الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يتم به البيع
هذه ترجمة زائدة على ما في الباب؛ لأن أركان البيع على ما حكاه غيره- وإن كان في إطلاق ذلك مناقشة ثلاثة-: العاقد وهو ينظم البائع والمشتري، والمعقود عليه وهو ينظم الثمن والمثمن، وصيغة العقد [وهي تنظم] الإيجاب والقبول.
والمذكور منها في هذا الباب: العاقد والصيغة، والثالث وهو المعقود عليه مذكور في الباب الثاني فكان هذا التبويب به أليق.
والمناقشة التي أشرنا إليها أبداها الرافعي على قول الغزالي لابد منها؛ لوجود صورة العقد وهي أن المراد إن كان لابد من وجودها ليدخل صورة البيع في الوجود، فالزمان والمكان وكثير من الأمور بهذه المثابة فوجب أن تعد أركاناً.
وإن كان المراد أنه لابد من حضورها في الذهن ليتصور البيع، فلا نسلم أن العاقد والمعقود عليه بهذه المثابة، وهذا؛ لأن البيع فعل من الأفعال، والفاعل لا يدخل في حقيقة الفعل.
ألا ترى أنا إذا عددنا أركان الصلاة والحج لا نعد المصلي والحاج، وإن كانا في جملتهما، وكذلك مورد الفعل، بل الأشبه أن الصيغة أيضاً ليست جزءاً من حقيقة فعل البيع.
وجوابها: أن المراد الأول وإنما لم يعد الزمان والمكان من الأركان؛ لأنه لا يعقل فعل من الأفعال بدونهما عقداً كان أو غير عقد، والعلم بذلك حاصل بالبديهة؛ فلذلك لم يذكرهما بخلاف ما ذكره فإنه لما اختلف فيه احتاج إلى ذكره؟
تنبيه: المراد بالبيع المبوب عليه بيع الأعيان خاصة، يدل عليه قوله في باب السلم:"السلم صنف من البيع" ينعقد بجميع ألفاظ البيع إلى غير ذلك.
[وقوله في باب الإجارة: وهي بيع المنافع بيع يصح ممن يصح منه البيع إلى غير ذلك] ولهذا التقرير فائدة تظهر لك من بعد.
قال: [و] لا يصح البيع إلا من مطلق التصرف غير محجور عليه.
المراد بهذا اللفظ: بيان أهلية العاقد للبيع والمانع القائم به. فقوله: "مطلق التصرف"، بيان الأهلية وهي تحصل بالبلوغ والعقل؛ لأن أهلية المعاملات عند الشافعي- رضي الله عنه مستفادة من التكليف.
فلا يصح بيع الصبي والمجنون سواء وافق الغبطة أو خالفها، أذن فيه الولي أو لم يأذن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ" رواه الترمذي.
ووجه الدلالة منه: أن البيع لو صح؛ لاستلزم المؤاخذة بالتمكين من التسليم والمطالبة بالعهدة، والحديث دال على نفي المؤاخذة.
فإن قيل: لم لا يصح البيع ويكون الولي هو المخاطب بذلك كما يخاطب بإيفاء أروش الجنايات وتفرقة الزكوات؟
قلنا: أما المجنون فقد قام الإجماع على عدم صحة تصرفه لفسخه شرعاً وعرفاً.
وأما الصبي فلأنا إنما أقمنا الولي مقامه فيما ذكر للضرورة ولا ضرورة بنا هنا ثم لا فرق في بيع الصبي بين أن يكون للاختبار أو غيره على الأصح؛ لإمكان اختباره بتقرير الثمن والمساومة والمماكسة المطلوبة في البيع.
وفي الطريقتين حكاية وجه في صحة بيع الاختبار، واختاره ابن أبي عصرون في "المرشد"، هذا حكم بيعه.
وسيأتي في قبول روايته وإسلامه ووصيته وتدبيره خلاف في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وقوله: "غير محجور عليه" بيان للمانع القائم بذات مطلق التصرف؛ ليخرج به بيع السفيه، وشراؤه بغير إذن وليه، فإنه لا يصح مع وجود الأهلية، لا في حق نفسه ولا في حق غيره، وكذا لو أذن له على الأصح في "التهذيب"، [وشرح ابن التلمساني] هذا ما ظهر لي، ورأيت لبعض من شرح هذا الكتاب أن [مراد] الشيخ بهذا اللفظ: الاحتراز عمن حجر عليه لحق غيره؛ كالراهن في العين المرهونة، والمفلس في الأعيان المحجور عليه فيها بدون الإذن، والعبد غير المأذون، وأضاف إلى ذلك بعضهم بيع الفضولي على القول الجديد.
ولم يظهر لي صحة شيء من ذلك، لأن منع الراهن من التصرف في المرهون للحجر عليه في العين لا في ذاته.
وقد احترز عنه الشيخ بقوله في الباب الثاني: "ولا يجوز فيما يبطل به حق آدمي"، فلو كان يدخل فيما احترز عنه هاهنا لم يحتج إلى ذكره ثم، ومنع المفلس من التصرف في الأعيان المحجور عليه فيها يضاهي منع الراهن، ثم لو قدرنا صحة ذلك لم يكن كلام الشيخ جامعاً للمقصود؛ لأنه نفى صحة البيع على الإطلاق عند عدم إطلاق التصرف، وعند وجوده ووجود الحجر.
والراهن ليس ممنوعاً من البيع على الإطلاق فإنه يجوز له بيع غير الرهن وشراء ما أراد لنفسه ولمن يوكله وكذلك المفلس في غير الأعيان المحجور عليه فيها على الصحيح وهو الذي جزم به العراقيون.
وأما العبد فمنعه من التصرف بالبيع لعدم الملك أو ضعفه والاحتراز عنه مذكور
في الباب الثاني بقوله: "ولا يجوز بيع ما لا يملكه إلا بولاية أو نيابة" وشراؤه عند العراقيين [على ما] حكاه القاضي أبو الطيب في "كتاب التفليس" كشراء المفلس.
ومقتضاه أن يكون الصحيح جوازه [وحينئذٍ] فلا يحسن الاحتراز عنه، نعم إن قلنا: إنه لا يجوز، كما صححه الرافعي وغيره، فيحسن الاحتراز عنه أيضاً، إن كان الشيخ يوافقه عليه، كما سنذكره عن بعض العراقيين.
ولو قيل: هل يصح شراؤه للغير بإذن سيده؟
قلنا: بالإذن ارتفع عنه الحجر في ذلك التصرف.
وأما بيع الفضولي فالمنع منه لعدم الملك.
فإن قيل: احترز الشيخ- رضي الله عنه عن مانع الحجر بما ذكرتموه، ولم يحترم عن مانع الإكراه بغير حق بلفظ الاختيار، فهلا ذكره كما فعل في "المهذب".
قلنا: الموانع الأصل عدمها، وذلك يغني عن الاحتراز عنها، والمحوج إلى ذكر الاحتراز عن الحجر مخالفة أبي حنيفة في بيع الصبي؛ فإنه إذا جاز بيعه فبيع السفيه أولى فاحتاج إلى التنبيه عليه خشية أن يعتقد معتقد موافقته؛ لأجل أنه صحيح العبارة بخلاف الصغير.
فرع: بيع المصادر هل ينعقد؟ فيه خلاف محكي في "الوسيط" في باب الأطعمة.
وحكى ابن أبي الدم: أن القاضي أبا منصور ابن أخت الشيخ أبي نصر [سأل أبا نصر] عن هذه المسألة فقال: إن كان له مال غير الذي باعه صح البيع، وإن لم يكن له مال سوى الذي باعه فهل يصح البيع؟ فيه وجهان.
فرع: رجل مجهول الحال لا تعرف حريته ولا رقه، هل تصح المعاملة معه أو لا؟ فيه قولان [في "التتمة" في باب العبد المأذون].
والأظهر: الجواز؛ لأن الأصل في الناس الحرية فيتمسك بالأصل.
ووجه الثاني: بأن الأصل في حق كل إنسان الحجر وعدم ذلك التصرف، فل
يجوز المعاملة معه حتى يعلم أنه من أهله، وهذه العلة تقتضي طرد هذا الوجه فيمن جهل رشده من طريق الأولى وهو [بعينه] كلام الشيخ حيث قال:"لا يصح إلا من مطلق التصرف غير محجور عليه" فمتى لم يتحقق وجود ذلك لا يصح هذا الإطلاق، ولم أر هذا لأحد.
قال: ولا ينعقد [البيع] إلا بإيجاب وقبول [أي على وجه الجزم، سواء كان المعقود عليه من المحقرات أو غيرها كالجواري والدواب والدور؛ لقوله تعالى: {لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما البيع عن تراض"، والرضا أمر خفي لا يطلع عليه فوجب أن يناط الحكم بسبب ظاهر يدل عليه وهو الصيغة.
وروى الخراسانيون، عن ابن سريج تخريج قول للشافعي: أنه يكتفي في المحقرات بالمعاطاة وبه أفتى القاضي الروياني وغيره على ما حكاه الرافعي؛ لأن المقصود الرضا والقرائن تعرف [حصوله].
وفي "البيان" أن ابن سريج حكاه عن الشافعي من غير أن يذكر لفظ التخريج.
وفي "النهاية" في باب حبل الحبلة، أن ابن سريج ذكر قولين في المعاطاة مع القرائن في إرادة البيع هل يكون بيعاً؟ ولم يقيده بالمحقرات، وهو يوافق ما في "الوسيط" في كتاب "العارية" حيث قال:"ولهذا ذكر القاضي في المعاطاة في البيع وجهين؛ لأجل القرائن"، ومقتضى هذا الإطلاق [أن الخلاف] غير قاصر على المحقرات.
وفي "التتمة": أنه حكي عن ابن سريج: أن كل ما جرت العادة فيه بالمعاطاة ويعدونه بيعاً فهو بيع، وما لم تجر العادة فيه بالمعاطاة كالجواري والدواب والعقار فلا يكون بيعاً.
وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: المعاطاة في بيع المحقرات، فأما في الأشياء النفيسة فلا بد من الإيجاب والقبول.
ومقتضى هذا أن خلاف ابن سريج ليس قاصراً على المحقرات بل يجري في المحقرات وما فوقها مما جرت العادة فيه بالمعاطاة، ولا يجري فيما لم تجر العادة فيه بالمعاداة إذ لو لم يكن كذلك لقال عقيب ما حكاه عن ابن سريج:"وبه قال مالك وأبو حنيفة والذي يقتضيه كلام المتولي [و] هو الذي رجحه ابن الصباغ".
والمقررون لكلام ابن سريج ذكروا لمستند تخريجه صوراً منها.:
ما إذا دفع إلى غسال ثوبه وأمره بغسله ولم يذكر له أجرة، والغاسل ممن يعمل بالأجرة، فإنه يستحق الأجر على قول.
ومنها: لو عطب الهدي قبل المحل، وغمس النعل الذي قلده بها في الدم وضرب بها على صفحة سنامه فإنه يجوز للمارين الأكل منه على أحد القولين.
ومنها: لو قال لزوجته إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، فوضعته بين يديه، ولم تتلفظ بشيء فإنه يملكه على الصحيح.
ومثلوا المحقرات بالباقة من البقل والرطل من الخبز، ومنهم من مثلها بما دون نصاب السرقة.
قال الرافعي: والأشبه الرجوع فيه إلى العادة فما يعتاد فيه الاقتصار على المعاطاة بيعاً ففيه التخريج ولهذا قال صاحب "التتمة" عن التخريج ما جرت العادة فيه بالمعاطاة فهو بيع وما لا؛ كالدواب والجواري والعقار فلا. هذا آخر كلامه، وقد قدمت أن المفهوم من كلام صاحب "التتمة" أن بينهما فرقاً، فلا يحسن الاستشهاد به.
فرع: حيث قلنا: إن بيع المعاطاة لا يصح، فما حكم ما جرت العادة فيه بالمعاطاة في الأخذ والعطاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه إباحة، وبه أجاب القاضي أبو الطيب وابن الصباغ حين سأله عما إذا أخذ بقطعة [ذهب] شيئاً، وأكله، ثم عاد يطالبه بالقطعة، هل له ذلك؟ [فقال: لا]، فقال ابن الصباغ: لو كان إباحة لكان له ذلك.
قال القاضي: إنما أباح كل واحد منهما بسبب إباحة الآخر، قال ابن الصباغ: فهو إذن معاوضة.
وأصحبهما: أن حكمه حكم المقبوض في سائر العقود الفاسدة وحكي عن الشيخ أبي حامد [أنه] قال: يسقط ذلك عن ذممهم بالتراضي. وهذا يشكل بسائر العقود الفاسدة.
وحيث قلنا: بصحة بيع المعاطاة، فصورتها على ما حكاه مجلي: أن يتفقا على الثمن والمثمن، ثم يعطي المشتري الثمن للبائع ويعطي البائع السلعة للمشتري من غير أن يجري بينهما إيجاب وقبول.
فرع آخر: إذا باع الأب أو الجد مال ابنه الصغير من نفسه، هل يفتقر إلى النطق بلفظ العقد أو يكفي فيه ذلك؟ فيه وجهان منقولان في كتاب "الحاوي" في كتاب الرهن فإن اعتبرنا الإتيان باللفظ به فهل يفتقر إلى القبول؟ فيه وجهان، فإن
اعتبرناه- وهو مقتضى إطلاق الشيخ- فلا يكفي التوكيل على الأصح. فإن لم نعتبره وأراد أن يوكل وكيلاً واحداً في الإيجاب والقبول فهل يجوز؟ فيه وجهان مذكوران في "النهاية" في كتاب العارية.
أما إذا حصل الإيجاب والقبول على وجه الهزل فهل ينعقد به البيع؟ قال القاضي حسين في باب البراءة [وفي فتاويه] يحتمل وجهين بناء على مسألة السر والعلانية في الصداق.
فإن جعلنا المهر مهر السر ففي هذه المسألة لا ينعقد؛ لأنهما ما قصدا بذلك معاوضة حقيقية وإن قلنا: المهر مهر العلانية انعقد، ولا اعتبار بقصدهما، بل العبرة بالملفوظ.
وفي بيع التلجئة: وهو أن يخاف واحد من السلطان فيجيء إلى صديق له ويقول: أبيعك ما لي منك على أن ترد علي البيع إذا أمنت من السلطان حتى أقول للسلطان: إني بعته.
[وإذا بعتك] لا ينعقد البيع وهم يسمونه بيع أمانة، مثل هذا الخلاف [و] المذكور في "الشامل" الجزم بالصحة.
قال: وهو أن يقول- أي البائع- بعتك أو ملكتك أي بكذا؛ لأن اسم البيع يقع على ذلك، قال: وما أشبهه أي مثل أن يقول: شريت منك هذا، وصارفتك في عقد الصرف ووليتك هذا العقد وأشركتك معي فيه نصفين، وغير ذلك مما هو في معناه، وهذا هو الإيجاب وضابطه فيما نحن فيه: كل لفظ يدل على التمليك بعوض بدلالة ظاهره وهذا هو المشهور.
وفي لفظ التمليك حكاية وجه مروي في "الحاوي" أنه لا يصح به البيع وأنه الأصح؛ لأن التمليك حكم من أحكام البيع وموجبه فاحتاج إلى تقديم العقد ليكون التمليك يتعقبه؛ ولأنه يحتمل البيع ويحتمل الهبة على العوض فصار من جملة الألفاظ المجملة، وهذا التعليل منه مبني عل اعتقاده: أن البيع لا ينعقد من جهة البائع
إلا بلفظ واحد وهو قوله: بعتك دون قوله: أبحتك هذا العبد بألف أو سلطتك عليه أو قد أوجبته لك أو جعلته لك وما أشبه ذلك.
وهذا إن أراده مع وجود النية، وجعل القابل كالشاهد فهو خلاف الظاهر من المذهب على ما حكاه الرافعي وغيره، والأصح على ما حكاه الرافعي وغيره، والأصح على ما حكاه الغزالي في الشرط الخامس من شرائط المبيع.
وإن أراد عند فقد النية فهو موافق للمذهب، ويكون توجيه الوجه القائل بالصحة في لفظ التمليك على هذا: إقامة ذكر العوض مقام النية، وله التفات على أن الخلع إذا جعلناه صريحاً في الطلاق فهل مأخذ الصراحة فيه ذكر العوض أو كثرة استعماله لإرادة الفراق؟ وفيه خلاف في موضعه فإن قلنا: مأخذ الصراحة فيه ذكر العوض فيكون لفظ التمليك صريحاً أيضاً لوجوده، وهو قصد كلام الشيخ وابن الصباغ حيث قرناه بلفظ البيع وهو ما صرح به المتولي.
ويتجه جريانه في قوله: "خذه بكذا" أو: "جعلناه لك بكذا"، فيكون صورة الكناية التي أجرى فيها الخلاف ما إذا قال:"خذه"، ولم يذكر عوضاً، لكن نواه، وكذلك صورها مجلي فيما إذا قال: ملكتك ونوى العوض، وإن قلنا: مأخذ الصراحة، ثم كثرة الاستعمال فالكثرة لم توجد هاهنا [ولا نية] فلا ينعقد به البيع.
قال: ويقول المشتري: قبلت- أي البيع- أو ابتعت وما أشبهه أي مثل قوله: "تملكت"، و"اشتريت"، و"أخذته"، وغير ذلك مما هو في معناه، وهذا هو القبول وضابطه: كل لفظ يدل على التملك.
وفي "النهاية": أن القبول على الحقيقة ما لا يتأتى الابتداء به مثل قوله: "قبلت"، فأما ما يتأتى الابتداء به مثل قوله:"ابتعت"، وما بعده فذاك قائم مقام القبول.
ولو قال: "قبلت"، ولم يقل "البيع"، صح على الأصح، وفيه وجه حكاه الرافعي في كتاب النكاح؛ أنه لا يصح كما في النكاح على قول.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول البائع: "بعت"، فيقول المشتري:"اشتريت"، أو يقول المشتري:"اشتريت" أو "ابتعت"، ثم يقول البائع:"بعت"، ولا بين أن يتفق اللفظ كما ذكرناه أو يختل، مثل أن يقول:"بعتك"، فيقول:"ملكت"؛ لأن المعنى الواحد.
ثم يشترط توافق الإيجاب مع القبول في العدد والنقد والحلول والأجل، وفيما إذا قال:"بعتك بألف"، فقال: اشتريت بألف وخمسمائة"، أو قال: "اشتريت منك بألف"، قال: "بعتك بخمسمائة"- وجه: أنه يصح حكاه في الأول الرافعي وفي الثاني الغزالي في الخلع.
ويشترط أيضاً: ألا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول، وألا يتخللهما كلام أجنبي عن العقد، فإن طال أو تخلل لم ينعقد، كذا حكاه الرافعي هنا، وحكى في كتاب النكاح عن أبي سعد الهروي أنه نقل عن العراقيين من أصحابنا الاكتفاء بوقوع القبول في مجلس الإيجاب، وقالوا: حكم نهاية المجلس حكم بدايته.
وحكى في باب الاستثناء من كتاب الطلاق: أن الكلام اليسير لا يقطع الاتصال بين الإيجاب والقبول على الأصح.
قلت: ويتجه جريان مثل ذلك هاهنا.
ويشترط أيضاً: أن يكون الجواب ممن صدر معه الخطاب، فلو مات المشتري بعد
الخطاب ووارثه حاضر، فَقَبِلَ، فالأصح أنه لا ينعقد.
تنبيه: قول الشيخ في صدر الفصل: "وهو أن يقول: "بعتك" .. ". إلى آخره فيه دلالة ظاهرة على أن البيع لا ينعقد بالكتابة مع النية، لا في طرف الإيجاب ولا في طرف القبول؛ لأنها ليست بقول، وكذا لا ينعقد فيما إذا قال: بعت من فلان وأرسل إليه رسولاً، فأخبره بذلك وقبل؛ لانعدام الخطاب الذي اعتبره بقوله:"بعتك"، وهو ما جزم به القاضي الحسين في "كتاب الطلاق" وفي كل من الصورتين [خلاف] بين الأصحاب، لكن الخلاف في الكتابة مبني على أن الطلاق هل يقع بها أم لا؟ فإن لم نوقع الطلاق فالبيع أولى، وإن أوقعناه ففي البيع وجهان.
وأصحهما في "تعليق" القاضي الحسين في "كتاب الطلاق": عدم الانعقاد.
وفي "النهاية" في "كتاب الوكالة" أن الصحيح إقامة الكتابة في حال الغيبة مقام النطق في الحضرة وسيأتي في "كتاب الطلاق": حكاية وجه في أن نفس الكتابة بصريح الطلاق [صريح في الطلاق]، ويتجه جريان مثله هاهنا، إذا قلنا: ينعقد بالكتابة مع النية.
إذا عرفت ذلك فهمت من كلام الشيخ أنه لا يرى انعقاد البيع بالكتابة؛ لأن الكتابة كناية، وقد بينا أنها تخرج من كلام الشيخ وأن الظاهر خلافه.
قال: فإن قال المشتري: بعني فقال: بعتك انعقد البيع أي: من غير احتياج إلى أن يقول ثانياً: "ابتعت"؛ لأن المقصود وجود لفظ دال على الرضا بموجب العقد وقد حصل، فصح به كالنكاح.
وفي "الوسيط" حكاية قول على ما حكاه في النكاح، ووجه على ما حكاه في البيع: أنه لا ينعقد.
وقال في "الوجيز": إنه الأصح؛ لأن قوله: "بعني" مما يذكر لاستبانة الرغبة، فينوب عن قوله:"أتبيعني" ويخالف النكاح فإنه لا يجري مصافقة في الغالب، فتكون الرغبة معلومة من قبل فيتعين قوله زوجني استدعاء جزماً، والأول هو الراجح عند الجمهور والمجزوم به في "مجموع المحاملي" و"الشامل".
وقال في "الوسيط": إنه أقيس، وعليه ينبني ما لو قال: بعني، فقال: قد فعلت ذلك،
أو نعم فإنه يصح، على ما حكاه الرافعي في كتاب النكاح.
ولو قال: اشتر مني، ففي "التهذيب": أنه كما لو قال: بعني. وفي "الحاوي": أنه لا ينعقد به.
والفرق: أن المشتري إنما يراد من جهته [القبول مجيباً] كقوله بعد قول البائع: "بعتك"-: "اشتريت"، أو الطلب مبتدئاً، كقوله ابتداء:"اشتريت منك"، ولفظ "بعني" موضوع للطلب، وقد وجد ما هو للطلب من جهته، والمطلوب من جهة البائع البدل مبتدئاً كقوله: بعتك والإيجاب مجيباً، كقوله بعد قول المشتري: اشتريت: بعتك.
وقوله: اشتر مني، لم يوضع للبدل ولا للإيجاب فلم يحصل من جهته المطلوب منه.
وبنى على ذلك: ما لو باع عبداً [بعبد] وعقد البيع بلفظ الأمر، فإن قال أحدهما:"بعني عبدك بعبدي"، فقال:"بعتك"، صح البيع، وإن قال:"اشتر مني عبدي هذا بعبدك هذا" لم يصح.
فروع:
لو قال البائع: بعتك بألف: أفقبلت؟ فقال: نعم، [أو قال: بعتك بألف، فقال: نعم] انعقد البيع حكاه الرافعي في كتاب النكاح.
وفي "النهاية" في كتاب الإقررا أن قول المشتري: "نعم" لا يكون قبولاً.
ولو قال: بعتك بألف إن شئت، فقال: شئت، لم ينعقد.
وفي "التتمة" عند الكلام في نية الوضوء والتبرد، أنه يصح.
ولو قال: اشتريت، فوجهان، أظهرهما، وهو اختيار القاضي الحسين وبه أجاب [القاضي] أبو الطيب، وابن الصباغ في كتاب الإقرار: أنه ينعقد.
ولو قال الطالب: اشتريت منك هذا بألف إن شئت، فقال: بعته منك إن شئت.
قال الإمام في كتاب "الإقرار": الذي يجب القطع به أنه لا ينعقد فإن الموجب علق الإيجاب بالمشيئة بعد سبق التعليق، والتعليق يقتضي وجود شيء بعده، فلو قال القائل مرة أخرى: اشتريت أو قبلت، قال: فالذي يظهر عندي أن البيع لا يصح على قياس القاضي أيضاً، فإنه يبعد حمل المشيئة على استدعاء القبول، وقد سبق فتعين حمله على المشيئة نفسها، وإذا حمل على ذلك كان تعليقاً محققا، والتعليق يبطل البيع.
ولو قال المتوسط لبائع المتاع: بعت بكذا؟ فقال: نعم. أو بعت وقال للمشتري: اشتريت بكذا فقال: نعم أو اشتريت، فهل ينعقد البيع؟ فيه وجهان:
المذكور منهما في "التتمة" وفي "النهاية" في كتاب "الإقرار" وفي "الوسيط": في كتاب الطلاق: [عدم] الانعقاد، وادعى القاضي الحسين في كتاب الوكالة: أنه ظاهر المذهب.
[و] قال الرافعي: إن أظهرهما على ما دل عليه إيراد صاحب "التهذيب" والروياني: الانعقاد، وهو ما جزم به الماوردي.
ولو فسخ البيع ثم قال البائع للمشتري: أقررتك على ما مضى، فقال: قبلت، هل يصح؟
فيه وجهان ذكرهما الغزالي في أواخر القراض.
قال: وإذا انعقد [البيع] ثبت لهما الخيار ما لم يتفرقا أو يتخايرا لما روى البخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه. اختر"، والمراد بالمتبايعين هاهنا: من صدر منهما البيع لا المتساومين؛
لأنه قد جاء في بعض طرق الحديث من اشترى شيئاً فوجب له فهو بالخيار إلى أن يفارقه صاحبه و [المراد] بالتفرق: أن يتفرقا بالأبدان عن مجلسهما الذي تبايعا فيه لا في الأقوال على المذهب؛ لأنه جاء في بعض طرق الحديث أيضاً "ما لم يتفرقا عن مكانهما الذي تبايعا فيه" وروى عن ابن عمر أنه كان إذا باع بيعاً مشى أذرعاً، وهو راوي الحديث، وأعرف بتفسيره وقد قال ابن سلمة: وهو من أهل اللغة: العرب تقول: افترقا بالأقوال وتفرقا بالأجسام.
وفي زوائد العمراني حكاية وجه عن الفروع: أن الخيار ينقطع إذا شرعا في أمر آخر، وأعرضا عن أمر العقد، وطال الفصل.
والمذهب الأول لما ذكرناه.
ثم الرجوع فيما يحصل به التفرق إلى العرف، فإن الشرع علق عليه حكماً، ولم يبينه ولا له لفظ يحصره من حيث اللغة، فيرجع فيه إلى العرف كالحرز في السرقة، ثم ذلك يختلف باختلاف الأماكن فإن كانا في دار صغيرة، أو سفينة صغيرة، فالتفرق أن يخرج أحدهما.
ولو كانا قريبين من الباب فخرج أحدهما، ومشى خطوتين مثلاً، حصل التفرق أيضاً على الظاهر عند الإمام.
وإن كانت الدار كبيرة فيصعد السطح، أو يدخل من صحنها إلى صفة أخرى، أو يخرج إلى دهليزها.
وفي السفينة الكبيرة يصعد أحدهما إلى أعلاها، ويبقى الآخر في أسفلها وإن كانا في صحراء فالمعتبر أن يصير إلى مكان، لو أراد التخاطب لافتقر إلى رفع الصوت رفعاً يزيد على المعتاد.
وضبط الشيخ في "المهذب" التفرق من غير [تعرض إلى ما] ذكرناه من الأحوال بأن: يتفرقا إلى موضع لو كلم أحدهما صاحبه على العادة لم يسمع كلامه.
وحكى ابن الصباغ هذا الضابط عن الإصطخري.
وفي الجيلي [أنه قيل:] إن ضابطه أن يبعد أحدهما عن الآخر عشرة أذرع.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا مشى أحدهما وتبعه الآخر وكان بينهما قدر ما بين الصفين لم يحصل التفرق، وإن كان أكثر من ذلك حصل التفرق، وهذا يشعر بأن انلتفرق يحصل بما إذا مشى أحدهما ولم يتبعه الآخر وكان بينهما أكثر مما بين الصفين ثم هو مفرع أيضاً على أنهما إذا اصطحبا إلى مجلس آخر أن الخيار لا ينقطع، وهو الصحيح أما إذا قلنا إنه ينقطع على ما حكاه العمراني في زوائده، فلا فرق أن يكون بينهما قدر ما بين الصفين أو أكثر.
وهل يحصل ببناء جدار؟ أطلق بعضهم فيه وجهين، وأصحهما عدم الحصول، وهو المذكور في "الحاوي".
وفصل بعضهم فقال: إن كان بجعل أحدهما بغير إذن الثاني فهو كما لو هرب، وإن كان الجاعل غيرهما فهو كما لو حمل أحدهما، ومساق كلامه يقتضي أنه إذا كان بإذنهما أنه يحصل.
ثم ما ذكرنا أن التفريق يحصل به فذاك إذا كان في حال العقل والاختيار، وسواء فيه حالة الذكر والنسيان، وأما إذا فارق أحدهما المجلس في حال جنونه فهل يحصل به التفرق؟ يبني على أن الجنون هل يقطع الخيار أم لا؟ والمذهب:[أنه] لا يقطع، وادعى الإمام فيه الاتفاق، فيقوم وليه [فيه] مقامه، ويفعل ما فيه المصلحة.
وفيه وجه مخرج من الموت: أنه ينقطع. فإن فرعنا عليه لم يحتج إلى التفرق، وإن فرعنا على المذهب، قال الإمام: فيه احتمال يلاحظ إخراج أحد المتعاقدين عن مجلس العقد، ويجوز أن يقال: لا يحصل؛ لأن التصرف انقلب إلى الولي، ويعارضه أنه لو كان كذلك لكان الجنون كالموت.
ولو أكره أحدهما على الخروج وترك التخاير بأن سد فاه فهل ينقطع خياره؟ فيه وجهان.
أصحهما: لا ينقطع، وهو المذكور في "الشامل" وادعى المحاملي فيه نفي الخلاف.
وإن لم يسد فاه بل أكره على الخروج فقط، ففيه طريقان:
أحدهما القطع بانقطاع خياره.
والثاني: طرد الوجهين.
وهذا ما يوجد في طريق العراق، والمذهب منهما على ما حكاه المحاملي، والبندنيجي بقاؤه فإن قلنا: يبطل خيار المكره فيبطل خيار الباقي.
وإن قلنا: لا يبطل خيار المكره فله التصرف بالفسخ والإجازة.
وإذا وجد التمكين: فهل يكون على الفور؟ فيه خلاف.
فإن قلنا: بعدم الفورية وكان مستقراً في المجلس امتد الخيار امتداد المجلس، وإن كان ماشياً انتهى الخيار بمفارقته مكان التمكن وهل يبطل خيار الباقي؟ ننظر: فإن ضبط حتى لا يساوق المخرج، فلا يبطل خياره إذ تحقق الإكراه في حقه كما تحقق في حق المكره، وإن كان يمكنه أن يساوقه فلم يفعل فذاك منه بمثابة إجازته للعقد مع دوام المجلس، وفيه خلاف سيأتي.
ثم لا فرق عند الغزالي بين أن يحمل مكرهاً [ويخرج]، وبين أن يكره حتى يخرج بنفسه؛ لأن هذا حكم منوط بصورة المفارقة.
وجزم في "التهذيب" بأنهما إذا حملا أو أحدهما والآخر لا يمكنه أن يتبعه لا يبطل خيارهما، وإن أكرها حتى تفرقا بأنفسهما، فهل يبطل خيارهما؟ فيه الخلاف المذكور من قبل ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر لزم العقد عند ابن الصباغ.
وفي الرافعي: أن هذا فيما إذا أمكنه أن يتابعه أما إذا لم يتمكن من المتابعة ففي "التهذيب": أنه يبطل خيار الهارب دون الآخر.
وعلى الأول: هل يعصي الهارب؟ نقل ابن التلمساني أن بعض أصحابنا قال: بعصيانه لإبطاله على صاحبه حقاً لازماً.
ولا فرق في دوام الخيار ببقاء المجلس بين أن تزيد مدة المقام على ثلاثة أيام أو لا تزيد.
وفي "الوسيط"، حكاية وجه لطيف: أنه ينقضي بثلاثة أيام.
فروع:
أحدها: إذا تبايعا في موضع لو انتهى إليه أحدهما بطل الخيار، هل يثبت فيه الخيار؟ قال الإمام: يحتمل أن يقال لا خيار؛ لأن التفرق الطارئ قاطع للخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما، وهذا ما أورده المتولي ثم قال: إذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أو يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان.
الثاني: إذا مات أحد المتعاقدين قبل التفرق فالنص أنه ينتقل إلى وارثه، والنص فيما إذا مات المكاتب أن العقد يجب، فمن الأصحاب من خرجهما على قولين: وأصحهما: أنه يثبت للوارث والسيد.
وبعضهم قطع بهذا القول.
وبعضهم أقر النصين، وفرق بأن الوارث خليفة الموروث فيقوم مقامه، والسيد ليس خليفة للمكاتب وإنما يأخذ ما يأخذه بحق الملك.
وحكم العبد المأذون إذا باع أو اشترى ثم مات حكم المكاتب.
ثم حيث قلنا: إن الخيار لا يثبت للوارث، فلا يثبت للحي أيضاً على ما حكاه الإمام، وفي "التهذيب": أنه لا يسقط حتى يفارق ذلك المجلس.
وحيث أثبتناه للوارث، فإن كان حاضراً بالمجلس امتد الخيار حتى يتفرق هو والعاقد الآخر، أو يتخايرا. وكذا إذا كانوا جماعة، ولا ينقطع الخيار بمفارقة بعضهم على الأصح، وهو ما حكاه ابن الصباغ بخلاف ما إذا فسخ أحدهم، فإنه ينفسخ العقد في حق الكل على الأصح؛ كما لو فسخ المورث العقد في بعض المبيع [وأجاز في بعض].
ولو اختار بعضهم فسخ البيع في نصيبه وبعضهم الإجازة في نصيبه، قال مجلي: لم يكن لهم ذلك وجهاً واحداً.
وفي "الحاوي": حكاية وجه أنه يجوز لكل واحد منهم أن ينفرد برد حصته دون
شركائه؛ لأنه يرد جميع ما استحقه بالعقد فصاروا في حكم المشترين صفقة واحدة.
وإن كان غائباً ثبت له الخيار إذا وصل الخبر إليه على الأصح. وفي "الشامل": أنه حكى عن بعض أصحابنا أنه قال: يثبت له الخيار إذا نظر إلى السلعة ليعرف الحظ في الفسخ أو الإجازة.
وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أنه إنما يثبت إذا اجتمع مع العاقد في مجلس واحد ثم هو على الفور أو يتقيد بمفارقة موضعه، أو يحتاج أن يصير إلى موضع يتعذر عليه سماع المخاطبة على الاعتياد فيه خلاف.
ولو كان الوارث أكثر من واحد، قال في "التتمة": إن قلنا: في حق الواحد يثبت له الخيار في مجلس مشاهدة المبيع، فإذا اجتمعوا في مجلس ثبت لهم الخيار، وإن قلنا: خياره إذا حضر مع العاقد في مجلس فهاهنا خيارهم إذا اجتمعوا معه في مجلس وأما الحي فيدوم خياره إلى أن ينقطع خيار الوارث، وقيل: لا يتصرف قبل بلوغ الخبر إلى الوارث وقيل: يتأخر خياره إلى أن يجتمع مع الوارث في مجلس، حكاه المتولي مع وجه آخر أنه يدوم ما دام في مجلسه، فإذا قام بطل وفي شرح ابن التلمساني: حكاية وجه آخر: أنه يكون على الفور، فإن فسخ انفسخ وإلا لزم.
الثالث: الوكيل في البيع إذا عقد بحضرة الموكل، فالخيار يتعلق بالوكيل، وينتهي بمفارقته، قال الإمام: ويجب القطع بأنه لا ينفذ فسخ الموكل وإجازته، فإنه لا تعلق له بالمجلس وكذا قاله في "الوسيط"، وزاد عليه أن الموكل إذا كان في المجلس وحجر على الوكيل في الخيار.
فإن قلنا: عليه الامتثال رجع حقيقة الخيار للموكل، وإن قلنا: لا يمتثل فإنه من لوازم السبب السابق كان بعيداً أيضاً.
وفيه تأمل للناظر، وفي هذه العبارة قلق؛ لأنها توهم تردداً في امتثال الوكيل أمر الموكل، وليس كذلك، بل المراد استشكال ما قاله الأصحاب من ثبوت الخيار للوكيل دون الموكل؛ ولأنه لو حجر على وكيله في الفسخ والإجازة، فإما أن يجب على الوكيل الامتثال أو لا، إن أوجبناه رجع الخيار إلى الموكل حتى إذا أمره بالفسخ فسخ، وإذا أمره بالإجازة أجاز، وإن لم نوجبه كان بعيداً عن حقائق الوكالات، فإنها
مبنية على وجوب الامتثال ومتابعة الموكلين فيما يرونه من زيادة أو نقصان، فكيف يخالف أمره هاهنا ولا يتابعه على ما يعتقده مصلحة، والمصير إلى هذا فيه نظر فليتأمل ولأجل ذلك، حكى بعض الأصحاب أن الاعتبار بمجلس الموكل، على ما حكاه الرافعي وسأذكر في أواخر باب اللقطة عن الماوردي ما يقتضي الجزم بثبوت الخيار للموكل.
فإن فرعنا على المذهب فمات الوكيل قبل التفرق، هل ينتقل الخيار إلى الموكل؟ المذهب أنه لا ينتقل.
وفيه وجه ألا يقوم مقامه؛ لأن المجلس تعلق بالوكيل، وليس الموكل وارثاً له، كذا قاله ابن الصباغ.
قال: وهو أن يقولا: اخترنا إمضاء البيع؛ لأن التخاير تفاعل كالتخاصم والتضارب وذلك لابد فيه من اثنين وقد يستعمل حيث لا تعدد، كقولك: طارقت النعل، وهذا متعذر هنا؛ لأن المقصود بالخيار دفع الغبن فلو اكتفي باختيار أحدهما الإمضاء في لزوم العقد لم يعجز الغابن عن المبادرة إلى الإمضاء وذلك يسقط ثمرة الخيار.
على أن فيه وجهاً حكاه [المتولي وأشار إليه] الإمام عند الكلام في الإكراه على التفرق أنه يكتفي بقول أحدهما: اخترت [حتى يسقط خيار الآخر؛ لأن المخير ينقطع خياره بقوله: اخترت] إمضاء العقد وخيار المجلس لا يتبعض في الثبوت فلا يتبعض في السقوط.
وهذا التعليل يمكن أن يعكس فيقال: لا ينقطع خيار الساكت؛ لأنه لم يجر منه ما يدل على الرضا؛ فوجب أن يبقى خيار المتكلم أيضاً؛ لأن خيار المجلس لا يتبعض في الثبوت فلا يتبعض في السقوط.
وقد حكاه الإمام وجهاً أيضاً، فتحصل من مجموع النقلين ثلاثة أوجه: ثالثها: ينقطع خيار المتكلم دون الساكت وهو الأصح.
ويقوم مقام قولهما: اخترنا إمضاء البيع قولهما: اخترنا العقد أو ألزمناه أو تخايرنا وإشارتهما بذلك إذا كانا أخرسين، والإشارة مفهمة.
وكذا لو قالا: قطعنا الخيار أو رفعناه، ولو قالا: أبطلنا الخيار أو أفسدناه ففيه وجهان عن روايه الشيخ أبي محمد.
ولو قال أحدهما لصاحبه: اختر، فقال: اخترت. قام مقام قولهما: اخترنا إمضاء العقد، أما إذا سكت فلا ينقطع خياره، وينقطع خيار القائل على الأصح في "التهذيب" وغيره، وهو ظاهر المذهب في "الشامل".
واعلم أنه يوجد في بعض النسخ أصلاً، وبعضها ملحقاً في تفسير التخاير: وهو أن يقولا: اخترنا إمضاء البيع أو فسخه.
وهذه الزيادة غير صحيحة من جهة النقل والفقه؛ أما النقل فلأن الموجود في النسخ العتق وما عليه خط المصنف منها ويوجبه [ابن الخل] ما اقتصرت على ذكره أولاً من غير ذكر الفسخ.
وأما الفقه: فقد اتفق الأصحاب على أن الفسخ ينفذ إذا صدر من أحدهما، ولو اعتبر فيه توافقهما لم يعجز الغابن عن عدم الموافقة حتى يلزم العقد وتبطل فائدة الخيار.
وما نقل عن الشيخ يقتضي اعتباره؛ لأنه معطوف على قوله: اخترنا إمضاء البيع، والمعطوف شريك المعطوف عليه، فيكون تقديره: أو اخترنا فسخه.
وأجاب عن ذلك الحموي؛ لاعتقاده صحة ذلك وتوهمه كمن أثبت هذه الزيادة، أن الشيخ أراد بيان الحالة التي ينقطع فيها الخيار مع بقاء العقد ومع فسخه، فقال: مراد الشيخ بقوله: "أو فسخه" بطريق البدل إما بأن يفسخ البائع أو المشتري بطريق الصلاحية لكل واحد منهما ولم يرد بطريق الاستقلال؛ ولهذا لو زاد مع قوله: "اخترنا فسخه": "بطريق البدل" لكان جائز الاستعمال بطريق المجاز.
وما قاله صدر كلام الشيخ يأباه، وهو قوله:"أو يتخايرا"، وقد ذكرنا أن التخاير
تفاعل لابد فيه من اثنين.
والأقرب في الجواب- إن صح هذا أن الشيخ لم يرد بقوله: "اخترنا إمضاء البيع أو فسخه أن يقع منهما هذا القول على هذا النسق، لاتفاق الأصحاب على أن ذلك ليس بشرط، بل المراد: أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر إمضاء العقد أو فسخه، فيقول الآخر: اخترت إمضاء العقد أو فسخه، كما ذكره في "المهذب"، ويكون الأول بتفويضه للآخر الإمضاء والفسخ، كأنه قائلاً عند نطق الآخر بالإمضاء: أمضيت، وعند نطقه بالفسخ: فسخت؛ لرضاه بما يقوله، فالقول صادر من أحدهما بالصريح ومن الآخر في ضمن تخييره لصاحبه. لكن الصحيح ما ذكرته أولاً فلا حاجة إلى هذا التعسف وما توهمه من توهمه كما ذكرته فغير صحيح؛ لأن قوله: "ما لم يتفرقا" بيان لانتهاء مدة الخيار مع بقاء ما أوجبه، وهو العقد فليكن المراد بالتخاير مثل ذلك، ولهذا حسن الإتيان بـ"أو" وإلا فكل واحد يعلم أن الشيء إذا رفع أصله الذي شرط وجوده بقاؤه لا يبقى، والله أعلم.
تنبيه: كلام الشيخ يقتضي [ثبوت] هذا الخيار في كل بيع صدر من متعاقدين، سواء كان المبيع ممن يعتق على المشتري لقرابته أو لشرائه لنفسه، أو لشهادته بعتقه ولم تسمع شهادته لمانع إذا جعلناه بيعاً، [أولاً] ايعتق عليه، وسواء كان المبيع حاضراً أو لا يبقى، كالجمد في شدة الحر، ويقتضي عدم الثبوت فيما إذا كان العاقد واحداً، وفي كل من ذلك خلاف في الطرق لا غنى عن ذكره.
فنقول: إذا اشترى قريبه الذي يعتق عليه صح شراؤه بالاتفاق وهل يثبت فيه الخيار؟ الذي ذهب إليه الأكثرون أنه يثبت للبائع، وفي ثبوته للمشتري خلاف مبني على أقوال الملك.
فإذا قلنا: إن الملك للبائع أو موقوف ثبت له أيضاً، وإن قلنا: إنه للمشتري لم يثبت على الصحيح.
وفي "الحاوي": حكاية وجه أنه يثبت أيضاً.
وقال صاحب "التهذيب": يحتمل أن يثبت له إذا قلنا: إنه لا يعتق إلا بانقضاء الخيار، وهو ظاهر المذهب.
ثم متى يحكم بالعتق؟ الحكم فيه كالحكم فيما إذا أعتق المشتري العبد المشتري في زمن الخيار
ووسنذكره؛ كذا قاله [ابن الحداد] وابن الصباغ.
والذي حكاه الإمام والفوارني وتابعهما الغزالي: أنه لا يثبت للمشتري على المذهب المشهور، وأن الأودني قال: بثبوته.
وزاد الإمام في الحكاية عنه: أن المشتري لو فسخ في المجلس انفسخ، ولو أعتقه أو ألزم العقد كما لو اشترى عبداً لا يعتق عليه وتمسك [في ذلك] بعموم قوله صلى الله عليه وسلم "المتبايعان بالخيار"، وبقوله صلى الله عليه وسلم كما خرجه مسلم وغيره:"لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه".
وقال: هذا ظاهر في إثبات إنشاء إعتاق بعد العقد، وأنا إذا قلنا: بأنه لا خيار للمشتري، فلا خيار للبائع أيضاً.
وحكى في كتاب الإقرار: أن العراقيين ذكروا وجهاً بعيداً أنه يثبت له دون
المشتري، ومساق ما حكاه عن الأودني: أن العتق لا يحصل إلا بإنشائه إياه. وإن قلنا: إن الملك له.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الأودني استدل بالحديث على أن الملك في زمان الخيار للبائع إذا كان الخيار للمشتري وحده وأنه إذا أعتقه يصح؛ لأنا لو قلنا: الملك للمشتري لم يصح عتقه؛ لأنه يعتق عليه بنفس الملك ومساق هذا يقتضي أن الخيار إذا انقضى حصل العتق عند الأودني من غير إنشاء إعتاق. والله أعلم.
وإذا اشترى العبد نفسه صح الشراء على الأصح، وهل يثبت فيه الخيار؟
قال القاضي الحسين في التعليق: حكمه حكم البيع.
وفيه وجه: أنه لا يثبت، كما لو أعتقه على مال، وهذا ما حكاه في "الإبانة"، والإمام في باب الإقرار.
وقال في كتاب الكتابة: الوجه تنزيل ذلك منزلة ما لو اشترى الإنسان من يعتق عليه حتى يخرج الكلام في أن خيار المجلس هل يثبت؟ وهل يقع فيه شرط الخيار؟ وحكي أن الشيخ أبا علي حكى عن الأصحاب أنهم خرجوا عتق العبد على ما إذا اشترى الإنسان عبداً ثم أعتقه في زمان الخيار. وإذا شهد بعتق عبد ثم اشتراه صح العقد في الظاهر؟ لكن هل هو بيع أو فداء؟ أو بيع من جانب البائع فداء من جانب المشتري؟
فيه ثلاثة أوجه:
أصحها: ثالثها، وأضعفها ثانيها، فإن جعلناه بيعاً من الجانبين ثبت للبائع والمشتري الخيار. وإن جعلناه بيعاً من جانب البائع ثبت له دون المشتري، وإن جعلناه فداء من الجانبين فلا خيار لواحد منهما، كذا حكاه الرافعي، وحكى الإمام عن القاضي الجزم بأن الخيار لا يثبت للمشتري، وإن أثبتناه في شراء القريب؛ لأن العقد على القريب يتضمن ملكاً ثم يترتب على حصول الملك العتق وليس كذلك ما نحن فيه، فإنا لا نقضي بحصول الملك للمشتري أصلاً، وإذا لم يثبت الخيار للمشتري، فهل يثبت للبائع؟ فيه وجهان.
وإذا اشترى ما لم يره وصححناه فهل يثبت فيه الخيار؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يثبت، ففي وقته أربعة أوجه: أحدها: وقت الرؤية، وهو أبعدها، والثاني: وقت العقد، وهو أصحها، والثالث: يثبت وقت العقد للبائع وحده، قال الإمام: وهو أمثل من الأول، والرابع: يثبت للبائع وحده [وقت] الرؤية.
وإذا اشترى الجمد في شدة الحر، ففي ثبوت الخيار فيه وجهان يقربان من الوجهين في ثبوته في إجارة العين.
وإذا اشترى من ولده الصغير لنفسه شيئاً أو بالعكس صح، وهل يثبت فيه الخيار؟ فيه وجهان:
المذكور منهما في "الشامل" و"التهذيب": الثبوت، ثم بماذا ينقطع؟ فيه وجهان: أصحهما في "التهذيب" ولم يذكر في "الشامل" سواه: أنه ينقطع بمفارقته مجلس العقد، ونسبه الماوردي إلى أبي إسحاق، والثاني لا ينقطع إلا بالفسخ أو الإجازة، قال الماوردي: وهو الذي عليه جمهور الأصحاب ويجري فيه الوجه الذي حكيناه من قبل أن نهايته ثلاثة أيام.
فروع:
إذا جاء المتعاقدان معاً، فقال أحدهما: تفرقنا بعد البيع فلزم، وأنكر الثاني وأراد الفسخ، فالقول قوله مع يمينه.
ولو اتفقا على التفرق، وقال أحدهما: فسخت قبله، وأنكر الآخر، فالقول قول املنكر مع يمينه، وعن صاحب "التقريب": أن القول قول من يدعى الفسخ. وهما مذكوران في تعليق أبي الطيب في باب التحالف عن رواية أبي علي في الإفصاح، والذي صححه الماوردي منهما في باب الربا الثاني.
ولو توافقا على عدم التفرق وتنازعا هكذا، ففي "التهذيب" أن دعوى مدعي الفسخ فسخ بالشرع.
قال: وإن تبايعا على ألا خيار لهما يعني خيار المجلس- لم يصح العقد؛
لأنه خيار ثابت، فإذا شرطا نفيه فقد شرطا ما ينافي مقتضى العقد، فأبطله كشرط عدم التسليم وهذا هو الأصح في "التهذيب"، والرافعي، وبه جزم بعضهم.
قال: [و] قيل: يصح، ولا خيار لهما، لقوله صلى الله عليه وسلم:"المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" فاستثنى بيع الخيار، وهو استثناء من إثبات فيكون نفياً، ويكون التقدير: إلا بيعاً شرط فيه نفي الخيار؛ ولأن فيه نوع غرر، [لأنه يمنع] مقصود العقد، والشرع أثبته رفقاً بالمتعاقدين، فإذا أسقطاه سقط؛ لأن الحق لهما ولا يعدوهما، وهذا ما نص عليه البويطي في القديم.
ومن قال بالأول، أول الحديث بما قال الشافعي: أنه أظهر التأويلين، وهو أنه أراد بيعا قطع فيه الخيار وقد فسره في الحديث الآخر، وهو قوله:"أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، وأجاب عن قولهم: إنه غرر، بأنه: مقتضى العقد فيثبت كيف كان.
قال: وقيل: يصح؛ لما قلناه، ويثبت لهما الخيار؛ لأنه خيار ثبت بعد تمام البيع، فلا يجوز إسقاطه قبل تمام البيع كخيار الشفيع.
واحترزنا بقولنا: بعد تمام البيع، من خيارهما بعد الإيجاب وقبل القبول، والقائل بسقوط الخيار يمكن أن يفرق بينه وبين الشفعة بأن الشرط إنما يؤثر على الأصح إذا اقترن بالعقد، وإذا اقترن بالعقد فقد وجد بعد سبب الوجوب فأقمناه مقام الوجوب، وفي مسألة الشفعة وجد إسقاط الحق قبل ثبوته وسبب ثبوته، فلم يوجد ما يمكن أن يسند المنع إليه.
ونظير هذه المسألة: ما إذا وقع البيع بشرط البراءة من العيوب، أو بشرط نفي خيار الرؤية، إذا صححنا بيع ما لم ير، لكن القول بالفساد في نفي خيار الرؤية قطع به الأكثرون.
فرع: لو قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، فباعه بشرط أن لا خيار بينهما، فهل يعتق؟ بناه الأصحاب على الأقوال المتقدمة.
فإن قلنا: إن البيع باطل، لم يعتق وكذا إن قلنا: إنه يصح ولا خيار، وإن قلنا: بثبوت الخيار عتق؛ لأنه لو نجز عتقه في خيار المجلس نفذ، فكذلك إذا وجدت الصفة فيه.
قلت: وفي حصول العتق، إذاقلنا: بأن الملك للمشتري نظر لباحث؛ لأنا حيث حكمنا بنفوذ عتقه المنجز في زمن الخيار، قدرناه بالعتق فاسخاً للعقد قبيله، وأن العتق وقع في ملكه ضرورة توقف صحته على وقوعه في الملك، وفي مسألة التعليق لم يصدر منه بعد العقد ما يقتضي الفسخ ولا ما يتضمنه، والتعليق لا يصلح متضمناً للفسخ؛ لكونه صدر قبل البيع، والفسخ لا يقبل التعليق والله أعلم.
[وجوابه ما قاله القاضي حسين في كتاب الزكاة: حيث حكى نفوذ العتق عن نص الشافعي، وكذلك غيره: أنا نسلم أن الفسخ لا يقبل التعليق قصداً، لكن نقول: قد يقبله ضمناً كالإبراء. فأما ما لا يقبل التعليق قصداً ويقبله ضمناً، وذلك فيما إذا علق عتق المكاتب فأما [ما] يضمنه الإبراء عن النجوم عند وجود الصفة حتى يبيعه إكسابه ولو لم يضمنه الإبراء لكان عتقه غير واقع عنها، فلا يستتبع الإكساب.
وهذا الجواب فيه نظر أيضاً: لأنه في مسألتنا علق الشيء قبل ملكه له، وقاعدتنا: أن من لا يملك الشيء لا يملك تعليقه.
وفي مسألة الإبراء: التعليق وجد بعد الملك له.
ومما يشابه مسألة الكتابة: إذا أسلم الزوج على أكثر من أربع، فقال: من دخلت الدار فهي طالق فدخلت واحدة، طلقت، وكان ذلك اختياراً للزوجية فيها.
ولو قال: من دخلت الدار فهي مختارة، لم يصح، فظهر أنه يغتفر في التعليق الضمني ولا يغتفر في المقصود والله أعلم].
قال: وإن تبايعا بشرط الخيار إلى ثلاثة أيام فما دونها جاز. الأصل في صحة شرط الخيار للمتعاقدين: الإجماع، وفي جوازه ثلاثة أيام ما روى مسلم وأبو داود عن محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدي قد بلغ مائة وثلاثين سنة، وما زال يخدع،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بايعته فقل: لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثاً".
وزاد البخاري في تاريخه بعد قوله: "فقل: لا خلابة، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال".
وحكى الإمام: أن سبب ضعفه ما أصابه من شجة في رأسه مأمومة.
وكان قد ثقل لسانه لأجل الشجة فكان يقول لا خدابة.
وما روي عن عمر- رضي الله عنه أنه قال: ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ جعل له عهدة ثلاثة أيام، إن رضي أخذ وإن سخط ترك.
وغير ذلك من الأحاديث المذكورة في كتب الفقهاء.
وإذا ثبت جواز شرط الثلاث، فما دونها أولى؛ لأن فيه تخفيفاً للغرر.
وأما الزيادة على الثلاث فلا يجوز اشتراطها؛ لأن ما حد في الشرع بحد فلا بد أن يفيد المنع من الزيادة أو النقصان، ولما لم يفد هذا الحد المنع من النقصان وجب أن يمنع الزيادة.
ولأن الخيار غرر جوز شرطه ثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة والحاجة تدعو إليها في الغالب بخلاف ما فوقها.
ولأن الخيار مخالف لوضع البيع في منع نقل الملك أو لزومه فثبوته حائد عن الوضع فتعين التوقيف فيه، وقد ورد الخبر في إثبات الثلاث فلا مزيد عليها، ولو شرط زيادة عليها بطل العقد.
ويقوم مقام قولهما: "شرطنا خيار الثلاث" قولهما: "لا خلابة"، إذا كانا عالمين بمعناها، وهو اشتراط الخيار ثلاثة أيام وإن كانا جاهلين لم يثبت الخيار، وإن علم البائع دون المشتري ففيه وجهان، عن ابن القطان.
قال مجلي: ويتخرج الوجهان أيضاً إذا كان المشتري عالماً والبائع جاهلاً، وفيما إذا كانا جاهلين [أو أحدهما] وعلى ذلك جرى ابن التلمساني فقال: إن كانا عالمين بمعناها ثبت، وإن كانا جاهلين أو أحدهما فوجهان، وهذا منه فيه نظر: لأنه فسر قوله: "لا خلابة" بمعنى: لا خديعة، وإذا كان هذا معناه لم يلزم من قوله:"لا خلابة" اشتراط الثلاث، وإن كانا عالمين بمعناها؛ إذ لا يلزم من عدم الغبن والخديعة اشتراط الثلاث.
واعلم أن لصحة اشتراط ما دون الثلاث شرطين:
أحدهما: أن يقيده بمدة معلومة فلو لم يقيد بل قال: يكون لنا الخيار وقتا من
النهار أو [وقتاً] من الليل، أو لا ينتهي إلى ثلاثة أيام لم يصح. والعلم تارة يحصل بأن يقال: إلى طلوع الشمس، أو إلى وقت طلوعها من الغد، وإلى غروب الشمس، أو إلى وقت غروبها من الغد.
وخالف الزبيري وقال: التقييد بطلوع الشمس لا يصح.
وتارة بأن يقال: إلى يوم أو ساعة فيصح وإن أطلق؛ لأنه يحمل على اليوم الذي هو فيه كما لو حلف [أنه] لا يكلمه شهراً، ثم ينظر: إن كان العقد نصف النهار ثبت له الخيار إلى أن ينتصف النهار من الغد، والليل يدخل في حكم النهار للضرورة، وإن كان العقد بالليل فلابد أن يشترط الخيار في بقية الليل، كذا قاله في "التتمة" وفيه نظر، من حيث إنه جعل اليوم محمولاً على اليوم الذي هو فيه، وفي نظيره من الإجارة لا يصح، ولم يظهر لي فرق بينهما.
الشرط الثاني: أن يكون متوالياً، فلو قال: على أن يكون لنا الخيار اليوم وبعد غد ويكون العقد لازماً في الغد لم يصح وكذا لو شرطا الخيار [في الغد دون اليوم؛ لأن العقد بعد لزومه لا ينقلب جائزاً بالشرط ولهذا لو شرطا الخيار] ثلاثة أيام ثم أسقط الخيار في اليوم الأول سقط الكل.
ولصحة شرط خيار الثلاث شرط ثالث غير اتصالها بالعقد أو بلزومه، وهو: أن يكون المبيع مما لا يفسد فيها، فلو كان مما يفسد فيها، فهل يصح العقد ويباع عند الإشراف على الفساد أو يبطل العقد؟ فيه وجهان محكيان في البيان عن الفقيه زيد بن عبد الله.
قلت: ويتجه أن يكونا مفرعين على القول بأن خيار المجلس يثبت فيه، وأما إذا قلنا: لا يثبت فيه فخيار الشرط أولى لضعفه، بسبب افتقاره للشرط، وإذا لم يثبت بطل العقد؛ لأنه شرط فاسد انضم إليه.
قال: إلا في الصرف وبيع الطعام بالطعام؛ لأن الشرع اعتبر في ذلك التقابض، ليتمكن من التصرف فيه، وينقطع العلق، والخيار يمنع التصرف ويبقي علقه، فهو مناقض لموضوع الشرع، ولأن ذلك لا يقبل الأجل لما فيه من الغرر، والخيار أحق أن يكون غرراً من الأجل؛ لأنه يمنع الملك أو لزومه فهو أولى بألا يحتمل.
وفي "النهاية": أن الخيار في الحقيقة تأجيل لنقل الملك أو تأجيل لزومه.
والمراد بالصرف: تبايع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة أو أحدهما بالآخر.
قال النووي: وسمي بذلك لصرفه عن مقتضى باقي البيوع، وقيل: لصيرفه، وهو صوته في كفه الميزان، وقال الماوردي: لأن الشرع أوجب على كل واحد مصارفة صاحبه، أي: مصافقته.
تنبيه: قال ابن يونس: واعلم أن هاهنا موضعين آخرين لابد من استثنائهما: السلم، وكل شراء يستعقب العتاقة، فإنه لا يثبت فيه خيار الشرط، ولا خيار المجلس على المذهب الصحيح ووافقه ابن التلمساني على ذلك، وزاد موضعاً ثالثاً وهو: المعاوضة على ما في الذمة حيث يجوز الاعتياض عنه.
وما قالاه غير محتاج إليه؛ لأن السلم بيع دين، وكذا المعاوضة على ما في الذمة؛
وقد بينا في أول الباب أن المراد بالبيع المبوب عليه: بيع الأعيان. وشراء القريب قد بينا أن خيار المجلس ثابت فيه عند الجمهور كما فصلناه.
وخيار الشرط عندهم [كذلك] كما أشار إليه الرافعي بقوله: "والقول الجملي في خيار الشرط: أنه مع خيار المجلس متلازمان في الأغلب، فإن أردت التفصيل فراجع ما سبق في خيار المجلس، وما قاله مطرد في كل ما يسمى: بيعاً، وقد صرح القاضي الحسين بثبوته جزماً في كتابه الوصية عند الكلام فيما إذا أوصى له بقريبه، وقلنا: إنه يملك بالموت.
[تنبيه] آخر: إطلاق الشيخ القول بجواز اشتراط خيار الثلاث فما دونها من غير أن يعين من يثبت له فيه إشعار بجواز اشتراطه لهما ولأحدهما، كما حكاه غيره، ومنه يستنبط جواز اشتراطه لأحدهما ثلاثة أيام وللآخر دونها؛ لأنه إذا جاز أن ينفرد أحدهما به فانفراداه ببعضه أولى ويجوز اشتراطه لغيرهما سواء كان ذلك الغير العبد المبيع أو غيره كما جزم به الإمام، وادعى اتفاق الأصحاب [عليه]؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان مطلقاً للفظ في موضع لابد فيه من التصفيل، ومما يؤيد ذلك: أن خيار المجلس لما كان مختصاً بالمتعاقدين ولا يجوز انفراد أحدهما به ابتداء، قال فيه: وإذا انعقد البيع ثبت لهما الخيار.
وفي طريقة العراق- على ما حكاه في "المهذب" و"الشامل"، وطريق المراوزة على ما حكاه البغوي والمتولي- حكاية قول فيما إذا شرط لغير المتعاقدين أنه يبطل العقد.
وعلى المذهب: هل يثبت الخيار لمن اشترطه للأجنبي مع الأجنبي؟ فيه قولان: أصحهما: أنه لا يثبت اقتصاراً على الشرط.
والثاني: يثبت لمعنيين.
أحدهما: أن شرط الخيار للأجنبي يشعر بإثباته لنفسه من طريق الأولى.
والثاني: أنه يستحيل ثبوت الخيار لغير المتعاقدين إلا على سبيل النيابة.
وعليهما يخرج ما لو شرطا الخيار لأجنبي دونهما، فعلى الأول يختص به.
وعلى الثاني: يبطل، ثم حيث حكمنا بثبوته لهما فلا يتوقف اختيار أحدهما الفسخ والإجازة على أمر الآخر، ولو أجاز أحدهما وفسخ الآخر، كان الفسخ أولى، وحيث حكمنا بثبوته للثالث خاصة، فإذا مات الوكيل في زمن الخيار ثبت للموكل على الأصح في "التهذيب" وهو قريب مما حكيناه في خيار المجلس.
فروع:
[الأول] إذا اشترى شيئاً على أن يؤامر فلاناً فيأتي بما يأمره [به]، المنقول عن نصه في "الإملاء": أنه يجوز، وليس له الرد حتى يقول استأمرته فأمرني بالفسخ، فمن الأصحاب من قال: لا يفسخ إلا بالإذن وفاءً بالشرط، ومنهم من قال:[يجوز] بغير إذنه، وحمل النص على مراعاة الصدق وذلك فيما إذا قيد المؤامرة بالثلاث فما دونها، وقيل: يحمل على الإطلاق كما في خيار الرؤية.
[الثاني] الوكيل بالبيع أو الشراء يجوز أن يشترط الخيار بإذن موكله، ولمن يثبت عند الإطلاق؟
فيه ثلاثة أوجه: ثالثها لهما، ولا يجوز أن يشترطه بغير إذن موكله لغيره ويجوز أن يشترطه لموكله على الأصح.
وفي اشتراطه لنفسه وجهان.
وفي "النهاية" في كتاب الوكالة حكاية وجه: أنه يجوز أن يشترطه لغير موكله من بائع أو مشتر.
ثم حيث أثبتناه له لم يفعل إلا ما فيه الحظ للموكل؛ لأنه مؤتمن، بخلاف الأجنبي المشروط له الخيار فإنه لا يلزمه رعاية الحظ.
قال الرافعي: ولناظر أن يجعل شرط الخيار له ائتماناً، وهذا أظهر إذا جعلناه نائباً عن الشارط.
الثالث إذا باعه على أنه إن لم ينقد الثمن في ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، أو باع على أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، فهذا شرط فاسد، وعن أبي إسحاق
المروزي: أنه يصح العقد، والمذكور في الصورة الأولى شرط الخيار للمشتري، وفي الثانية شرطه للبائع.
وإذا شرط الخيار في أحد العينين على الإبهام لم يصح وإن كانت معينة ففي الصحة قولا تفريق الصفقة في الحكم ولا فرق عند الشيخ أبي حامد فيجريان القولين بين أن يكون قد قدر ثمن كل عين منهما أو أطلق.
وقال صاحب التلخيص: إن كان ثمن كل عين مقدراً صح وقلته تخريجاً قال العمراني في الزوائد: فمن أصحابنا من وافقه ومنهم من وافق أبا حامد.
وعلى قول الصحة إذا أجاز البيع في الذي شرط الخيار فيه أخذهما بالثمن، وإن لم يجزه جاز البيع في الآخر وأخذه بقسطه من الثمن، كذا قاله أبو الطيب في تعليقه.
[الرابع]: إذا مات أحد المتعاقدين في مدة الخيار، انتقلت بقية المدة لوارثه، فإن كان غائباً وتصرمت بقية المدة قبل اطلاعه ففي "الحاوي": أنه يسقط الخيار ويلزم العقد.
وفي "الشامل" وغيره: أنه لا يسقط ولكن هل يثبت له على الفور، أو بقدر ما بقي من المدة؟ فيه خلاف. ولو ارتد في مدة الخيار ومات حكى الرافعي في كتاب الشفعة: أن للإمام الرد.
قال: ويعتبر ابتداء المدة- أي: في خيار الشرط- من حين العقد؛ لأنه خيار ثبت بالشرط والشرط وجد في العقد؛ ولأن زمان التفرق مجهول، ووجهه الشيخ وغيره من العراقيين: بأن مدة الخيار [مدة] ملحقة بالعقد فكانت من حين العقد كالأجل، وقاسوا على الأجل؛ لأن الشافعي نص فيه على ذلك؛ كما قاله ابن الحداد.
واحترزوا بقولهم: "ملحقة بالعقد"، من الاستبراء فإن ابتداء مدته من حين القبض على وجه، ومن حين اللزوم على وجه.
ووجه مشابهة الخيار الأجل: أن كلا منهما مانع من المطالبة وهو مماثل له في هذا المعنى، وقد اجتمعا، فكذلك خيار اشلرط [مع] خيار المجلس.
أو لأن الخيار في الحقيقة تأجيل لنقل الملك أو للزومه، والأجل تأجيل للمطالبة، وقد اجتمع أحد التأجيلين مع خيار المجلس فكذلك الآخر، وهذا هو الصحيح في الخيار والأجل. وفي طريق المراوزة حكاية وجه في الأجل، أن ابتداءه من حين انقطاع خيار المجلس.
قال الإمام: ومن قال به فقياسه يقتضي أن يقول: إذا اشترط في البيع خيار ثلاثة أيام وأجل الثمن أن يكون ابتداء الأجل من انقضاء خيار الشرط [لأنه عنده في معناه ولا سبيل إلى الجمع بين المتماثلين هكذا حكاه هاهنا، وحكى في آخر باب الشرط [الذي يفسد البيع وجهين في أنه يثبت من وقت انقضاء خيار المجلس، أو من وقت انقضاء خيار الشرط]. ثم قال: والوجه القطع بأن ابتداء الأجل من انقضاء الخيار المشروط على الوجه الذي عليه نفرع، فإن الأجل أحق بمجانسة خيار الشرط منه بمجانسة خيار المجلس، والمجانسة تؤثر في منع الجمع.
قال: وقيل من حين التفرق، أي: أو التخاير؛ لأن الجمع بين خيارين متماثلين في وقت واحد لاغ لا معنى له، وكل شرط لم يتضمن فائدة: لغو، هكذا حكاه الإمام. وعبر عنه الغزالي: بأن اجتماع خيارين متماثلين في وقت واحد لا يعقل.
والمراد بالمتماثلين: أنهما: [خيار الشرط والمجلس]؛ ولأن الشارط إنما يبغي الإثبات لنفسه في وقت يقتضي العقد لزومه، وهذا ميل النص إليه أكثر، كما قاله الإمام في آخر باب الشرط الذي يفسد البيع، وقاله الماوردي أيضاً ثم إنه ظاهر [مذهب الشافعي]، وكذا أبو الطيب في "شرح الفروع"، وقال: إن لفظه ولو اشترط الخيار في البيع أكثر من ثلاثة بعد التفرق فسد البيع.
وللقائل الأول أن يجيب عن الأولى: بأن الخيار واحد، لكن له جهتان: المجلس والشرط، وذلك لا تعدد فيه، كما أنه يثبت بجهة الخلف والعيب معاً.
وعن الثانية بأن تنزيل الشرط على ما ذكرتموه يورث الجهالة؛ لأنو قت انقطاع خيار المجلس [مجهول فإن قيل: هذا جهل من أحد طرفي الخيار، وذلك غير ممنوع بدليل خيار المجلس فإن انتهاءه غير معلوم.
قلنا: الفرق من جهتين:
أحدهما: أن ما ذكرتموه يؤدي إلى تثكير الجهالة.
والثاني: أن خيار المجلس] ثابت بالشرع فهو أقوى، فلا يقاس عليه الأضعف.
التفريع:
إن قلنا، بالقول الأول، وهو ما ذهب إليه ابن الحداد، فلو اصطحبا حتى مضت مدة خيار الشرط، وبقي خيار المجلس، فإن أسقطا أحد الخيارين لم يسقط الآخر، ولو قالا: ألزمنا العقد وأسقطنا الخيار مطلقاً سقطا، ولو شرطا الاحتساب من وقت التفرق بطل الشرط والعقد، وحكى صاحب "التقريب" وجهاً: أن الشرط لا يبطل، وضعفه الإمام، وقال: لا أصل له.
وإن قلنا: بالقول الثاني، وهو طريقة أبي إسحاق المروزي، على ما هو محكي في "شرح الفروع"، فلو قالا: أسقطنا الخيارين، أو قطعناهما انقطع خيار المجلس، وهل ينقطع خيار الشرط؟ فيه وجهان: حكاهما الإمام، وفي "التهذيب" تصوير محلهما بما إذا أوجب أحدهما البيع في المجلس.
ووجه عدم السقوط: أنه غير ثابت بعد.
ولو شرطا الاحتساب من حين العقد ففيه وجهان، حكاهما ابن الحداد عن أبي إسحاق أصحهما عند العراقيين الصحة، وهما مبنيان عند الشيخ أبي علي، وصاحب "التقريب" على العلتين، فعلى الأولى، لا يصح العقد؛ لأن الجمع غير ممكن، ولا سبيل إلى إسقاط خيار المجلس لقوته، وإذا لم يسقط كان حقيقة الشرط ترجع إلى اشتراط ما يبقى من الثلاث من حين التفرق، وذلك مجهول مبطل، وعلى الثانية يصح مع الشرط؛ لأن التصريح يبين أنه لم يرد بالشرط ما بعد التفرق.
وقد حكى ذلك الإمام والغزالي، والبناء ظاهر على عبارة الغزالي.
وأما على عبارة الإمام ففيه نظر، من حيث إنه إذا كان الشرط لا يتضمن فائدة، وقد
ألغي فكيف يفسد به العقد، إذ العقد إنما يفسد بالشرط [الفاسد] الذي يتأثر به العقد ويبقى علقه. [على] ما سيأتي.
وقد أبدى الإمام ذلك احتمالاً في عدم الإبطال، في آخر باب الشرط الذي يفسد البيع، وقال الماوردي فيه أيضاً: يجب أن يكون الخلاف مخرجاً من اختلاف الوجهين في البيع، إذا شرط فيه نفي خيار المجلس؛ لأنهما إذا شرطا خيار الثلاث من وقت العقد، فقد أسقطا خيار المجلس.
فرع: لو شرطا الخيار بعد العقد وقبل التفرق، وقلنا: بثبوته على ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- في باب المرابحة فالحكم على الوجه الثاني لا يختلف، وعلى الأول يكون الاحتساب من وقت الشرط لا من وقت العقد.
قال: وينتقل المبيع إلى المشتري بنفس العقد في أحد الأقوال.
هذا مستنبط من نص الشافعي- رضي الله عنه فيما إذا باع عبداً بشرط الخيار، ثم أعتقه في زمان الخيار، حيث قال: ينفذ عتقه، ويعود إلى ملكه، فلولا أنه يزول عن ملكه، وإلا لما قال: إنه يعود؛ لأن العود إنما يكون بعد الزوال، كذا قاله القاضي الحسين.
وقال الماوردي: إنه نص عليه في زكاة الفطر.
ووجهه: قوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبداً وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع"، وجه الدلالة منه: أنه جعل المال للمبتاع بالشرط وحده، ولأن البيع قد تم بالإيجاب والقبول، فثبوت الخيار فيه لا يمنع الملك كخيار العيب؛ لأن البيع موضوع لنقل الملك، فلو استأجر عنه لكان في معنى تعليق العقد على أمر مجهول، وهو زوال الخيار.
ووجهه الشيخ في "المهذب" وغيره: بأنه عقد معاوضة، فانتقل الملك فيه بنفس العقد كالنكاح، وفيه نظر؛ لأن الخلاف في نقل الملك جاء لأجل الخيار، والنكاح لا خيار فيه، فنظيره إن تبايعا على أن لا خيار مجلس بينهما، وصححنا العقد، فإن الملك
فيه ينتقل بنفس العقد وجهاً واحداً، وعلى هذا يكون الملك في الثمن للبائع.
فائدة: هل نقول [على] هذا القول حصل الملك مع آخر اللفظ أو مترتباً بعده؟ فيه خلاف حكاه الغزالي في ضمن ضابط. ذكره في كتاب الطهارة، عند قوله: أعتق عبدك عني.
قال: وبانقضاء الخيار في الثاني:
هذا مستنبط من نص الشافعي فيما إذا باع جارية بشرط الخيار، وكانت حاملاً فوضعت [فإنه قال]: يلزم المشتري الاستبراء، ولو كان الملك فيها للمشتري؛ لحصل الاستبراء بالولادة.
ووجهه ما روى مسلم [والبخاري] أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار".
وجه الدلالة منه: أن البيع ليس منفياً بالاتفاق، فيتعين أن يكون المنفي حكماً من أحكامه، وأقربها لنفي الذات نفي الملك، ولأنه إيجاب غير لازم مع سلامة المعقود عليه، فلم ينتقل الملك ما لم يلزم، كعقد الهبة، وعلى هذا يكون الثمن للمشتري.
قال: وموقوف في القول الثالث، فإن تم البيع بينهما حكمنا بأنه انقتل بنفس العقد، وإن لم يتم حكمنا بأنه لم ينتقل هذا مستبنط من نص الشافعي، حيث قال: لو اشترى زوجته بشرط الخيار، لا يحل له وطؤها في زمن الخيار، لأنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته.
ووجهه أن ما يدل على انتقال الملك قد عارضه ما يدل على بقائه، وليس لأحدهما رجحان على الآخر فيقفان، ولأن البيع سبب الزوال، [إلا أن] شرط الخيار يشعر بأنه لم يرض بالزوال جزماً، فوجب أن يتربص وينتظر عاقبة الأمور، كذا قاله الرافعي.
ومقتضى هذا التعليل أن يكون محل هذا القول خيار الشرط، دون خيار المجلس،
وليس كذلك بل الأقوال تجري فيه أيضاً، وعلى هذا القول يكون الثمن أيضاً موقوفاً.
ثم الأقوال تجري عند العراقيين فيما إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما، وكذلك حكى الفوراني في إبانته.
ورواه طريقة أخرى للمراوزة، أن محلها: إذا كان الخيار لهما، أما إذا كان لأحدهما فهو المالك للمبيع.
ومنهم من نفي الخلاف في المسألة، وقال: إن كان الخيار للبائع وحده فالمبيع على ملكه، وإن كان للمشتري وحده فالمبيع منتقل إليه، وإن كان لهما فالملك في المبيع موقوف، وهذه الطريقة اختارها القاضي الروياني في الحلية.
ثم إذا جرت الأقوال، فما الأظهر منها؟
الذي رجحه الشيخ أبو حامد ومن نحا نحوه القول الأول، وبه قال الإمام ورجح آخرون قول الوقف، وبه قال البغوي، واختاره ابن عصرون في "المرشد".
وذهب بعض المحققين على ما حكاه الإمام هنا، وفي كتاب الإقرار، واختاره الفوراني أن الخيار إن كان للمشتري وحده فالأصح انتقال الملك إليه، وإن كان للبائع وحده فالأصح بقاء الملك في المبيع [له]، وإن كان الخيار لهما فالأصح قول الوقف.
وتظهر فائدة الخلاف في مسائل.
منها: إذا اكتسب المبيع شيئاً في زمن الخيار لمن يكون؟ ينظر إن تم البيع وقلنا: إن الملك للمشتري أو موقوف [فهو له].
وإن قلنا: إنه للبائع، فوجهان: الجمهور على أنه له، وعن أبي علي الطبري: أنه للمشتري؛ لأن سبب ملكه موجود أولا، وقد استقر عليه آخراً، فيكتفي به.
وإن فسخ، فإن قلنا: الملك للبائع، أو موقوف فهو له، وإن قلنا: إنه للمشتري فوجهان: أصحهما أنه له.
وبنى صاحب "التتمة" الوجهين على أن الفسخ رفع العقد من حينه، أو من أصله، وفيه خلاف حكاه، فإن قلنا: بالأول فهو للمشتري، وإن قلنا بالثاني فهو للبائع.
قلت: يتجه أن يكون هذا الخلاف مبنياً على الخلاف المتقدم، فإن قلنا ثم: إنه يكون للمشتري فيكون هنا للبائع، وإن قلنا ثم: يكون للبائع، فهاهنا، هل يكون
للمشتري؟ فيه الخلاف، بناء على أن الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه.
وفي معنى الكسب اللبن، والبيض والثمرة المؤبرة، ومهر الجارية إذا وطئت بالشبهة، وكذا الولد إن فرض حصوله، وانفصاله في زمان الخيار لامتداد المجلس، أما إذا كان مختبئاً حالة البيع، وانفصل في زمن الخيار، فإن قلنا: لا يأخذ قسطاً من الثمن فهو كالكسب، وإن قلنا: إنه يأخذ قسطاً منه وهو الصحيح فهو لمن استقر له الملك.
وحيث حكمنا بأن الولد للمشتري، هل يكون مضموناً على البائع حتى يسلمه؟ فيه وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في نماء الصداق، هل يكون مضموناً على الزوج؟ كذا حكاه الماوردي وأجراه في الكسب والثمرة، وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب بيع الطعام: الجزم بأنه يكون أمانة في يده، وحيث حكمنا بأن الولد للبائع وانفسخ العقد، قيل: يكون مضموناً على المشتري.
قلت: ويتجه أن يكون ضمانه مخرجاً على أنه يضمن الأم إذا تلفت في يده، كما في ولد العارية، وسنذكره.
ومنها: نفقة المبيع على من تجب؟
قال الجيلي: إن قلنا: بانتقاله إلى المشتري فعليه، وإن قلنا: ببقائه على ملك البائع فعليه، وإن قلنا: بالوقف فعليهما، ويجبر كل منهما صاحبه على النفقة، والحاكم يجبرهما إذا امتنعا أو يفسخان، وهو موافق لما ذكر في زكاة الفطر، وكان يتجه أن يكون الحكم في النفقة كالحكم في الكسب، ويجعل الغنم في مقابلة الغرم.
ويعضد بما حكاه الرافعي في نفقة العبد الموصى به بعد موت الموصى، وقبل القبول والرد: من أن حكمها حكم الكسب، وإن كان في "الوسيط": أنها مع الفطرة على الموصى له إذا قبل على كل قول، وعلى الوارث إن رد على كل قول، ولا يعود فيها الوجه المذكور في الزيادات، وإن كان يحتمل أن يقال: الغرم في مقابلة الغنم، لكن إدخال شيء في الملك قهراً أهون من إلزام مؤنته قهراً، وهذا لا يجيء مثله هاهنا؛ لأنه هو المتسبب للإلزام بالعدق.
ومنها: إذا اشترى زوجته هل يحل له وطؤها في زمن الخيار؟ إن قلنا: إن الملك للبائع حل له وإن قلنا: [إنه للمشتري] لم يحل له؛ لأنه ملك ضعيف، وكذا إن قلنا: إنه موقوف؛ لأنه لا يدري أيطأ زوجته فيحل، أو مملوكته بملك ضعيف فلا يحل، هكذا قاله الغزالي في حل إشكال النص في باب الإقرار.
وحكى الرافعي هنا: أنه ليس له الوطء من غير بناء، ثم قال: وفيه وجه آخر، لم يزد على ذلك، وما ذكره الغزالي أحسن.
ومقتضاه: أنا إذا قلنا: بأن الملك للمشتري أن النكاح ينفسخ به مع ضعفه، وقد صرح بذلك فيما إذا أوصى له بزوجته، فقال: إن قلنا: إنه يملك انفسخ النكاح، وإن كان ضعيفاً وموضع الكلام في هذا "باب ما يحرم من النكاح" فليطلب منه.
ومنها: لو طلقها في زمن الخيار ثلاثاً، فإن تم البيع، وقلنا: إن الملك له أو موقوف [لم يقع].
وإن قلنا: [إن الملك للبائع ففي وقوع الطلاق وجهان، وإن فسخ وقع إن قلنا: لا ملك له أو موقوف، وإن قلنا:] إنه ملك بنفس العقد ففي وقوع الطلاق وجهان.
[ومنها: لو كان المبيع جارية وحاضت بعد العقد، وقبل انقضاء الخيار، فإن قلنا: إن الملك للبائع لم يعتد بهذه الحيضة عن الاستبراء، وإن قلنا: إنه للمشتري أو موقوف، ففي الاعتداد بها وجهان] ظاهر النص منهما على ما هو محكي في كتاب الاستبراء أنه لا يعتد بها أيضاً؛ لأن الفرج في زمن الخيار محظور عليه، وينبغي أن يقع الاستبراء في زمن الإباحة وحكم الولادة في زمان الخيار لولد الزنا كالحيض، قاله الماوردي.
وفي مجموع المحاملي الجزم بالاعتداد بذلك: إذا قلنا: بأن الملك للمشتري أو موقوف، وكان الخيار له وحده، والجزم بعدم الحصول إذا كان للبائع أو لهما.
قال: ولا يملك المشتري التصرف في المبيع حتى ينقطع خيار البائع، ويقبض المبيع.
اعلم أن الألف واللام في "التصرف" إن استعملهما الشيخ لإرادة العموم حتى يتناول المنع كل تصرف، كان ذلك منه اختياراً لغير الصحيح من المذهب في بعض الصور؛ لأنه عنى ملك التصرف بانقطاع خيار البائع وقبض المبيع، ومن التصرفات ما لم يتوقف على القبض على الصحيح، كما ستعرفه من بعد، ومنها أيضاً ما ينفذ في زمن الخيار وهو العتق- على ما سنبينه- ونفوذه دليل على ملكه له.
وقد يجاب عن هذا، بأن نفوذ الشيء لا يدل على ملكه، ألا ترى أن أحد الشريكين إذا وطئ الجارية المشتركة نفذ حكم وطئه في ثبوت الاستيلاد وغيره، وإن كان لا يملك الوطء.
وعلى تقدير التسليم فالمراد نفي ملك تصرف ينفذ حكمه في الحال، من غير أن ينتظر أمراً آخر، والعتق ليس كذلك.
وإن استعملهما لإرادة حقيقة الجنس، لزم منه ما ذكرناه أيضاً، لأنه نفي المطلق، ونفى المطلق يقتضي نفي الجميع.
وإن استعملهما لإرادة المعهود، وهو البيع المتقدم ذكره كان ماشياً على قاعدة
المذهب، غير أن كلامه لا يكون شاملاً لكل تصرف هو ممنوع منه قبل وجود ما ذكره، وذلك أسهل من مخالفة المذهب.
فنوجهه ونقول: توقف ملك التصرف المذكور على انقضاء الخيار ظاهر، إن قلنا: لا يملك [إلا به، وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد فهو ملك ضعيف معرض للسقوط، فوجب ألا يملك] التصرف فيه [لضعفه] كملكه [للمكاتب]، وإن قلنا: إن ملكه موقوف]، فلأنه إذا لم يملكه مع القول بأن الملك له في الحال لضعفه، فلأن لا يملكه وهو يجهل حصول الملك له كان أولى.
وأما توقفه على قبض المبيع فوجهه ما روى الإمام أحمد عن حكيم بن حزام أنه قال: قلت يا رسول الله: إني ابتاع بيوعاً، فما الذي يحل لي منها؟ وما الذي يحرم؟ فقال: إذا ابتعت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه.
[وفي رواية أخرى، أخرجها الترمذي وأبو داود]: "لا تبع ما ليس عندك".
وروى أبو داود عن زيد بن ثابت، قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
وروى البيهقي بسنده عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى عتاب بن أسيد، وكان قد
ولاه مكة: "انههم عن بيع ما لم يقبضوا، وربح ما لم يضمنوا".
واختلف الأصحاب في تعليل المنع بماذا؟ على وجهين: نذكرهما مع ما يظهر من فائدتهما في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى.
وفي "المهذب" وغيره وراء ما ذكرناه حكاية وجهين آخرين:
أحدهما: أنه إن باع بإذن البائع صح إن قلنا: إن الملك له؛ لأن المنع من التصرف لحق البائع فزال بإذنه، وكذلك حكاه في "الشامل" أيضاً وقال: إن العقد يلزم على الوجهين جميعاً.
وقياس ما سنذكره من الخلاف في أن التصرف المردود، هل يبطل الخيار أن يجري هاهنا؟ وهذا الوجه لم يحك الفوراني سواه، لكنه لم يفرعه على قول الملك، بل أطلق القول به، وكذلك حكاه الرافعي مع الأول من غير تفريع على قول الملك وصححه، وبه جزم الماوردي أيضاً.
والثاني عن الإصطخري: أن البيع يصح إن قلنا: إن الملك له، وإن لم يأذن له البائع، وللبائع الخيار فإن فسخ بطل تصرف المشتري.
ووجهه بأن تصرفه صادف ملكه الذي ثبت فيه للغير حق الانتزاع، فأشبه ما إذا اشترى شقصاً في شفعة فباعه.
والذي يقتضيه إيراد الشيخ ترجيح عدم الصحة، وإن أذن فيه البائع، فإنه علق ملك التصرف على القبض، وعلى انقطاع الخيار، وبالإذن له في البيع لا يظهر أنه ينقطع خياره، كما لا يبطل حق الوثيقة في الرهن بإذن المرتهن للراهن في البيع ما لم يوجد البيع.
وإذا لم ينقطع الخيار فالملك غير تام؛ فلذلك لم يصح البيع، ويخالف الرهن فإنه يصح بيعه؛ لأن الملك فيه تام، وإنما امتنع التصرف لمحض حق المرتهن وقد أذن، وقد يقال: إن الإذن في البيع يبطل الخيار، لأنه يسقط بمثل ذلك في قول أحدهما
للآخر: اختر، فيقوم الإذن مقام قوله: اختر.
والفرق بين المشتري هاهنا وبين مشتري الشقص المشفوع: أن الشفيع لا يرفع ملك المشتري، وإنما يقرره ويقطعه، وذلك يدل على قوته؛ فلذلك صح تصرفه، وإن لم يأذن والبائع هاهنا إذا أخذ المبيع رفع ملك المشتري إما من أصله أو من حينه على اختلاف الطريقتين، وذلك يدل على ضعفه فانقطع الإلحاق.
واعلم أن تعميم الشيخ المنع يدل على أنه لا فرق عنده في التصرف قبل انقضاء الخيار، وقبل القبض بين أن يكون مع البائع أو غيره، والمشهور فيما إذا باعه من البائع في زمن الخيار صحة البيع، وهو اختيار ابن سريج؛ لأن صدوره منهما رضا بلزوم الأول كما لو تخايرا.
وقال الماوردي في أواخر باب الربا: هذا غير صحيح؛ لأن العقد الأول لم يستقر بالافتراق ولا بالتخاير، وما ذكر من التعليل فغلط، والفرق بينه وبين التخاير: أنهما إذا اختارا الإمضاء فقد رضي كل واحد منهما بإقرار ملك صاحبه على ما انتقل إليه، فاستقر بذلك الملك.
وإذا اتفقا على البيع الثاني فكل واحد منهما لم يرض باستقرار ملك [صاحبه على ما انتقل إليه، فلم يستقر بذلك الملك، فكان حكم التخاير والبيع مختلفاً، فلم يجز أن يكون في لزوم العقد متفقاً].
وعن صاحب "التقريب": أنه مبني على أن الخيار هل يمنع انتقال الملك؟ إن قلنا: يمنع لا يصح.
وحكى الإمام عن شيخه الخلاف في صحة البيع أيضاً.
ووجه المنع بأن المشتري لا يجوز له الانفراد بالبيع، فإذا ابتدأ بالإيجاب بطل، والقبول يترتب عليه. ثم قال: وما ذكره يقتضي تردداً في صحة بيع المرهون من المرتهن من غير تقديم فك الرهن، والذي أقطع به نقلاً جواز البيع.
وفي "الوسيط" عند الكلام في التولية: حكاية خلاف فيما إذا باع المبيع من البائع
قبل القبض هل يصح؟ وحكاه البندنيجي في باب [بيع الطعام]، وفي الرافعي: أن الصحيح: عدم الصحة.
وفي "تعليق" القاضي الحسين وغيره كلام سنذكره [في الباب الثاني] إن شاء الله تعالى.
ولا غنى بنا عن ذكر ما قاله الأصحاب في التصرف من الهبة والعتق، وغيرهما قبل انقضاء الخيار فنقول: الهبة والوقف ملحقان بالبيع فيما ذكرناه، على ما حكاه ابن الصباغ وغيره.
وفي "الحاوي": إلحاق الوقف والتدبير بالعتق، وحكاية خلاف في الكتابة هل تلحق بالبيع أو بالعتق؟
وأما العتق إذا صدر منه بغير إذن البائع فقد بناه العراقيون عند الإجازة، والرد على أقوال الملك فقالوا: إن تم العقد نفذ إن قلنا: إن الملك له [أو موقوف، وكذا إن قلنا: لا ملك له، وإن فسخ وقلنا: لا ملك له أو موقوف لم ينفذ، وكذا إن قلنا: إن الملك له] على المذهب. وعن ابن سريج أنه ينفذ إذا كان موسراً دون ما إذا كان معسراً كعتق المرهون.
وحكى الرافعي: أن من الأصحاب من أطلق الحكاية عنه بنفوذه من غير تقييد باليسار.
فإن قلنا: يعتق، فهل يرجع البائع بالثمن أو بالقيمة؟ فيه وجهان، عن ابن سريج أيضاً، وإن كان العتق قد صدر بإذن البائع نفذ، ولم يحكوا فيه خلافاً، وكان يتجه أن يخرج على اقوال الملك والممكن في توجيهه أن يقال: البائع بالإذن له [فيه] مبطلاً لخيار نفسه، كما هو مبطل له بقوله له اختر على المذهب، وإذا كان كذلك فقد انفرد المشتري بالخيار، فينفذ عتقه كما لو كان الخيار له وحده ابتداء، فإنه ينفذ عتقه على ما سيأتي.
ولكن يلزم على هذا إن كان هذا هو المأخذ أن يصح بيعه أيضاً إذا أذن له فيه جزماً، كما حكيناه عن الفوراني، وقد حكينا عنهم إجراء خلاف فيه.
ويمكن أن يفرق بأن العتق للشارع تشوف إلى تحصيله؛ ولذلك لو قال لغيره: أعتق عبدك عني، صح منه هذا الاستدعاء، وإذا أعتقه عنه قدرنا انتقال الملك في المعتق إلى المستدعي قبيل العتق حتى يقع العتق في ملكه، وإذا صح مثل ذلك ولم يجر سبب يقتضي نقل الملك، فمع وجود الملك أو سببه أولى، وليس هذا الحكم ثابتاً لغير العتق.
وسلك الغزالي في العبارة عن التصرف طريقاً آخر، فقال: إذا صدر العتق من المشتري لا بإذن البائع، فإن قلنا: لا ملك له لم ينفذ.
وإن قلنا: الملك له، فوجهان يقربان من القولين في عتق الراهن.
فإن قلنا: ينفذ – وهو ما جزم به المتولي- قال الغزالي: فالظاهر أنه لا يبطل خيار البائع، ولكن في فائدته وجهان:[أحدهما]: ينفسخ العقد ويرجع إلى القيمة؛ إذ العتق لا مرد له.
والثاني: أن له رد العتق، وكأنه نفذ بشرط أن لا يرد.
وقيل: إن خيار البائع يبطل، والبيع كالعتق، وفي محل الخلاف يترتب عليه، وأولى بألا ينفذ وإن نفذ فلا يتجه إبطال خيار البائع، بل يتعين أن يتسلط على فسخ البيع إن شاء؛ إذ البيع يحتمل الرد.
وإن قلنا: لا ينفذ العتق والبيع، أي إما لعدم الملك، أو مع وجوده لرعاية حق الغير على ما صرح به الإمام، [ومجلي].
قال: فهل ينفذ بإجازة البائع، أي: العقد وإلزامه التصرف؟
قال: أما البيع فلا؛ فإنه لا يقبل الوقف، وفي العتق خلاف.
فإن قلنا: ينفذ فيستند إلى وقت العتق، أو من وقت الإجازة؟ فيه وجهان: هذا آخر كلامه.
وبنى القاضي الحسين في التعليق الخلاف: في أن العتق هل ينفذ عند الإجازة على القولين في عتق الراهن؛ إذا رد وانفك الرهن هل ينفذ؟ ثم قال: والصحيح هاهنا أنه لا ينفذ.
والفرق بينه وبين الرهن، أن عتق الراهن صادف ملكه، وهاهنا العتق صادف ملك الغير وهذا منه يدل على أنا إذا منعنا العتق مع القول بأنه على ملكه، يكون الصحيح عند الإجازة نفوذ العتق، وهو ما جزم به العراقيون على ما حكيناه.
ثم جميع ما ذكرناه أولاً وآخراً فيما إذا كان الخيار للبائع وحده أو لهما، أما إذا كان الخيار للمشتري وحده فالذي حكاه الإمام والغزالي، والرافعي: القطع بنفوذ العتق؛ لأنه إذا لم يكن ملكه كان إجازة للعقد، وهو ينفرد بها، والبيع عند الغزالي في هذه الحالة كالعتق- كما حكيناه عنه- وحكاه الإمام أيضاً عن الإمام، وكأنه يشير إلى والده، وبناه الفوراني على أقوال الملك أيضاً، [فقال]: إن قلنا: إن الملك للبائع لم يصح.
وإن قلنا: إنه للمشتري ففي صحته وجهان: والأصح الصحة؛ ولذلك حكى الإمام هذا البناء أيضاً، وقال عقيبه: ما ذكره الإمام أفقه، وهو الظاهر أيضاً من حيث أن الفوراني جزم بصحة البيع عند وجود الإذن، وذلك الجزم عند الانفراد بالخيار أولى.
فائدة: تقييد الشيخ- رضي الله عنه عدم ملك المشتري للتصرف في المبيع، يعرفك أن تصرفه في الثمن مغاير له، وكذا تقييده في المسألة الثانية منع تصرف البائع في الثمن المعين يعرفك أن تصرفه في المبيع مغاير له، والحكم في تصرف المشتري في الثمن، حكم تصرف البائع في المبيع، فليقتصر على الكلام في أحدهما، وهو تصرف البائع في المبيع فإنه المشهور على ألسنة الفقهاء.
ونقول: تصرف البائع في المبيع في زمن الخيار بالعتق نافذ على الأصح، إذا كان الخيار له أو لهما؛ لأنه فسخ للعقد، وهو يستقل به.
وفي "التتمة" حكاية وجه: أنا إذا قلنا: إن الملك للمشتري لا ينفذ، وحكاه مجلي عن القاضي الحسين، وخص محله بما إذا قلنا: إن عتق المشتري ينفذ.
وتصرفه بالوطء فسخ على الأصح.
وقيل: لا، وقيل: إنما يكون فسخاً إذا نوى به الفسخ، وهو حلال له على كل قول عند الشيخ أبي محمد وعند غيره، إن جعلنا الملك له.
وإن لم نجعله له، فوجهان.
وقيل: إن لم يجعل الملك له فهو حرام، وإن جعلناه له فوجهان.
وظاهر المذهب الحل إن جعلنا الملك له، والتحريم إن نفيناه عنه.
ويخالف وطء المشتري حيث جزم فيه بالتحريم، على كل قول، إذا كان الخيار لهما أو للبائع لأنا إن قلنا: لا ملك له، فلعدم الملك، وإن قلنا: إن الملك له فلضعفه، كملك المكاتب، أما إذا كان له وحده، فهو كوطء البائع، وعلى كل حال لو وطأ لم يجب عليه الحد، ويكون الولد حراً نسيباً، والحكم في قيمته وفي المهر حكم الكسب.
وهل يثبت به الاستيلاد؟
إن قلنا: إن الملك للبائع، فلا.
وإن قلنا: إنه له فوجهان مرتبان على عتقه، وأولى بالنفوذ، وقيل: عكسه.
قال الإمام: ولا يبعد استواؤهما لتقابل الجهتين.
فإن لم ينفذ في الحال، وتم البيع، أو فسخ، ثم ملكها يوماً، كان في ثبوت الاستيلاد قولان: محل ذكرهما باب عتق أم الولد.
واعلم أن إطلاق الأئمة أن وطء المشتري حلال، إذا كان الخيار له وحده، [فيه] نظر من حيث إنا إذا حكمنا بأن الملك للبائع، [لم يحصل الاستبراء في زمن الخيار، فكيف يحسن إطلاق القول بأنه حلال، وكذلك إذا قلنا: إن الملك] له ولم نجعل الاستبراء يحصل في زمن الخيار.
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن مرادهم حله بالنسبة إلى الملك لا بالنسبة إلى أمر آخر.
وتصرفه بالبيع نافذ على أصح الوجهين، إن جعلناه فسخاً، وهو الصحيح، وإن لم نجعله فسخاً لم ينفذ وجهاً واحداً.
ويجري [في] مثل هذا الخلاف في الإجارة والتزويج، وكذا في الرهن، والهبة
إن اتصل بهما القبض.
وفي "الحاوي": الجزم بصحة الجميع، وجعله فسخاً.
وهل يكون العرض على البيع أو على التوكيل فيه فسخاً؛ إن جعلنا البيع فسخاً؟ فيه وجهان، كالوجهين في القبلة والمباشرة بالشهوة، إذا جعلنا الوطء فسخاً.
أما إذا كان الخيار للمشتري وحده، لم ينفذ من تصرفات البائع ما عدا العتق على كل قول.
وكذا العتق إن قلنا: لا ملك له أو موقوف، وأجيز العقد.
وإن قلنا: إن الملك له؛ ففي نفوذه قولان كما في عتق المرهون، والظاهر أنه لا ينفذ.
[والفرق]: أن الراهن إذا نفذ عتقه غرم القيمة فتقوم مقامه، وهاهنا لا يغرم القيمة، وإنما يسقط حق المشتري عنه بالكلية، ويرد إليه ما بذله.
فرعان:
أحدهما: إذا اشترى عبداً بجارية، والخيار لهما، فأعتقهما معاً، عتقت الجارية دون العبد على الأصح، وفيه وجه: أن المعتق العبد دونها، تفريعاً على قولنا: إن عتق المشتري نافذ.
وإن كان الخيار للمشتري وحده لم يعتقا أيضاً، وفيمن يعتق منهما؟ وجهان:
أحدهما- وهو ما أورده ابن الصباغ-: الجارية.
وأصحهما- وبه أجاب ابن الحداد-: العبد.
قال الشيخ أبو علي: وهما مبنيان على انتقال الملك.
فإن قلنا: بانتقاله عتق العبد، وإلا فالجارية.
وحكى وجه: أنه لا يعتق واحد منهما، وحكم المشتري إذا أعتقهما، والحالة هذه حكم البائع.
الثاني: التصرف الصادر من المشتري في زمن الخيار، هل يجعل إجازة؟
فيه وجهان:
[أصحهما]- وبه قال الإصطخري-: نعم.
والثاني- حكاه الرافعي عن أبي إسحاق-: لا، وحكى عنه المحاملي في المجموع: أن التصرف الذي يمنع الرد [بالعيب][كالعتق والإحبال يقطع خياره، دون التصرف الذي لا يمنع الرد بالعيب]، ولا تتلف به العين كالوطء والإجارة، وما أشبه ذلك فإنه لا يقطعه، وفي "الحاوي": أن خيار الشرط ينقطع به.
وأما خيار المجلس: فإن أجاز البائع العقد على الفور كان ذلك اختياراً منهما، وإن لم يجزه على الفور، فإن كان ذلك التصرف عتقاً، أو وقفاً، أو تدبيراً، كان ذلك إجازة من جانبه، وخيار البائع باق بحاله، وإن كان بيعاً أو إجارة فالذي ذهب إليه البغداديون أن يكون قاطعاً لخياره [أيضاً، والذي اختاره البصريون- وهو الصحيح- ألا يكون قاطعاً لخياره].
قال: ولا ينفذ تصرف البائع في الثمن إذا كان معيناً – حتى ينقطع خيار المشتري ويقبض الثمن؛ كما ذكرنا في تصرف المشتري في المبيع، إذ هو مشتر له، كما أن المشتري مشتر للمبيع.
قال: وإن كان في الذمة لم ينفذ تصرفه فيه قبل انقطاع الخيار- لما مر [فيما إذا كان] عينا- وهل يجوز قبل قبضه؟ فيه قولان: أصحهما: أنه يجوز لأنه يؤمن انفساخ العقد فيه بتلفه فأشبه المبيع المقبوض، وهذا هو الجديد.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الهبة.
وفي الجيلي: أنه الأصح- في المحرر – لمطلق النهي عن بيع ما لم يقبض؛ ولأنه عوض في معاوضة، فلا يجوز بيعه قبل قبضه كالمثمن.
قال المتولي: والفرق على الأول أن المثمن [لا يستقر في الذمة إلا بالقبض، ولهذا لو انقطع المسلم فيه، كان له تأثير في العقد بفسخ أو انفساخ، والثمن مما] يستقر في الذمة من غير قبض بدليل أن جنس الثمن إذا انقطع [من] أيدي الناس لا
ينفسخ العقد، وما قاله ممنوع فإن الإمام قال في كتاب التفليس: إنا إن لم نجوز الاعتياض عن الثمن، كان حكمه حكم المسلم فيه.
وسنذكر ذلك عن الرافعي في الباب الثاني عند الكلام في الثمن.
وفي الجيلي: أن بعضهم بنى الخلاف في المسألة على أن العلة في منع بيع المبيع قبل قبضه، ماذا؟
فإن قلنا: ضعف الملك، لم يجر هاهنا؛ لوجوده فيما في الذمة.
وإن قلنا: توالى الضامنين، فيجوز هاهنا، إذ لا توالى.
وهذا البناء ضعيف؛ لأن اختيار العراقيين من العلتين العلة الأولى على ما حكاه مجلي.
ومقتضى ذلك- لو صح البناء- أن يكون الصحيح عندهم عدم الصحة، وقد قال الشيخ خلافه.
واستدل ابن يونس على القول الثاني بأنه لا يؤمن [انفساخ] العقد فيه، بهلاك المبيع فأشبه المبيع قبل القبض، وهذا يوهم أمرين:
أحدهما: أن محل الخلاف ما إذا كان المبيع لم يقبض، أما إذا كان قد قبض [فيجوز وجهاً واحداً، وليس كذلك بل المنقول في الزوائد عن العدة: أن بعض الأصحاب خص محل الخلاف بما إذا كان المبيع قد قبض]، أما إذا لم يقبض فلا يجوز [وجهاً] واحداً، ومنهم من لم يفرق بينهما، وهو قضية ما في "التهذيب" فإنه قال: لا فرق في ذلك بين أن يكون بعد قبض المبيع أو قبله، وما أفهمه كلام ابن يونس يوافقه ما حكاه ابن الصباغ والبندنيجي [وغيرهما] في "باب الهبة" أن الشافعي ذكر في كتاب الشروط: أنه يجوز بيع الدين المستقر وهبته من غير من هو عليه، وأنه قال في الرهن: لا يجوز رهنه.
وأن من الأصحاب من قال بعدم صحة البيع، والهبة والرهن، والثمن إذا قبض مقابله صار مستقراً فاندرج تحت هذا الإطلاق.
الثاني: أن كلا من الثمن المعين والمثمن لا يجوز بيعه بعد قبضه ما لم يقبض
مقابله؛ لأنه لا يؤمن انفساخ العقد فيه إذا لم يقبض مقابله بتلفه، وليس كذلك، بل المنقول عن ابن سريج وفي "الحاوي" وغيره: صحة بيع المقبوض وإن لم يقبض مقابلهن وعليه يدل كلام الشيخ حيث عنى التصرف بوجود القبض في المبيع، والثمن وانقضاء الخيار.
تنبيه: المراد بالتصرف هاهنا- أيضاً- البيع؛ لأن ما في الذمة يتصرف فيه بالإبراء وهو قبل القبض جائز، بل لا يتصور إلا كذلك وفي زمن الخيار إما ألا يصح أو يصح، وفيه تفصيل نذكره في باب المرابحة ولا يجوز التصرف فيه بالهبة والرهن على المذهب- كما سنذكره.
وكذا لا يجوز أن يقارض عليه سواء كان العامل الذي عليه الدين أو غيره.
والحوالة: إن قلنا: إنها استيفاء فتكون نفس القبض، وإن قلنا: إنها معاوضة [فهي كالبيع] وغير ذلك إما في معنى البيع، أو لا يتصور؛ فتعين ما ذكرناه، فإن قيل: هل الخلاف في جواز بيعه من غير المشتري أو من المشتري؟ قلنا: ظاهر كلام الشيخ يدل على أنه لا فرق بينهما، ويعضده حكاية الخلاف في بيع نجوم الكتابة وما قررناه من كلام ابن الصباغ في كتاب الهبة، والمذكور في طريقة المراوزة: الاختلاف في جواز بيعه من المشتري، وعبروا عن ذلك بالاستبدال عنه، وأثبته الإمام أقوالاً، والغزالي وجوهاً ثلاثة:
أحدها: المنع، قياساً على الثمن.
والثاني: الجواز؛ لما روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: "قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء".
وفي رواية: كنت أبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إذا بعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس".
قال الغزالي: والقائل الأول يحمل الحديث على جريانه في مجلس العقد، فيكون تغييراً للعقد في وقت الجواز.
ومن هذا التعليل يؤخذ أن إطلاق الشيخ في "المهذب" وابن الصباغ: هاهنا القولين في جواز بيعه- محمول على ما إذا كان من المشتري؛ لأنهما استدلا لقول الجواز بالحديث وهو لا يدل على جواز بيعه من غير المشتري؛ لما في ذلك من المعنى المذكور. وهذا القول نسبه المتولي إلى الجديد، وبه قطع القاضي أبو حامد وأبو الحسين، والأول إلى القديم.
والفرق على الأول بينه وبين المثمن أن المقصود بالثمن المالية منه، والاستبدال يديم المالية وحكمها، والمثمن القصد منه العين؛ كسائر الأعيان.
قال الإمام: وهذا الفرق ضعيف في القياس.
والثالث: أنه يستبدل أحد النقدين بالآخر، للحديث، ولا يستبدل سائر الأجناس عنمها للقياس.
قال الغزالي: [وهذا أعدل]، ومحله إذا لم يكن الثمن مؤجلاً، أو مؤجلاً ولا اشتراك في علة الربا بينه وبين الثاني، أو كان مشتركاً لكنهما جنسان كالذهب والفضة.
أما لو اتحد الجنس كالطعام عن الطعام لم يجز.
وهذا ما حكاه القاضي الحسين في باب بيع الطعام.
وقال البندنيجي قبيل باب المصراة، قال الشيخ- يعني: أبا حامد- وعندي يجوز؛ لأنه إذا قبض منه الطعام بما له في ذمته، برئت ذمة من عليه الطعام منه، وكيف يبقى في ذمته إلى أجل؟
وفي "الحاوي" في الفروع المذكورة في آخر الربا: الجزم بأن ما في الذمة إذا كان مؤجلاً لم يجز أخذ البدل عنه، وإن لم يكن من مال الربا؛ لأن المؤجل لا يملك المطالبة به فلم يجز المعاوضة عنه، ويظهر لي أن يكون ما قاله الشيخ أبو حامد
مستمداً من تغليب شائبة الاستيفاء.
واعلم أنه يتفرع على الخلاف ما إذا باع بغير النقدين في الذمة، فجواز الاستبدال عنه ينبني على أن الثمن ماذا؟ وفيه ثلاثة أوجه يحتاج إلى ذكرها:
أحدها: أنه ما التصق به باء التثمين، ويحكى عن القفال.
والثاني: أنه النقدان لا غير، والمثمن ما يقابلهما، على اختلاف الوجهين، وهذا الوجه ما دل عليه كلام الشيخ، وابن الصباغ في باب السلم حيث قالا: يجوز السلم في الأثمان.
والثالث- وهو الأصح- أن الثمن [هو النقد، والمثمن] ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد أو كان العوضان نقدين، فالثمن ما اتصل به الباء والمثمن ما يقابله.
فإن قلنا بالوجه الأول فيجوز الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى في "التهذيب" أنه المذهب. وإن قلنا بغيره، فلا يجوز.
ويظهر الاختلاف في أن الثمن ماذا؟ فوائد أخر:
منها: إذا كان العوضان [نقدين فعلى الأول لا بيع، فيجري في جواز الاستبدال عن كل منهما الخلاف المذكور.
ومنها: إذا كان العوضان] عرضين فلا يجوز على الثاني الاستبدال عن واحد منهما وجهاً واحداً.
ومنها: لو قال: بعتك هذه الدراهم بهذا العبد، فعلى الثاني والثالث في صحة العقد خلاف كالسلم في الدراهم.
قال: ولا يدخل المبيع في ضمان المشتري إلا بالقبض [أي للمبيع] خلافاً لأبي ثور، أما دخوله بالقبض؛ فلأنه لا غاية بعده تنتظر، وأما عدم دخوله في ضمانه قبله؛ فلأنه عليه السلام نهى عن بيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن، فأخبر أن بيع
ما لم يقبض غير مضمون فمنع من طلب الربح فيه، وقال صلى الله عليه وسلم:"أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ "، فمنع من المطالبة بالثمن لتلف الثمرة قبل القبض، ونبه به على [كل] مبيع تلف قبل القبض.
ولأنه لو دخل في ضمانه قبله؟ لكان حال البائع فيه كما بعد القبض، وليس كذلك؛ فإن ما يحدث بالمبيع من عيب قبل القبض يستحق المشتري به الفسخ، هكذا أورده الماوردي، وفي الثاني دلالة على أن ما ذكره متفق عليه، وإلا لم يحسن التمسك به.
والمراد بالدخول في الضمان بالقبض: أن المبيع لو تعيب لم يثبت له بسببه فسخ، ولو تلف لا ينفسخ العقد، وإن كان في مدة الخيار، كما ستعرفه من بعد؛ هذا هو المشهور.
وفي "الحاوي"[عند الكلام في الجائحة] أن ابن أبي هريرة قال: المقبوض في خيار الثلاث يستحق رده بما يحدث من العيوب في زمن الخيار، وإن كان القبض تاماً، وأبدى من عند نفسه منع ذلك.
واعلم أن الشيخ ذكر هذا الفصل؛ لأمرين:
أحدهما: الاحتراز عن مذهب من صار إلى دخوله في ضمانه بمجرد العقد، وهو الإمام مالك على ما حكاه المتولي، والبغوي أيضاً، وعن أبي ثور.
وخصص ابن الصباغ محل الخلاف، بما إذا لم يكن المبيع مكيلاً، ولا موزوناً، ولا معدوداً، وأن الإمام أحمد وافقه.
وحكى المتولي وغيره عنه أنه استدل بقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان"،
ومعناه: خراج الشيء وفوائده [لمن الشيء في ضمانه] وفوائد المبيع للمشتري؛ فوجب أن يكون من ضمانه.
وأجيب عن ذلك بأنه- عليه السلام جعل الخراج بالضمان، وما جعل الضمان بالخراج؛ فدل الخبر على أن من كان الشيء من ضمانه كان الخراج له، فأما أنه يدل على أن من استحق الخراج يكون الشيء من ضمانه فلا.
قال القاضي أبو الطيب: ولأن الخبر ورد على سبب؛ لأنه روي أن رجلاً اشترى عبداً فاستعمله، ثم وجد به عيباً فرده، فقال الراوي: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا أن الخراج بالضمان، وكان ذلك بعد القبض، فلا يتناول ما قبل القبض.
الثاني: بيان أن غير القبض لا يحصل هذا الغرض، وهو الصحيح، وفي "التهذيب": أن المشتري لو أبرأ البائع عن ضمان المبيع برأ على قول، حتى لو تلف لا ينفسخ العقد، ولا يسقط الثمن.
قال: ولا يستقر ملكه عليه إلا بالقبض، والاستقرار: عبارة عن الأمن من سقوط [الملك بسبب انفساخ] العقد لا فسخه، فإن كلا من العوضين بعد قبضه الملك فيه مستقر وإن لم يؤمن [زوال الملك] فيه بسبب الفسخ [بالعيب].
وقد رأيت في "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب الضمان عن أبي إسحاق إشارة إلى هذا، وفي "تعليق" البندنيجي في كتاب الضمان- أيضاً- أن المستقر ما لا
يخشى سقوطه بزوال سببه، كثمن المبيع بعد قبض المبيع على وجه الصحة، والأجرة بعد انقضاء المدة، والمهر بعد الدخول، والعوض في الخلع، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، وهذا وإن كان كلاماً في الدين، فيمكن أن يقاس عليه العين.
والمراد بالقبض هاهنا: قبض المقابل؛ لأن الملك قبل قبض المقابل متعرض للسقوط بتلفه وإن أفاد قبض المبيع التصرف، كما ذكرناه.
وعلى هذا التقدير يكون الشيخ بين في هذا الباب: متى ينتقل الملك في المبيع إلى المشتري؟
ومع القول بانتقاله متى يملك التصرف فيه؟ ومع ملك التصرف، بماذا يدخل في ضمانه؟ ومع الدخول في الضمان، متى يستقر؟
وهذا ترتيب حسن، ويدل على إرادته ذلك أن البندنيجي صرح به فقال: إذا وقع القبض من الطرفين استقر العقد به.
وكل منهما أخذ من كلام الشيخ أبي حامد، وما ذكراه في استقرار الأجرة باستيفاء المنافع أو تفويتها، وما ذكراه في استقرار الصداق بالدخول، وهو قبض المقابل بعد حكاية الشيخ أنها تملك التصرف فيه بالقبض.
واعلم أنه يوجد في بعض النسخ: ولا يستقر ملكه عليه إلا بالقبض، وانقضاء الخيار. وهذه الزيادة غير محتاج إليها كما ستعرفه من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: فإن هلك قبل القبض- أي المبيع- بآفة سماوية انفسخ البيع؛ لأنه فات التسليم المستحق بالعقد؛ فبطل كما في عقد الصرف، ثم من ضرورة الانفساخ انقلاب الملك إلى البائع؛ فإنه لو هلك ملكاً للمشتري، لاستحال أن يسترد الثمن ويقضي بالانفساخ، لكن متى ينقلب إليه؟ فيه وجهان: حكاهما الفوراني:
أصحهما- وهو ما رجحه الإمام [واختاره ابن الحداد: أنه ينقلب عينا قبيل تلفه.
والثاني: أنه يستند إلى أول العقد].
[قال الإمام:] وحقيقة هذا؛ أنا نتبين بالأخرة أن لا عقد أصلاً؛ فيكون العقد قبل
القبض موقوفاً على ما يتبين.
وعلى الوجهين: لو كان المبيع عبداً كانت مؤنة تجهيزه، ودفنه على البائع، وعلى القول الأول تكون الزوائد والفوائد للمشتري، لكن لو تلفت في يد البائع قبل المطالبة بها لم يضمنها؛ لأن يده عليها يد أمانة.
قال ابن الصباغ: قبيل باب المصراة: وتكون للبائع على الثاني.
وقد قال الغزالي فيما إذا وقع الفسخ قبل القبض كلاماً يأتي مثله هاهنا، وصورته: فإن قيل: فما وجه رجوع الزوائد إلى البائع، وقد حدثت في ملك المشتري كما بعد القبض؟
قلنا: قائله تعلق بما روي أنه عليه السلام سئل عن غلة المبيع تسلم للمشتري بعد الفسخ وبعد القبض؟
فقال: "الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ"، أي: هو على خطر الضمان بالقبض، والغنم بالغرم، ومفهومه: أنها لا تسلم قبل القبض له.
والقائل الأول- أي: بكونها للمشتري- يتبع القياس ويقول: ذلك علة لمنع الرجوع، ذكره لقطع استبعاد السائل، وقبل القبض لا رجوع لعلة أخرى، وهو أنها حدثت على ملكه، والحكم قد يعلل بعلتين، هذا آخر كلامه.
وكثيراً ما يستشكل قوله: " [وقد] يعلل بعلتين"؛ فإن هذا من قبيل الواحد بالنوع؛ فإن الملك في الزوائد الحاصلة قبل القبض، غير الملك في الزوائد الحادثة بعده، ولا خلاف في أن الحكم في مثل ذلك يعلل بعلتين، وإنما الخلاف في الواحد بالشخص، فما وجه الإتيان بـ "قد"؟
وجوابه: أن الملك الحاصل بعد القبض قد وجد له علتان: كونه حدث في ملكه، وكون المبيع من ضمانه فكلامه عائد إليه، وهو واحد بالشخص؛ فاندفع الإشكال.
واعلم أن تعذر تسليم المبيع بما سنذكره، وما في معناه يقوم مقام التلف في الانفساخ، وذلك مثل أن يكون المبيع أرضاً فتغرق، أو يقع عليها صخرة لا يمكن
رفعها، أو حيواناً لم يألف الذهاب، والإياب فيطير أو ينفلت، أو جامداً فيقع فيما لا يمكن استخراجه منه.
وفي الرافعي حكاية وجه في غرق الأرض، ووقوع الصخرة عليها: أن ذلك لا ينزل منزلة التلف؛ لكن يثبت له الخيار، ورجَّحه.
واختلاط المبيع بمثله، هل ينزل منزلة التلف؟ فيه خلاف، وسنذكر مثله.
وأما اختلاطه بما ليس بمثل له إذا تعذر تمييزه؛ كالثوب والشاة، فالأصح: الانفساخ أيضاً.
وإباق العبد لا يقوم مقام التلف على الأصح، وكذا وقوع الجامد في الماء الذي يرجى حصوله.
وانقلاب العصير خمراً، هل يقوم مقامه؟ فيه قولان في "التتمة"، وفي "الوسيط" في كتاب الرهن: أن حكمه حكم الرهن بعد القبض، والذي ذكره في الرهن بعد القبض، أنه إذا عاد خّلَاً عادت وثيقة الرهن، ومساقه يقتضي أن العقد يستمر إذا عاد خَلّاً.
وهو ما حكاه القاضي الحسين في كتاب الرهن عن النص، وأنه يثبت له الخيار؛ لتبدل الحلاوة بالحموضة.
وفي "النهاية": أنه يفسد العقد، ولم يعد ملك المشتري بعوده خلّاً.
والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن عاد لبقاء ملك الراهن، وها هنا يعود إلى ملك البائع؛ لعدم العقد فلا يصح أن يبيعه بملك المشتري، وهذا ما صححه القاضي الحسين قبيل باب بيع المصراة، ثم قال: ولو سلم الخمر إلى المشتري فصارت في يده خلا، فهل يتم البيع؟
فيه وجهان مبنيان على ما لو غصب خمراً فتخللت في يده، فهل يجب ردها؟
تنبيه: تقييد الشيخ انفساخ العقد بتلف المبيع بما قبل القبض، يشعر بأنه إذا تلف بعد القبض لا ينفسخ. وما بعد القبض فيه حالتان:
إحداهما: بعد انقضاء الخيار، والحكم ظاهر فيها.
والثانية: في زمن الخيار، والحكم فيها عند الشيخ أبي حامد كذلك.
وقد ينفر منه فيحتاج إلى ذكر ما قيل فيه، وبه يظهر صحته، إن شاء الله تعالى.
فنقول: حكى ابن الصباغ فيما إذا تلف المبيع بعد القبض في زمن الخيار، عن القاضي أبي الطيب: أن الشافعي نص في بعض كتبه: على أن البيع ينفسخ، ويجب على المشتري القيمة.
وقال في كتاب الصرف: يلزمه الثمن- قال القاضي: ويحتمل أن يكون المراد بالثمن القيمة، ويحتمل أن يكون المراد به إذا كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: أن المبيع ينتقل إليه بنفس العقد.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن الخيار لا يسقط، فإن فسخ العقد وجبت القيمة، وإن انقضى الخيار بني انفساخه على أقوال الملك، فإن قلنا بانتقاله بنفس العقد، أو توقفه استقر عليه الثمن، وإن قلنا بأنه لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار، قال أصحابنا: تجب القيمة؛ لأنه تلف في ملك البائع.
قال الشيخ- يعني أبا حامد-: وعندي أنه يضمن بالثمن؛ لأنه مسمى يثبت بالعقد فلا ينقطع مع بقاء العقد، واحتج لقوله: بأن القبض إذا وقع استقر البيع، وإذا استقر لم ينفسخ بهلاك المبيع.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أصح؛ لأنا إذا قلنا: إن المبيع في ملك البائع، فتلف لا يجوز أن ينتقل إلى المشتري بعد تلفه، وما ذكره من أن العقد ثابت فيثبت فيه المسمى غير مسلم؛ لأن العقدي نفسخ إذا تعذر إمضاء أحكامه بتلفه، وأما إذا قلنا: المبيع في ملك المشتري، فلا يمكننا أن نثبت استقرار العقد بتلفه؛ لأن في ذلك إبطالاً لخيار البائع، فمتى شاء المشتري أتلفه وأبطل خياره، ولا يمكن بقاؤه على حكم الخيار؛ لأنه إذا لم يتم العقد فلا يمكن إتمامه فيه بعد تلفه، كما لا يمكن العقد عليه بعد ذلك، وما ذكره من أن العقد يستقر به فغير صحيح؛ لأن القبض لا يستقر به العقد مع بقاء الخيار؛ ولهذا لا يدخل الخيار في الصرف لوجوب التقابض فيه، هذا آخر كلامه.
قلت: وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن قولك: لا يجوز أن ينتقل إلى المشتري بعد تلفه، مسلم، لكنا نقول: ينتقل قبيل التلف، كما إذا تلف المبيع في يد البائع بل
أولى؛ لأنه يتضمن إجازة العقد.
فإن قيل: هذا خلاف الأصل، وصرنا إليه في حق البائع لضرورة دل عليها نهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبضن وربح ما لم يضمن، ولا ضرورة بنا ها هنا.
قلنا: قد قيل به في محل لا ضرورة فيه، ولا تشوف للشارع، وهو: ما إذا أدى الضامن ما ضمنه في صورة يكون له الرجوع فيها على المضمون عنه، فإنا نقدر دخول المدفوع في ملك المضمون عنه قبيل الدفع للمضمون له، حتى يتمكن الضامن من مطالبته، ويرجع المضمون عنه إلى عينه عند فسخ العقد الذي وجب بسببه الدين.
وقد صرح بذلك الإمام في ضمن ما إذا ضمن الرجل للمرأة صداقاً عن زوجها، وغرم، ثم ارتدت قبل المسيس.
وقولك: إن العقد ينفسخ إذا تعذر إمضاء أحكامه بتلفه، مسلم، لكن مضى حكمه قد بينا أنه لم يتعذر.
وقولك: إن في ذلك إبطالاً لخيار البائع غير مسلم؛ لأن الكلام فيما إذا أجيز العقد بعد التلف، أو مضت مدته من غير فسخ، وقد قلت مثل ذلك فيما إذا أعتق المشتري العبد المبيع في زمن الخيار، وحكمنا بنفوذ العتق بعد إلزام العقد، إذا قلنا:[إن] الملك للمشتري أو موقوف، ولم يكن عتقه قاطعاً لخيار البائع.
وقولك: لا يمكن بقاؤه على حكم الخيار؛ لأنه إذا لم يتم العقد فلا يمكن إتمامه فيه بعد تلفه، كما لا يمكن العقد عليه بعد ذلك.
قلنا: لا نسلم؛ فإن إتمامه يقع بطريق الضمن والتبع، وذلك يغتفر فيه [ما لا يغتفر] فيما يقع ابتداء.
وقولك: إن القبض لا يستقر به العقد مع بقاء الخيار، فذاك مبني عندك على اعتقادك أن العقد ينفسخ بتلفه، وقد منعناه.
وقولك: ولهذا لا يدخل الخيار في الصرف؛ لوجوب التقابض فيه، مسلم، لكن
ذلك لا يدل على أنه لا يستقر بالقبض. والله أعلم.
والذي حكاه الماوردي: الجزم بانفساخ العقد في خيار المجلس على الأقوال كلها، فيضمن القيمة سواء كان المبيع مما له مثل، أو مما لا مثل له؛ لأن ما له مثل إنما يضمن بالمثل في الغصب، أما إذا كان مضموناً على وجه المعاوضة، كالمقبوض للسوم، أو بعقد [بيع] فاسد أو مفسوخ، فإنه يضمنه بالقيمة دون المثل.
وأما خيار الشرط فإن كان لهما، أو للبائع وحده فالحكم كذلك، وإن كان للمشتري وحده فإن قلنا: لا يملك إلا بانقضاء الخيار، أو هو موقوف، فهو ضامن له بالقيمة دون الثمن أيضاً.
فإن قيل: إنه قد ملكه بنفس العقد فعلى وجهين:
أحدهما: وهو ظاهر نصه في البيوع أنه ضامن بالقيمة دون الثمن.
والوجه الثاني- وقد أشار إليه في "كتاب الصداق"-: أنه ضامن له بالثمن المسمى دون القيمة؛ لأن ثبوت الخيار له وحده يجري مجرى خيار البيع.
والذي حكاه الإمام عن صاحب "التقريب" وأصحاب القفال- وقال: إنه المرضي، بناء ذلك على أقوال الملك.
فإن قلنا: إن الملك للبائع انفسخ؛ لأنا إذا حكمنا بالانفساخ عند بقاء يده، فمع بقاء ملكه أولى. وعلى هذا يغرم قيمة المبيع للمشتري.
قال: ويقطع باعتبارها وقت التلف؛ فإن المبيع قبله ملك للمشتري، وهذا منه تفريع على أن الفسخ بتلف المبيع قبل القبض يستند [إلى قبيل التلف، أما إذا قلنا: إنه يستند إلى] أصل العقد؛ فيتجه أن يكون حكمه حكم المستام أيضاً.
وإن قلنا: بعدم الانفساخ، فهل ينقطع الخيار؟ حكى الرافعي فيه وجهين:[أصحهما: أنه لا ينقطع، وفي "النهاية": أنه] إذا كان الثمن [عينا فخيار] البائع لا ينقطع، وهل ينقطع خيار المشتري؟ فيه وجهان، وهما يجريان أيضاً في حق البائع، إذا
كان الثمن في الذمة، فإن قلنا ببقاء الخيار وأجيز العقد ثبت الثمن، وإن فسخ وجبت القيمة، وإن قلنا بانقطاعه استقر العقد به ولزم الثمن.
فرع: إذا قبض المشتري المبيع في زمن الخيار، ثم أودعه البائع وتلف في يده قال الصيدلاني: هو كما لو تلف في يد المشتري، وكذلك صرح به المحاملي والبندنيجي، وقال الماوردي: إن المشتري يغرم القيمة، وهو ماش على ما ادعاه في أن العقد ينفسخ بتلف المبيع في يد المشتري.
وأبدى الإمام احتمالاً في رجوع البائع بالقيمة، إذا فرعنا [على] أن الملك له من حيث إن العين المملوكة [له] إذا عادت إلى يد صاحبها، وتلفت في يده يظهر أن يقال: لا ضمان على المشتري.
قال: وإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن؛ لأنه تصرف فيه تصرفاً يبطل به حق الملك فكان ذلك قبضاً منه، كما لو كان عبداً فأعتقه، ولأن الإتلاف ينزل منزلة القبض فيما إذا أتلف المالك العين المغصوبة في يد الغاصب، حتى يبرأ الغاصب من عهدتها، وكذلك ها هنا.
وحكى الشيخ أبو علي الطبري: وجهاً أن إتلافه ليس بقبض، فيتلف من ضمان البائع وينفسخ العقد.
وعلى الأول: إنما يجعل الإتلاف قبضاً إذا علم المشتري أنه المبيع، أما إذا لم يعلم، وكان المبيع طعاماً، فقدمه البائع إليه فأ: له؛ ففي جعله قابضاً له حتى يبرأ البائع الخلاف المذكور في مثله من الغصب، فإن لم نجعله قابضاً فهو كما لو أتلفه البائع.
ثم حيث قلنا بعدم الانفساخ، فهل يأخذ من المشتري القيمة، وتحبس لوفاء الثمن؟ الذي أجاب به الإمام هنا، أنه لا يلزمه ذلك وجهاً واحداً، وحكى في باب الحميل والرهن: أن صاحب "التقريب" روى وجهاً [واحداً] في أن إتلافه لا يكون قبضاً، وأن القيمة تلزمه وتكون محبوسة بالثمن.
فرع: إذا كان المبيع عبداً مرتداً فقتله المشتري؛ ففي فتاوى صاحب "التهذيب"
كما حكاه الرافعي قبل باب الديات: أن المشتري إن كان الإمام، وقصد قتله عن الردة انفسخ البيع، ووقع القتل عن الردة.
وإن كان غير إمام استقر العقد، سواء قصد القتل عن الردة أو لا؛ لأنه لا يجوز له ذلك بخلاف الإمام.
[فرع] آخر: إذا أتلف المشتري بعض المبيع في يد البائع، جعل كالقابض له، إن كان مما يتقسط الثمن عليه، كأحد العبدين، وإن كان مما لا يتقسط الثمن عليه كأرش البكارة، فيما إذا وطئ المشتري الجارية المبيعة في يد البائع ففي "الحاوي": أن الجارية إذا تلفت انفسخ العقد ووجب على المشتري أرش بكارتها.
وفي "شرح الفروع" للقاضي أبي الطيب: أنه يجب منسوباً من الثمن، وطرد ذلك فيما إذا قطع يد العبد ثم مات في يد البائع بآفة سماوية أنه يستقر العقد في نصف المبيع بنصف الثمن.
وكذلك فيما إذا قطع يديه، قال: يستقر العقد بجملة الثمن، حتى إذا تلف العبد بعد ذلك، لا يرجع المشتري على البائع بشيء.
وفي "الحاوي" حكاية خلاف في صورة قطع اليد في أن البائع يرجع على المشتري عند تلف العبد، بماذا؟ هل بالأرش المقدر كالأجنبي، أو بما نقص من القيمة؛ لأن الجناية كانت في ملكه، بخلاف الأجنبي.
وفي "التهذيب" أنه يستقر على المشتري من الثمن بنسبة ما انتقص من القيمة، وهو المذهب في "تعليق" القاضي الحسين والمجزوم [به] في "شرح الفروع" للقفال، وقال الإمام في باب الديات عند الكلام في ضمان جراح العبد: إنه يستحيل أن يجعل المشتري قابضاً لجميع المبيع بقطع يد العبد؛ إذ يستحيل القول به مع بقاء العبد في يد البائع؛ فلا يتأتى في ذلك إلا اعتبار النقصان.
قال: وإن أتلفه أجنبي- أي بغير حق- ففيه قولان:
أحدهما: ينفسخ البيع؛ لأن المعقود عليه قد فات، فأشبه الفوات بالآفة السماوية، فعلى هذا يسترد المشتري الثمن إن كان قد أنفذه، ويطالب البائع الأجنبي بالبدل، وهذا ظاهر المذهب في "التتمة"، والصحيح في "تعليق" القاضي أبي الطيب.
والثاني: لا ينفسخ، بل يثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإمضاء، والرجوع
على الأجنبي بالقيمة- أي كما تقدم- وأما عدم الانفساخ؛ فلأن هذا الإتلاف يستعقب ضماناً على المتلف، والبدل إذا ثبت خلف المتلف في الأعواض المالية.
وأما ثبوت الخيار فلفوات غرضه المتعلق بالعين، وهذا القول هو الصحيح في الرافعي، و"تعليق" القاضي الحسين، والمذهب في "النهاية" في آخر باب اختلاف المتبايعين، ولم تعرف المراوزة غيره على ما حكاه الإمام قبل ذلك.
وفي "الوسيط": أن العراقيين قطعوا بأنه لا ينفسخ، وقالت المراوزة: فيه قولان. وهذا مما استدرك عليه؛ فإن صوابه العكس على المشهور.
وفي "العدة" للطبري عن أبي العباس: أنه لا ينفسخ البيع قولاً واحداً.
فرع: إذا أجاز المشتري العقد وأخذ البدل لم يكن للبائع حبسه لوفاء الثمن على أظهر الوجهين، بخلاف المرهون إذا تلف. والفرق: قوة الرهن وضعف حق الحبس، ومقابله مجزوم به في "تعليق" القاضي الحسين؛ فإن للبائع مطالبة الأجنبي بالقيمة كما للمشتري مطالبته، كما للراهن والمرتهن مطالبة متلف الرهن بقيمته، وهو الذي صدر به الإمام كلامه في باب التحالف، وذكر بعده ما قاله القاضي من تمكينه من المطالبة، ثم قال: ومن أصحابنا من يقول: ينقطع حق الحبس، وظاهر ذلك يقتضي ترجيح ثبوت حق الحبس. ثم إذا قلنا به فتلف البدل قبل القبض لم ينفسخ العقد على الأظهر من الوجهين.
[فرع] آخر: لو أراد الفسخ بعد الإجازة كان له ذلك على ما حكي عن جواب القفال.
وقال القاضي: لم يكن له؛ لأنه رضي بما في ذمة الأجنبي فأشبه الحوالة، أما إذا كان إتلاف الأجنبي بحق؛ كما إذا قتل العبد المبيع قصاصاً فإنه كالآفة السماوية وجهاً واحداً.
قال: وإن أتلفه البائع انفسخ العقد؛ لأنه يضمنه بالثمن إذا تلف في يده بحكم عقد البيع، فكذلك إذا أتلفه؛ لأنه لا يجوز أن يكون مضموناً عليه بالقيمة والثمن.
قال: وقيل: هو كالأجنبي؛ لأنه تلف بفعل آدمي غير المشتري فأشبه الأجنبي، ولأن إتلاف الراهن العين المرهونة كإتلاف الأجنبي؛ فكذلك ها هنا، لكن الأصح على هذه الطريقة من القولين انفساخ العقد كما حكاه الرافعي، وعلى القول بعدم
الانفساخ يعود الخلاف في حبس القيمة، وعن الشيخ أبي محمد: القطع ها هنا بأنه لا يحبسها لتعديه بإتلاف العين، ويقوم مقام إتلاف البائع عتقه لما بقي في ملكه من العبد الذي باع بعضه، وهو موسر وإتلاف الأعجمي، والصبي الذي لا يميز بإذنه، و [إذا طالبه المشتري بتسليمه فامتنع تعدياً ثم تلف أقامه كيد العدوان مقام الإتلاف، كما حكاه الإمام عن القاضي عند الكلام في مسألة العلج، ثم قال: وهذا فيه احتمال من جهة أن الإتلاف إذا لم نوجبه كاليد القائمة يد عقد؛ ولهذا لا يتصرف المشتري في المبيع والحالة هذه، فتغليب ضمان العقد أولى].
ويقوم مقام إتلاف المشتري إتلاف الأعجمي والصبي الذي لا يميز بأمره، وإتلاف الأجنبي بأمره.
وقال القاضي الحسين: إنه يلغو إذنه وإذا أتلفه كان له الخيار، وإذنه للبائع في الأكل والإحراق لا يخرج الفعل عن نسبته إلى البائع حتى يكون في ضمانه.
ولو صال العبد المبيع على المشتري فقتله دفعاً فعن الشيخ أبي علي: أنه لا يستقر عليه الثمن وهو موافق لما حكاه الرافعي في مثل هذه الصورة في كتاب الغصب، أن الغاصب لا يبرأ، سواء علم المالك بأن الصائل عليه عبده أم لا، ونحا القاضي إلى أنه يستقر، ويظهر أن يكون محله إذا علم بأنه المبيع، كما حكى الرافعي في الغصب وجهاً مثله.
وإتلاف عبد البائع أو المشتري المبيع بغير الإذن كإتلاف الأجنبين فإن أجاز العقد وكان المتلف عبده جعل قابضاً كما لو أتلفه بنفسه.
وإتلاف بهيمة المشتري المبيع بالنهار يفسخ البيع، وبالليل لا، وللمشتري الخيار: فإن أجاز فهو قابض، وإلا طالبه البائع بقيمة ما أتلفته بهيمته، وإتلاف بهيمة البائع أطلق القفال في فتاويه أنه كالآفة السماوية، وإن كان قد فصل في بهيمة المشتري كما ذكرناه، ثم ما ذكرناه مفروض فيما إذا لم يكن مالكها معها، أما إذا كان معها فالتلف منسوب إليه ليلاً كان أو نهاراً.
وبيع البائع المبيع وتسليمه، وعجزه عنه منزل منزلة جنايته، على ما هو محكي في فتاوى القاضي، والقول: قوله إنه عاجز مع اليمين.
وفي "الإشراف": أن البائع إذا طولب بتسليم المبيع وادعى حدوث العجز عنه حبس حتى يقيم البينة. فإن قال البائع: المشتري يعلم عجزي فله تحليفه، لكن على
البت أو على النفي؟ فيه خلاف.
فرع: إذا انتفع البائع بالمبيع قبل القبض لم يجب عليه الأجرة على ظاهر المذهب؛ بناءً على أن جنايته كالآفة السماوية، وإن جعلت كإتلاف الأجنبي وجبت، قاله البغوي والغزالي في كتاب الصداق.
وحكى في الفتاوى: أن الصحيح أنه يضمن الأجرة إذا أمسك المبيع بعد تسلمي الثمن مدة لمثلها أجرة، ومقتضى ذلك أن يقول به عند الانتفاع من طريق الأولى.
قال: والقبض فيما ينقل النقلُ أي: مثل الأخشاب والأمتعة الثقيلة والطعام الكثير والمراكب، والرقيق والبهائم وما أشبه ذلك- النقل.
[قال]: وفيما يتناول باليد أي: مثل الذهب والفضة واللآلئ والثوب والطائر، وما أشبه ذلك- التناول.
[قال: وفيما سواهما أي: مثل الأراضي والدور والأخشاب القائمة في الأرض التخلية.
والدليل على ذلك: أن الشرع أطلق القبض في البيع، وأناط به أحكاماً ولم يبينه، ولا له حد في اللغة يرجع إليه؛ فكان المرجع فيه إلى العرف كالحرز في السرقة والإحياء، والعرف قاض باعتبار ما ذكرناه.
وفي "الوسيط" حكاية قول عن حرملة: أن التخلية تكفي في المنقول كالعقار، ووجه: أنها تكفي لنقل الضمان دون ملك التصرف، ونسبه الإمام إلى العراقيين، لكن بشرط أن يوجد من المشتري قبول ذلك، أما إذا لم يكن منه قبول فلا ينتقل إليه الضمان.
وفي الجيلي حكاية وجه: أن التناول باليد يكتفي به في الرقيق والبهائم، والمذهب: أن التخلية لا تكفي؛ لنهيه عليه السلام: أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، وما روي عن ابن عمر أنه قال:"كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً؛ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه".
وأن القبض في الرقيق بأن يستدعيه فيأتيه، وفي البهائم أن يسوقها أو يقودها.
وفي "الحاوي": أن شراء الموضع الذي فيه المبيع مع التخلية يقوم مقام قبض المبيع، ولو استأجره؛ فوجهان، بخلاف ما لو استعاره. وضعف الشاشي قوله.
وقد حكى القاضي الحسين في تعليقه ما حكاه الماوردي: فيما إذا اشترى الموضع وجهاً، وطرده فيما إذا اشترى الزرع بشرط القطع ثم اشترى الأرض.
وفي "التتمة" وغيرها: أنه إذا اشترى داراً مع طعام فيها، أن التخلية تكفي فيهما على وجه. وهو ما حكاه الماوردي، وإن لم يكتف بها فيما إذا بيع منفرداً. وعلى وجه: لا تكفي، وهو الأصح في الرافعي.
تنبيه: المراد بالنقل: أن يحوله المشتري- بإذن البائع أو بغير إذنه ولم يكن له حق الحبس- إلى مكان لا يختص بالبائع، سواء كان يختص بالمشتري كملكه، أو ما هو مستأجر معه، أو مستعار. أو لا يختص به كالمساجد والشوارع.
وفي "الحاوي" أن المعتبر فيه إخراجه من الحرز الذي كان فيه، وإن لم يجعله المخرج في حرز.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو وضعه في جواليق لنفسه، وخرج ليحضر الجمال فهو قبض وإن كانت الجواليق في دار البائع، وكذلك لو استعار منه الجواليق.
أما إذا كان للبائع حق الحبس ونقله بغير إذنه، فقد حصل نقل الضمان. وهل
يملك التصرف؟ فيه وجهان في "الوسيط" والمذكور في الرافعي و"الحاوي": العدم، وفي "النهاية" حكاية عن الشيخ أبي محمد: أن الاستيلاء- كما ذكرنا- لا يقتضي نقل الضمان، كما لا يقتضي التصرف، وهو بعيد.
ولو حصل النقل والتحويل من البائع بأن وضعه في بيت المشتري، أو في حجره، أو بين يديه بإذنه حصل القبض، وإن كان بغير إذنه ورضاه فالمذهب في "النهاية" أنه يحصل أيضاً، إذا مكنه من قبضه والاحتواء عليه.
وفي بعض التصانيف وجه آخر: أن هذا لا يكون قبضاً ما لم ينقله المشتري، قال الإمام: وهذا الوجه عندي يخرج على قول من يرى بعدم الإجبار على قبول الدين الحال.
والأول يخرج على القول بوجوبه، وهو المذهب.
وقال في باب اختلاف المتبايعين: إن سبب الوجوب تخليص البائع من عرضة الضمان، وبه جزم ثَمَّ. وفي الرافعي قياس القول على ما إذا وضع الغاصب المغصوب بين يدي المغصوب منه فإنه يبرأ.
وفرق المتولي بينهما: بأن المالك في الغصب يده سابقة، وإنما وجد من الغاصب
نوع تعدٍّ، وقد ترك العدوان، فعاد الشيء إلى يد مالكه، وها هنا المشتري لم يكن له يد سابقة ويد البائع ثابتة بحق فلا تزول إلا بتمام الاستيلاء.
ثم على القول بحصول القبض لو خرج المبيع مستحقاً ولم يوجد من المشتري وَضْعُ يدٍ عليه لم يكن للمستحق مطالبته. وعلى القول بعدم حصوله، للحاكم [أن يجبره على أخذه، فإن امتنع أمر الحاكم مَنْ يقبضه عنه، كما لو كان غائباً، كذا حكاه الرافعي].
ومقتضى ما وجه به الإمام عدم حصول القبض ألا يجبره الحاكم، ولا يستنيب من يقبضه عنه.
وفي "الوسيط" عند الكلام في وجوب البداية بالتسليم: أن صاحب "التقريب" قال: للبائع أن يقبضه من نفسه؛ لتصير يده يد أمانة، وله أن يدفع ذلك إلى القاضي [حتى يودعه تحت يده.
ثم قال: وهو بعيد. وقبض القاضي وإيداعه أقرب.
وحكى الإمام عنه: أن للقاضي] أن يبرئه من ضمان المبيع فتصير يده يد أمانة، فإن لم يجد قاضياً؛ فيقبضه البائع من نفسه للضرورة، وعلى ذلك يحمل إطلاق الغزالي الخلاف عنه.
والمراد بالتخلية: أن يحضرا عند المبيع ويرفع البائع يده عنه، ويمكن المشتري من التصرف فيه، فيقول له: دونك هذا، ويدفع إليه المفتاح، سواء دخل أو لم يدخل، لكن يشترط ألا يكون ثَمَّ مانع شرعي ولا حسي.
وفي "الشامل" في كتاب الرهن: أن الدار إذا كان فيها قماش للراهن، وسلم الراهن للمرتهن المفتاح- حصل القبض. وقال أبو حنيفة: لا يصح ثم قال: وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل ما كان قبضاً في البيع كان قبضاً في الرهن، وهذا منه يدل على أن القبض في البيع يحصل بذلك.
ولو لم يحضر المبيع فلا يكفي ذلك على وجه، وقيل: يكتفي بحضور المشتري وحده. وقيل: لا يشترط حضور واحد منهما، وهو الأظهر. نعم يشترط مضي زمان يمكن المضي إليه فيه على أصح الوجهين، وهو المحكي في "التتمة".
فرع: إذا باع الأب مال ولده المنقول من نفسه، أو بالعكس، ففي كيفية القبض وجهان حكاهما الماوردي:
أحدهما: بالنقل والتحويل، كما ذكرناه.
والثاني: بالنية، إذا كان تحت يده من غير نقل وتحويل.
فرع [آخر]: إذا باع الجمد في المجمدة، وقد رآها قبل وضعه فيها، فتسليمه يكون على حسب الإمكان كما في بيع الدار المشحونة قماشاً، والسفينة المملوءة طعاماً.
وفيه وجه: أنه يلزمه تسليمه على حسب العرف والعادة، يأخذ الجمد منه في كل يوم وقراً، أو وقرين، أو ثلاثة. والصحيح هو الأول. حكاه القاضي الحسين في باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار.
واعلم أن جميع ما ذكرناه فيما إذا لم يكن المبيع [تحت يد المشتري، وكان المبيع جزافاً غير مقدر بكيل ولا وزن ولا ذرع، أما إذا كان المبيع]. في يد المشتري، فإن كانت يده يد أمانة كيد المودع والمرتهن وغيرهما، أو يد ضمان كيد الغاصب والمستعير وغيرهما، فإن كان المبيع حاضراً كان مقبوضاً بنفس العقد، ولا يحتاج فيه إلى إذن من جهة البائع، وإن كان له حق الحبس، قال المتولي: لأنه لما باع منه [مع] كون المال في يده فقد رضي بدوام يده. وفي الغصب وجه: بأن البيع جهة ضمان، والمال في يده مضمون؛ فسقط حكم ضمان القيمة وتقرر ضمان الثمن.
وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أنه لابد من النقل والتحويل بإذن البائع إذا كان له حق الحبس. وإن كان المبيع غائباً، فهل يشترط مضي زمان يمكن المضي فيه إليه؟ [فيها] وجهان، أصحهما: ما حكاه الرافعي في كتاب الرهن: نعم. وهو ما جزم به المحاملي والبندنيجي.
ثم هل يشترط المضي إليه؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: التفرقة بين ما ينتقل كالحيوان فيشترط، أو لا ينتقل كالعرض فلا يشترط.
وفي "النهاية": الفرق بين أن يكون مأمون التلف فلا يشترط، أو غير مأمون فيشترط.
وعلى القول باشتراط المضي، هل يشترط النقل والتحويل؟ فيه وجهان: أصحهما
- وبه قطع بعضهم- أنه لا يشترط.
وهل يحتاج في التصرف إلى إذن البائع على القول بعدم اشتراط النقل؟ ينظر: إن كان له حق الحبس فنعم، وإن لم يكن له حق الحبس فلا، على الأصح.
ومقتضى ما ذكرنا فيما إذا كان المبيع في يده أنه لا يحتاج إلى إذنه وإن ثبت له حق الحبس على الأصح. وهو ما يقتضيه كلام الإمام في "كتاب الرهن" فإنه قال: وذكر أبو علي في الشرح وجهاً أن القبض لا يحصل، ولا يبطل حق البائع في حبس المبيع إذا أثبتناه ما لم يأذن أو يتوفر عليه الثمن. وهذا غريب ثم قال: والذي ينقدح لنا في هذا أنه إذا لم يحصل القبض حتى يتوفر الثمن فينبغي أن تكون العين في يد المشتري بمثابة المبيع يقبضه قبل توفية الثمن.
وأما إذا كان المبيع مقدارً فلا بد مع ما ذكرناه في الصورة السابقة من الذَّرْع أو الوزن أو الكيل، فلو قبض جزافاً فاشتراه مكايلة دخل المقبوض في ضمانه، وفي صحة بيعه لما تيقن أنه له، وجهان:
أحدهما- وبه قال ابن أبي هريرة وساعده الجمهور-: أنه لا يصح.
وقال أبو إسحاق: إنه يصح.
وقبض ما اشتراه كيلاً بالوزن ووزناً بالكيل كقبضه جزافاً، وكذا قبضه بكيل من غير جنس الكيل الذي اشترطه.
ولو اشترى منه قفيزاً من طعام فاكتاله بالمكوك- الذي هو ربع القفيز- فوجهان وكذا لو اكتال الصاع بالمد على وجهين في "الحاوي".
وسيأتي في الباب الثاني أن النووي حكى ما يقتضي أن المكوك ثمن القفيز.
ولو قال الدافع: خذه فإنه كذا، فأخذه مصدقاً له، فالقبض فاسد أيضاً، حتى يجري اكتيال صحيح.
ولو كان للبائع على غيره طعام، فقال للمشتري: اذهب معي لأقبضه وأكتاله لك، ففعل- فهو فاسد أيضاً؛ لنهيه عليه السلام: عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، يعني: صاع البائع، وصاع المشتري.
ولو اكتاله البائع لنفسه ثم سلمه إلى المشتري في المكيال؛ ففي صحة القبض وجهان محكيان في "تعليق" البندنيجي وغيره.
أحدهما: لا يصح، حتى يفرغه ويبتدئ كيله.
وأظهرهما عند الأكثرين أن استدامة المكيال كابتداء الكيل.
ثم إذا فرغ واكتيل ثانياً فزاد زيادة يمكن أن تكون من اختلاف الكيلين فهي للقابض الأول.
وإن كانت أكثر من ذلك فهي للمقبض الأول وإن نقص فهو على القابض الأول.
ثم ليس على البائع الرضا بكيل المشتري، ولا على المشتري الرضا بكيل البائع.
[و] قال الرافعي: فإن لم يتراضيا نصب الحاكم أميناً يتولاه، وعزاه إلى "الحاوي". فظاهر هذا يدل على أنهما لو تراضيا بكيل أحدهما جاز.
وحكى من بعد فيما لو أذن لمستحق الحنطة أن يكتال من الصبرة بحقه وجهين: أصحهما [أنه] لا يجوز؛ لأن الكيل أحد ركني القبض، وقد صار نائباً فيه من جهة البائع متأصلاً لنفسه.
والثاني: يجوز؛ لأن المقصود منه معرفة المقدار، والمقبض هو البائع.
ويشترط في صحة القبض أيضاً، أني كون المقبوض مرئيّاً للقابض، فلو لم يره، حكى الإمام أن بعض أصحابنا خرجه على الخلاف المذكور في التقابض مجازفة، ثم قال: وهذا فيه فضل نظر فإن القبض من غير رؤية، يخرج عندنا على بيع الغائب، فإن قبض غير ما ثبت في الذمة ملكاً كالمبيع يحل محله.
فرع: مؤنة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع [كمؤنة إحضار المبيع الغائب ومؤنة وزن الثمن على المشتري، قاله الرافعي، ومؤنة نقل الثمن على البائع] أو على المشتري؟ حكى الماوردي فيه وجهين.
وقد نجز الكلام في كيفية القبض وحكمه، وبقي أمران ىخران:
أحدهما: القابض: وهو كل من يصح منه البيع، وقد أشار إلى ذلك الغزالي بقوله: ولا يعتد بقبض الصبي فإنه سبب ملك أو ضمان.
فلو قال: أد إلى الصبي، فأدى لم يبرأ؛ لأن ما في الذمة لا يتعين ملكاً إلا بقبض صحيح، بخلاف ما لو قال: رد الوديعة إليه فإن الوديعة متعينة وذلك مستمد مما قاله
الإمام: من أن الصبي ليس من أهل القبض فيما لا يكون من أهل العقد فيه فإن القبض فيه من الخطر ما يزيد على العقد. والقبض إن كان مملكاً في عقد- كالقبض في الهبة- فهذا الصبي لا يصلح له كما لا تصلح عبارته للفظ الذي يملك به.
وقد أطال بعض المتأخرين في بيان مراد الغزالي من قوله: "سبب ملك أو ضمان"، ولم يُظْهر له معنىً معتبراً. ومراده- رضي الله عنه أن الصبي لا يعتد بقبضه المبيع؛ [لأن القبض] فيه سبب ملك، أي: في العوض الثابت في الذمة إذا عين؛ أو ضمان، أي: في نقل المبيع المعين من ضمان البائع إلى ضمان المشتري، والصبي ليس أهلاً للتملك بهذا الوجه، وإن كان أهلاً لتملك المباحات؛ لأنه ليس فيها نقل ملك عن الغير بل افتتاح ملك، وهو محض مصلحة لا ضرر عليه فيه ولا هو أهل للضمان، [فهذا هو الوجه] وإن كان أهلاً للضمان بالإتلاف للخبر الثابت، ويدل على ذلك تتمة كلامه فإنه قال: لو قال: أد إلى الصبي فأدى لم يبرأ لأن ما في الذمة لا يتعين ملكاً إلا بقبض صحيح بيَّنهما على مأخذ المنع، فيما إذا كان المبيع في الذمة.
واحترز- رضي الله عنه بقوله: "لأن ما في الذمة لا يتعين ملكاً" عما يتعين حقّاً لا ملكاً، وهو ما إذا التقط طعاماً وجوزنا له أكله وعزل القيمة، فإن مالك الطعام أحق بالقيمة، وإن لم يملكها بذلك وعلى ذلك إشكال يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فرع: يجوز لمن له القبض التوكيل فيه، ويشترط في الوكيل ألا تكون يده يد المقبوض منه كعبده غير المأذون، ومستولدته، ومدبره. ويجوز توكيل مكاتبه.
وفي توكيل عبده المأذون وجهان:
أصحهما: أنه لا يجوز.
ووجه الجواز محمول على ما إذا ركبته الديون، أما إذا لم يكن عليه دين، فلا يجوز وجهاً واحداً- كما سنذكر نظيره في كتاب الرهن عن الشيخ أبي علي.
[الأمر] الثاني: المحل الذي يستحق الإقباض فيه: إذا كان المبيع منقولاً، فإن كان حاضراً [لدى العقد] استحق تسليمه في موضع العقد.
وإن كان غائباً فقد حكى الماوردي: أنه لابد من ذكر البلد الذي هو فيه، ولا يشترط ذكر البقعة من البلد.
بخلاف ما إذا كان المبيع عقاراً، وجوزنا بيع الغائب، فإن في اشتراط ذكر البقعة من البلد وجهين.
ثم إذا عين البلد فالواجب أن يسلمه إليه فيه، وليس على البائع أن يسلمه في غيره.
فإن شرط المشتري على البائع أن يسلمه إليه في البدل الذي تبايعا فيه وهو في غيره لم يجز، وكان البيع فاسداً وهذا بخلاف المسلم فيه؛ لأنه مضمون في الذمة وليس بمختص بموضع دون غيره، فاستوى فيه جميع المواضع فافتقر إلى ذكر المواضع التي يقع القبض فيها، وليس كذلك [العين الغائبة؛ لأنها] غير مضمونة في الذمة، وهي معينة قد اختصت بموضع هي فيه فلم يجز اشتراط نقلها إلى غيره لأنه يصير بيعاً وشرطاً في معنى بيع ثوب على أن على البائع خياطته.
وفي الرافعي في كتاب السلم: أن السلم الحال لا حاجة فيه إلى تعيين مكان التسليم، كالبيع، ويتعين مكان العقد، لكن لو عين موضعاً آخر جاز بخلاف البيع؛ لأن السلم يقبل التأجيل فقبل شرطاً يتضمن تأخير التسليم بالإحضار، والأعيان لا تحتمل التأجيل فلا تحتمل شرطاً يتضمن تأخير التسليم، وأن حكم الثمن في الذمة حكم المسلم فيه، وإن كان معيناً فهو كالمبيع.
قال في "التهذيب": ولا نعني بمكان العقد ذلك الموضع بعينه بل تلك المحلة، هذا آخر كلامه.
وهو مصرح بعدم اشتراط مكان البيع واستحقاق تسليمه في مكان العقد، وعليه ينطبق كلام المتولي فإنه قال: إذا كان المبيع غائباً عن الموضع فمؤنة إحضاره على البائع وإن كان حاضراً ويحتاج في نقله إلى دار المشتري إلى مؤنة فعلى المشتري، ولا يجب على البائع إلا التخلية.
وفي "تعليق" القاضي الحسين قبيل كتاب الرهن: أنه لا خلاف في بيع العين، أنه لا يحتاج فيه إلى تعيين مكان تسليم المبيع، ومكان العقد أيضاً لا يتعين.
وإذا أتى البائع بالمبيع- أي موضع كان- يجبر المشتري على القبض، وأي موضع طالب المشتري البائع بتسلمي المبيع، وقد وفى الثمن أو قلنا يجبر البائع أو لا يجبر البائع على تسليم المبيع منه. والله أعلم.