المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب سجود التلاوة - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٣

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب سجود التلاوة

‌باب سجود التلاوة

تلاوة القرآن مندوب إليها، ومحثوث عليها؛ لأن الذكر مطلوب، وتاركه مذموم، قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41، 42] وقال -تعالى- ذماً للمنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً} [النساء: 142] والقرآن من أفضل الذكر؛ فهو بذلك أولى، وقد قال عليه السلام حكاية عن ربه- سبحانه وتعالى:"من شغلته قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين".

وإذا كان ذلك مطلوب الشرع فالسجود عند قراءة آياته مطلوبة أيضاً؛ روي عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، في سورة "الحج" سجدتان؟ فقال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" رواه أبو داود والترمذي، وليس هذا

ص: 363

مختصاً بهما، بل هو جار فيما سواهما من آيات السجود في القرآن، وخصهما بالذكر؛ لدفع توهم من يقول: إنه ليس فيها إلا واحدة كما ذهب إليه أبو حنيفة- رحمه الله-وقد روى سلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتي! أمر ابن آدم بالسجود فسجد؛ فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت؛ فلي النار". هذه توطئة الباب.

قال: وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع"، أي: حيث يندب للقارئ القراءة، وللمستمع الاستماع؛ لما روى مسلم، عن ابن عمر قال: "ربما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فيمر بالسجدة؛ فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده، حتى لم يجد أحدنا مكاناً يسجد فيه في غير صلاة"، ورواية أبي داود عنه: كان يقرأ علينا القرآن، وإذا مر بالسجدة كبر، وسجد وسجدنا"،وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم [كان] على وجه الندب، يدل عليه ما روى أبو داود، عن زيد بن ثابت قال:"قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "والنجم" فلم يسجد فيها" وأخرجه البخاري.

قال أبو داود: وسبب ذلك أن زيداً كان الإمام، ولم يسجد؛ فلذلك لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقال: يحمل هذا الحديث على أنه لا سجود في المفصل؛ لما

ص: 364

سنذكره من أن السجود في المفصل من عزائم السجود، وإذا كان كذلك فقد ثبت أنه سنة، وليس بواجب.

فإن قيل: قد ذم الله-تعالى-من قرئ عليه آية السجود فلم يسجد؛ فقال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وذلك يدل على وجوب السجود.

قيل: الآية واردة في حق الجاحدين لشريعته؛ يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها: أما ما قبلها فقوله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20]، وأما ما بعدها فقوله:{بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22].

أما من قرأ حيث لا تندب له القراءة: كالمصلي يقرأ في ركوعه، أو سجوده، أو نحو ذلك-فلا يستحب له السجود؛ فإن سجد بطلت صلاته، وهذا بخلاف ما لو قرأ آية السجدة قبل الفاتحة فإنه يسجد؛ لأن القيام محل القراءة في الجملة، بخلاف الركوع، وكذا مناستمع؛ حيث لا يندب له الاستماع، وهو إذا كان منفرداً، أو مأموماً والقارئ غير إمامه، فلا يسجد؛ لأن الاستماع لقراءة غيره، أو غير إمامه مكروه؛ فكيف تترتب عليه قربة؟!

وحكى الإمام عن أبي حنيفة: أن المنفرد والإمام [إذا استمع لقراءة غيره سجد كما إذا] استمع خارج الصلاة، ثم قال: وفي بعض طرقنا ما يشير إلى ذلك، وهو بعيد جداً، وعلى المشهرو لو خالف وسجد عند سجود ذلك القارئ، قال البغوي: بطلت صلاته؛ لأن سببها لم يوجد في صلاته، وهو الذي أورده الرافعي.

وقول الشيخ: "وإن زاد في صلاته ركوعاً

" إلى آخره، يدل عليه.

وفي "الذخائر" حكاية وجه آخر، نسبه إلى القاضي الحسين: أنها لا تبطل؛ لأنها زيادة من جنس الصلاة، وهذا التعليل يقتضي العكس؛ لأن الزيادة من جنس الصلاة-مع العمد-مبطلة.

دليله: ما زاد ركوعاً، ولو حصل سماع الإنسان القراءة من غير قصد الاستماع،

ص: 365

فلا يتأكد السجود في حقه تأكد المستمع، نص عليه في "البويطي"؛ لقول ابن عباس:"السجدة لمن جلس لها".

وروي عن عثمان بن عفان وعمران بن حصين أنهما قالا: "السجدة على من استمع لها"، ولا مخالف.

نعم، إن سجد فحسن، وعبارة البندنيجي والروياني في "تلخيصه": أن من طرق ذلك سمعه اتفاقاص، فهو غير مسنون في حقه.

ومن أصحابنا من قال: إنه يتأكد في حقه كالمستمع، وقد حكاه الرافعي أيضاً.

وفي "النهاية": أن السامع غير المستمع لا يسجد؛ لأنه لم يقرأ، ولا قصد الاستماع؛ فلو سجد لكانت سجدته منقطعة عن سبب، وبه يحصل في المسألة ثلاثة مذاهب.

ثم كلام الشيخ يفهم أن هذه السنة ثابتة للقارئ والمستمع، كل منهما على انفراد، لا يتوقف استحبابها في حق أحدهم على فعل الآخر، وهو كذلك، على ما نص عليه في البويطي فيما إذا لم يكونا في الصلاة، ومنه يظهر لك أنه لا فرق بين أن يكون القارئ متطهراً أو محدثاً أو صبياً أو كافراً.

وقيل: إنما يتأكد السجود في حق المستمع إذا سجد القارئ؛ لأنه تبع له، وقد روي أنه عليه السلام: "أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة،

ص: 366

ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: "إنك كنت إماماً، ولو سجدت سجدنا"، رواه الشافعي في "مسنده" وقال عبد الحق: إنه في "المراسيل".

وقول أبي دود في أول الباب حجة على المدعي.

وقيل: إنه لا يسن [للمستمع السجود إلا إذا سجد القارئ، حكاه الصيدلاني وجهاً، وحكاه الإمام عن معظم الأئمة.

واستدل] له بما ذكرناه من الخبر.

وقياس هذا أن القارئ لو كان محدثاً أو صبياً أو كافراً، لا يسجد، وقد حكاه في "البيان" وجهاً، والقائلون بما اقتضاه كلام الشيخ يقولون: هذا الخبر محمول على حث التالي على السجود، ثم لو سجد التالي، وتبعه السامع-لا يحتاج إلى نية الاقتداء، قاله في "التهذيب"، وأنه يجوز أن يرفع قبله، وكذلك لو كان القارئ في الصلاة، والمستمع خارج الصلاة، وسجد القارئ؛ فإنه يستحب للمستمع أن يسجد معه على الأصح، وبه جزم القاضي الحسين.

وفيه وجه عن رواية صاحب "البيان": أنه [لا] يستحب له أن يسجد.

فإذا قلنا بالأول، وسجدمعه، وسها القارئ في سجود التلاوة-لا يتابعه المستمع في سجود السهو؛ لأنه غير مقتد به، ولو كان قد عقد الاقتداء به-فهو

ص: 367

لم يعقده إلا بسجدة؛ فلا يتبعه في غيرها؛ قاله القاضي الحسين.

أما إذا كان القارئ والمستمع في الصلاة؛ فإن سجد القارئ سجد المستمع [له] وغير المستمع؛ إذا كان مأموماً، حتى لو كانت الصلاة سرية، وقرأ الإمام السجدة، وسجد-تبعه المأموم؛ فإن لم يسجد بطلت صلاته.

نعم، لو سجد إمامه، ولم ينتبه المأموم لذلك حتى رفع الإمام رأسه من السجود-فلا يجوز له أن يسجد؛ كذا ذكره في "التهذيب"، وذكره القاضي في "الفتاوى"، وقال في مرة أخرى: إنه يسجد ولو أراد الإمام أن يركع، ويكون كالمزحوم، والأول: أصح، وهو الذي ذكره في "التعليق"؛ لأن المتابعة واجبة؛ فلا تترك بالسنة؛ كما لو جلس إمامه للتشهد الأول، وقام ولم يعلم، أو قنت ولم يعلم- لا يجوز له أن يشتغل بتداركه، ويترك المتابعة. نعم، لو أراد هاهنا أن ينوي مفارقته؛ ليسجد-ليس له ذلك، بخلاف ما لو نوى مفارقته ليأتي بالتشهد أو القنوت، والفرق: أنهما من أبعاض الصلاة؛ فتركهما يوجب [نقصاناً في] الصلاة، و [لا] كذلك سجود التلاوة، وعلى هذا: لو هوى المأموم للسجود، فرفع الإمام رأسه قبل سجوده- فإنه يرفع معه، ولا يسجد، وكذا الضعيف [الذي] هوى مع الإمام في سجود التلاوة، فقبل وصوله إلى الأرض قام إمامه- فإنه يقوم ولا يسجد.

ص: 368

ولو لم يسجد الإمام، وقد قرأ آية سجدة- لا يسجد المأموم وإن استمع؛ فإن سجد بطلت صلاته. قاله الفراء في "تعليقه"، وكذا القاضي الحسين؛ كما لو ترك إمامه التشهد الأول والقنوت فأتى به.

وفي "الذخائر" وجه: أنها لاتبطل.

قال بعضهم: وينبغي أن يخرج على الخلاف في المفارقة، وقد تقدم الفرق. والله أعلم.

قال: وهي أربع عشرة سجدة: [سجدة] في "الأعراف"[أي]: عند قوله: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [206] وسجدة في "الرعد" أي: عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [15] وسجدة في "النحل"، أي عند قوله:{بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [50] وسجدة في "سبحان"، أي: عند قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] وسجدة في "مريم"، أي: عند قوله: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] وسجدتان في "الحج" أي: الأولى عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [18] والثانية عند قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [77] وسجدة في "الفرقان" أي: عند قوله: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [60] وسجدة في "النمل" أي: عند قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [26] وسجدة في "الم تنزيل"[السجدة] أي: عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [15] وسجدة في "حم السجدة" أي: عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، قاله ابن سريج، ولم يورد القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي غيره، وهو الأصح في "التهذيب" و"الرافعي".

وقيل: إنها عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]؛ لأن ذلك تمام الآية، وهذا ما صححه القاضي الحسين، ولم يورد الماوردي غيره.

والمشهور: الأول؛ لأن الآية الثانية من تمام الكلام؛ فكان السجود عندها؛ كما في النحل في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ

} الآية [49]، ولأن الشافعي أخذ في التسمية بقول قراء الكوفة وفقهاء المدينة، ولم يأخذ بقول فقهاء الكوفة وقراء المدينة، ومذهب قراء الكوفة هذا.

قال القفال: ولأن محل السجود إن كان هذا الموض فذاك، وإن كان عند الآية

ص: 369

الأولى فلا يضر التأخير إلى هذا الموضع؛ لأنه قدر يسير.

قال القاضي الحسين: وسبب هذا الاختلاف أن الشافعي لم ينص على موضع السجود، ونص على ما عداه.

وسجدة في "النجم" أي: عند قوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [62] وسجدة في "إذا السماء انشقت" أي: عند قوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [21] وسجدة في "اقرأ" أي: عند قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].

والدليل على هذه السجدات- ما عدا السجدة الأخيرة في "الحج" وسجدات المفصل-الإجماع؛ كما قاله بعضهم، وفي السجدة الأخيرة من "الحج" ما أسلفناه من حديث عقبة بن عامر في أول الباب، وما سنذكره.

قال أبو إسحاق: وقد أدركنا الناس منذ سبعين سنة يسجدون في "الحج" سجدتين، وهذا يدل على استفاضته من غير نكير، وهذا ذكره؛ لأن حديث عقبة في رجاله ابن لهيعة ومشرح بن هاعان، ولا يحتج بحديثهما.

ص: 370

وفي سجدات المفصل- وهي سجدة "النجم" و"الانشقاق" و"اقرأ" – ما رواه أبو داود وابن ماجه، عن عمرو بن العاص:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة "الحج" سجدتان".

وقد قال الشافعي في القديم: السجدات إحدى عشرة سجدة. وأسقطت سجدات المفصل؛ لما روي عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل لم يسجد. وعلى هذا قال الشافعي: وأحب أن أسجد في سورة "إذا السماء

ص: 371

انشقت" وفي سورة "اقرأ". والصحيح ما ذكره الشيخ، وهو الجديد؛ لأن إسناد خبر ابن عباس ليس بالقوي؛ لأن في رجاله قدامة، وهو لا يحتج بحديثه.

وأيضاً فقد روي عن ابن عباس أنه- عليه السلام: "قرأ "النجم" وسجد، وهي من المفصل" كما رواه مسلم، عن رواية ابن مسعود، [و] أنه سجد من كان معه.

وروى مسلم أيضاً، عن أبي رافع قال:"صليت مع أبي هريرة العتمة؛ فقرأ: "إذا السماء انشقت

" فسجد فيها؛ فقلت له: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدتها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم [فلا أزال أسجدها حتى ألقاه]. وعن أبي هريرة قال: "سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم] في "إذا السماء انشقت" و"اقرأ باسم ربك الذي خلق"" أخرجه مسلم، وإسلام أبي هريرة متأخر؛ فإنه قدم "المدينة" في سنة سبع، مع

ص: 372

أن تركه السجود يحمل على بيان الجواز، وتركه-عليه السلام السجود مرة في سورة "النجم"، قد بين أبو داود سببه [في سننه].

قال: وسجدة "ص" سجدة شكر ليست من عزائم السجود، أي: وإن كان العدد في الخبر الذي استدللنا به للجديد يتم بها، ووجهه ما رواه النسائي، عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال: سجدها داو توبةً، ونسجدها شكراً"، وروى أبو داود، عن أبي سعيد الخدري قال:"قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود-فقال-عليه السلام:"إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فسجد وسجدوا".

ومعنى "تشزنتم": أي: استعددتم.

ص: 373

وقد حكى عن ابن سريج وأبي إسحاق أنهما عداهما من عزائم السجود؛ لظاهر الخبر الأول، ولا حجة فيه؛ لأنه يجوز سجودها شكراً؛ كما نطق به الخبر الثاني.

وعلى هذا قال:"فإن قرأها في الصلاة لم يسجد"؛ كما لا يسجد للشكر والنعمة في الصلاة، وهذا ما صححه الفوراني، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أكثر الأصحاب.

وقيل: يسجد شكراً؛ لأنها متعلقة بالتلاوة؛ فأشبهت عزائم السجود، وهذه الطريقة حكاها هكذا ابن الصباغ والفوراني والمتولي.

وعلى هذين الوجهين يتخرج البطلان عند سجوده عمداً عالماً بأنها ليست من العزائم؛ فإن قلنا: لا يسجد، بطلت، وألا فلا.

أما إذا قلنا بقول ابن سريج فله السجود، ولا تبطل صلاته وجهاً واحداً.

وقال القفال والماوردي والروياني: إنه لا يسجد فيها قولاًواحداً، وإذا سجد هل تبطل صلاته أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما في "الحاوي"؛ عدم البطلان، وادعى الروياني أن ظاهر المذهب مقابله، وهو الأصح في "الرافعي"، وعلى هذا إذا كان إمامه يعتقدها من عزائم السجود، وسجد-لا يتابعه؛ بل ينتظره حتى يرفع أو يفارقه، وإذا انتظره قائماً فهل يسجد للسهو؟ فيه وجهان في "التتمة".

وقد أفهم قول الشيخ: "لم يسجد، وقيل: يسجد" أمرين:

أحدهما: أن ما عداها من السجدات إذا قرأها في الصلاة سجد، وهو كذلك، ومنه يؤخذ أن قراءتها في الصلاة غير مكروهة، سرية كانت أو جهرية، للإمام أو المنفرد، وهو مذهبنا، خلافاً لمالك في الإمام.

وحجتنا [عليه]: ما روى البخاري "أنه-عليه السلام-كان يقرأ [في] يوم الجمعة في صلاة الفجر "الم تنزيل

" السجدة، و"هل أتى".

والثاني: أن السجود المستحب يكون عقيب التلاوة، ومنه يؤخذ فرعان:

أحدهما: أنه لو كان محدثاً حال التلاوة، أو غير محدث، فلم يسجد حتى

ص: 374

طال الزمان-لا يسجد من بعد، وعليه يدل قوله من بعد:"وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل في [استقبال] القبلة وسائر الشروط"؛ إذ لو كانت حكم النفل في القضاء لم يقل: "وسائر الشروط"، ولكفاه أن يقول: حكم صلاة النفل. وبه صرح البندنيجيوالروياني والصيدلاني والفوراني؛ لأنها تعلقت بسبب؛ فإذا فات سقط، وهذا ما صدر به القاضي الحسين كلامه، [ثم] قال: ويحتمل أن يقال: يأتي به فإن الشافعي نص [على] أنه إذا سمع المؤذن وهو في الصلاة لا يجيبه، وإذا سلم أجابه، وهذا ما ذكره في "التهذيب".

وقال في "الوسيط": إنها تفوت بطول الفصل، وفي قضائها قولان؛ كما في النوافل، حكاهما صاحب "التقريب"، وقال: ما لا يتقرب به ابتداء لا يقضي؛ كصلاة الخسو، والاستسقاء.

قال الغزالي: وهذا منه إشارة إلى [أن] التقرب بسجدة واحدة من غير سبب جائز.

وقال الإمام: إن صاحب "التقريب" روى ما قال الغزالي: إنه مشار إليه عن الأصحاب.

وقال: إنه لم يره إلا له، وإن شيخه كان يكره ذلك ويشدد نكيره على من يفعله.

قال الإمام: وهو الظاهر عندي، ولا جرم قال في "الوسيط": إنه الصحيح؛ فعلى هذا يبعد القضاء.

وإذا قلنا بالقضاء، قال مجلي: فإذا قرأ آيات تقتضي السجود وهو غير متطهر، فإنه يتطهر، ويأتي بجميع السجدات، ولا تتداخل، وعزا ذلك إلى القاضي الحسين.

قلت: وفيه نظر؛ فإنه لو قرأ آيات السجود [مرات كفاه عن الجميع سجدة واحدة، ولا يستحب له جمع آيات السجود] وقراءتها دفعة واحدة؛ لأجل السجود؛ قاله القاضي الحسين.

ص: 375

وقد حكى الإمام عن صاحب "التقريب" شيئاً واستغربه؛ فإنه قال الإمام: والمنفرد إذا سمع قارئاً يسجد فلا يسجد، وإذا سلم ففي القضاء ما ذكرناه.

قال الإمام: وفيه نظر؛ فإن الظاهر أن ما جرى لم يكن مقتضياً للسجود، وإذا لم يجر ما يقتضي السجود أداء فالقضاء بعيد، ولكن صاحب "التقريب" يرى ذلك مقتضياً، ويرى الصلاة مانعة من الأداء، وينزل ذلك منزلة ما لو استمع الرجل وهو محدث؛ فإذا تطهر فإنه في القضاء يخرج عند الأصحاب على الترتيب المتقدم.

الثاني: أنه لو كرر قراءة الآية في مجلس واحد مراراً سجد؛ لتجدد السبب، وهو ما ذكره القاضي الحسين والبغوي والمتولي.

وحكى الغزالي والفوراني في ذلك وجهين، واختار البغوي السجود.

قال الرافعي: وفيه وجه آخر: إن طال الفصل سجد، وإلا فلا يسجد.

قال في "العدة": وعليه الفتوى؛ فالركعة الواحدة كالمجلس الواحد، والركعتان كالمجلسين.

ولو قرأ الآية في الصلاة، ثم قرأها خارجها، والمجلس واحد-قال الرافعي: فمقتضى قياس الأصحاب طرد الخلاف.

فرع: لوكان قد قرأ آية التلاوة في الصلاة؛ فهوى ليسجد، فلما بلغ حد الراكعين عن له ألا يسجد-قال القاضي الحسين: عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع؛ لأن هويه كان لأجل النفل، والركوع فرض.

ولو قرأ آية السجدة، ووقع له ألا يسجد، ويركع، فلما هوى عن له أن يسجد للتلاوة، فإن كان قد انتهى إلى حد الراكعين-فليس له ذلك، وإلا فهو له.

قال: ومن تجددت عنده نعمة ظاهرة، أي: كقدوم غائب، وحدوث ولد، وشفاء مريض، ونحو ذلك، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة، أي: مثل: أن نجاه الله مما غلب على ظنه وقوعه فيه، وهو مما يؤذيه: كالهدم، والغرق، ونحو ذلك-استحب له أن يسجد؛ شكراً لله-تعالى-أي: في غير الصلاة؛ لما روى

ص: 376

أبو داود وابن المنذر بإسنادهما عن أبي بكرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم [كان] إذا جاءه أمر سرور، أو سر به-خر ساجداً؛ شكراً لله تعالى".

وروى عب الرحمن بن عوف قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، فسجد وأطال، فسألته عن ذلك؛ فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني؛ فبشرني أن من صلى علي [صلاة واحدة] صلى الله عليه عشراً؛ فسجدت لله شكراً".

ص: 377

ولأنه عليه السلام سجد في "ص" شكراً، ووجه الشكر فيه: أنها توبة من الله -تعالى- على نبيه داود، على نبينا وعليه السلام، وقد روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي -رضي الله نهم- فأبو بكر سجد عند [فتح اليمامة، وقتل مسيلمة، وعمر سجد عند فتح اليرموك، وعلي سجد عند] رؤية ذي الثديين قتيلاص بالنهروان؛ وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته.

وأما النعم الباطنة فلا يسجد لها؛ لأنها ملازمة له في كل أوان؛ [فلو سجد لها لاستغرق عمره بالسجود.

قال الأصحاب:] ومما [يستحب له السجود] رؤية الفاسق المتظاهر بفسقه، والمبتلي بمرض -عافاه الله منه- روى أنه عليه السلام "رأى نغاشيّاً؛ فسجد لله"، والنغاشي قيل: إنه ناقص الخلقة، وقيل: هو مختلط العقل.

ص: 378

لكنه عند رؤية الفاسق يظهر له السجود؛ لكي ينزجر، وفي رؤية المريض يخفي سجوده عنه؛ كي لا يؤذيه بما لا قدرة له على دفعه.

أما لو وجد تجدد النعمة، أو دفع النقمة، ونحوهما، وهو في الصلاة- فلا يسجد؛ فإن سجد بطلت صلاته وجهاً واحداً.

قال: ومن سجد للتلاوة في الصلاة كبَّر للسجود، وللرفع منه؛ لأنه سجود في الصلاة؛ فاستحب فيه ذلك كسجود الصلاة، ولا يرفع يديه في هذا التكبير؛ كما لا يرفع يديه في التكبير للسجود على المنصوص.

وعن ابن أبي هريرة أنه لا يكبر لهذا السجود ولا للرفع منه، حكاه عنه-هكذا-الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وغيرهما، ورأيت فيما وقفت عليه من "الحاوي" أنه قال: يسجد من غير تكبير [ويرفع مكبراً، ورأيت في "تعليق" القاضي الحسين عنه: أنه لا يكبر] لرفع الرأس منه، وسكت عن التكبير للسجود، وقد غلط في قوله:"مطلقاً".

ولا يحتاج في هذه السجدة إلى نية اتفاقاً؛ لأن [نية] الصلاة تنسحب عليها، قال القاضي الحسين- وتبعه في "التهذيب": فإذا رفع منها لا يجلس للاستراحة، بخلاف السجدة التي من قلب الصلاة.

فرع: إذا كان سجوده في آخر سورة، كما في "الأعراف" ونحوها؛ فيجب عليه أن ينتصب بعد السجود ليركع، وهل يستحب له أن يقرأ شيئاً من سورة أخرى؟

قال في "الشامل"، وأبو الطيب: نعم.

وحكى عن العجلي في الاستحباب رواية وجهين.

قال: ومن سجد في غير الصلاة كبر للإحرام؛ لما ذكرناه من رواية أبي داود في أول الباب، قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث.

قال أبو داود: وإعجابه به؛ لأنه كان يراه، ولأنه صلاة ذات سجود؛ فوجب [فيها] تكبيرة الإحرام؛ كسائر الصلوات.

قال: "رافعاً يديه"؛ لأنه تكبيرة مشروع في ابتداء العبادة؛ فاستحب فيه رفع

ص: 379

اليدين؛ كما في الصالة.

وفي "الوسيط" ما يقتضي أنه لا يرفع يديه فيها؛ لأنه قال بعد حكاية الأوجه فيما يشترط في حق الساجد في غير الصلاة، [وراء الشروط: أما المصلي فيكفيه سجدة، يستحب في حقه تكبيرة الهويّ، ولا يستحب رفع اليدين] [في غير الصلاة]. [وقال العراقيون: يستحب رفع اليد]؛ لأنه تكبيرة التحريم. فأشعر هذا من كلامه أن محل الخلاف في تكبيرة التحريم هل يرفع فيها اليد، أم لا؟

وقد أسقط الرافعي من نسخة "الوسيط""غير"، فقال: أنه قال: ولا يستحب رفع اليد في الصلاة، وقال العراقيون .. إلى آخره، ثم قال: وهذا بدع حكماً وعلة، ولايكاد يوجد نقله لغيره، ولا ذكر له في كتبهم.

ولا شك في أن المر كما قال لو كان المذكور في "الوسيط" كما قال بإسقاط لفظة "غير"، أما إذا اكنت ثابتة-كما رأيته في غير ما نسخة- فالتعليل ليس ببدع.

وأما النقل عن العراقيين فصحيح، وما نقله عن غيرهم لم أر له ذكراً في الكتب، بل هي ساكتة عنه.

واعلم أن [في] قول الشيخ: "للإحرام" دليلاً علىمرين:

أحدهما: اشتراط النية؛ إذ لا إحرام بدونها، وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب.

والثاني: أنه يكون في حال استقراره قبل هويّه [إلى] السجود إما قائماً أو جالساً، وكلامه من بعد يدل عليه أيضاً.

ص: 380

قال القاضي الحسين: ويستحب-عندي-أن يقوم قائماً، ثم يكبر للافتتاح؛ ليحوز فضيلة القيام؛ لأن للقيام من الفضيلة ما ليس للقعود، وهذا ما حكى الإمام عن شيخه أنه كان يفعله، وقال: لم أر له أصلاً ولا ذكراً، ولم يورد في "التتمة" و"التهذيب" سواه.

قال: ثم يكبر للسجود، ويكبر للرفع؛ كما في صلاة النفل، وهو في حال السجود من تخريج ابن سريج، وقال الرافعي: إنه من تخريج أبي إسحاق. واتفقا على أنه لا يرفع فيهما اليد؛ لما سلف. هكذا قاله أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ.

وقال الروياني: إن الشافعي نص عليه في البويطي.

ومذهب ابن أبي هريرة جار هاهنا أيضاً؛ فلا يكبر للسجود ولا للرفع منه،

ص: 381

صرح به أبو الطيب عنه، وعن أبي جعفر الترمذي أنه يكبر عند السجود لا غير، أي: ويقرن [به] النية.

قال القاضي أبو الطيب: وذلك مذهب له لم ينقله غيره.

وحكى الإمام عنه مع هذا أنه كره أن يأتي بتكبيرة فردة للإحرام؛ لأن في ذلك تشبيهاً لها بالصلاة، ولعل هذا مستند القاضي أبي الطيب في قوله:"ولم يقل به أحد من الأصحاب"؛ فإن الأصحاب مطبقون على أن ذلك وإن لم يجب فيستحب، وقد حكى الإمام وجهاً أبعد منه: أنه لا يشترط في ذلك تكبيرولا تسليم؛ بل يكفي الإتيان بصورة السجود مع استجماع الشراطئ من الطهارة ونحوها. قال: وهذا لم يذكر شيخي غيره؛ لأنه لو فرض [فيه تحريم وتحليل] لكان صلاة، والسجدة الفردة لا يجوز أن تكون صلاة.

قلت: وهذا الوجه قد صححه الغزالي، وهو ما نص عليه الشافعي في كتاب استقبال القبلة، وعليه ينطبق قول البغوي: إن الشافعي قال: وأقله أن يضع جبهته بلا شروع ولا سلام.

ص: 382

قال الأصحاب: ويستحب له أن يقول في سجوده: "اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عنّي بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"؛ لأن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيتني وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت فسجدت الشجرة؛ فسمعتها [وهي] تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً .. إلى آخره، قال: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة، ثم سجد؛ فسمعته [يقول] مثل ما أخبر الرجل عن قول الشجرة" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. وصحح رواية عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن [بالليل]: سجدي وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته".

ولا جرم استحب في "المهذب" أن يقول ذلك في سجوده، وأنه لو قال الأول كان حسناً.

ولو قال [مثل] ما يقول في سجود الصلاة جاز. قاله الغزالي وغيره، وقال القاضي الحسين: إنه مستحب، وهو في سورة "الم تنزيل" أكثر استحباباً؛ لقوله

ص: 383

تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].

قال: ويستحب إذا سجد في "الفرقان" أن يقول: سجدت للرحمن، وآمنت بالرحمن؛ فاغفر لي يا رحمن. وكذا ذكره في "التتمة"، وقال: إن الخبر ورد به.

قال: وقيل: يتشهد ويسلم؛ لأنها صلاة ذات إحرام؛ فوجب أن يكون فيها تشهد وسلام؛ كسائر الصلوات، وهذا ما حكاه أبو علي الطبريعن بعض الأصحاب، وقال القاضي الحسين: إنه الذي حكاه البويطي. وهو منتقضبصلاة الجنازة؛ فإنها صلاة ذات إحرام وسلام، ولاتشهد فيها.

وقيل: يسلم ولا يتشه؛ كما في صلاة الجنازة، ولأن التشهد يقابل القراءة، والسلام يقابل تكبيرة الإحرام؛ فلما لم يقرأ لم يتشهد؛ ولما كبر للإحرام سلم، وهذا ما نص عليه في "المسائل المنثورة"؛ كما قال أبو الطيب، وادعى أنه أظهر القولين، واختاره القفال وصاحب "المرشد"، وادعى القاضي الحسين في آخر "باب سجود السهو": أنه ظاهر المذهب، وهنا: أنه الأصح، وكلام الشيخ يشير إلى أنه من تخريج الأصحاب، وكذا قال الماوردي، وهومعزيّ في "تلخيص" الروياني إلى ابن سريج وأبي إسحاق.

وعلى هذا هل يستحب التشهد؟ فيه وجهان، حكاه الإمام.

قال: والمنصوص، أي: في "مختصر" البويطي-كما قال الراقيون، وهم أقعد بالنفل-: أنه لا يتشهد ولا يسلم؛ كما لو سجد في الصلاة، وهذا ما عليه جماعة الأصحاب؛ كما قال أبو الطيب، وحينئذ يكون رفع الرأس من السجود نهايته، والقائلون بالوجه قبله قالوا: مراد الشافعي أنه لا يجمع بينهما.

قال: وحكم سجود التلاوة، أي: والشكر، حكم صلاة النفل في [استقبال] القبلة، وسائر الشروط؛ لأنها في الحقيقة صلاة، وهذا القول معزيّ في "تلخيص" الوياني إلى ابن سريج وأبي إسحاق.

ولا يقوم الركوع عند وجوب سبب السجود مقامه؛ كما لا يقوم مقامه

ص: 384

في سجود السهو.

[و] قال في "الكافي": ولو أقام التصدق أو صلاة ركعتين مقام سجود الشكر كان حسناً.

وقد أفهم قول الشيخ جواز فعل السجود على الراحلة [إذا كان في الصلاة] وفي حال المشي في السفر، وبه صرح ابن الصباغ والغزالي في حال كونه على الراحلة إذا كان في الصلاة، وكذا اقتضاه إطلاق القاضي الحسين وأبي الطيب وغيرهما يما إذا لم يكن في صلاة أيضاً؛ وهو وجه حكاه الغزالي تبعاً لإمامه، والفوراني.

وقد يوجه بما رواه أبو داو عن ابن عمر قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح سجدة؛ فسجد [وسجد] الناس كلهم-منهم الراكب والساجد في الأرض، حتى إن الراكب ليسجد على يده".

وإذا جاز على الراحلة جاز بالإيماء أيضاً، وبه صرح البندنيجي والقاضي الحسين في آخر باب سجود السهو، ولم يحك غيره.

وقد حكى الإمام والفوراني-وتبعهما الغزالي-وجهاً آخر: أنه لا يجوز على الراحلة؛ لأن أظهر أركانها إلصاق الجبهة بالأرض؛ كما أن معظم أركان صلاة الجنازة القيام، وهي لا تجوز على الراحلة على الأظهر.

قال الرافعي: والأصح أنه يكفي الإيماء.

والفرق بينه وبين صلاة الجنازة: أنه يندر وجود الجنازة على الراحلة، ولا كذلك التلاوة، وأيضاً: فلمراعاة حق الميت.

والخلاف في هذه الحالة مشبه بصلاة النفل بالإيماء مع القدرة على القيام.

وقد أفهم ما ذكرناه من علة وجه المنع: أنه لو كان على الراحلة فيما يمكنه أن

ص: 385

يضع جبهته عليه، جاز وجهاً واحداً، وبه صرح الأصحاب.

وأما إذا كان القارئ ماشياً فهو في الاستقبال ووضع الجبهة على الأرض كالمتنفل، صرح به ابن الصباغ أيضاً.

فرع نختم به الباب:

قال المتولي: جرت عادة بعض الناس بالسجود بعد الفراغ من الصلاة يدعو فيه، وتلك سجدة لا يعرف لها أصل، ولم تنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن يدعو بعد الفراغ؛ كما وردت به الأخبار، والله أعلم.

ص: 386