الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة التطوع
التطوع من الطاعة، والشافعي يطلقه-كما قال القاضي الحسين-على ما عدا الفرائض من الصلوات.
وقال بعضهم: إنه في اصطلاح الفقهاء: فعل ما هو قربة غير واجبة.
قال في "التهذيب" و"الكافي": وكذلك النافلة.
وقضية الاشتقاق: أن يكون موضوعاً لما يكسبه الإنسان باختياره من الوظائف والأوراد، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إن السنة تطلق على ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المستحب: ما فعله مرة أو مرتين، وتبعه صاحب "التهذيب"، و"الكافي".
ثم الشيخ عقب باب فروض الصلاة وسننها به؛ لأنه متمم للفرائض؛ كما جاء في الخبر عنه عليه السلام؛ فكان كالسنة فيها، وحينئذ حسن منه أن يذكر بعده [باب] ما يفسد الصلاة وما لا يفسدها؛ مما هو مكروه فيها أو غير مكروه.
قال: أفضل عبادات البدن: [الصلاة؛ أي: بعد الشهادتين].
وهذه عبارة "التهذيب" أيضاً.
ووجهه قوله عليه السلام: "استقيموا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة". رواية أبو داود، [وغيره].
ورأيت في كلام بعضهم: "استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم
الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
ولأنها تلو الإيمان الذي هو أفضل القرب، وأشبه به؛ لاشتمالها على نطق باللسان، وعمل بالجنان، واعتقاد بالقلب؛ كما هي فيه؛ ولذلك سماها الله -تعالى-: "إيماناً، فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: الآية 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.
قال العلماء: ولأنها تجمع من القرب ما تفرق في غيرها من ذكر الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم والإمساك عن الأكل والكلام، والإتيان بالقراءة والتسبيح، واللبث، والاستقبال، والطهارة، والستارة إلى غير ذلك، مما لا يخفى أنه من القرب، مع اختصاصها بمقاصد تشتمل عليها: كالركوع والسجود.
واحترز الشيخ بـ "البدن" عن عبادة القلب؛ وهي: الإيمان؛ فإنه أفضل العبادات، ولا يقال في العرف: إنه من عمل البدن؛ ولذلك قال بعض الحكماء لما قيل له: أيما أصعب: تعب القلب، أو تعب البدن؟
فقال: "إنما يتعب البدن إذا تعب القلب"؛ فجعل القلب قسيماً للبدن.
وقد ادعى بعضهم أنه احترز بذلك -أيضاً- عن العبادة المالية؛ فإنها أفضل من الصلاة؛ لتعدي نفعها، وفيه شيء سأذكره، وإن صح ما قاله فمنه نأخذ أن العبادة المشتملة على عمل البدن والمال أفضل من المتمحضة؛ وهي: الحج؛ لجمعها بين الأمرين، وبه صرح القاضي الحسين في أول كتاب الحج.
ولأنا دعينا إليه في أصلاب الآباء؛ فكان كالإيمان الذي فعل فيه كذلك، وهذه العلة تقتضي أن الجهاد لا يلحق بالحج في هذا المعنى، والأول يقتضي أنه كهو؛ لأنه يشتمل على عمل بدن ومال، وحينئذ يكون أفضل من الصلاة.
بل أقول: الخبر يدل على أنه مقدم عليه؛ روى أبو هريرة أنه-عليه السلام-سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم جهاد في سبيل الله".قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم حج مبرور".
وقد ادعى الماوردي في كتاب الحج: أن الطواف أفضل من الصلاة، واستدل له بأخبار ستعرفها فيه- إن شاء الله تعالى- وفي كتاب الصوم: أن الصوم أفضل أعمال القرب.
وبعضهم حكى قولاً: أنه أفضل من الصلاة؛ لقوله عليه السلام: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله عز وجل: "[إلا الصوم؛ فإنه لي] وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي" رواه مسلم.
قال بعضهم: ومن بديع التأويل في هذه الإضافة: أنه أراد بها التنبيه على أن كل عمل ابن آدم من القرب مما يليق ببشريته، إلا ترك الأكل والاستغناء عنه؛ فإنه إنما يليق بالله سبحانه وتعالى.
والمشهور: أن المراد: أن كل الأعمال قد يدخلها الرياء إلا الصوم.
وقد قيل: إن الصلاة بمكة أفضل، والصوم بالمدينة أفضل.
والصحيح ما أورده الشيخ؛ لما ذكرناه، وخبر أبي هريرة معارض بما رواه عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيٌّ الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لأول وقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي؟ قال: "ثم
الجهاد في سبيل الله" فجعل الجهاد مؤخراً عن بر الوالدين الذي هو مؤخر عن الصلاة، وهو في الحديث السالف مقدم على الحج؛ فكان تقديم الصلاة على الحج من طريق الأولى، وتركه عليه السلام ذكر الصلاة فيه يحتمل أن يكون لعلمه بمحافظة السائل عليها أو علمه بفضلها، وحاجته لبيان ما سواها.
ولأن الحج والجهاد، وإن اشتمل كل منهما على نوعين من العبادة فالصلاة تشتمل على أنواع-كما ذكرنا- فكان تقديمها أولى، وبهذا يقع الجواب عن الصوم أيضاً.
قال: وتطوعها أفضل التطوع؛ لعموم قوله عليه السلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة".
ولأن نسبة نفل كل عبادة إلى فرضها كنسبة نفل الصلاة إلى فرضها في تحصيل المقصود الذي شرعا له، وهو ترك اللوم أو العقاب عليه، ويؤكده أن النوافل تكمل الفرائض، وقد ثبت أن الصلاة أفضل العبادات البدنية؛ فكان تطوعها أفضل التطوعات.
وإطلاق الشيخ القول بأن تطوعها أفضل التطوعات يعرفك أنه لم يحترز عن
العبادة المالية؛ إذ لو كان كذلك، لقال: وتطوعها أفضل التطوعات البدنية؛ ليخرج التطوع بالمال.
والإيمان لا يكون إلا واجباً؛ فلا يدخل فيما ذكره حتى يحتاج [إلى] أن يحترز عنه.
قال: وأفضل التطوع ما شرع له الجماعة -[أي: تثبت له الجماعة-] لأن الشرع شبهه بالفرائض، والفرائض أفضل من التطوعات؛ لقوله –عليه السلام:"لن يتقرب إليَّ متقرب بمثل أداء افترضته عليه" فكان ما شبه بها أقرب إليها من غيره.
قال الأصحاب: ولأن الفرائض لما كانت على ضربين: ضرب فرض في جماعة وهو الجمعة، وضرب لم يفرض في جماعة وهو ما عداها، ثم وجدنا ما هو فرض في جماعة أوكد وأفضل مما لم يسن يه [الجماعة، وجب أن يكون ما سن فيه الجماعة أوكد وأفضل مما لم تسن فيه].
فإن قيل: قد روى أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" رواه مسلم.
فجوابه: أنه محمول على النافلة المطلقة؛ لقيام الإجماع، على أن رواتب
الفرائض أفضل منها [وما سن فيه] الجماعة قد دللنا على أنه أفضل منها؛ فتعين ما ذكرناه.
قال: وهو العيد، والكسوف، والاستسقاء:
في هذا الفصل تنبيه على أمور:
أحدها: مشروعية الجماعة فيما ذكره، ودليله يأتي في محله.
والثاني: أن ذلك تطوع، وليس بفرض عين، ولا كفاية، وهو المشهور في الكسوف والاستسقاء، وأما العيد، ففيه خلاف يأتي في الكتاب، وستعرف ما فيه.
وقد ادعى الماوردي هاهنا أن الخلاف في الجميع.
ووجه كونها فرض كفاية بقوة سببها، وظهور قوة شرائع الإسلام فيها.
قال: وعلى هذا لا يكون بعضها أفضل من بعض، وعلى الثاني وهو أنها سنة مؤكدة، وهو ما ادعي أنه مذهب الشافعي والصحيح، فهل بعضها أفضل من بعض؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لاستواء أمره صلى الله عليه وسلم بها، وفعله لها وحثه عليها.
والثاني -وهو الأظهر-: أن بعضها آكد من بعض؛ فعلى هذا أوكدها صلاة العيدين؛ لأن لها وقتاً راتباً في السنة معيناً في اليوم؛ فشابهت الفرائض، ثم تليها صلاة كسوف الشمس، ثم خسوف القمر؛ لورود القرآن بهما، وهما مجمع على سُنَّيّتهما، ثم يلي ذلك صلاة الاستسقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرة، واقتصر مرة أخرى على الدعاء، وقد اختلف في سببها؛ ولأجل هذا جرى الشيخ في التبويب على تقديم الأفضل فالأفضل، وقدم كلامه في الكسوف على الكلام في الخسوف لما جمعهما في باب واحد، وبه نبه على ما ذكره في هذا الباب كذلك.
والثالث: أن قيام رمضان، وهو التراويح، وإن قيل: إنه يفعل في جماعة؛ كما
سيأتي، فليست أفضل من كل النوافل التابعة للفرائض؛ كصلاة العيد ونحوها، بل الوتر وركعتا الفجر أفضل منها، وهذا ما يعزى إلى ابن سريج وأبي إسحاق وغيرهما؛ كما قال ابن الصباغ، وستعرفه، وإليه مال ابن الصباغ، ووجهه: بأنه عليه السلام داوم على الوتر وركعتي الفجر، وترك قيام رمضان بعد أن فعله ليلتين أو ثلاثاً.
والإمام قال: إن جميع النوافل التابعة للفرائض أفضل منه على الأصح، ولم يحك صاحب "العدة" غيره.
وتشبث بعض أئمتنا بتفضيلها؛ لأن الجماعة أقوى معتبراً في التفضيل؛ كما تقدم ذكره، وعلى ذلك ينطبق ما قاله القاضي أبو الطيب: إن صلاة التراويح أفضل من جميع ما [لم] يشرع فيه الجماعة من الرواتب وغيرها.
وقد أفهم كلام صاحب "الذخائر" حكاية وجه: أن صلاة التراويح أفضل من توابع الفرائض، وإن قلنا: لا يشرع فيها الجماعة، ولم أره في غيرها.
قال: وفي الوتر ركعتي الفجر قولان:
أصحهما: أن الوتر أفضل؛ لأن أبا حنيفة يرى وجوبه، ولم يختلف أحد في عدم وجوب ركعتي الفجر، وما اختلف في وجوبه آكد مما لم يختلف فيه، وهذا هو الجديد.
ومقابله -وهو القديم، وإلخ ترجيحه يميل كلام الماوردي-: أن ركعتي الفجر أفضل؛ لقول عائشة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أسرع منه إلى ركعتين قبل الصبح" أخرجه البخاري، ومسلم.
وقال عليه السلام:"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أخرجه مسلم.
قال بعض أهل المعاني: أراد النبي صلى الله عليه وسلم: أن الناس عند قيامهم من منامهم يبتدرون إلى معاشهم وأسباب اكتسابهم؛ فأعلمهم أن هاتين الركعتين خير من الدنيا وكل ما فيها، فضلاً عما عساه [أن] يحصل لكم منهما؛ فلا تتركوهما وتشتغلوا به.
ولأنها صلاة مشهودة ومحضورة، في عدد لا يزيد ولا ينقص؛ فأشبهت الفرائض.
قال الماوردي: ولأنها تتقدم على متبوعها، والوتر متأخر عن متبوعه، وما يتقدم متبوعه أولى.
ولأنها تبع لصلاة الصبح، والوتر تبع للعشاء، والصبح آكد من العشاء؛ [لأنه الصلاة الوسطى عند الشافعي؛ فوجب أن يكون متبوعها أوكد من متبوع العشاء.
وعن البيان] أن بعض الأصحاب قال: إن الوتر وركعتي الفجر مستويات في الفضيلة. وهو بعيد، والكل متفقون على أن الوتر وركعتي الفجر أفضل مما سواهما مما يتبع الفرائض، وعليه نص الشافعي؛ حيث قال: ولا أرخص لمسلم في ترك واحد منهما، وإن لم أوجبهما، ومن تك واحدة منهما كان أسوأ حالاً ممن ترك جميع النوافل.
ثم ما يتبع الفرائض يليه في الفضل صلاة الضحى؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره؛ ولهذا ذكره الشيخ تلوها.
وعن الشيخ أبي محمد: أن صلاة الضحى أفضل من توابع الفرائض؛ لاستقلالها بوقت. وهو ضعيف؛ إذ لم تنقل مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها كمواظبته على تبع الفرائض.
ثم يلي صلاة الضحى في الفضل ركعتا الطواف إذا لم نقل بوجوبهما، وركعتا الإحرام، وتحية المسجد.
وترتيب الشيخ مؤذن بأن الذي يلي الضحى قيام رمضان، ثم التهجد.
بل حكى ابن الصباغ وغيره عن رواية أبي إسحاق، عن بعض الأصحاب: أنا إذا قلنا: إن الوتر أفضل، فالتهجد بعده، ثم ركعتا الفجر؛ لأن الشافعي قال:"الوتر، ويشبه أن يكون التهجد، ثم ركعتا الفجر"؛ فإن معناه: ويشبه أن يكون الذي يتبع الوتر في التأكيد صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر.
والمحققون قالوا: هذا لايصح، ومراد الشافعي: أن الوتر نفسه يشبه أن يكون التهجد، وقد صرح به في "الأم"؛ كما حكاه البندنيجي، وقصد به أن التهجد الذي أمر الله سبحانه وتعالى به نبيه يشبه أن يكون هو الوتر نفسه؛ لأن الوتر كان واجباً عليه، يشهد له قوله عليه السلام:"كتب عليَّ الوتر، وهو لكم تطوع"، ولا يقدح في ذلك قوله تعالى:{نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] لأن معناه-كما قال المفسرون-: أنها تكون زيادة لك على حسناتك؛ فإن نوافل غيره تقع جبراناً لنقصان الفرائض، وكانت فرائضه-عليه السلام-مبرأة عن النقص؛ ولأجل هذا قال بعض أصحابنا: إن المراد بالتهجد في الآية: الوتر.
وقال غيره: بله هو غيره. وهو ما يفهمه كلام الغزالي في "الوسيط" في كتاب النكاح؛ حيث قال: إنه-عليه السلام اختص بواجبات: كالضحى، والأضحى، والوتر، والتهجد
…
إلى آخره.
ومن العجب أن الرافعي [قال]: ولك أن تعلم قول الغزالي: "ويشبه أن
يكون الوتر هو التهجد" بالواو؛ لأن القاضي الروياني حكى أن بعضهم قال: بأن الوتر غير التهجد، وأول كلام الشافعي؛ فجعل كلام غيره سبباً لإعلام كلامه، مع أنه [هو] حكاه؛ فكان إعلامه لأجل كلامه أولى.
واعلم أن الأصحاب أطلقوا القول بأن ركعتي الفجر أفضل من الوتر، أو الوتر أفضل منهما، ولم يبينوا ما أرادوا من الوتر: هل أقله، أو أكثره، أو أدنى الكمال منه؟ والذي يظهر من كلامهم أنهم أرادوا مقابلة الجنس [بالجنس]، وقد كان يقع لي أنه يختص بأدنى الكمال منه؛ لأنهم جعلوا علة ترجيح الوتر على ركعتي الفجر أنه مما اختلف في وجوبه، والذي اختلف في وجوبه ليس الأقل، ولا الأكمل؛ فإن أبا حنيفة هو القائل بوجوبه، وهو عنده ثلاث ركعات لا تجوز الزيادة عليها، ولا النقص منها:[فتعين أن يكون ذلك] محل الاختلاف في الترجيح.
ثم وقع لي أنه لو كان الأمر كذلك، لاختص محله بالثلاثة الموصولة؛ كما صار إليه أبو حنيفة، وهو لا يختص؛ فظهر من ذلك أن المراد مقابلة الجنس بالجنس، ولا يبعد أن يجعل الشرع العدد القليل أفضل من العدد الكثير، مع اتحاد النوع؛ دليله القصر في السفر؛ فمع اختلافه أولى، والله اعلم.
قال: والسنة أن يواظب -[أي: يداوم]- على السنن الراتبة مع الفرائض.
قد تقدم أن السنة إذا أطلقت تناولت ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليه، وفي ذلك كفاية عن ذكر دليل آخر، وسيأتي تفاصيل ذلك، ولا فرق في ذلك- عندنا- بين المقيم، والمسافر، قصر، أو أتم.
قال: وهي ركعتا الفجر؛ لما تقدم.
قال الأصحاب: ومن السنة تخفيفهما؛ لما روي عن عائشة- رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر، فيخفف فيهما، حتى أقول:[هل]
قرأ فيهما بأم القرآن" رواه البخاري، ومسلم.
واستحب المحاملي أن يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لرواية مسلم، عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر صلى الله عليه وسلم و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وقد روى مسلم أيضاً عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ
…
} الآية، وفي الأخرى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ} [آل عمران: 52].
وهذا يدل على فتح الباب، وكذا يستحب أن يتكئ بعدهما، وقبل صلاة الصبح، أو يتكلم؛ لأنه-عليه السلام-كان يفعل ذلك؛ [كما ثبت] في الصحيح.
ويدخل وقتهما بطلوع الفجر.
[قال الشيخ أبو حامد: ووقت الاختيار من [حين] طلوع الفجر] إلى أن يصلي الفريضة؛ فإذا صلى الفريضة، يعقبها وقت الجواز إلى طلوع الشمس، وليس بوقت اختيار لها؛ فإذا طلعت الشمس، خرج الوقت.
وكلام الغزالي يوافقه؛ لأنه تكلم في أن النوافل إذا فاتت، هل تقضي، أم لا؟ ثم قال: أما ركعتا الفجر فتؤدي بعد صلاة الصبح، ولا تكون قضاء؛ فإن تقديمها أدب. وهذه عبارة الشيخ أبي محمد، واستحسنها الإمام، وأيد ذلك بأن الأئمة متفقون على أنها تفعل بعدها، ولو كانت تفوت بصلاة الصبح لاختلفوا فيها؛ كما اختلفوا في قضاء الفوائت، وهذا منهم مؤذن بأن غير ركعتي الفجر مما سن تقديمه على الفريضة [يفوت بفعل الفريضة حتى يكون في قضائه بعد الفريضة] ما سيأتي من الخلاف، وسنذكر ما قاله الأصحاب فيه.
وقد حكى في "المهذب" وغيره وجهاً ادعوا أنه ظاهر النص: أن وقت ركعتي الفجر يستمر إلى الزوال؛ لأجل قول الشافعي- رضي الله عنه: "وإن فاتت ركعتا الفجر حتى فعل الظهر، لم تقض".
وعكس هذا وجه حكاه في "التتمة" وصححه: أن وقتها يفوت بفعل الصبح؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخيرها عن الفرض، وهذا قد يؤخذ مما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم": أنه إذا دخل المسجد، وأحرم بركعتي الفجر؛ فأقيمت الصلاة، وعلم أن تفوته الجماعة [لو] أتمها، قطعها، ودخل معه، وقضاهما بعد الفريضة.
قال: وأربع قبل الظهر، [وركعتان بعدها]؛ لما روى مسلم عن عبد الله [ابن شقيق] قال:"سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصل ركعتين؛ [وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء؛ فيدخل [بيتي] يصلي ركعتين"].
وروى النسائي، عن علي بن أبي طالب قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، صلى أربع ركعات قبل الظهر حين تزول الشمس؛ فإذا صلى الظهر، صلى بعدها ركعتين، وقبل العصر أربع ركعات، يفصل بين كل ركعتين".
قال: وأربع قبل العصر؛ لحديث علي -كرم الله وجهه- وروى أبو داود، عن ابن عمر قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً".
قال: وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ لحديث عائشة.
ويستحب أن يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب؛ لرواية أبي داود، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد".
وإذا عددت ما ذكره الشيخ من الركعات إلى هنا بلغت ست عشرة ركعة، وهي أكثر ما حكاه في "الوسيط" عن الأصحاب، وهو وجه في المسألة لم يذكره في "المهذب"، وعزاه القاضي أبو الطيب إلى ابن القاص، والبندنيجي عزاه إلى بعض الناس، ووراءه أوجه:
أحدها: أنها ثماني عشرة؛ فتضيف إلى ما ذكره الشيخ ركعتين بعد الظهر؛ فيكمل ما بعده أربعاً؛ لقوله-عليه السلام: "من حافظ على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، حرمه الله على النار" رواه أبو داود والترمذي. وهذا ما حاكه ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب، عن أبي علي في "الإفصاح"، وقال في "المهذب": إنه الأكمل.
والثاني: أنها أربع عشرة ركعة: ركعتا الفجر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ حكاه أبو الفتح نصر في "تهذيبه"،
وهو كالذي قبله إلا فيما قبل العصر. وهذا القائل وإن لم يثبت الأربع قبل العصر سنة؛ فهو قائل بأنها مستحبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها مرتين، أو ثلاثاً؛ قاله القاضي الحسين، و [إليه] أشار في "الوسيط" بقوله: ولم يواظب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قبل العصر حسب مواظبته على ركعتين قبل الظهر.
والثالث: أنها اثنتا عشرة ركعة: ما ذكره الشيخ إلا الأربع قبل العصر؛ وهذا حكاه الشيخ أبو حامد في "التعليق" وغيره.
والرابع: أنها عشر ركعات: ما ذكرناه قبله إلى ركعتين مما قبل الظهر، وهذا ما صدر به البندنيجي والغزالي كلامهما، وقال الرافعي: إنه قول الأكثرين، وإن صاحب "العدة" قال: إنه ظاهر المذهب. وقد حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه عن رواية البويطي في "مختصره".
وقال في "المهذب" وجماعة: إنه أدنى الكمال.
والخامس: أنها ثماني ركعات؛ ما ذكرناه قبله، إلا ركعتين بعد العشاء، وهذا ما رواه البويطي عن الشافعي؛ كما قاله ابن الصباغ، وعزاه الإمام وغيره إلى [أبي] عبد الله الخضري.
وأنت إذا تأملت ما ذكرناه من أدلة ما ذكره الشيخ [عرفت أن ما قاله الشيخ] هو السنة؛ عملاً بما قدمناه من حقيقتها.
وقول من قال: إن الأربع قبل العصر ليست بسنة؛ لأنه-عليه السلام-لم يصلها إلا مرتين أو ثلاثاً-يعارضه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمله ديمة، وإذا عمل عملاً أثبته".
وأيضاً: فهو إذا أتى بما ذكره الشيخ، وركعة الوتر، كان ما أتى به من الركعات بعدد ما يأتي به من عدد الركعات المفروضة، والنوافل مكملة لما ينقص من
الفرائض؛ فكان أشبه.
قال الإمام: وقد استحب بعض الأصحاب ركعتين قبل المغرب؛ لرواية أبي داود عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين"، ثم قال:"صلوا قبل المغرب ركعتين، [صلوا قبل المغرب ركعتين] لمن شاء؛ خشية أن يتخذها الناس سنة" وأخرجه البخاري بنحوه.
ولمسلم: أن أنس بن مالك قال: "كنا بالمدينة؛ فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري؛ فركعوا ركعتين؛ حتى إن الرجل الغريب ليدخل [المسجد]؛ فيحسب أن الصلاة صليت؛ لكثرة من يصليهما".
وجاء في "صحيح" مسلم عن انس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرانا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس، قبل صلاة المغرب؛ فلم يأمرنا، ولم ينهنا".
قال الرافعي: ومن الأصحاب من قال: [إنهما] لا تستحبان؛ لما روي عن ابن عمر: أنه سئل عنهما؟ فقال: "ما رأيت أحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما".
وعن عمر رضي الله عنه: "أنه كان يضرب عليهما".
تنبيهات:
الأول: الأربع قبل الظهر، وكذا بعده-إن أثبتناها- والأربع قبل العصر، قال النواوي في "فتاويه": تجوز بتشهد واحد، وتشهدين، والأفضل تسليمتان.
قلت: ويشهد له حديث على السالف.
وأيضاً ففي ذلك جمع بين ما ورد من استحباب ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وبين الحديث الآخر.
الثاني: سنة الجمعة كسنة الظهر-على الصحيح- الذي لم يحك القاضي الحسين هنا غيره، ولا جرم لم يفردها الشيخ، والجمهور بالذكر؛ وعلى هذا يكون في عدد ركعاتها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها أربع: ركعتان قبلها، وركعتان بعدها.
والثاني: أنها ست: أربع قبلها، وركعتان بعدها.
والثالث: أنها ثمان: أربع قبلها، وأربع بعدها وهذا ما حكاه ابن القاص وغيره؛ لما روى ابن ماجه في "سننه" أنه عليه السلام:"كان يصلي قبلها أربعاً"، وهذا ظاهر، إذا قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور.
أما إذا قلنا: إنها صلاة مستقلة بنفسها، فهو محل النظر، وقد جزم المحاملي في "اللباب" بأنها ربع بعدها بتسليمتين؛ لقوله عليه السلام:"إذا صليتم الجمعة، فصلوا بعدها أربعاً" أخرجه مسلم.
ويشبه أن يكون هذا تفريعاً على أنها صلاة مستقلة؛ كما هو الصحيح، والخبر الذي رواه ابن ماجه إسناده ضعيف جداً.
الثالث: ما يفعل من السنن قبل الفرض يدخل وقته بدخول وقت الفريضة، ويبقى إلى ذهابه، وما يفعل بعد الفريضة يدخل وقته بفعل الفريضة، ويدوم إلى أن يخرج وقتها؛ فإذا خرج كان في قضائها ما سيأتي؛ كذا حكاه في "المهذب" و"التتمة"، وهو يقتضي أن في آخر وقت سنة المغرب قولين؛ كما في صلاة المغرب، وبه صرح البندنيجي؛ حيث قال: إن وقتها يخرج بخروج وقت المغرب.
وقال القاضي أبو الطيب: إن وقتها يخرج بدخول وقت العشاء، ولم يحك سواءه.
وفي التتمة حكاية وجه آخر مع ما حكاه القاضي: أنه يخرج بفعل العشاء، ثم كلام البندنيجي يقتضي أن سنة الظهر [التي قبلها وبعدها يدخل [وقتها] بدخول وقت الظهر، ويخرج بخروج وقته؛ لأنه قال: ووقت سنة الظهر] دخل بالزوال، ويخرج بصيرورة ظل كل شيء مثله، وبه صرح القاضي أبو الطيب.
قال: والوتر- أي: سنة راتبة تفعل بعد العشاء أيضاً-لقوله عليه السلام:"يا أهل القرآن أو تروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر" أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة المغرب وتر النهار؛ فأوتروا صلاة الليل".
فإن قيل: هذا أمر؛ وظاهره الوجوب؛ فينبغي أن يجب. ويؤيده ما رواه أبو داود والإمام أحمد أنه-عليه السلام-قال: "الوتر حق؛ فمن لم يوتر، فليس منا".
ورواية أبي داود، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوتر حق على كل مسلم؛ فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يؤثر بواحدة فليفعل".
ورواية البزار أنه-عليه السلام قال: "الوتر واجب على كل مسلم".
قلنا: صرفنا عن ذلك-إن سلم من الطعن- قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فلو كان الوتر واجباً، لم يكن لنا وسطى؛ لأن الستة لا وسط لها؛ كذا قاله الماوردي.
وقوله عليه السلام في قصة السائل عن الإسلام، وقد قال: هل على غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع"، وقوله عليه السلام:"كتب عليَّ ثلاث .... " الخبر المشهور.
ولأنه-عليه السلام كان يوتر على الراحلة؛ كما رواه البخاري، ومسلم، عن رواية ابن عمر، وغيره.
وروى مسلم، عن سالم، عن أبيه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" وحينئذ [فيحمل ما ورد دالاً على الوجوب على تأكد الاستحباب].
وما ذكرناه من أنه عليه السلام أوتر على الراحلة هو ما استدل به الشافعي.
قيل: ولا دلالة فيه؛ لأن الوتر واجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الصلاح: وطريق الجواب عن ذلك أنه لو كان واجباً على المكلفين على العموم، لما جاز أداؤه على الراحلة، [كسائر الواجبات التي هي على
العموم، وقد جاز أداؤه على الراحلة]؛ بدلالة فعله عليه السلام؛ فلا يكون واجباً على العموم، ولا أثر للنزاع في التسمية التي لا مستند لها عند التحقيق.
ثم قد بينا أن كلام الشيخ يقتضي أن وقته يدخل بفعل العشاء، وبه جزم الماوردي وابن الصباغ.
وقال في "التتمة": إنه لا خلاف فيه؛ لرواية أبي داود، عن خارجة بن حذافة العدوي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله قد أمركم بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم؛ وهي: الوتر؛ فجعلها [فيما] بين العشاء إلى طلوع الفجر" وأخرجه الترمذي، وقال: إنه غريب.
وقد حكى الإمام وجهاً آخر: أنه يعتد به قبل صلاة العشاء، سواء فعله سهواً
أو عمداً، وعند هذا القائل يدخل وقته بدخول وقت العشاء.
وكلام غيره يقتضي أن هذا الوجه مخصوص بما إذا ظن أنه فعل العشاء؛ فصلاه، ثم بان أنه لم يفعلها؛ كمذهب أبي حنيفة.
والجمهور على عدم الاعتداد به في هذه الحالة أيضاً.
ثم آخر وقته [إذا طلع] الفجر؛ على المذهب.
وفي "التتمة" حكاية قول آخر: أنه يخرج وقته بصلاة الصبح.
قال: وأقله ركعة؛ لما ذكرناه من حديث أبي أيوب الأنصاري.
قال الماوردي: وقد ظن المزني أن أقله ثلاثة من قول الشافعي في موضع: "يوتر بثلاث" وحكايته عن أهل المدينة أنهم يوترون بثلاث.
قال: وليس الأمر كما ظنه، ولا يختلف مذهب الشافعي أن الوتر واحدة.
والقاضي الحسين حكى عن المزني ما ذكرناه، ولم يتعرض له بنكير.
ثم الركعة الواحدة هل تكون موترة لفرض العشاء، أو لغيره؟
فيه خلاف ينبني على أنه لو صلى ركعة فردة بعد الفرض بنية الوتر، هل تصح؟ وفيه وجهان، ادعى الإمام أن في كلام الشافعي إشارة إليهما:
وأصحهما في "الوسيط" الصحة، وهو ظاهر النص؛ فإن ابن الصباغ وغيره حكوا عن المزني أنه قال في كتاب "اختلافه مع مالك": قلت للشافعي: أيجوز أن يوتر بواحدة ليس قبلها شيء؟ قال: نعم، والذي اختاره ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي إحدى عشرة ركعة، يوتر [منها] بواحدة.
وقد يستدل له بما روى الدارقطني عن المغيرة بن شعبة، عن قيس بن أبي حازم
قال: "رأيت سعداً صلى ركعة بعد العشاء؛ فقلت: ما هذه؟ فقال [رأيت] رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بركعة؛ فعلى هذا تكون الركعة موترة للفرض؛ إن لم يتقدمها شيء".
والوجه الثاني: أنها لا تصح وتراً؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البتراء: أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها"؛ فعلى هذا تكون الركعة موترة لما يتقدمها من النفل؛ فإن لم يتقدمها، لم تصح وتراً.
قال الإمام: وكانت له تطوعاً.
قال الرافعي: وينبغي أن تكون على الخلاف فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال، هل يكون تطوعاً أم يبطل من أصله؟
وهذا أخذه من كلام الإمام، الذي سنذكره في آخر الباب.
ثمّ حيث صححنا إيتاره بركعة فقد ذكرنا عن الشافعي أنه خلاف مختاره؛ ولأجله قال القاضي أبو الطيب: إن الإيتار بركعة مكروه.
قال: وأكثره إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين؛ لما روى مسلم، عن عائشة- رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين [أن] يفرغ من صلاة العشاء-وهي التي يدعو الناس العتمة-إلى الفجر [إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر]، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن [حتى] يأتيه المؤذن للإقامة".
وعن ابن عباس قال: "بت ليلة عند ميمونة أم المؤمنين؛ فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل- أو قبله بقليل، أو بعده بقليل -استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن [وجهه] بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم إذا توضأ فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاه المؤذن؛ فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح"، أخرجه مسلم.
وعلى هذا ماذا ينوي بكل تسليمة يصليها؟ فيه أوجه:
أحدها: الوتر.
والثاني: سنة الوتر.
والثالث: مقدمة الوتر، ثم يصير وتراص بما بعدها.
قال الروياني في "تلخيصه": والأول أصحن وبه جزم في "الذخائر"؛ حيث قال: لو نوى بما يأتي به قبل الركعة الفردة سنة العشاء أو التهجد لم يكن وتراً، وإن نوى الوتر، صح، وأوترها الفردة، ولو جمع الكل بتسليمة واحدة، ونوى بها الوتر، جاز، لكنه خلاف الأفضل؛ وكذا يجوز أن يصليها تسعاً بتسليمة، وسبعاً، وخمساً، وثلاثاً، ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه فعلاً، وبعضه قولاً.
وإذا جمع بين أكثر من ركعتين، فلا يزيد على تشهدين؛ على المذهب.
وفي "التهذيب""والإبانة" وجه آخر: أنه يجوز؛ كما في النافلة المطلقة وفي النافلة المطلقة وجه: أنه لا يجوز فيها الزيادة على تشهدين؛ [كما ستعرفه.
والذي جزم به الإمام: أنه لا يجوز أن يتشهد] في كل ركعتين من الوتر من غير سلام؛ لأن هذه الزيادة لم تنقل، وليس كما لو أراد أن يتطوع بعشر ركعات أو أكثر بتسليمة واحدة، وأراد أن يجلس في إثر كل ركعتين؛ لأن التطوعات لا
ضبط لها في عدد.
وأما أقدار التشهدات في صلاة الوتر فحقها أن يقتصر فيها على ما ورد في الأخبار، ويجوز أن يتشهد فيها تشهدين في الأخيرة، وما قبلها؛ لورود الخبر بذلك.
روى مسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة؛ فيذكر الله ويحمده، ويدعو، [ثم ينهض، ولا يسلم، ثم يقوم فصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله، ويحمده ويدعو]، ثم يسلم تسليماً يسمعنا".
وفي "الإبانة" حكاية وجه آخر: أنه لا يجوز أن يزيد على التشهد الأخير، وما روي من الجلسة؛ فإنه كان يسلم عند كل جلسة.
وقد تلخص من ذلك أن له أن يقتصر على تشهد واحد بلاخلاف، وعليه تدل رواية مسلم، عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة، ويسلم".
وهل تجوز الزيادة على الواحد.؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: [لا]، وهو ما حكيناه [عن الفوراني.
قال الإمام: وهو ردئ لا تعويل عليه.
والثاني: نعم، فيتشهد ما شاء، وهو ما حكيناه] عن روايته، ورواية البغوي معه، وهو ضعيف أيضاً.
والثالث -وهو الأصح-: يجوز بتشهدين، ولا تجوز الزيادة عليهما.
وهذا كله إذا اقتصر على إحدى عشرة ركعة فما دونها؛ فلو زاد عليها؛ فبلغها ثلاث عشرة بتسليمة واحدة، قال في "الإبانة": جاز، بلا خلاف. وعليه تدل أخبار صحاح؛ منها: ما رواه زيد بن خالد الجهني أنه قال: "لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة؛ فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين [طويلتين]، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما [ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما]، ثم أوتر؛ فذلك ثلاث عشرة ركعة"، خرجه مسلم.
ومنها: ما أسلفناه عن عائشة، رضي الله عنها.
وكلام الجمهور والشيخ يقتضي أنه لا تجوز الزيادة على إحدى عشرة؛ كما لا تجوز الزيادة على ركعتي الفجر ونحوهما؛ ولأجل ذلك جعل مجلي في المسألة وجهين، وهما مأخوذان -أيضاً- من كلام الإمام؛ لأنه قال: وفي بعض التصانيف أنه يجوز بثلاث عشرة، ولا ينبغي أن يعتمد ذلك.
قال: وهذا التردد في الإتيان بثلاث عشرة هل نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ولا جرم قال في "الوسيط": إن النقل متردد في ثلاث عشرة، وبما ذكرناه عن كتاب مسلم ينتفي التردد.
وقد قال بعضهم: إنه لم يرد أن النقل [تردد في أنه-عليه السلام-أوتر بها
أو لا؛ لأنه قد صح أنه أوتر بها، وإنما أراد أن النقل] عن الأصحاب تردد في أن أكثره إحدى عشرة [أو ثلاث عشرة: فالشيخ أبو حامد وابن كج ومن تابعهما قالوا: أكثره: إحدى عشرة]، والبغوي وآخرون قالوا: غايته ثلاث عشرة؛ وهذا وإن أمكن حمل كلام الغزالي عليه، فلا يمكن حمل كلام الإمام عليه، والظاهر أن الغزالي اتبع الإمام.
ثم الذين قالوا بأن أكثره ثلاث عشرة، قالوا: لو زاد عليها، ففي صحة إيتاره وجهان:
وجه المنع- وهو الأظهر-: أنه سنة مؤكدة؛ فيتبع في حدها التوقيف؛ كركعتي الصبح وغيرهما.
ووجه الجواز: أن اختلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على فتح الباب.
قال: وأدنى الكمال ثلاث ركعات؛ لأن سنتها أن يوتر شفعاً قبلها، وأقل شفع اثنان، وأقل وتر واحدة، وقد روى النسائي، عن أبي بن كعب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات، يقرأ في الأولى {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وقال الترمذي في حديث عائشة: "وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين.
قال: بتسليمتين؛ لأن في ذلك زيادة تكبير وسلام.
وأيضاً فقد روى مسلم، عن ابن عمر: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بينه وبين السائل؛ فقال: يا رسول الله، كيف صلاة الليل؟ فقال:"مثنى مثنى؛ فإذا خشيت الصبح، فصل ركعة، واجعل آخر صلاتك وتراً"، والوتر من صلاة الليل، وهذا أظهر في "الوجيز" وعند البغوي، وقال القاضي الحسين: إن عليه الأكثرين، ومنهم: الصيدلاني؛ كما قاله غيره.
وقيل: إنها موصولة أفضل؛ لأن الركعة الفردة ليست بصلاة عند قوم؛ فليحترز عن شبهة الخلاف، وصار هذا كما قلنا: إن الأفضل ألا يقصر إلا في سفر يبلغ مسيرته ثلاثة أيام؛ تحرزاً عن الخلاف، وهذا ما اختاره الشيخ أبو زيد، وعليه أهل مسجده إلى الآن.
قال القاضي الحسين: وهو قول قديم، والقائلون بالأول قالوا: إنما يصير الشافعي إلى الخروج عن شبهة الخلاف؛ إذا لم يؤد [إلى ارتكاب محظور أو
مكروه، وهذا يؤدي] إليه؛ [لأنه يخالف] فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله؛ فإنه يرى أن يجلس بعد الأولى، وبعد الثالثة.
وقيل: إن كان الموتر إماماً، فالأفضل في حقه وصلها؛ لتقع صلاة من خلفه صحيحة، مع اختلاف مذاهبهم، وهذا ما حكاه الرافعي عن رواية الموفق بن طاهر، عن الخضري والشريف ناصر، وقال:[إن] الروياني عكسه، فقال: أنا أصل إذا كنت منفرداً، وإذا كانت في جماعة أفصل؛ كي لا يتوهم خلل فيما صار إليه الشافعي، وهو صحيح ثابت بلا شك.
ثم إذا قلنا بوصلها، فهل يؤثر أن يكون بتشهدين في الثانية والثالثة، أو بتشهد واحد في الأخيرة؛ كي لا يشبه المغرب؟ فيه وجهان؛ اختار الروياني منهما الثاني.
وقال صاحب "التهذيب": والأكثرون أنه إن شاء فعل ذلك، وإن شاء فعل هذا. وإطلاق التخيير يقتضي التسوية.
وعن القاضي الحسين أنه لا يجوز أن يوتر بثلاث بتشهدين وتسليمة واحدة؛ كالمغرب، [وربما يقول]: ببطلان صلاته إذا تعمد ذلك؛ كذا حكاه بعضهم.
ورأيت في "تعليقه" أن القفال قال: إذا جلس بعد الثانية متعمداً، بطلت صلاته، وإن كان ساهياً، فعليه سجود السهو؛ لقوله عليه السلام:"لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس، أو سبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب" أخرجه الدارقطني، وقال: كل رواته ثقات.
وقد أفهم كلام الشيخ أن الركعة الفردة لا تكون أفضل من الثلاث، بل قد حكينا عن القاضي أبي الطيب أنها مكروهة، وقال: إن الواحدة أقل أجراً من الثلاث.
وفي "الرافعي" أن الثلاث الموصولة أفضل من ركعة فردة لا شيء قبلها، أم هي أفضل من الثلاث الموصولة؟ فيه ثلاثة أوجه:
أصحها -وبه قال القفال-: أن الثلاث الموصولة أفضل منها؛ لزيادة العدد.
والثاني: أن الركعة الفردة أفضل؛ لمواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها.
قال الإمام: وعلى هذا القائل، يقال: إذا أوتر بإحدى عشرة [ركعة] وأوتر بركعة فردة-فالركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة.
والثالث: الفرق بين المنفرد والإمام؛ كما سبق.
وعبارة الغزالي في "الوسيط" تنبو عن جعل الركعة الفردة التي لا شيء قبلها أفضل من ثلاث موصولة، وحكاية هذا الوجه على نعت آخر؛ فإنه قال: في الأفضل أربعة أوجه:
أحدها: أن ثلاثاً موصولة أفضل؛ فإن الركعة الفردة ليست بصلاة عند قوم.
والثاني: أن ركعة فردة أولى من ثلاث موصولة، بل من إحدى عشرة موصولة؛ لأنه صح مواظبته صلى الله عليه وسلم على الفردة في آخر التهجد.
والثالث: أن ثلاثاً مفصولة بسلامين أفضل من ثلاث موصولة، ولكن الواحدة ليست أفضل من ثلاث موصولة.
والرابع: التفصيل بين أن يكون إماماً أو منفرداً.
فقوله: "إن ركعة فردة أولى من ثلاث موصولة، بل من إحدى عشرة [ركعة] موصولة؛ لأنه صح مواظبته صلى الله عليه وسلم على الفردة في آخر التهجد"-مؤذن مع ما أسلفناه من مذهبه أن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير تهجده؛ بأن محله إذا قدم على الركعة الفردة تهجداً لم يقصد به الوتر، دون ما إذا لم يأت قبلها بشيء أصلاً، وفارق هذا الوجه الوجه الصائر إلى أن الثلاث المفصولة أفضل من ثلاث موصولة؛ لأن قائله يصور المسألة بما إذا قصد بالركعتين قبل الركعة الوتر؛ ولهذا التفات على ما أسلفناه في أنه ماذا ينوي بالشفع قبل الوتر.
ويؤيد ذلك أن المتولي حكى عن القفال أنه قال: كل أحد يعلم أن الثلاث من
الجنس أفضل من واحدة منه.
زاد الروياني: ولكن صورة المسألة في رجل صلى ركعتين بنية النفل، وأوتر بعدها بركعة، وآخر صلى بنية الوتر ثلاث ركعات، أو في رجل صلى عشر ركعات، وأوتر بواحدة، وآخر صلى إحدى عشرة بنية الوتر وعلى ذلك ينطبق قول البغوي: ليس المراد من قولنا: إن الوتر بواحدة أفضل، أن يقتصر على ركعة واحدة، بل المراد أن إفرادها عما قبلها أفضل من وصلها بما قبلها.
قال الإمام: ثم كل هذه الترددات بين الثلاث الموصولة، وبين الركعة الفردة، أو الثلاث المفصولة؛ فأما الزيادة على الثلاث، فلا يؤثرها من طريق الفضيلة أحد من الأئمة، وإنما يحمل فعل الشارع فيه على الجواز، لا على الأولى.
وهذا اللفظ إن أجرى على ظاهره، كان فيه نظر؛ لأن الروياني قال في "تلخيصه": إن الخمس أفضل من الثلاث، وقياسه أن تكون السبع أفضل من الخمس، والتسع أفضل من السبع، وبه صرح في "التتمة" والقاضي أبو الطيب.
قال: يقرأ في الأولى-بعد الفاتحة: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و"المعوذتين" لما ذكرناه من خبر أبي بن كعب، وعائشة، وقد روى الترمذي، عن علي قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور؛ آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وفي حديث أبي بكر البزار: يقرأ في الأولى {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و {إِذَا زُلْزِلَتْ} وفي الركعة الثانية {وَالْعَصْرِ} و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الركعة الثالثة {تَبَّتْ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".
قال: ويقنت في الأخيرة منها؛ أي: بعد الرفع من الركوع؛ كما نص عليه في حرملة في النصف الأخير من رمضان؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: "السنة إذا انتصف الشهر من رمضان أن يلعن الناس الكفرة في الوتر بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، وقد فعله أُبَيِّ" أي-لما جمع عمر الناس عليه؛ ليصلي بهم التراويح، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك.
والقنوت بعد الرفع من الركوع، قد حكاه القاضي أبو الطيب، عن شيوخهما، مع وجه آخر يعزى إلى ابن سريج: أنه يقنت [فيه] قبل الركوع؛ لأنه جاء في رواية أبي بن كعب التي أسلفناها: "وكان يقنت قبل الركوع".
قال: والقياس [يقتضي] أن يخالف بين الفرض والنفل، كما فرقوا في الخطبتين؛ فجعلوهما في الفرض-وهو: الجمعة-قبل الصلاة، وفي النفل بعد الصلاة؛ وهو: العيدان، وغيرهما.
وعن "البيان" أن بعض متأخري الأصحاب قالوا: يتخير بين التقديم والتأخير، وأنه إذا قدم كبر بعد القراءة، ثم قنت.
وقال في التتمة: إذا قلنا. يقنت قبل الركوع، يبتدئ به بعد الفراغ من القراءة من غير تكبير.
وقد قيل: إن القنوت في الوتر لا يختص بالنصف الآخر من شهر رمضان، بل يجوز في جميع السنة؛ حكاه في "المهذب" عن أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا؛ لظاهر خبر أبيِّ.
وقد حكاه الرافعي عن أبي الفضل بن عبدان، وأبي منصور بن مهران، وأبي الوليد النيسابوري من أصحابنا، وهو ضعيف.
قال الروياني: بل كلام الشافعي يدل على كراهته في [غير] النصف الأخير؛ فضلاً عن استحبابه، وخبر أبيِّ قد قال أبو داود: إنه غير صحيح، وقد
كان أبيَّ لا يقنت إلا في النصف الأخير.
ثم إذا قلنا: إنه يقنت في جميع السنة؛ فتركه، [قال الروياني]: فلا يسجد للسهو-على وجه-بخلاف ما لو تركه في النصف الأخير، يسجد.
قال: وهذا اختيار مشايخ طبرستان، وهو حسن.
ثم المشروع من القنوت هاهنا ما ذكرناه في الصبح؛ لرواية أبي داود، عن الحسين بن علي قال:"علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في [قنوت] الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وأنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت"، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
قال في "الشامل": قال القاضي أبو الطيب: كان شيوخنا يقولون بعده: "اللهم عذب كفرة أهل الكتاب، والمشركين الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويدعون معك إلهاً، لا إله إلا أنت، تباركت وتعاليت عما يقول الظالمون علواً كبيراً، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم [عليه] وتوفهم على ملة رسولك، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واجعلنا برحمتك منهم، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
فإذا فرغ من القنوت، فالمستحب أن يقول: "سبحان الملك القدوس رب
الملائكة والروح"؛ لما روي في خبر أبي: "أنه-عليه السلام-كان يقول ذلك ثلاث مرات، ويطيل في آخره".
وقال صاحب "التلخيص" وغيره من الأئمة-ومنهم القاضي الحسين-: يستحب أن يقول فيه-مع قنوت الصبح- ما كان عمر يقوله: "اللهم إنا نستعينك [ونستغفرك] ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد-أي: نسرع- نرجو رحمتك، ونخشى عذابك؛ إن عذابك بالكافرين ملحق". [بكسر الحاء؛ يعني: لاحق. قال الأصمعي: لا يجوز غيره، وحكاه عن أبي عبيد؛ كذا قاله الماوردي في صفة الصلاة].
وهل يستحب الجهر بالقنوت، ورفع اليدين فيه؟
[فيه] ما في قنوت الصبح؛ قاله الرافعي
قال: "ويصلي الضحى"؛ لقوله تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] قال ابن عباس: {وَالإِشْرَاقِ} : صلاة الضحى. كذا قاله المحاملي في "اللباب".
وروى أبو هريرة وأبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنها صلاة الأوابين".
قال: "ثماني ركعات"؛ لما روى مسلم، عن أم هانئ قالت: "ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح؛ فوجدته يغتسل، وابنته تستره بثوب؛ قالت: فسلمت عليه؛ فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب؛ فقال: مرحباً بأم هانئ.
[قالت] فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، قالت: وذلك ضحى".
وفي رواية: "لا أدري أقيامه فيها أطول، أم ركوعه، أم سجوده؟ كل ذلك منه متقارب".
قال في "الحاوي": وهذا آخر ما روي عنه من فعل الضحى، وأنه واظب على ذلك إلى أن مات. وفيه نظر؛ لأن أبا داود روى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:"ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى غير أم هانئ؛ فإنها ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم [فتح مكة] اغتسل في بيتها وصلى ثماني ركعات؛ فلم يره أحد صلاهن بعد"، وأخرجه البخاري ومسلم.
وفي "الذخائر" عن "تهذيب" نصر المقدسي: أن المستحب أن يصليها باثنتي عشرة ركعة؛ لما روى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة، بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب".
قال: وأدناها ركعتان؛ لما روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال:"أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد".
وروى مسلم- أيضاً-أنه-عليه السلام قال: "يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى"، وهذا الحديث في الدلالة على المدعى أمس؛ لأنه يقتضي أن الضحى أكثر من ركعتين.
والسلامي: مضمومة السين، مفتوحة الميم: عظام الأصابع والأكف والأرجل، هذا أصله، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله، وهي كما جاء في "صحيح مسلم" عن عائشة "ثلاثمائة [وستون مفصلاً، وحينئذ فمعنى الحديث: يصبح على كل عضو ومفصل من بدن ابن آدم] صدقة؛ قاله الجوهري.
وإذا [عرفت أن أدناها ركعتان، وأكملها ثمانية]، عرفت أن ما بينهما في الرتبة الوسطى، وقد روى مسلم عن معاذة أنها سألت عائشة:"كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء".
وروى النسائي، عن علي بن أبي طالب قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس-يعني: من مطلعها-قيد رمح، أو رمحين؛ كقدر صلاة العصر من مغربها، صلى ركعتين، ثم أمهل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربع ركعات".
وروى النسائي أيضاً عن نعيم بن هبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه -تعالى- قال:" [يا ابن] آدم صل أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره".
ووقت صلاة الضحى يدخل بزوال الوقت المكروه، ويدوم إلى الزوال؛ قاله مجلي، وغيره.
قال بعضهم: ولم يتعرض الشيخ لذكر الوقت؛ اكتفاء بما أعطاه لفظ "الضحى".
وفي "المهذب": [أن] وقتها يدخل إذا أشرقت الشمس، وعليه تدل الآية. وهو متقارب؛ لأن إشراقها يكون بعد ارتفاعها.
قال بعض الأصحاب: والمستحب أن يصليها على قدر ما يمضي ربع النهار؛ لتكون على نظير العصر في [النصف] الثاني، وهذا ما أورده الماوردي، لكنه لم يذكر هذه العلة، وقد روى مسلم، عن زيد بن أرقم قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون؛ فقال: صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال".
ومعنى "ترمض"، أي: حين يشتد الحر عليها؛ مأخوذ من "الرمض"، وهو شدة حر الحجارة؛ لكثرة حر الشمس.
وقد أفهمك قول الشيخ: "ويصلي الضحى ثماني ركعات" أن هذا حكم
منفصل عما قبله، وليست هي من السنن التابعة للفرائض، بل هي مستحبة.
وقد فهم بعضهم ضد ذلك؛ فقال مؤاخذاً للشيخ: ولم أر [أن] أحداً من أصحابنا قال: إن الضحى من السنن الراتبة؛ لأنه عليه السلام لم يواظب عليها مواظبته على توابع الفرائض من الوتر وغيره؛ فإن أبا سعيد الخدري.
قال: "كان –عليه السلام يصلي الضحى حتى نقول: لايدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها". رواه الترمذي.
وليس الأمر كما ظنه، بل الشيخ أراد أن يذكر أن فعلها مستحب، وتركه عليه السلام لها قد بينت عائشة رضي الله عنها سببه؛ روى مسلم عنها قالت:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس؛ فيفرض عليهم".
فإن قيل: كيف يجمع بين هذا، وبين ما تقدم من روايتها:"أنه عليه السلام صلاها أربعاً"؟
قيل: يحمل ما سبق على أنها علمت صلاته بإخباره، أو إخبار غيره.
وقد يكون معنى قولها: "ما رأيته يصلي سبحة الضحى" تعني: معلناً بها.
قال: "ويقوم [شهر] رمضان"؛ لقوله-عليه السلام:"من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه"، وما سنذكره من الخبر يدل على
مشروعية قيامه أيضاً.
والشيخ في هذه التسمية متبع لقوله عليه السلام: "من قام رمضان".
والمراد بالقيام: صلاة التراويح، سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يصلون بتسليمتين، ثم يتروحون ساعة.
قال: "بعشرين ركعة في الجماعة"؛ لأن الصحابة أجمعت على ذلك في زمن عمر رضي الله عنهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في المسجد ليلتين، أو ثلاثاً، ولم ينقل كم صلى، ثم تركها؛ خشية أن تفرض على أمته، حين كثروا وازدحموا، ولم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقية عمره، ولا أبو بكر في زمن خلافته، وكذلك عمر في صدر [من] خلافته، ثم خرج في ليلة من رمضان فرأى الناس قزعاً في المسجد؛ فمن واحد يصلي، ومن اثنين يصليان، ومن ثلاثة يصلون؛ فقال:"لو جمعتهم على إمام واحد"، فجمعهم على إمام واحد؛ فوظف عليهم عشرين ركعة، وأمم عليهم أبي بن كعب، وأجمع الصحابة معه على ذلك.
وروي عن علي -كرم الله وجهه-[أنه] قال: "نور الله قبر عمر؛ كما نور مساجدنا"، وكان فعل عمر ذلك لأمنه مما حذره رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرضها؛ لأنه لا فرض بعد وفاته عليه السلام وقد قال الإمام في آخر الباب: إنه روى بعض من يعتمد في رواية غريبة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى التراويح عشرين ليلة، ولم يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير".
قلت: وأغرب من ذلك ما حكاه الماوردي، أن أبي بن كعب كان بعد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج في الليلة الثالثة أو الرابعة- كما حكاه غيره-في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأول خلافة عمر، يجمع الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي بهم العشر الأول، والعشر الثاني، ويتخلى لنفسه [في العشر الثالث] إلى أن قررها عمر، وجمع الناس عليها.
قال: وكان السبب فيه ما روي أن الناس كانوا يصلون في المسجد؛ فإذا سمعوا قراءة طيبة سعوا؛ فقال عمر: قد جعلتم القرآن أغاني؛ فجمعهم على أبي؛ فصارت سنة قائمة، ثم عمل بها عثمان، وعلي، والأئمة من سائر الأعصار، وهي من أحسن سنة سنها إمام.
فإن قيل: أهل المدينة يصلونها ستاً وثلاثين [ركعة]، أو تسعاً وثلاثين، وهم أعلم بفعل الصحابة فيها؛ فما وجه عدولكم عن ذلك؟
قيل: قد بين الشافعي مستندهم في ذلك؛ فقال: "أدركت أهل المدينة يصلون تسعاً وثلاثين ركعة، وذاك أن أهل مكة كانوا إذا صلوا ترويحة، وهي أربع ركعات، طافوا طوفة، إلا في الأخيرة، وأهل المدينة كانوا ينافسونهم في العبادات، ولم يكن عندهم شيء يطوفون به؛ فجعلوا بين كل ترويحتين أربع ركعات؛ فيجيء من ذلك ست عشرة ركعة، وثلاث ركعات الوتر، يكون الكل تسعاً
وثلاثين ركعة؛ فأما غير أهل المدينة؛ فلا يجوز لهم أن يجاروا أهل مكة، ولا ينافسوهم؛ لأن الله-تعالى-فضلها على سائر البلاد.
وقد قيل: بل [كان] السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان كان له تسعة أولاد؛ فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة؛ فقدم كل واحد منهم فصلى ترويحة؛ فصارت ستاً وثلاثينن والوتر ثلاث.
وقيل: بل كان السبب أن تسع قبائل حول المدينة سارعوا إلى الصلاة، واقتتلوا، فقدمت كل قبيلة من صلى بهم ترويحة، ثم صارت سنة.
والأول: أصح.
فإن قيل: قد قال الشافعي: "فأما قيام شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إلي منه"؛ وهذا يدل على أن فعلها فرادى أفضل عنده، وهو مخالف لقوله-عليه السلام:"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة"، ومخالف لما أجمع عليه الصحابة فيها.
قيل في جوابه: قد اختلف الأصحاب في مراده:
فمنهم من قال: لم يرد الشافعي أنها لا تفعل في جماعة؛ فإنه نص في "البويطي" على أن فعلها في جماعة أفضل، وإنما أراد أن صلاة المنفرد في الوتر وركعتي الفجر أحب إلى من صلاة التراويح في جماعة؛ وهذا قول ابن سريج، وأبي إسحاق، وغيرهم، وبه يندفع السؤال.
ومنهم من قال: [مراده]: أن فعلها فرادى أفضل، وزعم أنه نص عليه في القديم، لكن يشترط ألا يخاف الكسل عنها في بيته، ويقرأ أكثر مما يقرؤه إذا صلاها في جماعة، وكانت الجماعة لا تتعطل بغيبته؛ لأنها من صلاة الليل.
قال الماوردي: [وبهذا] قال أكثر أصحابنا: وهو الأصح في "الإبانة".
ومنهم من قال بظاهره مطلقاً حكاه القاضيان: أبو الطيب، وابن كج، والإمام -رحمهم الله تعالى- لأنه عليه السلام كان يصليها منفرداً، وقال: " [أفضل]
صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
قال القاضي أبو الطيب: وهو خطأ؛ لإجماع الصحابة عليها.
واعلم أن الشيخ سكت عن أمرين لابد من معرفتهما، وسكوته عنهما؛ لأن العرف ظاهر في أحدهما، وكلامه دال على الثاني:
فالأول: كونه يصليها ركعتين ركعتين، وهذا مما لم يختلف فيه [، صرح الرافعي وغيره، وحينئذ]؛ فلو صلاها أربعاً بتسليمة واحدة، لم يصح؛ لأن الباب باب اتباع، ولم يرد ذلك؛ قاله القاضي الحسين.
والثاني: وقتها، وهو كوقت الوتر سواء، يدخل بصلاة العشاء، ويدوم إلى طلوع الفجر على الأصح.
وهل يجوز أن تفعل قبل صلاة العشاء؟
فيه خلاف، والأصح: لا، وقد صرح به القاضي الحسين في "الفتاوي".
والذي يدل من كلام الشيخ على أن وقتها كوقت الوتر قوله من بعد: "ويوتر بعدها في الجماعة".
وقد يقال: إن كلام الشيخ دال على أنه يجوز فعلها بعد المغرب؛ لأنه عبر عنها بالقيام، والقيام هو صلاة الليل، والليل يدخل بغروب الشمس، [وبه صرح مجلي، فقال: إن وقتها يدخل من غروب الشمس،] ويستمر إلى طلوع الفجر، وقد جرت العادة بفعلها بعد صلاة العشاء، وإن فعلها قبل ذلك، جاز، وكان حسناً، واتبعه في ذلك أبو إسحاق والعراقي في التعليق على "المهذب". والمشهور الأول.
قال: ووتر بعدها في الجماعة؛ لأن أبي بن كعب كان يفعل ذلك بمحضر الصحابة، وكان يجهر بالقراءة فيه، والجهر بالقراءة في الوتر سنة في رمضان وغيره، وادعى الماوردي وغيره الإجماع عليه عند الإتيان بثلاث مفصولة،
وجعلوه حجة على من قال: إن الثلاث مع الفصل صلاة واحدة؛ إذ لو كان كذلك، لما جره في الآخرة منها، والله أعلم.
قال: إلا أن يكون له تهجد؛ فيجعل الوتر بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ["اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً" أخرجه البخاري ومسلم، وقال-عليه السلام]-: "صلاة الليل مثنى مثنى؛ فإذا أحس أحدكم الصبح فليوتر بركعة".
وروى مسروق قال: "قلت لعائشة: في أي وقت من الليل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ فقالت: كان يوتر [في] أول الليل، وفي وسطه، وفي آخره، [ثم أوتر] عند موته في آخر الليل" أخرجه الترمذي.
وقيل: الأولى أن يوتر قبل أن ينام، ثم يقوم، ويتهجد؛ لقول أبي هريرة:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتر قبل أن أنام" أخرجه البخاري ومسلم.
وقد كان أبو بكر يوتر قبل أن ينام، ثم يقوم ويتهجد، [وعمر ينام قبل أن يوتر، ويقوم ويتهجد]، ويوتر؛ فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا أخذ
بالحزم -يعني: أبا بكر- وهذا أخذ بالقوة. يعني: عمر"، وقد روي عن عثمان مثل [ما] فعل أبو بكر، [وعن علي وعبدالله بن مسعود مثل ما فعل عمر".
قال في "الوسيط": واختار الشافعي-رضي الله عنه-فعل أبي بكر]، [وعبارة الإمام]: وميل الشافعي إلى حزم أبي بكر.
ولفظ القاضي الحسين: المختار -عندنا- فعل الصديق- رضي الله عنه لأنه أبعد من الآفة، وأحوط لأمر العبادة، وعلى هذا إذا قام وتهجد -لا يحتاج إلى إعادة الوتر؛ لقوله عليه السلام:"ولا وتران في ليلة" رواه الترمذي.
وقد روي عن ابن عمر: "أنه كان يوتر قبل أن ينام، فإذا قام صلى ركعة، وجعل وتره شفعاً، وتهجد، ثم أعاد الوتر"، ويسمى ذلك: نقض الوتر. وقد
اختاره بعض أصحابنا، ولم يورد القاضي الحسين غيره.
وقال الإمام: إنه لم يقل به إلا بعض المصنفين، وهو خطأ غير معدود من المذهب، وعلته أنه-عليه السلام قال:"لا وتران في ليلة"، وهذا يؤدي إلى أن يكون فيها ثلاثة؛ إذ الماضي لا يصير شفعاً وقد تم.
[وقيل]: الأولى في حق من طمع أن يقوم في آخر الليل أن يؤخر الوتر، وفي حق من لم يطمع أن يوتر قبل أن ينام؛ لقوله عليه السلام:"من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره فليؤخر" رواه مسلم.
وهذا ما حكاه في "الذخائر"، والذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ: ما ذكره الشيخ.
وقال في "الذخائر": إنه اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الشيخين: "وهذا أفضل"، يعني: ما فعل عمر.
وقد أفهم كلام الشيخ أن من لا تهجد له في رمضان ولا غيره، المستحب له تعجيل الوتر، وهو الظاهر؛ عملاً بقوله عليه السلام، [وقد سئل: أي الأعمال أفضل؟ -قال: "الصلاة لميقاتها"].
وقد حكى المتولي في أن الأفضل تعجيل الوتر في أول الليل أو تأخيره؟ فيه وجهان، [ويشهد للتأخير ما أخرجه مسلم من رواية [ابن] عمر وابن عباس: أنهما سعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الوتر ركعة من آخر الليل".
وقال الشيخ أبو حامد: إن وقت الاختيار له أول الليل، وفي آخر وتقه قولان؛ كما في قوت الاختيار لصلاة العشاء، حكاهما البندنيجي وأبو الطيب.
قال: ومن فاته من هذه السنن الراتبة شيء، قضاء في أصح القولين.
الإشارة بقوله: هذه السنن، يحتل أن تكون إلى ما قدم ذكره من حين قال: "والسنة أن يواظب على السنن الراتبة
…
" إلى هنا، وأما ما تقدم على ذلك فلم يدخل في كلامه؛ ألا ترى أنه تعرض في "باب صلاة العيد" إلى قضائها، وقال في باب "صلاة الكسوف": إنها لا تقضي، وفي باب "صلاة الاستسقاء": إنهم إذا سقوا قبل الصلاة صلوا شكرا، أي: ولا يكون قضاء؟!
وهو في ذلك موافق للأصحاب؛ فإنهم متفقون على أن صلاة الكسوف والاستسقاء لا تقضين ولو قلنا: إن الإشارة تعود إلى ما ذكره من أول الباب إلى هنا -لاقتضى طرد الخلاف فيها، ويحتمل أن يعود إلى ما ذكره من أول الباب، وصلاة الكسوف والاستسقاء تخرج بقوله:"الراتبة"؛ فإنها ليستا براتبتين، وإنما تفعلان بسبب حادث غير مستقر، وعلى هذا يكون قد كرر حكاية الخلاف في قضاء صلاة العيد في باب صلاة العيد؛ لأجل ما سنذكره من الزيادة في التفريع.
ثم إذا تقرر ذلك عدنا إلى توجيه القولين، ووجه القضاء: قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتها"، وقوله عليه السلام:"من نام عن وتره فليصله إذا أصبح" رواه الترمذي، وقد تقدم أنه-عليه السلام-قضى الركعتين بعد الظهر بعد صلاة العصر، لما شغله عنهما الوفد.
وقد روى [رجاء بن مرجّي] في "سننه بإسناده، والترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يصلّ ركعتي الفجر حتى طلعت الشمس-فليصلهما"، ولأنها صلاة مؤقتة بوقت؛ فإذا فات وقتها قضيت؛ كالفرائض، وهذا القول نص عليه في الجديد، وهو أحد قولي القديم؛ كما قال أبو حامد.
ومقابله-وهو ما نص عليه في القديم-: أنها لا تقضي، وكذا في "المختصر" هاهنا؛ حيث قال: وإن فاته الوتر حتى يصلي الصبح، لم يقض، وإن فاته ركعتا الفجر حتى يصلي الظهر، لم يقض؛ لأنها صلاة نفل فلا تقضي؛ كصلاة الاستسقاء والكسوف.
وحكى الإمام ومن تبعه قولاً آخر: أن ما تبع الفرائض لا يقضي، وما لا يتبعها، بل هو مستقل بنفسه-كالضحى، العيد-فيقضي.
وعن أبي إسحاق القطع بالقضاء في الكل.
وقول الشافعي: "لا يقضي"، أي: وجوباً، وقصد به الرد على أبي حنيفة؛ حيث قال: يقضي الوتر بعد طلوع الشمس، ويعيد الصبح؛ بناء على أصله في أن الوتر واجب، وأن الترتيب في القضاء واجب، وألا فهو يقضي استحباباً عنده.
ويحتمل أن يكون مراده: لا يقضي على سبيل التأكيد، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عنه، وقد ادعى الماوردي أن هذه الطريقة هي الصحيحة، وهي التي عليها عامة الأصحاب، واختارها القاضي أبو الطيب مستدلاً بقول الشافعي في سنة الصبح: يفعلها ما لم يصل الظهر، ولو كانت تسقط بالفوات لسقطت بطلوع الشمس.
التفريع: إن قلنا: تقضي، فإلى متى تقضي؟
أما صلاة العيد فسيأتي الكلام فيه.
وأما توابع الفرائض فقد حكى المراوزة فيها ثلاثة أقوال:
أصحها: أبداً، وهو ما حكاه العراقيون عن نصه في الجديد، حتى إنها تفعل في الوقت المكروه؛ لعموم قوله-عليه السلام:"فليصلها إذا ذكرها".
ورواية أبي سعيد الخدري: أنه عليه السلام قال: "من نام عن الوتر، أو نسيه فليصله إذا ذكره، أو إذا استيقظ" أخرجه الترمذي.
والثاني: أن فائتة النهار تقضي في بقية ذلك النهار، وفائتة الليل تقضي في بقيته، وهذا ما حكاه المسعودي عن القديم. وإذا قلنا به، قضيت ركعتا الفجر في جميع النهار.
والثالث: أنها تقضي ما لم يدخل وقت صلاة أخرى ويصلها؛ فإذا دخل ولم يصلها لم يفت وقت قضائها، وإن فات وقت أدائها؛ كذا قاله الإمام وغيره.
وقيل: إن ركعتي الفجر تقضي ما لم [يدخل وقت صلاة الظهر؛ فإذا دخل فلا تقضي، وإن لم] يصل الظهر، وهو ظاهر النص، [كما] حكاه الماوردي وغيره، وهو بناء على أنها تفوت بفعل الصبح أو بطلوع المس، كما تقدم.
وإن قلنا: لا تقضي؛ فإذا أتى بها كانت نافلة مطلقة، حتى إنها لا تجوز في الوقت المكروه، ويكون في انعقادها فيه الخلاف الآتي.
ولبعضهم احتمال في انعقادها في غير وقت الكراهة أيضاً؛ بناء على ما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال: هل تنعقد نفلاً [أو تبطل؟].
قال: ويسن التهجد.
التهجد في اللغة: اسم لدفع النوم بالتكلف، والهجود: هو النوم، يقال: هجد، إذا نام، وتهجد: إذا أزال ذلك النوم؛ كما يقال: حرج، إذا أثم، وتحرج، إذا تورع عن الآثام.
[وهو] في الاصطلاح: صلاة التطوع في الليل بعد النوم؛ لأنها تؤدي بعد الهجود، وهو النوم؛ كذا قاله القاضي الحسين.
وقال في "الحاوي": إن التهجد من الأضداد، يقال: تهجدت، إذا سهرت، وتهجدت: إذا نمت.
والأصل في استحبابه قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
وقد كان واجباً، فنسخ، وبقي الاستحباب، قال الله تعالى:{كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الإسراء: الآية79].
وقال-عليه السلام: "أفضل الصلاة- بعد الفريضة- صلاة الليل"رواه مسلم.
وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله -تعالى- خيراً من [أمر] الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة" رواه مسلم.
وروى الترمذي، عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله -[قال]:"من تعارض من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبرن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي- أو قال: ثم دعا-استجيب له؛ فإن عزم فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته". قال: وهذا حديث حسن صحيح غريب.
وقال-عليه السلام: "يعقد الشيطان على قافية أحدكم، إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة؛ فأصبح نشيطاً طيب النفس، وألا أصبح خبيث النفس كسلان" أخرجه البخاري.
قال: والنصف الأخير [من الليل] أفضل من النصف الأول، أي: من أراد أن يقوم نصف الليل فقط، فالنصف الأخير في حقه أفضل من الأول؛ لقوله تعالى:{كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [آل عمران: 17] وقال- عز من قائل-: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] فحث على الاستغفار [في الأسحار]، وقال تعالى:{نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34] والسحر في النصف الأخير؛ فهو شامل لمحل الرحمة والمغفرة والتنجية.
قال: والثلث الأوسط، أي: لمن أراد قيام ثلث الليل فقط، أفضل من الأول والأخير؛ قال الشافعي: لأن الغفلة فيه أكثر، والعبادة فيه أثقل، وقد قال عليه السلام:"ذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء [بين أشجار] يابسة".
فإن قيل: قد روى مسلم، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا-تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير،
فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له؟! " وفي طريق آخر:"حتى ينفجر الفجر"، وهذا يدل على أن الثلث الأخير أفضل، مع أن فيه السحر، وفيه ما تقدم ذكره.
قيل في جوابه: قد روى النسائي، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله – عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل، ثم يأمر منادياً ينادي، فيقول: هل من داع فيستجاب له، هل من مستغفر فيغفر له، هل من سائل فيعطي" وهذه زيادة مقبولة، وكون السحر اشتمل على ما ذكرناه؛ لأنه وقت الغفلة، والغفلة في الثلث الأوسط أكثر؛ كما تقدم. نعم، يشكل ما ذكرناه بما رواه مسلم [والبخاري] عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، [وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً"؛ ولهذا قال في "المرشد": إذا أراد أن يجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فالأفضل أن ينام نصفه، ويقوم ثلثه وينام سدسه.
ثم ما المعنى بالنزول المنسوب إلى الله -تعالى- في الخبر الأول؟
قيل: المراد به: معنى يصح إضافته [إلى الله تعالى] يجب الإيمان به، وإن لم نعلمه مع نفي [التشبيه] والانتقال الذي هو من عوارض الأجسام؛ فإن لفظ "النزول" لا يختص بالانتقال؛ كما لا يفهم من قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] بل "النزول" لفظ مشترك في اللغة يطلق على الانتقال؛ كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] وبمعنى الخلق؛ كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] وبمعنى الإعلام؛ كقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] و {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193] وبمعنى النزول كما يستحقه، وبمعنى القول؛ كقوله تعالى:{وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] أي: سأقول، وبمعنى الإقبال، وإذا كان اللفظ مستعملاً بمعان عديدة؛ فيتعين حمله على ما يصح في وصف الباري.
فمن ذلك الإقبال بالرحمة والعطف، ويحتمل أن يراد به ظهور فعله بأمره؛ فأضيف إليه؛ كقوله تعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَاتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ} [البقرة:210]. قيل: معناه: أن يأتيهم عذاب الله، وهذا هو الأظهر، ويدل عليه الخبر [الأخير] الذي ذكرناه عن رواية النسائي.
وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يؤثر له قيام كل الليل، وبه صرح غيره.
وفي "المهذب" قال: إنه مكروه، وعليه دلت السنة؛ روى مسلم، عن عبد الله ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان؛ كان يقول الليل فترك قيام الليل"، وروى البخاري ومسلم عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: نعم. قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لنفسك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً"، ولأن الإنسان قد لا يطيق ذلك؛ فيمل، وهو منهي عنه.
روت عائشة-أنه-عليه السلام-كان يقول: "خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا"، وكان يقول:"أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وإن قل" رواه البخاري ومسلم.
[قال الأصحاب: وقوله: "لا يمل حتى تملوا" من مجاز المقابلة؛ فإن الله -تعالى- لا يوصف بالملال؛ فإنه عليه محال.
ويستحب إذا قام في الليل أن ينظر إلى السماء ويقرأ الخواتم من آل عمران؛ فإنه-عليه السلام-فعل ذلك، كما أخرجه البخاري ومسلم].
وكذا ينبغي أن يقول ما ثبت في "صحيح مسلم": أنه عليه السلام يقول إذا استيقظ من نومه: "اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض.
ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت، وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت"، وما رواه الترمذي، عن عبادة بن الصامت، عنه-عليه السلام قال: "من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير
…
" إلى آخره؛ وقد ذكرناه [من قبل].
قال: وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6] والناشئة: هي الطائفة التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض، ووطئاً، أي: أشد موافقة لما يراد في العبادة من الخشوع والإخلاص والانقطاع عن رؤية الخلائق، وقال عليه السلام:"أفضل الصلاة بعد الفرض صلاة الليل"؛ ولهذا قال العلماء: إن الليل مطية العابدين، وواحة المجتهدين.
قال الأصحاب: ويستحب له إذا فاته شيء مما يصليه في أحدهما أن يأتي به في الآخر؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62].
قال: وفعله في البيت أفضل من فعله في المسجد؛ لقوله عليه السلام: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" رواه أبو داود.
ورواية البخاري ومسلم: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا [الصلاة] المكتوبة" والمعنى فيه: أنها أبعد عن الرياء.
وروي أنه عليه السلام قال: "صلاة في مسجدي [هذا] أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا، وأفضل من هذا كله ركعتان يصليهما المرء في جوف بيته، لا يطلع عليهما إلا الله عز وجل"؛ كذا قاله القاضي
الحسين، وتبعه الإمام.
...............................................................................
....................................................................................
وهذا ما ذكره الأصحاب هاهنا، وقد قال القاضي أبو الطيب في "كتاب النذور" عند الكلام فيما لو نذر أن يصلي ركعتين في الكفر: إنه لو أخفى صلاة النافلة في المسجد كان أفضل من صلاتها في البيت؛ لأن القصد من صلاتها في البيت: الإخفاء، وهل الأفضل في الصلاة المنذورة فعلها في المسجد أو في البيت؟ فيه وجهان في "التتمة" في باب النذر.
واعلم أن الضمير في قوله: "وفعله في البيت
…
" إلى آخره، يعود إلى التطوع في الليل والنهار، وهو يفهم أن الرواتب ليست كذلك، بل فعلها في المسجد أفضل، ويدل عليه قول القاضي أبي الطيب في باب صلاة العيد: إن الشخص إذا دخل المسجد، والإمام يخطب للعيد، وقلنا: إنه يقدم تحية المسجد-فإذا فرغ الإمام من الخطبة صلى العيد في المسجد؛ لأن المساجد أفضل البقاع، نعم لو كان دخوله، والإمام في الخطبة إلى المصلي، فإنه يجلس؛ فإذا فرغ الإمام من الخطبة- تخير بين أن يصلي العيد في بيته، أو في المصلى.
وكلام غيره يفهم أن الرواتب في ذلك كالنفل.
قال: والأفضل أن يسلم من كل ركعتين؛ لأنه عليه السلام سئل كيف صلاة الليل؟ فقال: "مثنى مثنى" أخرجه مسلم.
ولأبي داود: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى".
قال: "فإن جمع ركعات بتسليمة واحدة، أو تطوع بركعة واحدة- جاز"؛ لقوله-عليه السلام: "الصلاة خير موضوع؛ فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر".
وقد روى أبو داود، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أربع قبل الظهر، لا يسلم فيهن، يفتح لهن أبواب السماء".
وحديث عائشة السالف دال على جمع أكثر من ذلك، وقد ثبت جواز إفراد ركعة في الوتر وغيرها بالقياس عليها، وقد روي عن ابن عمر أنه صلى ركعة، ثم خرج من المسجد؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: هو تطوع؛ فمن شاء زاد، ومن شاء نقص.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد نوى ركعات، أو ركعة من أول الصلاة، أو أطلق نية الصلاة ثم اقتصر على ركعات أو ركعة؛ على المذهب المشهور.
وعن المسعودي: أنه يجوز أن يجمع بين ثلاث عشرة ركعة بتسليمة واحدة، وهل يجوز أن يزيد؟ فيه وجهان. وفي "الذخائر" أن أبا الفتح سليم قال في "تقريبه": لو نوى عدداً من النوافل لا تجوز الزيادة عليه، ولم يحك سواه، ويجوز عند عقده الصلاة بركعة أن يبلغها ما شاء، لكن بشرط أن ينوي ذلك قبل الزيادة؛ فلو قام عامداً، ولم يقصد الزيادة بطلت، ولو كان ساهياً سجد للسهو.
نعم، لو أراد في هذا القيام أن يزيد على ما نواه فينبغي أن يجلس، ثم يقوم من جلوس قاصداً للزيادة.
وقيل: لا يرجع ويتمادى، وسيأتي الكلام فيه في باب: سجود السهو.
وكذا يجوز أن ينوي عدداً، ثم يقتصر منه على بعضه؛ بشرط أن ينوي الاقتصار قبل السلام؛ فإن سلم ولم يقصد التحلل: فإن كان سهواً سجد للسهو، وإن كان عمداص فقد حمله الأئمة على الكلام عمداً.
وفي "الزوائد": أن الطبري ذكر في "عدته" أنه إذا أحرم بست ركعات، أو ثمان، وسلم من اثنتين عامداً-بطلت صلاته؛ على أحد الوجهين، وإن سلم ناسياً أتمها، وسجد للسهو؛ على أحد الوجهين، ذكره شيخنا.
[ثم ما ذكرناه] من جواز الزيادة والنقص في النفل المطلق، أما الراتب فقد قال الإمام: إنه لو زاد في ركعة الفجر ثالثة بطلت؛ لمخالفته وضع الشرع.
قال: ويجوز أن يقال: تنقلب تطوعاً، أو تبطل؛ فعلى خلاف سبق في مواضع.
فرع: إذا جمع ركعات بتسليمة واحدة، وتشهد واحد- جاز، بل حكى صاحب "البيان" وجهاً: أنه لا يجوز إلا ذلك، ولا تفريع عليه.
قال القاضي الحسين: وحينئذ يسن له أن يقرأ السورة في كل ركعة، سواء كان المنوي أربع ركعات أو ستاً؛ لأن كل قومة شرعت فيها الفاتحة لا يتقدمها جلوس تشهد، يسن فيها السورة، ولو أراد أن يأتي بتشهدين:
فإن كان المنوي أربع ركعات أتى بالأول بعد الركعتين، والثاني آخر صلاته؛ فلو ترك الأول سهواً، قال الإمام: لم يسجد للسهو؛ لأن بعضية هذا التشهد لا تظهر في النفل؛ فكذلك لو تركه قصداص بعد ما نواه، وإن كان المذهب أن تارك التشهد الأوسط من الفريضة قصداً يسجد. وفي هذه الحاية قرأ السورة في الركعتين الأوليين، وهل يقرؤها في الأخيرتين؟ قال في "التتمة": فيه وجهان؛ بناء على القولين في الركعتين الأخيرتين من الفرائض.
وإن كانت الصلاة المنوية ست ركعات أتى بالأول بعد الرابعة، والآخر آخر صلاته؛ لأن التشهد الأخير لا يجوز أن يسبقه أكثر من ركعتين.
ولو صلى سبعاً جعل الأول في السادسة، والآخر في السابعة.
ولو تشهد في الصور كلها في الركعة الثانية بطلت صلاته، قاله القاضي الحسين، وفيه ما ستعرفه.
ولو أراد أن يأتي بأكثر من تشهدين، قال القاضي: فلا يجوز، وهذا ما حكاه في "التتمة"، وقال في "الفتاوي": إنها تبطل عند القيام إلى الركعة الخامسة، والعراقيون قالوا: يجوز ذلك، ويتشهد بين كل ركعتين، وهو الأولى، وقد أبداه البغوي في "فتاوي" القاضي الحسين احتمالاً، والذي حكاه الإمام أنه لو أراد أن يجلس على أثر كل ركعتين، وقد نوى عشر ركعات، وأطلق- جاز.
ولو أراد أن يجلس على أثر كل ركعة؛ فهذا فيه احتمال من جهة أنا لا نلقي صلاة على هذه الهيئة في الفرائض، وقد أقام مجلي هذا وجهاً في المسألة، وحكاه عن الأصحاب، ثم قال الإمام: والأظهر-عندي-جواز ذلك؛ فإن له أن يصلي ركعة فردة متطوعاً، وينحل عنها؛ فإذا جاز ذلك جاز له القيام عنها وزيادة ركعة أخرى عليها، وعلى هذا لو كان يصلي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، وكان يقعد للتشهد في كل ثلاث ركعات-جاز.
قال: ويسن لمن دخل المسجلد، أي: ولم يجلس-أن يصلي ركعتين تحية المسجد؛ لما روى أبو داود، عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليصل سجدتين قبل أن يجلس" وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وهذا إذا كان متطهراً؛ فإن كان محدثاً-فليقل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم]؛ فإنه قائم مقام الركعتين.
ثم ظاهر الخبر: أنه لو دخل، وصلى فيه فرض الوقت، أو سنة، أو قضاء
حصلت التحية وإن لم ينوها، وبه صرح الأصحاب، وقالوا: لو نوى الفرض والتحية لم يضره.
وقال الرافعي: ينبغي فيما إذا نوى الفريضة، ولم ينو التحية- أن يكون في حصولالتحية الخلاف السالف فيما إذا نوى غسل الجنابة: هل يجزئه عن العيد والجمعة إذا لم ينوهما؟
وكذا مفهوم الخبر: أنه لو صلى ركعة واحدة لا تتأدى التحية؛ إذ السجدة يعبر بها عن الركعة، ومن طريق الأولى عدم تأديها بصلاة الجنازة وسجود التلاوة، وقد قال القاضي الحسين: إن صلاة الجنازة هل تتأدى بها تحية المسجد أم لا؟ يحتمل وجهين؛ فإن قلنا: يجوز، تأدت بركعة واحدة من طريق الأولى، وألا فوجهان، قال: ويمكن بناء الخلاف فيها على ما إذا نذر صلاة هل يخرج بها عن موجب نذره أم لا؟
ووجه الشبه: أنه بدخول المسجد ألزم سنة التحية؛ كما أنه بالنذر ألزم فعل المنذور.
قال: وأما سجود التلاوة وسجود الشكر فيترتب على صلاة الجنازة، وأولى بعدم التأدية؛ لأن صلاة الجنازة تسمى صلاة عرفاً، ولا كذلك سجود التلاوة والشكر.
أما إذا جلس قبل الصلاة، فإن طال جلوسه فلا خلاف -عندنا- أنه يسقط. وإن قصر، قال في "الروضة": فالذي قال أصحابنا: أنها تفوت -أيضاً– فلا يفعلها.
وذكر الإمام أبو الفضل بن عبدان في كتابه المصنف في العبادات: أنه لو نسي التحيةوجلس، فذكر بعد ساعة-صلاها، وهذا غريب.
وفي صحيح البخاري، ومسلم- في حديث الداخل يوم الجمعة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب-ما يؤيده.
قال: إلا أن يدخل، وقد حضرت الجماعة، أي: ويخشى إن تشاغل بها فاتته فضيلة تكبيرة الإحرام؛ كما نبه عليه القاضي أبو الطيب غيره في كتاب
الجمعة- فالفريضة أولى؛ لقوله عليه السلام: "إذا أقيمت الصلاةفلا صلاة إلا المكتوبة" أخرجه مسلم.
فرع: مصلى العيد أطلق الأصحاب في باب صلاة العيد [القول] بأنه لا تحية لها، موجهين ذلك بأن التحية للمسجد، وليست مصلى العيد مسجداً.
وقد حكى النواوي، عن الدارمي في تحريم عبور مصلى العيد على الحائض وجهين، وأنه أجراهما في منع الكافر منه بغير إذن.
قلت: وقضية ذلك أن يجريا في تحية المسجد أيضاً، والمذهب أن هذه الأحكام لا تثبت فيها أيضاً.
قال: ويجوز فعل النوافل قاعداً، أي: مع القدرة على القيام؛ لقوله عليه السلام: "من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله [نصف أجر] القائم، [ومن صلى نائماً فله نصف القاعد"] أخرجه البخاري، ولفظ مسلم:
"صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة"، وعن عائشة قالت:"لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من صلاته وهو جالس"، وبنحوه عن عبد الله بن عمرو وجابر، أخرجهما مسلم.
وقد أفهم كلام الشيخ أنها لا تجوز مضطجعاً ولا بالإيماء، وهو أحد الوجهين في "تعليق" القاضي الحسين وغيره؛ لأن القعود ثبت رخصةً في النافلة مع الإتيان بكمال الأركان، [فإذا أراد أن يسقط جميع الأركان]؛ قياساً على القيام فقط- لم يجز، وهو أظهر في "الرافعي" في الصلاة بالإيماء، ومقابله منسوب في "النهاية" إلى الصيدلاني، ولم يحك الماوردي هاهنا غيره، وهو الأصح في "الرافعي"؛ إذا أتى بالركوع والسجود مع الاضطجاع، [وحكى عن الإمام أنه قال: ما عندي أن من] [يجوز الاضطجاع] يجوز الاقتصار على الأركان الذكرية –كالتشهد- وغيرها على ذكر القلب، وبهذا يضعف هذا الوجه من أصله، وإن التزمه من صار إليه كان طارداً للقياس، لكنه يكون خارجاً عن الضبط مقتحماً.
قال الرافعي: ولمن جوز الاضطجاع أن يقول: ما روينا من الخبر صريح في جواز الاضطجاع، فلتحريم المضطجع، وإن جوزنا له الاقتصار على الإيماء [في
الركوع والسجود فلا يلزم من جواز الاقتصار على الإيماء] في الأفعال جواز الاقتصار على ذكر القلب في الأذكار، [وبهذا يضعف هذا الوجه من أصله]؛ فإن الأفعال أشق من الأذكار؛ فهي أولى بالمسامحة، وقد أشار الإمام في موضع آخر إلى أن الخلاف في جوازها بالإيماء فقط يلتفت على إقامة النافلة على الراحلة في الحضر، ثم كيفية القعود مبينة في باب صلاة المريض.
قال الرافعي: ولا فرق في النوافل [فيما ذكرناه] بين الرواتب وغيرها.
وقال ابن كج: صلاة العيدين، والكسوف، والاستسقاء لا يجوز فعلها [عن قعود]؛ كصلاة الجنازة.
والصلاة المنذورة هل يجوز فعلها قاعداً مع القدرة [على القيام]؟ فيه خلاف مبني على أنها كواجب الشرع أو جائزه؟ نعم، لو نذر أنا يصلي أربع ركعات قائماً لزمه، ولو نذر أن يصلي النوافل قائماً هل ينعقد نذره؟ قال الصيدلاني: لا ينعقد؛ لأن فيه تغيير رخصة أثبتها الشرع.
قال الإمام: وهو حسن. وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب، ثم قال: وعندي أنه ينعقد؛ لأن القيام في النوافل زيادة طاعة، وإن رخص في تركه مع القدرة؛ كما لو نذر أن يقرأ سورة البقرة في صلاة الفرض، ينعقد نذره؛ لما في إطالة القراءة من القربة.
فرعان نختم بهما الباب:
يستحب لمن توضأ أن يصلي ركعتين بعده، وكذا يستحب لمن أذن؛ لقوله عليه السلام: "يا بلال بما سبقتني إلى الجنة؛ فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي؟ فقال: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث إلا
توضأت عنده، ورأيت أن لله علي ركعتين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
يستحب أن يصلي بين المغرب والعشاء عشرين ركعة؛ لأنه عليه السلام كان يصليها، ويقول:"هذه صلاة الأوابين؛ فمن صلاها غفر له" وكان الصالحون يصلونها ويسمونها: صلاة الغفلة، قاله الماوردي. والله تعالى أعلم.