الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فرض الحج والعمرة وسننهما
أركان الحج أربعة:
الإحرام، وقد تقدم ما هو؟ والأصل [في] اشتراطه قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة: 5] والحج عبادة محضة، وكذا العمرة.
[و] قوله- عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات
…
"
قال ابن الخل: ولأنه من لوازم دخول مكة، فكيف في الحج والعمرة؟
ولأن كل عبادة لها إحلال وإحرام، فالإحرام ركن فيها، كالصلاة.
ثم هو إجماع.
قال: والوقوف- أي: بعرفة لما روي أن قوماً من أهل نجد أمروا رجلاً منهم أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم[كيف الحج؟] فسأله فأمر- عليه السلام رجلاً [أن ينادي]"الحج عرفة، ألا إن الحج عرفة"، وقد تقدم من حديث عبد الرحمن بن يعمر.
قال: والطواف- أي: طواف الزيارة- لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
قال أبو الطيب: وليس بين المسلمين خلاف في وجوبه، وترك الجزء منه كترك الكل منه عندنا؛ فلا يتم تحلله إلا بالإتيان به وإن كان يسيراً، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو شك: هل طاف ثلاثاً، أو أربعاً؟ بني على اليقين؛ كما في عدد الركعات.
نعم: قال الشافعي- رضي الله عنه: "فإن أخبره مخبر: أنه طاف سبعة، أو ثمانية- أحببت أن يقبل قوله في ذلك".
قال أبو الطيب: والفرق [بين] هذا وبين من شك في صلاته، حيث قلنا: إنه لا يقبل في الصلاة قول غيره- هو أن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الطواف لا
تبطله، إلا أنه [لا] يجب عليه قبول [قول] غيره في عدد الطواف؛ لأنه يخبره عن فعل نفسه؛ فهو بمثابة من أخبر الحاكم عن شيء حكم به؛ فإنه لا يلزمه قبوله.
قال: والسعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى، والمئزر يدور في وسطه من شدة السعي:"اسعوا عباد الله؛ فإن الله كتب عليكم السعي"، وقد تقدم ذكر هذا الخبر.
ووجه الدلالة منه: أن الشرع أوجبه، وإيجابه يقتضي إيجاده إلى أن يدل الدليل على أن غيره يقوم مقامه.
[ولأنه نسك يفعل في الحج والعمرة؛ فوجب أن يكون ركناً، حتى لا يقوم الدم مقامه]؛ كالطواف.
قال أبو الطيب: ولا يرد على ذلك الحلاق؛ لأنه على أصح القولين نسك، [وقد تقدم [حكاية دعوى الإمام الوفاق] في أنا إذا قلنا: إن الحلق نسك] كما هو الصحيح عند الجمهور- فهو ركن، وكذلك قال النواوي: إنه ركن في أصح القولين.
وعلى هذا تكون الأركان خمسة.
قال الرافعي: واعلم أن ترتيباً، ما يعتبر في أركان الحج؛ لأن ما عدا الإحرام لابد وأن يكون مؤخراً عنه، والحلق والطواف لا بد أن يكونا مؤخرين عن الوقوف، والسعي لابد وأن يكون مؤخراً عن طواف.
وإذا كان كذلك، جاز أن يعد من الأركان؛ كما عدوا الترتيب من أركان الوضوء والصلاة، ولا يقدح في ذلك عدم اعتبار الترتيب [بين الحلق والطواف؛ كما لا يقدح عدم اعتبار الترتيب] بين القيام والقراءة في الصلاة، والله أعلم.
قال: وواجباته.
قال في "التهذيب": وهي الأبعاض.
الإحرام من الميقات، لما تقدم.
قال ابن الخل: ولأنه- عليه السلام قال: "لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم إلا من كان أهله دون الميقات".
قال: والرمي، أي: إلى الليل في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام فعل ذلك؛ كما ذكرناه من قبل، وقال "خذوا عني مناسككم".
قال: والوقوف بـ"عرفة" أي: إلى الليل في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام وقف إلى الليل، وقال:"خذوا عني مناسككم"، وهذا ما نص عليه [في] القديم و"الأم"؛ كما قال أبو الطيب، والبندنيجي.
ومقابله: أنه غير واجب؛ لقوله – عليه السلام في خبر عروة الطائي: "من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه"، ولم يذكر المبيت، ولا أوجب لأجله دماً، ولو كان واجباً لذكره؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"؛ كما قال ابو الطيب؛ [والبندنيجي]، وهو الذي صححه ابن التلمساني. والله أعلم.
قال: والحلق أي: أو التقصير- في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام علق الحل بالحلق، كما علقه بالرمي، وقد تقدم أن الرمي واجب، فكذلك الحلق، لكن
قضية هذا القياس: أن يجبر الحلق بالدم على هذا القول؛ كالرمي، وهو الذي يدل عليه قول الشيخ من بعد ومن ترك واجباً، لزمه دم.
لكن القاضي أبا الطيب قال عند الكلام في السعي: إنه لا يجبر بالدم، وهو ينطبق على ما حكيناه عن الإمام من قبل أنه يكون على هذا القول ركناً، وادعى وفاق الأصحاب عليه، لكنا قلنا: إن في كلام غيره خلافه.
وعلى هذا فالفرق بينه وبين الرمي [أن الرمي له] وقت محدود الانتهاء كالابتداء، فإذا فات لم يأت به إلا بأمر جديد، ولم يوجد.
والحلق لا آخر لوقته محدوداً، فهو متمكن من إيقاعه في كل وقت؛ فلا جرم وجب عليه الإتيان به، ولم يجبر بالدم؛ كالطواف.
والقول الثاني: الذي أشار إليه الشيخ هنا: أن الحلق استباحة محظور، وقد تقدم دليله.
قال: وطواف الوداع في أحد القولين [أي:] لمن أراد المسير- كما تقدم لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس السابق: "لا ينفرن أحد حتى يكون [آخر] عهده الطواف بالبيت" أو "آخر عهده بالبيت"، وهذا أمر، [وظاهر الأمر] الوجوب.
وأيضاً: فقد روي أنه- عليه السلام رخص للحائض في تركه، ولو لم يكن واجباً لما رخص فيه؛ وهذا ما نص عليه في القديم و"الأم"؛ كما قال القاضي أبو الطيب، وهو الصحيح عند ابن التلمساني.
ومقابله: أنه غير واجب، لأنه لو كان واجباً، لم يجز للحائض تركه كطواف الإفاضة.
ولأنه طواف غير حابس، أو غير مشروط في الحج، أو لا يجب على الحائض- فلم يكن واجباً؛ كطواف القدوم؛ وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن نصه في "الإملاء"، ورجحه، وقال: إن حديث ابن عباس نحمله على الاستحباب؛ بدليل ما ذكرناه.
والقائلون [بالأول] فرقوا بينه وبين طواف القدوم بأن ذلك شرع تحية للبقعة، وليس مقصوداً في نفسه، وكذلك [يدخل في طواف العمرة، وإذا كان تحية، كان كتحية
المسجد، وطواف الوداع مقصود في نفسه، وكذلك لا] يدخل تحت طواف آخر.
على أن فيه وجهاً آخر: أنه يجب بتركه الدم، حكاه صاحب التقريب، والله أعلم.
قال: والمبيت بمزدلفة، في أحد القولين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال:"خذوا عني مناسككم"، وكان ظاهره الوجوب، وقد ذكرنا عن [ابن] بنت الشافعي وغيره أنه [قال: إنه] ركن في الحج.
ومقابل القول المذكور في الكتاب: أنه لا يجب كالمبيت بمنى ليلة عرفة، وهو ما نص عليه في "الإملاء".
قال: والمبيت ليالي منى [أي: ليالي الرمي في منى] في أحد القولين؛ لأنه- عليه السلام رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى؛ لأجل سقايته، ولو لم يكن واجباً، لما كان للرخصة معنى.
ولأنه نسك يقع بعد التحلل؛ فكان واجباً كالرمي؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، والقديم؛ كما قال أبو الطيب.
ومقابله: أنه [لا يجب]، لقول ابن عباس:"إذا رميت جمرة العقبة، فبت حيث شئت".
ولأنه مبيت بمنى، فلم يجب بتركه دم؛ كما في ليلة عرفة؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء"، كما قال أبو الطيب.
وقد ظهر لك مما ذكرناه: أن الخلاف في أربع مسائل، وهي الوقوف بعرفة إلى الليل، وطواف الوداع، والمبيت بالمزدلفة وبمنى ليالي الرمي بها، وهو مأخوذ من "الأم"، و"القديم"، و"الإملاء".
وأن الذي نص عليه في "الأم" والقديم فيها الوجوب، وهو الذي صححه النواوي في "المناسك" في الكل.
والذي نص عليه في "الإملاء" عدم الوجوب.
ولأجل [ذلك] جمع البندنيجي بين الأربع، وحكى فيها القولين؛ كما ذكرنا.
لكن الصحيح في شرح ابن التلمساني- تبعاً للمرشد- فيما عدا المبيت بمزدلفة الوجوب وفي ليلة مزدلفة عدمه، فكأنهما- والله أعلم- رأيا أن [دليل] عدم الوجوب فيها هو الحديث الآخر الثابت؛ فجمعوا بين الحديثين بالحمل على الاستحباب، بخلاف باقي المسائل؛ فإن دليل عدم الوجوب فيها القياس، أو خبر لم يثبت؛ فلذلك لم يعارض قوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم"؛ فاستعمل في ظاهره، وهو الوجوب.
وقد تقدم أن ركعتي الطواف هل تجب أم لا؟
فإن قلت: [لِمَ] لَمْ يذكرها الشيخ كغيرها؟
قلت: لاستغنائه بما سبق.
قال: وسننه- وهي التي سماها في "التهذيب": هيئات الغسل، أي: في المواضع التي تقدم ذكرها.
قال: وطواف القدوم؛ لأنه تحية البيت؛ [فلم يجب]؛ كتحية المسجد.
ولأنه لو وقف بعرفة قبل قدومه مكة، ولم يطف حتى نحر، ثم طاف- لم يلزمه شيء؛ فدلَّ على أنه غير واجب، وهذا ظاهر المذهب، وبه قال أكثر الأصحاب.
قال أبو الطيب: وقال بعض أصحابنا: إذا أخل به، لزمه دم؛ قياساً على طواف الوداع، ثم قال: وأجاب هذا القائل عن عدم الوجوب فيما إذا وقف قبل أن يقدم مكة: بأنه ثَمَّ لم يتوجه عليه طواف القدوم؛ لأنه لم يوجد منه [إلا] قدوم مكة، وهنا قد وجد ذلك منه؛ ويؤيد ذلك أن من اجتاز بالميقات وهو لا يريد النسك: فلم يحرم، ثم تجددت له نية، فأحرم مكانه- لا يلزمه دم؛ لأنه لم يتوجه عليه الإحرام من الميقات، ولو كان في الابتداء نوى النسك، واجتاز بالميقات غير محرم، لزمه دم.
لكن قد تقدم الفرق بين طواف الوداع، والقدوم.
قال: والرمل والاضطباع في الطواف والسعي- أي: في [حق] الرجال- والتقبيل، والاستلام، لأنها هيئات للعبادة؛ فحمل فعله- عليه السلام لها على الاستحباب؛ كوضع اليمين على الشمال، والجهر بالقراءة، والتورك في الصلاة.
وقول الشيخ: "في الطواف والسعي" احترز به عما أفهمه كلامه السابق: أنه يديم الاضطباع في حال صلاته ركعتي الطواف إلى أن يفرغ من السعي؛ كما ذكرناه من قبل، وحكيناه عن بعض الأصحاب.
قال: والارتقاء على الصفا والمروة؛ لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
وقيل: إنه واجب؛ لأنه لا يمكن استيفاء ما بينهما إلا به فكان كغسل جزء من الراس عند غسل الوجه، وقد تقدم الكلام في ذلك مستوفى.
لكن كلام الشيخ الآتي من بعد يقتضي أن الارتقاء على قول من أوجبه يجبر بالدم، وقضية تعليله الذي ذكرناه في الباب قبله يقتضي أنه لا يجبر بالدم؛ حتى يكون إذا لم يرق تاركاً لبعض المسعى؛ فلا يعتد بما يأتي [به] بعده؛ كما تقدم.
قال: والمبيت بمنى ليلة عرفة؛ لأنه للاستراحة لا للنسك، وبهذا خالف المبيت بها في ليالي الرمي؛ لأنه لأداء النسك؛ بدليل أنه مشروع لكل أحد.
قال: والوقوف على المشعر الحرام- أي: إلى الإسفار- للإجماع على أنه لا يلزمه بتركه الدم؛ كما قال أبو الطيب عند الكلام في الوقوف بعرفة إلى الليل.
قال: والخطب أي: الأربع والأذكار، والإسراع في موضع الإسراع، والمشي في موضع المشي؛ لأنها هيئات للعبادة، فحمل فعله- عليه السلام لها على الاستحباب دون الإيجاب؛ كالجهر، والقراءة في الصلاة.
قال: وأفعال العمرة [أي: التي ذكرها في الباب قبله] كلها أركان إلا الحلق: أما الإحرام؛ فلما تقدم في الحج.
وأما الطواف والسعي؛ فلأنه العبادة المسنونة.
وأما استثناء الحلق؛ فلأنه على أحد القولين استباحة محظور، ولعله رأى أنه
الصحيح؛ كشيخه أبي الطيب.
وعلى القول الآخر وهو أنه نسك فقد عده من الواجبات في الحج، لا من الفروض، والعمرة تتبع الحج؛ فعدم فرضيته فيها أولى.
وقد يستدل لما ذكره الشيخ بأن الأركان التي ذكرها لا يتصور سقوطها مع صحة العباد’، والحلق قد يسقط، وهو في حالة عدم الشعر؛ فلذلك لم نعده معها، والله أعلم.
وقد احترز الشيخ بقوله: [وأفعال [العمرة]] عن الهيئات فيها: كالرمل، والاضطباع، وكون الإحرام من الميقات، ونحو ذلك؛ فإن الحكم فيها كالحكم فيه في الحج سواء.
قال: ومن ترك ركناً، لم يحل من إحرامه حتى يأتي به، أي: سواء كان قد تركه مع إمكان فعله أو لا، كالحائض إذا لم تطف طواف الزيارة؛ لما تقدم أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع، وكل [عبادة] يتوقف الإتيان بها على تمام أركانها؛ وهذا في غير الوقوف.
أما الوقوف إذا تركه حتى خرج وقته؛ فإنه يتحلل بعمل عمرة؛ كما سيأتي في الباب بعده- والله أعلم-.
قال: ومن ترك واجباً، لزمه دم؛ لقوله- عليه السلام:"من ترك نسكاً فعليه دم" وهذا الدم شاة، فإن لم يجد فالذي حكاه العراقيون، وحكاه عنهم الماوردي، وكذا القاضي الحسين في أول الفصل: أنه يعدل إلى صوم التمتع؛ لأن دم التمتع وجب للترفه بترك أحد الميقاتين فكان مثله كل دم وجب في متروك.
قال الرافعي: وهذا هو أظهر في المذهب، ولم يورد كثير من سائر الطبقات غيره؛ ولأجله قال النواوي: إنه الأصح.
والذي حكاه الإمام عن المراوزة القطع بأنه يعدل إلى الإطعام، فإن لم يجد، عدل اإلى الصيام، أي: صيام التعديل: عن كل مد يوماً.
قال: وهو أفقه وأغوص، ثم إنه على حسنه معتضد بنص الشافعي- رضي الله عنه فإنه ذكر أن دم الجماع تعديلُ كما مضى، [ثم قال]:"وهكذا كل واجب عليه مقيس به"؛ فكان هذا تصريحاً منه بتعميم التعديل في كل ما ليس منصوصاً عليه على التفصيل.
وقد وافق الإمام على ترجيحه ابن كج وغيره؛ كما قال الرافعي.
وحكى القاضي الحسين في موضع آخر بعد ذلك عن القفال: أنه إذا لم يجد الشاة، فإلى أي صوم يعدل؟ فيه وجهان:
أحدهما: إلى صوم التعديل.
والثاني: إلى صوم التمتع.
قال [[الرافعي]: وفي تعليق] بعض المراوزة وجه آخر؛ تفريعاً على قول العراقيين، وهو: أن الصوم المعدول إليه صوم فدية للأذى.
وقد حكى القاضي ابن كج وجهاً آخر: أن هذا الدم دم تخيير وتعديل كجزاء الصيد.
قال: ومن ترك سنة، لم يلزمه شيء كالسنن في غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.