك قيام الركعة الأولى.
والرابع- وهو ما اختاره في "الكافي"-: أنه يدركها من أدرك الإمام في الركوع.
والخامس: يدركها من أدرك الركوع إن لم يشتغل بأمور الدنيا، واشتغل بأسباب الصلاة؛ مثل: الطهارة، ونحوها، وإن اشتغل بأمور الدنيا؛ فلا يكون مدركاً لها ما لم يدرك القيام.
قال في "البسيط": والوجه الثالث والرابع يختص بمن [لم] يحضر إحرام الإمام، أما إذا حضر وأخر فقد فاتته فضيلة التكبيرة وإن أدرك الركعة.
قال: وإن أدركه راكعاً- أي: ركوعاً محسوباً له- فقد أدرك الركعة؛ لخبر أبي داود السالف؛ ولأنه بإدراك الركوع يدرك [أكثر] الركعة؛ فجاز أن يقوم مقام إدراك جميعها.
قال في "الحاوي": وهو قول مجمع عليه. وفيه نظر؛ لأن القاضي [حكى قبل الكلام في السلام في الصلاة أن الداركي] حكى عن محمد بن إسحاق بن خزيمة- وهو من أصحابنا-: أنه إذا أدركه في الركوع يعيد الركعة، وهو مذهب أبي هريرة؛ لقوله عليه السلام:"من أدرك الإمام راكعاً فليركع معه، وليعد الركعة" وكذا الإمام حكاه عن رواية أبي عاصم العبادي، عن ابن خزيمة.
قال القاضي: والأول أصح.
[لكن هل نقول: إن الإمام يتحمل عن المأموم المسبوق الفاتحة، أم هي لم تجب عليه أصلاً، مع قولنا: إن الفاتحة تجب على المأموم غير المسبوق؟ فيه خلاف حكاه القاضي الحسين في باب صفة الصلاة عن الأصحاب، وأثره يظهر [من] بعد]، ولا فرق عليه بين أن يكون قد قصر ولم يكبر حتى ركع الإمام؛ فكبر، أو لم يقصر؛ قاله الإمام في موضعين:
أحدهما: في آخر [باب] اختلاف نية الإمام والمأموم، ورأيت في بعض شروح "المهذب": أنه إذا قصر في التكبير حتى ركع الإمام، لم يكن مدركاً للركعة.
وكذا لا فرق [فيه] بين أن يتم الإمام الركعة فيتمها معه، أو لا يتمها [الإمام]، بل يدركه في الركوع، ثم يحدث الإمام في السجود؛ لأنه أدركه في ركوع محسوب من الصلاة، وهذا بخلاف ما سنذكره في إدراك الجمعة، كذا رأيته في "تعليق" القاضي الحسين في باب الصلاة بالنجاسة، وفي "التهذيب" أيضاً.
والحكم فيما لو أدرك الإمام رافعاً، ولم يخرج عن حد الراكعين حتى وصل هو إليه؛ فاجتمعا في أول الركوع- كما إذا أدركه مستقراً في الركوع. أما [لو لم ينته] المسبوق إلى حد الراكعين حتى جاوزه الإمام، لا يكون مدركاً للركعة، وأطلق القاضي الحسين القول في صفة الصلاة بأن [الإمام] لو كان في الهُوِيِّ، [والمأموم] في الارتفاع- لا يكون مدركاً لها، ولعله منزل على الحالة الثانية.
ولو شك هل أدركه قبل أن يجاوز أقل الركوع، أم لا؟ حكى الإمام فيه وجهين؛ أخذاً من تقابل الأصلين؛ فإن الأصل عدم الإدراك، والأصل بقاء الإمام في الركوع، والأظهر في "الرافعي": عدم الإدراك؛ لأن الحكم بإدراك ما قبل الركوع بالركوع على خلاف الحقيقة؛ فلا يصار إليه إلا عند تيقن الركوع.
ثم ظاهر كلام الأئمة: أنه لا يشترط مع إدراك الإمام في حد الراكعين أن يطمئن المأموم قبل خروج الإمام عند حد الراكعين، قال في "الرافعي": ورأيت في
"البيان" اشتراط ذلك صريحاً، وبه يشعر كلام كثير من النقلة، وهو الوجه.
قلت: وعليه ينطبق قول القاضي الحسين في صفة الصلاة: وإنما يدرك المسبوق الركعة إذا هوى إلى الركوع، واجتمع مع الإمام في الحالة التي لو أراد كل واحد منهما أن يضع يديه [على ركبتيه، لنالت] يداه ركبتيه.
أما إذا كان ركوع الإمام غير معتد به [للإمام؛ مثل:] أن يدركه في ركوع خامسة فعلها الإمام ساهياً، أو في ركوع عاد إليه الإمام عوضاً عن ركوع أتى به خالياً عن تسبيح، وظن أنه غير معتد به؛ لفقد التسبيح منه، أو في ركوع فعله الإمام، وقد نسي سجدة مثلاً من الركعة التي قبله، أو القراءة على الجديد، أو كان الإمام محدثاً- فإذا أدركه المسبوق فيه، لا يكون مدركاً للركعة؛ لأنه فيما يدركه تبع الإمام، وهو لا يحسب للإمام؛ فالمأموم الذي هو تابع أولى، وقد نص الشافعي على ذلك في الصورة الأولى، [كما] حكاه القاضي الحسين في كتاب الجمعة، وفي الثانية [حكاه] البندنيجي عن نصه في "الأم"، وباقي الصور في معناهما.
وفيه وجه: أن يكون مدركاً لها؛ حكاه الجماعة في كتاب الجمعة.
قلت: ويشبه [أن يكون] هذا قول من قال: إن الإمام لا يتحمل عن المسبوق، [بل] القراءة لا تجب عليه؛ كما أسلفناه. وهو مفرع على القول بأنه إذا أدرك مع الإمام جميع الخامسة التي قام إليها ساهياً، والمأموم يظنها رابعة- أنها تحسب له؛ كما هو المنصوص. أما إذا قلنا: لا تحسب له، فها هنا أولى، وهو الصحيح؛ كما ذكرنا.
قال الشيخ أبو علي: والخلاف في هذه المسألة- عندي- ينبني على القولين في جواز الجمعة خلف المحدث والمتنفل، ووجه الشبه: أن المقتدي في الجمعة يسقط فرضاً عن نفسه لو كان منفرداً [للزمه، وهو رد الأربع إلى ركعتين؛ كما أن المقتدي في الركوع يسقط فرضاً عن نفسه لو كان منفرداً]، وهو القيام، والقراءة في تلك الركعة.
وما ذكرناه في إدراك الخامسة بإدراكها مع الإمام- كما ذكرنا- مصور بما إذا جهل المأموم أنها خامسة الإمام، فلو علم ذلك، قال القاضي الحسين: فهل يصح إحرامه خلفه؟ فيه وجهان:
المذهب: أنه لا يصح.
فإذا قلنا: يصح، فلا يتابعه فيها، ولو تابعه، بطلت صلاته، والله أعلم.
قال: [فإن أدركه] في الركعة الأخيرة؛ فهي أول صلاته، وما [يأتي به]، أي: منفرداً- فهو آخر صلاته؛ لما روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا وعليكم السكينة والوقار؛ فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" أخرجه البخاري ومسلم. وإتمام الشيء لا يكون إلا بعد أوله؛ ولأنه فعل صلاة [تلي] تكبيرة الإحرام؛ فوجب أن يكون أولها؛ كالإمام؛ ولأنا أجمعنا [مع الخصم] على أنه لو أدرك ركعة من المغرب، أتى بأخرى، وجلس للتشهد، وذلك يدل على أن ما أدركه مع الإمام أول صلاته.
فإن قيل: قد جاء: "وما فاتكم فاقضوا"، ولو كان ما يأتي به آخر صلاته، لم يكن قاضياً، ولأنه يتبعه في التشهد والقنوت، وليس ذلك من حكم أول صلاته.
قلت: القضاء [في الخبر] لا يمكن حمله على حقيقته الشرعية؛ لأنه عبارة عن فعل العبادة خارج وقتها، وإذا تعذر حمله على حقيقته، حملناه على أصل الفعل؛ كما في قوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200].
وأما كونه يتبعه في التشهد، والقنوت؛ فذاك لأن عليه إتباع إمامه؛ كما يتبعه فيما لا يعتد له به من السجود، ونحوه.
قال: يعيد فيه القنوت؛ [لأنه] إذا [ثبت أنه] آخر صلاته أعاد فيه القنوت؛ [لأن محل القنوت آخر الصلاة.
وفي قول الشيخ: "يعيد فيه القنوت"] إشارة إلى أنه يستحب له أن يقنت معه، وهو ما ذكر الماوردي في أثناء كلامه أنه وفاق منا، ومن الخصم، وكذا التشهد. نعم حكى ابن الصباغ وغيره فيما إذا أدرك الإمام في التشهد الآخر أنه يجب عليه أن يجلس معه، وهل يتشهد معه، أو لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأنه ليس موضع تشهده.
والثاني: نعم؛ لأنه إذا جاز أن يقعد في غير موضع قعوده؛ لمتابعة الإمام- جاز أن يتابعه في التشهد، إلا أن هذا التشهد لا يكون واجباً عليه؛ لأنه إنما يلزم المأموم متابعة الإمام في الأفعال الظاهرة دون الأذكار.
وجزم الماوردي بأنه يأتي به واجباً، قال: لأنه بالدخول في صلاة الإمام لزمه إتباعه، والتشهد مما يلزم إتباع الإمام فيه؛ كما يلزمه في الأفعال.
وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، ويظهر أن يقال: إن الوجهين الأولين يأتيان في القنوت في مسألتنا، وظني أني رأيت ذلك في "تعليق" القاضي الحسين، ويظهر أن يقال: لا، بل يأتي به ندباً وجهاً واحداً- كما أفهمه كلام الشيخ- والفرق: أن التشهد ركن في الصلاة، وفي الإتيان به تكرير ركن من غير ضرورة، ولا كذلك القنوت.
فإن قلت: [أنتم تغتفرون] الأركان الفعلية؛ لأجل متابعة الإمام، فالقولية أولى.
قلت: الضرورة ألجأت إلى المتابعة في الفعلية؛ لأجل نظم الصلاة، ولا ضرورة في القولية، [وبالجملة: فلا يبعد أن يكون في القنوت طريقان:
إحداهما: إجراء الوجهين في التشهد فيه، ومأخذهما ما سلف من أنه إذا قنت في الركعة الأولى، وهو منفرد، عامداً أو ساهياً؛ فهل تبطل صلاته عند العمد، ويسجد عند السهو؛ لأنه طول ركناً قصيراً؛ ولأنه نقل ذكراً مقصوداً من محله إلى غير محله؟
فإن قلنا بالأول؛ فها هنا لم يكن الرفع من الركوع في حق المأموم قصيراً لأجل وجوب المتابعة، ولو كان منفرداً لكان قصيراً في حقه؛ فيأتي بالقنوت، ولا يضره.
وإن قلنا بالثاني، فمحل قنوت المأموم ركعته الثانية، وفي قنوته مع الإمام نقل ركن مقصود في محله إلى غير محله، ولا ينبغي أن يأتي به مع استغنائه عنه،
وهذا يظهر أن يكون مأخذ الوجهين في التشهد أيضاً؛ فإن محل تشهد المسبوق ثانيته، لا أولاه، ومنه يظهر لك- لو قيل به- أن الوجهين في الجواز، لا في الاستحباب.
والطريقة الثانية: أن يقنت مع الإمام وجهاً واحداً؛ بناءً على أن المتفق على البطلان [فيه] عند العمد، وسجود السهو عند السهو: ما إذا طول الركن القصير بركن قولي: كالفاتحة والتشهد، وهل مأخذ ذلك أنه طول الركن القصير، أو أنه نقل ركناً من محله إلى غير محله، والقنوت مع الإمام لا يوجد فيه تطويل ركن قصير، ولا نقل ركن؛ فلذلك جاز وجهاً واحداً، وجاء في تشهده مع الإمام الوجهان. والله أعلم.
فإن قيل: قد نص الشافعي على أنه إذا فات الرجل مع الإمام ركعتان من الظهر، قضاهما بأم القرآن وسورة، والسورة إنما تشرع في أول الصلاة.
قيل: في جوابه وجهان:
أحدهما- قاله أبو حامد في "جامعه"-: أن للشافعي قولين في أنه هل يقرأ السورة في الركعتين الأخيرتين من الظهر، أم لا؟
وهذا جواب على أنه يقرأ، وهو ما نص عليه [الشافعي] في ["الإملاء" و]"الأم".
والثاني: أنا وإن سلمنا أنه لا يقرأ السورة في الأخيرتين؛ كما نص عليه [في القديم، ونقله المزني في "المختصر"؛ فهذا [محله] إذا أدرك فضيلة السورة في الأوليين، إما منفرداً، أو مأموماً أدرك أول الصلاة، وهذا لم يدرك تلك الفضيلة؛ فيأتي بالسورة؛ ليحوز فضلها، ومثله ما نص عليه]: أنه إذا لم يتعوذ في الأولى، يتعوذ في الثانية، وهذا جواب أبي إسحاق، وأكثر الأصحاب.
قال ابن الصباغ: وهذا أصح عندي. وكذا الإمام رجحه.
فإن قيل: يلزم على هذا أن يجهر فيما يأتي به إذا كانت صلاته عشاء؛ لأن الجهر سنة في الأوليين منها، ولم يدركه مع الإمام.
قلنا: لنا في استحباب الجهر له قولان:
أحدهما: [يجهر] حكاه الشيخ أبو علي في "الإفصاح"؛ فعلى هذا يندفع السؤال.
والثاني: لا يجهر، وهو ما نص عليه في "الإملاء"، والأصح.
والفرق على هذا: أن الإسرار سنة في الأخيرتين؛ فلا يترك سنة في محلها ليتدارك سنة أخرى؛ ألا ترى أن الطائف إذا ترك الرمل في الطوفات الأول، لا يأتي [به] في الأخيرة؛ لهذا المعنى، وكذا لو كانت يده اليمنى مقطوعة، لا يشير بيده اليسرى في التشهد كما كان يفعل بيمناه؛ لأن بسطها سنة، ولا كذلك القراءة؛ فإن تركها من الأخيرتين؛ [كسنة منسية]، فحسن التدارك فيها.
فرعان:
[أحدهما]: إذا حضر مسبوق فاته بعض الصلاة، قال في "التتمة": فإن كان يرجو حضور جماعة أخرى في ذلك المسجد، أو في مسجد آخر؛ فالأولى ألا يقتدي بذلك الإمام، بل ينتظره حتى تكون جملة صلاته جماعة، وإن كان لا يرجو جماعة أخرى، فالأولى أن يقتدي به؛ حتى يدرك الفضيلة، وما قاله لا يخلو من احتمال، وقد أسلفنا في الباب عن القاضي الحسين خلافه.
[الثاني]: إذا سلم الإمام، وخلفه مسبوق، متى يقوم؟
قال القاضي الحسين في موضعين من كتابه، وتبعه المتولي: يستحب له ألا يقوم حتى يسلم الإمام التسليمة الثانية؛ ليحوز المأموم فضلها.
وعن بعض علماء زمانا: [أنه] لا يفعل ذلك؛ فإن فعله بطلت صلاته.
ووقع لي فيه تفصيل حسن، وهو إن كان جلوس المسبوق مع الإمام فيا لتشهد الأخير في محل جلوس المسبوق للتشهد الأول، فالأمر كما قاله القاضي [الحسين]، وإن لم يكن محلاً لجلوسه الأول، فالأمر كما قاله الآخر.
ثم رأيت في "تعليق" القاضي الحسين في باب: سجود السهو ما يفهم ذلك؛ فإنه قال: إذا سلم إمامه فعليه أن يقوم في الحال؛ فلو لم يقم في الحال،
وطول الدعاء، نظر: إن [لم يكن] محل تشهده؛ بأن أدركه في الثانية، أو في الرابعة، بطلت صلاته؛ لأنه قعد في محل القيام، وإن كان محل تشهده، لا تبطل.
لكن قوله: "أن يقوم بعد سلامه" يحتمل أنه أراد السلام التام، وبه صرح في باب موقف الإمام والمأموم. والله أعلم.
قال: ومن أدرك [الإمام] قائماً، فقرأ بعض الفاتحة، ثم ركع الإمام؛ فقد قيل: يقرأ، ثم يركع؛ لأنه لما لزمه بعض القراءة، لزمه إتمامها، ولا فرق على هذا بين أن يكون قد تشاغل بدعاء الاستفتاح [حين أحرم أو شرع في القراءة، إلا في دعاء الاستفتاح]، كما سنذكره.
وقيل: يركع، ولا يقرأ؛ لقوله عليه السلام:"وإذا ركع فاركعوا"، ولأن المسبوق تسقط عنه [كل] القراءة؛ لفوات محلها؛ فبعضها أولى، وهذا ظاهر النص، وادعى في "التتمة" أنه المذهب.
قال القاضي الحسين: ولا فرق فيه بين أن يشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، أم لا؛ لأنه من جملة معقود صلاته؛ كالفاتحة.
وعن الشيخ أبي زيد أنه إن اشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، قرأ بعد ركوع الإمام بقدره، وإن لم يشتغل بشيء من ذلك، ركع مع الإمام، وهذا أصح عند القفال والمعتبرين؛ كما قال الرافعي.
وقال القاضي أبو الطيب في باب صفة الصلاة: إن الشافعي نص في "الأم" على أنه إذا اشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، مع علمه بأنه إذا فعل ذلك لا يتمكن من قراءة كل الفاتحة؛ حتى يرفع الإمام رأسه من الركوع- نوى مفارقته، وأتم صلاته لنفسه.
التفريع: إن قلنا بالأول؛ فركع مع الإمام، بطلت صلاته، وإن أتم القراءة، وأدرك الإمام في الركوع [فذاك، وإن لم يدركه في الركوع]، فهذا متخلف عن الإمام بعذر؛ كذا قاله الأصحاب، والمتخلف عن الإمام بالعذر قد ذكرنا حكمه في مسألة الزحام.
وقال القاضي الحسين: إن الحكم كذلك؛ إذا لم يكن المسبوق قد اشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوذ، أما إذا كان قد اشتغل به، فهو كالمتخلف بغير عذر، وسنذكره.
وإن قلنا بالثاني؛ فتشاغل بالقراءة، وترك متابعة الإمام؛ فهو كالمتخلف عن الإمام بغير عذر، والمتخلف عن الإمام بغير عذر قال الأصحاب فيه: إن أدركه في الركن الذي تخلف [عنه] فيه؛ لتباطؤ صدر منه- فلا تبطل صلاته وجهاً واحداً، وإن تخلف عنه بركنين، بطلت صلاته وجهاً واحداً، لكن يشترط أن يكونا مقصودين؛ حتى لو تخلف عنه بركن مقصود، وآخر غير مقصود، لا تبطل، أو لا يشترط ذلك؟ فيه وجهان، ثم ما المراد بالسبق بالركن؟ هل الشروع فيه أو الانتقال عنه إلى غيره؟ فيه احتمالان للقاضي الحسين.
والركن المقصود هو الركن الطويل.
والركن القصير كالرفع من الركوع، وكذا من السجود على رأي أبي علي: هل هو ركن مقصود، أم لا؟ تردد فيه الأئمة، وقد ذكرنا حجته في باب سجود السهو:
فمن قائل: لا؛ لأن الغرض منه الفصل؛ فهو إذن تابع لغيره، وهذا ما ذكره في "التهذيب".
ومن قائل: نعم، وادعى بعضهم أنه المذهب؛ بدليل اشتراط الطمأنينة فيه، ولو كان المقصود منه الفصل، لاكتفى به من غير طمأنينة، ولمجاوزته حد أقل الركوع من غير اعتدال؛ فإن الفصل يحصل به.
فإذا عرفت ذلك، عدنا إلى مسألتنا:
فإذا أتم المسبوق الفاتحة، وأدرك الإمام راكعاً كما هو- فقد حصلت له الركعة، ورأيت فيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي الحسين: أن المسبوق، إذا أحرم والإمام راكع؛ فاشتغل بالقراءة؛ فحكمه حكم المتخلف عن الإمام بغير عذر.
وقيل: إنه إن قرأ، وأدرك الإمام بعد فراغه من الركوع، لا تصح صلاته، وإن أدركه في الركوع؛ فعلى وجهين.
قلت: ووجه البطلان يظهر أن يجيء في مسألتنا، لكن المنقول فيها عدم البطلان، وحصول الركعة له، وإن رفع الإمام من الركوع قبل فراغه من القراءة؛
فمن قال: إن الرفع من الركوع ركن مقصود، وإن الشروع في الركن يكفي في السبق- حكم ببطلان صلاته؛ لأنه سبقه بركنين عنده، وكذا الحكم عند من قال: إنه غير مقصود، واكتفى بالشروع في الركن، كالفراغ منه. ومن قال: لابد من الانتقال عنه؛ فلا تبطل صلاته عند من يرى أن النظر إلى التخلف بركنين كيف كانا، أو بركنين مقصودين، وأن الرفع من الركوع مقصود ما لم يسجد والإمام قائم لم يركع، وعند من يرى أنه غير مقصود، لا تبطل صلاته ما لم يرفع من السجود؛ [و] هذا ملخص ما قاله القاضي الحسين في "تعليقه".
وفي "الذخائر" أن بعض أصحابنا قال: إن السجدة الأولى مع الثانية ركن واحد. فعلى هذا لا تبطل عند هذا القائل ما لم يرفعه رأسه من السجدة الثانية والمأموم قائم لم يركع.
وعلى قول من يكتفي بالشروع في الركن، تبطل عند سجود السجدة الثانية، وهي طريقة حكاها في "التهذيب".
ثم حيث لم نحكم بالبطلان فيما عدا الحالة الأولى، حكمنا بفوات الركعة؛ لأنه لم يدركها مع الإمام، وهذا مما لا خلاف فيه.
وقد سلك بعضهم في ذلك طريقاً [آخر]؛ فقال: إذا تخلف عنه بركن واحد كامل، هل تبطل صلاته، أم لا؟ فيه وجهان حكاهما الإمام:
أحدهما: أنها تبطل؛ لما فيه من المخالفة.
وأظهرهما- وهو الذي أورده الغزالي-: أنها لا تبطل؛ لقوله عليه السلام: "لا تبادروني بالركوع والسجود، فمهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا رفعت، ومهما أسبقكم [به] حين سجدت تدركوني حين رفعت".
وإن تخلف عنه بركنين، بطلت صلاته قولاً واحداً، وهل يعتبر أن يكون الركنان والركن مقصوداً إذا قلنا: إن من الأركان ما ليس بمقصود في نفسه، أو
لا يعتبر؟ فيه خلاف.
فإذا تقرر ذلك؛ فإن ركع الإمام، وتباطأ المأموم، ثم أدركه في ركوعه؛ فهذا ليس تخلفاً بركن؛ فلا تبطل به الصلاة وفاقاً، ولو اعتدل الإمام، والمأموم بعد قائم؛ فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، واختلف في مأخذهما:
فقيل: مأخذهما التردد في أن الاعتدال ركن مقصود، أم لا؟
إن قلنا: نعم، فقد فارق الإمام ركناً، واشتغل بركن آخر مقصود؛ فتبطل صلاة المتخلف.
وإن قلنا: ليس بمقصود، فهو كما لو لم يفرغ من الركوع؛ لأن الذي فيه تبع له؛ فلا تبطل [به] صلاته.
وقيل: إن مأخذهما: أن التخلف بركن واحد هل يبطل، أم لا؟
إن قلنا: نعم، فقد تخلف بركن الركوع تامّاً، فتبطل صلاته.
وإن قلنا: لا؛ فما دام في الاعتدال لم يكن الركن الثاني تامّاً؛ فلا تبطل.
قلت: ومن الطريقين في هذه نأخذ طريقين في أن التخلف بركن واحد هل يبطل، أم لا؟
إحداهما: أنه يبطل قولاً واحداً إذا أتم، وتمامه يكون بانتقاله عنه إلى ركن مقصود؛ إن قلنا في الأركان ما ليس بمقصود في نفسه وهذا ملخص المأخذ الأول.
والثانية: أن التخلف بركن تام هل يبطل، أم لا؟ فيه وجهان، سواء أكان تمامه بانتقاله إلى ركن مقصود، أو غير مقصود، وأثرهما يظهر فيما إذا سجد الإمام السجدة الثانية، ورفع منها قائماً، والمأموم في الجلسة بين السجدتين؛ فعلى الأول تبطل صلاته قولاً واحداً، وعلى الثاني في البطلان الوجهان، ويظهر أثرهما أيضاً فيما إذا ركع الإمام، ورفع من الركوع، وهوى إلى السجود، والمأموم بعد قائم لم يركع: فعلى الأول يكون الحكم كما لو لم يهو الإمام بعد إلى السجود، وقد تقدم، وعلى الثانية تبطل قولاً واحداً؛ لأن ركن الاعتدال قد تم؛ فوجد السبق بركنين.
قال الرافعي: وقياسه: أن يقال: إذا ارتفع عن [حد الركوع والمأموم بعد في القيام- أن تبطل صلاته عند من يرى أن] التقدم بركن واحد مبطل.
وعلى الطريقين لو انتهى الإمام إلى السجود، والمأموم بعد في قيامه- بطلت صلاته وفاقاً، وهي طريقة حكاها القاضي الحسين.
قال الإمام: وإذا قلنا بأنه لا تبطل صلاته بالتخلف بركن تام، وكان تخلفه عن الركوع، ورفع الإمام وهو بعد قائم فلا ينبغي [له] أن يركع؛ فإنه لو ركع، لم يكن الركوع محسوباً له، ولكن ينبغي أن يتابع الإمام الآن فيما يأتي به من هويه إلى السجود، ويقدر كأنه أدركه الآن، ولا تحسب له هذه الركعة.
ثم هذا كله فيما إذا تخلف عن الإمام في أركان الصلاة؛ فإن تخلف عنه بما هو في صورة ركن تام، وليس بركن؛ كما إذا سجد الإمام للتلاوة، ورفع من السجود، والمأموم قائم في قراءة [الفاتحة] أو غيرها- قال العبادي: بطلت صلاته وجهاً واحداً، وإن كانت لا تبطل فيما إذا ركع الإمام، ورفع [و] المأموم قائم؛ ليتم الفاتحة، والفرق: أن القيام الذي هو محل القراءة يفوت بركوع الإمام؛ فعذر فيه، وفي مسألة سجود التلاوة: القيام لا يفوت؛ لأن الإمام يعود إليه؛ فيمكنه إتمام الفاتحة.
قلت: وفي هذا الفرق نظر؛ إذ التفريع على أن التخلف لإتمام الفاتحة ليس بعذر. نعم، هذا يستقيم على ما قاله في "الوسيط": إنا إذا قلنا: يجب على المأموم إتمام قراءة الفاتحة، فأتمها وقد رفع الإمام رأسه من الركوع- فقد فاتته الركعة، وفي بطلان صلاته وجهان، وهذا مما انفرد به؛ فلا تفريع عليه.
ولا خلاف في أن المسبوق إذا أدرك الإمام في القيام، ولم يتمكن من قراءة شيء من الفاتحة حتى ركع الإمام- أنه يركع معه، ولا يشتغل بالقراءة، ومن طريق الأولى إذا أحرم والإمام راكع، وقد تقدم الكلام فيما إذا خالف وقرأ في هذه الحالة: هل تبطل صلاته [أم لا]؟
فروع:
أحدها: من تحرم بالصلاة مع الإمام، لكن المأموم بطيء القراءة؛ فلم يتم الفاتحة حتى ركع الإمام- فهل يكون حكمه حكم المسبوق، أو يجب عليه إتمام الفاتحة وجهاً واحداً؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجي عن ابن سريج، كالوجهين في المزحوم عن السجود إذا أتى بما عليه، وأدرك الإمام قائماً؛ فقرأ بعض الفاتحة، ثم ركع الإمام، والمذكور منهما في "التتمة" في مسألتنا، وهو الذي صححه البغوي، وإبراهيم المروزي: الثاني؛ وهو ما صححه الأصحاب كافة في النظر الذي ذكرناه، وعلى هذا يكون [حكمه] حكم المزحوم، وسيأتي.
[آخر] إذا تحرم مع الإمام، لكن الإمام سريع القراءة؛ ولسرعته ركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة- قال القاضي الحسين والمتولي: أتم الفاتحة، وكان كالمتخلف عن الإمام بالعذر.
وقال الإمام: إن الأصحاب اختلفوا في هذه الصورة أن التخلف فيها كالتخلف بعذر، أو بغير عذر.
[آخر]: الموسوس إذا كان يردد القراءة؛ فركع الإمام قبل أن يفرغ- يجب عليه أن يتمها، قاله القاضي، ويظهر أن يكون كالمتخلف بغير عذر.
[آخر]: إذا تحرم مع الإمام، وترك قراءة الفاتحة عمداً؛ حتى ركع الإمام، قال القاضي الحسين: فالمذهب أنه يخرج نفسه من متابعته.
آخر: إذا تحرم مع الإمام، ونسي القراءة، ثم تذكرها بعد ركوع الإمام- حكى القاضي الحسين والمتولي ثلاثة أوجه في المسألة:
أحدها: أنه يتابعه في الركوع، ولا تحسب له تلك الركعة.
والثاني: يقرأ، ويكون حكمه حكم المتخلف بغير عذر.
والثالث: يقرأ ويكون حكمه حكم المتخلف بالعذر.
ولو كان التذكر بعد أن ركع مع الإمام، قال الرافعي: فلا يعود إلى القيام ليقرأ، وقد فاته الركعة؛ بناءً على الجديد.
وقال القاضي الحسين: هل [يعيد القراءة]، أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ كما لو لم يكن قد ركع، وعلى هذا يجعل كالمتخلف عن الإمام بالعذر؛ إذ النسيان عذر ظاهر؛ لقلة إمكان الاحتراز عنه.
والثاني: يتابع الإمام، ولا يعود إلى القيام؛ لأجل القراءة؛ فإن عاد كان كالمتخلف عن الإمام بغير عذر حتى تبطل صلاته إذا سبقه الإمام بركنين، على التفصيل الذي ذكرناه.
قال: ويكره أن يسبق الإمام بركن؛ لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه؛ فإذا ركع فاركعوا .. " إلى آخره.
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس، لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف؛ فإني أراكم من أمامي، ومن خلفي". أخرجه مسلم.
قال في "التتمة" و"التهذيب": والكراهة كراهة تحريم؛ لقوله عليه السلام: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" أخرجه مسلم.
وهذا الاستدلال يعرفك أن مرادهم بالسبق بالركن: أن يشرع فيه والإمام في الركن قبله، لا أن يشرع في ركن ويفرغ منه، أو ينتقل إلى غيره؛ كما تقدم في التخلف بركن، وبه صرحوا، ويؤيده ما ستعرفه من قولهم:"عاد إلى متابعته، أو لم يعد"، وإذا كان كذلك، كان الأحسن في التعبير عن ذلك أن يقال: ويكره أن
يسبق الإمام إلى ركن؛ إذ هو الحقيقة، وهذا السؤال قد لا يرد على الشيخ؛ غذ كلامه الآتي يقتضي أن صورة السبق بركن أن يركع قبله مثلاً؛ فإذا أراد الإمام أن يركع رفع هو، وهو قضية ما سنذكره عن نصه في "الأم"- إن شاء الله تعالى- لكن الظاهر أنه أراد ما ذكره الأصحاب.
قال: فإن سبقه بركن- أي: مثل أن ركع قبله، أو سجد- عاد إلى متابعته؛ أي: وجوباً؛ فيعود إلى الانتصاب؛ إن كان السبق بالركوع، أو السجود؛ لأن متابعة الإمام فرض؛ فإن وافق فانتصب، وركع الإمام، ركع معه، أو سجد؛ لأن الأول لم يحسب له؛ لأجل المخالفة، ولم لم يعد للانتصاب حتى أدركه الإمام في الركوع- لم تبطل صلاته؛ لأنها مفارقة قليلة، وكذا لا تبطل فيما إذا رفع المأموم من الركوع، والإمام شارع فيه، ولم يجتمعا على الركوع معاً في حالة واحدة، ولو عاد للانتصاب قبل ركوع الإمام، حسبما أمرناه [به]؛ فركع الإمام؛ ولم يركع معه، بل بقى منتصباً إلى أن رفع الإمام من الركوع- لم تبطل؛ كذا نص على الجميع في "الأم". ولفظه فيه:"وإن سبقه فركع قبل إمامه كرهت له ذلك، وأمرناه بالانتصاب؛ فإن فعل؛ فأدرك إمامه منتصباً، ركع بعد ركوعه؛ فإن أقام على ما هو عليه راكعاً؛ فلحق به الإمام؛ فاجتمعا على الركوع- لم تبطل صلاته، ولو أراد الاعتدال؛ فجعل الإمام يركع، وهو يرفع؛ فما اجتمعا على الركوع معاً في حالة واحدة، فقد سبق إمامه بركن واحد؛ فلا تفسد صلاته".
فقول الشافعي: "كرهت له ذلك"، دليل على أنه فرض المسألة في حالة تعمد المأموم السبق دون حالة جهله به؛ فإن من ركع؛ لظنه أن الإمام في الركوع؛ لصوت سمعه، ولم يكن في الركوع- لا يكره له ذلك.
وقوله: "وأمرناه بالانتصاب"، دليل على عدم بطلان الصلاة، وظاهره الوجوب.
وقد قيل: إن العود إلى المتابعة- والصورة كما ذكرنا- مستحب، لا واجب،
وهو ما حكاه ابن الصباغ؛ إذ في العود تكثير المخالفة؛ ولأجل هذه العلة قال المراوزة: إذا سبق إمامه بركن عامداً؛ بأن ركع قبله، [أو رفع من الركوع]، أو سجد، لا يعود إلى متابعته، وهل تبطل صلاته بذلك؟
قال الشيخ أبو محمد: نعم تبطل، وإن لحقه الإمام فيما سبقه إليه؛ لأنه مناقض لصورة الاقتداء؛ ولهذا قلنا: إن التقدم على الإمام في الموقف بجزء قليل يبطل صلاته، وخالف هذا التخلف عن الإمام بمثل ذلك؛ فإنه لا يبطل صلاته؛ لأن رتبة المأموم التخلف، وهذا قد حكاه القاضي أبو الطيب في صفة الصلاة، ونسبه إلى أبي علي صاحب "الإفصاح".
والمذهب: عدم البطلان في التقدم؛ لأن هذه المخالفة يسيرة، وعلى هذا لو عاد إلى متابعته بطلت صلاته؛ إذا لم يكن حين ركع قبل الإمام، أو رفع، أو سجد- نوى المفارقة. نعم لو كان قد سمع صوتاً ظن به أن الإمام ركع، أو رفع، أو سجد؛ ففعل هو ذلك، ثم بان له أن الإمام لم يفعله بعد؛ فهل لا يجوز له العود؛ كما في الصورة قبلها، أو يجوز ولا يجب، أو يجب؟ فيه ثلاثة أوجه من مجموع كلامهم:
أصحها في "التهذيب" ها هنا: أوسطها، وهو ما ادعى في "الكافي" أنه المذهب، ولم يورد الفوراني غيره في باب سجود السهو.
والمذكور في "التتمة" و"تعليق" القاضي الحسين: الآخر، وإذا قلنا به، قال القاضي: فلو لم يعد لم تبطل صلاته في ظاهر المذهب.
وفيه وجه آخر: أنها تبطل أخذاً من قول الشافعي: لو رفع رأسه من السجود؛ لينتقل؛ فعليه أن يعود؛ فلو لم يعد؛ بطلت صلاته.
والقائلون بالأول أجابوا عن ذلك بأن المأموم في هذه الصورة لم يرفع رأسه لأجل قطع السجدة، وإنما رفع لحاجة، وها هنا رفع بنية قطع الركوع والسجود.
قلت: وهذا الخلاف يمكن تخريجه على أن الركوع، أو [الرفع، أو السجود] الذي سبق به الإمام هل يعتد [له] به، أو لا؛ لأنه أتى به على وجه السهو؟
وفيه وجهان في "التتمة":
فإن قلنا: يعتد به، لا تبطل إذا لم يعد.
وإن قلنا: لا يعتد به، فيعود؛ ليأتي بما عليه؛ فإذا لم يفعله بطلت صلاته؛ لأجل ذلك.
ولو عاد إلى الانتصاب حسبما أمرناه به والإمام منتصب، [فركع الإمام، وبقي المأموم منتصباً] حتى رفع الإمام، وسجد، فسجد معه- فقياس ما تقدم أن يكون في بطلان صلاته وجهان من أصلين:
أحدهما: أن ركوعه الأول هل اعتد له به، أم لا؟
فإن قلنا: قد اعتد له به، لم تبطل.
وإن قلنا: لا؛ انبنى على أن التخلف عن الإمام بالركوع والرفع منه هل يبطل، أم لا؟ وقد سبق.
ولو شرع المأموم في الانتصاب، وشرع الإمام في الركوع، ولم يجتمعا معاً في حالة تجري في الركوع-[قال في "التتمة": فهل يجب عليه أن ينتصب ثم يركع، أو يتابع الإمام في الركوع؟] فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الانتصاب؛ كما لو لم يركع الإمام بعد.
والثاني: يتابع الإمام؛ فإن الانتصاب كان لمتابعة الإمام، وهو في عوده إلى الركوع متابعٌ له.
قلت: وهذا الخلاف يظهر أنه مبني على ما سلف أن الركوع الأول اعتد له به، أو لا؟
إن قلنا: لا فيجب عليه أن ينتصب، ليركع.
وإن قلنا: نعم، فالانتصاب كان لأجل المتابعة؛ فليتابع الإمام في الركوع.
وهذا مجموع ما وقفت عليه لأهل الطريقين، وأنت إذا جمعت بينهما واختصرت قلت: في عوده عند سبق الإمام بركن- كما ذكرنا- إلى متابعة الإمام، أوجه:
أحدها: أنه لا يجوز مطلقاً، وهذا الوجه لم يورد الإمام في باب سجود السهو
غيره، وفيه صرح بأن ما فعله المأموم على حكم السهو سبق يعتد به، وأنه لو عاد في هذه الصورة إلى الانتصاب؛ بطلت صلاته.
والثاني: يجوز مطلقاً.
والثالث: إن تعمد سبقه بالركن مع علمه بالحال؛ فلا يجوز العود، وإلا فيجوز.
وحيث قلنا: يجوز؛ فهل هو على وجه الاستحباب، أو الإباحة، أو الوجوب؟ فيه أوجه.
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً:
أحدها: أن كراهة التقدم على الإمام بركن يعم الركن القولي والفعلي، ولا شك في أنها ثابتة في الركن الفعلي، مقصوداً كان في نفسه أو غير مقصود؛ كالرفع من الركوع والسجود. وأما الركن القولي- كالفاتحة والتشهد- فقد قال في "التتمة": إنه يكره أن يشرع في قراءة الفاتحة قبل الإمام، ولو فرغ منها قبل أن يشرع فيها الإمام؛ فالمذهب أن صلاته لا تبطل، وفيه وجه آخر: أنها تبطل؛ كما لو ركع قبل إمامه؛ أي: ورفع، [قال:] وليس بصحيح؛ لأن هناك يظهر المخالفة بين الإمام والمأموم، وهنا لا تظهر.
وعبارة القاضي الحسين في ذلك: أنه لو قرأ قبل إمامه، من أصحابنا من قال: لا تحسب عن قراءته؛ قياساً على سائر الأركان يسبق فيها إمامه؛ فعلى هذا لا تبطل به الصلاة في ظاهر المذهب.
وعلى طريقة أبي يحيى البلخي، تبطل؛ لأن عنده لو كرر الفاتحة، بطلت صلاته.
وظاهر المذهب أنه يحسب عن القراءة، لكنه يكره؛ بخلاف سائر الأركان، والفرق ما سلف.
قلت: وإذا كان هذا حكم القراءة، وجب أن يكون حكم التشهد كذلك؛ إذ لا فرق بينهما.
الثاني- وهو مرتب على الأول في أن كلامه يشمل الأركان القولية
والفعلية-: أنه إذا سبق إمامه بالسلام: أنه يعود إلى متابعته، ويسلم [معه]، وليس كذلك، بل إن تعمد السلام، كان حكمه حكم من فارق الإمام، ويجيء فيه التفرقة بين أن يكون بعذر، أو بغير عذر، وإن ظن أن الإمام سلم؛ فسلم، يظهر أن يبنى على ما إذا ظن أن الإمام ركع؛ فركع، ثم تبين [له] أنه لم يركع، هل يعتد بركوعه، أم لا؟ فإن قلنا: يعتد به، فكذا هنا، ولا يعود إلى متابعته، وإلا فيعود، ويسلم معه.
الثالث: أنه لا يكره المساوقة في الأركان، وقد يؤخذ ذلك من قول الإمام:"إنه لو ساوقه فيها، جاز، لكن الأولى التأخير عنه"، لكن في "التهذيب" وغيره- كما قال الرافعي-: أنها تكره؛ لقوله عليه السلام: "فإذا كبر، فكبروا" فإنه يقتضي أني جري على أثر الإمام؛ بحيث يكون ابتداؤه بكل واحد من الأركان متأخراً عن ابتداء الإمام، ومتقدماً على فراغه؛ فإذا فعل ذلك معه، فقد وجدت المخالفة؛ فلا تحصل له فضيلة الجماعة. قال: ومن أطلق الجواز، فمراده: أنها لا تفسد الصلاة.
وعلى هذا يكون مفهوم كلام الشيخ غير معمول به، ولا يقال: إنا نحمل الكراهة في كلامه على التحريم؛ كما ذكرتم أن صاحب "التهذيب" وغيره صرح به، وكراهة المساوقة كراهة تنزيه؛ لأن قوله بعد ذلك:"ولا يجوز أن يسبق الإمام بركنين"، يأباه، ولو كان المراد بالكراهة: التحريم، لسوى بينهما.
وهذا كله في الأركان الفعلية والقولية، ما عدا تكبيرة الإحرام والسلام:
أما تكبيرة الإحرام، فلا تجوز المساوقة فيها؛ بلا خلاف، ولو وجدت لم تنعقد صلاته؛ لأنه علقها بصلاة من لم تنعقد له صلاة بعد؛ فلم تصح، ومن طريق الأولى إذا تقدم تكبير المأموم على تكبير الإمام.
وقد حكى في "الذخائر" عن القاضي أبي الطيب أنه قال في هذه الصورة: يحتمل عندي وجهاً آخر: أنه يصبر إلى أن يكبر الإمام، ويدخل معه من غير قطع؛ بناءً على نقل الصلاة من الانفراد إلى الجماعة.
قلت: والقاضي في "تعليقه" لم يقل هذا احتمالاً، بل حكاه عن بعض
الأصحاب في أوائل صلة الصلاة، والشيخ مجلي اتبع فيه ما قاله ابن الصباغ؛ فإنه هكذا قال، وأبدى لنفسه تفصيلاً بين أني كون قد ظن أن الإمام أحرم، أولا؛ ولهذا قال مجلي: إن بعض أصحابنا قال: هذا إنما يكون إذا اعتقد أن الإمام [قد] كبَّر، أما إذا كبر قبله مع العلم بأنه لم يكبر، لم تنعقد صلاته.
وأما السلام، ففي جواز المساوقة فيه وجهان، بناهما بعضهم على أنه هل يشترط فيه نية الخروج، أم لا؟ فإن قلنا: تشترط، كان كتكبيرة الإحرام، وإلا كان كباقي الأركان. وضعف هذا البناء من حيث إن الصحيح اشتراط نية الخروج، والصحيح: أن المساوقة لا تضر، وبالغ الإمام؛ فقال: إن القول بمقابله زلل عظيم، غير معتد به من المذهب.
قال: ولا يجوز أن يسبقه بركنين، [أي]: من غير عذر؛ فإن [سبقه بركنين بأن] ركع قبله؛ فلما أراد أن يركع رفع؛ فلما أراد أن يرفع سجد؛ لفحش المخالفة.
قال: فإن فعل ذلك مع العلم بتحريمه؛ بطلت صلاته؛ [لكثرة المخالفة].
قال: وإن فعل مع الجهل، لم تبطل [صلاته]؛ لأنه معذور، وقال عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".
قال: ولم يعتد له بتلك الركعة؛ لمخالفة الإمام في معظمها.
قال الماوردي: قال الشافعي: ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: إذا أحرم مع الإمام، ثم سبقه بالقراءة، والركوع، والسجود- أن يجزئه، وهذا غير جائز بالإجماع.
واعلم: أن ما ذكره الشيخ من الحكم، والتصوير موافق لما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"؛ حيث قال: "ولو أنه ركع قبل إمامه، [واعتدل قبل أن يركع إمامه، فإنه يركع معه إذا ركع، فإن ركع قبل إمامه]، ثم أراد الاعتدال؛ فجعل الإمام يركع، وهذا يرفع؛ فما اجتمعا على الركوع [معاً] في حالة واحدة؛ فقد سبق إمامه بركن واحد؛ فلا تفسد صلاته؛ فإن أقام على الانتصاب حتى لحق به
الإمام، فانتصبا معاً، أجزأه. وإن رفع من الركوع، فركع إمامه، ثم سجد قبل اعتدال إمامه من الركوع- فقد سبقه بركنين".
وقد تبع الروياني في "تلخيصه" هذا النص؛ فلم يخرج عنه بلفظ، وغيره وافق على الحكم، ونازع في التصوير؛ فقال: السبق بركنين لا يجوز، ومع العلم بالتحريم تبطل الصلاة، ومع الجهل تبطل الركعة، لكن هل يشترط أن يكون الركنان مقصودين، أم يكفي أن يكون أحدهما مقصوداً، والآخر غير مقصود؟ فيه وجهان، وعلى كلا الوجهين هل يترتب بطلان الصلاة أو الركعة على شروعه في الركن الثاني، أو [على] الفراغ منه؟ فيه وجهان، وذلك يتضح بالمثال في معرض التفريع:
فإن قلنا: يترتب على الشروع في الثاني، ولم نشترط في الركنين أني كونا مقصودين، أو شرطنا ذلك، وقلنا: إن الرفع من الركوع أو السجود مقصود في نفسه؛ فإذا ركع [قبل] إمامه، ورفع، والإمام بعد لم يركع- بطلت صلاته، وهذا ما جزم به البغوي، وادعى القاضي الحسين أنه لا خلاف فيه، لكنه سمى هذا: سبقاً بركن واحد، [ثم] قال: فإن قيل: الإمام لو سبق بركن واحد لا تبطل صلاته؛ فما الفرق؟ قلنا: لأن الإمام متبوع، وأبداً المتبوع يتقدم على التابع؛ ولهذا يتقدمه في الموقف، وإن اعتبرنا في البطلان الانفصال عن الركن الثاني؛ بطلت صلاته إذا شرع في الهُوِيِّ للسجود والإمام قائم لم يركع، ولا تبطل، إذا أدركه الإمام في الرفع من الركوع، وهو ما أورده في "المهذب" و"الشامل".
وإن قلنا: لا يبطل [إلا ركنان مقصودان،]، وإن الرفع من الركوع ليس بمقصود في نفسه؛ فإن اكتفينا في البطلان بالشروع في الركن الثاني، بطلت صلاته بالهُوِيِّ إلى السجود أيضاً. وإن قلنا: لابد من الانفصال عن الركن الثاني، فقياسه ألا تبطل ما لم يرفع المأموم رأسه من السجود والإمام قائم لم يركع، وقد ادعى بعضهم أنه لا خلاف في أنه يكفي في البطلان ملابسة السجود.
قال بعضهم: وإذا عرفت ذلك، عرفت أن كلام الشيخ مخالف لما قاله
الأصحاب: أما على رأي الشيخ أبي محمد فظاهر، وأما على رأي الجمهور إذا [اشترطنا ملابسة الثاني]؛ فلأنه كاف في البطلان؛ ولا يفتقر على ضرورة أخرى للإمام، ولا للمأموم.
وإذا شرطنا الانتقال من الثاني؛ فيشترط أن يتوسط بين الإمام والمأموم ركنان ينفصل عنهما.
وفيما أبداه من التصوير لم يتوسط سوى ركن واحد، وهما في الحقيقة مثالان أدرجهما في مثال واحد.
[قال:] وكذا رأيته لبعض المصنفين، والحق ما ذكرناه.
قلت: وهذا الذي ذكره هذا القائل مخالف لما قاله الأصحاب والشافعي، ومخالفته لما قاله [الشافعي ظاهر؛ فإن نصه في "الأم" كما ذكره الشيخ، وأمام خالفته لما قاله] الأصحاب؛ فلأنهم جازمون بأنا إذا قلنا: لابد من الشروع في الركن الثاني، وأن الرفع من الركوع ليس بمقصود- لا تبطل ما لم يسجد؛ لأن السجود هو الركن دون الهُوِيِّ له. نعم، إذا قلنا: إنه يكفي في البطلان الإتيان بركن تام، وأن الرفع من الركوع غير مقصود، وهو من توابع الركوع- فتبطل صلاته إذا شرع في الهوى إلى السجود؛ لأن به فارق الرفع وإن لم يشرع في السجود، وهذا ظاهر من كلام الأصحاب في مسألة التخلف، وقد سلفت، وإذا كان كذلك عرفت أن ما رامه من الاعتراض عاد عليه، وأن كلام الشيخ هو الموافق للنص؛ فإتباعه أولى.
فرع: لو كان سبق المأموم الإمام بركن غير مقصود؛ كما إذا ركع معه، ورفع قبله، وسجد والإمام بعد راكع- قال في "الكافي": فالأصح أنه لا تبطل صلاته؛ لأن الرفع يتبع الركوع؛ فشابه ما لو سبقه بالركوع، ولحقه الإمام فيه، وهذا ما ادعى في "التهذيب" أنه المذهب، وأن الحكم فيما إذا سجد مع الإمام، ورفع قبله، وسجد الثانية، ولم يرفع الإمام من الأولى- كذلك، ولا خلاف على
المذهب في أنه إذا سبقه بالركوع، وأدركه الإمام فيه، ثم رفع قبله، وأدركه الإمام رافعاً، ثم سجد قبله، وأدركه الإمام فيه، وهكذا إلى آخر الصلاة- لم تبطل صلاته؛ صرح به القاضي الحسين وغيره، وأما على رأي الشيخ أبي محمد، فتبطل بمجرد الركوع قبله؛ كما تقدم، والله أعلم.
قال: ومن حضر، وقد أقيمت الصلاة؛ لم يشتغل [عنها] بنافلة، أي: تحيةً كانت أو غير تحية؛ لقوله عليه السلام: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" أخرجه مسلم.
ولا فرق في ذلك بين أن يمكنه مع صلاة النافلة إدراك أول الصلاة، أو لا؛ لظاهر الخبر.
قال: وإن أقيمت وهو في النافلة، راتبة كانت كركعتي الفجر، أو غير راتبة كتحية المسجد، ولم يخش فوات الجماعة-[أتمها]؛ لقوله تعالى:{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ولأنه يمكنه إحراز الفضيلتين؛ فلا يفوت إحداهما.
أما لو خشي فوتها، اقتصر على ما أمكن منها؛ ليدرك فضيلة الجماعة؛ فإنها صفة فرض، وفرض على رأي، فكانت أولى من النفل.
ولو أقيمت وهو في الفرض، فقد ذكرناه في أثناء الباب.
وما ذكره الشيخ في الصورتين هو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"، وظاهره: أنه متى أقيمت، وأمكنه أن يدرك تكبيرة قبل سلام الإمام أنه يتم النافلة، وبه صرح الجيلي؛ بناءً على مذهب العراقيين في إدراك الفضيلة بذلك.
وقال مجيلي: [الذي] ينبغي أن يقال: يراعى فوات أول الصلاة بمساوقة [تكبيرته] تكبيرة الإمام؛ فليقطع الآن، وإن رأينا إدراك أول الصلاة بما وراء ذلك- على اختلاف الأقوال- فيجوز له التأخير؛ للاشتغال بالنفل إلى ذلك الحد. ويحتمل أن يقال: يجوز له ذلك ما لم يَخَفْ فوات الركوع؛ إذ به تفوت الركعة الأولى.
قلت: وهذا هو الوجه، ويعضده ما ذكرناه من نص الشافعي أنها إذا أقيمت وهو في الفرض منفرداً، يقطعه، ويقلبه [نفلاً]، والله أعلم.