المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صفة الصلاة - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٣

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب صفة الصلاة

‌باب صفة الصلاة

هذا الباب مسوق لبيان صفة الصلاة الكاملة الشاملة للفرض والسنة، وتفصيل ذلك يأتي في الباب بعده، وقد تعرض في هذا الباب [إلى] ما ليس بصفة للصلاة، بل هو صفة لبعض المصلين كما سنبينه.

قال: إذا أراد الصلاة، قام إليها، أي: القادر على القيام، وقعد العاجز عنه، القادر على القعود، ونحو ذلك، بعد فراغ المؤذن من الإقامة؛ لأن الإقامة بجملتها إعلام، وإنما يثبت حكمها في الإجابة إلى المدعو بعد التمام؛ [لأنه قبل التمام] مشغول بالإجابة، كما تقرر في موضعه، وهذا ما حكاه البندنيجي قبل [باب] صلاة المسافر عن نصه في "الأم"،ولفظه:"ووقت القيام إلى الصلاة وقت الافتتاح بعد فراغ المؤذن من كمال الإقامة بكل حال". [وقال الماوردي في باب الأذان: إن هذا في [حق الشاب] السريع النهضة، فأما الشيخ البطيء النهضة، فينبغي أن يقوم عند قوله:"قد قامت الصلاة"، والجمهور على عدم التفصيل].

فإن قيل: كيف يصح قول المؤذن: "قد قامت الصلاة" قبل عقدها؟

قيل: المراد: قد قارب قيامها، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234]، وقوله-عليه السلام: ["من وقف بعرفة فقد تم حجه" أي: قارب التمام، وكذا

ص: 57

..............................................................

ص: 58

..............................................................

ص: 59

قوله- عليه السلام] لابن مسعود لما علمه التشهد:"إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك"، وأراد مقاربة التمام.

وبعضهم قال: قيام الصلاة عَرْضُ مراتب الثواب ببذل الدخول فيها على ذوي الرغبات، كما يقال: قامت السوق عند الأخذ في النداء والعرض وإن [لم] يجر عقد، والعرض حاصل بالشروع في الإقامة.

ومن قول الشيخ: "بعد فراغ المؤذن من الإقامة" يُعرَف أن مراده بالصلاة: الصلاة المفروضة إذا أقيمت في جماعة؛ إذ هي التي تشرع لها الإقامة.

فرع: من دخل المسجد والمؤذن في الإقامة- قال الشيخ أبو حامد-: المستحب أن يقعد ثم يقوم إلى الصلاة؛ ليكون قيامه خالصاً للصلاة.

قال القاضي الحسين: والذي عندي أن المستحب أن يدوم قائماً حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، ولا يقعد؛ ليحوز فضيلة الانتظار للعبادة، ولأنه إذا قعد فقد ترك تحية المسجد، والسنة ألا يشتغل بشيء بعد حصوله في المسجد حتى يصلي تحية المسجد.

قال: ثم يسوي الصفوف إن كان إماماً [أي: بأن] يقول-ملتفتاً يميناً وشمالاً-: أقيموا صفوفكم، [أو سووا صفوفكم] رحمكم الله؛ لما روى أنس قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال:"أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري" أخرجه البخاري.

ص: 60

وقال عليه السلام: "سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" أخرجه البخاري ومسلم.

وقد كان لعمر قوم موكلون بتسوية الصفوف، فإذا رجعوا إليه كبر.

وهذا والذي قبله من السنن المختصة ببعض المصلين: أما الأولى؛ فلأنها تختص بمن يصلي في جماعة، ولم يكن مؤذنا، وأما الثانية؛ فلأنها تختص بالإمام، ولما كانا كذلك لم يذكرها الشيخ في الباب بعده؛ لأنه مرسوم لبيان ما يشترك فيه كل مصل، وإنما قلنا: إنه سنة؛ لأنه هيئة في سنة؛ فلا يزيد عليه.

وقد ذهب بعض أصحابنا كما قال الروياني في "تلخيصه"- إلى أنه يسوي الصفوف في آخر الإقامة، فإذا فرغ المؤن منها كبر، وهو خلاف النص.

قال: ثم ينوي المصلي الصلاة بعينها إن كانت الصلاة مكتوبة أو سنة راتبة، فإن كانت نافلة غير راتبة أجزأته نية الصلاة.

هذا الفصل يشتمل على شيئين:

أحدهما: إتيان المصلي بالنية، والأصل فيه قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم هو النية.

ومن السنة قوله-عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما [لكل امرئ] ما نوى"، أخرجه مسلم.

ومن جهة المعنى: أن الصلاة قربة محضة، فلم تصح من غير نية؛ كالصوم، والنية قد تقدم شرحها في [باب] صفة الوضوء، وشرطها: العلم بالمنوي؛ إذ لا يصح قصد الشيء ما لم يعرف، فلو نوى الشخص الصلاة، ولم يعرفما يفعل فيها، لم تصح.

ص: 61

نعم: لو عرف جملة أفعالها، لنكه اعتقد أن جميعها فرض، صحت.

قال في "التتمة": لأن النفل يتأدى بنية الفرض.

وفيه وجه: أنها لا تصح، حكاه البغوي.

وادعى القاضي الحسين في أول "تعليقه": أنه المذهب [الصحيح]، وهو مستمد –كما قال غيره-مما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال.

ولو عرف جملة أفعالها، لكنه لم يعرف أبعاضها وأركانها وسننها وهيآتها، فهل تصح؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين":

أحدهما: لا، كما لو جهل فرضية أصل الصلاة، وهذا ما حكى في "الروضة" القطع به، وعزاه إلى القاضي الحسين والمتولي والبغوي.

والثاني: نعم؛ لأن هذا مما يشتبه على العوام، ويخفي على أكثر الناس، ولو لم تصح صلاتهم أدى ذلك إلى الفساد، بخلاف الجهل بفرضية أصل الصلاة؛ فإنها لا تخفى إلا على حديث عهد بالإسالم.

وعن "فتاوي الغزالي": أنه يصح بشرط إلا يفعل ما هو فرض بقصد النفل، فإن فعله بذلك لم يعتد به، وإن غفل عن التفصيل أجزأه.

ومحل النية القلب -[قيل]-: ولأجل ذلك سميت: نية؛ لأنها تفعل بأنأى عضو في الجسد، وهو القلب، والله أعلم.

الثاني: ما ينوي من الخصوصيات، والعلة فيه: أن النية شرعت؛ لتمييز رتب العبادات من العادات، أو تمييز رتب العبادات، والصلاة [مراتب]: فرض، وسنة مقيدة، وسنة مطلقة؛ فلذلك احتاجت الصلاة المكتوبة، والسنة المقيدة-التي عبر عنها الشيخ بالراتبة- إلى التعيين، وكفى في النافلة المطلقة نية الصلاة؛ لأن بها يتحقق كون الفعل قربة، ولا خصوص لها يفتقر إلى أن يخصه بالقصد.

ص: 62

وحينئذ فينوي في المكتوبة فعل الظهر، والعصر، ونحو ذلك.

[ولا فرق بي أن يكون بالغاً أو صبياً، كما حكاه ابن الصباغ قبل صفة الصلاة].

ولا يقوم مقام ذلك نية فرض الوقت على أصح الوجهين في "التهذيب"؛ لأن من قضى فائتة في قوت الظهر والعصر ونحوها، كانت فرض ذلك الوقت؛ لقوله-عليه السلام:"فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره".

ووجه مقابله: أن الحالة تصرف فعله إلى الأداء، دون القضاء.

وفيما ينويه في الجمعة كلام يأتي في بابها.

وينوي في السنة الراتبة في صلاة عيد الفطر سنة عيد الفطر، وفي عيد الأضحى: سنة عيد الأضحى، وفي الوتر عند إتيانه بالركعة المفردة: الوتر، وفيما ينويه عند إتيانه بالشفع قبلها خلاف يأتي في موضعه، وفي ركعتي الفجر: سنة الفجر، أو سنة الصبح، وقبل الظهر وبعده:[سنة الظهر]، وكذا قبل العصر: سنة العصر، ونحو ذلك، وفي رمضان: قيام شهر رمضان، وعند الضحى: ركعتي الضحى أو سنة الضحى، وفي النافلة المطلقة ينوي فعل الصلاة فقط.

وقد اقتضى كلام الشيخ أموراً:

أحدها: أنه لايحتاج مع تعيين المكتوبة-كما ذكرنا-إلى شيء آخر، سواء كانت المكتوبة أداء أو قضاء، أتى بها في وقت مكتوبة أخرى، أو في مثل وقتها، وهو وجه للأصحاب، ورواءه وجوه:

أحدها-قاله أبو إسحاق المروزي-: أنه لابد مع التعيين في القضاء والأداء من وصف الصلاة بكونها فرضاً؛ لتتميز عن صلاة الصبي والصلاة المعادة في جماعة، وقد حكاه الإمام عن صاحب "التلخيص" أيضاً، وقال الرافعي: إنه الأظهر عند الأكثرين [قال الرافعي عند الكلام في نية الوضوء] وهو يجري في سائر العبادا، -أي: المفروضة-والبندنيجي والماوردي وغيرهما قالوا: إنه لا يجري في الحج

ص: 63

والعمرة والطهارة؛ لأنه لو غير ذلك إلى نفل لانعقد بالفرض دون النفل، وقد حكاه الإمام ونسبه إلى العراقيين، ولم يحك غيره.

قال في "التتمة": وعلى هذا إذا نوى فرض صلاة الظهر أجزأه، وإن نوى فرض الظهر، فوجهان:

وجه المنع: أن الظهر اسم للوقت، لا للعبادة، وكلام غيره يقتضي الجزم بمقابله.

وما أفهمه كلام الشيخ من عدم اشتراط التعرض [للفرضية]، قد قال ابن أبي هريرة: وهو الأصح في "تلخيص الروياني"، والمختار في "المرشد".

ووجهه: أن الظهر ونحوه من المكلف الذي هو مخاطب بفعله، لا يكون إلا فرضاً، وحينئذ فقد تضمنت نيته الفرضية؛ فلا حاجة للتعرض لذلك قصداً، وصلاة الصبي حجة لنا؛ لأن الشافعي نص على أنه إذا صلى في أول الوقت، وبلغ في آخره أجزأه وإن لم ينو الفرض.

ومن يعيد الصلاة في جماعة، ينوي الفرضية على الصحيح -كما قال الرافعي من بعد- فلا حاجة [إلى] الاحتراز عنه.

قال بعضهم: ووجه أبي إسحاق يجري في صلاة الجنازة والمنذورة؛ إن قلنا: [إنه] يسلك بهما مسلك واجب الشرع، ومثلهما يأتي في التعرض في النافلة

ص: 64

الراتبة للنفلية، وعليه دل اختلاف كلام الناقلين كما قال الرافعي، وقد اعترض على قول أبي إسحاق فقال: إن عني بالفريضة في هذا المقام كونها لازمة على المصلي بعينه، وجب ألا ينوي الصبي الفريضة بلاخلاف، والأئمة لم يفرقوا بين الصبي والبالغ، بل أطلقوا الوجهين.

وأيضاً: فإنهم قالوا فيمن صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة [يصلون: الصحيح] أنه ينوي بالثاني الفرض، وهو غير لازم عليه.

وإن عني كون الصلاة من الصلوات اللازمة على أهل الكمال [فمن ينوي الظهر أو العصر [فقد] تعرض لأحد الصلوات اللازمة على أهل الكمال]، وكونها [ظهراً] أخص من كونها صلاة لازمة عليهم، والتعرض للأخص يغني عن التعرض للأعم.

وإن عني بالفريضة شيئاً آخر، فليلخصه أولاً، ثم يبحث عن لزومه.

قال: وبهذا كان التعرض للصلاة مغنياً عن التعرض للفريضة ونحوها من الأوصاف، والله أعلم.

ص: 65

الوجه الثاني: قاله الشيخ أبو حامد وغيره: أنه لابد من التعرض في الأداء [للأداء]، وفي القضاء للقضاء؛ لتميز أحدهما عن الآخر؛ فإن لكل واحد منهما رتبة عند الله تعالى.

وبعضهم ينسب إليه وجوب التعرض للقضاء، ويسكت عن التعرض للأداء، وقد حكاه البندنيجي هكذا عن نص الشافعي في "الأم"، ولم يحك غيره.

وادعى الإمام أن ذلك في الحالين أصل متفق عليه، ولا جرم لم يورد في "الوسيط" غيره.

وما اقتضاه كلام الشيخ هو ما اختاره القاضي أبو الطيب وصاحب "المرشد"؛ [لأنه] إذا نوى الظهر مثلاً، فقد نوى صلاة وقت بعينه فكيفما وقع قضاء أو أداء أجزأه، ويشهد له أن الشافعي نص في المجتهد في وقت الصلاة والأسير في رمضان إذا وافق فعلهما ما بعد الوقت، أجزأه عن القضاء وإن كان قد نوى الأداء، وكذا نص فيمن ظن خروج الوقت؛ فنوى القضاء، ثم بان أن الوقت باق- يجزئه عن الأداء وقد نوى القضاء. ولو كان تعيين الأداء والقضاء شرطاً، لما اغترف عند

ص: 66

الجهل؛ كتعيين الصلاة ظهراً أو عصراً.

قال الروياني في "تلخيصه": وعلى الوجهين يتخرج ما لو كان عليه [ظهر] قضاء، فأحرم في وقت الظهر بأربع ركعات نوى بها الظهر، ثم صلى ثانياً أربع ركعات نوى بها الظهر- فعلى رأي الشيخ أبي حامد: لا تجزئه واحدة منهما، وعلى رأي القاضي: تجزئه عنهما.

ومن رأى من الأصحاب أن خلاف الشيخ أبو حامد خاص بالقضاء، قال في هذه الصورة: تقع الصلاة الأولى عن فرض الوقت؛ لأن الحالة تصرفها إليه، والثانية لم تصح؛ لعدم التعرض للقضاء.

قال في "الشامل": ويرد على ما قاله القاضي: أنه لو كان عليه فائتة الظهر، فصلى الظهر قبل الزوال، وهو يعتقد أن الوقت قد دخل، ولم يكن قد دخل- فإن قياس قوله: أن تجزئه عن فائتة الظهر. يعني: وهي لا تجزئه، بل تنقلب نفلاً، كما ستعرفه.

والماوردي جزم القول بأنه إذا كان عليه صلاة ظهر فائتة وصلاة الوقت، فأوقع أربع ركعات بنية الظهر- لا تصح ما لم ينو ظهر يومه أو القضاء.

ثم القائلون بطريقة أبي حامد اختلفوا فيما ينويه عند أداء فرض الوقت:

فمنهم من قال: ينوي أداء الظهر أو أداء فرض الظهر، إن اعتبرنا نية الفريضة أيضاً، وهو ما حكاه الشيخ أبو محمد عن القفال.

ومنهم من قال: [إنه] لابد أن ينوي الظهر فرض الوقت؛ لأنه قد يعبر بالأداء عن القضاء؛ فإنك تقول: أديت الدين؛ إذا قضيته.

وقال الإمام: إن من اعتقد مثل هذا خلافاً، فليس على بصيرة في الإحاطة بالغرض؛ لأن الألفاظ ليست مجزئة في غرضنا، والمقصود العلوم بالصفات، فإذا حصلت العلوم بحقائق صفات المنوي، فهو الفرض، ثم يقع تجريد القصد إلى ما أحاط به العلم، وإذا لاح هذا فالتناقش في العبارات تخييل خلاف لا حاصل له، ومن هاهنا صح للرافعي سؤال على أصل مقصود في نفسه له تعلق

ص: 67

بما نحن فيه، وهو أن القضاء: هل يصح بنية الأداء، والأداء هل يصح بنية القضاء؟ فيه وجهان حكاهما المتولي تبعاً للقاضي الحسين:

أحدهما: لا؛ لما بينهما من التغاير.

وأصحهما: عند الأكثرين- كما قال الرافعي-: الجواز؛ لأن الأداء يعبر به عن القضاء- كما ذكرنا- والقضاء يعبر به عن الأداء، قال الله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي: أديتموها.

قال المتولي: وهذا ظاهر نصوص الشافعي، وذكر ما حكيناه من الاستشهاد لقول القاضي أبي الطيب من قبل.

قال الرافعي: ولك أن تقول: الخلاف في أن نية الأداء [هل تشترط في الأداء؟][ونية القضاء] هل تشترط في القضاء-منقدح، والخلاف في أن الأداء يصح بنية القضاء، وبالعكس، إن عنيت به ما إذا تعرض في الأداء لحقيقته، ولكنه جرى في قلبه أو على لسانه لفظ القضاء، وفي القضاء تعرض لحقيقته، ولكنه جرى في قلبه أو على لسانه لفظ الأداء-فينبغي أن يقطع بالصحة؛ لأن الاعتبار في النية بما في الضمير ولا عبرة بالعبارات. وإن عنيت به ما إذا تعرض في الأداء لحقيقة القضاء، وفي القضاء لحقيقة الأداء- فلا ينبغي أن يقع نزاع في المنع؛ لأن قصد الأداء مع العلم بخروج الوقت، والقضاء مع العلم ببقاء الوقت هزو وعبث؛ فوجب ألا ينعقد به [الصلاة]؛ كما لو نوى الظهر ثلاث ركعات أو خمساً. وإن عنيت به أمراً آخر فبينه.

قلت: وهذا السؤال متجه، ولا يقال: إن ذكره إنما يتم إذا كان صورة محل الخلاف فيمن تعمد ذلك مع العلم بالوقت.

ص: 68

وكلام المتولي يقتضي أن محله إذا جزم به مع ظنه بقاء الوقت أو خروجه؛ ألا تراه قال: إن وجه الصحة هو ظاهر النص؛ لأجل ما ذكره الشافعي في مسألة الأسير [ونحوها، بل يتعين [أن يكون محله ما إذا فعل ذلك مع العلم ببقاء الوقت] أو خروجه، وألا لزم أن يكون في مسألة الأسير] خلاف في الصحة، ولا قائل بعدم الصحة فيها، وإنما الخلاف بين الأصحاب في أن ما يفعله خارج الوقت باجتهاده هل يكون قضاء أو أداء؟

نعم: قد يقال في الجواب: إنهم عنوا الحالة الأولى، وهي ما إذا أراد شيئاً فسبق لسانه إلى غيره، وسنذكر خلافاً في أن التلفظ بما يجب أن ينويه في الصلاة هل يجب قبل تكبيرة الإحرام أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب؛ فلا وجه لإجراء الخلاف كما قال. وإن قلنا: يجب وإن نية الأداء والقضاء لابد منهما، فحينئذ ثار الخلاف: فمن قائل: لا يجزئه؛ لأنه لم يتلفظ [بما وجب عليه أن ينويه، وهو شرط.

ومن قائل: إنه يجزئه]؛ لأن أحد اللفظين يعبر به عن الآخر؛ فكأنه نطق به، ولما كان الصحيح عدم اشتراط النطق بالمنوي، كان الصحيح صحة القضاء بنية الأداء والعكس، والله أعلم.

ثم الخلاف الذي حكيناه عن الشيخ أبي حامد والقاضي في المكتوبة جار في السنة الراتبة [كما قاله الأصحاب.

[قلت:] ولعل ذلك تفريع منهم على] القول بأنها تقضي، أما إذا قلنا: لا تقضي، فيظهر أنه لا يحتاج إلى التعرض للأداء؛ إذ لا شيء غيره حتى يحترز عنه.

الثالث -قاله ابن القاص-: أنه لابد من التعرض إلى الإضافة إلى الله تعالى، وقد توجه بقوله تعالى:{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الأعلى: 19، 20].

وجه الدلالة [منه]: أنه أخبر أن المجازاة لا تقع بمجرد الفعل حتى يبغي به

ص: 69

الفاعل وجه الله تعالى بإخلاص النية؛ وهذا الوجه قال الغزالي في باب صفة الوضوء: إنه يجري في سائر العبادات.

ووجه ما أفهمه كلام الشيخ وهو اختيار الأكثرين كما قال الرافعي: أن العبادة من مسلم لا تكون إلا لله تعالى، ومصداق ذلك قول الشافعي حين لم يشترط التسمية على الذبح:"اسم الله تعالى على قلب المسلم سمى أو لم يسم".

الرابع -قاله بعض الأصحاب-: أنه لابد من التعرض لعدد الركعات، وبعضهم أضاف إلى ذلك التعرض لاستقبال القبلة، وجعل ذلك وجهاً واحداً.

والفوراني ومن تبعه جزم القول بأن التعرض لعدد الركعات لا يجب، وحكى وجهاً في وجوب التعرض للاستقبال، وغلطه الإمام فيه، والفوراني نفسه استبعده، وهو مع ضعفه جار في النافلة [الراتبة]، وكذا يجري الوجه لوجوب التعرض للاستقبال فقط في النافلة المطلقة.

الخامس- قاله [أبو] عبد الله الزبيري من أصحابنا، كما قال الماوردي وغيره-: أنه يشترط النطق بما ينويه في كل صلاة؛ ليساعد اللسان القلب؛ أخذاً من قول الشافعي: "ومن نوى حجا أو عمرة، [أجزأه] وإن لم يتلفظ به، وليس كالصلاة".

قال البندنيجي: وهذا إنما يتصور إذا نطق قبل التكبير، ثم كبر ناوياً.

وقد اتفق الأصحاب على تغليطه؛ فإن مراد الشافعي: أن الحج والعمرة لا يتوقف انعقادهما على النية والتكبير.

نعم: يستحب أن يساعد اللسان القلب.

ولا خلاف أنه لا يشترط التعرض لليوم في الصلاة، فلو تعرض له فإن كان في القضاء مثل أن نوى ظهر يوم الخميس [مثلا]، فكان عليه ظهر يوم غيره، لا يجزئه، ولو كان ذلك في الأداء فقال: أصلي ظهر اليوم يوم كذا، وكان غيره-لا يضر ذلك؛

ص: 70

لأن تعيين الوقت من الصلاة.

قال في "التتمة": فإذا عرفت ما ذكرناه، عرفت أن الحالة الكاملة في المكتوبة: أن ينوي صلاة الظهر أداء فرضاً أربع ركعات مستقبل القبلة لله تعالى، [وينطق بذلك قبل] والتكبير.

الأمر الثاني: أنه يكفي في تحية المسجد وصلاة الكسوف [والخسوف] والاستسقاء وركعتي الإحرام وركعتي الطواف إذا لم نقل بوجوبهما، ونحو ذلك: نية الصلاة؛ لأنها نافلة غير راتبة؛ فإن الراتب ما كان له وقت معلوم: كتوابع الفرائض، والعيد، والضحى، وقيام رمضان، وهذه الصلوات لا وقت لها، وهذا يظهر لك من قول الشيخ في باب صلاة التطوع:"ومن فاته من هذه السنن الراتبة شيء قضاه في أصح القولين".

ولا شك في أن تحية المسجد تحصل بمطلق نية الصلاة؛ لأن المقصود منها شغل البقعة قبل الجلوس بصلاة كيف كانت، وقد حصل، وأما ما عداها [مما ذكرناه] ونحوه فلا يحصل مقصوده ما لم يعين الصلاة، [فينوي سنة] صلاة كسوف الشمس، وخسوف القمر، والاستسقاء، وركعتي الإحرام، وركعتي الطواف، كما ينوي ركعتي الفجر، صرح بذلك الأصحاب.

وحينئذ فالعبارة السديدة في ذلك أن يقال: وينوي الصلاة بعينها إن كانت الصلاة مكتوبة أو نافلة مقيدة، وإن كانت نافلة غير مقيدة أجزأته نية الصلاة، وهي عبارة ابن الصباغ، وقد أبدى لنفسه احتمالاً في بعض الرواتب، فقال: "عندي أن السنن التابعة للفرائض لا تفتقر إلى [تعيين النية؛ لأن فعلها قبلها وبعدها يعينها. نعم: ركعتي الفجر لابد فيهما من] التعيين؛ فإنها تفعل سابقة للصلاة في أول طلوع الفجر وإن صلى الفرض في آخره، وكذا يصليها-أيضاً- بعد الفريضة إذا تركها.

وهذا الاحتمال أقامه الروياني في "تلخيصه" وجهاً في المسألة. ولا جرم حكاه

ص: 71

الرافعي وجهاً عن الأصحاب، ولم ينسبه لأحد، وهذا لا وجه له، فإن فعل الصلاة نفلاً مطلقاً قبل فعل الظهر وبعده وقبل صلاة العصر وبعد صلاة المغرب والعشاء -جائز، فكيف ينصرف ما أتى به بنية الصلاة المطلقة إلى الراتب، خاصة ونحن لا نكتفي في صوم رمضان بمطلق نية الصوم وإن كان الوقت لا يقبل غيره؛ لاحتمال أن ينوي غيره؛ فلا يصح واحد منهما، فكيف بك هاهنا مع أن غير السنة الراتبة تصح فيوقتها.

وما فرق به بين الفجر وغيره من الرواتب لا يصلح أن يكون فارقاً؛ لأن سنة الظهر التي [قبله كركعتي] الفجر يجوز فعلها [بعده]، وعلى ما ذكره يقتضي أن تكون ركعتا الفجر عند إطلاق نية الصلاة أولى بالحصول؛ لأن [فعل النفل] المطلق قبل الصبح وقبل صلاة الفجر لا يجوز على وجه ادعى هو: أنه ظاهر المذهب، وبعد صلاة الصبح لا يجوز بلا خلاف؛ فكان حمل مطلق الصلاة في هذين الوقتين على ما يسوغ- وهو ركعتا الفجر- أولى من حملها على النفل المطلق؛ فإن الغالب من المتعبد قصد ما ليس بمكروه.

الأمر الثالث: أنه في النافلة غير الراتبة إذا أتى بالنية المطلقة فعل ما شاء، وهو الصحيح من المذهب، ولم يحك القاضي الحسين غيره.

وعن الشيخ أبي محمد: أنه يصلي أربع ركعات وما دونها، وفي الزيادة عليها تردد.

وقيل: يقتصر على ركعتين.

وقيل: بل على ركعة؛ لأنها أقل صلاة عندنا.

وما عدا الأول ليس بشيء؛ لأنه مع تعيين عدد الركعات له أن يبلغها ما شاء، وكذا عند الإطلاق. نعم: إن كان المخالف يقول: إنه عند إطلاق النية إذا نوى في

ص: 72

أثناء الصلاة أن يبلغها [أكثر ما] له الاقتصار عليه يجوز أن يفعله كما قلنا عند تعيين العدد، فلما قاله وجه.

قال الإمام في كتاب الاعتكاف: والقياس الأول، وهو ما رأيت لشيخي القطع به، والله أعلم.

قال: وتكون النية مقارنة للتكبير، لا يجزئه [غير ذلك].

هذا الفصل يتضمن حكمين:

أحدهما: أن التكبير لا تنعقد الصلاة بدونه، والدليل عليه قوله عليه السلام للمسيء في صلاته:"إذا قمت إلى الصلاة فكبر" رواه البخاري ومسلم، وسنذكر [تتمته]، وقوله عليه السلام:"مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" رواه أبو داود.

ص: 73

قال الترمذي: وهو أصح شيء روى في هذا الباب.

ووجه الدلالة منه: أن ظاهره للحصر؛ فإن العرب تفرق في لغتها بين قول القائل: زيد صديقي وبين قوله: صديقي زيد، في اقتضاء حصر الصداقة في [زيد في] الصورة الثانية دون الأولى، ونظير قولهم في الأولى، ونظير قولهم في الأولى:"التكبير تحريمها"، ونظير قولهم في الثانية:"تحريمها التكبير".

والفرق من حيث المعنى: أن المبتدأ ينبغي أن يكون معلوماً للسامع؛ ليصح أن يسند إليه من الخبر ما لعله مجهول للسامع، فالمبتدأ معتمده البيان، والخبر معتمده الفائدة، فإذا قلت:"زيد صديقي" فـ"زيد" معلوم، والصداقة في زعم المخبر هي المجهولة للسامع، فأثبتها له بخبره، وإذا قلت: صديقي زيد، فالصداقة معلومة، والمجهولمحلها، فإذا كان محلها زيداً وغيره، [لم] يحسن الاقتصار على زيد، وهذا معنى ما أبداه الإمام.

قال بعضهم: وتمام التقريب فيه: أن المبتدأ لا يصح أن يكون أعم من الخبر، فلو كانت الصداقة ثابتة لزيد وغيره، لكان أعم، ولا يصدق مع العموم كقولك: الحيوان إنسان، وكذلك تحرمي الصلاة لو صح بغير التكبير، لكان التحريم ثابتاً معه وبدونه، فيكون أعم من خبره، ولا يقال: إنا نجعل "تحريمها" خبراً مقدماً، والمبتدأ هو "التكبير"، وحينئذ يكون الخبر هو الأعم؛ لأن المبتدأ والخبر متى كانا بحيث يصح أن يكون كل واحد منهما خبراً عن الآخر: كقولك: زيد أخوك، وأخوك زيد- فإنه يجب فيه حفظ الترتيب؛ دفعاً للبس، وما نحن فيه كذلك.

و [الحكم] الثاني: بيان زمان النية في الصلاة، ودليله: أن التكبير أول أفعال العبادة؛ فيجب أن تكون النية مقارنة له؛ كما في الحج وغيره، وخالف هذا الصوم؛ لأنه يدخل فيه بغير فعله؛ فتشق مراقبة أوله، ولا كذلك الصلاة؛ فإنه يدخل فيها بفعله؛ فلا تشق عليه المراقبة، ولا ترد الزكاة والكفارة حيث جوزنا تقدم النية عليهما على وجه؛ لأن [النيابة تجوز فيهما؛ لمشقة تولي ذلك بالنفس، وحينئذ لم

ص: 74

يكن بد من تقديم النية عليهما؛ لأن] في اتفاق إجرائها على نية الموكل تغريراً بماله؛ فلهذا أجزنا تقديم النية.

فإن قيل: قد جوزتم النيابة في الحج، ولم تجوزوا تقدم النية.

[قلنا: في الحج العبادة فعل النائب، وذلك لا يكون عباد إلا بالنية]، وإذا لم ينو عن غيره وقع عن نفسه؛ فاعتبرت نيته عن المنوب عنه، وهاهنا إنما الواجب هو المال، وهو مال المنوب عنه.

ولأن الحج ليس فيه تغرير بماله، بخلاف الزكاة.

ثم مقارنة الشيء للشيء تكون حقيقة إذا انطبق أوله على أوله وآخره على آخره، وقد قال بذلك بعض الأصحاب هاهنا فاشترط أن يكون أول النية مع أول التكبير، وآخرها مع آخره؛ أخذاً بظاهر قول الشافعي:"وينوي صلاته مع التكبير لا قبله ولا بعده"، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه وغيره.

[و] قال الفوراني والمسعودي: إنه قول المتقدمين من مشايخنا، ولم يورد الغزالي في "الخلاصة" غيره، وهو ظاهر كلام الشيخ، وعبارة بعضهم في حكاية ذلك: أنه لو وزع النية على حروف التبكير فقرن أولها بأوله وآخرها بآخره جاز.

قال الروياني في "تلخيصه": وهذا قول أصحابنا المتقدمين.

والمذهب الصحيح: أنه لا يجوز ذلك، وكذا قاله القاضي الحين، وهو المحكي في "الإبانة" عن القفال، لكن بين القاضي والقفال اختلاف في علة عدم الجواز:

فالقاضي يقول: إنما لم يجز ذلك؛ لأنه حينئذ يفتتح التكبير، ولم يوجد منه جميع النية؛ فقد خلا بعض التكبير وهو من أركان الصلاة عن النية الكاملة؛ فلا يجوز، كما لو نوى بعد التكبير.

والقفال قال: لأن النية ليست شيئاً يمتد، أي: حتى يكون لها وسط وأول وآخر وجريان في الضمير على ترتيب، وإنما هي قصد واقع في آن أو لحظة واحدة لا يتصور بسطها.

ص: 75

نعم: الفعل المنوي قد شرطنا أن يكون الناوي حال النية عالماً به وبصفاته، وحصول العلوم بذلك يكون واقعاً في أزمنة في العادة، فإذا حضرت في الذهن، ولم يقع الذهول عن أوائلها توجه القصد إلى العلوم بصفاتها في لحظة واحدة، بلا ترتيب ولا استرسال.

وما قاله القفال حسن لا شك فيه، وعلى هذا قول الشافعي:"لا قبله ولا بعده" محمول على ما إذا نوى قبل التكبير، [واستحضر ذلك [ذكراً] إلى أن فرغ من التكبير]؛ صرح بذلك الشيخ أبو علي السنجي، وأبو منصور بن مهران شيخ أبي بكر الأودني، وغيرهما، واختاره القاضي الحسين والمسعودي والفوراني، وإنما كان كذلك حذراً من أن يتأخر أول النية عن أول التكبير.

وقولنا: يستحضر ذلك ذكراً، [احترزنا به] عما إذا استصحب ذلك حكماً؛ فإنه لا يكفي، وإنما يكتفي به بعد الفراغ من التكبير إلى آخر الصلاة.

وقد وافق هؤلاء القفال على اشتراط تقديم النية على أول التكبير، خالفهم في اشتراط استصحابها إلى آخره، وقال: يكفي أن يكون مستحضراً لها في أوله، ولا يضر

ص: 76

عزوبها في آخره، كما في غسل الوجه في الوضوء، يكفي اقتران النية بجزء من الوجه، ولا يضر عزوبها عند غسل باقيه؛ ولأنا لو قلنا: إنه يلزمه استصحابها ذكراً إلى الفراغ منه، لكان ذلك تكراراً للنية، وذلك لايجب عليه، كما لا يلزمه ذلك إلى آخر الصلاة.

قال القاضي الحسين: وهذا لا يصح، بل الصحيح ما قاله الشيخ أبو علي؛ لأن الواجب عليه أن يأتي بالنية عند [افتتاح الصلاة] إلى أن تنعقد له الصلاة، وإنما تنعقد له إذا فرغ من التكبير دون ما إذا أتى ببعضه، وبهذا خالف غسل جزء من الوجه؛ لأن الوضوء انعقد بغسل ذلك الجزء؛ فإنه محسوب من وضوئه.

قلت: وإلزام التكرار وارد على القفال؛ فإنه شرط التقدم والاستمرار ذكراً حتى يأتي بجزء من التكبير، وخالف تمام التكبير تمام الصلاة حيث لا يعتبر فيها الاستصحاب ذكراً؛ لأن ذلك يشق، ولا مشقة في استصحابها ذكراً إلى أن يفرغ التكبير.

ولأن المصلي مندوب إلى التفكر في قراءة صلاته، ومع ذلك لا يمكن استحضار النية.

قال الأصحاب: ويؤيد الفرق بين [الحالين] أن المتيمم لو رأى الماء قبل الفراغ من التكبير، بطل تيممه، دون ما إذا رآه بعد فراغه، والصلاة مما يسقط فرضها بالتيمم.

وقد حصل مما ذكرناه في المسألة ثلاثة أوجه ليس [منها شيء] في طريقة العراق، والذي ذكروه وتابعهم القاضي الحسين في أثناء الباب والصيدلاني -كما قال الإمام-: أنه يجوز أن يقدم النية على التكبير، ويستصحبها ذكراً إلى أن يفرغ منه، ويجوز أن يقرنها بأول جزء منه، ويستصحبها ذكراً إلى أن يفرغ منه، وحملوا نص الشافعي على ذلك، فهم فيه موافقون لجمهور المراوزة في اشتراط الاستدامة ذكراً إلى آخر التكبير، ومخالفون لهم في عدم اشتراط التقدم على التكبير، [و] لكنه مستحب عندهم؛ فإن لم يفعله جاز، والمراوزة لا يجوزون ذلك، ويقولون: لا تنعقد الصلاة بدونه، كما صرح به الإمام، وعليه ما سلف.

وأجاب القاضي الحسين عن ذلك حين وافق العراقيين في عدم اشتراط التقدم بأن

ص: 77

النية من أركان الصلاة، وأركانها لا تنفصل، ولا تتقدم ولا تتأخر؛ وبذلك يحصل في المسألة أربعة أوجه: أضعفها بالاتفاق الأول، ويليه في الضعف ما صار إليه القفال، والأخيران متعادلان؛ لأن الشيخ أباً علي في طائفة رجح اشتراط التقدم، والعراقيون في طائفة رجحوا وجه التخيير.

ونظير الوجهين ما ستعرفه في صفة الحج في محاذاة الحجر: فقوم يشترطون أن يتقدم الشق الذي يجب به المحاذاة على أول جزء من الحجر حتى يمر كل جزء منه على جميع الحجر.

وقوم يكتفون بأن يقع جملة الشق في مقابلة جملة الحجر، وهو الموافق لقول العراقيين.

ثم ما ذكره العراقيون هنا من التخيير يرجع حاصله إلى أن الواجب اقتران النية بأول جزء من التكبير، واستصحابها ذكراً إلى آخره، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه إذا اقتصر عليه أجزأه، وإذا قدم النية على التكبير استصحبها ذكراً إلى آخره، فالمقارنة ثابتة، وهي المعتد بها دون ما قبل التبكير؛ بدليل أنه لا يضر تركه، لكن على هذا شيء سنذكره وجوابه.

[ثم] على هذا ينبغي أن يحمل ما ذكره الشيخ من المقارنة، وإن كان ظاهره يقتضي الانبساط كما ذكرناه عن المتقدمين من المراوزة؛ إذ هو الحقيقة، لكن الحقيقة قد يعدل عنها؛ [للقرينة، ويتعين العدول عنها] إلى المجاز عند عدم إمكان العمل، وما نحن يه كذلك؛ لما أسلفناه عن القفال من أن النية لا تقبل البسط.

والإمام لما رأى ذهاب المتقدمين من الأصحاب وشيخه إلى القول بتوزيع النية على التكبير مع أنها لا تقبل ذلك-احتاج إلى تأويله وتأويل كل قول أيضاً، فقال: مرادهم من اشتراط بسط أجزاء النية على أجزاء التكبير: بسط أزمنة العلوم -أي: بالمنوي- وهي الأفعال الموصوفة؛ فيبتدئ باستحضار العلوم من: نوع الصلاة، وكونها ظهراً أو عصراً، ونحو ذلك مع التكبير، ثم يقدر تمام حصولها مع أجزاء التكبير، وعند ذلك يجرد القصد إلى ما حضر من العلوم به؛ فينطبق هذا القصد على أجزاء التكبير؛ إذ هو حالة العقد.

ص: 78

ثم قال: ولا يبعد على هذا أن يجوز هذا القائل إخلاء أول التكبير عن افتتاح العلوم بالمنوي إذا كان يتأتى يطبق القصد على أول وقت العقد.

قال: ومن اشترط تقديم النية على التكبير فمقصوده: أن يقدم العلوم بما ينويه قبل التكبير، ثم ينطبق القصد على أول التكبير؛ فنه أول الصلاة، فإن خلا عن القصد لم يصح.

قال: ومن خير بين التقديم والتأخير آل حاصل كلامه إلى أن التخيير يكون بين إطباق القصد على أول التكبير، وبين إطباقه على أول العقد، لكن مساق هذا التقدير ألا يشترط القائلون باشتراط تقديم النية أو بالتخيير استدامتها ذكراً بعد اقترانها بأول التكبير إلى آخر التكبير كما صار إليه القفال، وقد قالوا: إنه يجب أن يكون مستديماً للنية جملة إلى الفراغ من التكبير.

ولا جرم قال الإمام: إن إيجاب استدامة النية إلى آخر التكبير قول [من لم] يحط بحقيقة النية؛ فإن من ضرورة تقديم النية-أي: بالتفسير الذي ذكرناه- أن تنطبق النية على أول التكبير، والمقدم هو العلوم، ثم إذا حضرت العلوم، ووقع القصد، ليس ما يدام نية، وإنما هو ذكر النية، وذكر النية علم بأنها وقعت كما وصفنا وقوعها، وحينئذ فالمراد: دوام العلم بأنه صدر منه النية.

والقفال حيث اكتفى بالمقارنة لم يشترط دوام العلم بها إلى أن ينقضي التكبير، ولم يتفطن لهذه الدقيقة من الفقهاء غيره.

قلت: وهذا السؤال بعينه يرد على ما ذكرناه أن حاصل مذهب العراقيين يرجع إليه، وقد أجيب عنه بأن المراد من استدامة النية جملة إلى الفراغ، ذكر يجدد قصداً بعد قصد إلى آخر التكبير من غير تخلل زمان، وكما لا يمتنع استمرار العلوم بمعنى تجددها شيئاً فشيئاً بزعمه، لم يمتنع ذلك في المقصود، وحينئذ يستقر ما ذكرناه من التأويل، لكن الشيخ تقي الدين بن الصلاح ادعى أن هذا التأويل فاسد؛ لأن تجديد [النية] الثانية يتضمن إبطال الأولى على ما عرف فيمن كبر في إحرامه للصلاة تكبيرات بنيات متباينات؛ إذ من ضرورة إنشاء عقد حل ما انعقد

ص: 79

قبله؛ لأن المنعقد لا ينعقد؛ فكيف يستقيم إلحاق النيات بالعلوم المتواترة؟!

قلت: وهذا فيه نظر: لأن النية الأولى في مسألتنا قبل تمام التكبير لم تتم، وتمامها موقوف عند هذا القائل على تكرارها؛ ولهذا لم يحكم بانعقاد الصلاة قبله، وإذا كان كذلك، فلا يجوز أن يجعل ما يتم به الشيء مبطلاً له، ولا كذلك في الصورة المستشهد بها؛ فإن النية فهيا قد تمت، وانعقدت الصلاة، وعقد المعقود ممتنع؛ فاضطررنا إلى الحكم [بحله]، بخلاف الأول، وحينئذ يستقر ما ذكرناه من التأويل، والله أعلم.

وقد سلك صاحب "الغاية" في الرد على الإمام طريقاً آخر، فقال: ما نزل عليه الوجوه بعيد في الفقه والتحقيق:

أما من جهة الفقه؛ فلأنه على قول البسط يجوز خلو أول التبكير عن النية، ومن شأن النية أن تقترن بأول العبادة، [وليس له أن يحكم بعطف النية على أول العبادة] كما في الصوم على وجه؛ لأن الصوم استثنى لحاجة لا تحقيق لها هاهنا. وظاهر كلام الشافعي يشعر ببسط النية؛ إذ قال:"ينوي مع التكبير لا قبله ولا بعده".

وأما من جهة التحقيق: فلا مانع من بسط النية إلا لكونها عرضاً فرداً، والعرض الرد لا يتصور انبساطه، وذلك لازم في أنواع العلم والذكر؛ لأنها أعراض لا يمكن بسط الفرد منها، فإن عني ببسط العلوم توالي الأمثال؛ [فذلك جوابنا] في بسط النية؛ إذ لا معنى لبسط العرض [واستمراره] إلاتوالي أمثاله.

قلت: وما ألزمه الإمام غير لازم؛ لأن الإمام لم يشترط استحضار جميع العلوم في وقت واحد، بل اكتفى بحصولها شيئاً فشيئاً من أول التكبير إلى آخره، وذلك لا يقتضي توالي أمثالها؛ فاندفع هذا السؤال بهذا الطريق، [والله أعلم].

وقد سلك صاحب "الذخائر" في تقرير الوجه الأول الذي قلنا: إنه ظاهر

ص: 80

النص- طريقاً بني الطريقة التي حكاها الإمام والطريقة الأخرى، فقال: النية لا تقبل البسط، وإنما الذي ينبسط على التكبير العلوم، فكلما استحضر علماً جرد القصد إليه إلى أن يتم التكبير، [فإن تم التكبير] قبل تمام الاستحضار لم تنعقد، وإن تم الاستحضار قبل تمام التكبير، فوجهان:

أحدهما: يجب استدامة المنوي والقصد، ويصح.

والثاني: لا يكفي، ويستأنف.

والحق من ذلك [كله] ما رآه الإمام بعد استيفاء المباحث: أن الشرع [ما أراه] مؤاخذاً بما ذكرناه من التدقيق، والغرض المكتفَى به أن تقع النية بحيث تعد مقترنة بعقد الصلاة، فإن تمييز الذكر عن الإنشاء والعلم بالمنوي منهما عسير، لا سيما على عامة الخلق، ولم يكن السلف الصالحون يرون المؤاخذة بهذه التفاصيل، والقدر المعتبر ديناً انتفاء الغفلة بذكر النية حالة التكبير، مع بذل المجهود في رعاية الوقت.

فأما التزام حقيقة مصادفة الوقت الذي يذكره الفقيه ما تحويه القدرة البشرية؛ وهذا ما اختاره الغزالي في "الإحياء.

قال بعضهم: وهو في الحقيقة [راجع] إلى حمل المقارنة في كلام الشافعي على المقارنة العرفية، لا المقارنة العقلية، وهو حسن بالغ، لا يتجه سواه.

وقد أورد بعضهم سؤالاً، فقال: إذا اقترنت النية بآخر التكبير، ولم توجد في أولهن لا يحصل مقصودها على المشهور، فما الفرق بين ذلك وبين ما إذا اقترنت النية باللفظ الآخر في قوله:"أنت طالق" مع أن النية معتبرة في كل من الأمرين؟

وأجاب بان الانعقاد منوط بكل التكبير، والذي يقع به الطلاق ما اشعر به، وهو الكلمة الثانية.

فرع: لو كبر ناوياً، ثم كبر ناوياً، نظرت:

ص: 81

فإن كان على وجه السهو، لم تبطل صلاته؛ قاله القاضي الحسين في باب سجود السهو.

وإن كان عامداً، قال صاحب "التلخيص": بطلت الأولى، ولم تصح الثانية، فإن كبر ثالثة صحت، ولو كانت التكبيرة الثانية بغير نية لم تضر.

قال في "الزوائد": قال القاضي الحسين: قال القفال: ولو كان قد نوى الافتتاح قبل شروعه في الثانية، بطلت الأولى، وصحت الثانية.

قال: وإنما كانت نية الافتتاح في الصلاة مبطلة [لها]؛ لأن الافتتاح يقتضي سبق الخروج؛ فجعل كما لو نوى الخروج.

ونظيره [ما قاله] الشافعي: لو نكح امرأة يوم الخميس على مسمى، ثم نكحها يوم الجمعة على مسمى آخر يلزمه المهران.

قال: والتكبير أن يقول- أي: القادر على القول-: الله أكبر، أي: من غير فصل بينهما؛ لأنه روى أنه-عليه السلام كان يبتدئ الصلاة [بقوله]: "الله أكبر"، كما روته [عنه] عائشة، ولم ينقل عنه غيرهن وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي".

فإن قيل: التكبير قول وهو لا يرى.

قلنا: المراد كما علمتموني أصلي، والرؤية يعبر بها عن العلم، قال الله تعالى:

ص: 82

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1][أي:] ألم تعلم.

وإذا كان المراد العلم، شمل فعله- عليه السلام-وقوله.

قال: أو: الله الأكبر؛ لأن ذلك يأتي على معنى قوله: "الله أكبر" وزيادة لا تخل بالمعنى، فألغيت، وصح التكبير، كما لو قال: الله أكبر كبيراً؛ وهذا ما نقله المزني، وحكاه غيره أيضاً.

قال القاضي الحسين: وقد حكى أبو الوليد النيسابوري قولاً آخر للشافعي: أنه لا ينعقد به- كما صار إليه مالك-عملاً بما ورد، وبالجملة فالأول: أولى؛ للخروج من الخلاف، واتباعاً للسنة.

قال: لا يجزئه غير ذلك، أي: مثل قوله: الله الكبير، أو: الله الجليل، أو: الله العظيم، ونحو ذلك، أو: الرحمن أكبر، أو: الرحيم [أكبر]، ونحو ذلك، أو: الأكبر الله، [أو: أكبر الله]، [ونحو ذلك؛ لما ذكرناه.

وقيل: إذا قال: الرحمن أكبر، أو: الرحيم] أكبر- يجزئه؛ حكاه ابن كج، وكذا قيل: يجزئه قوله: "الأكبر الله"؛ لأنه ينطلق عليه اسم التكبير، وقد قال- عليه السلام:"تحريمها الكبير وتحليلها التسليم"، حكاه أبو الطيب وغيره عن رواية أبي إسحاق في "الشرح"، وصححه.

والذي اختاره القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري والماوردي والإمام: الأول، وقال البندنيجي: إنه المذهب، ولم يحك القاضي الحسين غيره؛ لأن فيه [تغيير ما] ورد به الشرع من الترتيب؛ فلا يجوز، كما في القراءة.

وقال في "الشامل": إن الشيخ أبا علي علله بأنه قدم النعت على المنعوت، وهو لا يجوز، وإن بعض الأصحاب رد عليه ذلك، وقال: هو جائز، كقولك: الخالق الله.

قال بعضهم: والتعليل والرد عليه كلاهما فاسد، فإن قوله:"الأكبر الله" ليست بنعت ولا منعوت، وإنما هو مبتدأ وخبر، ولو كان نعتاً لافتقر الكلام إلى خبر؛ لأن

ص: 83

النعت والمنعوت في تقدير مفرد، لا ينتظم منهما جملة، ولأن اسم "الله" معرفة، و"الأكبر" نكرة، ولا ينعت معرفة بنكرة، وقوله:"الخالق الله" مبتدأ وخبر أيضاً، وهذا الوجه قد ادعى المراوزة أنه قول خرج من نصه في "الأم" على أنه إذا قال:"عليكم السلام" أنه يجزئه كما خرج من نصه هنا على [عدم] الإجزاء، إلى ثم قول آخر: أنه لا يجزئ.

ومن أقر النصين فرق بأن قوله: "الأكبر الله" لا يسمى تكبيراً، وقوله:"عليكم السلام" يسمى: تسليماً.

قال الرافعي: وللقائلين بالتخريج أن يمنعوا هذا الفرق، ويقولوا: إن كان ذلك يسمى: تسليماً، فهذا يسمى: تكبيراً.

ثم الخلاف في الانعقاد بقوله: " [الأكبر الله] " هل يجري في قوله:"أكبر الله"؟ فيه طريقان:

ص: 84

أحداهما: نعم، وهي التي أوردها العراقيون كما قال الإمام، ولم يذكر في "المهذب" سواها.

والثانية: لا، وهي التي أوردها الماوردي، فقال: لا يجزئه وجهاً واحداً، وهو رأي الشيخ أبي محمد؛ لأن ذلك غير منتظم، بخلاف:"الأكبر الله".

قال الإمام: وهذا كذلك غير لائق به مع تميزه بالتبحر في علم اللسان؛ إذ لا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ، ولا خلاف في أنه إذا قال:"الله هو أكبر"، أو "الله أكبار"[أنه] لا تنعقد صلاته، وإن اعتقد ذلك كفر؛ لأن "أكبار" جمع:"كبر"، وهو الطبل.

وهل يستحب أن يرتل التكبير أو يجذمه -وهو قطع التطويل [منه]-؟ فيه وجهان في "التتمة"، المذكور منهما في "الشامل": الأول، وفي "التهذيب" مقابله، وإليه يميل كلام المتولي -أيضاً– وقال: إن القائل بمقابله هو القائل ببسط النية على التكبير.

ثم التكبير عندنا من الصلاة وهو أولها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: " [إن] صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، وإنما هي التكبير والتسبيح والقراءة".

ص: 85

و [لأنا نشترط] فيه ما يشترط فهيا؛ فكان كالقراءة؛ وهذا [ما] نص عليه في "الإملاء".

قال الروياني: ومن أصحابنا من [قال]: هو أول الصلاة. قال: وبالفراغ منه يخل فيها، وهذا غير صحيح، بل يجب أن يدخل في الصلاة بأول التكبير مع النية حتى يصح قولنا:[إن] التكبير من الصلاة.

أما العاجز عن النطق لخرس أو غيره، فالواجب في حقه أن يجريه على لسانه ما أمكن، فإن عجز عنه نواه بقلبه، كما يأتي في صلاة المريض.

وقد أفهمك قول الشيخ: "والتكبير أن يقول": [أنه] لابد من القول، وأقله أن يسمع نفسه مع سلامة حاسة أذنه؛ لأن ما دون ذلك خطور، لا قول.

وقوله: "لا يجزئه غير ذلك": أنه إذا قال: " [الله] الجليل أكبر"، ونحوه، لا يجزئه، وهو وجه ادعى ابن التلمساني: أنه الصحيح.

وقيل: [إنه] يجزئه، وادعى الرافعي: انه الأظهر.

والمشهور: أنه إذا طال ما بين الكلامين بأن قال: "الله لا إله إلا هوا لحي القيوم أكبر" أنه لا يجزئه.

وقال بعضهم: لا عبرة [بطول] ما بين الكلامين، وإنما العبرة بنظم الكلام في مقصوده.

قال: ومن لا يحسن التكبير بالعربية- أي: وضاق عليه الوقت عن التعلم- كبر بلسانه؛ لقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وهذا حد

ص: 86

استطاعته، ولا يجوز [له] أن يعدل إلى ذكر آخر؛ لأنه قادر على أن يأتي [بمعنى التكبير] بلغته، مع أن لفظه ليس بمعجز، ولم يجز أن ينتقل عنه إلى غير معناه؛ وبهذا فارق العاجز عن الفاتحة، لا يأتي بها بلسانه؛ لأن نظمها معجز.

وقد أفهم كلام الشيخ تعين الإتيان بالتكبير بلسانه عند العجز بالعربية، والذي حكاه البندنيجي: أنه يجوز له في هذه الحالة أن يكبر بغير لسانه؛ إذ لا فرق بينهما، وهذا وجه حكاه غيره وصححه.

وقال في "الحاوي": إن كان لا يحسن العربية، ويحسن الفارسية والسريانية، فبأيهما يكبر؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: بالفارسية؛ لأنها أقرب اللغات إلى العربية؛ فعلى هذا لو كان [يحسن] الفارسية وغيرها لا يأتي [إلا] بالفارسية.

والثاني: بالسريانية؛ لأن الله -تعالى- أنزل بها كتاباً، ولم ينزل بالفارسية؛ فعلى هذا لو كان يحسن السريانية وغيرها لا يكبر إلا بالسريانية.

والثالث: يكبر بأيهما شاء؛ فعلى هذا لو كان يحسنهما، ويحسن غيرهما، كبر بأيهما شاء.

وقد ادعى الرافعي: أن العبرانية أنزل بها كتابٌ، وهي حينئذ كالسريانية؛ فيجيء فيها مع الفارسية الأوجه، [وفيها] مع [غير] الفارسية الوجهان، والله أعلم.

قال: وعليه أن يتعلم -[أي]: [العربية]- لأن ما لا يتأتى الواجب إلا به فهو واجب.

[فإن قيل: لا نسلم أن التكبير بالعربية واجب]؛ لأن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، والذاكر بغير العربية ذاكر لله تعالى.

قلنا: دليل وجوبه قد تقدم من أنه عليه السلام لم يكبر إلا بها، وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي".

ص: 87

وإذا تقرر [ذلك]، فلو لم يتعلم مع القدرة عليه وأتى به بلسانه، لم تنعقد صلاته إن كان في الوقت سعة، وإن لم يبق في الوقت سعة، كبر بلسانه؛ لحرمة الوقت، وأعاد بعد التعلم.

قال الرافعي: وفيه وجه ضعيف: أنه لا يعيد، وهو مستمد مما ذكره عند الكلام فيمن لم يجد ماء ولا تراباً.

ثم إطلاق الشيخ وجوب التعلم يقتضي: أنه لا فرق بين أن يكون المعلم في الموضع الذي فيه المتعلم أو غيره، ما إذا كان المعلم في البلد والمتعلم في البادية، وهو المشهور.

وقيل: لا يجب على البدوي قصد البلد للتعلم، وهو ما أورده الماوردي لا غير؛ قياساً على قَصْدِهِ لطلب الماء، والأول: أصح.

قال الرافعي وغيره: والفرق بين ما نحن فيه والماء: انه إذا وجد الماء لا يقدر على إدامته معه، وتكليفه قصد البلد في كل وقت يشق، ولا كذلك [قصد البلد؛ للتعلم؛ فإنه إذا تعلم دام معه ما تعلم؛ فلا يحتاج بعده إلى قصد آخر.

ومما يظهر الفرق بين البابين: أن] العاجز عن الماء في أول الوقت يتيمم وإن قدر عليه في آخر الوقت على الصحيح، ولا كذلك العاجز عن التعلم في أول الوقت وهو يقدر عليه قبل آخره.

فإن قيل: لم كان الحكم كذلك؟

قال ابن الصباغ: قلنا: لو جوزنا ذلك لم يتوجه ليه فرض التكبير بالعربية جملة؛ لأنه بعد أن صلى لا يلزمه التعلم في هذا الوقت، وفي الوقت الثاني مثله، ويفارق الماء؛ فإن وجوده لا يتعلق بفعله؛ لأنه ذا وجد الماء بطل تيممه.

فرع: كما يجب عليه أن يتعلم العربية؛ لأجل التكبير، يجب عليه أن يعلمها غلامه، وهو مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يخليه والاكتساب حتى يكتسب أجرة المعلم، فلو لم يعلمه، واستكسبه، عصى بذلك؛ قاله القاضي الحسين والمتولي.

ص: 88

ثم ما ذكره الشيخ من أنه يكبر [بلسانه، منصرف إلى تكبيرة] الإحرام، [و] في معناها التشهد؛ لأنه ذكر واجب كهي، وليس فيه نظم معجز، وهذا مما لا خلاف فيه.

وما عدا ذلك من الأذكار المسنونة: كدعاء الاستفتاح، والتعوذ، وتكبيرات الانتقالات، والتسبيح، والدعاء بعد التشهد- فهل يأتي بها بلسانه عند العجز والقدرة أو عند العجز فقط أو لا يأتي بها؟ اختلف فيه نقل الأئمة:

فالذي حكاه القاضي الحسين عن المراوزة: أنه لا يأتي بها عند القدرة على العربية [إلا بالعربية]، ونسبه [في "التتمة"] إلى قول بعض الأصحاب، وأن القفال اختاره، وفرع عليه: أنه لو أتى بذلك بلسانه عمداً، بطلت صلاته، وكذا هو في "الإبانة"، وقاسه على ما لو تكلم عامداً.

وعن العراقيين: أنه يجوز أن يأتي بذلك بلسانه، والأولى أن يأتي بها بالعربية.

وعند العجز عن العربية على مذهب العراقيين يجوز، وعند المراوزة هل يجوز أنا يأتي به بلسانه؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز [كما] في تكبيرة الإحرام والتشهد، وهذا ما صححه البغوي. والثاني: لا؛ لأنها ليست واجبة، بخلاف التكبير والتشهد، فلو فعل ذلك بلسانه بطلت صلاته.

قال القاضي الحسين: والوجهان صدورهما من لفظ الشافعي حيث قال -يعني: في "المختصر"[بعد] ذكر التكبير-: "وكذلك الذكر، وعليه أن يتعلم"، [وهو يحتمل أنه أراد به التشهد دون التسبيحات؛ لأنه قال:"وعليه أن يتعلم"، وإنما يجب تعلم التشهد دون سائر الأذكار.

ويحتمل أنه أراد به الكل؛ لأن اسم الذكر ينطبق على الكل، وقوله:"وعليه أن يتعلم"] ينصرف إلى التشهد، والاحتمال الثاني هو المحكي في "الحاوي"، وكذا في "الشامل"، وقال: إنه فسره في "الأم" كذلك.

وإن جمعت ما ذكرناه واختصرت، قلت: هل يجوز أن يأتي بالأذكار المسنونة في

ص: 89

الصلاة، وكذا الدعاء المشروع فيها بغير العربية؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان يحسن العربية، فلا يجوز إلا بها، وإلا جاز بغيرها؛ وهذا أصحها بالاتفاق.

وادعى الغزالي أنه لا يجوز أن يدعو بالعجمية بحال.

وأما سائر الأذكار المسنونة: كدعاء الاستفتاح، والقنوت، وتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع والسجود-فهل يأتي بها بالعجمية عند العجز عن العربية؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: ما يجبر تركه بالسجود يأتي بترجمته، وما لا فلا.

وعبارة الإمام تقتضي أن الممنوع من إتيانه بغير العربية هو الدعاء المخترع في الصالة لا ما هو مسنون يها؛ فإنه قال: ليس للمصلي أن يخترع دعوة بالعجمية، ويدعو بها في صلاة وإن كان له أن يدعو بغير الدعوات المأثورة بالعربية. ثم حكى الأوجه الثلاثة في الأذكار المسنونة، وذلك مشعر بجريان الأوجه في الأدعية المسنونة في الصلاة.

قال الرافعي: وبه صرح غيره من الأصحاب؛ فليحمل ما أطلقه الغزالي [على] من منع الدعاء بالعجمية على ما يخترعه المصلي؛ كما صرح به الإمام.

قال: ويجهر بالتكبير إن كان إماماً؛ ليسمع من خلفه، فيتبعه.

قال الأصحاب: ورفع المرأة صوتها إذا أمت نسوة دون رفع الرجل صوته؛ خشية افتتان من يسمعها من الأجانب.

أما المأموم فيستحب له الإسرار به؛ لئلا يشوش على غيره، فلو هر به كان مكروهاً، وإسماعه نفسه -كما تقدم-واجب.

قال: ويرفع يديه مع التكبير، أي: فيكون ابتداء الرفع مقروناً بابتداء التكبير؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير.

[ووراء] ما ذكره الشيخ وجهان يأتيان من بعد.

قال: حذو منكبيه، أي: بحيث لا تجاوز أطراف الأصابع طرف المنكبين؛ [كما] قاله الإمام؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه

ص: 90

حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة.

وقد روي عن أبي حميد الساعدي: أنه قال في عشرة من الصحابة: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فاعرض، قال: كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي [بهما] منكبيه، ثم يكبر حتى يقر كل عظم موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي [بهما] منكبيه، ثم يركعن ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدلن فلا يصوب رأسه ولا يضعه، ثم يرفع رأسه، ويقول:"سمع الله لمن حمده" ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلاً، ثم يقول:"الله أكبر"، ثم يهوي إلى الأرض، يجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه، ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعة كبر، فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يفعل ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم، أخرج رجله اليسرى، وقعد على شقه الأيسر، فقالوا: صدقت، هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مالك في "الموطأ"، والترمذي، وقال: إنه حسن صحيح.

وفي لفظ رواه البخاري، قال: فإذا رفع رأسه، استوى قائماً حتى يعود كل فقار

ص: 91

مكانه، فإذا سجد سجد غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى، وجلس متوركاً على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته.

وقيل: ينبغي أن يرفعهما إلى حيث تحاذي رءوس أصابعه أذنيه؛ لرواية وائل بن حجر: أنه لما بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه لحذو أذنيه.

وقيل: ينبغي أن يرفعهما بحيث تحاذي أطراف أصابعه أذنيه، وكفاه منكبيه، وإبهامه شحمة أذنيه، وهو ما حكاه المتولي، وقال القاضي الحسين: إنه الأولى.

فإن لم يفعل ذلكن فالسنة عندنا أن يرفعهما إلى حذو المنكبين، وإنما قلنا: إن ذلك أولى؛ لأن فيه جمعاً بين الأخبار.

وقد قيل: إن الشاعي لما قدم العراق اجتمع عنده أحمد والكرابيسي وأبو ثور، فسئل عن أحاديث الرفع، وأنه روي عنه عليه السلام أنه رفع حذو منكبيه، وحذو أذنيه، وحذو شحمة أذنيه؟ فقال: أرى أن يفعل ما ذكرناه. فاستحسن [ذلك منه] في الجمع بين الروايات، وهي كلها في "سنن أبي داود".

ص: 92

وفي "تعليق القاضي الحسين": أن الشافعي هو السائل عن الجمع بين الروايات، والمجيب بما ذكرناه عند عجزهم عن الجواب، وأنهم استحسنوه.

فرع: لو كان بيديه علة تمنعه من ذلك، رفعهما إلى حيث يمكنه، ولو كان ذلك بإحدى يديه، رفع الصحيحة كما سلف، والأخرى إلى حيث يمكنه، فلو كان يقدر على الرفع فوق ما ذكرناه ودونه، ولا يقدر على القدر المستحب، أتى بما فوق؛ لأنه أتى بالسنة وزيادة.

ولو كان مقطوع الكفين، رفع الساعد.

ولو كان مقطوع المرفق، رفع عظم العضد في أصح الوجهين.

قال: ويفرق أصابعه؛ لما روى [أبو هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر نشر أصابعه. رواه الترمذي.

ولأنه أشبه بالتخوية في السجود، والمعنى فيه: أن يكون لكل عضو استقلال في العبادة بصورته.

[و] قال الغزالي: لا يتكلف ضمها ولا تفريجها، أي: بل يتركها على حالها.

وقال القاضي الحسين: إنه يتركها بين بين، ويستحب إذا رفعها أن يكشفها وينشرها.

قال في "التتمة": وينبغي قبل رفع اليدين والتكبير أن ينظر إلى موضع سجوده، و [يطرق برأسه] قليلاً، ثم يرفع يديه، ويكبر.

قال: فإذا انقضى التكبير حط يديه؛ لأن الرفع كان لأجله؛ فزال بفراغه، وما ذكره

ص: 93

الشيخ هو المحكي في "تعليق البندنيجي" عن نصه في "الأم".

وقيل: ينبغي أن [يفرغ من] يديه مع فراغ التكبير كما بدأ برفعهما معه؛ لأن الرفع لأجل التكبير، وهذا ما حكاه في "المهذب" وقال: إنه لو سبق بيديه أثبتهما مرفوعتين حتى يفرغ من التكبير؛ نص عليه في "الأم".

وعن أبي إسحاق وأبي علي أنه يكون انتهاء الرفع مع انتهاء التكبير، وهو خلاف النص.

وقيل: يرفع يديه من غير تكبير، ويرسلهما بتكبير؛ لرواية أبي حميد الساعدي السالفة.

وقيل: يرفعهما قبل التكبير، ويكبر وهما قارَّتان، ثم يرسلهما بعد الفراغ، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختاره البغوي.

وهذان [الأخيران وما] حكيناه عن "المهذب"، حكاهما الغزالي وغيره عن المراوزة.

ثم من الأصحاب من يرى الأوجه اختلافاً، قال الإمام: وكان شيخي يقول: ليس

ص: 94

هذا اختلافاً في المستحب، بل صحت الروايات كلها؛ فبأيها أخذ كان إتياناً بالسنة على نسق واحد.

فرع: لو نسي الرفع ثم ذكره بعد الفراغ من التكبير، لا يأتي به؛ لفوات محله.

وإن ذكره قبل انقضاء التكبير، أتى به، كذا قاله البندنيجي والقاضي الحسين.

ثم لا فرق في ذلك بين أن يكون التكبير من قيام، أو في حال القعود، أو الاضطجاع في الفريضة أو النافلة؛ لأنه لا عسر فيه، وكذا لا فرق فيه بين الإمام والمأموم، [والمنفرد] والرجل والمرأة.

قال: وأخذ كوعه الأيسر بكفه الأيمن؛ لما روى قبيصة بن هُلْبٍ عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا، فيأخذ شماله بيمينه. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو واضع شماله على يمينه، فأخذ بيمينه فوضعها على شماله، رواه أبو داود.

ص: 95

وروي أنه عليه السلام قال: "ثلاث من سنن المرسلين: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة".

ص: 96

قال الشافعي في "الأم": "والقصد من ذلك تسكين يديه، فإن أرسلهما، ولم يعبث، فلا بأس به"؛ [كذا] حكاه ابن الصباغ، ونسب المتلوي هذا إلى أبي إسحاق المروزي بعد أنا قال: ظاهر المذهب: أن إرسال اليدين مكروه.

ثم له في كيفية أخذ الكوع طريقان:

أحدهما: أن يبسط أصابعه على عرض المفصل.

والثاني: أن ينشرهما في صوب ساعد اليسرى.

وهو في الحالين قابض على كوعه، ويده اليمنى عالية، والكيفيتان نقلتا عن القفال، وانه كان يخير بينهما.

قال الرافعي: ويحكي ذلك عن أبي إسحاق أيضاً.

قال: وجعلهما تحت صدر؛ لأنه روي في قصة وائل بن حجر أنه عليه السلام وضع يده المنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد، ثم وضعهما تحت صدره، وقد جاء في قوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي:

ص: 97

ضع اليمنى على اليسرى تحت النحر؛ حكاه أبو الطيب عن ابن عباس وعن علي ابن أبي طالب، رضي الله عنهما.

وقال أبو إسحاق: يجعلهما تحت سرته؛ لأنه روي عن علي أنه قال: "من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة" رواه أحمد وأبو داود.

وقال ابن المنذر: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك؛ فهو بالخيار: إن شاء جعلهما تحت السرة، وإن شاء جعلهما فوقها؛ حكاه أبو الطيب.

وفي "النهاية" أن الشيخ أبا بكر -يعني: الصيدلاني-قال: لم أر ذلك-[أي: الوضع تحت الصدر] منصوصاً عليه للشافعي في شيء من كتبه، ولكن الأئمة اعتمدوا فيه نقل المزني، وقالوا: لعل ما نقله اعتمد فيه [على] سماعه من الشافعي.

قال: وجعل نظره إلى موضع السجود؛ لأنه روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استفتح الصلاة لا ينظر إلا إلى موضع سجوده.

وقد قيل: إن أبا طالب العُشاري روى في "الأفراد" عن بعض الصحابة قال:

ص: 98

قلت [لرسول الله]: أين أجعل بصري في صلاتي؟ قال: "موضع سجودك" قال: قلت]: يا رسول الله، إن ذلك لشديد، قال:"ففي الفريضة إذن".

ثم ظاهر هذا أنه لا فرق فيه بين حال القيام والركوع والسجود والجلوس، وهو المذهب.

وفي "التتمة" وجه آخر: أنه ينظر في قيامه إلى موضع سجوده، وفي ركوعه إلى قدميه، وفي سجوده إلى أنفه، وفي القعود إلى حجره؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين قبيل الكلام في التشهد.

وقال الماوردي: إنه ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده، وفي حال جلوسه إلى حجره. وسكت عن بقية الحالات.

ولا منافاة بين ذلك وبين ما ذكره الشيخ؛ لأن كلام الشيخ مفروض في حال القيام، وقد حكاه المتولي في موضع آخر عن نصه في "البويطي"، ثم قال: "وهذا في حال القيام، فأما في حال الركوع، فينظر إلى قدميه

" وساق بقية ما أسلفناه.

واعلم أن حط اليدين بعد الرفع من الركوع، هل يكون على وجه الإرسال، ثم بعد ذلك يقع أخذ اليسار باليمين، أو يحطهما واضعاً يده اليمنى على اليسرى؟ اضطرب فيه كلام الأئمة:

فكلام الغزالي في "الإحياء" مصرح بالأول، وعليه يدل قوله في "الأم":"وليس إرسال اليدين من هيئات الصلاة، ولكن يتوصل بها إلى الهيئة التي هي وضع اليمين على الشمال".

وكلام صاحب "التهذيب" وغيره مشعر بالثاني.

قال: ثم يقول: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شركي له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين"؛ لأنه روي عن علي-كرم الله وجهه-أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة كبر، ثم قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، [إن صلاتي]

" إلى أن قال:

ص: 99

"وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" أخرجه مسلم. وإنما قال ذلك؛ لأنه أول مسلمي هذه الأمة، وغيره لا يقول ذلك بل، يقول ما ذكره الشيخ؛ لأنه ليس أول المسلمين.

ثم معنى قوله: "وجهت وجهي" أي: قصدت بعبادتي؛ أنشد الفراء:

أستغفر الله ذنباً لستُ محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

يعني: إليه القصد والعمل.

وقوله: "للذي فطر السموات والأرض" أي: خلقهما.

وقيل: الفطر: الاختراع.

قال ابن عباس: "ما كنت أعرف معنى "الفاطر" حتى اختصم إلى رجلان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي، أي: اخترعها".

وقوله: "حنيفاً" أي: مائلاً [إلى الإسلام]؛ إذ أصل "الحنف": الميل. قال أبو عبيد: "الحنيف" عند العرب: ما كان على دين إبراهيم عليه السلام.

ولا جرم قال: مسلماً.

والنسك: التقرب.

ورب العالمين: مالك الجن والإنس.

واعلم أن ما ذكره الشيخ من دعاء الاستفتاح هو ما ذكره المزني في "المختصر" لا غير، وقد روى مسلم وأبو داود في تتمة حديث علي [بن أبي طالب] أنه عليه السلام كان يقول بعد ذلك: "اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي؛ فاغفر لي ذنوبي جميعاً؛ إنه لا يغفر

ص: 100

الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك".

وقال الشافعي [في "الأم"]: وبهذا قولي في الفرض والسنة، وبه آمر، وأحب ألا يغادر منه شيئاً، فإن زاد فيه شيئاً أو نقص، كرهتهن ولا سجود عليه؛ كذا حكاه البندنيجي والروياني في "تلخيصه"، ونقلاً عن المزني أنه قال: معنى قوله-عليه السلام في الخبر: "والشر ليس إليك"، أي: لا ينسب إليك وإن كنت فاعله، كما لا يقال: خالق القردة والخنازير، وإن كان خالقهما.

وقال محمد بن خزيمة: معناه: لا يتقرب به إليك، وهو ما حكاه القاضي الحسين، وقال: إنه منقول عن الفضل بن شميل، وبه قال الخليل.

وقيل: معناه: والشر ليس يصعد إليك؛ قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10].

وقد زعم بعضهم أن الشافعي لم يقل إلا ما حكاه المزني في "المختصر"، فقال: إنما اقتصر الشافعي على ذلك؛ لطول ما بعده، ولاشتماله على مقاصد تأتي على جملة ما اشتمل عليه الحديث بكماله مع لطائف لم يتضمنها آخره المتروك.

والأحسن في تأويله: أن الشافعي اقتصر في "المختصر" على ذلك؛ لأنه يعم كل مصلّ: من إمام، ومنفرد، وما ذكره في "الأم" من تتمة الحديث مخصوص -كما قال الأصحاب- بالمنفرد دون الإمام، إلا أن يؤثر من خلقه التطويل، وسيأتي نظيره ودليله.

فإن قيل: قد روى مسلم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وهذا يدل على أنه لم يكن يأتي بالدعاء.

ص: 101

قلنا: خبرنا مثبت، وهذا تضمن النفي، والمثبت مقدم [على النافي]؛ على أنا نحمله على افتتاح قراءة الصلاة؛ للجمع بين الحديثين، وقد جاء مثل ذلك في قوله عليه السلام:"يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، وأراد قراءة الفاتحة.

فإن قيل: قد روت عائشة: أنه عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة، قال:"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" أخرجه

ص: 102

الترمذي؛ فلم رجحتم ما ذكرتم عليه؟

قلنا: لأن طلق بن غنّام انفرد به، وليس بالقوي، وحديثنا أليق بالمحل، وأكثر ألفاظه ألفاظ القرآن، وهو يشتمل على أنواع، وذلك نوع واحد، على أن القاضي الحسين قال: إنا نستحب أن يجمع بين ذلك في الدعاء؛ فيبدأ بما روته عائشة، ثم يقول: "وجهت وجهي

" إلى آخره.

قال الرافعي: وهذا يحكي عن القاضي أبي حامد وأبي إسحاق وغيرهما.

وحكى الروياني عن الطبري: أن المستحب أن يقول في التوجيه: "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وجهت وجهي

" إلى آخره.

قلت: وفي هذا مع ما حكيناه عن نص الشافعي في "الأم" نظر.

فرع: المسبوق إذا كبر تكبيرة الإحرام، والإمام في التشهد الأخير، وجلس، ثم سلم الإمام، قام، وأتى بالفاتحة، ولا يأتي بالدعاء؛ [لأنه يؤمر] به من يفتتح الصلاة، وبجلوسه مع الإمام ذهب الافتتاح، نعم، لو سلم الإمام عقيب تحرم المأموم أتى به، وكذا لو كان تكبيره عند قول الإمام:{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقال: آمين، له أن يأتي به.

قال القاضي الحسين: لأن قوله: "آمين" دعاء، والدعاء لا يمنعه من الإتيان بدعاء آخر.

قال: ثم يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".

الأصل في استحباب التعوذ عند إرادة قراءة القرآن في الصلاة وغيرها قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] والسبب في ذلك أنه- عليه السلام-كان قرأ سورة "والنجم" في صلاة الصبح، فلما بلغ قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان في أمنيته-أي: في قراءته، لا على لسانه-:"تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجي"؛ ففرح به المشركون، وقالوا: إن محمداً أثنى على آلهتنا؛ فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: 52]،

ص: 103

[ونزل] قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: إن ذلك اللفظ جرى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم سهواً، والصحيح: أنه لم يجر على لسانه؛ لأنها كلمة كفر، بل ألقى الشيطان تلاوته.

فإن قيل: إن الآية تقتضي أن الاستعاذة بعد القراءة.

قلنا: في الآية محذوف، والتقدير: إذا أردت قراءة القرآن؛ تنزيلاً للمشرف على الشيء منزلة المباشر له؛ كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]، وقوله عليه السلام:"من قتل قتيلاً فله سلبه"، وقد روى نافع بن جبير بن

ص: 104

مطعم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم [يصلي]، فقال:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه" وقال: ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر، وهمزه: الجنون.

وعن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يقول: "أعوذ بالله [السميع العليم] من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه [ونفثه]"ثم يقرأ".

فإن قيل: هذا الخبر يقتضي خلاف ما ذكرتم من [صيغة] التعوذ.

قلنا: لا شك أن كلا منهما جائز مؤد للغرض، وكذا كل ما يشتمل على الإجارة بالله من الشيطان الرجيم؛ كذا قاله الرافعي.

وقال الماوردي: الأولى ما ذكره الشيخ، ثم يليه في الأولوية ما رواه أبو سعيد الخدري، ثم يليه قوله:"أعوذ بالله العلي من الشيطان الغوي" ثم معنى "أعوذ": ألتجئ، والشيطان: من شطن الشيء؛ إذا بعد، وإبليس بعيد من الخير.

وقيل: إنه مأخوذ من: شاط؛ إذا احترق، وإبليس كذلك مآلاً.

والرجيم: المطرود، وهو "فعيل" بمعنى "مفعول".

قال: ويقرا فاتحة الكتاب؛ لما روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن".

وروى البخاري ومسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".

ص: 105

وروى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي أساء في صلاته حين قال: علمني يا رسول الله كيف أصلي؟ قال: "إذا توجهت إلى القبلة، فكبر، ثم اقرأ بأم الكتاب، وما شاء الله أن تقرأ" وهذا أمس في الدلالة من الأولين؛ لأنه يقتضي قراءة الفاتحة في الركعة الأولى، والأولان يقتضيان قراءتها في الصلاة، وظاهرها نفي الصلاة [عند انتفاء قراءتها فيها، لا نفي الكمال، وهو حجة على أبي حنيفة، حيث لم يعينها في الصلاة]، ويؤيد ذلك رواية سفيان عن العلاء بن عبد الرحمن [عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم] قال: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، ذكره ابن المنذر.

وفي رواية الدارقطني: "لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب". وسنذكر في الباب بعده- إن شاء الله تعالى- ما يتم به الاحتجاج عليه.

قال العلماء: [وسميت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة]؛ لافتتاح قراءة الصلاة والقرآن بها.

ص: 106

وسميت [بأم الكتاب]؛ لأنها أوله، وأصله، وكذلك سميت مكة: أم القرى؛ لأنها أول الأرض وأصلها، ومنها دُحِيت.

وسميت: السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات، وتثنى في الصلاة، أو ثني نزولها، أو تثني البطلة، أو هي قسمان: ثناء، ودعاء، أو من الاستثناء، لأنها استثنيت لهذه الأمة.

وقيل: لأن أكثر كلماتها مثنى.

و [قد] قيل: إن السبع المثاني في الآية: السبع الطوال من البقرة إلى النفال مع التوبة، وقيل: غير ذلك.

والصحيح: الأول؛ لأنه جاء في صحيح البخاري وغيره: أن [أبا] سعيد بن المعلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني التي أوتيت والقرآن العظيم".

ثم القراءة تحصل بأن يحرك لسانه بحيث يسمع نفسه عند عدم علة به.

قال الشافعي: [و] لا يجزئه أن ينطق بصدره ولا ينطق بلسانه.

قال القاضي الحسين: لأن ذلك فكرة، وليس بقراءة.

وحكى عن أبي إسحاق أنه قال: ما ناظرت عاميّاً قط إلا وغلبني، إلا في هذه المسألة؛ فإنه قال لي أعرابي ببغداد: أنت تقولك يقرأ بحيث يسمع نفسه، وأنت تقرأ في الصلاة ولا نسمع قراءتك، فقلت له: أنا قلت: يسمع نفسه، ونفسك ليست بنفسي، فسكت.

قال: أولها: "بسم الله الرحمن الرحيم".

ص: 107

قال الإمام -وتبعه الغزالي-: لأن محمد بن إسماعيل البخاري روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عد فتاحة الكتاب سبع آيات"، وعد {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} [الفاتحة: 1] آية منها.

قيل: وهذا الخبر لا يوجد في كتابه المشهور، بل هو في "تاريخه"، نعم، روى الدارقطني في "سننه" من حديث أبي بكر الحنفي [عن الحميد] بن جعفر بسنده إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قرأتم {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فاقرءوا: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}؛ إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. و {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} أحد آياتها". وروي عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بفاتحة الكتاب في الصلاة {بِسْمِ اللهِ

ص: 108

الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} [الفاتحة:1] آية، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] [آيتين]{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: الآية1] ثلاث آيات، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أربع آيات، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وجمع خمس أصابعه.

ص: 109

وروى هذا الحديث البويطي، وقال: حدثني غير واحد عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم عد {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} آية و {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [آية]

ست آيات"؛ وبهذا قال علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبر، ولا مخالف لهم من الصحابة.

ونقل القفال أن أبا نصر المؤذن، قال: اتفق قراء الكوفة وفقهاء المدينة على أن البسملة آية من الفاتحة، وقال قراء المدينة وفقهاء الكوفة: [إنها ليست منها.

فإن قيل: قول فقهاء الكوفة] يؤيده رواية مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وروى -أيضاً- عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا نهض في الثانية، استفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وروايته-أيضاً-عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج-ثلاثاً-غير تمام" فقيل لأبي هريرة: إنا تكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؛ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] قال الله: أثنى على عبدي، وإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي-وقال مرة: فوض إلي عبدي- وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال: هذا بيني وبين

ص: 110

عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل".

وهذا الخبر أقوى في الاستدلال على أنها ليست منها، وألا لكانت آيات الثناء أربعاً ونصفاً.

وأيضاً: فإن فيما ذكره الشافعي إثبات قرآن بالظن، وطريق إثبات القرآن القطع.

قيل: الجواب عن الخبرين الأولين: أن مراد راوييهما: أنه قرأ السورة الملقبة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، لا أنه قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

وما رواه الدارقطني عن ابن عبد الله بن مغفل عن أبيه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرؤها" معارض

ص: 111

بقول ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} ، كذا رواه الترمذي، وبما رواه الدارقطني عن نعيم بن عبد الله

ص: 112

المجمر، قال: "صليت خلف أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، قال: آمين، فقال الناس: آمين

" وذكر الحديث، ثم قال في آخره: "والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا أولى؛ لأنه إثبات؛ فهو مقدم على النفي؛ لاحتمال أن يكون

ص: 113

النافي بعيداً لم يسمع، أو تركت القراءة لعلة حصلت في وقت اقتدائه [به] عليه السلام.

والجواب عن الخبر الثالث: أن ترك عدها فيه إنما يدل لو كان ذكر ذلك لغرض يتعلق بحقيقة "الفاتحة"، أو بالكمية، والظاهر أنه ذكر ذلك لبيان انقسام الصلاة إلى ما هو لله سبحانه وتعالى وإلى ما هو للعبد؛ فلذلك قال:"قسمت الصلاة"، ولم يقل:"قسمت القراءة" أو الفاتحة، ثم تنصيف الشيء قد يكون بغير جزأين متساويين في المقدار؛ قال-عليه السلام:"تعلموا الفرائض، وعلموها الناس؛ فإنها نصف العلم"، وقال في الوضوء:"إنه شطر الإيمان"، ويؤيد ذلك أن النصف باعتبار الكلمات والحروف غير معتبر، على أنه قد جاء في بعض طرق الحديث: "إذا قال العبد: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ}

ص: 114

يقول الله تعالى: ذكرني عبدي"، لكن هذه الرواية أثبتها عبد الله بن زياد بن سمعان، وهو متروك عند مالك وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، ولو سلم عن ذلك، لاستغنينا عن الجواب.

ثم الذي يشترط في إثباته القطع هو متن القرآن، وليس ذلك محل النزاع؛ فإن البسملة من القرآن في "النمل" بالإجماع، وإنما النزاع في إثبات محل، فلم قلتم: إنه يشترط في مثله القطع؟ وإذا ثبت أنها آية منها، كانت الآية السابعة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

} إلى آخرها، ومن لم يجعلها آية منها، قال: الآية السادسة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

} إلى آخرها، كل سورة -أيضاً- إلا "براءة"؛ كذا قاله أبو الطيب، وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد حكى قولاً آخر: أنها من "الفاتحة" و"النمل] فقط، و [كذا] حكاه البندنيجي.

وابن القطان حكاه عن [رواية بعض الأصحاب، وقال: لا يعرف هذا.

والإمام ومن تبعه حكوه عن رواية] الشيخ أبي بكر الصيدلاني.

[والذي جزم به في "الحاوي": الأول]، وهو الصحيح باتفاق الأصحاب، واختلفوا في طريق إثباته:

فمنهم من قال: طريقه القطع.

ومنهم من قال: طريقه الظن.

وهذا ما حكاه القاضي الحسين والماوردي وغيره، وقالوا:[هل] هي من أول كل سورة حتى "الفاتحة" قطعاً أو ظناً؟ فيه خلاف: الذي صار إليه ابن أبي

ص: 115

هريرة الأول، والجمهور على الثاني، وهو الصحيح.

وحجة ابن أبي هريرة ما روي أنه لما كثر القتل في المسلمين يوم اليمامة في قتال مسيلمة، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: أرى [أن] القتل قد كثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخشى أن يذهب القرآن جميعه، فقال أبو بكر لزيد بن ثابت: أجمعه، فجمعه زيد بمحضر من الصحابة ووفاقهم في مصحف، فكان عند أبي بكر مدة حياته، [ثم عند عمر بعده]، فلما مات دفعه إلى ابنته حفصة حتى قدم حذيفة بن اليمان من العراق على عثمان، وذكر له اختلاف الناس في القرآن، فأخذ عثمان المصحف من حفصة، وكتب منه ست نسخ، وأنفذ كل مصحف إلى بلد، وأمر الناس بالرجوع إليه، فأجمعوا على ما بين الدفتين قرآنا، وكانت {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} مكتوبة في أول كل سورة بخط المصحف، إلا "براءة"، وكتابتها بخط المصحف: إما أن يكون لأنها قرآن في موضعه، أو لفاتحة كل سورة أو لخاتتها، أو للفصل بين السورتين، أو للتبرك، ولا يجوز أن [يكون] كتابتها بسبب الافتتاح؛ لأنهم تركوها في أول "براءة"، ولا يجوز أن يكون كتبوها للخاتمة؛ لأنهم تركوها في خاتمة "الأنفال" وخاتمة "الناس"، [ولا يجوز أن تكون للفصل]؛ لأنهم لم يفصلوا بها بين "الأنفال" و"براءة"، وكتبوها في "الفاتحة"، وليس هناك ما يحتاج إلى الفصل، ولا يجوز أن تكون للتبرك؛ فإنه لا شيء أبرك من كلام الله تعالى؛ ولهذا لم يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ آية الإفك؛ فعلم أنهم إنما كتبوها في [أول][كل]

ص: 116

سورة؛ لأنها قرآن هناك.

فإن قيل: قد أثبت في المصحف أسماء السور والأعشار، ولم يدل ذلك على أنه من القرآن.

فجوابه: أن هذا أمر ابتدعه الحجاج في زمانه؛ فلم يكن به اعتبار، ثم ذلك مكتوب بغير خط المصحف، بخلاف البسملة.

وحجة الجمهور: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "نزلت علي آنفاً سورة"، فقرأ:{بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3].

وروى أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف فصل كل سورة حتى ينزل عليه: {ِبسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} .

فإن قيل: قد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، وقد أجمع القراء

ص: 117

على أن تبارك ثلاثون [آية] سوى البسملة.

قيل في جوابه: النبي- عليه السلام قصد عد الآي التي تختص بها دون البسملة التي هي مبتدأ كل سورة، وبهذا يقع الجواب عما ورد من نحو ذلك.

التفريع: إن قلنا بما قاله الجمهور، [فثمرة] كونها من أول كل سورة: أنه إذا تركها، لم يكن [قد] قرأ السورة بجملتها؛ فلا يخرج عن نذره، ولا يبر يمينه؛ إن كان قد حلف على قراءة سورة من القرآن، ولاتصح صلاته إذا تركها من الفاتحة؛ وهكذا الحكم فيما إذا قلنا بقول ابن أبي هريرة.

وفي "الزوائد": أن صاحب "الفروع" قال: إذا قلنا: إنها آية قطعاً، كفَّرنا رادَّها، وفسقنا تاركها.

والذي حكاه ابن الصباغ والمحاملي وغيرهما من أهل الطريقين القطع بعدم تكفير من ردها؛ لحصول الشبهة بالاختلاف، وكيف يقال بكفره، والإمام مالك رحمه الله هو المخالف.

وقد أنكر ابن مسعود كون المعوذتين من القرآن، وقال: إنهما عوذتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكفر لأجل الشبهة.

وعلى كل حال، فهل هي في أول كل سورة غير "الفاتحة" و"براءة" آية مستقلة أو آية مع غيرها؟ فيه قولان أو وجهان:

ص: 118

أحدهما: أنها بعض آية، ويدل عليه خبر أبي هريرة في سورة "تبارك"، والشيء من القرآن قد يكون آية في موضع، وبعض آية في آخر؛ كقوله تعالى:{بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} ؛ فإنها آية في "الفاتحة"، وبعض آية من غيرها في قوله تعالى:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]، وفي قوله تعالى:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].

ووجه مقابله-وهو ما ادعى الروياني في "تلخيصه" أنه ظاهر المذهب: أنها تقرأ في أول كل سورة كما تقرأ في أول "الفاتحة"،وتكتب في أولها كما تكتب في أول "الفاتحة"؛ فكانت منها كهي من الفاتحة.

وأيضاً: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: "من ترك {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية".

وفي "التتمة" حكاية طريقة أخرى: أن كل سورة آخر آيها بالياء والترادف مثل: البقرة وغيرها فـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} منها [آية كاملة]، وكل سورة آخرها على نمط آخر مثل سورة اقتربت، فـ {بِسْمِ اللهِ} بعض آية، اعتباراً لآخر [الآيات].

قال: ويرتل القراءة؛ لقوله تعالى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يسرع في القراءة، فقال:"أهذا كهذِّ الشعر؟! " أو قال: "كهِّذ الأعراب؟! "، والمصلي بالترتيل أولى؛ ولذلك قال [في

ص: 119

"الأم"]: وأجب ما وصفت لكل قارئ في الصلاة وغيرها، وأنا في الصلاة أشد استحباباً.

وأدنى الترتيل: ترك العجلة، وأعلاه: ما كان أبين ما لم يبلغ به التمطيط.

قال: ويرتبها، أي: يأتي بالآية بعد الآية؛ لأن نظم القرآن معجز، وترك الترتيب يزيل إعجازه، وهو مقصود.

قال: ويأتي بها على الولاء، [أي]: المعتاد في القراءة حتى لا يكون بترك ذلك في صورة متلاعب، ويذهب بهجة القراءة.

قال: فإن ترك ترتيبها أو فرقها، لزمه إعادتها:

أما في ترك الترتيب؛ فلزوال المقصود من القراءة، وهو الإعجاز.

وأما في التفريق، فلأنه يشعر بالإعراض.

وترك الترتيب يحصل بما إذا قرأ آية من وسط الفاتحة قبل أولها [ثم أولها]، ثم آخرها، ونحو ذلك، ومثله في الحكم ما إذا قدم آخر الآية الواحدة على أولها، أو قدم وسطها، مثل: أن قال: لله الحمد رب العالمين، وهو في هذه الحالة أشنع.

ولو تركه بأن قرأ النصف الآخر من الفاتحة، ثم أولها، لزمه إعادة ما قرأه أولاً دون استئناف الجميع.

وترك الحرف [الواحد منها ملحق بترك الآية حتى لا يعتد بما بعده حتى يأتي به، ولا فرق فيه بين الحرف] الظاهر وغيره، كما إذا ترك تشديدة من تشديداتها؛ فإن الحرف المشدد بحرفين، وعدد حروفها المشددة أربعة عشر: ثلاثة في البسملة: اللام من اسم {اللهِ} ، والراء من {ِ الْرَّحْمَنِ} ومن

ص: 120

{الْرَّحِيِمِ} واثنان في {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اللام من اسم {اللهِ} والباء من {رَبِّ} وفي {الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} حرفان، وفي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} حرف واحد، وهو الدال من {الدِّينِ} ، وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حرفان، وهما الياء من {إِيَّاكَ} ، وحرف في قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ} هو الصاد منها، وحرف في قوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وهو اللام من {الَّذِينَ} ، وحرفان في قوله:{وَلا الضَّالِّينَ} هما الضاد واللام.

والتفريق المبطل لها تارة يحصل بالسكوت الطويل، وهو الذي يشعر مثله بأن القراءة قد انقطعت: إما باختيار، أو بمانع، وهذا إذا قلنا: إن السكوت الطويل [في الركن الطويل] لا يبطل الصلاة- كما هو الصحيح في "النهاية"- دون ما [إذا] قلنا: إنه يبطلها. والسكوت اليسير الذي لا يعد قاطعاً للقراءة، لا يبطل القراءة.

وضبط المتولي ذلك بألا يزيد سكوته على ما جرت به العادة للتنفس والاستراحة.

وتارة يحصل بإتيانه بآية من غيرها، أو دعاء، أو تسبيح ليس بمشروع في أثنائها، ولو في زمان لو سكت قدره في أثنائها لم يبطلها.

قال الإمام: وإعادتها في هذه الصورة ليس لانقطاع ولائها، ولكن من حيث تغيير نظمها، فلو كان ما أتى به من الذكر اليسير في مثل ذلك الزمن القليل لا يضر بالقراءة بحيث لا ينتظم معها؛ فلست أبعد أن يقال: لا تنقطع القراءة.

ويؤيده ما سنذكره من عدم انقطاعها بالتأمين، والمذهب الأول.

فإن قيل: نص الشافعي يدل على أن تخلل الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول في العقود لا يؤثر في قطع الولاء؛ فإنه نص على انه إذا خالع زوجتيه، ثم ارتدتا، ثم قبلتا وعادتا إلى الإسلام-صح الخلع، فما الفرق؟

ص: 121

قيل: الفرق: أن الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول لا يشعر بإضراب عن الجواب؛ لأنه [كلام صادر من شخصين]؛ فلا جرم لم ينقطع به الولاء، ولا كذلك هاهنا؛ فإن الكلام والقراءة صادران من شخص واحد؛ فقطع الولاء.

أما إذا أتى في أثنائها بدعاء مشروع، كما إذا قال الإمام:{وَلا الضَّالِّينَ} ، والمأموم في أثناء الفاتحة، فقال:"آمين"، ففيه وجهان:

أحدهما-وهو ما حكاه في "المهذب" و"الشامل" عن الشيخ أبي حامد والبندنيجي عن الأصحاب، ولم يحك غيره-: أنه يعيدها؛ لقول الشافعي: "فإن عمد فقرأ فيها من غيرها استأنفها".

وقال في "التتمة": إن الشافعي نص في "الأم" على [أن]"آمين" تقطعها، وصحح ذلك.

والثاني: لا يعيدها، وهو ما حكاه الروياني عن اختيار صاحب "الإفصاح"، والقاضي أبي الطيب وجماعة، ولم يحك سواه، وعزاه في "التتمة" إلى القتال، واختاره في "المرشد"، وقد قاسه القاضي أبو الطيب على ما لو سمع آية رحمة؛ فسأل الله، أو آية عذاب؛ فاستعاذ بالله منه، أو قرأ الإمام {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، فقال: بلى، ونحو ذلك-فإنه مستحب، ولا يقطعها، وهذا مشعر بنفي الخلاف في ذلك.

والغزالي قد طرده في الاستعاذة والرحمة، وكذا فيما إذا سجد بسجود الإمام؛ لأن هذه أسباب [مقتضية لذلك]؛ فلا يعد بملابستها منتقلاً عنها.

وحكاهما الروياني -أيضاً- فيما لو فتح على إمامه وهو في أثناء الفاتحة، أو أجاب المؤذن؛ إذا قلنا: إنه يستحب في الصلاة، كما تقدم.

وجزم القاضي الحسين في إجابة المؤذن والفتح على الإمام بأنه يقطعها،

ص: 122

وكذا في تشميت العاطس، والسلام على من سلم عليه؛ إذا قال:"وعليه السلام"، وفرق بين ذلك، وبين ما عداه مما ذكرناه- على احد الوجهين-بأن هذه الأشياء ليست من مصلحة صلاته، بخلاف ما قبلها؛ فإنها من مصلحة صلاته.

قال: وصار هذا كما لو قال لشخص: بعتك داري بألف، وارتهنت عبدك به، فقال: اشتريت، ورهنت-يصح، وإن وجد أحد [مصراًّ على] عقد الرهن قبل وجوب الثمن؛ لأنه من مصلحة البيع.

ولو قال لعبده: كاتبتك، وبعتك، فقال العبد: قبلت الكتابة، واشتريت-لا يصح البيع؛ لأنه ليس من مصلحة عقد الكتابة.

ولو كرر آية أو كلمة من الفاتحة؛ لعذر-كالشك-لم تنقطع، وكذلك إن كان بغير عذر، إن قلنا: إن تكرار الفاتحة لا يبطل، كما هو الصحيح، كذا قاله بعضهم، وهو مستمد من كلام صاحب "الذخائر"، وهو يوهم أن في تكرار بعض الفاتحة عمداً خلافاً في البطلان، كما في تكرار الفاتحة؛ وهذا لم أعثر عليه في شيء من كتب الأصحاب، بل الذي رأيته فيها عدم الإبطال.

والفرق بين الإتيان بكلها وبعضها: أن كلا ركن؛ فهي عند من أبطل بمنزلة تكرار ركوع، ولا كذلك تكرار بعضها؛ فإنه بعض من ركن.

وقد تردد الشيخ أبو محمد في إلحاق تكرار الآية بغير عذر بالذكر اليسير.

قيل: ولا وجه لتردده؛ لأن النظم يتغير بيسير الذكر، ولا يتغير بتكرار القراءة، ولا يعد انتقالاً عنها.

وقال في "التتمة": إن كرر الآية التي هو فيها، لم يضره ذلك، وإن كرر

ص: 123

غيرها، مثل أن وصل إلى قوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ} [الفاتحة: 7]، فعاد إلى قوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]-نظرت: فإن استمر، وقرأ إلى آخر الفاتحة- حسبت له، وإن لم يقرأ إلا هذه الآية، ثم عاد وقرأ من الموضع الذي كان قد انتهى إليه، لم يحتسب له بها، وعليه الاستئناف؛ لان مثل ذلك غير معهود في التلاوة.

وهذا كله إذا وجد على وجه العمد، فإن وجد على وجه السهو والنسيان، قال البندنيجي: ففي ترك الترتيب الحكم كذلك؛ لأنه شرط مع الذكر والنسيان، كما في الترتيب في الركوع والسجود، والترتيب في الطهارة، وقد حكاه القاضي أبو الطيب وغيره عن نصه في "الأم"، حيث قال:"إذا قرأ الفاتحة، ونسي [التسمية] في أولها، ثم ذكرها-قرأها، وقرأ الفاتحة ثانياً".

وفي ترك الموالاة، والإتيان بالتفريق لا يضره، بل يبني على ذلك؛ فإنها شرط مع الذكر دون النسيان، وقد حكاه أبو الطيب عن نصه في "الأم" أيضاً.

وإلى ما ذكرناه في الحالين صار الشيخ أبو محمد، وفرق بما ملخصه: أن الترتيب في [الصلاة في] نظر الشرع آكد من نظره إلى الموالاة؛ ألا تراه لو سجد قبل الركوع ناسياً لا يعتد بسجوده؟! ولوطول ركناً قصيراً ناسياً، وأخل بالموالاة بني الأركان بهذا السبب- لم يضره، ويؤيده أن ترك الترتيب في الوضوء يبطله، بلا خلاف على المذهب، وترك الموالاة لا يبطله على الجديد.

ووراء ذلك [في التفريق] أوجه:

أحدها -حكاه الإمام عن العراقيين-: أن السكوت الطويل عمداً لا يقطع الموالاة.

قال: وهو مزيف متروك، وإن كان لا يبعد توجيه.

وقد ادعى مجلي أن هذا ظاهر كلام الشافعي؛ [فإنه قال: ولو سكت في القراءة سكوتاً طويلاً، ولم ينو قطعها، أو تعب فوقف، أو غفل؛ فأدخل آية أو آيتين من غيرها-رجع حتى يقرأ من حيث غفل، ويأتي بها متوالية. وقال:] إنه

ص: 124

المنقول عن العراقيين، [وقال: إنهم فرقوا] بين ذلك وبين ما إذا طال السكوت بين الإيجاب والقبول؛ [فإنه يضر؛ لأنه لو أتى بين الإيجاب والقبول] بذكر يسير، لا يبطل، ولو أتى في أثناء الفاتحة بذكر يسير، قطعها.

قلت: وهذا الفرق يقتضي عكس الحكم والنص، فيمكن حمله في السكوت على حالة النسيان؛ عملاً بنصه الآخر الذي قدمناه؛ على أن جوابه يمكن عوده إلى ما عدا السكوت؛ ألا ترى إلى قوله:"رجع حتى يقرأ من حيث غفل، ويأتي بها متوالية".

والثاني- حكاه الروياني في "تلخيصه"-: أن السكوت الطويل مع النسيان يوجب الإعادة، وهو خلاف النص.

والثالث- حكاه مجلي-: أنه إن طال ما أتى به [من] الذكر في أثنائها، حتى يشعر بأنه إعراض عن الفاتحة، وترك لها- بطلت الموالاة، واستأنف القراءة؛ لأنه أخل بالواجب من غير عذر.

فروع:

إذا نوى قطع القراءة، ولم يقطعها، لم يضره، بخلاف ما لو نوى قطع الصلاة؛ نص عليه في "الأم".

والفرق يأتي في باب: ما يفسد الصلاة.

نعمن لو اتصل بنية قطع القراءة سكوتهن بطلت.

قال الروياني: وهذا إذا طال سكوته، فإن لم يطل، ثم عاد، وقرأ قبل طول الفصل-فلا ينبغي أن تبطل. وغيره أطلق القول ببطلانها.

والماوردي قال: إن طال سكوته انقطعت، وإن قصر ففي انقطاعها وجهان: الأصح: أنه تنقطع.

قال الرافعي: وهذا ما أورده المعظم؛ لأنه اقترن بنية الفعل.

ومقابله موجه: بأن النية وحدها لا تأثير لها، والسكوت القليل بمجرده لا يكون قطعاً لها.

ص: 125

إذا لحن في "الفاتحة"، هل يؤثر؟

الكلام فيه مستوفٍ في باب: صفة الأئمة.

ولو أنه أبدل حرفاً بحرف، بطلت، وكذا في غير "الفاتحة" إلا أن يكون قد وردت به قراءة شاذة، مثل قوله:(إنا أَنْطَيْنَاكَ الكوثر)؛ فإنها لا تبطل.

وللشيخ أبي محمد تردد في إبدال الظاء بالضاد في قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} ، قال: لأن هذا لا يبين إلا للخواص، وهو مما يتسامح فيه عند بعض أصحابنا، والغزالي وجهه بقرب المخرج، وعسر التمييز.

وقال الإمام: الصحيح: القطع بأن ذلك لا يجوز، وهو الذي أورده ابن الصباغ؛ لأن الفصل بينهما ممكن، ومخرجهما مختلف، وهذا عند إمكان التعلم، فلو لم يقدر إلا على ذلك-صحت صلاته؛ كالألثغ ونحوه.

ولو كان يأتي بالحرف بين الحرفين، ككاف العرب، بين القاف والكاف- لم يضر، وسيأتي ذلك في باب صفة الأئمة.

قال: وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال:"آمين"؛ لما روى الترمذي، عن وائل بن حجر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، قال:"آمين" مد بها صوته. وقال: حديث حسن.

ص: 126

وإذا ثبت أنه عليه السلام قاله، اتبعناه؛ لقوله عليه السلام:"صلوا كما رأيتموني أصلي".

قال: يجهر بها، أي: بكلمة التأمين [الإمام] فيما يجهر فيه، أي: من الركعات؛ لما تقدم من رواية ابن حجر؛ فإنه-عليه السلام-لو لم يجهر به –لما سمعه، وقد روى أبو داود عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع به صوته"، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام، فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين

ص: 127

الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه"، أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

ورواية النسائي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين؛ فإن الملائكة تقول: آمين، وإن [الإمام يقول]: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة- غفر [الله] له ما تقدم من ذنبه".

ورواية الترمذي تقتضي أن الإمام يجهر حتى يسمع فيوافق.

فإن قيل: قد روى شعبة في حديث وائل بن حجر أنه عليه السلام: "خفض بها صوته".

قلنا: قد أشار القاضي الحسين في "تعليقه" إليه بقوله: يجهر به على الصحيح من المذهب، والجمهور [لم] يحكوه.

و [أما] الخبر، فقد قال البخاري: إن حديث سفيان أصح، وهو ما ذكرناه أولاً.

قال: وأخطأ شعبة في قوله: "وخفض بها صوته".

ثم ظاهر ما ذكرناه من رواية النسائي عن أبي هريرة، مساوقة المأموم الإمام في التأمين، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، حيث قال: "ينبغي للمأموم أن يترصد

ص: 128

فراغ الإمام من الفاتحة؛ فيبادر التأمين، ويساوق الإمام فيه، ولا يستحب مساوقة الإمام فيما عداه".

قال الإمام: [ويمكن تعليله بأن التأمين لقراءة الإمام]، لا لتأمينه، وكلام الشيخ-رحمه الله يجوز بأن ينزل عليه؛ بأن يضمر بعد قوله: وإذا قال-أي: الإمام-: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال-أي: المصلي-: آمين.

فإن قلت: إذا حملته على ما ذكرت، كان كلام الشيخ ساكتاً عن حال المنفرد؛ فالأولى أن يضمر بعد قوله:[وإذا قال]-أي: المصلي-: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين؛ ليشمل الإمام، والمأموم، والمنفرد.

قلت: لو قدرت ذلك، أدى إلى أن المأموم لا يؤمن لتأمين الإمام؛ لأنه لا يستحب له قراءة الفاتحة إلا بعد فراغ الإمام منها، وحينئذ لا يقع قوله:{وَلا الضَّالِّينَ} موافقاً لقول الإمام ذلك.

ولا نسلم أنه ليس في كلام الشيخ على ما قدرناه إشارة إلى تأمين المنفرد؛ لأن فيه إشارة إلى أن الإمام يؤمن.

وكل ما استحببنا للإمام الإتيان به من سنن الصلاة، استحببناه للمنفرد؛ فحينئذ فيه تنبيه عليه، والله أعلم.

قال: وفي المأموم قولان:

أصحهما: أنه يجهر؛ لما روي أبو هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمن، أمن من خلفه، حتى إن للمسجد ضجة"،وروي:"لجة" بفتح اللام، وهي اختلاف الأصوات.

ص: 129

وروي عن نعيم المجمر قال: "صليت وراء أبي هريرة، فلما قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين، وقال [الناس]: آمين، فلما فرغ، قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولأن المأموم تأمينه تابع لتأمين الإمام فليتبعه في كيفيته؛ وهذا هو القديم، كما حكاه الجمهور إلا القاضي الحسين؛ فإنه قال: إنه الجديد.

وكذلك وافق الشيخ على تصحيحه البغوي، والروياني في "تلخيصه" والرافعي.

ومقابله: أنه لا يجهر به؛ كما لا يجهر بالتكبير؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، وقال القاضي الحسين: إنه القديم، والمنتصرون له قالوا: لا حجة فيا لحديث الأول؛ لأن الجمع إذا كثروا، استجمعت أنفاسهم، وحصل من ذلك لجة، وهذه الطريقة حكاها الماوردي، عن أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، والإمام حكاها عن الأكثرين.

وقد قيل: إنهما منزلان على حالين:

فحيث قال: يجهر، [أراد]: إذا كان الجمع لا يبلغهم صوت الإمام؛ لكثرتهم.

وحيث قال: لا يجهر [به، أراد]: إذا كان المسجد صغيراً، يبلغ كل المأمومين تأمين الإمام.

قال بعضهم: وهذه طريقة الجمهور، وقد اختارها صاحب "المرشد".

والقائلون بالأولى اختلفوا في محلها:

ص: 130

قيل: محل القولين إذا جهر الإمام، أما إذا لم يجهر، جهر المأموم قولاً واحداً، ليسمع الإمام فيؤمن؛ وهذا ما حكاه في "المهذب"، والبندنيجي.

وقال أبو الطيب: إنه نص عليه في "الأم".

وقيل: القولان في الحالين، وهي طريقة المراوزة.

قال الإمام:: وهي التي كان شيخي يختارها.

تنبيه: التأمين، بتخفيف الألف والميم في لغة، وفي أخرى بمد الألف، وتخفيف الميم-وهي التي اختارها في "الخلاصة"-صوت موضوع لتحقيق الدعاء، معناه: اللهم استجب، وهو الأصح في "النهاية".

قال: كما أن المراد من قولهم: "صه": اسكت.

قال الشافعي: وبه يستدل على أن للعبد أن يسأل ربه في الصلاة بأمر الدين والدنيا؛ حكاه ابن الصباغ.

وقيل: إنه دعاء؛ لقوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89]، وإنما كان الداعي موسى، وهارون مؤمن، صلى الله على نبينا، وعليهما.

وقيل: معناه: كن ذلك.

وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى.

وقيل: اسم قبيل من الملائكة.

قال الماوردي: وقد قيل: إنه بتشديد الميم، في لغة.

وقال البندنيجي: إنه لو شدد الميم، ومد الألف، كقوله:{وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] لم يجز، وكذا حكاه في "التتمة"، وقال: إنه إن تعمد ذلك-بطلت صلاته، وقد حكاه الروياني عن والده أيضاً.

قال الأصحاب: ولا ينبغي أن يصل قوله: "آمين" بقوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، ولو قال:"آمين رب العالمين"، وما زاد من ذكر، كان حسناً؛ نص عليه في "الأم".

قال: ثم يقرأ السورة.

ص: 131

قراءة السورة مشروعة في الصلاة بعد الفاتحة للإمام والمنفرد؛ لأخبار سنذكرها في الباب- إن شاء الله تعالى- وفي مشروعيتها للمأموم تفصيل يأتي، ولا يقوم قام السورة قراءة الفاتحة مرتين، إذا قلنا: لا تبطل الصلاة؛ لأن الفاتحة مشروعة في الركعة فرضاً، والشيء الواحد لا يؤدي به الفرض والسنة في محل واحد.

قال الأصحاب: ويستحب للإمام أن يسكت سكتة لطيفة بعد [فراغه من] قراءة الفاتحة، وقيل قراءة السورة بقدر قراءة الفاتحة، وكذا يستحب له أن يسكت بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة؛ لما روى سمرة بن جندب قال:"حفظت مع رسول الله سكتين: سكتة بعد التكبير، وسكته بعد أم القرآن".

قلت: وقد يؤخذ استحباب ذلك في الحالتين من قول الشيخ: "ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقرأ السورة"؛ لأن لفظة "ثم" تقتضي الترتيب والمهلة.

ومنه يؤخذ أنه لو قرأ السورة قبل الفاتحة، لا تقع موقعها، وعليه نص الشافعي-رحمه الله-وقال: إذا أراد تحصيل السنة فليعدها. كذا حكاه القاضي الحسين.

ص: 132

وحكى الإمام في الاعتداد بها قبل قراءة الفاتحة-وجهين، عن رواية العراقيين، والمذكور في كتبهم الأول.

ثم الألف واللام في "السورة" للعهد، وهو ما سنذكره من سور المفصل.

وقول الشيخ هذا يفهم اختصاص الاستحباب بقراءة سورة كاملة بعد الفاتحة، وقد قال بعضهم: إنه لا يختص، بل المستحب أن يقرأ بعد الفاتحة سورة، أو ما دونها؛ لقول أبي سعيد الخدري:"أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر" رواه أبو داود، وروى النسائي أنه عليه السلام:"قرأ سورة "الأعراف" في المغرب" وما ذكره الشيخ لا شك أنه الأفضل؛ فإن السورة وإن قصرت أولى من بعض سورة أطول منها؛ حكاه الرافعي والمتولي؛ فإنه عليه السلام-لم يقرأ في الفرض إلا بسورة كاملة.

وفيه نظر؛ لأن النسائي روى عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة "الأعراف"، فرقها في ركعتين، والله أعلم.

[قال:] يبدؤها بـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} [الفاتحة:1]؛ لما

ص: 133

تقدم أنها من أول كل سورة آية، أو بعض [آية]، نعم: إذا قلنا: ليست من أول كل سورة، فهل يقرؤها؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين"، أحدهما: نعم؛ لأنه –عليه السلام كان يقرؤها بين كل سورتين.

قال: فإن كان المأموم في صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال:"هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أقول: مالي أنازع القرآن؟! " قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه" رواه مالك في "الموطأ" وأبو داود.

ص: 134

قال: وفي الفاتحة قولان:

أصحهما: أنه يقرأ- أي: وجوباً- لما تقدم من الأخبار عند الكلام في الفاتحة، وقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج غير تمام" قال الراوي: "فقلت يا أبا هريرة: إني أحياناً أكون وراء الإمام، فغمز ذراعي، وقال: اقرأ بها [يا] فارسي في نفسك".

قال الخطابي: خداج: ناقصة نقص فساد، يقال: خدجت الناقة: إذا ألقت ولدها

ص: 135

وهو دم، ولم يستبن خلقه.

وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت قال: "كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ " قلنا: نعم، هذَّا يا رسول الله، قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" قال الترمذي: وهو حسن.

والهذُّ: السرعة، وأراد: يهذُّ [القرآن] هذَّا فيسرع فيه من غير تفكر، ولا ترتيل، كما يسرع في قراءة الشعر. ونصبه على المصدر.

وقيل: المراد بالهذ: الجهر بالقراءة.

ولأن القراءة ركن في الصلاة أدرك محله؛ [فلا يسقط بمتابعة] الإمام كسائر الأركان.

واحترزنا بقولنا: "أدرك محله" عن المسبوق [الذي] لم يدرك محل القراءة؛ وهذا القول نص عليه في الجديد، و"الإملاء"، كما قال الماوردي.

وقال البندنيجي: إنه نص عليه في "البويطي"، و"الأم".

قال القاضي الحسين: وبعض الأصحاب قطع به، وحمل نصه [في] الآخر على حكاية مذهب الغير.

قال أبو زيد المروزي: وقد حكى هذا المذهب عن نيف وعشرين من الصحابة، منهم: عمر، وعثمان، وعليٌّ.

ومقابله: أنه لا يقرأ؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204]،وروى مسلم، عن أبي موسى قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا،

ص: 136

فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال:"إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، وليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا"، والقراءة تمنع ما أمر به من الإنصات، وما تقدم في الحديث في الفصل قبله [من قول الراوي:"فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم] فيما يجهر فيه"-يشهد له أيضاً؛ فإنه يقتضي التعميم؛ وهذا القول نص عليه في القديم [وبعض الجديد، كما قال الماوردي.

وقال البندنيجي: إنه نص عليه في القديم] و"الإملاء"، وفي صلاة الجمعة من الجديد.

والقائلون بالأول قالوا: المراد بالآية: الخطبة؛ كما قالته عائشة وعطاء، وإن أجريت على ظاهرها، فالقراءة لا تمنع الإنصات؛ لأنا قد ذكرنا أنه يستحب للإمام سكتة بعد قراءة الفاتحة [بقدر الفاتحة، فيقرأ فيها المأموم الفاتحة.

والقائل: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما يجهر به" من كلام الزهري، كما قال الخطابي وعبد الحق وغيرهما؛ فلا حجة فيه؛ على أنا نحمله على قراءة السورة، وكذا خبر أبي موسى؛ جمعاً بين الأحاديث.

التفريع: إن قلنا بالأول؛ فيستحب له أن يقرأ في سكتة الإمام بعد الفاتحة.

قال الماوردي والغزالي: فإن لم يسكت الإمام قرأها المأموم في قراءة الإمام السورة.

وقد ادعى بعضهم: أن المستحب أن يقرأها في سكتة الإمام قبل قراءة الفاتحة]، وفي سكتته بعد فراغه من الفاتحة، وقبل قراءته السورة، وقال:[إنه] لو قرأ بعضها في السكتة الأولى، ثم شرع الإمام في القراءة- أنصت له، فإذا فرغ منها، أتم ما بقي عليه، ولم يستأنف، وحكاه عن صاحب "المرشد"، وهو [المشهور في]"تعليق القاضي أبي الطيب"،وفيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن المتولي ذكر أن المأموم يكره له أن يشرع في قراءة الفاتحة قبل

ص: 137

شروع الإمام فيها؛ [لأنه تقدم] على الإمام في ركن، فإن فرغ المأموم منها قبل قراءة الإمام-بطلت على وجه، وقد ذكرنا ذلك في صلاة الجماعة.

والقاضي الحسين هاهنا حكى الخلاف في أنه لو قرأ قبل إمامه-هل يعتد بقراءته، أم لا؟ وحينئذ: فالمستحب أن تكون قراءة المأموم لها في السكتة بعد الفاتحة، كما ذكرنا، وهو جار فيما إذا كانت الصلاة سرية، ويأخذ فيها بالظن؛ قاله في "التتمة".

والثاني: أن هذا مخالف لما تقدم من أن الفصل الطويل في الفاتحة بما هو من مصلحة الصلاة يقطع الفاتحة.

وصاحب "المرشد" والقاضي جرياً على أصلهما في أن ذلك لا يقطعها، كما تقدم.

وإن قلنا بالثاني، فمحله إذا كان يسمع قراءة الإمام، فلو كان في موضع لا يسمعها، قرأ؛ لأنه غير مأمور بالإنصات؛ هذا مذهب العراقيين، ولم يحك الروياني غيره، وهو موافق لما ذكره الشيخ فيما إذا كان لا يسمع الخطبة.

وحكى المراوزة في وجوب القراءة في هذه الحالة وجهين، صرح بهما القاضي الحسين وغيره، وطردهما فيما إذا كان الإمام أخرس، وقال: إنهما كالوجهين في وجوب الإنصات إذا كان بعيداً عن الإمام لا يسمع الخطبة.

قال الإمام والغزالي: والقياس ما ذكره العراقيون.

وعلى هذا القول الذي عليه نفرع، هل يستحب للمأموم أن يأتي بالتعوذ في حالة جهر الإمام بالقراءة؟ فيه وجهان في "زوائد العمراني" عن "العدة" للطبري، عن شيخه: أحدهما: نعم؛ لأنه شريك للإمام في الذكر المسنون.

أما إذا كان مأموماً في صلاة يسر فيها الإمام؛ فإنه يقرأ الفاتحة قولاً واحداً؛ وكذا السورة عند العراقيين، وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر: أنه لا يقرؤها،

ص: 138

كما في الجهرية.

قال: والذي عندي أنه يقرأ السورة في الجهرية والسرية.

وهذا التفصيل لا يوجد للشافعي، وإنما قاله أصحابنا؛ ليستقيم لهم تأويل قوله عليه السلام:"من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة"، والشافعي لم

ص: 139

يشتغل بتأويله؛ لأنه لم يصح عنده فن راويه جابر الجعفي، وهو مردود الرواية

ص: 140

عند أهل الحديث.

ص: 141

ولو كان مأموماً في صلاة يجهر فيها الإمام، فأسر، أو يسر فيها فجهر- فهل

ص: 142

يكون الحكم كما لو جهر، أو أسر؟ مقتضى كلام الشيخ [أنه] كذلك؛ فلا يقرأ السورة في الأولى، ويقرأ الفاتحة، على الصحيح، ويقرأ في الثانية السورة والفاتحة قولاً واحداً، وهو وجه [حكاه المتولي وغيره، وادعى القاضي الحسين أنه الأظهر. وفيه وجه] آخر بالعكس من ذلك.

واعلم: أن بعضهم قال: إن كلام الشيخ يوهم أن الخلاف في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم يجري في الأخيرة من المغرب، والأخيرتين من العشاء، فلو قال: في ركعة يجهر فيها الإمام، لكان أحسن.

قلت: هذا الوهم وهم؛ لأن الشيخ يتكلم في الركعة الأولى فقط؛ يدل عليه قوله من بعد: ثم يصلي الركعة الثانية مثل الأولى، إلا في كذا، وإذا كان

ص: 143

كذلك، فقوله:" [فإن كان] في صلاة يجهر فيها [الإمام]، لم يقرأ السورة"، أي: في الركعة التي يتكلم فيها، وفي الفاتحة-أي: فيها-قولان، والله أعلم.

قال: والمستحب أن تكون السورة في الصبح والظهر من طوال المفصل؛ لأنه –عليه السلام "قرأ في الصبح بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} كما رواه مسلم.

قال الترمذي: "وكان ذلك في الركعة الأولى، وقرأ فيها "الواقعة"،وقرأ فيها "تنزيل السجدة"، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} في يوم الجمعة" ورواية ابن عباس: أنه قرأ فيها سورة "الجمعة" و"المنافقون"،وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في صلاة الظهر، في الركعتين الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخيرتين قدر خمس عشرة آية- أو قال: نصف ذلك-وفي العصر، في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخيرتين قدر النصف من ذلك".

وعن أبي سعيد-في رواية أخرى-قال: حزرنا قيامه-عليه السلام-في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، قدر {الم * تَنزِيلُ} "السجدة"، وحزرنا قيامه في الأخيرتين قدر النصف منذ ذلك، وحزرنا

ص: 144

قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخيرتين من الظهر، وفي الأخيرتين من العصر على النصف من ذلك" أخرجه أبو داود، ومسلم.

وهذا يمنع أن يكون ما جرى في الأوليين من الظهر نصفين؛ إذ لو كان كذلك، لزم أن يكون قد قرأ في كل ركعة من الأخيرتين من العصر أقل من الفاتحة.

وروى أبو داود عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر، ثم قام، فركع، فرأينا أنه قرأ: تنزيل السجدة" وهذه الأخبار تدل على المدعى.

وقد استحب الماوردي أن تكون السورة في الظهر، أقصر من السورة في الصبح قليلاً؛ لأن ما ورد عنه-عليه السلام-يدل على ذلك، روى مسلم، عن جابر بن سمرة:"أنه عليه السلام-كان يقرأ في الظهر بـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الصبح بأطول من ذلك"، وما ذكره هو ما أورده الرافعي.

قال: وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، أما العصر؛ فلما ذكرناه، وأما العشاء؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ في القصة المشهورة: "اقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [كما أخرجه مسلم، وكان عثمان قرأ في العشاء بأوساط المفصل]، وجمع بين العشاء والعصر؛ لشبهها بها؛ لأنها الثانية من صلاتي

ص: 145

جميع النهار؛ [كما أن العشاء هي الثانية من صلاتي جميع الليل].

قال: وفي المغرب من قصار المفصل؛ لما روى [أن] ابن عمر رضي الله عنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: الآية1] " أخرجه ابن ماجه.

وقد روي عن أبي بكر "أنه كان قرأ فيها بقصار المفصل".

وكذلك روي عن أبي موسى الأشعري، ولا وجه لذلك إلا الاتباع.

فإن قيل: هذا يعارضه ما روي عن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ [في المغرب] بطولي الطويلتين؟! قال: قلت: ما طولي الطوليين؟ قال: الأعراف" قال-[أي]: ابن جريج-: وسألت أنا ابن أبي مليكة، فقال لي من قبل نفسه:"المائدة والأعراف" أخرجه أبو داود، والبخاري مختصراً.

ص: 146

قلنا: لا معارضة بين ما ذكرناه وهذا؛ لأن ما ذكرناه يقتضي الحالة الدائمة، ومثله: ما روي عن جابر قال: "كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم ننصرف إلى دورنا في بني سلمة، ونحن نرى موقع النبل"، ولا يجوز أن يستوعب النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الطويلتين، وهما-على المشهور- "الأنعام" و"الأعراف" في قدر ذلك الزمان مع ترتيل القراءة، وما قاله زيد بن ثابت لا يقتضي أنه-عليه السالم-كان يداوم عليه؛ فيجوز أن يكون فعله بياناً للجواز ثم لو ثبتت المعارضة فإما أن نقول: يسقط الخبران؛ لتعارضهما، أو نجمع بينهما، فنقول: قرأ شيئاً من "الأعراف" قبل نزول جميعها، أو الآية المذكورة فيها قصة الأعراف، وكذلك القول في سورة "الأنعام"، وقد اختصر البندنيجي ما ذكرناه، قال في الدليل على ما ذكرناه: إنه صح في [كل] ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام: ولعل السبب فيه: أن وقت الصبح طويل، والصلاة ركعتان فحسن تطويلهما، ووقت [صلاة] المغرب ضيق؛ فشر فيها القصار، وأوقات صلاة الظهر والعصر، والعشاء [طويلة، ولكن الصلوات] كاملة الركعات؛ فتعارض ذلك عليه؛ [فرتب عليه] التوسط.

ثم المفصل من سورة "الحجرات" إلى [آخر الختمة].

وقيل: من "قاف".

ص: 147

وقيل: من "القتال".

وقيل: "من "الجاثية".

سمي: مفصلاً؛ لكثرة الفصول بين سوره.

وقيل: لقلة المنسوخ فيه.

وطوال المفصل، مثل:"الحجرات"، و"قاف"، و"الذاريات"، و"الطور"، و"الواقعة"، و"المرسلات".

وأوساط المفصل: كـ"الجمعة" و"المنافقون".

وقصار المفصل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ كذا قاله البندنيجي، وغيره.

وقال بعضهم: إن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} من أقصر المفصل: وقصار المفصل، كـ"العاديات" ونحوها.

و"السورة" بلا همز، وبالهمز؛ لأن سور البلد-بلا همز-سمي: سوراً؛ لارتفاعه، وسؤر الطعام والشراب-:[بقيته]-مهموز، وسورة القرآن أشبهتهما، فجاز فيها الهمز، وتركه.

وما ذكره الشيخ بيان للأكمل في حق الإمام؛ فلا يستحب له الزيادة على ذلك في حق من لا يؤثرون التطويل؛ لقصة معاذ، [أما] المنفرد؛ فيطيل ما شاء إلا في المغرب؛ فإنه والإمام سواء؛ لتعلق ذلك بالوقت؛ كذا قاله الإمام.

ولو خالف الإمام أو المنفرد، فقرأ في الصبح [والظهر] من أوساط المفصل، أو قصاره، قال في "الشامل": قال أصحابنا: لا يكون خارجاً عن السنة؛ لما روى عمرو بن حريث قال: "كأني أسمع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة، فقرأ {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] ".

ص: 148

وروى أبو داود بإسناده، عن رجل من جهينة "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقرأ في الصبح: إذا زلزلت".

وروى-أيضاً-عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أنه قال: "ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم] يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة".

قال: ويجهر الإمام والمنفرد بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء.

أما جهر الإمام في ذلك فبالإجماع المستفاد من نقل [الخلف عن السلف].

والخلف -بفتح اللام- من يتبع السلف، ويقوم مقامهم في الفضل والخير؛ فإن خلفوهم بشر؛ فهم خلف- بإسكان اللام -قال الله تعالى-:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59].

وأما جهر المنفرد؛ فلأنه غير مأمور بالإنصات؛ فأشبه الإمام.

ولا يجهر المأموم اتفاقاً، جهر إمامه أو أسر، والإسرار فيما عدا [ما] ذكره الشيخ من الصلوات المفروضة سنة، كالجهر فيما ذكرناه؛ قال عليه السلام:"إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار، فارجموه بالبعر" رواه أبو حفص بإسناده.

ص: 149

وما روي أنه-عليه السلام-قال: "صلاة النهار عجماء" فقد قال الدارقطني: إنه من قول الفقهاء.

ويستثني من ذلك صلاة الجمعة والعيدين، والاستسقاء؛ لأخبار وردت، تأتي في أبوابها.

قال المتولي، والقاضي الحسين: وقد كان الجهر مشروعاً في كل الصلوات في ابتداء السنة، إلا أن المشركين كانوا يسبون القرآن ومن أنزله؛ إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإسرار في الظهر والعصر، والجهر في المغرب والعشاء، والصبح؛ لاشتغالهم في هذه الأوقات بالأكل في منازلهم.

وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] دال على ذلك؛ فإن معناه: [ولا تجهر في جميع الصلوات، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} ، أي: لا تسر في الجميع {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، أي: اجهر في البعض، وأسرَّ في البعض.

ص: 150

وقيل: معناه]: لا تجهر جهراً بليغاً، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي: لاتخفض خفضاً بليغاً، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ} ، أي: بين الجهر والسر {سَبِيلاً} فإن خير الأمور أوسطها.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً:

أحدها: أنه لا فرق في الإمام والمنفرد بين الرجل والمرأة، وبه صرح البندنيجي وغيره.

وقالوا: يكون جهرها دون جهر الرجال، وذلك في موضع لا أجانب فيه من الرجال، فإن كان فيه منهم -قال القاضي أبو الطيب-: فالمستحب لها الإسرار.

وقال الماوردي: إنها تسر في جميع الصلوات جماعة وفرادى؛ لأن صوتها عورة.

ولعل مراده: أنها لاتجهر جهر الرجال، كما قلناه.

والقاضي الحسين قال [هنا]: السنة أن تخض صوتها في الصلوات كلها، سواء قلنا: إن صوتها عورة، أو ليس بعورة.

قال: ولأصحابنا في صوتها وجهان:

أحدهما: أنه عورة؛ فعلى هذا لو رفعت صوتها في الصلاة، بطلت صلاتها.

والثاني: لا، وهو الأصح؛ لأن العورة: ما يشاهد، ويمسن ويستمتع بها؛ وعلى هذا فمنعها من الجهر؛ لخوف الفتنة، كما تمنع من كشف وجهها، نعم، لا نأمرها بالإسرار [كإسرار] الرجل في صلاة السر، بل لها أن تجهر [أدنى جهر]، بحيث تسمع نفسها قليلاً، وإن كان حولها محارم فلا بأٍن أن تسمعهم.

وقال في باب الأذان: [إنه لا يجوز] للمرأة أن تجهر في صلاة الجهر، ولا أن ترفع صوتها بالتكبير.

الثاني: أنه يجهر بقراءة الفاتحة والسورة، وهو مما لا خلاف فيه، وحينئذ فيجهر بالبسملة يهما؛ لأنها منهما كما قررناه، وقد صح من رواية

ص: 151

علي، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بـ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} .

وروى أنس بن مالك أن معاوية لما قدم المدينة، صلى صلاة جهر، فقرأ {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} ، ولم يجهر بها في السورة، فناداه المهاجرون والأنصار من كل مكان: أسرقت الصلاة يامعاوية، أين {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيِمِ} .

قال الماوردي وغيره من أصحابنا: فدل هذا الإنكار منهم على الإجماع في الجهر بها.

ص: 152

واعترض بعضهم على دعوى الإجماع، وقال: من أين لهم أن كل الصحابة كانوا حضوراً في ذلك المجلس؟! فإنه يجو أن يكون فيهم من لم يحضر، وهو الظاهر.

وجوابه: أن مبادرتهم إنكار تدل على أنه مجمع عليه؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما أنكروه؛ إذ المختلف فيه لا ينكر على فاعله على الصحيح، خصوصاً إذا كان مجتهداً.

ولأنها من القرآن؛ فاستحب الجهر بها؛ كسائر [آي] القرآن.

وفي "الزوائد": أن صاحب "الفروع" حكى عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه يسر في البسملة فيما يجهر فيه؛ فيخالف أهل البدع.

الثالث: أنه لا فرق في الجهر في الصبح والمغرب والعشاء، والإسرار في الظهر والعصر بين أن تفعل في وقتها، أو في غير وقتها، ليلاً، أو نهاراً.

وقد حكى المتولي وغيره وجهين: في أن الاعتبار في الجهر والإسرار بوقت الأداء، أو القضاء، حتى إذا قضى الظهر ليلاً يجهر، والعشاء نهاراً يسر.

وأصحهما في "التهذيب": أن الاعتبار بحالة القضاء.

وقال المتولي: إنه ظاهر المذهب.

والمذكور في "الحاوي"، و"المرشد" مقابله؛ لأن القضاء لا يزيد على الأداء.

والوجهان-عند القاضي الحسين-ينبنيان على أنه إذا قضى صلاة في أيام التشريق، فاتته في غيرها-هل يكبر [خلفها]؟ وفيه قولان.

وذكر البندنيجي طريقة أخرى، فقال: صلاة الليل إذا فاتت، إن قضاها نهاراً أسر؛ [حكاه أبو ثور عن نص الشافعي، وإن قضاها ليلاً جهر. وصلاة النهار أي وقت قضاها أسر].

وحيث قلنا: إنه يجهر فيما يقضيه نهاراً من صلاة الليل؛ فينبغي أن يكون جهره دون جهره بالليل.

الرابع: أنه لا يجهر في النوافل ليلاً كان أو نهاراً.

ص: 153

وغيره ضبط ما يجهر فيه، ويسر، فقال: جميع الصلاة الواقعة في الليل فرضاً أو سنة يجهر فيها، إلا صلاة الجنازة على وجه؛ لأن الغالب أنها تفعل نهاراً؛ فغلب، ولأنه لا يسن فيها قراءة السورة؛ فكانت كالركعتين الأخيرتين من العشاء.

وأما الصلاة في النهار، فما لانظير لها في الليل، وهي الجمعة، والعيدان، والاستسقاء؛ لأنه يشرع فيه الصوم، فالسنة الجهر فيها، وما لها نظير من صلاة الليل، وهي: الظهر، والعصر، والكسوف، والنوافل المطلقة، والمقيدة، فالسنة الإسرار فيها.

ونظير الظهر والعصر من صلاة الليل العشاء، ونظير الكسوف الخسوف، والنوافل بالنوافل.

الخامس: أنه لايستحب الجهر بدعاء الاستفتاح، والتعوذ، ولاخلاف في [ذلك في] دعاء الاستفتاح، وأما التعوذ، فقد قال الشافعي في "الأم":"كان ابن عمر يتعوذ في نفسه، وكان أبو هريرة يجهر، فأيهما فعل جاز".

وقال في "الإملاء": يجهربه، وإن أخفاه، جاز. فأخذ الأصحاب بذلك، وجعلوا في المسألة قولين:

أحدهما: يتخير فيه.

والثاني: يجهر؛ لأنه تبع للقراءة؛ فجرى مجراها؛ كما في التأمين؛ وهذه طريقة الشيخ أبي حامد، والقاضي الحسين، والإمام.

وغيرهم قالوا في المسألة قولين:

أحدهما -وهو الجديد-[لا يجهر به أصلاً.

والثاني -وهو القديم]-: أنه يجهر [به] في الجهرية.

وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أقوال: يجهر، يسر، يتخير بينهما.

والذي اختاره في "الإفصاح": الإسرار، كما في دعاء الاستفتاح، [وهو المذكور في "الحاوي"،و"المرشد".

ص: 154

وقد ادعى الجيلي: أن الخلاف المذكور جارٍ في دعاء الاستفتاح]، والمشهور الأول.

فرع: إذا لم يجهر في الأوليين من العشاء، لا يجهر في الأخيرتين منها؛ لان الإسرار فيهما سنة، فلا يترك لسنة أخرى في غير محلها؛ حكاه في "الوسيط" في باب صفة الحج.

ثم حد الجهر أن يسمع من حوله، وحد الإسرار أن يسمع نفسه من غير علة.

وقول الشيخ: "والأوليين من المغرب والعشاء" بتكرير الياء المثناة من تحت، وكذلك جاء تثنية المؤنث.

قال: ومن لا يحسن الفاتحة-أي: بالعربية-وضاق [عليه] الوقت عن التعلم-قرأ بقدرها من غيرها؛ أي: إن كان يحفظه، ولا يأتي بها بالعجمية إن قدر.

ووجه كونه لا يأتي بها بالعجمية قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف:2]، فأخبر أن القرآن عربي.

وقال عليه السلام: "أحبوني لثلاث: لأني عربي، ولأن القرآن عربي، و [لأن] كلام أهل الجنة عربي".

ص: 155

وإذا ثبت أنه عربي، كان فيه دليل على أن العجمي ليس بقرآن؛ فلا يأتي به.

ولأن الإتيان به بالعجمية فرع فهم المراد منه، ولا غاية له، وخالف التكبير؛ حيث يأتي به العاجز عنه بالعربية بالعجمية؛ لأن معناه مفهوم، والآتي به بالعجمية يكبر، وخالف الخطبة بالعجمية، وكذا النطق بكلمة الشهادة؛ إذا جوزناها بالعجمية؛ كما هو الصحيح؛ لأن المقصود من الخطبة: الإعلام، ومن النطق بالشهادتين: الإخبار عما في الضمير، وهو يحصل بها، ولا كذلك القرآن؛ فإن المقصود منه: لفظه، ومعناه؛ فلا تقوم لغة أخرى مقامه.

ووجه كونه يقرأ بقدرها من غيرها: أنه لو لم يحسن شيئاً-لزمه أن يأتي بالذكر؛ كما سنذكره، والقرآن أقرب إلى الفاتحة منه؛ لأن نظمهما معجز؛ فتعين.

ثم ما المراد من القدر؟ هل هو [قدر] الآي [والحروف]، أو قدر الآي فقط؟ فيه قولان، أو وجهان؛ كما حكاه البندنيجي:

أحدهما -وهو ما نقله المزني-: الأول؛ لأن بذلك يتحقق أنها قدرها؛ ولأن الفاتحة مشتملة على آي وحروف، ولابد من الإتيان بعدد الآي، حتى لو قرأ

ص: 156

آية طويلة بقدر كل آي الفاتحة- لا تجزئه؛ فكذا لابد من عدد الحروف.

والثاني-ذكره في استقبال القبلة من "الأم"، حيث قال-:يجب عليه قدر سبع آيات قصاراً كن أو طوالاً، وسواء [قرأ بهن] من سورة واحدة أو سور.

ووجهه القياس على قضاء رمضان؛ فإنا نعتبر فيه الأيام [دون الساعات].

والراجح: هو الأول، والفرق بين ما نحن فيه، والصوم: أن الواجب منه يختلف طولاً وقصراً؛ بحسب الزمان؛ فلذلك لم نعتبره في قضائه، ولا كذلك الواجب من القراءة؛ فإنه [لا] يختلف؛ فاعتبرنا المساواة في بدله.

ولأن مراعاة قدر الزمان في رمضان يشق، ولا كذلك مراعاة قد رالحروف.

وعلى هذا يكفي أن يكون [جملة] عدد حروف السبع عدد حروف الفاتحة، ولا يشترط أن [تكون حروف] كل آية بقدر حروف كل آية [من الفاتحة]؛ حتى يجوز أن نجعل آيتين مقام آية من الفاتحة.

وقيل: يجب أن يكون عدد حروف كل آية قدر حروف الآية من الفاتحة، أو أطول منها، ويحكي هذا عن الشيخ أبي محمد، وهو بعيد.

ثم الحرف المشدد من الفاتحة يعد بحرفين.

فرع: لو كان لا يحسن الآيات إلا متفرقات، أتى بهن.

وإن كان يحسن آيات متفرقات، وآيات مجتمعات، وكل منها بحيث تجزئ عن الفاتحة؛ فظاهر النص في "الأم": أنه يجزئه أيها شاء، والذي كان الشيخ أبو محمد يقوله، وتبعه الإمام: أنه يتعين عليه الإتيان بالمجتمعات؛ لأن للنظم تأثيراً عظيماً في الإعجاز، وعلى ذلك جرى الرافعي وغيره موجهين ذلك بأن المتواليات أشبه بالفاتحة.

وأما النص؛ فيمكن حمله على الحالة الأولى.

أما إذا لم يضق الوقت عن التعليم فلا يقرأ بقدرها من غيرها، بل يجب عليه أن يتعلم، وهذا يؤخذ من قول الشيخ [في] التكبير: إنه يجب عليه أن يتعلم؛

ص: 157

لأنه إذا وجب مع أنه يأتي بمعناه بلسانه؛ فلأن يجب تعلم الفاتحة، وهو لا يأتي بها بلسانه أولى.

فلو لم يتعلم مع القدرة، أوجبنا عليه إعادة كل صلاة واجبة صلاها بدون الفاتحة إلى أن يتعلم.

وقيل: إلى أن يشرع في التعلم؛ حكاه الماوردي، وتبعه الروياني.

والحكم فيما إذا لم يمكنه التعلم، وأمكنه أن يقرأ من مصحف يشتريه، أو يستأجره، أو يستعيره كذلك، حتىلو كان في الليل، كان عليه مع ذلك تحصيل ضوء عند الإمكان.

ولو قدر على من يلقنه الفاتحة في الصلاة، قال القاضي الحسين في فتاويه: لا يجب عليه ذلك، وله أن ينتقل إلى البدل.

ولو لم يكن في البلد إلا مصحف واحد، وكان لا يمكنه التعلم إلا منه، فلا يجب على مالكه إعارته؛ وكذا لو لم يكن إلا معلم واحد، لا يلزمه التعليم على ظاهر المذهب؛ كما لو احتاج إلى سترة في الصلاة ومعه ثوب، أو احتاج إلى الوضوء ومع غيره ماء.

قال: وإن كان [يحسن] آية-أي: [فقط]-من الفاتحة، أو غيرها- ففيه قولان؛ أي: منصوصان في "الأم" كما قاله البندنيجي، وغيره حكاهما وجهين:

أحدهما: يقرؤها، ثم يضيف إليها من الذكر [ما يتم به قدر الفاتحة؛ لأنه لو

ص: 158

كان لا يحسن شيئاً من القرآن يأتي بالذكر] عن جميعها؛ كما ستعرفه؛ فلأن ينوب عن بعضها أولى، ونظيره ما إذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لوضوء أو غسل؛ فإنه ستعله، ويتيمم عن المفقود؛ لأنه لو عدم جميعه تيمم، وهذا ما صححه في "المهذب"، و"الحاوي"، و"تلخيص" الروياني، واستدل له ابن الصباغ بما رواه أبو داود قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن؛ فعلمني ما يجزئني في الصلاة؛ فقال: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، قال: هذا لله فما لي؟ قال: تقول: "اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني، وعافني".

قال: وفي هذا الذكر "الحمد لله"، ولا يتعذر عليه أن يقول: رب العالمين، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتكرارها.

قلت: وفي هذا الاستدلال نظر من وجهين:

أحدهما: أن المأمور به في الخبر بعض آية، والنزاع إنما هو فيما إذا كان يحسن آية، وما دونها لا يجب عليه أن يأتي به؛ إذ لا إعجاز فيه.

ص: 159

ثم لو صح ما قاله، للزم ألا يجب عليه قراءة الآية إذا كان يحفظها، بل ينتقل إلى الذكر، ولا خلاف في أنه يجب.

والثاني: أنه يكرر ذلك سبعاً؛ لأنه أقرب إلى الباقي من الذكر؛ فيتعين الإتيان به؛ كما إذا أحسن غيرها من القرآن؛ فإنه لا يعدل للذكر، ويتركه.

والخلاف جارٍ -كما حكاه البندنيجي، والشيخ في "المهذب"،وغيرهما-فيما إذا كان يحسن آية من الفاتحة، وباقي القرآن، هل يكررها سبعاً، أو يأتي بها، ويكمل من القرآن؟

قال الإمام: ولو كان يحسن آيتين مثلاً- ففي التكرار احتمال يجوز أن يقال: لو كررهما أربعاً، كفى؛ فإنه أتى بالسبع، وزاد. فليتأمل الناظر ذلك؛ فإنه محل النظر.

ولا خلاف في تعين الإتيان بالآية؛ إذا كان لا يحسن غيرها من الذكر، وقد تقدم في نظير المسألة من التيمم؛ وهي: إذا وجد بعض ما يكفيه من التراب-هل يكون في استعماله القولان يما إذا وجد بعض ما يكفيه من الماء، [أو يجب] قولاً واحداً؛ كما نحن فيه؟ في طريقان.

كأن الفرق أنه هنا لا يجب عليه الإعادة عند العجز عن كل البدل؛ فاحتيط [بالإتيان بالمقدور عليه، ولا كذلك في التيمم؛ فإنه عند العجز عن [كل] البدل يصلي، ويعيد-على الصحيح- فلا ضرورة] في الإتيان ببدل ناقص.

ثم إذا قلنا بأنه يقرأ الآية، ويأتي بالذكر؛ فظاهر كلام الشيخ أنه يأتي بالآية أولاً، ثم بالذكر، سواء كانت الآية في أول الفاتحة، أو وسطها، أو آخرها، وهو ما اقتضاه كلامه في "المهذب" أيضاً؛ لأنه قال: إن كان يحسن آية وغيرها قرأ الآية، ثم يقرأ ست آيات من غيرها.

وغيره من الأصحاب اختلف كلامهم:

فقال البغوي: لا يشترط الترتيب بين البدل، والأصل، وكيفما قرأ جاز.

وقال القاضي الحسين، والمتولي، والأئمة- كما قال الإمام-: إنه إن كان

ص: 160

يحسنها من الفاتحة وجب الترتيب؛ فإن كانت أول الفاتحة أتى بها، ثم بالذكر، وإن كانت من آخرها أتى بالذكر، ثم بها، وإن كانت في وسطها أتى بالذكر أولاً عما قبلها، ثم بها، ثم بالذكر عن الباقي.

قال الإمام: وعلة الترتيب هاهنا ليست علة الترتيب في الفاتحة؛ لأن الترتيب يراعى في الفاتحة؛ حفظاً لنظمها المعجز، وليس بين البدل وما يأتي به من الفاتحة [نظم يرعى.

قلت: وعلى هذا لو كان يحسن الآية من غير الفاتحة] ينبغي أن ينظر في عدد حروفها؛ إذا قلنا باعتبار عدد الحروف، فإن وافقت آية [من] أول الفاتحة، أو وسطها، [أو] آخرها- قدر أنها بدلها، وأتى بالذكر بدلاً عما بقي. وإن لم تكن حروفها قدر حروف آية منها، بل أقل-فيظهر أنه يتخير في تقديم الذكر [وتأخيره]، ويجوز أن يتعين تقديم الآية؛ لأنها أقرب إلى الأصل، والله أعلم.

ص: 161

قال: وإن لم يحسن شيئاً من القرآن، لزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم] للخبر السابق؟

قال: ويضيف إليه كلمتين من الذكر؛ لتكمل الكلمات سبعاً؛ كعدد آي الفاتحة.

ولأنه لو أتى بالبدل من القرآن، أتى بسبع آيات؛ فالذكر أولى، وهذا قول أبي إسحاق؛ كما قاله أبو الطيب، وعلى هذا فالأولى أن يضيف إليه ما روي في بعض الأخبار:"ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن"؛ وهذا القول لم يحك الشيخ أبو حامد غيره، ولم يذكر في "المهذب" غيره.

وقيل: لا يلزمه أن يضيف إلى الكلمات الخمس شيئاً آخر؛ لأنه-عليه السلام اقتصر حين سئل عن بيان ما يجزئ في الصلاة على ذكر ذلك، وهذا قول أبي علي الطبري، واختاره القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والروياني، وهو الأصح، وخالف ما إذا كان البدل قرآنا؛ لأنه من الجنس؛ فاعتبر المقدار، وهذا بدل من غير الجنس؛ فيجوز أن يكون ون أصله؛ كالتيمم مع الوضوء والغسل.

قال: وقيل: يجوز هذا وغيره؛ أي: لا يتعين ذكر للبدل، بل سائر الأذكار فيه سواء؛ لأن القرآن بدل عن الفاتحة، والذكر بدل عن القرآن، وغير الفاتحة من القرآن لا يتعين؛ فكذا بدله؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب.

ولأنه لا مزية لبعض الذكر عن بعض من حيث النظم؛ وهذا ما يحكي عن أبي إسحاق المروزي، ونسبه الروياني في "تلخيصه" إلى أبي علي بن أبي هريرة.

وهو على تقدير صحة النسبة الأولى فيما حكيناه عنه من أنه يضيف إلى الذكر المذكور [في] الخبر كلمتين من الذكر-محمول على [ما] إذا أراد أن يأتي به.

وقد صحح عدم تعيين الذكر الرافعي، والروياني في "تلخيصه"، ولم يحك الإمام عن المراوزة غيره.

وأمره-عليه السلام-الأعرابي بالذكر المخصوص محتمل؛ لأنه كان

ص: 162

يحفظه، ولا يحفظ سواه؛ ولذلك لم يكرره عليه؛ وعلى هذا يشترط أن تكون حروف ما يأتي به من الذكر بقدر حروف الفاتحة؛ لأنه [لا] يمكن اعتبار قدر الآي إلا بذلك.

وحكى الرافعي وجهاً آخر: أنه لا يشترط، وعلى هذا يأتي بسبع أنواع من الذكر، ويقام كل نوع مقام آية، وهذا ما حكاه في "التهذيب".

قال الرافعي: وهو أقرب تشبيهاً لمقاطع الأنواع مقام الآيات.

وهل الأدعية المحضة كالأثنية؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد.

قال الإمام: والأشبه أن ما يتعلق من الأدعية بأمور الآخرة كالأثنية، دون ما يتعلق بالدنيا.

وسلك الرافعي طريقاً آخر؛ فقال: يشترط أن تكون حروف الأذكار معادلة لحروف الفاتحة، ويعد الحرف المشدد من الفاتحة بحرفين من الذكر، ولا يراعي في الذكر التشديدات.

وهل يشترط أن تكون كلمات الذكر معادلة لعدد آي الفاتحة؟ فيه وجهان.

ص: 163

ويشترط ألا يقصد بالذكر المأتي به شيئاً سوى البدلية؛ كما إذا استفتح أو تعوذ على قصد إقامة سنتهما.

ولا يشترط قصد البدلية فيهما، ولا في غيرهما من الأذكار في أظهر الوجهين.

قال: فإن لم يحسن شيئاً، وقف بقدر القراءة: لأنه كان يجب عليه- في حال قدرته على القراة-أمران:

أحدهما: القيام.

والثاني: القراءة.

فإذا فات أحدهما بقي الآخر.

ومثل هذا: التشهد الأول، والقنوت؛ إذا كان لا يحسنهما يمكث بقدرهما؛ ولهذا عد الأصحاب القنوت، والقيام له، والتشهد، والجلوس له مما يسجد لكل منها عند السهو؛ كما ستعرفه.

فإن قلت: القيام إنما وجب لأجل القراءة، والقراءة قد سقطت؛ فوجب أن يسقط ما وجب لأجلها.

قلنا: القيام وجب عندنا لنفسه وعينه، وبه صرح الإمام في صلاة المريض، وإن كان قد قال -عند الكلام في المسبوق-: إنه إنما وجب تبعاً للقراءة، والصحيح: ما ذكرناه.

فرع: لو تعلم الفاتحة في الصلاة، فهل يجب عليه قراءتها؟ نظر:

فإن كان ذلك قبل [الشروع في القراءة، وجب بلا خلاف.

وإن كان بعد] الركوع، فلا يجب في تلك الرجعة بلا خلاف.

وإن كان بعد الشروع في البدل، وقبل استكماله، فهل يتمه، أو يقطعه؟ فيه

ص: 164

وجهان؛ حكاهما الروياني، والإمام، والفوراني:

أحدهما: أنه يتمه؛ كما إذا قدر على العتق في الكفارة بد الشروع في البدل.

والثاني: لا وهو المشهور، ولم يحك الرافعي سواه.

وعلى هذا فهل يستأنف الفاتحة، أو يأتي نها بقدر ما بقي من الذكر؟ فيه وجهان؛ أصحهما- في "التتمة"، وغيره-: الأول؛ كما لو قدر على الماء قبل فراغ تيممه؛ فعلى هذا لو لم يتعلم إلا بعد الفراغ من الذكر، وقبل [الشروع في] الركوع؛ فهل يستأنف، أو لا؟ فيه وجهان؛ أصحهما-عند الروياني-نعم؛ كما لو قدر على الماء بعد الفراغ من التيمم؛ لأن محل القراءة باقٍ، وهذا ما أورده الماوردي، [والقاضي أبو الطيب] في باب: صلاة الإمام قاعداً بقيام.

وأظهرهما في "الرافعي" الثاني.

ومنهم من قطع به؛ لأن البدل قد تم، وتأدى به الفرض؛ فأشبه ما لو أتى المكفر بالبدل، ثم قدر على الأصل، أو صلى بالتيمم، ثم قدر على الماء.

والفوراني شبه الخلاف في هذه الحالة والحالة [التي] قبلها بالخلاف فيما إذا انقطع المطر بعد [فراغ] صلاة العصر، وقد جمع في وقت الظهر.

[فرع آخر]: الأخرس عليه أن يحرك لسانه بقصد القراءة؛ لأن القراءة تتضمن نطقاً، وتحريك اللسان؛ فالقدر الذي تعذر جعلناه عفواً، وما يقدر عليه لابد له من الإتيان به؛ قاله في "التتمة"، وحكاه الإمام عن رواية العراقيين عن النص، ثم قال: وهو مشكل؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة، ولا يدانيها؛ فإقامته بدلاً بعيد.

ثم يلزم -على قياس ما ذكروه- أن يلزموا التصويت من غير حروف، مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد.

وبالجملة لست أرى ذلك بدلاً عن القراءة، ثم إذا لم يكن بدلاً، فالتحريك الكثير ملحق بالفعل الكثير، وسنذكره.

ص: 165

قال: ثم يركع؛ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا} [الحج: 77] وقوله عليه السلام للمسيء في صلاته: "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً" وهو إجماع.

قال: مكبراً؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ويكبر حين يركع، ثم يقول:"سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع، ويقول وهو قائم:"ربنا لك الحمد" ثم يكبر حين [يهوى، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها، وكان يكبر حين] يقوم لاثنين من الجلوس، رواه مسلم، والبخاري.

وكان أبو هريرة يكبر في كل خفض، ورفع، ويقول:"أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه البخاري.

قال: رافعاً يديه؛ لما روى ابن عمر: أنه عليه السلام كان يرفع يديه حذو منكبيه؛ إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال:"سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد"، وكان لا يفعل ذلك في السجود. رواه مسلم، والبخاري.

وهكذا يرفعهما إذا صلى جالساً، أو مضجعاً.

ثم في كيفية الرفع الخلاف السابق [في كيفيته في] تكبيرة الإحرام، وهو جار في الرفع من الركوع أيضاً؛ قال الرافعي.

والذي ذكره الجمهور هاهنا أنه يرفع ذلك حذو منكبيه.

قال الأصحاب: ويستحب أن يكون ابتداء التكبير مع ابتداء الرفع، وهل يمد التكبير إلى آخر الركوع؛ كي لا يخلو فعل من أفعال الصلاة عن ذكر، وكذا في

ص: 166

سائر تكبيرات الانتقالات؟ فيه قولان:

الجديد الأول، وهو مختار البغوي.

ووجه الثاني- وهو القديم-: [الحذر من التغيير]،وقد روي أنه عليه السلام قال:"التكبير جزم".

قال: وأدنى الركوع أن ينحني؛ أي: القادر المعتدل الخلقة؛ حتى تبلغ يداه ركبتيه -أي: لو أراد ذلك -بدون إخراج الركبتين، أو انخناس؛ لأنه بدونه لا يسمى راكعاً حقيقة؛ فحمل الأمر عليه، وما دونه يسمى: انحناء.

قال الرافعي: وفي لفظ "الانحناء" إشارة إلى أنه لو انخنس، وأخرج ركبتيه، وهو مائل، أو نتصب- لم يكن ذلك ركوعاً، وإن صار بحيث لو مد يده، لنالت راحتاه ركبتيه؛ لأن نيلهما ركبتيه لم يكن بالانحناء.

قال الإمام: لو خرج الانحناء بهذه الهيئة، وكان التمكن من وضع الراحتين على الركبتين بهام جميعاً-لم يعتد بما جاء به ركوعاً أيضاً.

ولا فرق في ذلك بين أن يقدر عليه بنفسه، أو لا يتمكن منه إلا بمعين، أو الاعتماد على شيء، أو بأن ينحني على شيء.

وإن لم يقدر، انحنى القدر المقدور عليه؛ فإن عجز، أومأ بطرفه عن قيام.

وهذا حد ركوع القائم، أما القاعد، فحد ركوعه مذكور في باب صلاة المريض.

فرع: لو قرأ في صلاته آية سجدة؛ فهوى ليسجد للتلاوة، ثم بدا له [بعد] ما بلغ حد الراكعين أن يركع- لم يعتد بذلك ركوعاً؛ لأنه لم يقطع

ص: 167

القيام؛ لقصد الركوع، بل يجب عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع؛ قاله البغوي، ومثله ما سنذكره في الباب بعده.

قال: والمستحب أن يضع يديه على ركبتيه، ويفرق أصابعه؛ لما روى البخاري، ومسلم في حديث [أبي] حميد الساعدي في صفه صلاته عليه السلام قال:"ثم ركع، فوضع يديه على ركبتيه؛ كأنه قابض عليهما".

وفي رواية: "ويفرج بين أصابعه".

فلو كان بإحدى يديه علة، أو كانت مقطوعة- وضع الأخرى، وينصب ركبتيه.

[والغزالي والإمام قالا: إنه] يترك الأصابع على حالها منشورة نحو القبلة.

ويكره التطبيق؛ وهو: أن يطبق يديه، ويجعلهما بين ركبتيه؛ لأنه نهى عن ذلك بعد أن كان يفعل؛ رواه أبو حميد، وأنه [يضرب فاعله بالأكفّ] على الركب، رواه البخاري.

ص: 168

قال: ويمد ظهره وعنقه؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد ظهره، وعنقه.

قال الراوي: حتى لو صب على ظهره ماء لركد؛ [يعني]: لاستواء ظهره.

ورواية أبي حميد: "فيهصر ظهره، غير مقنع رأسه، ولا صافح بخده".

قال الشافعي في القديم: ويجعل [رأسه] وعنقه حيال [ظهره].

وقال في "الإملاء" ولا يتبازخ، ولا يجعل ظهره محدودياً.

والتبازخ: أن يخرج صدره، ويطأطئ ظهره؛ يكون كالتبزُّخ.

والمحدودب: أن يعلي وسط ظهره، وعبارة الشيخ تنظم اللفظين.

قال: الأصحاب: ويستحب-مع ذلك-أن ينصب ساقيه.

قال: ويجافي مرفقيه عن جنبيه؛ لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع- وضع يديه على ركبتيه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه.

قال: وتضم المرأة بعضها إلى بعض؛ لأنه أستر لها، والخنثى في هذا المعنى كالمرأة.

ص: 169

قال: ويقول: سبحان ربي العظيم؛ لما روى أبو داود أنه عليه السلام لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، قال:"اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل قوله تعالى:{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: "اجعلوها في سجودكم".

قال بعضهم: والمعنى في جعل وصفه بالعظمة في الركوع: أنه لم يعبد [به] غيره، وعن حذيفة: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وما مرّ بآية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها؛ متعوذاً. أخرجه مسلم، وغره بنحوه مختصراً، ومطولاً.

قال: ثلاثاً، وذلك أدنى الكمال، وهذا لفظه في المختصر، ووجهه ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال: "إذا ركع أحدكم؛ فقال: سبحان ربّي العظيم ثلاث مرات؛ فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد [فقال في سجوده]

ص: 170

سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه".

رواه الترمذي، وقال: إن إسناده غير متصل؛ لأنه يرويه عون عن ابن سعود، ولم يلقه.

ولو اقتصر على قوله [مرة]:سبحان ربي العظيم في الركوع، وسبحان ربي الأعلى في السجود-كان مؤدياً لأصل السنة؛ قاله في "التتمة"، إلا أن المستحب ألا ينقص عن الثلاث.

ولو قال في كل مرة من الثلاث: "وبحمده"، كان حسناً؛ لأن عقبة بن عامر روى أنه عليه السلام كان يقول ذلك [ثلاثاً] في الركوع والسجود، [رواه أبو داود].

والقراءة فيه مكروهة؛ وكذا في السجود؛ لقوله عليه السلام: "ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً، أو ساجداً، أما الركوع؛ فعظّموا فيه الرب، وأما السجود فابتهلوا فيه بالدعاء؛ فقمن أن ستجاب لكم" أخرجه مسلم، وقوله:"فقمن" بفتح الميم

ص: 171

وكسرها؛ ومعناه: جدير، وحقيق، قال القلعي: والصواب هاهنا: الفتح لا غير؛ لأنه مصدر، ويقال: فقمين، بالياء، قال الجوهري: من فتح أراد المصدر؛ فلا يثني، ولا يجمع، ولا يؤنث؛ ومن كسر أراد الصفة؛ فيصح تثنيته، وجمعه.

وقد قيل: لو قرأ في غير القيام [الفاتحة][عامدا]، بطلت صلاته؛ كما ستعرفه في باب: سجود السهو.

قال: فإن قال [مع ذلك]: اللهم لك ركعت، [وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت] ربي، خشع لك سمعي، وبصري، وعظامي، وشعري، وبشري، وما استقل به [قدمي] لله رب العالمين- كان أكمل.

قال الشافعي: لأنه حدثني إبراهيم بن محمد، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله.

[وفي] رواية أبي داود، عن [علي، عن] النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم لك ركعت، ولك خشعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، وعظمي، ومخّي، وعصبي"؛ وهذا ما استحبه في "المرشد".

قال بعضهم: وسبب الاختلاف في ذلك وأمثاله: اختلاف طرق الأحاديث، مع تقارب المعنى.

ص: 172

وقد قيل: إن أكمل الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم خمساً، أو سبعاً؛ كذا حكاه ابن يونس.

وقال الماوردي: إن أكمل الكمال أن يقول ذلك إحدى عشرة مرة، أو تسعاً.

ثم ظاهر [كلام الشيخ] أنه لا فرق في ذلك بين الإمام والمأموم، [والمنفرد]، وهو ما حكاه البندنيجي عن نصه في "الأم"، ولفظه: وأحب ألا يقصر عن هذا إماماً كان، أو منفرداً، وهو تخفيف، لا تثقيل.

وقال الماوردي، والمتولي، والقاضي الحسين، وغيرهم: إن هذا مختص بالمنفرد، أما إذا كان إماماً، فلا يستحب له الزيادة على الثلاث حذراً من التطويل على المأمومين، إلا أن يؤثره.

قال القاضي الحسين، والماوردي: ومن العلماء من قال: ينبغي أن يقولها خمساً؛ ليقولها المأموم ثلاثاً، وقد حكاه الروياني وجهاً لنا، ولم يذكر في "الحلية" -كما قيل- غيره.

قال: ثم يرفع رأسه؛ لقوله عليه السلام للمسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل قائماً".

وقالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع، لم يسجد حتى يستوي قائماً" رواه مسلم.

ص: 173

قال: قائلاً: سمع الله لمن حمده؛ لحديث أبي هريرة السالف.

وعن ابن كج أنه يبتدئ بقوله: سمع الله لمن حمده، وهو راكع، ثم إذا انتهى، أخذ في رفع الرأس واليدين.

ومعنى "سمع الله لمن حمده": أجاب الله حمد من حمده، وقد جاء مثله في الكتاب العزيز في قوله تعالى:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25]، أي: اسمعوا مني سمع طاعة وإجابة، والعرب تقول: اسمع دعائي، أي: أجبه.

وقيل: معناه: غفر له.

ولو قال: لك الحمد ربنا، أو من حمد الله سمع له -قال الشافعي في "الأم"-: أجزأه؛ لأنه أتى باللفظ والمعنى. والأول أولى.

والإمام يجهر بذلك؛ ليسمع من خلفه؛ كما في التكبير، والمأموم يسر به؛ قاله الماوردي.

قال: ويرفع يديه؛ أي: مع صلبه؛ لحديث ابن عمر.

قال: فإذا استوى قائماً-قال: ربنا لك الحمد ملء السموات و [ملء] الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى أنه عليه السلام كان إذا رفع ظهره قال ذلك، رواه مسلم، وفي رواية: "ربنا ولك

ص: 174

الحمد" بإثبات الواو.

ولذلك قال في "الأم": وإذا أتى بها كان أحب إلي؛ كذا حكاه البندنيجي، وحينئذ فتكون الواو مزيدة.

[قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عنها؟، فقال: هي مزيدة]، تقول العرب:"بعني هذا الثوب [بكذا وكذا]؛ يقول: نعم، وهو لك"، وتقديره: نعم هو لك.

وقال بعضهم: يمكن أن يقال: ليست مزيدة، ويكون المعنى فيه: أن قوله: "سمع الله لمن حمده" ثناء وجب على حمد الله -تعالى- فكأنه قال: دعوتني إلى حمدك، وحمدتك يا رب لدعوتك إليه؛ فتكون الواو عاطفة لإحدى الجملتين على الأخرى.

وقيل: هي عاطفة على جملة مضمرة؛ كأنه قال: ولك الحمد على ما وفقتنا إليه من القول الحسن، والعمل الصالح؛ قاله في "الغريب".

ولو قال: "اللهم ربنا لك الحمد"، جاز أيضاً؛ لان أبا سعيد الخدري رواه، أخرجه مسلم.

قال: وذلك أدنى الكمال؛ أي: أخصر ذكر كامل، شرع في الاعتدال، وفيه تنبيه على [أن] ما دونه ليس من الكمال في شيء.

ومعنى قوله: "ملء السموات، وملء الأرض" أي: أحمدك حمداً يملأ ذلك.

وقوله: "وملء ما شئت من شيء بعد"؛ كالكرسي، وما غمض عن إدراك عبادك؛ قال الله -تعالى-:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [البقرة:255]

ص: 175

وقيل: ثوابه يملأ السموات والأرض، وما شئت من شيء بعد.

وقيل: ذكر ذلك على سبيل التمثيل، والتقريب؛ أي: لو كان بدل هذا القول أجراماً، لملأت ذلك.

وفي "ملء السموات" ومثله لغتان: النصب، والرفع، والنصب أشهر، وممن حكاهما ابن خالويه، وصنف في المسألة.

قال: فإن قال معه: "أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد: كلنا لك عبد، لامعطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" كان أكمل؛ لأن أبا داود روى ذلك، عن رواية أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم، إلا أن الرواية:"أحق ما قال العبد" بالألف، "وكلنا لك عبد" بإثبات الواو.

قال النواوي: وما ذكره الشيخ هو المذكور في معظم كتب الفقه، وهو صحيح من حيث المعنى، ولكن الذي [ثبت] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه، قال: وتقديره حينئذٍ: أحق ما قال العبد: لا مانع لما أعطيت

إلى آخره، واعترض بينهما:"وكلنا لك عبد"؛ ولهذا الاعتراض نظائر في القرآن، وغيره.

وعلى تقدير حذف الألف؛ فـ"حق ما قال العبد"، خبر لمبتدأ تقديره: ما قال العبد حق، لا باطل.

وقوله: "أهل الثناء" منصوب على النداء.

قيل: ويجوز رفعه؛ على تقدير: أنت أهل الثناء، والمشهور النصب.

و"الثناء" ممدود، وهو بتقديم الثاء موضوع للمدح، وما يقال من أنه ورد في الذم، فهو شاذ مؤوّل على إقامة الذم مقام المدح، والنثا؛ بتقديم النون مقصور يستعمل في المدح والذم معاً.

والمجد: العظمة، والرفعة.

وقوله: "كلنا لك عبد" فيه إشعار بأنه من كانت هذه صفته، كان الانقياد إليه والخضوع واجباً.

ص: 176

ومعنى: "لا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي: لا ينفع ذا النسب في الدنيا نسبه في الآخرة.

أو لا ينفع ذا الحظ في الدنيا حظه في العقبى، وإنما ينفعه العمل وطاعتك. وهذا ما صححه النواوي.

و"الجد" مرفوع فاعل "ينفع"، أي: لا ينفع الجد صاحبه.

و"ذا الجد" مفعوله، وهو بفتح الجيم؛ على الصحيح، ورواه جماعة قليلة بكسر الجيم؛ وهو: الإسراع في الهرب، أي: لا ينفعه هربه منك.

وقيل: المعنى-على هذه الرواية-: لا ينفع ذا الاجتهاد في العمل منك اجتهاده، إذا لم يسبق له سابقة خير، إنما النجاة بفضل الله ورحمته.

قال الأزهري: "ومنك" هاهنا بمعنى: عندك.

[ثم ظاهر] كلام الشيخ أنه لا فرق في ذلك بين الإمام والمنفرد، وهو ما حكاه البندنيجي.

وقال الإمام: يحتمل أن يختص هذا بالمنفرد، أما الإمام فإنه مأمور بالتخفيف؛ فيقتصر على أدنى الكمال، وهو الموافق لما حكيناه عن غيره في الركوع، وهذا ما أورده الرافعي، وقال في "الحاوي": إنه المختار.

قال: ثم يكبر، ويهوي ساجداً؛ لخبر أبي هريرة السابق، وهو يقتضي أنه يمد التكبير إلى السجود، وهو الجديد.

ومقابله وهو القديم: أنه لايمده، بل يحذفه؛ لما تقدم من الخبر أيضاً.

ولا يستحب فيه رفع اليدين؛ لما تقدم من خبر ابن عمر.

ويهوي؛ بفتح الياء؛ أي: يقع، قال الله -تعالى-:{تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} [الحج: 31]، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1].

والسجود أصله: التطامن، والميل.

وقيل: أصله: الخضوع، والتذلل، وسمي سجود الصلاة: سجوداً؛ لأنه غاية الخضوع.

قال: فيضع ركبتيه، ثم يديه؛ لما روى وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله

ص: 177

صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.

ص: 178

أخرجه أبو داود، والتمذي، وقال: إن حسن غريب، لا نعرف واحداً رواه غير شريك.

قال الخطابي: هو أصح مما رواه النسائي، عن أبي هريرة؛ انه عليه السلام قال:"إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه، ولا يبرك برك البعير".

ص: 179

وقد قيل: إنه منسوخ؛ لأن أبا سعيد الخدري قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين؛ فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين.

قال: ثم جبهته، وأنفه؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رئي على جبهته وعلى أرنبته أثر طين من صلاة صلاها بالناس. رواه أبو داود، وأخرجه البخاري، ومسلم بنحوه أتم منه.

قال: وأدنى السجود: أن يباشر بجبهته المصلى؛ لما روى مسلم [وغيره] عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا؛ فلم يُشْكِنَا، أي: لم يزل شكايتنا.

والرمضاء: [الرمل] المتوقد من شدة [حر] الشمس.

وقيل: لابد مع السجود على الجبهة من السجود على الأنف؛ لقوله عليه

ص: 180

السلام: "لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض"، رواه الدارقطني عن ابن عباس، وهذا ما حكاه في "الزوائد" قولاً عن رواية أبي زيد.

والمشهور في الكتب: الأول؛ لأنه عليه السلام سجد على جبهته على قصاصة الشعر، وهو حيث ينتهي بنانه من مقدمه أو مؤخره، وضم القاف أفصح لغاته، ومعلوم أن من سجد على ذلك لا يكون أنفه على الأرض.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: الاكتفاء بإمساس الجبهة المصلى؛ إذ به يصدق اسم المباشرة؛ كما هو مذكور في باب ما ينقض الوضوء، وليس ذلك بكاف، بل لابد معه من إرخاء الرأس على المصلى؛ لأنه جاء عنه عليه السلام أنه [قال]: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء

" إلى أن قال: "فيسجد؛ فميكن جبهته".

قال همام: وربما قال: "جبهته من الأرض؛ حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي"، أخرجه أبو داود؛ فلو حصل الإمساس مع حمل الرأس عنه لم يجزئه؛ للخبر.

وزاد الشيخ أبو محمد، فقال: إذا كان السجود على شيء محشو بقطن ونحوه، فلابد من التحامل عليه؛ ليظهر أثر السجود. وهو معنى ما ذكره البغوي، والقاضي الحسين.

وقال الإمام: إنه يكفي الإرخاء أيضاً، بل هو أقرب إلى هيئة التواضع من تكلف التحامل، وإليه الإشارة بقول عائشة:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوده كالخرقة البالية"، وهذا ما أورده في "الوسيط".

ص: 181

الثاني: إيجاب مباشرة المصلى بجميع الجبهة، وهو وجه حكاه ابن القطان؛ لظاهر قوله عليه السلام:"إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض"، لكن المذهب أنه يكفيه أن يسجد على بعضها؛ لما روي عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته على قصاص الشعر. رواه تمام في "زوائده"، ومع هذا يشكل قول الشافعي في "الأم":"وإن سجد على بعض جبهته، كرهته، وأجزأه"؛ لأنه عليه السلام لا يفعل مكروهاً، وإن فعل المباح، وترك الأولى [مرة]؛ لبيان الجواز.

ص: 182

نعم، لو سجد على جبينه- وهو جانب الجبهة-لم يجزئه.

وقد أفهم كلام الشيخ أنه لو كان على جبهته شيء يمنع مباشرتها المصلى-لم يجزئه، وهو كذلك، إلا أن يكون عليها عصابة؛ لمرض، أو جرح؛ فنه يجزئه، ولا إعادة عليه؛ حكاه البندنيجي.

وقيل: عليه الإعادة. قال الماوردي: وهو مخرج من المسح على الجبائر، وليس بصحيح.

ثم ما ذكره [من مجرد] الاكتفاء بمباشرة الجبهة للمصلى مقيد بشرطين:

أحدهما: ألا يكون المصلى متصلاً [به] اتصالاً يتحرك بحركته، [فلو صلى على طرف عمامة، وهي تتحرك بحركته لم يصح، وإن لم تتحرك بحركته]- جاز؛ نص عليه الشافعي؛ قاله أبو الطيب.

وقال القاضي الحسين: لا يجزئه في الحالين؛ كما في النجاسة.

الثاني: ألا تكون أعاليه- في حالة سجوده- على المصلى أعلى من أسافله، ويتصور ذلك بأن يسجد على مخدة، أو ربوة، ونحو ذلك؛ فلو كانت، لم يصح.

وإن كانت أسافله- في حال سجوده- أعلى من أعاليه- صح.

وإن استوت الأسافل، والأعالي-فوجهان؛ أظهرهما: عدم الصحة أيضاً، وهو المذكور في "الوجيز"، و"التهذيب".

ثم هذا في حق المتمكن من ذلك، أما من به علة تمنعه من التنكيس، أو الاستواء-فلا يلزمه، لكن هل يجب عليه وضع شيء؛ ليسجد عليه، أو يكفيه الإيماء؟ فيه وجهان:

أظهرهما -عند الغزالي-: الوجوب.

ومقابله: أشبه بكلام الأكثرين؛ كما قال الرافعي.

ولا خلاف في أنه إذا عجز عن وضع الجبهة على المصلى، وقدر على وضعها على وسادة، مع مراعاة هيئة التنكيس: أنه يلزمه ذلك.

ص: 183

ولو عجز عن الانحناء أشار بالرأس، ثم بالطرف.

والمراد بالمصلى: ما يصلي عليه من أرض، أو ثوب، أو حصير، ونحو ذلك، والأصل في جواز ذلك ما رواه أنس قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا الثوب من شدة الحر في مكان السجود. أخرجه البخاري، ومسلم.

قال: وفي وضع اليدين [والركبتين]، والقدمين- أي: أطراف أصابع القدمين -قولان- أي: منصوصان في "الأم".

أحدهما: يجب؛ لقوله عليه السلام:"أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: على الجبهة وأشار بيده إليها- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا أكف الثوب، ولا الشعر" أخرجه البخاري، ومسلم، عن رواية ابن عباس، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت، وربما قال: أمر نبيكم أن يسجد على سبعة آراب"

ص: 184

أخرجاه أيضاً.

وهذا القول اختاره في "المرشد"والشيخ أبو علي، وقال البندنيجي: إنه المذهب. وأبو الطيب: إنه ظاهر المذهب، وعليه عامة الفقهاء، وإذا قلنا به، فلا يكفي وضع ظهر الكف، والواجب ما ينطلق عليه الاسم من بطنها.

والثاني: لا يجب؛ لأن الله -تعالى- أفرد الجبهة في ذكر السجود؛ فقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، وقال:{يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107]، وقال عليه السلام:"إذا سجدت؛ فمكن جبهتك من الأرض" وإفرادها بالذكر يدل على أنها مخالفة [لما عداها، ولأنه لو وجب السجود عليها مع القدرة، لوجب الإيماء إليها عند العجز؛ كما] في الجبهة؛ ولأن المقصود منه [وضع] أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام، وذلك خصيص بالجبهة، وذلك نهاية الخضوع.

والأمر في الحديث محمول على الاستحباب.

وهذا القول نص عليه في "الإملاء" أيضاً، واختاره البغوي، وقال الرافعي: إنه الأظهر، ومنهم من قطع به في الركبتين والقدمين، واقتصر على إجراء القولين في الكف، ويشهد له ما رواه أبو داود، عن ابن عمر رفعه، وقال:"اليدان تسجدان كما يسجد الوجه؛ فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفع فيلرفعهما" وأخرجه النسائي.

ثم ظاهر [كلام] الشيخ أنه لو لم يعتمد على شيء من اليدين والركبتين والقدمين على القول بعدم وجوبه، بل اقتصر على وضع جبهته على الأرض- أنه يجزئه، وعليه ينطبق قول البندنيجي:[إنا] إذا قلنا: لا يجب السجود على

ص: 185

ذلك؛ فالواجب وضع الجبهة فقط، ولو تمكن من وضعها دون سائر الأعضاء أجزأ ذلك، وكيفما شاء وضع هذه الأعضاء مكشوفة، ومستورة، وضع راحتيه، أو [وضع] ظهر كفيه، وقد حكاه في "الروضة" عن الشيخ أبي حامد، وصاحب "العدة"، وقال: إن ذلك مصَّور بما إذا رفع الركبتين والقدمين، ووضع ظهر الكفين، أو حرفهما؛ فإنه في حكم رفعهما.

وهذا التصوير مؤذن بصحة ما قاله بعض الشارحين لهذا الكتاب: [أنه] لا خلاف في أنه لا يجزئه أن يضع جبهته على الأرض، ويمد يديه ورجليه؛ لأنه لا يسمى: سجوداً؛ فإن السجود في اللغة: التطامن، ومنه قولهم للبعير إذا تطامن؛ ليركبه راكبه: قد سجد.

قال: وفي مباشرة المصلى بالكف قولان؛: أي: منصوصان في "الأم" في موضعين: أصحهما: أنه لا يجب؛ لأنه عليه السلام صلى في مسجد ابن عبد الأشهل، وعليه كساء ملتف به يضع يديه عليه؛ يقيه برد الحصا. رواه ابن ماجه.

ص: 186

ولأن ذلك لا يكشف إلا لحاجة؛ فلم يجب في حال السجود؛ كالقدم.

ومقابله: أنه يجب؛ لقول خباب: "فلم يُشْكِنَا"؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وإذا قلنا به، كفاه مباشرته بجزء من باطن الكف؛ كما قلنا في الجبهة.

والقائلون بالأول قالوا: المراد من قوله: "فلم يشكنا" أي: في مجموع الوجه، واليدين، أو لم يشكنا بالإبراد بالجمعة الواجب حضورها.

واقتصار الشيخ على ذكر الخلاف [في مباشرة المصلى بالكف، يعرفك أنه لا يجري في كشف الركبتين والقدمين، وهو كذلك، ولا خلاف] فيه، بل المستحب- كما قال البندنيجي في الركبتين- أن [يكتي بسترهما]، وإن قلنا: إنهما ليستا من العورة، والرجلان [إن كانتا في الخف، فلا يستحب نزعهما]. وإن كانتا في نعلين؛ فيستحب نزعهما، ويكشف عن موضع السجود، فيباشر به المصلى.

قال: والمستحب أن يجافي-أي: يباعد-مرفقيه عن جنبيه رواه أبو حميد؛ كما ذكرناه في أول الباب.

وروى ابن بحينة أنه عليه السلام "كان إذا سجد، فرج بين يديه حتى يرى بياض إبطيه] رواه البخاري ومسلم.

قال: ويقلّ بطنه عن فخديه؛ لما روى أبو داود أنه عليه السلام: "كان إذا

ص: 187

سجد لو مرت بهيمة لنفذت".

وعن ابن عباس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه؛ فرأيت بياض إبطيه، وهو مجخ، وقد فرغ، رواه أبو داود، والمجخي: المخوي، ورواية مسلم:"أنه عليه السلام كان إذا سجد خوى" أي: جخ.

ويستحب في السجود- وراء ما ذكره الشيخ- أمور:

أحدها: أن يفرج رجليه؛ لأن أبا حميد الساعدي رواه؛ قال في "المهذب": وكذا ينبغي أن يفرج بين فخذيه؛ نص عليه.

قال أبو الطيب: قال أصحابنا: يكون بينهما قدر شبر.

الثاني: أن يوجه أصابع رجليه نحو القبلة في السجود، ويوجههما إلى القبلة؛ [نقله المزني.

وصورة ذلك: أن يضع أصابع رجليه؛ بحيث تكون رءوسهما قبالة القبلة]؛ حكاه أبو الطيب.

ويدل عليه رواية أبي داود، عن أبي حميد الساعدي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتخ أصابع رجليه إذا سجد".

والفتخ بخاء معجمة: تعويج الأصابع.

ورواية البخاري: "استقبل بأطراف رجليه القبلة".

ص: 188

وفي "النهاية": أن ما ذكره المزني يحتاج إلى تأمل، والذي صححه الأئمة أن يضع أطراف الأصابع على الأرض، ولا يرسلها في صوب القبلة.

الثالث: أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضم الإبهام إليها، ويستقبلهما إلى القبلة.

قال الغزالي: ولا يؤمر بضمها مع النشر إلا هاهنا.

وفي حديث أبي داود: "أنه عليه السلام كان إذا سجد، ضم أصابعه، وجعل يديه حذو منكبيه.

الرابع: أن يرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه؛ لقول وائل بن حجر:"فإذا سجد وضع يديه [غير مفترش]، ولا قابضهما". رواه البخاري.

الخامس: أن يرفع ظهره، ولا يحدودب، ولفظه في "الأم":"يرفع ظهره، ولا يعمد رفع وسطه عن أسفله وأعلاه".

[قال: وتضم المرأة بعضها إلى بعض؛ لأنه أستر لها، والخنثى في هذا المعنىكالمرأة].

قال: فإن قال معه: "اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، أنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره- أي: منفذهما- فتبارك الله أحسن الخالقين- كان أكمل؛ لأن عليًّا- كرم الله وجهه- روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله، أخرجه البخاري.

ص: 189

ورواية أبي داود: "الذي خلقه؛ فأحسن صورته، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين"، وبها قال في "المرشد".

قال البندنيجي: وقد حكى الشافعي في بعض كتبه أنه كان يقول: "سجد وجهي حقّاً حقّاً، عبوديةورقّاً".

وقال في "المهذب": "إنه لو قال: سبوح قدوس رب الملائكة والروح- فهو حسن؛ لما روي عن عائشة أنه عليه السلام كان يقوله في ركوعه وسجوده".

والسبوح والقدوس: اسمان من أسماء الله تعالى- معناهما: التنزيه البليغ، وجاء [على] وزن "فُعُّول"، قيل: ولا يعرف على هذا البناء سواهما، وغرابة الوزن فيهما تنبيه على اختصاص الله -تعالى- بالمذكور.

وقوله: "تبارك الله" أي: تعالى، والبركة: العلو، والنماء؛ حكاه الأزهري عن ثعلب.

وقال ابن الأنباري: تبرك العباد بتوحيده وذكر اسمه.

وقال ابن فارس: معناه: ثبت الخير عنده.

وقيل: تمجد، وتعظم.

[قال الخليل]: وقيل: استحق التعظيم.

وقوله: "أحسن الخالقين" أي: المصورين المقدورين.

قال: وإن سأل الله -تعالى- في سجوده ما يشاء، [أي: من أمر الدين والدنيا]، كان حسناً؛ لقوله عليه السلام: "وأما السجود، فأكثروا فيه من الدعاء؛

ص: 190

فقمن أن يستجاب لكم" أخرجه مسلم.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد".

وقال مجاهد: ألم تسمع قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].

وقد روى مسلم أنه عليه السلام كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، آخره وأوله، علانيته، وسره".

ثم ظاهر نصه في "الأم" أنه لا فرق-في ذلك-بين الإمام والمنفرد.

وقال في "الإملاء": لايزيد الإمام على ما ذكرناه من الدعاء؛ كذا قاله البندنيجي.

وقال الرافعي: إن ما ذكرناه في فصل الركوع: أن المستحب للإمام ماذا وللمنفرد ماذا-يعود كله ههنا.

قال: ثم يعرف رأسه؛ لقوله عليه السلام للمسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل جالساً".

وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجود، لم يسجد حتى يستوي قاعداً، أخرجه البخاري [ومسلم].

ص: 191

قال: مكبراً؛ لحديث أبي هريرة السالف.

قال: ثم يجلس مفترشاً [أي: يفرش] رجله اليسرى؛ أي: فيجعل ظهرها على الأرض، ويجلس عليها؛ لما ذكرناه من خبر أبي حميد الساعدي في أول الباب.

قال: وينصب اليمنى؛ أي: قدمه اليمنى؛ فيضع بطون أصابعها على الأرض، ويستقبل بها القبلة؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم قال:"فإذا جلس في الركعتين- جلس على رجله اليسرى، ونصب [اليمنى، وإذا كانت الجلسة التي فيها السلام-قدم رجله اليسرى ونصب] الأخرى، وقعد على مقعدته"؛ فثبت بهذا أن السنة في جلوس السلام التورك، وفيما عداه الافتراش.

وعن الخطابي أنه قال: الأحاديث الثابتة في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي حميد، ووائل بن حجر: أنه قعد بين السجدتين مفترشاً قدمه اليسرى.

وعن رواية أبي علي في "الإفصاح" حكاية قول آخر: أنه يجلس على صدور قدميه.

[وروى البويطي، عن الشافعي أنه يجلس على عقبه، وتكون صدور قدميه] على الأرض؛ لأن العبادلة-وهم: عبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير- كانوا يفعلون ذلك بين السجدتين، وهذا هو الإقعاء.

والمشهور من مذهب الشافعي أن الإقعاء فيها مكروه؛ لقول عائشة: "كان

ص: 192

رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن عقبة الشيطان والإقعاء".

وقال عليه السلام لعلي: "لا تُقْعِ بين السجدتين".

و [قيل] في تسير الإقعاء غير ذلك، وقد ذكرناه في [باب] صلاة المريض.

قال: ويقول: "اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني"؛ لماروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في جلوسه بين السجدتين: ["اللهم اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارزقني، واهدني إلى الطريق الأقوم"، ورواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول بين السجدتين]: "اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني،

ص: 193

وعافني، وارزقني" رواه أبو داود، وروى غير ذلك.

قال الأصحاب: والشافعي لم يذكر ما يقوله بين السجدتين، وأي شيء قاله من الذكر فهو حسن.

قال: ثم يسجد الثانية -للإجماع- مكبراً؛ لما روى البخاري عن أبي هريرة: أنه [كان] يكبر في [كل] خفض ورفع، ويقول:"أنا أشبهكم [صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم] ".

قال: ثم يرفع رأسه-للإجماع-مكبراً؛ لحديث أبي هريرة.

ولا يرفع يديه في هذا التكبير على المذهب؛ لحديث ابن عمر.

وقيل: إنه يرفع يديه عند قيامه من السجود، ومن التشهد؛ [لأن عليّاً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند القيام من التشهد]،وهذا ما يعزى إلى أبي بكر بن المنذر، وأبي علي الطبري.

وأجاب القائلون بالمذهب بأن ما رواه على يحتمل أن يكون منسوخاً؛ لترك

ص: 194

الصحابة العمل به.

قال: ويجلس جلسة الاستراحة في أصح القولين؛ لما روى ابن الحويرث: أنه رأى [رسول الله] صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته-لم ينهض حتى يستوي جالساً، رواه البخاري.

ولأنه رفع من سجود؛ فوجب أن يكون القعود فيه مشروعاً؛ كالرفع من السجدة الأولى، وهذا ما نقله المزني.

ومقابله: أنه لا يجلس؛ لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجود استوى قائماً، وقال عليه السلام للمسىء في صلاته:"ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم قم حتى تعتدل قائماً".

ولأن هذه الجلسة لو كانت مستحبة لكان لها ذكر مشروع، ولما أجمعنا على أنها لا ذكر فيها، دل على أنها غير مستحبة؛ كذا قاله الطحاوي، وهذا القول رواه الربيع، عن المزني؛ [كما] قال أبو الطيب.

وقال البندنيجي: إن الشافعي نص على ثلاث جلسات في الصلاة: جلستي التشهد، والجلسة بين السجدتين، ولم يذكر هذه، [و] لكن المزني ثقة.

قال الأصحاب: والعمل بالخبر الأول أولى؛ لاشتماله على زيادة، وما ذكره الشيخ طريقة في المذهب، عليها عامة الأصحاب.

وقال أبو إسحاق: ليست المسألة على قولين، بل على حالين:

فإن [كان] المصلي كبيراً ضعيفاً، جلس للاستراحة، وإن لم يحتج إليه، قام من غير جلوس.

ص: 195

ثم جلسة الاستراحة من الركعة الأولى، أو من الثانية؟

قال الشيخ أبو حامد: الذي يجيء على قول الشافعي: أنها من الثانية؛ لأنه يبتدئ التكبير بعد الفراغ من الأولى.

قال بعضهم: وهو بعيد؛ لأن الجلوس لا يعهد في ابتداء الركعة.

وقال مجلي: يحتمل أن يكون من الأولى؛ تبعاً للسجود.

وقال ابن الصباغ: ليست من واحدة منهما، وإنما هي للفصل كالتشهد الأول، وهو الصحيح.

ثم الجلوس فيها يكون مفترشاً؛ لأن يتعقبه قيام.

وحكى الماوردي وجهاً آخر: أنه يجلس فيها على صدور قدميه غير مطمئن.

وقال في "التتمة": يكون قدرها بقدر الجلسة بين السجدتين، ويكره أن يزيد على ذلك، ويضع يديه على فخذيه، قريبة من ركبتيه، منشورة الأصابع.

قال الإمام: ولو انعطف أطرافهما على الركبة، فلا بأس، ولو تركهما من جانبي فخذيه، كان كإرسالهما في القيام.

قال: ثم ينهض قائماً معتمداً على يديه؛ لما روي عن مالك بن الحويرث: أنه أراهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نهض، اعتمد على الأرض بيديه.

قال الشافعي: ولأنه أشبه بالتواضع، وأعون للمصلي، وأحرى ألا ينقلب.

قال في "الوسيط": ويضع يديه، كما يصنع العاجن؛ لأنه روى عنه صلى الله عليه وسلم ذلك، وهي بالنون، وتُصحَّفُ بالزاي المعجمة.

ص: 196

قال: ويمد التكبير إلى أن يقوم؛ كي لا يخلي ركناً من ذكر، وهذا هو الجديد؛ كما تقدم.

والقديم: أنه لا يمده.

ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في مد التكبير إلى القيام بين أن نقول: يجلس للاستراحة، أو لا. وبه صرح البندنيجي عن المذهب.

وحكى عن أبي إسحاق أنه قال: هذا إذا لم يجلس للاستراحة؛ فإن جلس لها، كان انتهاؤه مع انتهاء الجلوس، ثم يقوم غير مكبر؛ لأن التكبير للرفع، لا للقيام؛ بخلاف القيام بعد التشهد؛ فإنه للقيام، لا للجلوس.

قال البندنيجي: وليس بشيء.

ونقل العجلي وجهاً [ثالثاً]: أنه يرفع غير مكبر، ويبتدئ التكبير جالساً، ويمده حتى يقوم، ويحكي هذا عن اختيار القفال.

وقال الماوردي: إن هذا مفرع على قولنا: [إنه يجلس غير مفترش، وإن قول

ص: 197

أبي إسحاق مفرع على قولنا]: إنه يجلس مفترشاً. ولم يحك سواهما، وكذلك الإمام والصيدلاني، والغزالي [في "الوسيط]، وأعرضوا عن ذكر المذهب الذي هو الأظهر عند الجمهور.

والقاضي الحسين حكى الأوجه كلها، وقال:[إن للشافعي] ما يدل على الوجه الذي اختاره القفال؛ لأنه قال في صلاة العيد: ويكبر في الركعة الأولى سبعاً، سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية خمساً، سوى تكبيرة القيام عن الجلوس. فأضاف التكبيرة إلى القيام.

ومن قال بالأولين أول النص، وقال: إنما أضافه إلى القيام؛ لقربه من الجلوس.

ولا خلاف في أنه لا يكبر تكبيرتين: تكبيرة للرفع، وتكبيرة للقيام؛ كي لا يوالي بين تكبيرتين في الصلاة، وهو غير مشروع، وخالف التكبير حين يرفع من السجدة الثانية في الركعة الثانيةن ويكبر حين يقوم من التشهد؛ لأن التشهد يفصل بين التكبيرتين.

قال: ثم يصلي الركعة الثانية، مثل الأولى؛ هكذا نص عليه في "المختصر".

ووجهه في الفروض خلا ما استثناه منها، قوله عليه السلام للمسيء في صلاته:"ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"، وفي بعض السنن-وهو قراءة السورة-ما سلف من الأخبار؛ وفي باقيها القياس.

قال: إلا في البنية؛ لأنها تراد للعقد، وقد انعقدت [، و] في معناها تكبيرة

ص: 198

الإحرام، ورفع اليدين فيها.

قال: والاستفتاح؛ لأنه للافتتاح، والتعوذ؛ [لأنه يراد] للدخول في القراءة، وقد دخل فيها في الركعة الأولى.

وما ذكره في التعوذ هو ما ذكره الماوردي، و [نقل] عن ابن سيرين أنه يتعوذ في كل ركعة، وقال: إنه خطأ؛ لأن ما قبل القراءة من الدعاء محله الركعة الأولى؛ كالاستفتاح. وقد حكى غيره قول ابن سيرين قولاً للشافعي، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ فإنه قال [فيه ما ذكرناه] ولم يستثن شيئاً، وبعضهم ذكر ذلك وجهاً للأصحاب، وعليه جرى القاضي الحسين، والإمام، ومن تبعه، وقال: إن الأول مأخوذ من قوله: "لو ترك التعوذ في الركعة الأولى يقضيه في الثانية"، ولو كان يسن عنده في الثانية على جهة الأصل؛ لما سماه قضاء.

وعن نصه في "الأم": "أنه إن تعوذ في كل ركعة، فحسن، ولا آمره به في [كل ركعة؛ كما آمره به في] الركعة الأولى"،وقد أخذ به بعض الأصحاب، وقال: هو مستحب في كل ركعة، وفي الأولى أشد استحباباً.

قال الرافعي: وسواء أثبتنا الخلاف في المسألة، أو لم نثبته؛ فالأظهر أنه ستحب في كل ركعة. وبه قال القاضي أبو الطيب الطبري، وإمام الحرمين، والروياني، وغيرهم.

ولا خلاف في أنه إذا تركه في أول ركعة أتى به في ثاني ركعة؛ بخلاف دعاء الاستفتاح، وبه يبطل ما أبطل به الماوردي مذهب ابن سيرين.

ثم ظاهر كلام الشيخ –رحمه الله أن القراءة في الركعة الثانية مثلها في الركعة الأولى، وهو ما حكاه البندنيجي، وقال في "المهذب": إنه ظاهر نصه في "الأم" أيضاً. ووجهه: ما سلف من خبر أبي سعيد الخدري وغيره.

وعن الماسرجسي من أصحابنا أنه يستحب أن تكون السورة في الركعة الأولى

ص: 199

أطول من الثانية، ولا سيما في الفجر؛ ليدركه القاصد، ويشهد له ما روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين [الأوليين] بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً، [وكان يطيل في الركعة الأولى من الظهر ويقصر في الثانية، وكذلك في الصبح.

وفي رواية: قال]: وكان يطيل في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية، وهكذا في صلاة العصر، وهكذا في صلاة الغداة.

وفي رواية: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى.

وهذا الوجه صححه القاضي أبو الطيب، وقال: إن به قال أصحابنا الخراسانيون.

والقائلون بظاهر النص قالوا: خبر أبي قتادة [يحمل على أنه أحس بداخل، ويحتمل أن يكون أبو قتادة] أراد إطالة القيام؛ فإن القيام في الأولى أطول؛ لأجل دعاء الاستفتاح.

وعلى كل حال فالمستحب أن تكون السورة التي في الركعة الثانية بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى، لا قبلها؛ قاله المتولي، وصاحب "المرشد"، وغيرهما؛ فلو اتفق أنه قرأ في الأولى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ففي الثانية يبدأ بالبقرة، ولو قرأ سورة قبل ذلك -جاز، ولو أعاد:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} جاز؛ فإن أبا داود روى عن معاذ بن عبد الله الجهني: أن رجلاً من جهينة أخبره انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ} في الركعتين

ص: 200

كلتيهما، قال: ولا أدري أسها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمداً؟

قال: وإن كان في صلاة هي ركعتان، جلس بعد الركعتين متوركاً، يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى-أي: القدم اليمنى-ويخرجها من تحته، ويفضي بوركه- أي: الأيسر-إلى الأرض؛ لما قدمناه من رواية أبي حميد الساعدي.

ثم هذا إذا لم يكن عليه سجود سهو؛ فإن كان، فهل يجلس متوركاً؛ لأنه آخر صلاته، أو مفترشاً؛ لأنه يعقبه حركة السجود؛ فشابه الجلسة بين السجدتين؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "الإبانة":[الثاني]، وقد حكاه الإمام، عن الأئمة، والروياني في "تلخيصه" عن القفال، وقال: إنه حسن، لكنه خلاف ظاهر المذهب.

قال: ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض أصابعه إلا المسبحة؛ فإنه يشير بها متشهداً؛ لرواية ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى.

ورواية مسلم عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، [وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة.

وعن ابن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة، جعل قدمه اليسرى بين فخذيه وساقيه، وفرش قدمه اليمنى، ووضع اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى] وأشار بإصبعه". أرجه مسلم.

ص: 201

وهذا أشهر الأقوال، وإذا قلنا به، ففي كيفية قبض أصابع يده اليمنى وجهان:

أحدهما: يضع الإبهام على وسطاه، والثلاثة مقبوضة.

والثاني: يضعها على بطن الكف، بجنب الأصابع الثلاثة.

كذا حكاه القاضي الحسين، ثم قال: وقيل: إنه يقبضها؛ كأنه عاقد ثلاثة وخمسين فيوجه، وفي وجه: كأنه عاقد ثلاثة وعشرين.

وهذان الأخيران هما المذكوران في غيره، واستدلوا للأول برواية ابن عمر التي ذكرناها، وللأخير بأن ابن الزبير رواه.

قال بعضهم: واصطلاح المتقدمين في عقد الثلاثة كالتسعة عند أهل مصر من غير تركيب الخنصر [على البنصر].

والقول الثاني: أنه يقبض ثلاثة أصابع، ويبسط السبابة والإبهام؛ قاله في "الإملاء"؛ لأن أبا حميد الساعدي رواه؛ كذا قاله أبو الطيب.

وعلى هذا هل يضع السبابة على الإبهام؛ كأنه عاقد تسعة وعشرين، أو يرسلهما غير متراكبين؟ فيه وجهان:

والقول الثالث: أنه يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى حلقة؛ رواه وائل بن حجر.

وفي كيفية التحليق وجهان:

أحدهما: يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام.

ص: 202

وأصحهما: أنه يحلق بينهما برأسيهما.

وما ذكرناه من الأحاديث في ذلك، كلها خرجها الترمذي، وهي تدل على أنه عليه السلام كان يفعل كذا مرة، وكذا أخرى؛ ولأجله قال بعض الأصحاب- كما قال الروياني في "تلخيصه": إنه يتخير فيها، وهو المذكور في "الشامل"، وغيره؛ كما قال الرافعي.

ومفهوم كلام الأكثرين أن الخلاف في الأفضل.

ص: 203

وأصح الأقوال على [هذا] ما ذكره الشيخ، وهو الذي نقله المزني، والربيع، والبويطي؛ لان رواته أفقه من رواة غيره.

وإشارته بالسبابة على الأقوال كلها، ويكون قصده بها التوحيد والإخلاص عند كلمة الإثبات؛ وهي:"إلا الله"؛ كذا قاله القاضي الحسين، والإمام، وغيرهما.

وقال بعضهم: إنه يشير بها من أول كلمة الإثبات، وهي "إلا" من قوله:"أشهد أن لا إله إلا الله"، وعزاه إلى رواية الإمام.

والذي رأيته في "النهاية": الأول.

وهل يحرك السبابة، أم لا؟ فيه وجهان:

أصحهما في "الحاوي"، وغيره: لا، وهو ما ادعى الروياني أنه المذهب؛ لرواية عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها، أخرجه أبو داود.

واحتج القائل بمقابله [بما روي] أنه عليه السلام: كان يحرك الأصابع في الصلاة مَرْغََمَةً للشيطان.

قال البندنيجي: وليس بشيء.

قال: ويبسط اليد اليسرى على الفخذ اليسرى؛ لما ذكرناه من خبر ابن عمر، رضي الله عنه.

ص: 204

قال الرافعي: وينبغي أن يجعلها قريبة من طرف الركبة؛ بحيث تسامت رءوسها، وهل يضم أصابعها، أو يفرقها؟ فيه وجهان:

الذي أورده المحاملي، والبندنيجي، وأبو الطيب، والمتولي: الأول، وقال الروياني: إنه [الذي] نص عليه.

والذي حكاه ابن الصباغ، والغزالي-تبعاً لإمامه-: الثاني، وقالا: يفرقها تفريقاً مقتصداً.

فرع: لو كان مقطوع اليد اليمنى، وضع اليسرى منشورة، ولا يشير بها؛ لأنه لو فعل ذلكن ترك سنة في محلها؛ لأجل سنة في غير محلها، وصار هذا كما نقول: لو ترك الرمل في الأشواط الأول لا يأتي به في الأخيرة.

قال: [الشيخ رحمة الله عليه]: ويتشهد؛ فيقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علنا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله"، هكذا رواه الشافعي بسنده، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يعلمنا ذلك؛ كما يعلمنا السورة من القرآن -يعني: الفاتحة- وقد رواه عنه الترمذي كذلك، لكنه قال فيه:"السلام عليكن السلام علينا" بإثبات الألف واللام فيهما، وقال: إنه حسن صحيح. ورواية أبي داود عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد؛ كما يعلمنا القرآن، وكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى

ص: 205

عباد الله الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" وأخرجه مسلم، وفي رواية له: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".

قال الشيخ أبو حامد: وإثبات اللف واللام في السلام وحذفهما واحد؛ لأن التنوين يقوم مقامهما.

قال بعضهم: وفيه نظر؛ لأن التنوين مصحوب فيه بالتنكير وإرادة واحد من جنس، والألف واللام في اسم الجنس تفيد إرادة الطبيعة المشتركة.

وما ذكره الشيخ هو الذي ذكره البندنيجي، والإمام [عن رواية الصيدلاني، وشيخه، وصححه.

وما حكيناه عن الشيخ أبي حامد يقتضي أن إثبات الألف واللام] وحذفهما في قوله: "السلام عليك، السلام علينا"، في الفضيلة سواء.

وقد حكى الإمام وراء ذلك، عن رواية العراقيين، عن الشافعي-طريقين في الأفضل:

أحداهما: أن يقول ما ذكره الشيخ إلا قوله: "سلام علينا"، فإنه يثبت الألف واللام فيها فقط.

والثانية: أنه يثبت الألف واللام في قوله: " [سلام عليك]، سلام علينا"، لكنه يسقط لفظة:"أشهد"، من المرة الثانية؛ فيقول:"وأن محمداً رسول الله".

قال: والطريقان مردودان عند المراوزة.

وحكى العراقيون عن بعض الأصحاب أن الأفضل أن يقول: "باسم الله، وبالله، التحيات المباركات

" إلى آخره؛ لأنه روي ذلك عن جابر بن عبد الله.

ص: 206

وفي "التتمة": أن بعض أصحابنا استحب أن يقول: "باسم الله خير الأسماء"؛ [لأنه] روي ذلك عن عمر.

وحجة المذهب -وهو ما ذكره الشيخ- ما روى أبو موسى الأشعري "أنه عليه السلام كان أول ما يتكلم به عند القعدة: [التحيات لله".

ورواية أبي داود عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فليكن من أول قول أحدكم:] التحيات الطيبات [لله]

" إلى آخره.

قال في "المهذب": وذكر التسمية غير صحيح عند أهل الحديث. وهو في ذلك مقتف لابن المنذر؛ فنه قال: ليس في الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر التسمية.

فإن قيل: قد روى مسلم [عن] ابن مسعود [أنه] قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله، السلام على فلان؛ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام؛ فإذا قعد أحدكم في الصلاة؛ فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا،

ص: 207

وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، و [أشهد] أن محمداً عبده ورسوله، ثم يتخير من المسألة ما شاء".

وروي عن عمر أنه كان يعلم الناس على المنبر: "التحيات لله الزاكيات،، الصلوات الطيبات لله".

وقال الشافعي: وكنا صبياناً في المكتب، ونحن نعلمه.

فلم رجحتم رواية ابن عباس على ذلك؟!

قيل: أما تقديمها على ما كان عمر يعلمه: فلأن أثر ابن عباس أسنده، والعمل بما كان عليه السلام يفعله أولى من فعل الصحابي.

وتقديمه على خبر ابن مسعود؛ [لأن ابن عباس من متأخري الصحابة، وابن مسعود] من متقدميهم، وحديثه متقدم يدل على ذلك ما جاء في بعض الطرق عنه: "كنا قبل أن يفرض علينا التشهد، نقول: كذا

" إلى آخره، وإذا كان كذلك؛ فالمتأخر يقضي به على المتقدم.

وفي لفظ ابن عباس ما يدل على ضبطه لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، وفي روايته زيادة:"المباركات"، والأخذ بالزيادة أولى، وهي تقرب من نظم القرآن، قال الله تعالى:{تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61].

فإن قيل: فيما ذكره ابن مسعود زيادة الألف واللام، والإقرار بالعبودية.

ص: 208

قيل: التنوين يقوم مقام الألف واللام، على أن السلام الوارد من الله -تعالى- في القرآن كله منون من غير ألف ولام، إلا [في] قوله:{وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، على أنه يجوز أن يكون من قول هارون وموسى، وقوله:{وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} [مريم: 33] سلام من عيسى على نفسه، لا من الله؛ فلا حاجة إلى استثنائه.

وأما الإقرار بالعبودية: فمقابله التصريح باسم الله.

وقد استحب بعض أصحابنا الجمع بين الروايات؛ فقال: الأفضل أن يقول: "التحيات المباركات الزاكيات والصلوات الطيبات لله"؛ ليكون آتياً بما اشتملت عليه الروايات.

والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين: أنه لا يستحب، نعم هو جائز.

قال: والواجب منه خمس كلمات؛ وهي: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا على عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"؛ لأن هذا يأتي على معنى الجميع، وهو المتفق عليه في [جميع] الروايات، وما عداه مسكوت عنه في بعض، أو تابع لغيره.

وهذا ما رأيته فيما وقفت عليه من "التهذيب"، وقد حكاه الإمام، عن رواية الصيدلاني، [وأن العراقيين] ذكروه، غير أنهم نقصوا كلمة واحدة وهي:"أشهد" في المرة الثانية؛ فقالوا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"، وهذا ما حكاه القاضي الحسين أيضاً، وعليه تدل رواية النسائي، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك.

[قال] الإمام: والذي ذكروه من الإسقاط أمثل، وأليق بذكر الأقل.

وقال الرافعي: إن الذي حكاه العراقيون عن نص الشافعي: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسوله"، وتابعهم القاضي الروياني،

ص: 209

وكذا صاحب "التهذيب"، إلا أنه نقل:"وأشهد أن محمداً رسوله"، وأن الصيدلاني والقاضي ابن كج [تبعا العراقيين] بما حكاه عنهم، إلا في لفظة:"وبركاته"؛ فإنهما أسقطاها، وقالا: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

والمذكور في "المهذب"، و"الشامل"، و"التتمة"، و"تلخيص" الروياني إسقاط لفظة "وبركاته" ولفظة "أشهد" في المرة الثانية.

وقال في "الأم": إنه [إذا] اقتصر على ذلك [كره وأجزأه]. كذا حكاه الروياني في "تلخيصه".

وقد أوجه ابن سريج؛ فاعتبر الأقل من حيث المعنى؛ فقال: الواجب: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام على عباد الله الصالحين، أشهد أن

ص: 210

لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" كذا حكاه عنه الإمام، والقاضي الحسين، والمتولي.

وقال القاضي [الحسين]: إن الشافعي اعتبر أقل ما ورد في الأخبار، وابن سريج اعتبر المعنى؛ فلما وجد الرحمة داخلة في السلام، حذفها، ولما وجد قوله:"سلام علينا" داخلاً، في قوله:"على عباد الله الصالحين" حذفها.

قال: ويلزمه أن يقول حيث نظر إلى المعنى: سلام عليك أيها النبي وعلى عباد الله الصالحين، ولا يقول: سلام على عباد الله الصالحين.

وحكى عن الحليمي أنه قال: ولو حذف "الصالحين" على هذا، جاز؛ لأن مطلق اسم "العباد" يقع على عباد الله الصالحين؛ فانصرف ذكر "العباد" إليهم؛ كما في قوله تعالى:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ونظائره.

وقد حكى [الإمام عن] بعض المصنفين أنه عزا [هذا القول] إلى ابن سريج أيضاً، وكذا رأيته في "الإبانة" و"تلخيص" الروياني، قال [الإمام]: وهو غلط.

وقد آذن إتيان الشيخ بهذه الكلمات من غير حرف عطف يدل على الترتيب والتعقيب أن ذلك غير واجب، وهو في عدم وجوب الترتيب موافق لما نص عليه في "الأم"، ولم يحك العراقيون والروياني غيره، وقاسوه على الترتيب في الخطبة؛ لأن نظمها غير معجز، وبهذا خالف الفاتحة.

وقال في "التتمة": إن الترتيب واجب؛ فلو تركه لم يعتد به، وهو ماصدر به القاضي الحسين كلامه. ثم حكى الأول قولاً عن الشافعي.

والماوردي حكى الخلاف في المسألة وجهين:

وكلام الغزالي يميل إلى ترجيح الأول؛ حيث قال: لو قدم المؤخر منه، ولم يخل بالمعنى؛ فهو قريب من قوله:"عليكم السلام"، والنص فيه الإجزاء.

وقد صرح في "التتمة" أيضاً بوجوب التعقيب في كلماته، وهو قياس ما سلف

ص: 211

في قراءة الفاتحة.

وقوله: "ويتشهد فيقول

" إلى آخره مؤذن أيضاً بأن كلماته متعينة، وهو ما حكاه الغزالي، والقاضي الحسين. ويتعين الإتيان بذلك بالعربية عند القدرة؛ كما قلنا في التكبير، وعند العجز يجب عليه التعلم؛ كالتكبير أيضاً؛ فإن [ضاق عليه] الوقت عن التعلم، وكان يحسن ذاكراً غيره بالعربية-أتى به، وإن كان لا يحسن ذكراً غيره- أتىبه بالعجمية، وألا صلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه.

قال البندنيجي: ويستحب للإمام أن يرتله؛ بحيث يعلم أن من في لسانه ثقل ممن خلفه قد أتى به؛ فإن حدره كره، وأجزأ.

ويستحب أن يسر به؛ وكذا سائر الأذكار في حال الجلوس إلى السلام؛ قاله البندنيجي؛ وحجته قول ابن مسعود: "من السنة إخفاء التشهد"، رواه أبو داود.

والتحيات: جمع "تحية"، وهي الملك؛ قاله أبو عمرو بن العلاء.

قيل: وهو الأقرب؛ لأن أصله أن الملك كان يحيا؛ فيقال [له]: عمت صباحاً، وأبيت اللعن، ولا يقال ذلك لغيره؛ ولذلك قال زهير:

وكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه

يريد: إلا أنه لم يصر ملكاً؛ فسمي ذلك: تحية؛ لما كانت التحية لا تكون لغير [الملوك، فجا ءالشرع فأمر بالتحية لله]؛ [لأن الملك حقيقة لا يكون لغير الله.

وقال ابن قتيبة: وجمعت؛ لأن كل واحد من ملوكهم كان له تحية يحيا بها،

ص: 212

فقيل لنا: قولوا: التحيات لله].

وقيل: إنها البقاء الدائم، واستدل له الماوردي بما [ذكرناه من قول زهير.

وقيل: إنها العظمة؛ قاله ابن عباس.

وقيل: إنها سلام الخلق على الله]؛ قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]؛ قاله محمد بن زهير.

وقيل: إنها السلامة من الآفات وجميع وجوه النقص.

والمباركات: الثابتات الناميات.

والصلوات: قيل: إنها الصلوات الخمس؛ قاله ابن عباس، وتبعه ابن المنذر، وآخرون من أصحابنا.

وقيل: كل الصلوات.

وقيل: [كل العبادات، أي: فلا يستحقها غير الله تعالى.

وقيل: إن المراد منها الدعاء.

وقيل: الرحمة.

وقيل]: السنة.

والطيبات: الأعمال الصالحة.

وقيل: الثناء على الله تعالى.

وقيل: ما طاب من الكلام.

وقيل: الكلمات الخمس التي قلنا: إنها تتعين بدلاً عن الفاتحة -على رأي- وسميت: طيبات؛ لأنها تطيب [بطيب قائلها؛ بخروجه عن دنس العيب، ودنس الكفر، ودنس الشرك، ودنس العلائق، والتكبر، والتجبر، والاقتدار.

قال العلماء: الأصل في هذه الكلمات: "التحيات والمباركات والصلوات والطيبات لله، كما جاء في الصحيح، في غير هذه الرواية، ولكن حذفت الواو في هذه الرواية؛ تخفيفاً كما حذفت في اليمين في قوله: "الله لأفعلن"، وفي قولك: "أكلت خبزاً سمناً تمراً"، ومثله قول الشاعر، وهو الأخفش، كما قال

ص: 213

القاضي أبو الطيب:

كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الغريم

وأراد: وكيف أمسيت.

والسلام، قيل: معناه: اسم السلام عليك، وهو الله.

وقيل: من: سلم الله عليك تسليماً، واسمه عز وجل: السالم؛ لأنه المسلم للعباد، أو على عباده الصالحين؛ أو لأنه ذو السلامة من كل نقص.

والعباد: جمع "عبد"، قال أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرف من العبودية، ولا اسم [للمؤمن أتم] من الوصف بالعبودية؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وكانت أشرف أوقاته صلى الله عليه وسلم في الدنيا:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]

والصالحون: جمع صالح؛ وهو: القائم بما عليه من حقوق الله تعالى، وحقوق العباد.

وقد سبق بيان معنى "الشهادة" و"الرسول"[في باب: الأذان].

ولا يقوم قوله: "أعلم" مقام [قوله]: "أشهد" على أحد الوجهين في "تعليق" القاضي أبو الطيب.

ومقابله موجه بأن معناهما [واحد]، وهذا الوجه جار في الشهادة عند القاضي وعند شهود الفرع من شهود الأصل؛ كما ستعرفه.

قال: ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم -أي: وجوباً- لقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [الأحزاب:56]، فأمر بالصلاة عليه، وأجمعنا على أنه لا يجب في غير الصلاة؛ فثبت أنه في الصلاة؛ كذا قاله الأصحاب.

وقال الشافعي: أوجب علينا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأولى الأحوال أن

ص: 214

تكون في الصلاة.

فإن قيل: الآية تقتضي ذلك [مرة] في العمر، والدعوى وجوبها في كل صلاة.

قلنا: لأصحابنا في [أن] الأمر هل يقتضي التكرار؟ وجهان:

فإن قلنا: يقتضيه، ارتفع السؤال.

وإن قلنا: لا يقتضيه، فجوابه: أن السنة تثبت وجوب التكرار؛ قال عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور والصلاة [عليَّ] ".

وروى الترمذي، عن فضالة بن عبيد قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته؛ فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عجل هذا"، ثم دعاه؛ فقال له، ولغيره:"إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء".

قال: وهو حسن صحيح، وسنذكر من بعد ما يدل عليه أيضاً، على أن الخلاف مع أبي حنيفة، وهو يمنع وجوبها عليه بحال، [والآية] حجة عليه.

قال: فيقول: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"؛ لما روى البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة؛ فقال: أو لا أهدي.

ص: 215

إليك هدية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا؛ فقلنا: يا رسول الله، الله قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ قال:"قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد [كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد] كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".

ومراد القائل: قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ أن الله تعالى أمرنا بهما في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [الأحزاب: 56]، وقد عرفنا كيفية السلام عليك؛ أي: بما قلته في التشهد؛ فكيف نصلي عليك؟ فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا كذا، بياناً لذلك.

وقد روى أبو مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد ابن عبادة؛ فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله؛ فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت

ص: 216

على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم" أخرجه مسلم.

ومعنى قوله: "كما علمتم"، أي: كما سبق في التشهد من قوله: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".

وقد ذكر الدارقطني حديث ابن مسعود، وقال فيه:[يا] رسول الله: أما السلام عليك فقد عرفناه؛ فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟

وساق الحديث.

قال: والواجب منه: "اللهم صلّ على محمد" أي: ولا يجب على الآل؛ لظاهر الآية؛ فإنه لم يذكر فيها الآل.

والجواب عن قوله عليه السلام: "قولوا

" إلى آخره، إنما هو "اللهم صل على محمد"؛ لأنه المسئول عنه، وقوله: "وعلى آل محمد" ليس بياناً لما سئل عنه، وإنما هو كلام مستأنف؛ فنحمله على الاستحباب.

ولأنه محل يجب فيه ذكر الله ورسوله دون صحابته؛ فلا تجب الصلاة فيه على آله؛ كالأذان؛ وهذا ما حكاه الماوردي.

وحكى غيره وجهاً آخر: أنها تجب؛ لقوله عليه السلام: "من صلى صلاةً لم يصل فيها علي ولا على أهل بيتي-لم تقبل منه" رواه الدارقطني، عن أبي مسعود الأنصاري.

ص: 217

قال في "المهذب": والمذهب: الأول؛ للإجماع، وأما الخبر؛ ففي رجاله جابر بن زيد الجعفي.

قال بعضهم: وفي دعواه الإجماع نظر مع مخالفة أحمد.

وإذا قلنا بالوجوب، فالواجب " [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.

قال القاضي الحسين: وقياس قول ابن سريج أن يقول:] اللهم صل على محمد، وآله، ولا يقول: وعلى آله.

وقال الرافعي: إن كلام الغزالي يشعر بأنه يجب أن يقول: وعلى آل محمد؛ لأنه ذكر ذلك، ثم حكم بأن ما بعده مسنون.

والأول هو الذي ذكره صاحب "التهذيب"، وغيره. وقد رأيت في "الزوائد" حكاية طريقة عن صاحب "الفروع": أن الخلاف في الصلاة على آل الرسول صلى الله عليه وسلم جارٍ في الصلاة على إبراهيم، عليه السلام.

وآل النبي صلى الله عليه وسلم: الذين تحرم عليهم الصدقة، ويستحقون من الغنيمة؛ وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب بلا خلاف عندنا.

وأما الذين يصلي عليهم في التشهد، اختلف فيهم:

فمن أصحابنا من قال: هم من اتبع دينه، وصدق بشريعته؛ لقوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] وأراد من كان على دين فرعون.

وقال أبو إسحاق، وجماعة-كما قال الروياني-: هم بنو هاشم، وبنو المطلب، قال في "التتمة": وهو مختار الشافعي.

وقيل: [هم من انتسب إلى النَّضْر بن كنانة، أبي قريش.

قال القاضي الحسين: وقيل: هم أصحابه، وعشيرته.

وقيل:] هم الأتقياء من المسلمين؛ لأنه عليه السلام سئل عن آله؛ فقال: "كل مؤمن تقي".

ص: 218

وروي أنه قال: ["آلي [كل] من] آمن بي إلى يوم القيامة".

فرع: لا يقوم قوله: "اللهم صل على النبي"، أو" [على] الرسول" مقام قوله:"اللهم صل على محمد".

وهل يجزئه قوله: ["صلى الله على محمد؟ فيه وجهان؛ كما في قوله: "عليكم السلام"؛ حكاه الماوردي، وجزم الرافعي بأنه إذا قال]: "صلى الله على محمد" أو "على رسوله" جاز، وحكى وجهين فيما إذا قال:"صلى الله عليه"، ووجه الجواز: أن الكناية ترجع إلى محمد في كلمة الشهادة، قال: وهذا نظر إلى المعنى؛ أي: الذي اعتبره ابن سريج في كلمات التشهد.

فائدة: كثيراً ما يقال: [قد تقرر] أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء؛ فكيف نسأل أن تكون الصلاة عليه كالصلاة على إبراهيم؟!

قيل: إن الشافعي قال: إن الكلام ينتهي عند قوله: "اللهم صلّ على محمد"، ويستأنف:"وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم".

وقال بعضهم: [إنه يمكن] أن يقال: طلب من الله تعالى له، ولآله وليسوا بأنبياء؛ مثل منازل إبراهيم، وآله، مع أن آل إبراهيم أنبياء، ومثل منازل آل إبراهيم بجملتها لا تصلح لآل محمد؛ لأن الأنبياء لهم مقامات لا يمكن أن تحصل للأتباع؛ فيختص آل محمد بما يليق بهم، ويتوفر الباقي له عليه السلام.

أو يقال: طلب أن يحقق الله حصول رحمته ونعمته على المجموع من محمد وآله؛ كما حقق ذلك لإبراهيم ولآله، ولا يلزم من [ذلك] فضل المشبه به إبراهيم على المشبه؛ كما يقول الولد: أعطني كما أعطيت الأجانب.

قال: ثم يدعو بما يجوز من أمر الدين؛ لما روى مسلم، عن أبي هريرة

ص: 219

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".

[وفي لفظ آخر: "إذا فرغ أحدكم من التشهد [الآخر] فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ المسيح الدجال"].

وسمي الدجال: مسيحاً؛ لأنه ممسوح إحدى العيني.

وقيل: لمسحه الأرض بالطواف.

قال الماوردي: والدعاء بأمر الدين مستحب.

قال: والدنيا؛ لما روى مسلم في حديث عبد الله بن مسعود، الذي أسلفناه في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد:"ثم ليتخير من المسألة ما شاء".

وفي رواية: "ما أحب".

وفي رواية أبي داود: "فليتخير من الدعاء ما أعجبه".

قال الماوردي: والدعاء بأمر الدنيا مباح.

وقال بعض أصحابنا: المباح أن يدعو بما يجوز أن يطلب من الله تعالى، وأما مايجوز أن يطلب من المخلوقين فلاي جوز، وإذا سأله بطلت صلاته؛ كذا حكاه ابن يونس، ومن بعده من الشارحين، ولم أره في مشاهير الكتبن بل الرافعي حكاه عن بعض أصحاب أبي حنيفة، وكيف كان فليس بشيء.

ص: 220

قال: والمستحب أن يدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"؛ لأن علي بن أبي طالب روى أنه عليه السلام كان يقول ذلك من آخر ما يقول بين التشهد والسلام.

قال مسلم بن الحجاج: وفيه رواية أخرى: أنه كان يقول ذلك إذا سلم، وقد أخرجها أبو داود.

وتكره قراءة القرآن في التشهد؛ كما تكره في الركوع والسجود، وإذا فعل، كان في البطلان الوجه السابق.

وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الإمام والمنفرد، ولا شك فيه في حق المنفرد، بل قال الأصحاب:[إن] له أن يطيل الدعاء ما شاء؛ ما لم يخرجه ذلك إلى السهو عن الصلاة، وأما الإمام فيستحب له أن يدعو [دعاء أقل من قدر التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كذا حكاه عن الشافعي. وعن نصه في "الإملاء" أنه يدعو] بقدر التشهد.

قال الأصحاب: وليس هذا باختلاف قول؛ لأن قدر التشهد أقل من قدر التشهد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

وحكى الإمام عن [رواية] الصيدلاني أن الإمام الأولى في حقه أن يقتصر على التشهد والصلاة، مع ذكر "الآل" وذكر "إبراهيم"، ويسلم؛ رعاية للتخفيف على من معه، ثم قال: فإن أراد الدعاء، فينبغي أن يكون الدعاء في مقداره أقل

ص: 221

من التشهد. قال الإمام: وما ذكره من الاقتصار على التشهد لم أره لغيره.

قال: ثم يسلم؛ لقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"، وتقرير [حصر] التحلل فيه يؤخذ مما ذكرناه في حصر التحريم في التبكير، وقد روى مسلم، عن جابر بن سمرة قال:[كنا إذا] صلينا مع [سول الله] صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله- وأشار بيده إلى الجانبين-فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"علام تومثون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه [من] على يمينه وشماله".

وجه الدلالة منه: أنه جعل كفايته ذلك؛ فدل على أنها لا تحصل بدونه.

ولولا حديث عائشة الذي سنذكره، لوجبت التسليمتان؛ كما هو أصح الروايتين عن أحمد.

ومن الخبر يؤخذ أن السلام يجب أن يفعله وهو جالس، وبه صرح الرافعي، وصيغته الكاملة -كما قال الرافعي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ لما روى أبو داود، عن وائل بن حجر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله".

وغيره قال: أكمله: "السلام عليكم ورحمة الله، وأقله: السلام عليكم".

فلو قال: [عليكم السلام]، النص في "الأم" الإجزاء؛ كما تقدم.

وقال ابن الصباغ: إنه نص عليه في كتاب: استقبال القبلة؛ حيث قال في آخر

ص: 222

باب السلام: [فإن قال: عليكم السلام]، كرهت ذلك، ولا إعادة عليه.

وقد حكى البندنيجي هذا وجهاً عن ابن سريج، وصححه، وكذا الروياني، وقال: إنه مكروه.

وفيه قول مخرج: أنه لا يجزئه من نصه على انه إذا قال: الأكبر الله، لا يجزئه. قال البندنيجي: وعليه طائفة من الأصحاب.

والماوردي حكى الخلاف في المسألة قولين منصوصين، وأن القديم منهما: الصحة مع الكراهة، وأن القائل بعدم الإجزاء حمل قوله في القديم:"لا إعادة عليه"، على أن الصلاة [لا تفسد به].

ولو قال: "سلام عليكم" بالتنوين، فوجهان:

المختار في "المرشد": الإجزاء كما في التشهد.

قال في "الشامل": وهو الأقيس.

وظاهر نصه في "الأم": المنع؛ فإنه قال: فإن نقص من هذا حرفاً، أعاد السلام.

ولا جرم. قال البندنيجي: إنه المذهب.

وقال أبو الطيب: إنه الصحيح، وفارق التشهد؛ لأن الشرع ورد بذلك فيه، ولم يرد به في السلام.

ولو قال: "سلام عليكم" من غير تنوين، فالمشهور أنه لا يجزئه قولاً واحداً؛ قاله الروياني، والمتولي، وغيرهما.

وقال القاضي الحسين: إنه يترتب على ما [إذا] أتى به التنوين، وأولى بعدم الإجزاء.

ووجه الإجزاء: أن ترك التنوين لا يغير معناه، فهو كما لو قال منوناً.

ولو قال: "عليكما السلام"، ففي الإجزاء وجهان في تعليق القاضي الحسين.

[ولو قال::سلامي عليكم"، أو: "سلام الله عليكم"- لم يجزئه.

ص: 223

قال القاضي الحسين]: وحيث قلنا: لا يجزئه ذلك؛ فإن تعمده بطلت صلاته، وألا أعاد السلام، وسجد للسهو.

وهذا بخلاف ما لو قال: "السلام عليهم"، أو "عليه"؛ فإنه لا يجزئه أيضاً، لكن لو تعمده لا تبطل صلاته.

قال الأصحاب: ويستحب ألا يمده؛ لقوله عليه السلام: "جزم السلام سنة"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قال: تسليمتين؛ لما روى ابن مسعود أنه عليه السلام كان يسلم عن يمينه، وعن يساره:[السلام عليكم]، [أخرجه مسلم، ورواية النسائي [عنه] أنه

ص: 224

عليه السلام كان يسلم عن يمينه] السلام عليك ورحمة الله: حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر.

قال: أحداهما عن يمينه؛ لما تقدم.

قال بعضهم: وكان الأحسن أن يقول: أولاهما عن يمينه؛ كما جاءت السنة.

[وحد] التفاته وقت التسليم فيها، وكذا في الثانية: أن يرى بياض خده؛ كما نص عليه الخبر، وهو المذكور في "المختصر"، ورواية مسلم: أنه عليه السلام كان إذا سلم التفت حتى يرى بياض خده من هاهنا وهاهنا.

ومن أصحابنا من قال: يلتفت حتى يرى بياض خديه من كل جانب. وهو سرف.

قال الرافعي: وينبغي أن يبتدئ بها مستقبل القبلة، ثم يلتفت؛ بحيث يكون انقضاؤها مع تمام الالتفات.

قال: ينوي بها الخروج من الصلاة؛ ليخرج من الخلاف الآتي.

والسلام على الحاضرين؛ أي: من الملائكة، والإنس، والجن؛ ليحوز فضيلة التسليم، وقد روي أنه عليه السلام كان يصلي قبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن معه من المؤمنين، رواه الترمذي.

قال: والأخرى عن يساره؛ للخبر، ينوي بها السلام على الحاضرين؛ لما تقدم.

قال الإمام: ويشترط في الاعتداد بالثانية دوام الطهارة؛ هذا هو الظاهر عندي؛ فإنها وإن كانت تقع بعد التحلل، فهي من الصلاة.

ثم نية السلام على الحاضرين في التسليمتين ثابتة في حق المنفرد.

وأما الإمام فينوي ذلك في حق من على يمينه وشماله، إذا تأخر سلامهم عن سلامه؛ كما قال القاضي الحسين وغيره: إن المستحب ألا يسلم

ص: 225

المأموم الأولى حتى يسلم الإمام الثانية.

أما إذا سلموا الأولى عقيب سلام الإمام [الأولى]- كما قال في "التتمة": إنه المستحب –فكلام بعضهم يشير إلى أنه ينوي بالثانية الرد على من [على] يساره، والسلام على الملائكة والجن.

والجمهور على أنه لا فرق.

ص: 226

ومنه يؤخذ أن الشخص إذا قال: السلام عليكم؛ فقال له الآخر: السلام عليكم –كان في معنى الرد في إسقاط جواب السلام، وسنذكره في باب: ما يفسد الصلاة.

وإن كان المأموم خلف الإمام، فهو مخير: إن شاء نوى السلام عليه بالأولى أو بالثانية.

وأما المأموم: فإن كان عن يمين الإمام- نوى بالأولى الخروج من الصلاة، والسلام على الحاضرين في صفه عن يمينه وقدامه ووراءه، ونوى بالثانية على طريقة الجمهور السلام على الحاضرين من الملائكة، والإنس، والجن.

وعلى الطريقة الأخرى ينوي الرد على الإمام، والسلام على الحاضرين من المأمومين والملائكة والجن، ويشهد له ما روى جابر بن سمرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض، رواه أبو داود.

وإن كان [عن] يسار الإمام، نوى بالأولى الخروج من الصلاة، والسلام على الحاضرين من الإمام، والمأمومين، والملائكة، والجن، وهذا على طريقة الجمهور.

وعلى الأخرى ينوي الخروج من الصلاة، والرد على الإمام، والسلام على الحاضرين، وينوي بالتسليمة الثانية السلام على الحاضرين، أو الرد على المأمومين، والسلام على الملائكة والجن.

وإن كان خلف الإمام، [قال في الأم]: فهو كما لو كان على يسار الإمام؛

ص: 227

فإن نوى السلام على إمامه في الأولى، وألا نواه في الثانية.

ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار؛ إن شاء رد على الإمام عن يمينه، وإن شاء رد عليه عن يساره.

واعلم: أن ما ذكره الشيخ من أنه يسلم تسليمتين هو الجديد الذي نص عليه في "الأم".

وفي "المهذب" و"تعليق" البندنيجي و"الحاوي" و"التتمة" و"الإبانة" حكاية قول آخر عن القديم: أنه إن صغر المسجد، أو كبر وقل الجمع -سلم واحدة، وإن كثر الجمع، سلم تسليمتين؛ وهذا ما حكاه الغزالي، والإمام، والقاضي الحسين عن رواية الربيع، وبه يحصل الجمع بين ما ذكرناه من الخبر، وبين ما روته عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم واحدة تلقاء وجهه، وكان يميل إلى الشق الأيمن شيئاً. أخرجه الترمذي، وقد أشار إليه الشافعي بقوله في القديم: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم واحدة [وأنه سلم اثنتين.

وحكى الغزالي والإمام قولاً ثالثاً عن القديم: أنه يسلم تسليمة واحدة] ولا يسن تسليمتين.

والصحيح: الأول، والحديث الوارد في التسليمة الواحدة، قال في "المهذب":

ص: 228

إنه غير ثابت عند أهل النقل، وغيره صرح بأنه يرويه زهير بن محمد، وقد قال أبو عمرو: إن حديثه لا يصح مرفوعاً، وهو قد ضعفه ابن معين وغيره في التسليمتين.

وإذا قلنا بالقديم، فالخبر يقتضي أنه يسلم واحدة تلقاء وجهه، ويميل إلى الشق الأيمن قليلاً، وكذا حكاه البندنيجي.

وفي "النهاية" في باب: التكبير في صلاة الجنازة أن في بعض النصوص أنه يبتدئ التسليم ملتفتاً إلى يمينه، ويتمها ووجهه مائل إلى يساره؛ فيدير وجهه من يمينه إلى يساره في حال التلفظ بالسلام، وقد اختلف أئمتنا في ذل: فمنهم من رأى ذلك رأياً؛ فأخذ به.

ومنهم من يقول: إذا كان يسلم واحدة، فإنه يأتي بها تلقاء وجهه من غير التفات.

قال: وظني أني لم أذكر مثل هذا في كتاب الصلاة، ولا شك في جريانه فيه. والذي ذكره فيه هو الثاني فقط.

قال: ثم يدعو؛ لما ذكرناه من رواية علي-كرم الله وجهه-أنه عليه السلام كان يقول بعد السلام: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت [

إلى آخره] ".

ولو أتى بالذكر بدل الدعاء، كان أولى؛ لأنه يحصل مقصوده وزيادة؛ قال عليه السلام:[يقول الله-عز وجل]: "من شغله ذكري عن مسألتي-أعطيته أضل ما أعطى السائلين".

ص: 229

وقد روى عنه عليه السلام أذكار مختلفة:

منها: أنه كان يقول إذا سلم من صلاته بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا نعبد إلا إياه، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، لو كره الكافرون" أخرجه مسلم، والشافعي في كتاب: الصلاة.

وروى النسائي وأبو داود بإسنادهما أنه عليه السلام قال: "من قال خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين تبكيرةً، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدةً،

ص: 230

ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير- غفرت خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر".

وروى مسلم قال: كتب المغيرة إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

قال: سراًّ؛ لقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110]، قالت عائشة: نزلت هذه الآية في الدعاء.

وقال الماوردي: إن الشافعي قال: معناه: لا تجهر بدعائك جهراً يسمع، ولا تخافت به إخفاء لا يسمع.

وقال غيره: معنى التخافت: ألا يسمع نفسه، وقد أثنى الله تعالى على عبده زكريا؛ فقال:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [مريم: 3].

وهذا إذا لم يكن إماماً؛ فإن كان إماماً، فقد قال في "التتمة": إنه يجهر، [وعليه [يحمل] ما روي أنه عليه السلام كان يقول بصوته الأعلى ما ذكرناه من حديث جابر]، وكلام المصنف يقتضي تخصيصه بحالة إرادة التعليم؛ ألا تراه قال: إلا أن يريد تعليم الحاضرين؛ فيجهر؛ لقصد التعليم.

والمريد للتعليم إنما يكون هو الإمام، ثم جهره يكون على هذا إلى حين يتعلمون.

قال الأصحاب: وينبغي للإمام-بعد فراغه من الدعاء-ألا يثبت في مكانه،

ص: 231

بل يثب؛ لأنه جاء في الحديث: "إذا لم يقم إمامكن فانسخوه"؛ وهذا يدل على أن الجميع محبوسون إلى أن يقوم الإمام، وألا لما أمر بنخسه.

ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه.

واختلف أئمتنا في أنه من أي قطر يميل.

فمنهم من قال يفتل يده اليسرى [ويجلس] على الجانب الأيمن من المحراب.

ومنهم من يقول-وهو القفال-: يفتل يده اليمنى، ويجلس على الجانب الأيسر؛ كما قلنا في الطواف: إنه يبتدئ من الحجر الأسود، وتكون يده اليسرى إلى الكعبة، واليمنى إلى الناس.

وقال الإمام: إذا لم يصح في هذا نقل، فلست أرى في ذلك إلا التخيير، ثم ينصرف إلى أي جهة شاء.

واستحباب قيامه عقيب الدعاء؛ إذا لم يكن ثم نسوة؛ فإن كان، فيستحب له أن يجلس كيما يخرجن؛ حتى لا يجتمعن مع الرجال حال الخروج، وكذا إذا

ص: 232

كان فراغه من صلاة الصبح؛ فيستحب له أن يشتغل بالذكر إلى أن تطلع الشمس؛ لما روي أنه عليه السلام قال: " لأن أجلس في قوم يذكرون الله من صلاة الغداة إلى أن تطلع الشمس أحب إلى من أن أعتق ثمانية من أولاد إسماعيل، دية كل واحد اثنا عشر ألفاً"؛ قاله في "التتمة".

والأولى فعل النوافل بعد الصلاة في بيته؛ فإن صلاها في المسجد جاز.

قال القاضي الحسين: ويتأخر عن موضعه قليلاً؛ لأن [روي ذلك عنه]، عليه السلام.

ص: 233

وهذا يعارضه قول الإمام في كتاب النذور: إنه عليه السلام لم ير متنفلاً في المسجد إلا في ثلاث ليال من شهر رمضان؛ فإنه صلى التراويح في المسجد.

ويستحب للمأموم ألا يخرج من المسجد قبل إمامه، قاله الماوردي.

قال: وإن كان في صلاة هي ثلاث ركعات أو أربع: جلس بعد الركعتين؛ [للإجماع] مفترشاً؛ لما أسلفناه من خبر أبي حميد الساعدي في صفة صلاته، عليه السلام.

قال الأصحاب: والفرق بين الجلوس في آخر الصلاة، وبين ما عداه من الجلسات فيها أن التورك هيئة مستقر؛ فكان آخر الصلاة به أولى، والافتراش هيئة مستوفز [للحركة]؛ فكان ما قبل الآخر به أولى؛ لأنه يعقبه حركة السجود.

وحمل الشافعي ما ورد من الأخبار الدالة على الافتراش، و [الأخبار] الدالة على التورك على حالين؛ كما قررناه؛ لأنه متى ورد في النفي والإثبات خبران مطلقان في واقعة، وورد فيها خبر مفصل-فالمطلقان محمولان على التفصيل لا محالة.

ولا فرق في استحباب الجلوس مفترشاً بعد الركعتين بين الإمام والمأموم والمنفرد؛ لاشتراكهم في المعنى الذي ذكرناه؛ ولأجله قال الأصحاب: إن المسبوق يجلس مع الإمام إذا جلس في آخر صلاته مفترشاً، وإن كان الإمام متوركاً.

[وقيل: إذا جلس الإمام في آخر صلاته متوركاً]، جلس المسبوق كذلك؛ متابعة له؛ حكاه الشيخ أبو محمد.

وعن الشيخ أبي طاهر الزيادي حكاية وجه ثالث: أنه [إن] كان محل تشهد

ص: 234

للمسبوق؛ كأن أدرك ركعتين من صلاة الإمام جلس مفترشاً، وألا جلس متوركاً؛ لأن الجلوس في هذه الحالة تمحض للمتابعة [فيتابعه] أيضاً.

والأكثرون على الأول، وهو الذي نص عليه، وادعى القاضي الحسين أن كل جلسة لا يسلم عنها يفترش فيها إلا في مسألة واحدة، وهي: إذا كان مسبوقاً، ويكون خليفة؛ فإنه يجلس في آخر صلاة الإمام متوركاً؛ كما يقنت في موضع قنوته، ويجهر في موضع أن يجهر.

قال: وعند القفال: خليفة الإمام يراعي نظم صلاة الإمام، إلا أنه يجلس مفترشاً؛ لأنه يريد أن يقوم، والقنوت والجهر خلاف ظاهر.

قال: ويتشهد؛ لقول عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كل ركعتين التحية، رواه مسلم.

قال: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وحده في أصح القولين؛ لقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]؛ فجمع بين الصلاة والسلام، وهو يسلم عليه فيه؛ [فكذا يصلي عليه فيه؛ ولأنه أحد التشهدين؛ فشرع] فيه الصلاة؛ كالأخير، وهذا ما نص عليه في "الأم"، وهو الجديد، والمختار في "المرشد".

قال: ولا يصلي في الآخر؛ لأن مبناه على التخفيف، روى ابن عباس: أنه عليه السلام كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف حتى يقوم، رواه أبو داود، والرضف: الحجارة المحماة، وهذا ما ذكره في القديم.

ص: 235

قال أبو الطيب: وهو [ظاهر] ما نقله المزني.

فعلى هذا: لا يصلي على الآل فيه، ولو صلى عليهم فيه، كان ناقلاً ركناً إلى غير محله، وفي بطلان الصلاة به الخلاف الذي سنذكره في باب سجود السهو.

وكذا لو صلى على آله فيه، وقلنا: إنه فرض في التشهد الأخير.

وعلى الأول هل يصلي على الآل؟ فيه الذي ذكره العراقيون، لا كما أفهمه قول الشيخ: وحده.

وحكى بعض المراوزة فيه وجهين، مبنيين على وجوب ذلك في الأخير؛ [فإن قلنا: يجب، كان كالصلاة عليه، وألا فلا يأتي به.

وصاحب "الفروع" جعل الخلاف في وجوبه في الأخير] مرتباً على استحبابه في الأول؛ فإن قلنا: يستحب فيه، وجب في الخير، وإلا فلا.

فرع: لو أطال التشهد الأول، كره له.

قال القاضي الحسين: ويجب أن تبطل صلاته؛ لأنها جلسة خفيفة كالجلسة بين السجدتين، ويحتمل ألا تبطل؛ لأنه محل الدعاء.

قال: ثم يصلي ما بقي من صلاته، مثل الثانية؛ لقوله عليه لسلام للمسيء في صلاته:"وافعل ذلك في جميع صلاتك"؛ وهذا دليل على الفرائض منها، وأما التكبير فدليله قول ابن مسعود وأبي هريرة: إنه عليه السلام كان يكبر في كل [رفع وخفض، والباقي] نأخذه بالقياس.

قال: إلا أنه [لا] يقرأ السورة بعد الفاتحة، في أحد القولين؛ لما روى

ص: 236

البخاري ومسلم، عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب [وسورة، ويسمعنا الآية أحياناً، ويقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب]. وهذا ما نقله البويطي عن الشافعي والمزني؛ كما قال أبو الطيب، وقاله في القديم، وادعى أبو إسحاق المروزي أنه الصحيح، وقال الغزالي: إن العمل عليه. قال الرافعي: وبه أفتى الأكثرون، وجعلوا المسألة من المسائل التي يفتى فيها على القديم.

قال: ويقرأ في الآخر؛ لما ذكرناه من خبر [أبي سعيد]؛ عند الكلام فيما يقرؤه في الصبح والظهر، وهذا ما نص عليه [في "الأم"]، واختاره الشيخ أبو حامد، والبغوي، وطائفة.

قال بعضهم: واعلم أنه يستثني من قول الشيخ الجهر بالقراءة؛ فإنه يجهر في الأولى والثانية، دون بقية صلاته.

قلت: ولا حاجة إلى استثنائه؛ لأن الشيخ بين الحل الذي يجهر فيه قبل ذلك؛ حيث قال: ويجهر الإمام والمنفرد بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، ومع ذلك لا حاجة إلى استثنائه. نعم يحتاج أن يستثني قدر القراءة؛ إذا قلنا: إنه يقرأ السورة؛ لأن الخبر دل على أن القراءة في الركعتين الأخيرتين على النصف من المقروء في الركعتين الأوليين، وبه قال في "المرشد".

وعبارة القاضي أبي الطيب: أنه لا يختلف المذهب أنه يستحب أن تكون الأخيرتان أقصر من الأوليين.

ص: 237

وكلام الشيخ يقتضي التسوية [بينهما ويقتضي التسوية] بين الثالثة والرابعة، وهو كذلك؛ لأن القاضي أبا الطيب قال: إنه لا يختلف المذهب أيضاً في أن المستحب مساواة الثالثة للرابعة.

وقال الرافعي: [إن] الوجهين في تطويل الركعة الأولى على الثانية يجريان في تطويل [الركعة] الثالثة على الرابعة.

قال: ويجلس في آخر الصلاة متوركاً؛ كما إذا كانت الصلاة ركعتين، والله أعلم.

قال: وإن كنا في الصبح فالسنة أن يقنت؛ لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقد ثبت أن الوسطى الصبح؛ فدل على أن القنوت فيها؛ لاقترانه بها، وقد روى الدارقطني بإسناده عن أنس بن مالك قال:"ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا".

وقد رأيت في كلام بعض الشراح أن مسلماً خرج هذا الخبر، وبعضهم نسبه إلى رواية الإمام أحمد في "مسنده".

ص: 238

فإن قيل: قد روت أم سلمة: أنه عليه السلام نهى عن القنوت في الفجر، وعن أنس: أنه عليه السلام قنت شهراً وترك. رواه مسلم.

قلنا: يحمل ذلك على الدعاء على الكفار؛ جمعاً بين الأحاديث، وحديث أم سلمة ضعيف عند أهل الحديث.

ثم القنوت في اللغة: الدعاء بالخير والشر، يقال: قنت فلان على فلان؛ إذا دعا عليه، وقنت له: إذا دعا له بالخير، لكن صار القنوت بالعرف مستعملاً في دعاء مخصوص.

قال: بعد الرفع من الركوع [في الركعة الثانية]؛ أي: وبعد فراغه من الذكر الراتب عقيب الرفع؛ كما قال البندنيجي، وهو قوله:"سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد" كما قاله الماوردي وغيره؛ لما روى البخاري بإسناده، عن أبي هريرة أنه قال: "والله لأنا أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقنت بعد الركوع.

وروى أبو داود، عن أنس، أنه سئل: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الصبح؟ فقال: نعم؛ فقيل له: قبل الركوع، أو بعده؟ قال: بعده.

ص: 239

وروى مسلم، عن أبي هريرة أنه عليه السلام قنت بعد الركوع.

فرع: لو قنت قبل الركوع، فهل يعتد به؟ [فيه وجهان] في "الحاوي"؛ أظهرهما: لا، ويعيده، وعلى هذا هل يسجد للسهو؟ فيه وجهان.

وقال القاضي الحسين: لو قنت قبل الركوع، [هل تبطل صلاته] أم لا؟ فيه وجهان، سيأتي أصلهما.

ولا خلاف في أنه إذا دعا بعد القراءة، ولم يرد القنوت- لا سجود عليه.

قال: فيقول -أي: المنفرد-: "اللهم اهدني فيمن هديت، عافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت"؛ لأن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت

" إلى آخره: قال الترمذي: وهو حديث حسن

ص: 240

صحيح، لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم [في القنوت] شيء أحسن منه.

وكذلك قال الإمام: إن المقدار الثابت في كلمات القنوت ما نقله المزني في "المختصر"، وهي هذه الكلمات الثماني التي ورد بها الخبر، ولم يزد في "المرشد" عليها.

وقال في "الشامل": إن بعض الناس زاد: "ولا يعز من عاديت، ولك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك" ولا بأس به.

وقال الشيخ أبو حامد: إنه حسن.

وقال القاضي أبو الطيب: قوله: "ولا يعز من عاديت"، ليس بحسن؛ لأن العداوة لا تضاف إلى الله، سبحانه.

ورُدَّ عليه ذلك بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [البقرة:98].

والذي رأيته في "تعليقه": أنه لا يستحب له أن يقول: "ولا يعز من عاديت"؛ لأن قوله: "لا يذل من واليت" يغني عنها؛ ولأن الأمر لم يرد بها. وهذا فيه

ص: 241

نظر؛ لأنه لا يظهر من قوله: "ولا يذل من واليت"[ذلك]، وقد ادعى القاضي الحسين أنه جاء في بعض الروايات في الخبر المذكور "ولا يعز من عاديت"، وفي بعض الآثار:"ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ربنا ونتوب إليك".

وزاد في التتمة على ما قاله القاضي أبو الطيب فقال: لا يستحب له أن يزيد على الكلمات [الثمان]؛ فلو زاد عليها؛ لا تبطل صلاته؛ لأن المحل محل الذكر.

وقال القاضي الحسين: [إنه] إذا طول القنوت على العادة كان مكروهاً، ويحتمل-عندي- أن يقال: تبطل؛ لأنها قومة قصيرة مدها بالذكر الممدود؛ كالجلسة بين السجدتين، والاعتدال في الركوع. ويحتمل الفرق؛ لأنها محل الدعاء.

أما الإمام-فيقول: "اهدنا" نص عليه في "الأم"، [وهذا يؤخذ من قول الشيخ:"ويؤمن المأموم على الدعاء"؛ إذ لو لم يأت به بصيغة الجمع، لما كان لتأمين المأموم فائدة ترجع إليه].

ولو خص نفسه بالدعاء، جاز؛ إلا أنه ترك المستحب؛ لخبر ورد فيه.

ثم ظاهر كلام الشيخ تعين كلمات القنوت التي ذكرها، وهو ما ادعى بعض الناس: أنه المذهب؛ فلا يجزئه غيره، ولو ترك منه كلمة، سجد للسهو.

وعبارة الإمام من حيث المعنى الذي يجب القطع به: تعين الكلمات الثماني المنقولات عن الحسن، ولا يقوم غيرها مقامها؛ لأنه [شبيه] بالتشهد الأول؛ فإنهما من الأبعاض؛ ولأجل ذلك قال في "الوسيط": وكلماته متعينة. وفي "فتاويه": أنه لو عدل عن الدعاء المشهور في القنوت إلى غيره، أو أتى ببعضه –لزمه سجود السهو.

والمنقول عن العراقيين أنه لا يتعين له ذكر.

ص: 242

وإن قنت بما روي عن عمر؛ وهو ما سنذكره في باب: صلاة التطوع- كان حسناً؛ قاله في "المهذب"، وحكاه في "المهذب" عن [نص] الشافعي، قوال: إنه لو جمع [ينه] وبني قنوت الحسن، كان حسناً. نعم: إن أراد الاقتصار على أحدهما؛ فقنوت الحسن أولى.

وما قاله العراقيون من عدم التعين سنذكره عن القفال في باب ما يسد الصلاة، وهو المنقول عن "فتاويه" أيضاً، ولم يورد القاضي الحسين غيره، وكذا الماوردي، [و] قال: إنه لو قرأ آية فيها دعاء كآخر البقرة ونحوها، أجزأه في تأدية السنة، وإن قرأ ما لا يتضمن دعاء؛ كآية الدين-فوجهان.

قال: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]: قال المفسرون: أي: لا أذكر [إلا وتذكر] معي.

قال في "المهذب": ولأنه نقل ذلك في رواية الحسن بن علي.

قال بعضهم: وقد أخرجه [أبو] عبد الله النيسابوري في "سننه".

ولأنه دعاء، وقد روي عن عمر أن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد يها شيء حتى تصلي على نبيك. ولا يقول هذا إلا توقيفاً وهذا هو المشهور.

وقد قيل: إنه لا يشرع فيه، وهو ما أورده القاضي الحسين؛ فإن فعله، كان كما لو قرأ الفاتحة في التشهد.

قال: ويؤمن المأموم على الدعاء؛ لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت، ونحن نؤمن خلقه، ولأن التأمين يجري مجرى الدعاء، وقد قيل: إنه

ص: 243

دعاء؛ كما تقدم؛ ولذلك قال ابن الصباغ: إنه ينبغي أن يتخير في ذلك.

وحكى المراوزة وجهين:

أحدهما: أنه يؤمن.

والثاني: يشاركه فيه؛ قياساً على سؤال الرحمة، والاستعاذة من النار.

وهذا إذا جهر، وسمع المأموم صوته؛ فإن كان قد أسر، أتى المأموم به.

وإن كان قد جهر، لكن المأموم لم سمع، فهل يؤمن، أو يقول كما يقول؟ حكى المراوزة فيه وجهين؟ كما تقدم مثلهما في قراءة السورة، ويأتي في الذكر والإمام يخطب إذا كان المأموم بعيداً لا يسمع الخطبة، وقياس مذهب العراقيين في ذلك أن يأتي به هاهنا.

قال: ويشاركه في الثناء؛ [إذلا] يمكن تحصيل مقصوده بالتأمين؛ ولذلك حمل الأصحاب ما رواه ابن عباس على الدعاء.

قال ابن الصباغ: وهذا لا يحفظ عن الشافعي فيه شيء، إلا أنه قال:"وإذا قرأ الإمام آية رحمة، سألها، وكذلك المأموم"؛ فشرك بينهما في الدعاء، وهذا مثله.

وفي "الرافعي" حكاية وجه عن رواية الروياني وغيره: أن المأموم يؤمن في كل كلمات القنوت، والأصح: الأول.

وقد أفهمك كلام الشيخ أن الإمام يجهر [به]، وهو ما ادعى البغوي-تبعاً للقاضي الحسين-أنه الأصح، وقال: إن من سننه في حق المنفرد الإسرار، وهذه الطريقة حكاها الماوردي أيضاً.

وأطلق البندنيجي القول بأن المصلى يجهر به، وطرده في القنوت في جميع الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة؛ إذا قلنا بالقنوت فيها.

والغزالي أطلق القول بأن الأصحاب اختلفوا في الجهر به، وكذا الفوراني. قال الغزالي: والظاهر أنه مشروع.

فرع: هل يرفع يديه فيه؟

قال في "المهذب": لا نص فيه، والذي يقتضيه المذهب: أنه لا يرفع. وهو ما

ص: 244

حكاه أبو الطيب في بعض كتبه، واختاره القفال والبغوي؛ قياساً على سائر الأدعية في الصلاة.

وقال القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وابن الصباغ، والغزالي، والروياني في "الحلية": إنه يستحب فيه الرفع، وهو الذي حكاه القفال، عن أبي زيد المروزي، وصححه في "التتمة"، و"المرشد"؛ لأنه منقول عن جماعة من الصحابة، وقوله عليه السلام الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه:"إذا دعوت، فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما؛ فإذا فرغت، فامسح بهما وجهك" –يدل عليه.

ولأنه دعاء في حالة ليس فيها هيئة مسنونة؛ فاستحب فيه الرفع؛ كخارج الصلاة؛ وعلى هذا قال الجيلي: ففي كيفية الرفع وجهان.

ص: 245

أحدهما: يرفع بطن كفه نحو السماء؛ لظاهر الخبر، وهو ما ذكره القاضي أبو الطيب.

والثاني: يرفع ظهر كفه.

قال: وهكذا الحكم في كل دعاء.

ومنهم من قال فيه: إن كان يسأل الله -تعالى- مغفرة ورحمة، وما هو من أمور الآخرة -فيجعل بطن كفه [إلى السماء]، وإن دعاه رهبة وخوفاً، جعل ظهر كفه نحو السماء.

وكيفما قلنا: إنه يرفع؛ فيستحب أن يمسح وجهه بكفيه؛ لما ذكرناه؛ ولأنه سنة الدعاء.

قال ابن الصباغ [وغيره]: ولا يستحب مسح غير الوجه، بل يكره.

وقال الروياني، والبغوي: إن أصح الوجهين أنه لا يمسح بهما وجهه أيضاً، وهو اختيار القفال.

فرع: إذا صار القنوت شعاراً للروافض، فهل يترك؟ فيه خلاف ذكرته عند الكلام في تسطيح القبر.

والرافعي نسب هاهنا وجه المنع إلى رواية أبي الفضل بن عبدان، عن [ابن] أبي هريرة، وهو المذكور في "الوسيط" ثَمَّ.

قال: وإن نزلت بالمسلمين نازل، قنتوا في جميع الصلوات؛ أي: الفرائض؛ لما روى ابن عباس قال: "قنت رسول الله - شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح، وفي دبر كل صلاة؟ إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على أحياء من سليم على رعل،

ص: 246

وذكوان، وعصية، ونؤمن [من] خلفه" أخرجه أبو داود.

ص: 247

وروى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة أنه قال:"إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وكان أبو هريرة يقنت في الظهر والعشاء الآخرة، ويدعو للمسلمين، ويلعن الكافرين".

وروي عن علي "أنه قنت في المغرب"، وبه وقع الرد على الطحاوي؛ حيث قال: إن القنوت في غير الصبح لم يقل به أحد إلا الشافعي.

وحكى المراوزة قولاً: أنه لايجوز القنوت [في غير الصبح] بسبب النازلة. وحكى ابن يونس طريقة أخرى: أنه لا يقنت السرية، ويقنت في الجهرية.

وإذا قلنا بالصحيح -فإيراد "الوسيط" يشعر بأنه [يسر في الصلوات السرية]، وهو ما حكاه البندنيجي، [و] في الجهرية الخلاف في قنوت الصبح.

قال الرافعي: وإطلاق غيره يقتضي [طرد] الخلاف في الكل.

أما إذا لم تنزل نازلة، فمفهوم كلام الشيخ أنه لايجوز، وهو ما حكاه الإمام عن شيخه، والغزالي في "الوسيط" عن المراوزة، ولم يحك في المهذب غيره، وعليه نص في "لأم"، وقال في "الإملاء": إن شاء قنت، وإن شاء ترك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها وترك، ولا يقال في هذا ناسخ ولا منسوخ؛ حكاه البندنيجي، وهو يقتضي أنه غير مستحب، ولا مكروه.

قال الرافعي: وهو قضية كلام أكثر الأئمة.

ومنهم من يشعر إيراده باستحبابه [في جميع الصلوات.

قال في "الروضة": والأصح: استحبابه]، [وصرح به] صاحب

ص: 248

"العدة"، ونقله عن نص الشافعي في "الإملاء".

وعلى الأول: فقد قال بعضهم: إن اختصاص الصبح بالقنوت عند فقد النازلة؛ لكونها أشرف؛ فإنها الوسطى؛ كما تقرر، ويدخل وقتها والناس في غفلة، ويشرع في أذانها التثويب، ويجوز الأذان لها قبل الفجر، وهي أخصر صلوات الفريضة في كل يوم، فكانت بالزيادة أليق من غيرها من الصلوات، والله أعلم.

ص: 249