المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الأطعمة هذا الباب مسوق لبيان ما يحل تناوله من المطعومات - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٨

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الأطعمة هذا الباب مسوق لبيان ما يحل تناوله من المطعومات

‌باب الأطعمة

هذا الباب مسوق لبيان ما يحل تناوله من المطعومات والمشروبات وما لا يحل، وذكر في ربع العبادات؛ لأن طلب الحلال فرض من فروض الأعيان على كل مسلم؛ قال الله - تعالى-:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، قال المفسرون: المراد به هاهنا: المداومة على أكل الحلال، وقال- عليه السلام:"طلب الحلال فريضة على كل مسلم".

والأصل فيما يحل تناوله وما لا يحل [تناوله] من الكتاب آيات، منها قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، قال الأصحاب- ومنهم الروياني-: اسم الطيب يقع على أربعة أشياء:

[الأول:][على] الحلال؛ كما جاء في الآية الأولى. [و] لا يجوز أن يكون هو المراد [في هذه] [الآية؟ لأنهم سألوه عما يحل لهم؛ فلا يجوز أن يجيبهم بأن يقول لهم: نحل لكم الحلال.

[الثاني:] ويقع على الطاهر؛ كما في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6].

ولا يجوز أن يكون هو المراد بهذه الآية]؛ لأن الظاهر أنه ردهم إلى شيء ينفردون بمعرفته، ويختصون به، وهم لا يختصون بمعرفة الطاهر، وإنما يعرفونه بالشرع.

ص: 219

[الثالث:] ويقع على ما لا أذى [فيه]، كقولهم:"هذا يوم طيب"، و"ليلة طيبة"؛ إذا لم يكن في [ذلك] حر يؤذي ولا برد يؤذي.

ولا يجوز أن يكون هو المراد في هذه الآية؛ لأن الشيء المأكول لا يوصف بذلك.

الرابع: ويقع على ما تستطيبه النفس وتشتهيه. وهو المراد بالآية المذكورة؛ لانحصاره؛ وهذا ما ذكره القاضي أبو الطيب، وصححه القاضي الحسين بعد أن أبدى احتمالاً آخر، وهو أنه يجوز أن يكون المراد: الحلال؛ كما في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].

[ومنها قوله تعالى في صفة نبيه (: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ومنها قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145]، واختلف أصحابنا في تأويلها:

فمنهم من قال: أراد بما أوحى إليه: قرآنا؛ فإنه لم يرد فيه غير تحريم هذه الأطعمة، وما عداها من المحرمات، فبالسنة حرم.

ومنهم من قال: [أراد]: قل لا أجد محرماً مما كانت العرب تستطيبه إلا هذه الأشياء الأربعة؛ والرابع منها قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].

ومن السنة ما سنذكره في أثناء الباب، إن شاء الله تعالى.

قال: ويؤكل من دواب الإنس: الإبل، والبقر، والغنم؛ لقوله تعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] وقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ} [النحل: 5][وقد أجمعت الأمة على ذلك].

قال: والخيل؛ لقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145].

وقد روى أبو داود عن محمد بن علي- وهو الباقر- عن جابر بن عبد الله قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحُمُرِ، وأذن في لحوم الخيل"،

ص: 220

[وأخرجه مسلم والبخاري كما ذكرناه، ولفظ البخاري:"وأرخص في لحوم الخيل".

فإن قيل: فقد روى أبو داود- أيضاً- عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل] والبغال والحمير.

قلنا: قال أبو داود: وهو منسوخ.

[وقال النسائي: إن صح هذا، فهو منسوخ]، ويدل عليه قوله في الحديث الأول:"وأذن" أو: "أرخص في لحوم الخيل".

تنبيه: الإنس: البشر، واحدهم: إِنْسي، بكسر الهمزة وإسكان النون، وأَنَسِيّ بفتحها، حكاه الجوهري وغيره، والجمع: أناسِي.

قال: ويقال للمرأة: إنسان، ولا يقال: إنسانة.

وفي "المفصل" للزمخشري عند الكلام في أقسام تاء التأنيث: أن من ذلك دخولها للفرق بين المذكر والمؤنث في الاسم: كامرأة، وشيخه، وإنسانة.

الخيل: قال الجمهور: هو [اسم] جنس، لا واحد له من لفظه: كالقوم، والنفر، والرهط، [والنساء]، وواحده من غير لفظه: فرس، يطلق على الذكر والأنثى، وقيل:[إن] واحده خائل كطائر وطير.

ص: 221

والخيل معروفة، وجمعها: خيول، وتصغيرها: خييل، وسميت: خيلاً؛ لاختيالها في مشيها بطول أذنابها. والله أعلم.

قال: ولا يؤكل الكلب؛ لأنه من الخبائث؛ قال- عليه السلام: "الْكَلْبُ خَبِيثُ وَخَبِيثُ ثَمَنُهُ"، وإذا ثبت أنه من الخبائث، اندرج تحت قوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

قال: والخنزير؛ للآية، والبغل والحمار؛ لحديث جابر.

وقد روى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر- أيضاً- قال: "ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير؛ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم يَنْهَنَا عن الخيل"، وأخرجه مسلم بمعناه.

وحكم لبن ما لا يحل أكله مما ذكرناه حكم لحمه؛ لأنه عصارته.

وفي "التتمة" وجه في حِلِّ لبن الحمير؛ لأنه كان مباحاً في ابتداء الإسلام مع اللحم، والخبر دال على تحريم اللحم خاصة؛ فيبقى اللبن على الإباحة.

قلت: ويمكن أخذه من أصل آخر، وهو أن الحمير حرمت بالنص، أو لأجل أن العرب تستخبثها؟ وفيه وجهان في "الحاوي": فإن قلنا بالأول، أمكن أن يقال بالحل؛ لما ذكر، وإن قلنا بالثاني فلا.

قال: والسنور؛ لما روى عن جابر بن عبد الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن

ص: 222

الهِرِّ".

وفي رواية: "عن أكل الهر، وأكل ثمنها"، وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه.

فإن قلت: في إسناده عمر بن زيد، وهو لا يحتج بحديثه.

قلت: قد روى مسلم من حديث أبي الزبير قال: سألت جابراً عن ثمن الكلب والسنور، فقال:"زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك".

[وروي أنه- عليه السلام قال: "إنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئاً حَرَّمَ ثَمَنَهُ"].

وروي أنه- عليه السلام قال: "الهِرُّ سَبُعُ"، ولأنه يصطاد بنابه، ويأكل الجيف؛ فحرم كالأسد.

ص: 223

وفي الرافعي: أن أبا عبد الله البُوشَنْجِيّ من أصحابنا اختار لنفسه حل أكلها كمذهب مالك.

قال: ويؤكل من دواب الوحش البقر؛ لأنها من الطيبات.

قال البندنيجي: ويستوي فيها التيتل والأيل والوعل، وكذا يؤكل جميع كباش الجبل وغنمه.

قال: والحمار؛ لأنه من الطيبات أيضاً.

وقد روى أبو داود عن قتادة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريقمكة، تخلف مع أصحاب [له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه، قال: فسأل أصحابه] أن يناولوه سوطه، فأبوا، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذه، ثم شدَّ على الحمار، فقتله، فأكل [منه] بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك، فقال:"إنَّما هي طُعْمَةُ، أطْعَمَكُمُوهَا اللهُ تَعَالَى"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، ووقع في البخاري ومسلم: أنه- عليه السلام أكل منه.

وقوله- عليه السلام: "أَلَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ"- كما خرجه أبو داود عن المقدام بن معديكرب والدارقطني مختصراً [يدل عليه أيضاً].

ولا فرق في ذلك بين ما تأنس منه أو بقي على توحشه؛ كما لا فرق في تحريم الإنسي بين أن يبقى على صفته أو يتوحش؛ كما قاله في "البحر" وغيره.

قال: والظبي؛ لأنه من الطيبات؛ فتناوله قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].

قال: والضبع؛ لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 224

عن الضبع، فقال:"هُوَ صَيْدُ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشُ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ". وأخرجه النسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح.

وروى الشافعي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، [فقلت: سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم].

قال الشافعي- رضي الله عنه: وما زال الناس يأكلون الضبع، ويبيعونها بين الصفا والمروة- يعني: في الصدر الأول- ولم ينكر ذلك أحد.

قال: والثعلب؛ لأنه من الطيبات.

والأرنب؛ لما روى أبو داود عن أنس بن مالك قال: كنت غلاماً حَزَوّرًا فصدت أرنباً فشويتها، فبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته بها. وأخرجه

ص: 225

البخاري ومسلم بنحوه.

وفي رواية البخاري: "بوركها وفخذها، فَقَبِلَهُ".

والحزور- بالتشديد والتخفيف-: الذي قارب البلوغ.

قال: واليربوع؛ لأن العرب تستطيبه، وقد أوجب فيه عمر- رضي الله عنه على المحرم جفرة، ولو لم يكن يؤكل لما ضمنه المحرم؛ كالفواسق، وهو دويبة مثل الجرذ، لها رأس مدور، وعين ضخمة سوداء مستديرة، بيضاء الطرف، قصيرة اليدين، طويلة الرجلين.

قال: والقنفذ؛ لأنه مستطاب، لا يتقوى بنابه، يحل كالأرنب، وقد روى أبو داود عن تميلة عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر، فسئل عن أكل القنفذ، فتلا:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145]، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه في كتاب الطعام.

فإن قيل: قد روى أبو داود تتمة الأثر المذكور: أن شيخاً قال عند ابن عمر: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"خَبِيثٌ مِنَ الْخَبَائِثِ"، فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كما قال. وهذا يدل على التحريم.

قيل: قد قال به بعض المراوزة، كما صار إليه أبو حنيفة وأحمد، لكن الصحيح الأول، والجواب ما قاله البيهقي: إن إسناد ذلك غير قوي، وأيضاً: فإنه رواية شيخ مجهول؛ فلا يعارض عموم الكتاب، ولو صح فهو محمول على أنه خبيث الفعل؛ لأنه يخفي رأسه عند التعرض لذبحه، ويؤذي بشوكه إذا صيد.

وعن القفال: أنه إن صح الخبر فهو حرام، وإلا رجعنا إلى العرف، هل يستطيبونه؟ والمنقول عنهم الاستطابة.

والقنفذ: بضم القاف والفاء، ويقال بفتح الفاء أيضاً؛ ذكرهما الجوهري، وجمعه: قنافذ، والأنثى: قنفذة، ويقال: قنفط- بالطاء بدل الذال- وهو غريب.

ص: 226

وقد ألحق البغوي بالقنفذ في جريان الخلاف الدُّلْدُلَ، وهو أكبر من القنفذ ذو شوك طويل، يشبه شوكه، والصُّرَدُ، والسلحفاة.

قال: والوبر؛ لأن العرب تأكله وتستطيبه؛ وهذا ما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.

وفيه وجه آخر: أنه حرام؛ حكاه البغوي وغيره، [وبه قطع الشيخ أبو محمد، وعدَّهُ من الخبائث.

قال الإمام: ولا أصل له في ذلك يرجع إليه].

قلت: يمكن أن يكون أصله فيه قول الشافعي- رضي الله عنه كما حكاه ابن الصباغ وغيره في باب جزاء الصيد: "إن كان الوبر تأكله العرب، ففيه جفرة"، لكن [الشافعي قد] حكى عن عطاء ومجاهد أنهما حكما في الوبر بشاة، ولا يفدي إذا لم يكن متولداً من مأكول وغيره إلا ما يؤكل، كما سنذكره.

والوبر- بإسكان الباء-: الذكر، وجمعه: وبار- بكسر الواو- والأنثى: وبرة؛ قاله ابن الأعرابي، وهو دويبة سوداء أكبر من ابن عرس، وأصغر من الهرة الوحشية، وليس لها ذنب، كحلاء العين.

وقيل: منه يعمل الخَزّ.

قال: وابن عرس؛ لأن العرب تستطيبه.

وفيه: أنه يحرم؛ حكاه الماوردي، ونسبه المراوزة إلى العراقيين.

والأول ليس منقولاً عن الشافعي؛ فإن في "تعليق البندنيجي": أنه لا يعرف فيه.

وفي السنجاب والسنور والدَّال والفَنَك- قول، وقد ذكر أن أبا يوسف قال: كلها سبع كالثعلب، فإن كانت كما قال فهو على المذهب حلال؛ لأنَّا نرد المجهول إلى أقرب الأشياء شبهاً بالمعروف، والوجه الآخر جارٍ فيما ذكره أيضاً، وبعضهم لم يورده في السنجاب والفنك، وألحق به الدَّلَق والقمام والحواصل، وعلى ذلك جرى في "التهذيب".

وقال الرافعي: إنه الذي يحكي عن النص.

ص: 227

وابن عرس: بكسر العين، وإسكان الراء، وجمعه: بنات عرس، وكذلك ابن آوى وابن مخاض وابن لبون، جمعه: بنات آوى وبنات مخاض وبنات لبون، وحكى الأخفش: بنات عرس وبنو عرس، وبنات نعش وبنو نعش.

قال: والضب؛ لما روى أبو داود عن خالد بن الوليد: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأُتِيَ بضب محنوذ- أي: مشوي، وقيل: هو المشوي بالرَّضْف، وهي الحجارة المحماة- فأهوى إليه بيده صلى الله عليه وسلم فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه هو ضب؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: فقلت: حرام هو؟ قال: "لَا، وَلَكِنَّهُ لمَ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.

وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهم.

وهوى وأهوى بيده إلى الشيء: تناوله، ويقال للضب: السحل، والأنثى: ضبة.

[وأم حبين]، قال البندنيجي: هي ضرب من الضِّباب، وقد قال الشافعي- رضي الله عنه: إن كانت العرب تأكلها، ففيها ما قضى به عثمان- رضي الله عنه فتوقف فيها.

وفي "التهذيب" الجزم بحلها، وهو أصح الوجهين في الرافعي؛ لأنها تُفدى.

وهي- كما قال القاضي أبو الطيب-: دابة كبيرة الجوف صفراء.

ص: 228

قال: وسنور البر [فقد]، قيل: إنه يؤكل؛ لأنه حيوان يتنوع إلى أهلي ووحشي، حرم الأهلي منه؛ فيحل الوحشي؛ كالحمار، وهذا يحكى عن الخضري، واختاره في "المرشد".

وقيل: لا يؤكل؛ لأنه يصطاد بنابه؛ فاندرج تحت نهيه- عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع، وهذا ما صححه البغوي والرافعي، واختاره القفال.

وفرق بينه وبين الحمر بأنها تفارق الأهلية في ألوانها وهيئاتها وطباعها، وقد قال بعضهم: إن أصل الخلاف التردد في أنه وحشي الأصل، أو كان إنسياً وتوحش، وتولد عند انجلاء أهل القرى وسِنِي القحط؟ فعلى الأول: يحل، وعلى الثاني: لا.

واعلم أن أصل قاعدة المذهب في الحيوان الوحشي- كما قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الصيد والذبائح-: أن ما فداه المحرم في سُنَّةٍ أو أثر يؤكل.

قال البندنيجي: ولا يخرج منه إلا السِّمع ونحوه؛ لما سيأتي.

قال: ولا يؤكل ما تستخبثه العرب من الحشرات: كالحية، والعقرب، والوزغ، وسام أبرص، والخنفساء، والزنبور، والذباب، والجعلان، وبنت وردان، وحمار قَبَّان وما أشبهها، أي: كالفئران، والنحل، والعناكب، والقراد، والصراصير، [والنمل]، والدود، والقمل، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، ولأن الشرع قد أمر بقتل بعض ذلك؛ روى أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم؟ قال:"الحَيَّةُ، والْعَقْرَبُ، والْفُوَيْسِقَةُ، وَيَرْمِى الْغُرَابَ، وَلَا يَقْتُلُهُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، والْحِدْأَةُ، والسَّبُعُ الْعَادِي"، ونهى

ص: 229

عن قتل بعضه.

وروي أنه- عليه السلام نهي عن قتل النملة، والنحلة، والخطاف، والصرد، والهدهد، والضفدع، فلو كان البعض الأول مباح الأكل، لما أمر بقتله؛ كما لم يأمر بقتل سائر ما يحل أكله؛ لأجل إبقائه للتسمين وللأكل، وكذلك لو كان البعض الآخر مباح الأكل، لما نهى عن قتله؛ لأن الذكاة قتل مخصوص، وإذا امتنع أكل البعضين، قِيسَ ما في معناهما عليهما.

وقد جعل صاحب "التلخيص" وغيره ذلك أصلاً، فقال: ما أمر بقتله فهو حرام، وما نهي عن قتله فهو حرام.

قال البغوي: قال الأصحاب: والأول أصح، وأما الثاني: فليس على إطلاقه؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه أوجب في الهدهد، والصُّرَد الجزاء، وعنده لا يجب الجزاء على المحرم بقتل ما لا يؤكل لحمه، ولأصحابنا فيهما وجهان:

أحدهما: لا يحل؛ لورود النهي عن قتلهما، وهو الأظهر في "الرافعي"، وبه جزم في "الوجيز" في الصرد.

والثاني: يحل، والنهي عن قتلهما محمول على الكراهة؛ لأن الهدهد امتثل أمر نبي من الأنبياء، والصُّرَد كانت تتشاءم به العرب بصوته وصورته.

وأما الخطاف، والنحلة، والنملة، وغيرها مما ذكرناه، فحرام.

وعن أبي عاصم العبادي أن محمد بن الحسن قال: يحل الخطاف. وهو محتمل على أصلنا، وإليه مال كثير من أصحابنا، وأجرى أبو عاصم العبادي الخلاف في النملة والنحلة.

وما ذكرناه من تحريم الدود مخصوص بما لم ينشأ من الطعام، أما ما نشأ منه:

ص: 230

كدود الخل، والجبن، ونحوه، فهل يحل أكله؟ الذي أورده الماوردي والروياني هنا: المنع، وحكى الرافعي وجهاً آخر: أنه يحل، وحكى الإمام في كتاب الطهارة الحل عند اتصاله بما تولد منه، وحكى وجهين فيما إذا جمعه وأكله منفرداً، هل يحل أم لا؟ والصحيح المنع، وبهذا يحصل في المسألة ثلاثة أوجه.

تنبيه: احترز الشيخ بقوله: "العرب"، عما يستخبثه العجم؛ فإنه لا اعتبار بذلك؛ لأن الله- سبحانه وتعالى لما أناط الحل بالطيبات والتحريم بالخبائث، عُلِمَ بالعقل: أنه لم يرد ما يستطيبه ويستخبثه كل العالم؛ لاستحالة اجتماعهم على ذلك عادة؛ لاختلاف طبائعهم، وتفاوت شهواتهم؛ فتعين أن يكون المراد: ما يستطيبه ويستخبثه بعضهم، وكان العرب بذلك أولى؛ لأن القرآن بلغتهم نزل، وهم المخاطبون به؛ وعلى هذا فطبائع العرب- أيضاً- مختلفة؛ لاختلاف الأزمنة والأمكنة في الشدة والرخاء؛ فلا يمكن إناطة الحكم في الحل والتحريم باستطابة جميعهم [الشيء واستخباثه] بل المرجع في ذلك إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قاله القاضي الحسين وجماعة، كما قاله الرافعي، وأبدى لنفسه احتمالاً في عدم اختصاصهم بذلك، وأنه يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه، وقوَّاه بحكايةٍ رواها عن أبي عاصم العبادي عن الأستاذ أبي طاهر الزيادي عن أبي الحسن الماسرجسي.

وعلى كل حال فيشترط فيمن يرجع إليهم [في ذلك] أن يكونوا متصفين وراء ما ذكرناه بصفات:

إحداها: أن يكونوا قريبين من البلاد والأرياف؛ كما قال القاضي أبو الطيب وغيره، دون المقيمين في المواضع المنقطعة وأهل البادية؛ لأن أولئك يأكلون كل ما وجدوا، حتى روي أن بعضهم سأل أعرابياً فقال: ما تأكلون؟ قالوا: نأكل كل ما دبَّ ودرج إلا أم حبين، فقال الرجل: لِيَهْنِ أمَّ حبينٍ العافيةُ.

الثانية: أن يكونوا ذوي طباعٍ سليمة.

الثالثة: أن تكون الاستطابة في حال الرفاهية؛ حتى يأكلوا ذلك عادة، دون حالة القحط.

الرابعة: أن تكون الاستطابة والاستخباث من الأكثر؛ لأن من الأشياء ما أباحها

ص: 231

بعضهم شاذاً: كالحيات ونحوها، إلا أن أكثرهم استخبثها، ومنها ما يستقذره الواحد منهم، وهو حلال عند عامتهم؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضب، فإن افترقوا فريقين على السواء، قال الماوردي والقاضي الحسين والعبادي: رجح بقريش، فإن اختلف قريش أو لم يحكموا بشيء، رجع إلى شبيه الحيوان، والشبه تارة يكون في الصورة، وتارة في طبع الحيوان من السلامة والعدوان، وأخرى في طعم اللحم، فإن تساوى الشبهان، أو لم يجد ما يشبهه، فوجهان:

أحدهما- عن أبي إسحاق والطبري، وظاهر المذهب كما قال في "العدة"، وإليه ميل الشافعي كما قال الإمام-: أنه حلال؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء، فبعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا قوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145].

[والوجه] الثاني- قاله بعض أصحابنا-: أنه حرام؛ لأن الحيوان في الأصل محرم إلا ما دَلَّ عليه الدليل؛ فإذا لم يرد فيه دليل فهو باق على التحريم، وهذا ما رجحه ابن كج.

وبنى الماوردي الوجهين على اختلاف أصحابنا في أن أصول الأشياء قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو على الحظر؟ فعلى الأول يحل ما تكافأ اختلافهم فيه. وعلى الثاني يحرم.

وهذا حكم باقي بلاد العرب، أما ما لم يكن فيها بل في بلاد العجم، اعتبر فيه حكمه في أقرب بلاد العرب عند من جمع الأوصاف السالفة، فإن اتفقوا على شيء عمل به، وإن اختلفوا مع التساوي، ولا شبيه له، ففي "تعليق القاضي أبي الطيب" وغيره وجهان؛ كما سبق.

وفي "الحاوي": أنه يعتبر فيه حكمه في أقرب الشرائع للإسلام، وهي النصرانية، فإن اختلفوا فيه، فعلى ما ذكرناه من الوجهين. وهذا منه يدل على أن ما هو محرم في

ص: 232

شريعة غيرنا يحرم علينا عند إشكال الحال.

وقد قال الغزالي: فيه قولان بناهما الموفق بن طاهر على أن شرع من قبلنا إذا ثبت بالكتاب أو السنة أو بقول عدلين ممن أسلم منهم، وهو يعرف المبدل من غيره- هل يكون شرعاً لنا؟ وفيه اختلاف الأصوليين.

وقول الشيخ: "من الحشرات" قد يفهم أن المراد به إخراج ما تستخبثه العرب من غير الحشرات؛ فإنه لا يحرم، وليس كذلك؛ بل الآخر حرام- كما ستعرفه- لعموم الآية، وإنما أتى به؛ لأنه لما ذكر حل اليربوع والقنفذ والوبر وابن عرس والضب وذلك من الحشرات- لأن الحشرات بفتح الحاء والشين: صغار دواب الأرض، وقيل: صغار دوابها وهوامها- فقد يظن ظان أن ما ذكره الشيخ تمثيلُ، وأن جميع الحشرات يحل أكلها؛ كما صار إليه الإمام مالك؛ تمسكاً- مع الآية- بما روى أبو داود عن ملقام بن تَلِبِّ عن أبيه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً، فصرح [الشيخ] بالتحريم؛ [لنفي هذا التوهم]، أو لاستكمال بيان حكمها، أو لينبه على أن ما ذكر إباحته أولاً من الطيبات حتى يكون دليله على الجميع واحداً، وهو قوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157].

[تنبيه] آخر: الحية للذكر والأنثى، والعقرب والعقربة والعقرباء، كله للأنثى، والذكر: عقربان، بضم العين والراء.

الوزغ: بفتح الواو والزاي، واحدها: وزغة، وتجمع على: أوزاغ، ووزغان.

سام أبرص: بتشديد الميم، قال أهل اللغة: هو كبار الوزغ.

الخنفساء: بضم الخاء ممدودة، والفاء مضمومة ومفتوحة، والفتح أفصح وأشهر، قال الجوهري: ويقال: خنفس وخنفسة.

الزنبور: بضم الزاي.

الذباب: جمعه في القلة: أذِبَّة، والكثرة: ذِبَّان: بكسر الذال؛ كغراب وأغربة

ص: 233

وغربان، سمي ذباباً؛ لحركته واضطرابه؛ قاله الواحدي عن الزجاجي.

وقال غيره: لأنه يُذَبُّ، أي: يُدْفَعُ.

الجعلان: بكسر الجيم، جمع: جُعَل، بضمها، وفتح العين.

وحمار قبان: دويبة معروفة.

قال: وكذلك لا يؤكل ما يتقوى بنابه: كالأسد، والفهد، والنمر، والدب، والذئب، والفيل، والقرد، والتمساح، والزرافة، وابن آوى؛ لما روى أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.

ص: 234

وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

قال القاضي الحسين وغيره: وفي نصه- عليه السلام في الحديث السابق على قتل الكلب دلالة على دخول الأسد والفهد والنمر، ونحوه فيه.

ثم ما المعنى الذي لأجله حُرِّم ذو الناب؟

المعزيُّ إلى الشافعي- رضي الله عنه كونه يعدو بنابه على الحيوان، طالباً غير مطلوب.

وإلى أبي إسحاق: كون عيشته بنابه، ومعناه: أنه لا يأكل إلا من فريسته، ولا جرم لم يكن الضبع ونحوه مما تقدم محرماً؛ لانتفاء المعنيين [المذكورين] فيه.

ثم ما ذكره الشيخ في الفيل والقرد والتمساح هو المشهور.

وعن أبي عاصم العبادي: أن أبا عبد الله البوشنجي من أصحابنا اختار حل الفيل كمذهب مالك- رحمه الله لأنه لا يعدو من الفيلة إلا الفحل المغتلم كالإبل.

وفي "تعليق البندنيجي": أن بعض أهل العلم حكى عن الشافعي أن القرد مأكول، ولا يعرف له، ولا ذُكِرَ في كتبه. وفي التمساح وجه: أنه مباح الأكل، وهو يؤخذ من قول الشيخ الذي سنذكره من بعد.

وما ذكره في ابن آوى هو ما رجحه أبو علي الطبري والقاضي الحسين والروياني والبغوي وصاحب "المرشد". وادعى الإمام قطع المراوزة [به]؛ لأنه مستخبث من جنس الكلاب، وله ناب يعدو به على الطيور، ويأكل النجاسات.

قال القاضي الحسين: ومن أصحابنا من قال: يؤكل كالثعلب، وهو ظاهر كلام

ص: 235

الشافعي- رضي الله عنه لأن له ناباً ضعيفاً، وعلى ذلك ينطبق قول الشيخ أبي حامد: إنه الأشبه بالمذهب؛ لأن الذي علل به الشافعي تحريم ذي الناب مفقود فيه، نعم: ما علل به أبو إسحاق موجود فيه؛ فالتحريم جارٍ على أصله، وقد صرح بذلك الماوردي، [وهذان] الوجهان جاريان في الدَّلَق، وقد دَلَّ كلام الشيخ، على أن الزرافة مما يتقوى بنابه، وليس كذلك؛ ولأجله قال الفراء [في] فتاويه بحلها؛ كالثعلب، وقرأ بعضهم ما في الكتاب بالقاف، وقال: إنها حيوان غير الذي يسمى بالزرافة، وهو يتقوى بنابه، والله أعلم.

تنبيه: النَّمر: بفتح النون، وكسر الميم، ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها كنظائره، والزرافة: بفتح الزاي وضمها؛ حكاهما الجوهري وغيره، ولم يذكر ابن مكي غير الفتح، وجعل الضم من لحن العوام، [وليس] كما قال.

قال: ويؤكل من الطيور: النعامة، والديك، والدجاج، والبط، والإوز، والحمام، والعصفور، وما أشبهها؛ لأنها من الطيبات؛ فاندرجت تحت قوله تعالى:{قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وقد قضت الصحابة أن في النعامة بدنة على المحرم.

وقال أبو موسى الأشعري: "رأيته- عليه السلام يأكل الدجاج"، رواه البخاري.

وروي عنه- عليه السلام أنه قال: "مَنْ أَشَارَ بِقَتْلِ عُصْفُورٍ فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا

ص: 236

إلَاّ سَأَلَهُ اللهُ عَنْهَا"، قيل: وما حقها؟ قال: "يَذْبَحُهَا، فَيْأَكُلُهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَاسَهَا وَيَطْرَحُهَا".

وفي معنى ما ذكره الشيخ: الحُبَارى، وقد وردت السنة بإباحتها كالحمام، والفرق بينه وبين الحمام تقدم في باب كفارة الإحرام.

وطير الماء مباح، وفي الأبلق منه وجه أنه لا يحل، وهو الأصح عند البغوي، وبه أجاب أبو عاصم العبادي؛ لأنه يطعم الخبائث.

والذي مال إليه الشيخ أبو محمد: الحِلُّ، وهو الأظهر عند الغزالي.

وقال الصيمري: الأظهر من طير الماء لا يؤكل كما نقله في "البحر"؛ لخبث لحمه.

والجراد يؤكل؛ لما روى أبو داود عن أبي يعفور قال: "سمعت ابن أبي أوفى، وسألته عن الجراد، فقال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست- أو سبع- غزوات، فكنا نأكله". وأخرجه البخاري.

وهل يجوز أكل العقعق والببغاء والطاوس؟ فيه وجهان، أصحهما التحريم.

وفي الهدهد والخطاف ما تقدم.

قال القاضي الحسين: والأصل عند الشافعي- رضي الله عنه أن كل طير يقتات الطاهر، ولا يكون نهاشاً، فهو طاهر حلال، ويوافقه قول الشيخ أبي عاصم العبادي: إن النهاش حرام كالسباع التي تنهش.

واللقاط حلال إلا ما استثناه النص، وما تقوت الطاهرات حلال إلا ما استثناه النص، وما تقوت النجس حرام.

تنبيه: النعامة: بفتح النون، والنعام اسم جنس؛ كحمامةٍ وحمام، قال الجوهري:

ص: 237

والنعامة تذكر وتؤنث.

الديك: ذكر الدجاج، وجمعه: ديوك، ودِيَكة.

الدجاج: بفتح الدال وكسرها، والفتح أفصح باتفاقهم، الواحد: دجاجة، تقع على الذكر والأنثى، وجمع المصنف بين الديك والدجاج هو من باب ذكر العام بعد الخاص، وهو جائز؛ كما سبق تقريره وأمثلته [في باب كفارة الإحرام].

البط: اسم جنس، واحدته: بطة، للذكر والأنثى، وهو من الإوز الذي لا ينهض طائراً بجناحه.

الإوز: بكسر الهمزة وفتح الواو [وهو][اسم] جنس، الواحدة: إوزة، وقد جمعوه: إوزين.

العصفور: بضم العين، والأنثى: عصفورة، والعصافير أنواع كثيرة تعرف بشكلها وإن اختلفت ألوانها: كالنغر والبلبل.

ويقال: إن أهل المدينة يسمون البلبل: النُّغر.

وفيه وجه: أنه لا يحل.

والحُمَّرة من جملة أنواعها، [وحكى العبادي أن منهم من حرمها؛ لأنها تنهش.

والعبدان من جملة أنواعها].

وعن رواية صاحب "التقريب" وجه: أنه حرام، والأظهر حله، وهو الذي أورده صاحب "التهذيب"؛ لأنه لقاط ويتقوت بالطاهر.

والزرزور أدخله الغزالي- تبعاً لإمامه- والقاضي الحسين في اسم العصفور، وجزم بحله، وفي "تعليق البندنيجي" الجزم بتحريمه.

قال: ولا يؤكل ما يصطاد بالمخلب: كالنسر، والصقر، والشاهين، والبازي، والحدأة؛ لما روى أبو داود عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطيور".

ص: 238

وأخرجه مسلم.

وأيضاً: فالحدأة قد أباح النبي صلى الله عليه وسلم قتلها كما تقدم في الحديث، وذلك يدل على تحريمها كما تقدم، وإذا ثبت ذلك فيها، ففي الصقور والبازي ونحوه أولى؛ لأن مخلب الحدأة أضعف من مخالب ذلك؛ فإنها إنما تسلب لحماً أو تظفر بفأرة.

وقد ألحق الأصحاب بالحدأة: البُغاثة؛ لأنها ذات مخلب ضعيف، وهي طائر أبيض بطيء الطيران، أصغر من الحدأة، وكذا الصّرد ملحق بها على الأصح؛ لأنه ذو مخلب يصطاد العصافير، والوجه الآخر الذي تقدم ذكره فيه أخذ من نص الشافعي- رضي الله عنه في القديم- كما قال البندنيجي- على إيجاب الجزاء فيه.

والرَّخَمة حرام بخبث غذائها.

وقد روي عن ابن عباس- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الرخمة.

تنبيه: المخلب: بكسر الميم، [وهو] للطائر والسباع كالظفر للإنسان.

النسر: بفتح النون، جمعه في القلة: أنسر، وفي الكثرة: نسور، وقد عده الشيخ من ذوات المخالب، كما عده الماوردي والبندنيجي وغيرهما منها.

لكن ابن الصباغ وشيخه القاضي أبا الطيب والقاضي الحسين عدوه مما لا مخلب له، وعللوا التحريم بأنه من المستخبثات كالرخمة.

ص: 239

الشاهين: قال الجواليقي: هو فارسي معرب، ويقال فيه: سودانق وشودنبق، [وسودنبق]- بالسين المهملة والمعجمة- وسودق وسودانق وسودونوق- بالعجمية- قال أبو علي: أصله: سادانك، أي: نصف درهم.

قال: وأحسبه يراد بذلك قيمته، أو أنه كنصف البازي.

البازي: فيه ثلاث لغات: الفصيحة المشهورة: البازي مخففة، والثانية: باز؛ حكاها الجوهري وآخرون، والثالثة: بازيّ- بتشديد الياء- حكاها ابن مكي، وهي غريبة أنكرها الأكثرون.

قال أبو حاتم السجستاني: البازي والباز مذكر لا اختلاف فيه.

ونقل عن أبي زيد أنه يقال للبزاة والشاهين وغيرهما مما يصيد: صقور، واحدها: صقر، والأنثى: صقرة.

وقد ينكر على الشيخ- رحمه الله كونه جعل الصقر قسماً للبازي والشاهين مع أنه يتناولهما وغيرهما.

[و] يجاب عنه بأنه ذكر العام ثم الخاص، وهو جائز كما سبق.

الحدأة: بكسر الحاء وفتح الدال وبعدها همزة على وزن: عنبة، والجماعة: حِدَأ، كعنب.

قال: ولا ما يأكل الجيف: كالغراب الأبقع، والغراب الأسود الكبير، لأنه مستخبث؛ فحرم للآية.

وقد روى أبو داود عن سالم عن أبيه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب، فقال:"خَمْسُ لَا جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَارَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ".

ص: 240

وفي "الوسيط": أن العراقيين ترددوا في الغراب الأسود الكبير.

وقد حكى الرافعي التردد وجهين، وصحح التحريم، وهو ما ادعى القاضي الحسين نفي خلافه.

وجمع الغراب: غِرْبان، وأَغْرِبة، وأَغْرُب، وغَرَابِين، وغُرْب.

قال: وأما غراب الزرع، الذي يسمى: الزاغ، ويكون محمر المنقار والرجلين، والغداف، أي: بضم الغين المعجمة، وتخفيف الدال المهملة، وهو الصغير الجثة، الرمادي اللون- فقد قيل: إنهما يؤكلان؛ لأنهما يلتقطان الحب؛ فأشبها الفواخت- ويخالفان الغراب الأبقع والأسود الكبير؛ فإنهما يأكلان الجيف؛ وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، واختاره في "المرشد"، وصححه النواوي في غراب الزرع.

وقيل: لا يؤكلان؛ لإطلاق اسم الغراب عليهما؛ فدخلا في الخبر السابق، وهذا

ص: 241

ما صححه النواوي في الغداف.

وحكم بيض ما ذكرناه في الحل والتحريم حكم لحمه.

قال: وما تولد من مأكول وغير مأكول لا يحل أكله: كالسمع؛ لأنه متولد بين الذئب والضبع، وغيره، أي: كالحمار المتولد بين حمار الوحش والإنس؛ تغليباً للتحريم؛ كما في البغل، ولا فرق بين أن يكون الأب مما يحل خاصة أو بالعكس، ومن هنا يؤخذ أن ما تولد من كلب أو خنزير وشاة أنه حرام كما صرح به الأصحاب.

وما تولد من حيوانين يحل أكلهما، كما إذا تولد بين حمار وحشي وفرس- أو بين أتان وحشية وفرس- حيوان حلال؛ لأن أكلهما حلال.

ولو اشتبه [ولد] حيوان، ولم يدر: هو متولد مما يحل أو لا، فالاختيار- كما قال ابن الصباغ- ألا يؤكل، فإن أراد أكله، رجع إلى خلقته، فإن كان يشبه ما يحل أَكْلُهُ، حَلَّ، وإن كان [يشبه ما يحرم، لم يحل].

والسمع بكسر السين.

قال: وتكره الشاة الجلالة؛ لما روى أبو داود عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة [وألبانها]، وأخرجه الترمذي وابن ماجه.

وقال الترمذي: إنه حسن غريب، والبقرة والناقة والدجاجة الجلالة كالشاة؛

ص: 242

لظاهر الخبر؛ ولهذا قيل: لو قال الشيخ: "وتكره الجلالة"، وحذف لفظ "الشاة"، لكان أصوب، وأحسن، وأعم، وأخصر.

والجلالة: بفتح الجيم، وتشديد اللام: هي التي أكثر أكلها العذرة اليابسة؛ كذا قاله الشيخ أبو حامد، ولم يورد النواوي سواه، وقال: إن الجل- بفتح الجيم-: البعر.

ص: 243

وقال غيره: هي التي تتعاطى أكل العذرة والأشياء القذرة، ووجه التغاير: أن قضية هذا التفسير ألا يعتبر أن يكون أكل ذلك غالباً، بخلاف الأول.

وفي "الحاوي" في باب بيع الكلاب: أن الأثر في ذبح الجلالة جاء بعد رعي الأقذار أربعين يوماً في البعير، والبقرة ثلاثين، والشاة سبعة أيام، والدجاجة ثلاثة أيام.

فإن قلت: ظاهر النهي التحريم، فلم حمل على الكراهة دون التحريم؟

قيل: لأن النهي عنها ورد لأجل ما تأكله من الأنجاس، وما تأكله البهيمة من الطاهرات ينجس إذا حصل في كرشها، فليس يكون غذاؤها إلا بالنجاسة؛ فلا يؤثر أكلها [النجاسة إلا تغير رائحة لحمها، وذلك يقتضي] الكراهة دون التحريم؛ ألا ترى أن لحم المذكى إذا جاف كره، ولا يحرم على المذهب؛ فلذلك حمل النهي على الكراهة دون التحريم، والله أعلم.

قال: فإن أطعم الجلالة- أي: طاهراً- فطاب لحمها، أي: بزوال الرائحة الكريهة، لم يكره، لزوال العلة.

قال الماوردي: ويختار في الجلالة إذا أريد شرب لبنها وأكل لحمها- أن تحبس عن الأقذار بالعلف الطاهر في البعير أربعين يوماً، وفي البقرة ثلاثين يوماً، وفي الشاة سبعة أيام، وفي الدجاجة ثلاثة أيام.

قلت: وهذا مناسب لما حيكناه عنه [من] قبل أن كراهة الجلالة منوطة بأكلها العذرة في مثل هذه المدة، لكنه قال: إن هذه التقديرات ليست توقيفاً لا يزاد عليه ولا

ص: 244

ينقص منه؛ لأن المقصود زوال ما أنتن من أبدانها، والأغلب أنها تزول بهذه المقادير، فإن زالت [في أقل] منها زالت الكراهة، وإن لم تزل [فيها] بقيت الكراهة حتى تزول فيما [زاد] عليها، وعلى هذا جرى في "المرشد" وصاحب "الشامل"، وقال: إن هذه التقديرات محكية عن بعض أهل العلم، وهو ابن عمر؛ كما قال في "المهذب".

لكن المحكي عنه: أنه سوى بين البقرة والناقة في جعل مدتها أربعين يوماً، وقد وهم بعضهم فظن أن الشيخ في "المهذب" اقتصر على ذكر التقديرات.

تنبيه: قول الشيخ: "فإن أطعم الجلالة .. " إلى آخره، يعرفك أمرين:

أحدهما: أن علة الكراهة تغير اللحم عند الذبح بسبب العلف، حتى لو لم يتغير لم تكره، ويدل عليه قول الشافعي- رضي الله عنه:"فما كان أكثر علفه من غير هذا، فليس بجلالة"، أي: لأن ذلك لا يؤثر في لحمها.

[وقال في "الحاوي": إن محل الكراهة إذا لم يظهر النتن في لحمها]، أو ظهر ظهوراً يسيراً لا تستوعب رائحته تلك النجاسة، فلو كان كثيراً قد استوعبت رائحته تلك النجاسة، أو قاربها- ففي إباحة أكلها وجهان حكاهما ابن أبي هريرة:

الذي أورده القاضي الحسين منهما في "تعليقه": الكراهة، دون التحريم؛ كما هو في كتب العراقيين؛ لما ذكرناه.

والثاني- وهو المعزيُّ إلى أبي إسحاق المروزي، وينسب إلى القفال المروزي أيضاً-: أنه حرام.

وقال الإمام: إنه المذهب، ولم يورد الغزالي سواه؛ لأنها صارت من الخبائث.

قال الصيدلاني: وعلى هذا يكون اللحم نجساً، وهو الذي أورده الغزالي، وأثر ذلك يظهر فيما لو زالت الرائحة [الكريهة] بالتشميس والطبخ ونحوه، لا يحل، نعم: لو زالت بالاغتذاء بالعلف الطيب في الحياة، زال التحريم.

قال الإمام: وهذا متفق عليه في التفريع على تحريم الجلالة.

والوجهان- كما قال الماوردي- جاريان في الجَدْي إذا رضع من لبن كلبة أو خنزيرة حتى نبت [به] لحمه، وقد نسب القاضي الحسين في هذه الصورة إلى القفال التحريم.

ص: 245

وحكم لبن الجلالة وبيضها حكم لحمها في الكراهة والتحريم، وأما ركوبها فظاهر الخبر النهي عنه؛ روى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها، ويشرب من ألبانها.

وقال الماوردي: إنه مكروه عُرْياً؛ لنتن عرقها، ولا يكره إذا كان موكوفاً أو مسروجاً، ولا يجيء الخلاف في تحريمه؛ لأنه لا خلاف [في] أنها طاهرة في حال الحياة، وإذا كانت كذلك فعرقها طاهر أيضاً.

وأما جلدها إذا ظهر النتن فيه وفي لحمها بعد الذكاة، وقلنا بتحريم اللحم- فهو نجس كاللحم، ولا يطهر إلا بالدباغ؛ قاله الصيدلاني.

وإن لم يظهر فيهما نتن، فهو طاهر كاللحم.

وإن ظهر في اللحم دون الجلد، وحرمنا اللحم، فقد أبدى الإمام في نجاسته تردداً قال: إنه مأخوذ من كلام الأصحاب، وإن الأظهر النجاسة؛ لأنه جزء من الحيوان مأكول على المشهور؛ فكان حكمه حكم اللحم.

الثاني: أنه لا يكره أكل الزرع الذي عملت النجاسة في أصله وإن كثرت؛ لأنه لا يظهر أثر النجاسة ورائحتها فيه، وقد صرح الأصحاب كافة- لأجل ذلك- بعدم التحريم.

قال: ويؤكل من صيد البحر السمك؛ لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أي: مصيده، ولما روي عنه- عليه السلام أنه قال:"أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ، وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ، وَالطِّحَالُ"، ولا فرق في ذلك بين ما يؤخذ حياً ثم يموت، أو ما يؤخذ منه ميتاً.

وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] المراد به: ما مات فيه في قول ابن عباس.

فروع:

[أحدها] إذا انقطع بعض سمكة، وانفلت باقيها، ففي حل تلك القطعة وجهان في "الحاوي" وغيره، ويظهر أن يكون مأخذهما: أن الجزء المُبَان مما تحل ميتةُ

ص: 246

جميعِهِ: كالسمك والجراد هل يكون طاهراً كما لو مات، أو نجساً؛ لقوله عليه السلام:"مَا أُبِينَ مِنْ حَيِّ فَهُوَ مَيِّتُ"؟ وفيه وجهان: فإن قلنا بطهارته حَلَّ، وإلا حرم.

والمذكور في "تعليق" البندنيجي الحل، وهو الأصح في "الشامل"، و"تعليق القاضي أبي الطيب".

والمذهب في "النهاية"- ولا شك كما قال الإمام- أن تَعَمُّد قطع بعض السمكة وهي حية غير سائغ؛ لأنه في معنى التعذيب.

قلت: وفيه نظر إذا جوزنا ابتلاعها حية؛ كما تقدم في الصيد والذبائح.

[الثاني:] إذا وجد سمكة في جوف سمكة أو سبع، حل أكلها.

ص: 247

قال الماوردي: ما لم تنقضم، فإن انقضمت حتى تقطعت، وتغير لون لحمها- ففي إباحة أكلها وجهان، وجه المنع- وهو الأظهر في الرافعي-: أنها قد صارت في حكم الرجيع والقيء، ولو استحالت حرمت جزماً، قاله القاضي أبو الطيب.

[الثالث:] صغار السمك الذي يقليي من غير أن يشق جوفه، في حل أكله وجهان:

المذكور منهما في "تعليق" البندنيجي والقاضي أبي الطيب: التحريم، وقال ابن الصباغ: إنه الذي قال به أصحابنا؛ لأن الخرء الذي في جوفه نجس، فتنجس الدهن، وإذا نجس الدهن تنجس الكل.

وقال الرافعي: إن على المسامحة جرى الأولون.

قلت: ويمكن بناء الوجهين على أن خرء السمك نجس أم لا؟ وفيه وجهان كما في دمه، فإن قلنا بأنه نجس- كما جزم به القاضي أبو الطيب في الخرء، وصححه في الدم- فلا يحل، وإلا حل.

وقد قال الروياني: إني به أفتي، وتعقبها ظاهر عندي، وهو اختيار القفال.

قال: ولا يؤكل الضفدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم[نهى عن قتله كما تقدم، وقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيباً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن] ضفدع يجعلها فيدواء؛ فنهاه- عليه السلام عن قتلها، وأخرجه النسائي.

وفي أكله توصل إلى قتله فحرم.

ولأنه مستخبث عند العرب.

والسرطان والسلحفاة مثله عند الشيخ أبي حامد، وكذا النسناس عند القاضي أبي الطيب.

وحكي عن الشافعي- رضي الله عنه – مذهب [ابن] أبي ليلى في إباحة الضفدع والسرطان في مجلس، فذكر صاحب "التقريب" أن من الأصحاب من عَدَّ

ص: 248

ذلك قولاً للشافعي رضي الله عنه.

وقد نسبه الشيخ أبو عاصم [العبادي] في الضفدع إلى رواية الربيع، ونسبه البغوي في السرطان في باب الصيد والذبائح إلى الحليمي، وأنه قيد الحل بذكاته، والوجه جار في السلحلفاة، كما تقدمت حكايته عن البغوي.

والصحيح تحريم الضفدع والسرطان والسلحفاة، وبه جزم الماوردي والبندنيجي، نعم: هل الضفدع طاهر أو نجس؟ فيه وجهان في "الحاوي"، فإن قلنا بنجاسته، فلو مات في ماء قليل، فهل ينجس من غير تغير؟ فيه وجهان:

وجه المنع: لحوق المشقة؛ كدم البراغيث.

والضفدع: بكسر الدال وفتحها، والكسر أشهر عند أهل اللغة، وأنكره جماعة، والله أعلم.

قال: وما سواهما، أي: مما لا ضرر فيه، ولا يعيش إلا في الماء، وإذا خرج كان عيشه عيش المذبوح- فقد قيل: يؤكل؛ لعموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]، أي: مصيده ومطعومه؛ وقوله- عليه السلام في "البحر": "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"، وهذا [ما] ادعى الماوردي أنه ظاهر المذهب؛ لأنه قال في كتاب السلم:"يؤكل فأر الماء".

قال الربيع: سئل الشافعي- رضي الله عنه عن خنزير الماء، فقال: يؤكل، وإليه صار جمهور الأصحاب.

وقال البندنيجي: إنه المنصوص في عامة كتبه؛ ولأجل ذلك صححه الرافعي وغيره؛ وعلى هذا لا تشترط الذكاة في حل شيء منه، بل تحل ميتته كما في السمك؛

ص: 249

صرح به البندنيجي وغيره.

وقد يستدل له بما روي عن أبي بكر أنه قال: كل دابة تموت في البحر، فقد ذكاها الله [تعالى] لكم. وهو محكي عن غيره من الصحابة، رضي الله عنهم.

نعم، قال الشافعي- رضي الله عنه:"لو كان فيه ما يطول خروج روحه: كإبل الماء، وبقر الماء، فإن ذبحه ذابح؛ ليكون أروح له، لم أكرهه".

وقد أشار الرافعي إلى حكاية وجه في اشتراط ذبح ما عدا السمك إذا قلنا بحله، بقوله: "وإذا حكمنا بحل ما سوى السمك، فهل يشترط فيه الذكاة؟ فيه وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الحل.

قال: وقيل: لا يؤكل؛ لأنه- عليه السلام خص السمك بالحل، قال الإمام: وهذا قول غريب ضعيف في حكم المرجوع عنه؛ فلا يرجع إليه.

وقال غيره: إنه أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه في بعض كتبه: "إنه لا يحل من صيد البحر إلا الحوت"، فقال قوم: إن اسم الحوت خاص بالسمك دون غيره؛ فجعلوه قولاً ثانياً في المسألة، والقائلون [بالأول] قالوا: الحوت من الأسماء العامة التي تنطلق على جميع حيوانات البحر إلا الضفدع وما في معناه، وهو الأصح في "التهذيب".

[قال:] وقيل: ما أكل شبهه في البر، أي:[كفرس الماء وجمل الماء] أكل [شبهه في البحر] وما لا يؤكل شبهه في البر، [أي]: ككلب الماء، وخنزيره، وفأره، والنسناس- لأنه يشبه الآدمي- لا يؤكل [شبهه في البحر] اعتباراً لما في البحر بما في البر؛ فإن الاسم يتناوله؛ فدخل تحت دليل تحليله أو تحريمه، وهذا ما عليه الفتوى اليوم؛ كما قاله في "العدة".

وقد قيل: إن ما من دابة في البر إلا وفي البحر مثلها، فإن لم يصح هذا، ووجد [فيه] حيوان لا نظير له في البر محلل ولا محرم- قال الإمام والرافعي: حَلَّ؛ لما روي أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلوا سمكة يقال لها: العنبر- والخبر

ص: 250

مشهور- واعلموا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليهم. وهي مما لا نظير لها في البر؛ وعلى هذا يشترط في الحل الذكاة، حتى لو مات حتف أنفه أو في الماء، لا يحل؛ جزم به البندنيجي وغيره.

وفي "النهاية" و"تعليق" القاضي الحسين وغيرهما: أنا هل نشترط الذكاة فيه على هذا أم لا؟ فيه قولان، مأخذهما أنه هل يسمى سمكاً أم لا؟

واعلم أن ظاهر القول الأول يقتضي حل التمساح؛ لأنه مما سوى الضفدع والسمك، وهو المفهوم من كلام ابن الصباغ أيضاً؛ فإنه قال: فأما ما يعيش في البحر، ولا يعيش في البر، فالذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه أن ذلك حلال، سواء ما كان من جنس السمك [أو غيره].

وقال أصحابنا: على هذا يحل جميعه إلا الضفدع، واستثنى أحمد الضفدع والتمساح، وقد صرح من أصحابنا بحل أكله الصيمري، والمذهب تحريمه؛ للخبث والضرر.

قال: وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل أكله؛ لأنه من الطيبات.

قال: إلا جلد ما يؤكل لحمه إذا مات ودبغ؛ فإنه لا يجوز أكله في أحد القولين؛ لعموم قوله – تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وقوله – عليه السلام:"إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَة أَكْلُها"، وهذا هو القديم، والصحيح في "الشامل" في باب الآنية، وادعى الإمام ثَمَّ أنه الظاهر.

قال: ويجوز في الآخر؛ لتحقيق الضابط المذكور، أما جلد ما لا يؤكل إذا دبغ؛ فإنه لا يحل قولاً واحداً؛ لأن الدباغ لا يزيد على الذكاة، والذكاة لا تفيد حله؛ فكذلك الدباغ، وهذا ما أورده ابن الصباغ في باب الآنية وغيره، وهو يؤخذ من كلام الشيخ، لأنه إذا استثنى جلد ما يؤكل لحمه، فجلد ما لا يؤكل لحمه من طريق الأولى؛ وبهذا يندفع الاعتراض على الشيخ- رحمه الله في كونه لم يستثنه.

ص: 251

وقيل: هو- أيضاً- على قولين، وبه يحصل في المسألتين ثلاثة أقوال، حكاها الإمام والغزالي أوجهاً، وهي مفرعة على المذهب الصحيح في أن الدباغ يطهر الجلد باطناً وظاهراً.

أما إذا قلنا: لا يحصِّل الدباغُ إلا طهارة الظاهر؛ فلا يحل جزماً؛ كذا أشار إليه الإمام [ثَمَّ].

وقد أضاف البغوي إلى ما استثناه الشيخ المنى، وكل حيوان يبتلعه حياً سوى السمك والجراد.

وغيره أضاف الآدمي، وكل ما هو مستقذر: كالبصاق، والمخاط، والمني؛ فإنه حرام على المذهب كما قال الإمام، خلافاً [لأبي] زيد، وقال في حد ما يؤكل: هو كل [طاهر لا ضرر في أكله، وليس بجزء من آدمي ولا بمستقذر.

والإمام في باب الآنية قال:] لا يمتنع أن يجعل حد ما يؤكل كل طاهر غير مضر، وليس في تعاطيه هتك حرمة، وهذا يخرج بلع الحيوان الحي والآدمي، لكنه قد يدخل المستقذر؛ فلعله مال إلى مذهب أبي زيد في أنه لا يحرم، ويكفي الاستقذار وازعاً [عنه].

وقد استثنى الروياني والماوردي النبات الذي يسكر، وليس فيه شدة مطربة: كالبنج، وقال: إنه يحرم أكله، ويجوز استعماله في الدواء وإن أفضى إلى السكر؛ إذا لم يكن منه بد.

فإن قلت: هل يمكن أن يجاب عن الشيخ في اقتصاره على ما ذكر؟

قلت: نعم، ويقال: لا نسلم أن تناول المني والمستقذرات وما يسكر وإن لم يكن فيه شدة مطربة غير مضر.

وأما ابتلاع الحيوان الحي غير السمك والجراد، فهو يخرج بقوله:"ولا يحل من الحيوان المأكول [شيء] من غير ذكاة إلا السمك والجراد".

وأما جزء الآدمي فهو خارج ببداهة العقول، وإنما يقع الاحتراز عما يتوهم دخوله.

ص: 252

فإن قلت: ما ذكرته في الجواب عن عدم ذكره لابتلاع الحيوان الحي- إن صح- مُغْنٍ عن ذكر جلد ما يؤكل لحمه إذا مات ودبغ، فلم ذكره؟

قلت: لأمرين:

أحدهما: ليبين أنه مختلف فيه.

والثاني: لأن الدباغ كالذكاة في التطهير على الجديد، فقد يظن أنه كهي في حل الأكل، فأراد أن يبين أنه ليس كذلك في أحد القولين، والله أعلم.

قال: وما ضرَّ أكله كالسم وغيره، أي: من الطاهرات، مثل: الزجاج، والحجر، والطين الذي يؤكل تفكهاً وسفهاً- كما قاله في "المرشد"-[قال:] لا يحل أكله؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ومن هذا القبيل تناول الأدوية في غير وقتها؛ لأنها تزيل الصحة.

وقد أفهم كلام الشيخ تحريم أكل السم القليل منه والكثير، وهو ظاهر نصه في كتاب الطعام والشراب؛ حيث قال- كما حكاه في "البحر"-: ما عرفه الناس سماً يقتل، أكره قليله وكثيره، خلطه أو لم يخلطه؛ لدواء أو غيره، وقد سمعت بمن مات في قليل [قد] بريء منه غيره، ولا أحبه، ولا أرخص فيه.

قلت: ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَسَا سمًّا، فَسمُّهُ في يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ في نَارٍ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أَبَداً"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما أتم منه. وهذا النص معمول به بلا شك فيما إذا كان القليل مضراً كالكثير، أما إذا لم يكن مضراً، فقد أطلق البندنيجي وأبو الطيب في هذا الباب حكاية قولين فيه، وإن كان مضطراً إلى القليل في سد الرمق، والجواز أخذ من نصه في كتاب الصلاة عليه، ويقرب منه قول الإمام: ولو تُصُوِّرَ شخص لا

ص: 253

يضره تعاطي السموم، لا يحرم عليه.

وقول محكي في "الذخائر": أن الطين لمن اعتاد أكله من غير مضرة لا يحرم.

وقال الماوردي: إن السموم على أربعة أضرب:

ما قتل قليله وكثيره، فأكله حرام.

وما قتل كثيره دون قليله، فأكل كثيره حرام، وقليله إن كان غير منتفع به حرام أيضاً، وإن كان منتفعاً به في التداوي، حَلَّ أكله تداوياً.

وما يقتل في الأغلب، وقد يجوز [ألا يقتل، فحكمه كالضرب قبله.

وما لا يقتل في الأغلب وقد يجوز أن يقتل] فقد ذكر الشافعي- رضي الله عنه في موضع إباحة أكله، وذكر في موضع تحريم أكله؛ فوهم بعض أصحابه، وخَرَّج إباحة أكله على قولين، والصحيح: أن إباحة أكله في التداوي، وتحريم أكله إذا كان غير منتفع به في التداوي، والله أعلم.

قال: ولا يحل أكل شيء نجس؛ لأنه من الخبائث، وهي حرامُ للآية، ولا فرق في ذلك بين أن يكون نجس العين: كودك الميتة، والخمر، ونحوهما، أو متنجساً يمكن تطهيره على رأي: كالزيت، والشيرج، والماء، أو لا يمكن تطهيره: كاللبن، والسمن، والودك.

نعم: يجوز أن يطعم شاته وبعيره ونحوهما الخبز المعجون بالماء النجس؛ نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.

وقال النواوي في "الروضة": إن في فتاوى صاحب "الشامل": أنه يكره إطعام الحيوان المأكول نجاسة، قال: وهذا لا يخالف ما نص عليه الشافعي في الطعام؛ لأنه ليس بنجس العين.

قال: فإن اضطر إلى أكل الميتة، أكل منها؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ومعناه: فأكل فلا إثم عليه، وقوله تعالى]:{فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى:{إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، لكن هل الأكل واجب أو لا؟ فيه وجهان:

أصحهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب والحسين وغيرهما: نعم، وهو المنسوب

ص: 254

في "النهاية" للمحققين، ووجهه قوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وهو إذا لم يأكل مع اضطراره، كان قاتلاً لنفسه، وملقيها إلى التهلكة؛ وعلى هذا يخرج عن الواجب بما يسد رمقه، ويكون أكله إلى أن يشبع [إن جوزناه] مباحاً؛ قاله الماوردي وغيره.

والثاني: لا يجب، وهو قول أبي إسحاق.

وقال الإمام: إن العراقيين زعموا أن هذا يخرج على أحد القولين في جواز الاستسلام، وهو بعيد جداً، ووجهه على بعده: أن المضطر قد يتردد [في درك حد الضرورة؛ فلا يأمن أنه لم ينته إليها، ولا يزال كذلك حتى يموت أو يقنع في حاله لا] ينفعه الأكل، وإنما حل أكل الميتة؛ لدفع الضرورة؛ [فيكون] تردد صاحب الضرورة في أمره كتردد من صال عليه إنسان في القدر الذي يدفعه به، مع حكم الشارع بوجوب الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع.

وقد فرق البغوي بين المسألتين بأنه ثَمَّ يؤثر مهجة على مهجة، وترك تناول النجاسة لا يعادل إتلاف مهجته.

ثم هل يوصف ما [يأكله] بأنه حلال؟ الظاهر وصفه بذلك، لكن في "فتاوي" القاضي عند الكلام في السرقة: أنه لو حلف: لا يأكل الحرام، فأكل الميتة للضرورة- قال الشيخ العبادي: حنث في يمينه؛ لأنه حرام إلا أنه رخص فيه؛ وهذا يناظر ما ستقف عليه في باب ما يحرم من النكاح: أن وطء الشبهة حرام، وإن كان لا إثم فيه.

قال: ما يسد به الرمق في أحد القولين؛ لأنه بعد سد الرمق غير مضطر؛ فلا يباح له الأكل؛ لانتفاء الشرط الذي رتب عليه [عدم الإثم.

وقد قال السدي في تفسير قوله: {وَلا عَادٍ} [البقرة: 173]، أي: ولا عاد في

ص: 255

استيفاء الأكل إلى] حد الشبع.

ولأن كل حكم تعلق بعلة إذا زالت العلة، زال الحكم بزوالها، وهذا ما نقله المزني في "المختصر"، واختاره.

وقال البندنيجي والقاضي الحسين: إنه مختار الشافعي- رضي الله عنه أيضاً، وقد تابعهما القفال وكثير من الأصحاب؛ كما قال البندنيجي، وقفا أثرهم صاحب "المرشد" والنواوي.

قال: وقدر الشبع في الآخر؛ لأنه طعام جاز أن يتناول منه ما يسد رمقه؛ فجاز أن يشبع منه؛ قياساً على المذكاة؛ وهذا ما نص عليه الشافعي في كتاب سماه: ذبائح بني إسرائيل؛ كما قال أبو الطيب وابن الصباغ.

وقال البندنيجي: إنه أومأ إليه الشافعي في اختلاف أبي حنيفة وأهل المدينة.

قال الماوردي: لأنه قال بعد حكاية القول الأول: وما هو بالبيِّن، من قبل أن الشيء حلال أو حرام؟ فإذا كان حراماً فلا يحل منه شيء، وإذا كان حلالاً فلا يحتمل أن يحرم [عليه] منه شيء بشبع ولا غيره، ولأنه مأذون فيه.

قال أبو إسحاق المروزي: وهذا القول أقوى وأجود، وهو الذي صححه صاحب "الإفصاح"؛ كما في "البحر"، وإليه ميل القاضي أبي الطيب؛ لأنه قال بعد ذكر دليله: والجواب عما قلناه للقول الأول من الآيات: أن الضرورة قائمة؛ لأنه يحتاج إلى الشبع منها؛ ليقوى على ما هو بصدده؛ وذلك لا يحصل إلا بالشبع؛ لأن سد الرمق لا يقويه ولا يعينه عليه.

والجواب عن الآخر: أن الاضطرار علة في ابتداء الأكل دون استدامته، ولا يمتنع أن يكون الشيء علة في الابتداء دون الاستدامة: كخوف العَنَت وعدم وجود صداق حرة في نكاح الأمة؛ فكذلك لا يمتنع أن يكون الاضطرار علة في الابتداء دون الاستدامة.

قال في "التهذيب": ولأن الأصل هناك التحريم حتى تتحقق الضرورة، وهاهنا الأصل الإباحة حتى يشبع.

ص: 256

ثم هذا القائل لا يعني بالشبع الامتلاء حتى لا يبقى للطعام مساغ؛ فإن هذا حرام قطعاً؛ صرح به البندنيجي وأبو الطيب وغيرهما، ولكن يعني به- كما قال الإمام-: أن يأكل حتى تنكسر سورة الجوع؛ بحيث لا ينطلق عليه اسم جائع، فينتهي وينكف؛ وعلى هذا لو وجد لقمة حلالاً بعد سد الرمق، ليس له أن يأكل من الميتة، حتى يأكل تلك اللقمة، فإذا أكلها، فهل له إتمام الشبع؟

قال البغوي: قال شيخي: يحتمل وجهين:

أحدهما: لا، حتى يصير إلى أدنى الرمق؛ لأنه عاد إلى أصل التحريم بوجود تلك اللقمة.

والثاني: له ذلك؛ لأنا أبحنا له الشبع ولم يصر إليه، وهذا ما صححه النواوي في "الروضة".

وقيل: ليست [المسألة] على قولين، بل على حالين:

فالموضع الذي قال: لا يأكل شبعه؛ إذا كان في الحضر؛ لأنه ربما وجد طعاماً، فإن لم يجد فهو مقيم عند الميتة.

والموضع الذي قال فيه: يأكل شبعه؛ إذا كان مسافراً يحتاج إلى المشي، ولا يعرف أمامه طعاماً، فله أن يأكل شبعه؛ حتى لا يعجز عن المشي؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين عن [الشيخ] أبي جعفر الإستراباذي، وقال: إن الصحيح طريقة القولين.

وحكى الإمام معها قولاً ثالثاً: أنه إن كان في مهمهة بعيدة عن العمران، فليشبع؛ ليقطع المهمهة، وإن كان بقرب البلد اقتصر على سد الرمق، ثم أبدى لنفسه تفصيلاً، لخصه في "الوسيط"، فقال: من علم في البادية أنه لو لم يشبع ويتزود فلا يقوى، ولا يجد غيره، ويهلك؛ فيجب القطع بأنه يشبع ويتزود. وإن كان في بلد، ولو سر الرمق توقع طعاماً مباحاً قبل عود الضرورة- وجب القطع بالاقتصار على سر الرمق، وإن كان لا يتوقع طعاماً، ولكن يمكنه الرجوع إلى الميتة إن لم يجد طعاماً مباحاً، فهاهنا يتجه التردد؛ إذ لو شبع لم يعاود على قرب، وإن اقتصر عاود على القرب.

ص: 257

ثم قال الإمام: ولا يجوز أن يكون الأمر على خلاف ذلك، وما نص الشافعي- رضي الله عنه على قولين، ولا على أقوال مجموعة، ولكن نظر الناظرون تردداً صادفوه في كلامه، فحسبوه ترديد قول، وإنما هو ترديد حال.

قال النواوي في "الروضة": وهذا التفصيل هو الراجح.

تنبيه: قول الشيخ: "فإن اضطر إلى أكل الميتة .. " إلى آخره يوقظك لأمور:

أحدها: أن الذي يباح له أكل الميتة هو الذي إن ترك الأكل هلك؛ لأنه جعل ما يجوز أكله في أحد القولين ما يسد الرمق- وهو بفتح الراء والميم: بقية الحياة- فدلَّ على أنه انتهى إلى حالة دون ذلك، ومن هذا حاله لو ترك الأكل هلك، وقد صرح الأصحاب [باعتبار ذلك].

وقال الإمام في موضعين من كتابه: إنه لا يشترط حصول العلم بذلك؛ بل غلبة الظن، ويكفي استناده إلى مبادئ الأمور من غير بصيرة.

ثم قال: لكن من ضرورة الظن أن يميل فيه العقل إلى أحد المعتقدين، ويترجح تعلقه به على تعلقه بالثاني؛ وهذا يستدعي سبباً لا محالة؛ فإن الظن لا يغلب من غير سبب، فلو اعترض حال، وكان صاحبها، يجوز أداؤها إلى الموت لو لم يأكل الميتة، ويجوز السلامة، ولا يترجح أحد المعتقدين [على الآخر] –فالتردد مع ما جبلت عليه النفوس من حب البقاء يجر خوفاً، وهذا الخوف لا مستند له من ظن، فالذي أرى القطع به: أنه يجوز لمن هذا وضعه أن يأكل الميتة؛ لأنَّا لو منعناه من الأكل حتى يعلم أو يظن، فربما يهلك في تربصه، وطلبه العلم أو الظن، وإن طلب طالب تلقي هذا من قول المشايخ، فهو صريح في كلامهم؛ فإنهم جوزوا أكل الميتة عند الخوف من الموت، وهذا خائف، ثم لا يشترط [-أيضاً-] أن ينتهي إلى حالة يكون فيها مشرفاً على الموت؛ إذ لو أشرف عليها، لم ينعشه الطعام، ولا ينجع فيه ما يتعاطاه؛ فينبغي أن نبيح له الأكل وهو على حاله، لو أكل لاستقل وانتعش، وحينئذ تكون الحالة التي يسوغ فيها الأكل حالة من أشرف على الإشراف على الموت لو لم يأكل، لا من أشرف على الموت.

ص: 258

قال البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم: [و] في معنى المضطر المقدم ذكره من كان ماشياً أو راكباً على سفر وإن ترك الأكل، انقطع [عن] الرفقة؛ لضعفه عن المشي والركوب؛ فيجوز له الأكل، وقد حكاه القاضي الحسين عن الشافعي، رضي الله عنه.

وكذا لو خشي إن ترك الأكل مرض؛ كما قاله البندنيجي وقيده غيره بالمرض المخوف، وقال: في حل الأكل؛ لخوف مرض السل ونحوه من الأمراض التي تطويل، ويعسر علاجها- قولان:

أحدهما: لا يحل الأكل؛ لعدم الخوف عاجلاً؛ كما لو توقع من عدم الأكل حصول حمى الربع.

وقال الرافعي: إن هذا الخلاف يقرب من القولين اللذين في "التهذيب" وتعليقه الشيخ إبراهيم المروذي فيما إذا عيل صبره، وأجهده الجوع، هل تحل له الميتة أم لا؟

فأحد القولين: أنه لا تحل حتى يصير إلى أدنى الرمق؛ لأن خوف الهلاك لم يتحقق؛ وهذا ما ادعى الإمام نفي خلافه، وقال المزني: لا نعلم سواه.

والثاني: تحل؛ لما يناله من الشدة والمشقة، ولينفعه الطعام.

والذي رأيته في "تعليق" القاضي الحسين في التعبير عن هذا القول: أن أبا عبد الله السرخسي حكى نصاً عن الشافعي: أنه يحل له أكل الميتة إذا اشتد به الجوع وعِيلَ صبره، وعلم أنه لو دام [به الجوع] مات.

وقد سلك الماوردي في التعبير عن [هذه] الحالة التي يسوغ فيها أكل الميتة طريقاً آخر، فقال: من انتهى به الجوع إلى حَدِّ التلف، فلا يقدر على مشي ولا نهوض؛ فيصير غير متماسك الرمق إلا بأكل، كان له بالأكل، وإن تماسك رمقه إذا أقام أو جلس، ولا يتماسك إن مشى وسار، نظر: فإن كان في سفر يخاف فوت رفقائه، حلَّ له أكلها، وإن لم يخف فوت رفقائه، لم يحل؛ وهذا أحد الشروط الأربعة التي اشترطها في حل أكل الميتة.

الأمر الثاني: أن يكون غير واحد من المأكول ما يمسك به رمقه؛ لأنه حينئذ

ص: 259

يصدق اسم الاضطرار إلى أكل الميتة، وقد صرح به الماوردي، لكنه جعل ذلك شرطين؛ لتتمة ثلاث شرائط من الشرائط الأربع التي تقدم ذكرها، فقال: الشرط الثاني: ألا يجد من مأكول الخسيس ما يمسك به رمقه من غير ضرر، فإن وجده لم يحل.

الشرط الثالث: ألا يجد طعاماً يشتريه بثمن مثله، فإن وجده لم يحل، سواء كان قادراً على الثمن أو عاجزاً عنه، ورضي مالك الطعام بذمته، بخلاف المتيمم؛ لأن التيمم منوط بعدم الوجدان، ومع العجز عن الماء وثمنه قد تحقق، وهاهنا الأكل منوط بالضرورة، وهو [مع] الإنظار بالثمن غير مضطر.

نعم: لو بذل له الطعام بأكثر من ثمن المثل، حلت، أي: إذا لم يقدر المضطر على مقاتلته؛ كما سنذكره.

والشرط الرابع الذي ذكره: ألا يكون [بصيرورته إلى] الضرورة لأكل الميتة عاصياً؛ [كما لو أقام لقطع] الطريق وإخافة السبيل، أو لبغيه على الإمام العادل؛ لقوله تعالى:{غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173]؛ ولأن إباحة الميتة رخصة، والعاصي لا يترخص، فإن تاب من المعصية، حل له أكل الميتة، وإن أقام عليها ولم يتب، حرمت عليه.

ولا فرق بين المسافر والمقيم، وهذا قد حكاه البندنيجي أيضاً، ونسبه في "البحر" إلى الشافعي، ونقل عنه أنه لو خرج غير عاصٍ، ثم نوى المعصية، ثم أصابته الضرورة ونيته المعصية- قال: خشيت ألا يسعه أكل المحرم، لأني أنظر إلى نيته في حال الضرورة لا في حال تقدمت عنها أو تأخرت عنها.

وفي الرافعي وجه أن ذلك ليس بشرط.

الأمر الثالث: أن ما ذكره يختص بالميتات النجسة؛ لأن قوله: "ولا يحل أكل شيء نجس، فإن اضطر إلى [أكل] الميتة [أكل] .. " إلى آخره يدل عليه، وأنه لا فرق في ذلك بين ميتة [ما يؤكل لحمه] و [بين] غيره، ولا بين ميتة الحيوان الطاهر أو النجس: كالكلب والخنزير، وقد صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي

ص: 260

وغيرهما، واكتفي الإمام بذكر الميتة عن ذكر لحم الكلب والخنزير- كما فعل الشيخ- لأن الميتة هي البهيمة التي لا نفس [لها] سائلة التي ماتت من غير اتصال ذكاة شرعية بها.

نعم: حكى الماوردي أنه لو وجد ميتة غير مأكول اللحم [وميتة المأكول]، أو ميتة طاهر في حال الحياة وميتة نجس العين، هل يتخير بينهما، أو يأكل ميتة المأكول؟ والظاهر فيه وجهان، والدم من سائر الحيوانات ملحق بما ذكرناه.

وأما الميتة الطاهرة، فإن كانت مأكولة، لم يخف أنها ليست داخلة فيما نحن فيه، وإن كانت غير مأكولة، وهي ميتة الآدمي، ففي "التهذيب" وجه أنه لا محل تناولها، وإن وجدت الشرائط المذكورة؛ لحرمته، وهو ما حكاه أبو الحسن العبادي عن المزني.

والمذهب فيه- وهو الذي أورده الماوردي، والقاضي الحسين، والمصنف، وغيرهم- الحل، وأجروها مجرى غيرها من الميتات.

نعم: قال الماوردي: إنه لا يؤكل منها إلا ما يسد به الرمق قولاً واحداً، وأنه لا يجوز طبخها، ولا شيها؛ إذا أمكن تناولها بدون ذلك، بخلاف غيرها من الميتات؛ لأن طبخ الآدمي محظور وإن لم يؤكل، وأكله محظور وإن لم يطبخ، والضرورة تدعو إلى الأكل؛ فأبحناه، ولا تدعو إلى الطبخ؛ فحظرناه.

وقال أيضاً: إنه لو وجد ميتة غيره، لا يحل له أكل ميتته وجهاً واحداً، [بل يأكل] ميتة غيره وإن كانت لحم خنزير؛ لأن تحريم الميتة في حق الآكل، وتحريم ابن آدم في حقه وحق الآكل؛ فكان أغلظ.

وقضية إطلاق غيره: أنه لا فرق في ذلك كله أيضاً بين ميتة الآدمي وميتة غيره.

نعم حكى القاضي الحسين في حالة وجود ميتة غيره في إباحة تناول ميتة الآدمي وجهين؛ وهذا كله فيما إذا كان الأكل مسلماً، سواء كان المأكول مسلماً أو كافراً.

أما لو كان الآكل ذمياً، فهل نبيح له أكل ميتة المسلم إذا أبحناها للمسلم؟ فيه وجهان في"التهذيب".

قال النواوي في "الروضة": والقياس التحريم.

ص: 261

الأمر الرابع: أن ما ذكره مخصوص بما إذا اضطر الآكل لغير التداوي، فإنه لو [لم يكن] كذلك لما عناه بسد الرمق، [أو قدر] الشبع.

وقد عَدَّ الأصحاب من أحوال الضرورة المجوزة لأكل الميتة التداوي، إذا لم يقم غيرها من الطاهرات مقامها، وكلام الشيخ من بعد يفهم ذلك؛ حيث قال:"ومن اضطر إلى شرب الخمر، جاز له شربها، وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز للتداوي".

وفي "الحاوي" أن بعض أصحابنا منع التداوي بالمحرمات؛ لقوله- عليه السلام: "إن الله ما جعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، وهو حديث العرنيين، وتأويل الحديث: ما [حرم عليكم ما فيه شفاؤكم].

وفي "البحر": أن بعض أصحابنا ذهب إلى أنه لا يجوز التداوي بغير أبوال الإبل؛ للنص المخصوص، ولا يقاس عليها غيرها، وبه يحصل في [جواز التداوي بالنجاسات] ثلاثة أوجه، وقد يفهم من كلام الأصحاب حيث جوزوه: أن يظن أنه

ص: 262

إن لم يتداوَ هلك كما تقدم، أو ما [يقوم مقامه] والله أعلم.

فروع:

أحدها: لا يحل للمضطر قتل آدمي معصوم الدم؛ لأجل روحه: كالمسلم والذمي، والمعاهد، سواء قصد قتله؛ ليأكله أو قصد أخذ ما معه من مأكول، وهو- أيضاً- مضطر إليه إن أُخِذ منه مات، وفيه شيء سيأتي.

ويجوز قتل الحربي والمرتد، وكذا من للمضطر عليه قصاص في النفس، وأما الزاني المحصن فقد حكى في "المهذب" و"التهذيب" فيه وجهين أجراهما القاضي الحسين في القاتل في الحرابة، وتارك الصلاة؛ لما فيهم من فضيلة الإسلام.

والمختار في "المرشد" الجواز، وإن كنا نمنعه من قتلهم؛ تفويضاً إلى الإمام، وهو الذي أورده الإمام.

وهل يجوز قتل الحربية والصغير من أولاد أهل الحرب؛ لأجل ذلك؟ يجيء من اختلاف النقل فيه وجهان: أحدهما- وهو الذي أورده البغوي-: المنع.

وقال الإمام: الظاهر عندنا الجواز، فإن حرمة قتلهم في غير حال الضرورة، ليس لحرمة روحهم، أي: وإنما هو لصيانة ناموس الولاية، وحفظ توقع المالية، ويدل على ذلك أن قاتلهم لا تلزمه الكفارة.

ولا يجوز له قتل عبد نفسه؛ لأنه تلزمه الكفارة بقتله.

قلت: وهذا ظاهر في العبد المسلم.

أما إذا كان [كتابياً] بالغاً، فحقن دمه لأجل حق السيد في ماليته حتى لا يضيع؛ فيشبه أن يكون كالحربية وأولاد أهل الحرب.

ومن طريق الأولى إذا كان وثنياً؛ فإنه لا يقر على دينه بالحرية لو كان حراً، وينشأ من هذا أنه إذا قتل من عبيده من هذا حاله، لا تجب عليه الكفارة؛ كما في قتل ذراري أهل الحرب ونسائهم [كما سيأتي. وقد يقال: إن هذا يفارق ذراري أهل الحرب ونساءهم] لأن هؤلاء لم يثبت لهم أمان؛ فلذلك كان تحريم قتلهم؛ لتوقع ماليتهم، لا لحرمة نفوسهم، والعبد الكتابي والوثني قد أثبت له الشرع أماناً بالرق؛

ص: 263

فصار كالمعاهد، ويشهد لذلك: أن السيد لو أعتقه، لا يقال: إنه هناك هل يبلغ إلى المأمن على أصح الطريقين كما سيأتي فيمن بلغ من أولاد أهل الذمة، وقلنا: نستأنف له عقد الذمة، فامتنع من بذل الجزية، والله أعلم.

ولو أراد المضطر أن يقطع عضواً منه أو قلفة من فخذه؛ ليأكلها- أطلق العراقيون والبغوي في جواز ذلك وجهين:

أصحهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب وغيره: المنع.

ومقابله: منسوب إلى ابن سريج وأبي إسحاق؛ قياساً على جواز القطع؛ لأجل الأكلة.

وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الوجهين من تخريج ابن سريج.

وقال المراوزة: إن كان يخشى من ذلك القطع خوف الهلاك كما يخشى من ترك الأكل أو أكثر منه، لم يحل، وإن كان لا يظهر منه خوف، ففي الحل وجهان.

ولا خلاف أنه لا يجوز أن يفعل ذلك في معصوم الدم، ولا للمعصوم أن يفعل في نفسه؛ لأجل مضطر غيره.

الثاني: يجوز التزود من الميتة إن لم يُرجَ الوصول إلى الحلال، وإن رجاه، ففي "التهذيب" وغيره: أنه يحرم.

وعن القفال: أن من حمل الميتة من غير ضرورة، لم يمنع؛ ما لم يتلوث بالنجاسة.

قيل: وهذا يقتضي جواز التزود عند الضرورة من طريق الأولى.

قال في "الروضة": والأصح: جواز التزود إذا رجا.

الثالث: إذا كان في يد المضطر ميتة، فلا يكن بسبب يده أولى بها من مضطر آخر؛ فإن اليد لا تثبت على الميتة؛ كذا حكاه الإما في كتاب الإقرار عن القاضي، ثم قال: والوجه خلاف ذلك، فإن الميتة في حق المضطرين مباحة؛ فلتكن كالأشياء المباحة في حق المحتاجين، وإن كان الملك لا يتحقق في الميتة.

قال: وإن وجد المضطر ميتة وطعام الغير، أي: والغير غائب، كما صور المسألة في "المهذب"؛ تبعاً للبندنيجي والماوردي، وهو الذي ذكره القاضي الحسين والفوراني أيضاً.

ص: 264

قال: أكل طعام الغير، وضمن بدله؛ لأنه قادر على أكل الطعام الطاهر بعوض مثله؛ فوجب عليه أكله، ولم يجز له العدول إلى أكل الميتة؛ كما لو كان حاضراً وبذل له بعوض مثله؛ فإنه يجب عليه ذلك قولاً واحداً كما سنذكره، ولا فرق على هذا بين أن يكون قادراً على البدل أو عاجزاً عنه؛ لأن الذمم تقوم مقام الأعيان، لكن ما الذي يأكله؟ فيه ثلاث طرق حكاها البغوي وغيره من المراوزة.

إحداها- وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وغيرهم من العراقيين-: أنه على القولين فيما يأكله من الميتة.

والثانية: القطع بأنه يأكل قدر الشبع؛ لأن جنس الطعام حلال بخلاف الميتة، وهذان الطريقان لم يورد القاضي الحسين سواهما.

والثالثة: القطع بأنه لا يزيد على سد الرمق؛ لأن حق الآدمي أضيق من حق الله تعالى؛ فيقتصر فيه على ما يدفع الضرورة؛ وهذا ما أورده الفوراني مع الأول.

وقيل: يأكل الميتة؛ لأن إباحة الميتة بالنص، وإباحة هذا [الأخذ] بالاجتهاد، والنص أقوى من الاجتهاد؛ فوجب اتباعه.

ولأن ذلك حق الله تعالى، وهذا حق آدمي، وحقوق الله تعالى تدخلها المسامحة دون حقوق الآدميين؛ وهذا ما صححه النواوي؛ تبعاً للرافعي والروياني، ونقله القاضي الحسين عن النص.

وحكى عن بعضهم القطع به؛ وعلى هذا يظهر أن يقال: لو كان المالك حاضراً، لم يجب عليه بذل الطعام، وإلا لما كانت الغيبة عذراً في الترك كالديون.

وقد حكى البغوي وغيره من المراوزة في المسألة قولاً- أو وجهاً- ثالثاً: أنه يتخير؛ بناء على الأقوال الثلاثة في تعارض حق الله تعالى وحق الآدمي.

وقد ألحق القاضي أبو الطيب بصورة الكتاب ما إذا كان مالك الطعام حاضراً غير مضطر إليه، والمضطر قادر على مقاومته وقلعه منه، وأجرى الخلاف فيها.

وأطلق الماوردي والقاضي الحسين القول بأن صاحب الطعام إذا كان حاضراً ممتنعاً من البذل أنه يأكل الميتة، وهو ما حكاه في "البحر" عن النص في "ذبائح بني إسرائيل"؛ فإنه قال فيه: "وليس بحلال له أن يكاثر رجلاً على طعامه وشرابه، وهو

ص: 265

يجد ما يغنيه عنه من شراب فيه ميتة، أو ميتة، ولا تناقض بين النقلين، بل ما قاله الماوردي ودَلَّ عليه ظاهر النص محمول على ما إذا كان الأخذ لا يتأتى إلا بالقتال، أو كان المضطر غير قادر على مقاومة صاحب الطعام، وما قاله القاضي أبو الطيب محمول على ما إذا تأتى أخذه بدون قتال؛ لضعفه، وقد صرح البندنيجي بذلك، وبه يحصل لمسألة الكتاب صورتان.

ولو كان صاحب الطعام باذلاً له؛ إما تبرعاً أو بثمن مثله، وجب عليه قبوله قولاً واحداً؛ كما قاله البغوي وغيره؛ قياساً على ما لو كان عنده طعام؛ فإنه يلزمه أكله، ويمسك به رمقه، فإن لم يفعل ذلك، كان كمن قتل نفسه.

قال أبو الطيب: ويفارق هذا الميتة؛ حيث قلنا على قول أبي إسحاق: إن له أن يمتنع من أكلها؛ لأن له غرضاً في ذلك، وهو التنزه عن النجاسة، ولا غرض له هاهنا.

وأشار ابن التلمساني في شرح هذا الكتاب إلى جريان قول أبي إسحاق هنا أيضاً بقوله: "ولا يعصي المضطر بتركه على الأصح".

ولا فرق على الأصح بين أن يكون المضطر قادراً على ثمن المثل أو غير قادر عليه، إما مطلقاً أو في موضعه، ورضي الباذل بذمته؛ حتى قال البغوي: لو كان معه إزار واحد لا يأمن من نزعه الهلاك بسبب البرد، وجب عليه صرفه إلى الطعامن ويصلي عرياناً؛ لأن كشف العورة أخف من أكل الميتة، بدليل أنه لا يجوز أن يكابر الغير على أخذ الثوب؛ ليستر العورة، ويجوز أن يكابره على أخذ الطعام؛ وهذا إذا كان الطعام المبذول لا تنشأ منه زيادة مرض بالمضطر؛ ولا يتوهم من الباذل أنه سمة له، فلو وجد أحد الأمرين، لم يجب القبول؛ صرح به الشافعي.

ولو لم يجد المضطر إلا طعام الغير، نظر: فإن كان مالكه غائباً، جاز له الأكل منه، وهل يعصي بالترك؟ فيه وجهان في"التهذيب"، وإذا أكل ضمن البدل كما تقدم.

[و] في "الحاوي" وجه: أنه لا يضمن البدل؛ لأنه أخذ بالضرورة؛ كاستباحة الشيء الذي لا يضمن من الميتة، وهو فاسد؛ لأن الميتة لا قيمة لها، ولا مالك؛ بخلاف الطعام.

وإن كان حاضراً وهو غير مضطر إليه، قال الماوردي: فلا يباح له الأكل دون

ص: 266

مراجعته وإعلامه بحاله، وهذا ما ادعى الغزالي: أنه الأصح.

وفيه وجه: أنه لا يستأذنه- قال الإمام-: لأنه إنما يظهر اشتراط ذلك حيث يفيد التحريم لو عدم الإذن، أما إذا كان مأخوذاً على كل حال، فلا معنى لاشتراطه.

قلت: وسيأتي لهذا الوجه نظير نذكره في آخر باب الربا.

والقائلون بالأول شبهوا ذلك بالظفر بمال المديون، لا يجوز أخذ حقه منه ما لم يعجز عن إذنه، وقد اتفقوا على أنه يجب على مالك الطعام بذله [له] لكن بثمن المثل في الحال إن كان المضطر قادراً عليه ولا يؤدي تشاغله بتسليمه إلى تلفه إن كان معصوم الدم، كالمسلم والذمي والمعاهد؛ أو في الذمة إن كان عاجزاً عنه أو أدى تشاغله بتسليمه إلى تلفه.

ويجب على المضطر شراء ذلك منه أو قبوله، وهكذا نقول فيمن رأى شخصاً قد أشرف على الحريق أو الغرق، لكنه متشبث بشيء أو يسبح سباحة ضعيفة وتتسع المدة للموافقة على بذل أجرة- يجب عليه تخليصه بأجرة يشترطها عليه، وتجب على ذلك موافقته، ولا يجب عليه تخليصه مجاناً؛ جمعاً بين الحقين، ودفعاً للضررين، ويجيء فيه الوجه السابق.

نعم: لو أدى التشاغل بتعاطي الشراء أو تقدير الأجرة إلى التلف، وجب الإطعام والبذل والتلخيص مجاناً على الأصح، وهو الذي أورده ابن الصباغ تبعاً للقاضي أبي الطيب.

وزاد البندنيجي فقال: لو خاف المضطر على نفسه إن تشاغل بالموافقة، فاستلب المال وأكله، فلا قيمة عليه.

وقيل: إذا أوجر المضطر العام في هذه الحالة، رجع بثمن مثله.

والخلاف جارٍ فيما لو ناوله الطعام، ولم يذكر له شيئاً مع إمكان ذلك، فأكله المضطر.

ووجه الرجوع: أنه خلصه من الهلاك بذلك، فرجع عليه بالبدل؛ كما في العفو عن القصاص.

وعلى الصحيح ينطبق قول الماوردي: أنه لو أذن له في الأكل، ولم يسم له ثمناً

ص: 267

ولا عوضاً، فلا يرجع عليه بشيء.

نعم لو اختلفا: فقال صاحب الطعام: إنما أذنت بعوض، وقال المضطر: بل أذنت مستحباً؛ فلا عِوَضَ لك عليَّ- فالقول للمالك مع يمينه.

وحكى الإمام وغيره قولاً آخر: أن القول قول الآكل.

وقد أفهم كلام الروياني في "البحر": أن من الأصحاب من لم يجوز طلب الأجرة في مسألة التخليص من الغرق ونحوه؛ فإنه فرق بينه وبين مسألة الطعام: بأنه لو كان لا مال له، يلزمه تخليصه؛ لحرمته، ولا يحتاج إلى إزالة ملكه، ولا يجوز الانتظار على الأجرة، فكذلك إذا كان له مال، وهاهنا بخلافه.

ولو امتنع صاحب الطعام- وقد تعين عليه البذل [من البذل: إما مطلقاً، أو إلا بأكثر من ثمن المثل- نظر: فإن كان المضطر قادراً على مكابرته ومقاتلته] على أخذه منه، كان له ذلك، وهل يجب؟ فيه وجهان في "الحاوي".

وقال الرافعي: إنهما مبنيان على أنه: هل يجب أكل الميتة أم لا؟

والأولى بأن لا يجب هنا؛ لأن عقل المالك وديته تبعية على الإطعام، وهو واجب عليه؛ فجاز أن يجعل الأمر موكولاً إليه، ويكتفي به.

ثم ما القدر الذي يقاتله عليه؟ فيه الخلاف المذكور فيما يحل من طعام الغائب؛ إذا قلنا: إنه يأكله وقد تقدم، ولا خلاف في أنه إذا أذن له في الأكل، أكل إلى حد الشبع.

قال في "البحر": ولا يجوز له الزيادة على الشبع.

قلت: وهذا ليس؛ لأن أكل الزائد على قدر الشبع حرام، بل لأن الإذن مقيد به عرفاً؛ فحمل عليه، وإلا فالأكل فوق الشبع جائز؛ وإن كان مكروهاً؛ كما صرح به الروياني والقاضي الحسين، واستأنس فيه بما روى عن عمر أنه قال:"اجعلوا بطونكم ثلاثة: ثلث للطعام، وثلث للماء، وثلث للنفس".

ص: 268

ثم إن أتى القتال على المضطر، لزم صاحب الطعام ضمانه بالقصاص أو الدية؛ مكا لو قتله ابتداء؛ لأنه ما حلَّ له أن يقاتله.

وإن أتى الدفع على صاحب الطعام، كان هدراً؛ لأنه ظالم.

وإن لم يقدر المضطر على مقاومته ومكابرته على الطعام، فإن لم يقدر على شرائه منه ومات، لم يضمنه بقودٍ ولا دية، لكنه آثم.

قال الماوردي: ولو قيل: إنه يضمن ديته، كان مذهباً؛ لأن الضرورة قد جعلت له من طعامه حقاً؛ فصار منعه منه كمنعه من طعام نفسه، ولو منع الشخص من طعام نفسه حتى مات جوعاً، ضمن ديته؛ فكذلك هنا.

والذي ذكره القاضي أبو الطيب والفوراني وغيرهما- كما ذكرناه في باب: ما يجب به القصاص-: أنه لا ضمان فيما إذا أخذ من رجلٍ طعامه وشرابه [في برية]، لم يضمنه وإن قدر على الشراء؛ لكون المالك سمح بالبيع، لكن بأكثر من ثمن المثل؛ فإنه يعاقده عليه بما يقول من الزيادة، ويحتال حتى يشترط فيه شرطاً فاسداً، فإن لم يتمكن من ذلك وعاقده عارياً عن الشرط الفاسد- ففيما يلزمه وجهان:

أحدهما: الثمن المسمى؛ لأنه اشتراه من غير أن يكرهه عليه؛ وهذا ما قال في "البحر": إن القاضي صححه، وقال الإمام: إنه الأقيس.

والثاني: لا يلزمه إلا ثمن المثل؛ لأنه في معنى المكره على ذلك العقد؛ لأن الاضطرار حمله عليه؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".

وقال الروياني: إنه أظهر عندي، وأقرب إلى المصالح.

فإن قلت: على هذا ينبغي أن يقال: إذا كان قادراً على قتاله ألا يقاتله، لأنه إذا عاقده بأكثر من ثمن المثل، لا يلزمه إلا ثمن المثل؛ فلا ضرورة إلى القتال.

قلت: الأولى عدم جريان هذا الوجه في حال القدرة على أخذه بالقتال، لأنه ينتفي معنى الإكراه؛ فإن المكره حقيقة مَنْ لا يقدر على دفع المكره، فكيف الميتة به؟

[ولأجل هذا قال الرافعي: إنه يلزمه في هذه الصورة المسمى بلا خلاف، لكن ابن الصباغ صرح بجريانه] هنا أيضاً، وقد رجع حاصل الوجهين إلى أن البيع هل يصح أم لا؟ كما صرح به الإمام وغيره.

ص: 269

وقال الماوردي: أصح من هذين الوجهين عندي: أن ينظر: فإن كانت الزيادة في الثمن لا تشق على المضطر؛ ليساره، فهو في بذلها غير مكره [وإن كانت شاقة عليه؛ لإعدامه فهو في بذلها مكره] فلم تلزمه.

أما إذا كان صاحب الطعام- أيضاً- مضطراً إليه، لم يبح لغير المالك من المضطرين أكله بدون إذنه، ولا يجب على المالك بذله له قال القاضي الحسين والفوراني والروياني: إلا أن يكون نبياً؛ فحينئذ يجب عليه أن يعطيه له ويؤثره على نفسه، سواء استدعى منه ذلك، أو لم يستدعه؛ لقوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6].

نعم: يستحب له إيثار غير النبي به إذا كان معصوماً بالإسلام؛ لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

قال صاحب "الإبانة" و"البحر": ويجب عليه القبول.

قلت: وفيه نظر.

ولا يجوز أن يؤثر به المعصوم من الكفار ولا بهيمة نفسه؛ صرح به البغوي.

فرع: إذا كان لرجل دابة جائعة، أو كلب غير عقور جائع، ومع صاحبه علف أو لحم- وجب أن يعلف دابته، ويطعم كلبه، فإن لم يفعل، فلصاحب الدابة أن يغصبه؛ قاله في "التهذيب".

[فرع] آخر: إذا بلغ الشخص من الجوع مبلغاً مضراً، قال الإمام في كتاب صلاة الجمعة: فلست أرى تدارك هذا من فروض الكفايات، فإن هذا لو قيل به، لأدى إلى تأثيم خلق الله تعالى على عموم الأحوال، فإن الحاجة عامة، والضرر غالب في الأصحاء والمرضى.

نعم: يجب على الإمام تعهدهم وسد خلتهم من سهم المصالح.

قال: والدليل عليه أن من اضطر وانتهي إلى خوف الهلاك، فله أن يأخذ، ولو جاع لم يكن له ذلك.

نعم لو خلا بيت المال عن المال، ففي هذا نظر.

قال: وإن وجد صيداً- أي: حياً- وميتة، وهو محرم، أي: أو في الحرم؛ كما

ص: 270

قال البندنيجي ففيه قولان:

أحدهما: يأكل الميتة.

والثاني: يأكل الصيد.

وهذا الخلاف أخذ من قول الشافعي في "المختصر": "لو وجد المضطر ميتة وصيداً، وهو محرم، أكل الميتة، ولو قيل: يأكل الصيد ويفدي، كان مذهباً"، واختلف الأصحاب في ذلك.

فالذي ذكره أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: أن في المسألة قولين مطلقين؛ أخذاً بظاهر اللفظ:

أحدهما: يأكل الميتة؛ لأن إباحتها ثابتة بنص الكتاب، وتناول الصيد مجتهد فيه، وما ثبت بالنص أولى مما ثبت بالاجتهاد.

ولأن في الصيد تحريمين: تحريم ذبحه، وتحريم أكله، وفي الميتة تحريم واحد، وما خف تحريمه كان أولى.

والثاني: يأكل الصيد؛ لأن تحريمه أخف؛ لأنه مختص ببعض الناس في حالة الاختيار دون بعض، بخلاف الميتة؛ فإنها حرام على الكافة؛ ولأن تحريم الميتة؛ لمعنى فيها، وتحريم الصيد لمعنى في غيره؛ فكان ما فارقه معنى التحريم أخف مما حله معنى التحريم.

والذي قاله صاحب "التلخيص"، ولم يورد ابن الصباغ في كتاب الحج غيره-: أن في المسألة قولين مبنيين على القولين في ذبح المحرم الصيد، هل يضره كالميتة؛ فيحرم عليه وعلى غيره أو لا؛ فيحل لغيره؟ فإن قلنا بالأول- وهو الجديد – أكل الميتة؛ لأنه إذا ذبحه صيره مثل الميتة التي معه، ولزمه الجزاء، ولا حاجة به إلى ذلك.

وإن قلنا بالثاني، أكل الصيد؛ لأن لحمه طاهر، وتحريمه أخف؛ بدليل ما سبق؛ فكان تناوله أولى.

وذهب أبو علي بن أبي هريرة وأبو علي الطبري صاحب الإفصاح إلى أنهما مبنيان أيضاً على القولين في ذكاته، لكن إن قلنا بالأول، أكل الميتة أيضاً.

وإن قلنا بالثاني: فهل يأكل الميتة أو الصيد؟ فيه القولان، وتوجيههما ما ذكرناه؛ وهذه الطريقة اقتصر الفوراني على ذكرهما.

وحكى الغزالي- تبعاً لإمامه- طريقة أخرى، فقال: إن قلنا بالأول، أكل الميتة أيضاً، وإن قلنا بالثاني، فهو كما لو وجد الميتة وطعام الغير؛ فيخرج على الخلاف،

ص: 271

أي: وهو ثلاثة أقوال؛ كما تقدم حكاية ذلك عنهم؛ ثالثها: التخيير؛ وهذه التي أوردها البغوي [ثم قال الغزالي- تبعاً لإمامه – وفيه نظر؛ فإن الميتة وطعام الغير] تقابل فيهما حق الله تعالى وحق الآدمي، وهاهنا الحق لله تعالى من الجانبين.

ومختار المزني في المسألة تناول الصيد، وماذا يأكل منه؟ فيه قولان كما في الميتة، وهما مذكوران فيما إذا لم يجد إلا الصيد.

والذي صححه النواوي، واختاره في "المرشد"- تبعاً لصاحب "البحر"- أكل الميتة، وقال: إن القاضي الطبري نقل أن الشافعي [صرح] في "ذبائح بني إسرائيل" بأنه يأكل الميتة، ويترك الصيد؛ فهو مذهبه، ولا حاجة إلى هذا التطويل.

وقد خص الماوردي الخلاف بما إذا لم تكن الميتة ميتة آدمي، فلو كانت قال: فلا يأكل إلا الصيد قولاً واحداً؛ وهذا كله إذا وجد الصيد حياً، أما إذا وجد لحم صيد وميتة، قال الغزالي: فلحم الصيد أولى؛ لأن المحذور حق الصيد في القتل، وتحريم اللحم على المحرم أهون من تحريم الميتة العام تحريمها.

وقال القاضي أبو الطيب: إنه ينظر: فإن كان قد ذكى الصيد حلال غيره، فلحمهُ كذلك، وحكمه كما لو وجد ميتة وطعام الغير.

وإن كان قد ذكاه محرم، فإن قلنا: إن ما ذبحه المحرم من الصيود حرام على غيره، تناول أيهما شاء؛ لأنهما قطعتا ميتة؛ وهذا ما صححه في "العدة".

ونقل ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب في كتاب الحج: أنه يأكل الصيد؟ لأنه مختلف في إباحته، وحكي هنا عن الشيخ أبي حامد أن أكل الميتة أولى، وهو ما أورده الماوردي، واختاره في "المرشد".

[ثم] قال القاضي وغيره: وإن قلنا: إنه مباح لغيره؛ فإنه يتناول اللحم، ويدع الميتة؛ لأن هذا اللحم طاهر ليس بملك لأحد؛ لأن المحرم إذا اصطاد، وذبح، لم يملكه بذلك؛ وهذا منه يفهم أن محل ذلك إذا وقع الصيد والذبح في حال الإحرام.

أما إذا وقع الصيد وهو حلال، والذبح في حال الإحرام، فالأمر كذلك؛ إن قلنا بزوال ملك المحرم أما إذا قلنا ببقائه، فلا.

وقد أشار إلى ذلك الماوردي بقوله: لو لم يجد إلا لحم صيد ذكاه محرم آخر،

ص: 272

وقلنا: إنه لا يحرم عليه- فإنه يأكله.

وفي ضمان المضطر لقيمة ما أكله وجهان من اختلاف القولين: هل يستقر للمحرم عليه ملك أو لا؟

أحدهما: لا ضمان؛ إذا قيل: إن المحرم لم يملكه.

والثاني: يجب؛ إذا قيل: إنه ملكه.

ولو كان هو الذي ذبحه، فإن كان قبل إحرامه، فهو كما لو وجد ميتة وطعام نفسه.

وإن كان في حال إحرامه، قال البندنيجي: ففيه قولان، بناء على أن ذبحه يحرم على غيره أو يحل له؟ فإن قلنا: يحرم، فالميتة أولى، وإلا فالصيد أولى.

قال الإمام: ولا يجوز أن نقدر في تقديم الصيد على الميتة خلافاً؛ تفريعاً على هذا القول؛ لأن المحذور [ثم] الإقدام على محرم آخر وهو ذبح الصيد، وهو مفقود هنا.

وقال في "البحر" على طريقة ابن أبي هريرة: إن قلنا: إن ذبحه يصير كالميتة، فالميتة أولى، وإلا فقولان.

وقد حكى ابن الصباغ عن القاضي في هذه الصورة: أنا إن قلنا: يحرم الصيد على غير الذابح، تخير في أكل أيهما شاء.

وقال في "البحر": إن القفال ذكره قولاً ثالثاً.

فرعان:

أحدهما: إذا وجد المضطر صيداً، وطعام الغير، قال القاضي الحسين وصاحب "العدة" والبغوي: إن قلنا: لا يصير ميتة، فثلاثة أقوال:

أحدها: مال الغير؛ لأن في قتل الصيد هتك حرمة أولاً.

والثاني: الصيد أولاً؛ لأنه محض حق الله تعالى.

والثالث: هما سواء؛ فيتخير؛ وهذا ما أبداه الإمام احتمالاً بعد حكاية الوجهين الأولين.

أما إذا قلنا: يصير ميتة، فقد قال القاضي وصاحب "العدة": يتناول مال الغير.

وقال البغوي: هو كما لو وجد ميتة وطعام الغير، وهو الذي ذكره الإمام، وقضية ذلك أن يكون في المسألة على قولنا: إنه يصير كالميتة أو لا يصير؟ ثلاثة أقوال- أو

ص: 273

أوجه كما حكاها الرافعي- فأي فائدة للتقسيم؟

ويظهر أن يقال: إن الأقوال الثلاثة فيما إذا قلنا: إنه ليس بميتة مفرعة على قولنا: إذا وجد ميتة وطعام الغير، [أنه يأكل طعام الغير،] أما إذا قلنا: يأكل الميتة؛ فلا يجيء إلا قول واحد: أنه يأكل الصيد.

الفرع الثاني: إذا وجد الصيد والميتة وطعام الغير، فمجموع ما قيل في المسألة سبعة أوجه، أوردها الإمام، واقتصر القاضي الحسين على أربعة منها، وكذلك البغوي؛ تفريعاً على أن ذبح المحرم لا يكون ميتة:

أحدها: طعام الغير، وهو الأضعف.

والثاني: الميتة.

والثالث: الصيد.

والرابع: يتخير بين الكل.

والخامس: [يتخير] بين الميتة وطعام الغير.

والسادس: يتخير بين الصيد وطعام الغير.

والسابع: يتخير بين الصيد والميتة.

قال البغوي: أما إذا قلنا: إنه كالميتة؛ فيصير كالمعدوم.

قال: ومن اضطر إلى شرب الخمر- أي: للتداوي، أو عطش- جاز له شربها؛ لأنه يدفع به الضرر عن نفسه؛ فجاز؛ كما لو غص بلقمة، ولم يجد غيرها؛ فإنه يسيغها؛ وهذا ما نسبه القاضي الحسين هنا إلى الداركي.

فإن قلت: قضية ما ذكرته من القياس: أن يجب شربها في الحالتين المذكورتين؛ لأن الأصل المقيس عليه كذلك؛ حتى قال الإمام: إن الوجه المذكور في أنه لا يجب أكل الميتة؛ لا يجري فيه لأنا وجهناه بالتردد في دفع الضرورة، وإساغة اللقمة معلومة.

[قلت]: أما وجوب شربها؛ لأجل التداوي؛ فلا سبيل إليه؛ لأنه لا يجب بالطاهرات؛ فضلاً عن المحرمات.

وأما شربها للعطش، فقد جزم الأصحاب بوجوبه في كتاب الحدود، وقالوا هاهنا:

ص: 274

إن في وجوب شرب الماء النجس والبول للعطش قولين؛ كما في وجوب أكل الميتة؛ وذلك في الخمر من طريق الأولى.

وقيل: لا يجوز: أما التداوي؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن التداوي بالخمر فقال- "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".

وقد خرج مسلم عن وائل بن حجر: أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم[عن الخمر فنهاه، ثم سأله فنهاه، فقال له: يا نبي الله إنها دواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ولكنها داء".

وأما في العطش؛ فلأنها لا تدفعه، بل تزيده عطشاً عظيماً وإن فرض تسكينه في الحال؛ وقد يستدل للصورتين بعموم قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، وبأن استعمال قليلها يدعو إلى استعمال كثيرها، ولا يؤمن أن يتولد منها ما هو أضر؛ وبهذا خالفت البول والماء النجس؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ هنا، وفي كتاب الحدود عن النص، وأنه وجهه بأنها تزيد الجائع جوعاً، والعطشان عطشاً، ولا دواء فيها؛ [فإن النبي صلى الله عليه وسلم] قال:"الخمر داء وليس بدواء"، وقد اختاره ابن أبي هريرة، وهو الأظهر عند الشيخ أبي حامد والمحاملي وابن كج وغيرهم؛ وعلى ذلك جرى النواوي.

وعن "تعليق" الشيخ إبراهيم المروروزي حكاية مثله وجهاً في إساغة اللقمة [أيضاً، وإليه أشار في "الكافي" بقوله: "يجوز إساغة اللقمة] بها على الأصح".

وقيل: يجوز للتداوي؛ لأن النفع بها متوقع، والحديث محمول على أنه علم أن الشفاء لا يحصل بها؛ كما قاله الغزالي في كتاب الطهارة، أو معناه: ما فيه شفاؤكم فما حرم عليكم؛ كما تقدم.

ولا يجوز للعطش؛ لأنها لا ترده بل تزيده.

ص: 275

[والعلة الجامعة:] أنها متعينة في الدواء و [غير] متعينة [في العطش]، وهذا ما نسبه الماوردي هنا إلى بعض البصريين من أصحابنا، وقال في "البحر": إنه اختيار القاضي أبي الطيب، وقال: إنه منصوص الشافعي، وما عداه خلاف مذهبه؛ ولأجل ذلك رجحه في كتاب الحدود.

وفي "الشامل" طريقة رابعة في المسألة: أنه يجوز للعطش؛ لأنها تروي في الحال، وذلك موثوق به، ولا يجوز للتداوي؛ لأن دفع العلة غير موثوق به؛ فإن الطبيب وإن تبحر لا يجزم بقضاء على مريض؛ ولذلك قال "أبقراط":"التجربة خطرة والقضاء عسر"، [ومراده- كما قال الإمام-: أن القضاء بماهية المرض، ثم بعلاج نافع عسر] مع استنادهما إلى التجربة.

وهذه الطريقة نسبها الماوردي إلى بعض البغداديين من أصحابنا، ولم يورد الغزالي هنا غيرها، وهو متبع للإمام؛ فإنه قال هاهنا: إن من انتهى بالعطش إلى الضرورة، فيتعاطى الخمر؛ فإنها تسكن العطش، ولا يكون استعماله في حكم العلاج، ومن قال: الخمر لا تسكن العطش، فليس على بصيرة، ولا يعد مثل هذا مذهباً، بل هو غلط ووهم، ومعاقر الخمر يجتزئ بها عن الماء.

وقال في كتاب "الحدود": يجوز الشرب؛ لدفع العطش في قول الأصحاب أجمعين، وقالوا: لا يجوز التداوي، وبلغنا عن آحاد من المتأخرين ينتسب بجوازه من غير تدوين في تصنيف، وإنما يترامزون به ترامز المتكاتمين، وقد حكاه في "الوسيط" في الباب الثاني في المياه النجسة.

وقد نسب في "البحر" القول بأن الخمر تروي ولا تعطش إلى بعض المخالفين، وأنه خطأ الشافعي في قوله:"إنها لا تروي بل تزيده عطشاً"، كما تقدم، وقال: ليس بعيب عليه؛ لأن مثله يجوز أن يخفي عليه؛ فإن تأثير الخمر في نفس الشارب.

قال الروياني: وهذا خطأ من المخالف، والشافعي أعرف بهذا منهم؛ فإنه وصف

ص: 276

في كتاب الوصايا من الأمراض وأحكامها ما يدل على معرفته بالطب، واضطلاعه به.

وقال القاضي أبو الطيب: أني سألت عن هذا بعض من يعرف ذلك، فقال: الأمر على ما قاله الشافعي.

وفي "التهذيب" طريقة خامسة حالية للوجهين في جواز التداوي بها، وجازمة بمنع الشرب للعطش، ولم يورد غيرها، وهي المذكورة في "تعليق" القاضي الحسين في باب الصلاة بالنجاسة.

وفي "المرشد" طريقة سادسة: أنه لا يجوز للتداوي، ويجوز للعطش شرب الجديد منها دون العتيق، والاضطرار لشربها؛ لدفع الجوع كهو لدفع العطش.

وعن بعضهم: أنه لا يجوز لدفع الجوع، وإن جاز للعطش؛ لأنها تحرق كبد الجائع.

واستعمالها في المعجون كاستعمال المعجون الذي فيه لحم الحية والسرطان.

ثم اعلم أن محل الخلاف في التداوي مخصوص بالقليل الذي لا يسكر؛ كما ذكره ابن الصباغ والروياني والبغوي في كتاب الحدود.

لكن في "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو احتاج إلى قطع عضو منه لأكله، فهل يجوز الشرب؛ ليزول عقله أم لا؟ فيه وجهان.

[وأيضاً: فإن محل الخلاف] مخصوص بما إذا قال مسلم خبير من أهل الطب: إن فيها دواء، ولا يوجد ما يقوم مقامها، وكذا في استعمال غيرها من النجاسات يشترط هذان الأمران.

وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب حد الخمر: أنه يجب أن يشهد طبيبان مسلمان أن علته لا تذهب إلا بهذا، وخبرة المريض بذلك تقوم مقام ذلك.

ولو كان في استعمالها تعجيل الشفاء، ففي الجواز وجهان:

أولاهما: الجواز، وهو نظير ما نص عليه الشافعي في استعمال غيرها من النجاسات.

والقاضي الحسين في باب الصلاة بالنجاسة حكى الوجهين في جواز التداوي بالنجاسة؛ لتعجيل البرء، وقال: إنهما مخرجان من الوجهين من نظير المسألة في التميم.

ص: 277

فرع: إذا وجد المضطر للشرب للعطش خمراً وبولاً، شرب البول؛ كما لو وجد بولاً وماء نجساً، شرب الماء النجس؛ لأنه أخف، وما الذي يشربه هل ما يرويه أو ما يسد رمقه؟ فيه قولان كما في أكل الميتة.

قال: ولا يحرم كسب الحجام، أي: سواء اكتسبه حر أو عبد؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس قال: "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجرته، ولو علمه خبيثاً لم يعطه، أخرجه البخاري.

وروى أبو داود عن أنس بن مالك أنه قال: "حجم أبو طيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه"، أخرجه البخاري ومسلم.

قال جابر: وكان خراجه ثلاثة آصعٍ من تمرٍ في كل يوم، فخففوا عنه في كل يوم صاعاً.

ووجه الدلالة من ذلك ما قاله ابن عباس: أنه لو كان حراماً لما أعطاه؛ لأن كل موضع حرم الأخذ على الآخذ، حرم الدفع على المعطي؛ كأجرة المغني والنائحة.

ويستثنى من ذلك ما إذا دعت إليه ضرورة؛ كما إذا أعطى الشاعر شيئاً؛ ليذر هجوه، والظالم؛ كي لا يمنع حقه، أو لا يأخذ منه أكثر من الذي أعطاه؛ فإن في مثل ذلك يأثم الآخذ دون المعطي، وسنذكر ذلك في كتاب الأقضية.

فإن قيل: قد روى مسلم عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كسب

ص: 278

الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث".

قيل: قد أنكر ابن عباس هذا بقوله السابق.

ولأنا نتأوله ونقول: أراد بالخبيث: الدناءة، فإنه كسب دنيء؛ وهذا كقوله تعالى:{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267][و] أراد [به] الدون الرديء {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267].

فإن قلت: قول على وابن عباس حكاية حال، لم يعينا فيها من حجمه صلى الله عليه وسلم وأنس عينه؛ فيجوز أن يكون واحداً؛ وهو أبو طيبة، وإذا كان كذلك، فهو رقيق، والخصم وهو كما قال الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث وأهل الظاهر- موافق على حل كسب الحجام للرقيق دون الحر؛ فلا حجة لكم فيما ذكرتم؛ لأن وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال، سقط بها الاستدلال.

قلت: يظهر أنه لأجل ذلك قال ابن خزيمة من أصحابنا بمثل مذهب الخصم؛ كما حكاه الموفق بن طاهر.

وجوابه على المنصوص الصحيح في المذهب ما قاله الماوردي: أنه لم يزل على هذا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه إلى وقتنا في سائر الأمصار يكتسبون بهذا، ولا ينكره منكر؛ فدل على انعقاد الإجماع به وارتفاع الخلاف فيه.

وقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن كسب حجام له ماذا يصنع به؟ فقال: آكله.

ولأنه كسب يحل للعبد؛ فحل للحر؛ كسائر المكاسب.

قال: والأولى أن يتنزه الحر عن أكله، أي: سواء اكتسبه حر أو عبد؛ كما قاله البنددنيجي وغيره؛ لما روى أبو داود عن ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أجرة الحجام؛ فنهاه [عنها] فلم [يزل] يسأله ويستأذنه حتى أمره أن

ص: 279

أعلفه ناضحك ورقيقك، وقال الترمذي، إنه حديث حسن؛ فدل هذا على كراهته للحر دون التحريم، فإنه لو كان حراماً لما أمر بإطعامه الناضح والرقيق؛ لأن ما حرم أكله؛ لعدم ملكه، حرم التصرف فيه.

وقد اختلف الأصحاب في علة الكراهة على وجهين:

فمنهم من قال: لأجل مباشرة النجاسة؛ وروي أنه- عليه السلام قال: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها"، وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهم، وقالوا: إن ذلك يتعدى إلى كسب الكناس الذي يستخدم العذرة من الكنف، والقصاب، والزبال الذي يجمع العذرة ويوقدها في الحمام، والفاصد، والطبيب، والخرائجي.

وقال في "الوسيط": إنه لم يذهب إلى الكراهة في هذه الأشياء أحد وهذا من العجائب؛ لأن الإمام قد صرح بالكراهة فيها أيضاً.

وحكى الماوردي على هذا في كراهة كسب الفاصد وجهين، ونسب عدم الكراهة إلى ابن أبي هريرة؛ لأنه قلما يباشر النجاسة، وقد أقرن بعلم الطب، وهو الذي

ص: 280

صححه النواوي في "الروضة" ولا يجري في كسب الختان؛ لأنه يزيد على الحجام بمباشرة العورة.

ومنهم من قال: لدناءة الحجام عند الناس، قاله الماوردي، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي؛ لأنه جعل من المكاسب دنياً وحسناً، ولم يورد في "المذهب" و"التهذيب" سواه، وعلى هذا تتعدى الكراهة مع من ذكرنا ثم إلى المكاسب الدنيئة: كالسماك، والحلاق، والقيم في الحمام.

واختلف على هذا في كسب الحمامي على وجهين:

أحدهما: أنه دنيء؛ لأنه يشاهد العورات، ويكسب بجزاء [من غير] مقدر.

والثاني: لا يكره؛ لأنه لا يباشر عملاً، ويمكنه غض طرفه عن العورات، وأيضاً: فليس هو مكتسب بمباشرتها.

والدباغ يلحق عند الماوردي بالسماك؛ فيكون في كراهية كسبه وجهان.

و [يلحق] عند القاضي أبي الطيب وابن الصباغ والشيخ بالحجام.

والحائط يلحق عند صاحب "الإفصاح" بالحمامي، وصحح النواوي في "الروضة" عدم كراهية كسبه.

والصنائع الدنية محل الكلام فيها كتاب الشهادات، فليطلب منه، ولا يخفى تخريج صورها عن المأخذين في الكراهة هاهنا.

وقد قال الغزالي: لعل السبب في كراهة كسب الحجام والفاصد: أن الحجامة والفصد جرح يفسد البنية، وهو حرام في الأصل، وإنما يباح بتوهم المنفعة، وذلك مشكوك فيه، ويطرد هذا في أجرة من يقطع يداً متآكلة؛ لاستبقاء النفس، ولا يطرد في أجرة الجلاد الذي يقطع في السرقة.

قلت: [و] قد يقال: إن مساق ما ذكره يفهم كراهة نفس تعاطي الفصد والحجامة، وإن لم تكن بأجرة؛ لما ذكره، لكن القاضي الحسين قد صرح بأن ذلك مباح، وإنما الكراهة في أكل الأجرة.

أما العبد فلا يكره له أكله، سواء اكتسبه حر أو عبد؛ إذ لو كره، لكره للسادة إطعامه

ص: 281

لهم، ولأن العبد دنيء فلا يشينه تعاطي ذلك؛ قال- عليه السلام:"يسعى بذمتهم أدناهم"، أي: عبيدهم؛ وهذا هو المذهب، ولم يذكر القاضي الحسين والبندنيجي سواه.

وقيل: يكره للعبد أيضاً، حكاه الماوردي، ونسبه إلى الأكثرين.

ومن قال به قال: المراد بـ"أدناهم" في الحديث الأدنى إلى دار الحرب.

ويكره-: أيضاً- كسب الصاغة؛ لأنهم قلما يحترزون عن الربا، وقد نسب في "البحر" هذا إلى بعض المراوزة، وهذا حكم خبيث الكسب مع عدم التحريم.

وأما خبيثه مع التحريم وطيبه فلنقتصر فيه على ما ذكره الماوردي؛ فإنه أحسن الترتيب فيه، فقال: أصول المكاسب المألوفة ثلاثة: زراعة، وتجارة، وصناعة؛ فينبيغ للمكتسب بها أن يختار لنفسه أطيبها: لقوله- تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] واختلف الناس في أطيبها.

فقال قوم: الزراعات، وهي عندي أشبه؛ لأن الإنسان فيها متوكل على الله- تعالى- في عطائه، مستسلم لقضائه.

وقال آخرون: التجارة أطيبها، وهو أشبه بمذهب الشافعي- رحمه الله لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، واقتداء بالصحابة- رضوان الله عليهم- في اكتسابهم [بها].

وقال آخرون: الصناعة، لاكتساب الإنسان فيها بكد يده، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من الذنوب ما لا يكفره صوم ولا صلاة، ولكن يكفره عرق الجبين في طلب الحرفة".

قال النواوي: وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده".

ص: 282

لكن الزراعة أفضلها؛ لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها.

قال الماوردي: "فأما الزراعة، فلا مدخل لها في تحريم ولا كراهة"، وهذا أدل شيء على أنها أطيب المكاسب.

وأما التجارة: فتنقسم ثلاثة أقسام: حلال وهي البيوع الصحيحة، وحرام وهي البيوع الفاسدة، ومكروه وهو الغش والتدليس.

وأما الصناعة فثلاثة أقسام: حلال وهي ما أبيح من الأعمال التي لا دنس فيها: كالكتابة، والنجارة، والبناء.

وحرام وهو ما حظر من الأعمال كالتصاوير والملاهي، ومكروه وهو ما ذكرناه من كسب الحجام ونحوه، والله أعلم.

ص: 283