المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الصيد والذبائح - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٨

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب الصيد والذبائح

‌باب الصيد والذبائح

والأصل في حل ذلك من الكتاب قبل الإجماع آيات منها قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إلى قوله تعالى: {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96]؛ فدل منطوقها على حل صيد البحر، ومفهومها على حل صيد البر في حالة عدم الإحرام؛ كما دل عليه قوله تعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} إلى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وقد صرح به في أخرى، فقال تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].

ومنها قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] والمزكى من الطيبات، ومن السنة ما سنذكره.

قال: ولا يحل من الحيوان المأكول شيء من غير ذكاة؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].

قال الماوردي: وفي الذكاة في اللغة ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها التطييب من قولهم: "رائحة ذكية"، أي: طيبة، فسمي به ذبح الحيوان؛ لما فيه من تطييب أكله.

والثاني: أنها القطع، فسمي بها ذبح الحيوان؛ لقطعه.

والثالث: أنها القتل، فسمي بها ذبح الحيوان؛ لقتله.

وقال في موضع آخر: في الذكاة في اللغة ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها التطييب، لكنها في الشرع: تطييب الذبيحة بالإباحة.

والثاني: أنها القطع، لكنها في الشرع: قطع على صفة [مخصوصة][فصارت في الشرع قطعاً خاصاً، وفي اللغة قطعاً عاماً].

والثالث- وإليه أشار الشافعي- رضي الله عنه: أنها القتل؛ لأنها لا تستعمل إلا في النفوس، لكنها في الشرع قتل في محل مخصوص فصارت أخص منها في اللغة.

قال الشافعي- رضي الله عنه: وجماع ما قال الله تعالى: {إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ}

ص: 133

[المائدة: 3]: قتلتم، ولكن كان مجوزاً أن يكون ببعض القتل دون بعض، فلما قال:{إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] دل على أن الزكاة المأمور بها الذبح دون غيره، وكان النحر في [معنى الذبح].

وقال النواوي: إن الذكاة والذكية معناهما عند أهل اللغة: التتميم، فإذا قيل: ذكى الشاة، فمعناها: ذبحها الذبح التام المبيح للأكل.

وإذا قيل: فلان ذكي، فمعناه: تام الفهم، وذكت النار تذكو؛ إذا استحكم وقودها، وأذكيتها أنا، والتذكية: بلوغ غاية الشباب والقوة؛ كذا نقله الواحدي وابن الأنباري وغيرهما.

قال: إلا السمك والجراد؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان: الحوت، والجراد، والدمان: الكبد، والطحال"، ولا فرق في ذلك [في السمك] بين الصغير منه الذي يسرع موته بعد خروجه من الماء، أو يتأخر، لكبره، نعم: لو ذكى الكبير منه، قال الشافعي: لا أكره ذلك.

وقال الأصحاب: هل يستحب؟ فيه وجهان، والأصح في "الروضة" الاستحباب.

ولو ذكى غير الكبير، كره كما أفهمه النص، وصرح به في "الروضة".

وكذا لا فرق فيه بين ما مات في الماء أو خارج عنه بسبب أو غير سببن كما سنذكره في الأطعمة، نعم: هل يحل للشخص ابتلاع سمكة حية أو قليها؟ فيه وجهان: المنسوب لصاحب "التلخيص" الجواز، وهو المذكور في الوجيز والأظهر عند الرافعي؛ لأنه ليس فيه أكثر من قتلها، وهو جائز، وقد قيل: إنه ينفع من بعض العلل.

ومقابله: ينسب للشيخ أبي حامد، وهو "المختار" في "المرشد"، والأصح في "تعليق القاضي الحسين" و"النهاية"، لما فيه من التعذيب.

والوجهان مفرعان على أن السمك لا يخرج بهذا الفعل عن أن يكون حلالاً؛ كما هو المذهب في "النهاية"، والذي أورده الجمهور.

أما إذا قلنا بعدم الحل؛ كما قاله بعض الأصحاب؛ لأن الموت في السمك بمثابة

ص: 134

[الذكاة في المذكاة] من الحيوانات البرية، فلا يحل ابتلاعها جزماً من غير حاجة؛ كذا أشار إليه الإمام.

وكذا لا فرق بين أن يصطاده من يحل ذكاته أو لا: [كالمجوسي ونحوه].

فإن قلت: يرد على حصر الشيخ الجنين الذي يوجد في بطن الحيوان المأكول بعد الذبح ميتاً أو فيه حياة غير مستقرة؛ فإنه يحل من غير ذكاة؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] وهي الأجنة التي ذكرناها؛ كما قال ابن عباس؛ لأنها أبهمت عن الأمر والنهي، ولم يبينه الشيخ.

قلت: [بل] ما حلَّ إلا بالذكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، كما أخرجه [الإمام] أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري، وهو يوقع الذكاة فيهما كما هو المحفوظ عن أئمة هذا الشأن؛ فتكون ذكاة الأم ذكاة الجنين.

ويؤيده أنه جاء في رواية عن مسدد أنه قال: قلنا يا رسول الله، [إنَّا] ننحر الناقة، ونذبح البقرة أو الشاة [فنجد] في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال:"كلوا إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه"؛ وهذا يدحض تأويل من قال: إن الحديث

ص: 135

بنصب "الذكاة" الثانية، وإن تقديره: ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه؛ فيجب ذبحه إن أمكن، وإلا فلا يحل.

وقد حكى الإمام في باب الأطعمة أن شيخه كان يقول: لو كان الجنين لا يحل [بذكاة الأم]، لما جازت ذكاة الأم مع ظهور الحمل؛ كما لا تقتل المرأة قصاصاً [و] في بطنها ولد، فألزم ذبح رمكة وفي بطنها بغلة فمنع ذبحها، وهو محتمل، وما ذكره ظاهر.

نعم: يرد على الحصر ما لو خرجت رأس الجنين ميتاً، فذبحت الأم قبل انفصاله؛ فإنه يحل كما قاله البغوي؛ فإنا تحققنا: ألا ذكاة فيه.

على أن حله قد يمنع؛ كما سنذكره في الباب.

واليد الشلاء من الحيوان المأكول إذا ذبح هل تحل؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي في باب القصاص في الأطراف.

فإن قلنا بالحل، فذاك، لأنَّا لم نجرها مجرى الميتة؛ فحلت بالذكاة.

وإن قلنا بالتحريم نجعلها كالميتة؛ فلا ترد علينا، والله أعلم.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: أن غير السمك من حيوانات البحر تشترط ذكاته؛ إذا قلنا: يحل أكله،

ص: 136

وهو وجه حكاه المراوزة.

والذي حكاه العراقيون- كما ستعرفه في باب الأطعمة- الجزم بالحل بدونها كالسمك.

والثاني: أن بعض السمكة إذا انفصل في حال حياتها حلال أيضاً؛ لأن ما أبين من حي، فهو ميت؛ كما نطق به الخبر، وميتة السمك حلال، وهو أحد الوجهين في المسألة، وسيستقصى الكلام فيها في باب الأطعمة قال: ولا تحل ذكاة المجوسي والمرتد ونصارى العرب وعبدة الأوثان.

اعلم أن كلام الشيخ يقتضي تحريم ذبائح المذكورين بمنطوقه، وحل ذبائح من عداهم، وهم المسلمون، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى من بني إسرائيل ونصارى العجم- بمفهومه، وسواء فيه ما هو حلال عندنا وعندهم [أو] عندنا وحرام عندهم: كالشحم، والإبل، كما صرح به غيره.

والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].

قال المفسرون: والمراد بالطعام في الآيتين الذبائح، وقد خرج أبو داود عن ابن عباس أنه قال:"فكلوا مما ذكر اسم الله عليه، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه"؛ فنسخ، واستثنى فقال:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] فقد دلت الآيتان على حل ذبائح المسلمين وأهل الكتاب، وتحريم ذبائح من عداهم.

وقد ورد النص بتحريم ذبائح المجوس؛ قال- عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير آكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم".

ص: 137

و [أما] المرتدون ممن لا كتاب لهم قطعاً، فاستفدنا [تحريم] ذبائحهم من الكتاب، ولأنهم أسوأ حالاً من المجوس؛ فإن المجوسي تعقد له الذمة بخلاف المرتد.

ونصارى العرب- وهم "بهراء""وتنوخ""وتغلب"، كما سنذكرهم في باب ما يحرم من النكاح، وباب عقد الذمة- قد روى شهر بن حوشب "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح نصارى العرب".

وروى عن عمر أنه قال: "ما نصارى العرب بأهل كتاب، لا تحل لنا ذبائحهم".

وعن علي أنه قال: "لا تحل لنا ذبائح بني تغلب؛ لأنهم لم يأخذوا من دين أهل الكتاب إلا شرب الخمر وأكل الخنازير".

ص: 138

واختلف أصحابنا في علة تحريم ذبائحهم:

فقال قومُ: للشك في أنهم دخلوا في دين أهل الكتاب: أم لا؟ وعليه يدل قول علي.

وقال قوم: للشك في أنهم دخلوا في الدين بعد نزول الفرقان أم لا؟ وهذان أوردهما القاضي الحسين.

وقال ابن الصباغ والبندنيجي: لأنهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ وبعد التبديل، ولا نعلم هل دخلوا في غير المبدل؛ فيكون حكم حكمهم، أو فيه فلا، لأنهم دخلوا في دين لا حرمة له؛ فلم يتحقق الشرط في حقهم، والأصل التحريم؛ وبهذا فارقوا نصارى العجم.

وعبدة الأوثان أسوأ حالاً من المجوس، فمنع ذبائحهم من طريق الأولى، والزنادقة ملحقون بهم.

وقد حكى الفوراني وجهاً في حل ذبائح المجوس ونسائهم؛ بناء على أن لهم كتاباً ونسخ؛ كما سنذكر في باب ما يحرم من النكاح وغيره.

فروع: أحدها من أبوه وثني أو مجوسي، وأمه كتابية، لا تحل ذكاته، ولو كان أبوه كتابياً وأمه وثنية أو مجوسية، ففي الحل قولان كما في النكاح.

قال الإمام: والقول في تحليل الذبيحة يجاري القول في تحليل المناكحة لا يفترقان إلا في الأمة الكتابية؛ فإن نكاحها حرام، وذبحها حلال؛ لأنه لا أثر للرق في الذبيحة أصلاً؛ فهي كالحرة؛ بخلاف النكاح؛ فإن للرق فيه أثراً؛ فأثر انضمامه إلى الكفر.

ثم ما ذكرناه فيما إذا كانت الأم كتابية والأب وثنياً إذا لم يبلغ الولد، أما إذا بلغ ودان بدين أمه، فهل يكون حكمه حكم الأم أو حكم الأب؟ فيه وجهان حكاهما الإمام هنا وقال: الأصح الثاني.

[الثاني] من يقول من اليهود: عزير ابن الله، ومن النصارى: المسيح ابن الله، هل تحل ذكاته؟ فيه وجهان:

الأكثرون على الحل.

ص: 139

وقال الماوردي: الأظهر عندي مقابله، وبه أقول؛ لأن هؤلاء كالمرتدين فيما بين اليهود والنصارى، وليس هذا من أصل دينهم الحق.

[الثالث] إذا أكره مجوسي مسلماً على الذبح حل، وكذا لو أكره المحرم حلالاً على ذبح الصيد؛ قاله في "الروضة" عن إبراهيم المروزي.

وقال الرافعي: لو أكره مسلم مسلماً على الذبح، يمكن أن يقال: إن اعتبرنا فعله وعلقنا به القصاص، حلت الذبيحة. وإن جعلناه كالآلة فكذلك هنا أيضاً؛ لأن المكره [كأنه] ذبح [قلت: وعلى هذا يظهر في مسألة إكراه المجوسي ألا يحل، وفيما لو أكره المسلم مجوسياً على الذبح أن يحل].

قال: وتكره ذكاة المجنون والسكران؛ لأنه يخاف من عدولهما عن محل الذبح ومبالغتهما في القطع إلى محل الكراهة، وهي مع الكراهة حلال؛ لأنهما من المسلمين، والقصد في الزكاة غير معتبر، دليله: ما لو قطع حلق شاة، وهو يظن: أنه خشبة؛ فإنه [يحل على] النص، وإن كان كلام البغوي يفهم حكاية وجه فيه، [وسنذكره]، ولفظ الشافعي- رضي الله عنه في ذلك في كتاب الأضحية: وأكره ذبيحة السكران والمجنون في حال جنونه، ولا يتبين أنه حرام".

قال في "الحاوي": ووهم بعض أصحابنا، فخرج وجهاً أنه: لا تصح ذكاتهما: أما في المجنون فمن عمده في القتل، وأما في السكران فمن قوله في القديم:"إن طلاقه لا يقع".

وحكى القاضي الحسين الخلاف في المجنون قولين كما حكاهما في "الشامل" وغيره عن رواية القاضي أبي حامد والإمام في كتاب الأضحية عن رواية الصيدلاني بعد أن قال في هذا الباب: الوجه القطع بتحريم ذبيحته؛ لسقوط قصده، وإن في بعض التصانيف: أن المجنون إذا نظم الذبح على وجهه كان ذبحه مبيحاً، وهذا لم أره إلا في هذا الكتاب.

ثم قال القاضي: والأصح الحل، فإن قلنا به فذبيحة السكران بالحل أولى؛ لأنه مخاطب.

وإن قلنا بمقابله، ففي السكران قولان؛ بناء على طلاقه.

ص: 140

وكلام القاضي أبي حامد مشير إلى هذا الترتيب أيضاً.

وعن القفال: أن في ذبيحة المجنون قولين، وذبيحة السكران تحل قولاً واحداً.

ثم ما محل الخلاف الذي ذكره البغوي؟ إن محله إذا لم يكن لهما تمييز، فإن كان حلَّ، ولم يحك سواه.

وقال الإمام: إن المجنون إذا لم يكن له تمييز، فلا يحل، وإن كان له تمييز بحيث يتصور منه نظم الفعل، ففيه الخلاف السابق، ولعل الأصح المنع أيضاً.

ويقرب منه قول الفوراني، لكنه قال: الأصح الحل.

وقال في "البحر": وقيل الصحيح في المجنون إن كان له تمييز قليل، ويحسن إيراد الفعل وإصداره- تجوز ذبيحته؛ كالصبي الذي يعقل [عقل] مثله، وإن لم يكن له تمييز أصلاً، ولا يحسن الفعل؛ لمبالغة جنونه- لم يجز كالطفل. [قال:] ويحتمل التفصيل في السكران على هذا الوجه، وهذا منه مشعر بأن الخلاف السابق في المجنون والسكران جارٍ، سواء كان له تمييز أو لا.

تنبيه: كلام الشيخ يفهم أن ذكاة المرأة جائزة من غير كراهة، وكذلك ذكاة الصبي والكتابي والأعمى والأخرس؛ لأنه لما ذكر من لا تحل ذكاته [ومن تكره] دل على حل ذكاة من عداهم من غير كراهة، وهذا في المرأة مما لا شك فيه، وقد استدل الأصحاب على حل ذكاتها بما رواه الشافعي- رضي الله عنه مسنداً، وهو في البخاري: أن جارية لآل كعب كانت ترعى غنماً لهم، فمرضت منها شاة، فكسرت مروة وذبحتها، فسأل مولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز لهم أكلها.

ص: 141

وفي هذا الحديث مع ذلك أربع فوائد:

إحداها: أن الحائض يجوز ذكاتها؛ لأنه- عليه السلام لم يستفصل.

الثانية: أن الشاة المريضة إذا خيف عليها يجوز ذبحها.

الثالثة: [أنه] إذا ذبح شاة غيره بغير إذنه، حلت.

الرابعة: أن الذبح بالمروة جائز، والمروة هي الحجر الأبيض؛ قاله أبو الطيب.

وفي "البحر": أن الأصمعي قال: إنه الذي تقدح به النار.

و [يستدل] على أنه لا كراهة في ذبحها بما روي أنه- عليه السلام أمر نساءه أن يلين ذبح هديهن.

وفي "الحاوي" حكاية وجه في كراهة ذبحها للأضحية.

وأما الصبي فالمشهور حل ذكاته؛ استدلالاً بما روي عن جابر أنه قال: "تؤكل ذبيحة الصبي"، ولأنه محكوم بإسلامه، وإنما فقد قصده، وذلك لا يؤثر في الذكاة؛ فكان كالبالغ.

قال الماوردي: ووهم بعض أصحابنا، فخرج في ذكاته وجهاً: أنها لا تؤكل؛ من اختلاف قول الشافعي- رضي الله عنه في قتله عمداً: هل يجري مجرى الخطأ؟ فإن جعل عمده خطأ، لم تحل ذكاته.

وفي "الشامل" و"البحر" حكاية ذلك قولاً عن رواية القاضي أبي حامد، لكن الذي

ص: 142

دلَّ عليه ظاهر النص كما سنذكره، وبه جزم القاضي الحسين في كتاب الأضحية- الأول وإن كان لا قصد له، وفرق بينه وبين المجنون على أحد القولين بأن الصبي من أهل القرية، بخلاف المجنون، وكذلك فرق بينهما في الحج.

وجزم في "البحر" عند الكلام في الأحبولة بأن الصبي الطفل الذي لا تتأتى منه إرادة الفعل، ولكن اتفق أنه أمر السكين على الحلق، فحصل به الذبح- لم يحل.

والمذكور في الرافعي التسوية بين الصبي الذي لا تمييز له والمجنون والسكران، وإجراء القولين في الجميع، وسلك الإمام طريقاً آخر في هذا الباب، فقال: إن لم يكن له تمييز، فلا حكم لفعله، وذلك ميتة، وإن كان مراهقاً فالأصل تحليل ذبحه.

وفي بعض التصانيف ذكر خلاف فيه، ويمكن تقريبه من الخلاف في أن عمده عمد أم لا؟

وإذا قلنا: تحل ذكاته، فقد جزم الماوردي بكراهتها في الضحايا وغيرها؛ لضعفه عن مباشرة الذبح، ولقصوره عن التكليف، وهي في غير المراهق أشد.

وأما الكتابي، فقد قال الماوردي: إن ذبيحة الصبي أحب إلينا من ذبيحته، وهذا يدل على أنها مكروهة- أيضاً- لكن قد حكى البندنيجي وابن الصباغ عن الشافعي- رضي الله عنه أنه قال في "الأم":"وأحب أن يكون المذكي بالغاً مسلماً فقيهاً"، أي: بأحكام الذبح؛ لأنه أعرف بحكم الذبح، فإن لم يكن رجلاً فالنساء، فإن لم يكن فالصبيان، فإن لم يكن فأهل الكتاب، فإن لم يكن فالمغلوب على عقله من المسلمين؛ وهذا يدل على أن المراد بالكراهة ترك الأولى.

وأما الأعمى فقد أطلق صاحب "البحر" القول بكراهة ذبحه وإن حلت؛ خوفاً من أن يخطئ محل الذبح، وهو ما ذكره في "التهذيب".

وأما الأخرس، فقد أطلق العراقيون حل ذكاته، وقال القاضي الحسين وتبعه البغوي: إن ذلك فيما إذا كانت له إشارة مفهمة، فإن لم يكن فهو كالمجنون.

قال النواوي في "الروضة": والأصح الجزم بحل ذبيحته وإن كان لا يفهم، وبه قطع الأكثرون.

[قال:] ويجوز الذبح بكل ما له حد يقطع، أي: من حديد ونحاس وصفر

ص: 143

وزجاج وخشب وحجر وذهب [وفضة] وقصب وغير ذلك، إلا السن والظفر [فإن ذبح] بهما لم يحل؛ لما روى أبو داود عن رافع بن خديج قال:"أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنا نلقى العدو غداً، وليس معنا مدى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرن أو أعجل ما أنهر الدم، واذكر اسم الله عليه، وكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة"، وأخرجه البخاري ومسلم في حديث طويل، سنذكر بقيته إن شاء الله تعالى؛ وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه سواء كان السن والظفر متصلاً أو منفصلاً، وسواء كان ذلك من الإنسان أو من غيره؛ كما قاله البندنيجي، ولا يستثنى من ذلك إلا ما قتله الكلب [ونحوه] بظفره أو نابه؛ فإنه يحل للحاجة العامة.

وفي "تعليق القاضي الحسين": أن هذا في سن الآدمي أما سن ما يؤكل لحمه فيحتمل وجهين؟

أحدهما: يجوز، وبه قال أبو إسحاق المروزي؛ لأن له حداً يقطع، والخبر محمول على بني آدم.

قلت: ويعضده رواية الشافعي بسنده هذا الخبر؛ فإنه قال فيه: "فإن السن عظم

ص: 144

[من] الإنسان] ".

قال القاضي: وغير مأكول اللحم يترتب عليه.

وقد اختلف في تفسير قوله- عليه السلام: "أُرْنُ"[معناه]: قيل: وهو بضم الهمزة، وسكون الراء، على وزن "اُعْط"، بمعنى أدم الحز ولا تفتر؛ من رنوت؛ إذا أدمت النظر، وردَّ بعضهم هذا بأن الأمر من رنا يرنو: ارن.

وقيل: هو بكسر الراء على وزن "أَطِعْ"، أي: أهلكها ذبحاً؛ من قولهم: أران القوم: إذا هلكت مواشيهم، ورده بعضهم [- أيضاً-] لأن "أران القوم" لا يتعدى والذي في الحديث يتعدى.

وقال بعضهم: معناه: كن ذا شاة هالكة وأهرق نفسها، وكل ما أنهر الدم.

وقد اختلف في معنى قوله- عليه السلام: "أما السن فإنه عظم" فقهاً وفتيا:

فنقل عن الشيخ عز الدين: أنه قال: "للشرع علل تعبدية، كما له أحكام تعبدية"، ولعله يشير إلى أن هذا من ذاك.

وقال غيره: قد ورد الشرع بمنع الاستنجاء بالعظم؛ لكونه زاد الإخوان من الجن، وما ذاك إلا للنجاسة المانعة من أكله، والدم بهذه المثابة.

قلت: ويظهر أن يقال: [إن] ذلك ورد منه؛ لأن الذبح بالعظم لا يجوز عندهم، وأن حكمته: ألا يكون موت الحيوان ببعض منه مبيحاً له، على أن سياق حديث رافع يدل على أن المعهود المألوف عندهم: أنه لا ذكاة إلا بالمدية.

وقوله: "ما أنهر الدم" أي: أساله، وأجراه، ومنه سمي نهر الماء: نهراً.

تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي حل الذكاة بالعظم؛ لأنه غير السن والظفر، وكذلك كلام البندنيجي، لأن لفظه كلفظ الشيخ، وهو ما صرح به في "الحاوي"، حيث قال: إن الشافعي – رضي الله عنه قال في الذكاة بالعظم: "كرهته، ولا يبين لي أنه يحرم، لأنه لا يقع عليه اسم سن ولا ظفر".

فاعتبر الشافعي- رضي الله عنه في التحريم الاسم، وأجازه بالعظم؛ لخروجه

ص: 145

عن الاسم، وكرهه؛ لأنه في معناه، ولم يقسه عليه؛ لاستثناء أصله.

قال: وفيه عندي نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل المنع من السن، فقال:"لأنه عظم"، فصار تعليل الاسم بالعظم دليلاً على اشتراكهما في الحكم من جهة النص، وليس بقياس على النص.

وبالتحريم أجاب الإمام والبغوي وابن الصباغ، وبه صدر الروياني كلامه، وقال: لو قيل: يجوز الذبح بكل ما له حد يقطع إلا العظم كفى؛ لأن السن والظفر من جملته.

وألحق هؤلاء النصل من العظم [به]، فقالوا: لو جعل نصل السهم عظماً، وقتل به الصيد، لم يحل.

وقال في "البحر": إن بعض أصحابنا قال: إذا كان العظم من مأكول اللحم يحل به الذكاة؛ حكاه أبو سليمان الخطابي، وهو غريب.

قال: ولا يذبح بسكين كال؛ لما روى مسلم [وغيره] عن شداد بن أوس قال: خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".

والقتلة- بكسر القاف-: الحالة من القتل، وبفتحها: المرة منه.

"وليحد" بضم الياء آخر الحروف، وكسر الحاء المهملة، قال الجوهري: وتحديد الشفرة وإحدادها واستحدادها بمعنى.

وقال غيره: الشفرة: السكين، وقيل: السكين العريضة، وقيل: العظيمة.

وإحداد الشفرة تفسير لإحسان الذبح، وقيل: من إحسان الذبح: ألا يذبح وأخرى تنظر، والسكين معروف: سمي بذلك؛ لأنه يسكن حركة المذبوح، وفيه لغتان: التذكير، والتأنيث.

وحكى الكسائي: سكينة، ويقال للسكين: مُدْية ومَدْية [ومِدْية]؛ ثلاث لغات مشتقة من المدى، وهي الغاية؛ لأنها مدى الأجل، والكال: الضعيف الحد؛ من كَلَّ الرجل إذا أعيا، يقال: كَلَّ السكين والسيف، يكل كلالاً [وكلالة] وكلولاً.

ص: 146

قال: فإن ذبح به حَلَّ؛ لقوله عليه السلام: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوا" وهذا منوط بأمرين: أحدهما: ألا يكون كلالها غير قاطع بحده إلا بشدة الاعتماد وقوة الذابح، فإن كان كذلك لم يحل؛ صرح به الماوردي وغيره؛ لأنه يصير المنهر للدم هو الذابح دون الآلة.

الثاني: ألا ينتهي الحيوان قبل استكمال قطع الحلقوم والمريء إلى حركة المذبوح، أما إذا انتهى إلى ذلك فسيظهر لك ما نخرجه عليه [كما سيأتي] من بعد.

قال: وما قدر على ذبحه، أي: وحشياً كان أو إنسياً- لم يحل إلا بقطع الحلقوم والمريء.

اشتراط أصل الذكاة في حل المقدور عليه ثابت بالإجماع، وأما كيفيتها، فأقل ما يجزئ فيها عند [الإمام] الشافعي- رضي الله عنه – قطع الحلقوم والمريء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدم، وذكر اسم الله تعالى عليه فكلوا".

فاعتبرها بما أنهر الدم. وقطع الحلقوم والمريء منهر للدم؛ فتعلق به الإجزاء؛ ولأن بهما توجد الحياة، وبفقدهما تفقد الحياة؛ فإن الحلقوم- بضم الحاء والقاف-: مجرى النفس إلى الرئة، وهو في مقدم الرقبة.

والمريء- بالهمز-: مجرى الطعام والشراب، يلي الحلقوم. والمقصود بالذكاة: فوات النفس بأخف الألم؛ شداد بن أوس، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه.

وعن الإصطخري: أنه يكفي قطع أحدهما؛ لفقد الحياة بقطعه.

قال الماوردي: وهذا زلل منه؛ لأن المقصود بالذكاة ما عجل التوحية من غير تعذيب وفي قطع أحدهما إبطاء للتوحية وتعذيب للنفس؛ فلم تصح به الذكاة، نعم: لو قطع بعض الحلقوم والمريء: فإن قطع أقلهما، لم يجزئ، وإن قطع أكثرهما، ففي الحل وجهان:

أحدهما- وهو مختار القاضي الروياني في الحلية-: [الحل] والظاهر من المذهب- كما قال في "البحر" وغيره أنها لا تحل أيضاً، وهو الذي أورده البندنيجي، وكذا الإمام.

ص: 147

والمقدور على ذبحه ما كانت الحياة فيه مستقرة حال القدرة على قطع حلقومه ومريئه، سواء فيه من كانت معه آلة [الذبح أو لم يكن معه آلة] القطع؛ إما لعدم استصحابه لذلك ذاكراً كان [أو ناسياً أو لاستصحاب وسقوطه أو سرقته منه، نعم: لو غصب منه، فهل يكون عذراً] في حل الصيد ونحوه إذا مات قبل الذكاة؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ كما لو حال بينه وبينه سبع حتى مات؛ فإنه يحل.

والأظهر: المنع- أيضاً- وبه جزم الماوردي والغزالي، وفرق الماوردي بأن غصب السكين عائد إليه، ومنع السبع عائد إلى الصيد.

وأما غير الصيد من الحيوانات الأهلية، [فقد] قال الإمام: يبعد كل البعد طرد هذا الخلاف فيها إذا أشرفت على الفوات، والفرق لائح؛ فإن الصيد لو هلك قبل الإدراك حل، ومن هنا يؤخذ أن [محل الوجهين في الصيد إذا كان] بحيث لو لم يتمكن من ذكاته ومات حَلَّ، وإذا كان هذا حكم من فقد الآلة، فمن وجدها فهو أولى، سواء كانت كالة أو حادة.

وحكى الماوردي عن ابن أبي هريرة: أن السكين لو كانت في قرابها، فأمسك عليها، وتعسر عليه خروجها حتى مات الصيد: أنه يحل، لأن السكين [في الأغلب تصان] في قرابها إلى وقت الحاجة إليها؛ فلم يكن مفرطاً.

قال: وهذا عندي يعتبر بحال القراب، فإن كان على المعهود في الإمساك لما اشتمل عليه، كان مأكولاً، وإن خرج عن المعهود في الضيق والشدة كان غير مأكول.

ولو كان قد تشاغل بإحداد السكين؛ لكلالها حتى مات الصيد وما في معناه؛ ففي "الحاوي" و"تعليق القاضي الحسين": أنه حرام.

وقد اعتبر الإمام مع قطع الحلقوم والمريء أمرين [آخرين].

أحدهما: رعاية الإسراع في قطع المذبح، وحده: إلا يجد ولا يدرك انتهاء الشاة قبل انتهاء قطع الحلقوم والمريء إلى حركة المذبوح، فلو قطع الذي يذبح الشاة بعض الحلقوم وبعض المريء [على أناة] مجاوزة للعادة حتى يتبين مصير الشاة

ص: 148

إلى حركة المذبوح قبل استكمال القطع فيما يجب قطعه [ثم] قطع البقية، فالشاة حرام؛ و [من] هنا يؤخذ أن من شرط الحل: أن يقع تمام الذكاة والحياة مستقرة في المذكى؛ كما صرح به الغزالي، لكن سيأتي في كلام الإمام وغيره عند الكلام في ذبح الشاة من قفاها ما ينازع فيه.

الثاني: ألا يقترن بقطع المذبح ما يعين على التذفيف إما محققاً أو مظنوناً، وإن كان لو تقدم مثله لم يضر، مثاله: أن يشرع واحد في قطع الحلقوم والمريء، وآخر شارع معه في إخراج الحشوة أو الحش في الخاصرة، بحيث يخرج قطع الحلقوم والمريء عن أن يكون هو المذفف، ولا شك في التحريم في هذه الصورة، وكذلك فيما لو شرع واحد في الذبح من القفا، وآخر في قطع الحلقوم والمريء، وسيأتي الكلام في بقية هذا الفرع إن شاء الله تعالى.

فإن قلت: ينبغي أن يعتبر مع ذلك أمر ثالث وهو أن يكون قطع الحلقوم والمريء بما له حدُّ يقطع؛ ليخرج به ما إذا قطعهما ببندقة رمى بها فإنه لا يحل؛ كما صرح به ابن الصباغ في هذا الباب؛ لقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]، وهي التي أصليت بالحجارة، وإن كان قوله- عليه السلام:"ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا" يقتضي الحل.

قلت: هذا الشرط قد يؤخذ من قوله أولاً: "ويجوز الذبح بكل ماله حد يقطع [به]، فإنه يفهم: أن ما ليس له حد لا يجوز الذبح به، نعم: ينبغي أن يضاف إلى ذلك [أن يقع] القطع فيما يقصد قطعه، ويحترز به عن أمرين.

أحدهما: إذا ضرب جداراً بسيف، فأصاب عنق شاة، فإنها لا تحل ألبتة؛ كما قال القاضي الحسين وغيره؛ لأنه وجد في فعله الخطأ، وعدم القصد؛ لأن النية شرط.

الثاني: إذا رمى إلى شاته الربيطة سهماً جارحاً، فاصاب الحلقوم والمريء وفاقاً، وقطعهما، فإن الإمام قال: إن في الحل نظراً مع القدرة على الذبح.

ويجوز أن يفرق بين أن يقصد الذبح بسهمه، وبين أن يقصد الشاة فيصيب المذبح.

ص: 149

قال النواوي في "الروضة": والأصح الحل.

قلت: ويؤيده أن القاضي في "الفتاوي" قال: لو رمى إلى صيد فقبل أن يصل إليهالسهم انكسر عضو منه، وصار مقدوراً على ذبحه- لا يحل إلا أن تصيب الرمية مذبح الصيد فيحل، وسنذكر أيضاً ما يعضده عن [غير] القاضي.

و [عكس هذه الصورة] لو [رمى إليه] وهو مقدور عليه، [فأصابه السهم] وهو غير مقدور عليه- حَلَّ؛ قاله الرافعي.

وقد احترز الشيخ بقوله: "وما قدر على ذبحه" عما لا يقدر على ذبحه، وهو نوعان:

أحدهما: بعض الصيود، وسيأتي الكلام فيه.

والثاني: إذا وقعت البهيمة في بئر ونحوها، وتعذر إخراجها حية، ولم يتمكن من قطع حلقومها ومريئها، أو توحشت فإنها تلحق بالصيود المتعذر ذكاتها حتى تحل بعقرها في غير المذبح؛ روى أبو داود عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو طعنت في فخذها، أجزأ عنك".

قال أبو داود: وهذا لا يصلح إلا في المتردية والمتوحش، وقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.

ص: 150

وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أنسيّةٍ توحشت، فذكاتها ذكاة الوحشية".

وهذا نص في الباب، وقد قال بهذا جمع من الصحابة، ومحله بالاتفاق إذا كانت الجراحة مزففة؛ لأنها حينئذ تلحق بقطع الحلقوم والمريء.

أما إذا لم تكن كذلك مع القدرة على التذفيف، فالذي قاله القفال والمحققون: عدم الحل؛ لأنه- عليه السلام قال: "لو طعنت في خاصرته لحلَّ لك"، والجرح في الخاصرة مذفف.

وقد قال بعض الأصحاب: يكفي الجرح المدمي الذي يجوز وقوع القتل به، قال الرافعي: وهو ما أورده المعظم.

ولو ندَّ البعير، وشردت الشاة، وتعذر الوصول إليها؛ لإفضائها إلى مهلكة أو مسبعة- فحكمه كما ذكرناه.

[و] روى البخاري ومسلم وغيرهما عن رافع بن خديج في بقية الحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم أصاب نهبي فند منها بعير، ولم يكن معهم حبل، فرماه رجل بسهم فحبسه- أي: أماته- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به مثل هذا". وروى: "فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا".

والأوابد: هي التي قد تأبدت، أي: توحشت [ونفرت من الإنس، يقال: أبد الرجل أبوداً؛ إذا توحش] وتخلى.

نعم: يختلف حكم البعير إذا ندَّ وإذا وقع في بئر؛ فإنه لو أرسل على الناد كلباً فقتله حل، ولو أرسل عليه وهو في البئر كلباً، ففي حله وجهان: أصحهما في "البحر": المنع.

ص: 151

ومقابله: منسوب إلى البصريين، وصححه النواوي في "الروضة"، وكذا الشاشي.

أما لو كان لا يفضي شرود الشاة والبعير إلى مهلكة، وربما كان يسكن فيدرك، قال الإمام: فالظاهر عندي أن الذبح فيه لا يحصل بالجرح في غير المذبح؛ فإن هذا التعذر إلى زوال؛ فلا حكم له، وفي كلام أصحابنا ما يدل على خلافه.

وقد جعل الغزالي ما أبداه الإمام الظاهر من المذهب.

قال الإمام: وعلى هذا لو كان الحيوان لا يفضي بشروده إلى مهلكة، لكنه يفضي به إلى الوقوع بين لصوص أو غصاب، فوجهان.

وعلى كل حال: فإذا ألحقنا نداد البعير بوقوعه في البئر، فهل يشترط في حله التذفيف في رميه إذا أمكن، وقلنا باشتراطه في جرحه إذا وقع في البئر؟ الحكم فيه الصيد، وقد حكى الإمام فيه اختلافاً، فقال: من أصحابنا من قال: لا يجب اتباع

ص: 152

الرمي، ومنهم من أوجبه.

فرعان: أحدهما: لو تردى بعير فوق بعير، فغرز رمحاً في الأول، فنفذ منه إلى الثاني، قال القاضي الحسين: إن كان عالماً بالثاني، حلَّ، وكذا إن كان جاهلاً به على المذهب؛ كما لو رمى صيداً فأصابه، ونفذ منه فأصاب آخر يحل.

الثاني: إذا صال عليه صيد أو بعير، فدفعه عن نفسه، وجرحه فقتله، قال القاضي الحسين [في التعليق:] فالظاهر أنه يحل إذا أصاب المذبح، وإن لم يصب المذبح فوجهان.

واعلم أن بعضهم جعل من جملة ما احترز عنه الشيخ بقوله: "وما قدر على ذبحه" الجنين؛ للخبر، وفيه نظر؛ لأن الشرع جعل [من جملة] ذكاته ذكاة أمه، وذكاة أمه لا تخرج عن القسمين؛ فلا معنى لذكره؛ لأن المقصود هاهنا بيان كيفية الذكاة، لا نفس الحل من غير ذكاة؛ فإنه محله ما تقدم.

نعم: لو خرج الجنين وفيه حياة يتسع معها الزمان لذبحه، فلم يذبحه-[ولو] لفقد الآلة- ومات، لم يحل، وإن خرج حياً، ولم يتسع الزمان لذكاته، حلَّ، فلعله أراد هذه الحالة. ولو خرج بعضه والحياة مستقرة فيه قال في "التهذيب": فلا يحل بذبح الأم. وقال القفال: يحل.

وفي "النهاية" ما يقتضي أن يكون الصحيح الحل، وأن المعزى إلى القفال خلافه؛ فإنه قال في باب العدد: إذا انفصل بعض الجنين وصرخ واستهل، ينزل في جميع أحكامه منزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء، وعزى إلى القفال أنه ينزل منزلة المنفصل بجملته في جميع القضايا والأحكام، وهذا إن كان منقاساً فهو ضعيف في الحكاية ما أراه ملحقا بالمذهب [والله أعلم].

واحترز الشيخ بقوله: "لم يحل إلا بقطع الحلقوم [والمريء"] عما لو اختطف رأس العصفور قلعاً، فإنه لا يحل؛ لأنه لا يسمى ذكاة، بل هو في معنى الخنق لا في معنى القطع.

قال: ويستحب أن توجه الذبيحة إلى القبلة، أي: في الأضحية والهدي وغيرهما؛

ص: 153

لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة، ولأنه لابد [لها] من جهة، فكانت جهة القبلة أولى، وذلك في الأضحية ونحوها أشد استحباباً؛ لأنه- عليه السلام وجه كبشه إلى القبلة. وروي عن عائشة- رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحوا وطيبوا أنفسكم؛ فإنه ليس من مسلم يوجه أضحيته إلى القبلة إلا كان دها وقرنها وصوفها حسنات [في ميزانه].

فإن قيل: هذه حالة إخراج نجاسة؛ فيكره استقبال القبلة بها؛ كحالة التغوط والبول.

قيل: الفرق أن هذه حالة يستحب فيها ذكر الله تعالى؛ فاستحب فيها استقبال القبلة؛ بخلاف تلك مع أن كشف العورة يلازمها.

وقد اختلف الأصحاب في كيفية توجيهها إلى القبلة على أوجه:

أظهرها في "الإبانة" وغيرها: أنه يوجه المذبح ولا يوجه وجهها؛ لأن استقبال القبلة في حقه مستحب، فلو وجهها لاحتاج أن يستدبر القبلة، ويجعلها على يساره، وهذا ما دَلَّ عليه النص؛ فإن البيهقي نقل عن الشافعي- رضي الله عنه أنه قال:"أحبُّ في الذبيحة أن توجّه إلى القبلة، وإن استقبل الذابح القبلة فهو أحب إليَّ".

والثاني: أنه يوجه [جميع] بدنها.

والثالث: أنه يوجه قوائمها.

قال: ويسمى الله تعالى [عليها]، الأصل في مشروعية التسمية قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]، وقوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4.

وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذبح أضحيته فقال: "بسم الله"، كما أخرجه البخاري ومسلم عن رواية عائشة، رضي الله عنها.

والأصل في كونها سنة حتى إذا تركت لم تؤثر في الحل: أن الله تعالى أحَلَّ ذبائح

ص: 154

أهل الكتاب، وهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها غالباً، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني ما أمسك عليه كلبه، وردَّ عليه قوسه ذكياً وغير ذكي، ولم يأمره بالتسمية.

وروى مسلم والبخاري عن عائشة- رضي الله عنها أن ناساً قالوا: يا رسول الله، إن قوماً من الأعراب يأتوننا باللحم، ما ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سموا الله وكلوا" فدل على أنها غير واجبة.

وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم".

وروى أبو هريرة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله تعالى؟ [فقال:"اسم الله على قلب كل مسلم".

ولهذا قال الشافعي- رضي الله عنه: "وإذا أرسل أحببت أن يسمي الله تعالى] فإن نسي فلا بأس؛ لأن المسلم يذبح على اسم الله"، وأراد بهذا الجواب لمن احتج بقوله تعالى:{وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].

ص: 155

وبقوله عليه السلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل"، فجعل ذلك شرطاً.

وقد أجبت عن الآية بجواب آخر وهو ما روي [أن] ابن عباس قال: المقصود بها تحريم أكل الميتة، وذاك أن مجوس الفرس قالوا لقريش: تأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون مما قتله الله؛ فأنزل الله تعالى:{وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ويدل عليه سياق الآية؛ فإنه قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وأجمعنا على أن من أكل من ذبيحة مسلم لم يسم الله عليها، فليس بفاسق، وكذا قوله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، وأراد به: وحي المجوس إلى قريش.

وإذا ثبت استحباب التسمية عند الذبح، كان [استحبابها] في [ذبح] الأضحية ونحوها آكد.

وكذا يستحب عند إرسال الكلب والسهم إلى الصيد ونحوه.

وهل يستحب عند عض الكلب وإصابة السهم؟ فيه وجهان ينسبان إلى الشيخ أبي محمد.

قال الرافعي: وهذا في تأدية الاستحباب بكماله، أما أصل الاستحباب عند الإصابة إذا تركت التسمية عند الإرسال، فما [ينبغي أن] يكون فيه خلاف؛ كما أن من ترك التسمية في ابتداء الوضوء والأكل، يستحب له أن يسمي في أثنائهما.

والتسمية: باسم الله، فإن زاد شيئاً من ذكر الله تعالى، فالزيادة خير؛ حكاه في "البحر" عن البيهقي عن الشافعي، رضي الله عنه.

قال في "الحاوي": ويختار في الأضحية خاصة أن يكبر الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثلاثاً؛ لأنها في أيام التكبير، فيقول:"الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، خاتماً بالحمد بعد التكبير.

قال: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، قياساً على سائر المواضع، وهذا ما نص عليه في "الأم" حيث قال:"ولا أكره الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أستحبها"، وإن كانت رواية المزني تفهم أنها لا تستحب ولا تكره؛ لأنه حكي عنه أنه قال: "ولا أكره الصلاة

ص: 156

على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها إيمان بالله تعالى؛ قال- عليه السلام: "أخبرني جبريل عن الله سبحانه أنه قال: من صلى عليك صليت عليه".

وهذه اللفظة إنما تستعمل فيما لا يستحب؛ ولأجل ذلك، قال ابن أبي هريرة: لا تستحب. وليس بصحيح.

ولا نزاع في أنه لو قال: "أذبح للنبي صلى الله عليه وسلم "، أو:"تقرباً له" لا يحل أكلها؛ كما نص [عليه] الشافعي- رضي الله عنه في "الأم" حيث قال: "لو قال: أهللت بها لعيسى، حرم أكلها".

وفي "المختصر": "على أن أهل الكتاب إذا كانت لهم ذبائح يذبحونها باسم غير الله [عز وجل] كالمسيح لم يحل".

وعن أبي الحسين تخريج وجه حكاه الرافعي فيما إذا ذبح المسلم للرسول أو للكعبة: أنه يحل، بخلاف ما لو ذبح اليهودي لموسى والنصراني لعيسى؛ لأن المسلم يذبح لله سبحانه، ولا يعتقد في الرسول ما يعتقده اليهودي والنصراني في موسى وعيسى.

نعم: لو ذبح النصراني لله، وذكر اسم المسيح، فهو حلال، وإن كان مكروهاً.

قال: وهكذا الحكم فيما لو ذبح للجن؛ روي أنه- عليه السلام نهى عن ذبائح الجن.

قال أبو عبيد: وهو أن يشتري الرجل داراً أو يستخرج عيناً فيذبح؛ خوفاً من أن يصيبه الجن فيها، فإن فعل ذلك؛ تقرباً لله تعالى؛ ليرفع إصابة الجن- حَلَّ، وإن ذبح للجن؛ استدفاعاً بهم، حرم أكلها.

قال: وأن يقطع الأوداج كلها؛ لأن ذلك أرجى وأسهل لخروج الروح، فهو من

ص: 157

الإحسان في الذبح، وفيه خروج من خلاف من يذكره.

والمراد بالأوداج: الحلقوم والمريء والوريدان، وهما عرقان في جانبي العنق من مقدمه يحيطان بالحلقوم، ويقال: إنهما يحيطان بالمريء؛ لأن اسم الأوداج يقع عليهما؛ صرح به الرافعي وغيره، ويظهر أن يكون ذلك من باب التغليب؛ فإنه ليس للحيوان إلا ودجان.

وقد جاء في الحديث: "ما أفرى الأوداج فكل".

وروي أنه قال "أفر الأوداج ولا تزد"، والمراد ما ذكرناه؛ ولأجله اشترط مالك – رحمه الله في الحل قطعهما مع الحلقوم والمريء، [و] دليلنا عليه ما تقدم، والحديث محمول على الندب.

أو نقول: خرج مخرج الغالب؛ فإنه لا يتأتى قطع الحلقوم والمريء إلا بقطعهما غالباً، وهما قد يسلان من الآدمي وغيره ويعيش؛ فلا يشترط قطعهما كسائر العروق.

فإن قلت: الحلقوم والمريء قطعهما شرط، فكيف نجعله مستحباً؟ قلت: المستحب قطع الوريدين مع قطعهما، فالمجموع هو المستحب، وهذا كقوله في باب سنن الوضوء والطهارة:"ثلاثاً ثلاثاً" مع أن الغسلة الأولى فرض.

وإن سلكت ما سلكه النواوي في أن المراد بقوله: "الأوداج": الودجين لا غير؛ إما لأن إطلاق صيغة الجمع على الاثنين حقيقة كما هو عند طائفة، أو مجاز كما هو عند الأكثرين- اندفع السؤال من أصله.

قال: وأن ينحر الإبل؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] على التفسير الأشهر، والمعنى فيه: أنه أسرع لخروج الروح منها بسبب طول أعناقها، وقضية ذلك: أن تشاركها الزرافة فيه إذا رأينا إباحة أكلها والنعام والبط.

قال: معقولة من قيام؛ لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36].

ص: 158

قال ابن عباس: معقولة إحدى يديها.

وروى أبو داود عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبع بدنات بيده قياماً.

وعن ابن عمر: أن رجلاً أضجع بدنة، فقال: قياماً سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.

ويستحب أن تكون اليد المعقولة هي اليسرى؛ لما روى جابر أنه- عليه السلام وأصحابه كانوا ينحرون الإبل معقولة اليسرى.

والنحر: الطعن بحديدة أو سكينة أو حربة وما له حد، في المنحر، وهو ثغرة النحر، وهي الوهدة التي في أعلى الصدر وأصل العنق.

قال البندنيجي: ولا حد له غير أنه إذا نحر المكان أجزأه، وكلامه يفهم أن إيجاب قطع الحلقوم والمريء واستحباب قطع الودجين مخصوص بالذبح؛ لأنه قال بعد ذلك:"وأما الذبح فالكلام فيه [في] فصلين في الكمال، وأقل الإجزاء .. "، وساق ما ذكرناه.

وفي "الحاوي" و"النهاية" وغيرهما: أن المقطوع من البعير الحلقوم والمريء أيضاً، وهذا هو الذي يقتضيه كلام الشيخ، والله أعلم.

قال: ويذبح البقر والغنم؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] [وما روى مسلم عن عائشة قالت: "ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر"].

ص: 159

وما روي "أنه- عليه السلام ضحى بكبشين أقرنين أملحين، يذبح ويكبر ويسمي، ويضع رجله على صفحتهما"[كما] أخرجه البخاري ومسلم.

والذبح: الشق والفتح في المذبح، وهو في أسفل مجتمع اللحيين في أعلى العنق.

[قال:] مضجعة أما في الغنم فللخبر، وقد جاء في البخاري ومسلم عن عائشة أنه- عليه السلام أخذ الكبش فأضجعه وذبحه.

وأما في البقر؛ فبالقياس على الغنم؛ لمشاركتها لها في سنة الذبح، ولأنه أمكن.

ويستحب أن تكون مضجعة على الجنب الأيسر، ويترك رجلها اليسرى، ويشد قوائمها الثلاث، ويكون إضجاعها برفق.

ولو عكس المذكي، فذبح الإبل، ونحر البقر والغنم في اللبة [كما ذكرنا] أجزأه:

أما في الإبل؛ فلأن ما كان ذكاة في البقر، كان ذكاة في الإبل؛ كالنحر.

وأما في البقر والغنم؛ فقد ادعى الشيخ أبو حامد فيه الإجماع، وفيه شيء؛ لأن المالكية يذكرون خلافاً فيه.

وقد روى مسلم وغيره عن جابر قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة"، وذلك حجة [على] من خالف فيها، ويظهر أن يكون هذا الخبر أيضاً حجة من قال من أصحابنا: إنه يتخير في البقر بين النحر والذبح، وهو ما أورده في "الإبانة".

وقد صرح الشافعي- رضي الله عنه بكراهة ذبح الإبل؛ لأن الإمام مالك- رحمه الله خالف في حلها كما هو المشهور عنه؛ تمسكاً بأن عنق البعير طويل، فإذا ذبح ترددت الروح فيه، وأدى ذلك إلى بقاء حياة فيه وتعذيب.

قال أصحابنا: وهذا يبطل بالنعام والبط؛ فإن عنقه طويل وتردد الروح [فيه

ص: 160

لذلك]، ومع ذلك يجزئ ذبحه، وسكت الأصحاب عن كراهة نحر البقر والغنم.

وقال الرافعي: إن ذلك غير مكروه، وكذلك ذبح الإبل وإن ترك المستحب، ثم قال: وقيل: إنه يكره.

وفي "تعليق البندنيجي": أنه يكره قطع ما بين الثغرة والمذبح.

قال: ولا يكسر عنقها ولا يسلخ جلدها حتى تبرد؛ لأن فعل ذلك قبل أن تبرد تعذيب للحيوان.

وقد روي عن عمر أنه قال: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق، ولا تنخعوا، ولا تفترسوا.

والزهق: الإسراع، والمراد به: إسراع خروج الروح، ومنه قوله تعالى:{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 55].

قال الماوردي: وفي المراد بنهي عمر ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يقطع أعضاء الذبيحة قبل خروج نفسها؛ كالذي كانت الجاهلية تفعله.

والثاني: تعجيل سلخها قبل خروج نفسها؛ لتعجيل أكلها.

والثالث: أن يمسكها بعد الذبح حتى لا تضطرب؛ ليتعجل خروج روحها؛ كاليهود.

قال البندنيجي: والنخع: قال الشافعي: هو كسر العنق بعد الذبح، والمشهور أن النخع: المبالغة في الذبح إلى أن يصل القطع إلى النخاع؛ كما قاله أبو عبيدة وأبو عبيد.

والنخاع: عرق أبيض، يمتد من الدماغ، ويستبطن القفا و [يمتد] إلى عجب الذنب.

وقد حكي عن أبي عبيد: أنه عظم في الصلب يمتد إلى القفا، وعلى كل حال فهو مكروه.

ص: 161

والفرس: قال أبو عبيدة: هو والنخع واحد.

وقال أبو عبيد: الفرس: كسر العنق، ومنه سميت الفريسة؛ فإن السبع إذا أخذها كسر عنقها، وهكذا ذكر الشافعي- رضي الله عنه في تفسير الفرس.

وقال ابن أبي هريرة: هو كسر عظم الرأس.

وقيل: هو قطع الرأس.

وقد أفهم كلام الشيخ: أن عدم كسر العنق، وسلخ الجلد قبل أن يبرد مستحب، وما كان تركه مستحباً، فقد يطلق على فاعله أنه ترك الأولى، وقد يطلق عليه أنه فعل مكروهاً، وهو الذي صرح به الأصحاب هاهنا، وقال الماوردي: إن كراهة قطعها قبل أن تبرد أغلظ من كراهة سلخها.

تنبيه: إذا عرفت أن كسر العنق وقطع ما وراء الحلقوم والمريء مكروه، عرفت أن فعل ذلك قبل قطع المريء والحلقوم أشد كراهة، وربما قيل: إنه محرم وإن حل الأكل؛ لوجود شرط الذكاة- كما سنذكره- صرح به الرافعي، وكذا فيما إذا ابتدأ في القطع من صفحة العنق؛ لأنه يعرض الحيوان لأن يكون ميتة، فإن الحل في هذه الحالة منوط- كما قال الفوراني وأبو الطيب وابن الصباغ والمصنف- بأن تكون الحياة فيه مستقرة قبل قطع المريء والحلقوم، وقد تفقد؛ فلا يحل.

قال ابن الصباغ: وينبغي أن يعتبر بقاء الحياة المستقرة- أيضاً- بعد قطع الحلقوم؛ لأنه لم يحل بقطع الحلقوم خاصة، وهذا منه يفهم أمرين:

أحدهما: أن الذي يقع الابتداء بقطعه في هذه الصورة الحلقوم؛ لأنه لو اتقد أن المبتدأ بقطعه فيها المريء، لم ينتظم ما ذكره من التعليل، ولكان ما أبداه احتمالاً هو ظاهر النص، وليس الأمر كذلك، بل الذي يقع الابتداء بقطعه [في هذه الصورة] المريء.

والثاني على تقدير أن الذي يقع الابتداء بقطعه في هذه الصورة الحلقوم: أن المذهب الاكتفاء بكون الحياة مستقرة عند الشروع في قطع الحلقوم، وقياسه: أن

ص: 162

يكتفي بكون الحياة مستقرة فيما إذا ابتدأ القطع من مقدم العنق عند قطع الحلقوم خاصة أيضاً، وعليه ينطبق قول الإمام في [مسألتنا]: إن الحياة لو كانت مستقرة [عند الشروع] في قطع المريء والحلقوم، يحل وإن لم توجد عند تمام قطعهما؛ إذا وجد الإسراع على النسق المعتاد، فإنا لو قلنا بالتحريم، لم يأمن أن يتوجه مثل هذا التقدير من غير قطع يتقدم الأخذ في فري المذبح، لكن الذي حكاه المزني عن الشافعي- رضي الله عنه في "المختصر": أنها إن تحركت بعد قطع رأسها أكلت وإلا لم تؤكل.

وفسر البندنيجي وجمهور الأصحاب ذلك بأن الشافعي قال: إنما تعلم الحياة المستقرة بشدة الحركة، فإن كانت الحركة شديدة بعد قطع الرقبة؛ فالحياة مستقرة، وإن لم يكن هناك حركة؛ فليس هناك حياة وهذا يقتضي اعتبار استقرار الحياة بعد قطع جميع الرأس، وهذا ما أورده الماوردي.

وقد أنكر القاضي الحسين صحة ما نقله المزني، وقال: إنما قال الشافعي- رضي الله عنه: "لو ذبحها من قفاها أو إحدى صفحتي عنقها، ثم لم يعلم متى ماتت؟ لم يأكلها حتى يعلم، فإن علم أنها حييت بعد قطع القفا أو إحدى صفحتي العنق، حتى وصل بالمدية إلى الحلقوم والمريء وقطعهما وهي حية- أكلت، وإن كان مسيئاً بالجرح الأول؛ كما لو جرحها، ثم ذكاها، وكما لو جرحه السبع أو غيره، ثم ذكى، وكان فيه حياة- حلَّ؛ وهذا يقتضي أيضاً اعتبار الحياة بعد قطع الرأس.

وكلام الغزالي يقتضي اعتبار استقرار الحياة إلى انتهاء ما يجب قطعه في الذكاة، وهو موافق لما دل عليه ظاهر النص، بل يتعين حمل النص عليه، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة احتمالات.

وقد حكى الإمام: أن صاحب "التقريب" اعترض على المزني وجمهور الأصحاب فيما ذكروه محقاً، فقال: لا تعويل على التحريك بعد قطع المذبح؛ بدليل أن الشاة التي لا آفة بها إذا قطعنا منها الحلقوم والمريء، وأخذت في الاضطراب الشديد لو

ص: 163

أبنا حشوتها، فقد تتحرك بعد ذلك، فإن كان إبانة الحشوة مذففاً كقطع الحلقوم والمريء، فلا وجه للاعتماد على الحركة وفقدها، بل المعتبر في الحل ألا ينتهي الحيوان قبل القطع إلى حركة المذبوح، ويكفي ظهور ذلك على طريق العلم أو الظن بعلامات دلت عليه، سواء كانت تدخل تحت الوصف أو لا، بل تدرك بقرائن الأحوال التي لا يضبطها الوصف: كعلامات الخجل والغضب والوجل، فإن وقع في ذلك شك، ففيه ما سنذكره من بعد، إن شاء الله تعالى.

والقائلون بصحة نقل المزني- وهم العراقيون- اختلفوا: لم اعتبر الشافعي- رضي الله عنه الحركة هاهنا؟ فمنهم من قال: لأنه وجد منه فعلان:

أحدهما: تتعلق به الإباحة.

والآخر: يتعلق به الحظر؛ فاعتبرت الحركة؛ للفصل بين أثر الفعلين.

وقال أبو إسحاق: الظاهر: أن الحيوان إذا قطع رأسه من قفاه، لا يبقى فيه حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم، فإذا لم يتبين ذلك بوجود الحركة، وجب التحريم بحكم الظاهر، وسيأتي الكلام في بقية ما قيل في تفسير الحياة المستقرة وأمور أخر تتعلق بما نحن فيه، فليطلب من بعد، إن شاء الله تعالى.

وقد عد من المستحبات في الذبح أن يساق ما يذبح إلى المذبح سوقاً رفيقاً، ويعرض عليها الماء قبل الذبح خوفاً من عطشها المعين على تلفها، وليكون ذلك أسهل عند سلخها وتقطيعها، ولا يعرض عليها العلف؛ لأنها لا تستمرئه إلى حين الذبح فيكثر به الفرث، وإلا يحد [الشفرة] في وجهها، وإلا يذبح بعضها في وجه [بعض؛] لورود الأثر فيه.

قال: وإن علم جارحة أي: من كلب أو فهد أو بازي ونحوها؛ بحيث إذا أغراه على الصيد- أي: أرسله إليه- طلبه، وإذا أشلاه استشلى، أي: إذا استدعاه أتى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه، أي: فلا يأكل منه، وخلَّى بينه وبينه، أي: من غير أن يهر في وجهه، ثم أرسله من هو من أهل الذكاة، فقتل الصيد بظفره أو نابه، أي: وما في

ص: 164

معناه: كالمخلب، والمنقار، أو تركه، ولم تبق فيه حياة مستقرة، أي: بسبب ما ناله من ظفره أو نابه ونحوهما، أو بقيت فيه حياة مستقرة، أي: بعد جرحه بظفره أو نابه إلا أنه لم يبق من الزمان ما يمكن ذبحه فيه، أي: مع مبادرته إليه حتى مات- حل للكتاب والسنة: فأما الكتاب فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].

قال ابن عباس: الجوارح: الكلاب المعلمة، والبازي، وكل طائر يعلم للصيد، وهي مشتقة من الجرح، وهو الكسب؛ لكسب أهلها بها، يقال: فلان جارحة أهله، أي: كاسبهم؛ ولأجل ذلك سميت أعضاء الآدمي جوارح؛ لأن بها يكتسب الأعمال.

وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أي: كسبتم، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] أي: اكتسبوها.

وقيل: من الجراحة؛ لأنها تجرح في الغالب.

وقوله – تعالى-: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] قيل: إنه من التكليب، وهو الإغراء- وهذا قول ابن عباس.

وقيل: من التضرية بالاصطياد- كما يقال: تكلب واستكلب؛ إذا ضرى، وتعود ذلك، وعليه يدل قول أبي ثعلبة:"يا رسول الله، إن لي كلاباً متكلبة، فأفتني في صيدها، فقال: "إذا [كان لك كلاب] مكلبة، فكل مما أمسكن عليك".

وقيل: من التحامل والشدة؛ لأن الكلب: الشدة؛ قال الشاعر [من الطويل]:

فما غليان القدر في كلب الشتا كمن لم يكن في الصيف يغلو دماغه

وقال ابن عمر ومجاهد وغيرهما: تقدير الآية: كلبتم من الكلاب؛ فلا يجوز الاصطياد إلا بالكلب، وحديث عدي بن حاتم حجة عليهم؛ فإن الترمذي روى عنه

ص: 165

قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: "ما أمسك عليك فكل".

و- أيضاً-: فاسم الكلب يقع على غيره من السباع؛ روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب، فقال: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك"، فخرج في سفرة إلى الشام، فلما نزلوا بالوادي، سمعوا زئير الأسد؛ ففزع عتبة، وقال لهم: احفظوني، فأناخوا الأجمال، وحملوا الأمتعة، ووضعوها حواليه، وناموا حواليه، وهو نائم وسطهم، فجاء الأسد، وكان يشم واحداً واحداً منهم، ثم جاء إليه، واشتم منه عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه، وافترسه، ولم يأكل منه شيئاً، وسمع منه يقول: استجيبت [في] دعوة محمد؛ فهذا دليل على أن اسم الكلب يقع على غير الكلب.

وأما السنة: فما روى مسلم عن عدي بن حاتم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركه [و] قد قتل، ولم يأكل منه، فكل، وسيأتي ذكر بقية الحديث عند الحاجة إليه.

ص: 166

ولا فرق في الكلب بين الأسود البهيم وبين غيره.

وفي "البحر": أن أبا بكر الفارسي من أصحابنا قال: لا يحل صيد الكلب الأسود البهيم- كمذهب أحمد وغيره- لأمره عليه السلام بقتله، والأول هو المشهور، والخبر محمول على غير المعلم العقور.

ثم الحيثية التي ذكرها الشيخ لا يتقيد حصولها بعدد، بل إذا صار شأن الكلب كذلك حلت فريسته بالشرائط المذكورة، والمرجع في ذلك إلى العرف؛ لأنه لا حد له لغة وشرعاً؛ فكان كالحرز والقبض والإحياء، ووراء ذلك وجهان:

أحدهما: أنه يكفي تكرار ذلك منه مرتين؛ لأن العادة تثبت بهما.

والثاني- عن شرح الموفق بن طاهر-: أنه يعتبر ثلاث مرات، وهو ما ذكره الماوردي في كتاب الحجر عند الكلام في الرشد.

ويقرب منه قول البغوي: إذا أفلته ثلاث مرات حل ما قتل في الرابعة.

والحياة مستقرة، قال ابن الصباغ: في تمثيلها: أن يكون الحيوان بحيث لو ترك لبقي يوماً أو بعض يوم، وغير المستقرة لو ترك لمات في الحال.

وقال غيره: الحياة المستقرة [ألا] ينتهي إلى حركة المذبوح.

وقال في "المرشد": تعرف الحياة المستقرة بسببين:

ص: 167

أحدهما: أن يكون حال وصول السكين إلى الحلقوم [تضطرب عيناه] أو يحرك ذنبه؛ لأن الحياة إذا زالت من أسفله، لم يتحرك ذنبه وشخص بصره.

وعن بعض الأصحاب: أن خروج الدم دليل استقرار الحياة، وجزم النواوي بأن انفجار الدم [بعد الذبح] وتدفقه مع وجود الحركة الشديد من أمارات بقاء الحياة المستقرة، وأن الحركة الشديدة وحدها كذلك على الأصح.

وإذا عرفت ما قيل في طريق معرفة ذلك، عرفت أن الأحوط للصائد مبادرة ذبح الصيد ما توهم فيه بقاء حياة، فإن ظهرت بعده أمارات [استقرارها كان محصلاً لحله، وإن ظهرت أمارات] فقدها كان محصلاً للسنة، فإن الأصحاب قالوا: يستحب للصائد إذا أدرك الصيد وفيه حياة، وقد أخرج الجارح ونحوه حشوته، ذبحه؛ ليسهل خروج روحه، فلو لم يفعل ذلك ومات، فإن ظهر له أمارات [استقرار الحياة فيه حين أدرك ذكاته لم يحل، وإن ظهرت أمارات] فقدها حل.

وعكس هذه الصورة في الحكم ما لو أكل السبع بعض فريسة، أو انهدم سقف على شاة، وبقيت فيها حياة، ثم قطع حلقومها ومريئها، فإن ظهرت أمارات استقرار الحياة، حلت؛ لقوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وعن القاضي ابن كج حكاية قول عن رواية الفارسي: إنها لا تحل.

وإن ظهرت أمارات فقده، لم تحل.

وعن أبي حفص بن الوكيل: أنه أثبت قولاً [واحداً] في هذه الحالة: أنها تحل، والمذهب التحريم.

قال في "التهذيب": وهذا بخلاف [الشاة] إذا مرضت، فصارت إلى أدنى الرمق، [فذبحت، تحل؛ لأنه لم يوجد سبب يحال عليه القتل.

قال: ولو أكلت الشاة الشب؛ فصارت به إلى أدنى الرمق]. بحيث لا تكون

ص: 168

الحياة فيها مستقرة، فذبحت، ذكر شيخي يعني: القاضي الحسين- فيها وجهين، ثم قطع في كرة أنها لا تحل؛ لأنا وجدنا سبباً نحيل الموت عليه؛ كما لو صارت إلى هذه الحالة بجرح السبع.

ولو لم يظهر للصائدح وقد ترك الذكاة حتى مات الصيد- إحدى الحالتين السابقتين، بل وقع الشك في استقرار حياته وفقدها، وكذا فيما إذا كان قد ذبح الشاة من قفاها وأبان الرأس، وفيما إذا قطع منحر ما افترسه السبع ونحوه، فهل تحل؟ فيه وجهان مأخوذان في مسألة الصيد- كما قال الماوردي- من القولين الآتيين فيما إذا جرح الصيد، وغاب عنه، ثم وجده ميتاً، لكن الأصح هنا الحل.

وفي مسألة المذبوحة من القفا ونحوها من تقابل الأصلين.

والظاهر من قول أبي إسحاق التحريم؛ لأن الأصل الحظر، وهو ما اختاره الإمام.

والظاهر من قول ابن أبي هريرة: الحل؛ لأن الأصل بقاء الحياة حتى يعلم فواتها، والله أعلم.

والمبادرة التي تقدم ذكرها قد اختلف الأصحاب في ضبطها:

فقال ابن أبي هريرة: إنه يعتبر فيها صفة مشي مثله على مألوف سكينته، ولا يعتبر فيه السعي؛ كما لا يعتبر في إدراك الجمعة، وهو ما أورده في "التهذيب"، [والأظهر في الرافعي].

وقال غيره: إنه السعي المعتاد في طلب الصيد؛ لأنه مخالف لسكينة المشي في عرف أهله، وهذا ما أورده في "الوجيز".

وقال الإمام: من اكتفي بالمشي، فالوجه أن يتشوف إلى الإسراع في المشي قليلاً، فإن الماشي على هينته خارج عن عادة الطلب، ومن كلفه العدو لم يكلفه المبالغة حتى يقهر أو يناله ضرر.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أموراً:

أحدها: التسوية بين جميع الجوارح من الكلاب والنمور وغيرها، والبازي ونحوه- في جميع ما ذكره من شرائط التعليم، وهو ما ذكره صاحب "البحر" وغيره، ونسبه في الطيور إلى النص في "المبسوط" كما سنذكره.

ص: 169

وفي "تعليق القاضي الحسين" و"النهاية": أن شرط الانكفاف عن الأكل معتبر في الجوارح من الكلاب، وفي اعتباره في جوارح الطيور قولان، وهما منسوبان إلى رواية الصيدلاني وغيره:

أحدهما: الاشتراط، وهو الأظهر.

والثاني: لا؛ فإن الكلب إنما ينكف عن الأكل عن فريسته بالضرب والدق العنيف، وجوارح الطير لا تحتمل ذلك، ولا يتوصل إلى صرفها عن الأكل من غير زجر، بل قيل سبيل تعليمها بالإطماع في الطعام.

وفي الرافعي: أن أبا يعقوب الأبيوردي حكى قولاً مثله في جوارح السباع، وأن في كتاب ابن كج نحواً منه.

وقد استبعد الإمام وقوع تعليم الفهد والنمر؛ من حيث إنه لا يؤثر فيه الانطباع، ولا ينزجر إذا زجر، ولا يتوقف استشلاؤه على الإشلاء، ولا يترك الأكل، ولا يتأتى صرفه على ذلك؛ فإنه لو صرف لعاد إلى نفوره، نعم: لو [تصور] ذلك منه [على] ندور كان حكمه حكم الكلب فيما ذكرناه، وحيث لا يتصور، فمقصود صاحبه بإرساله على الصيد أن يمسكه، لعله يدرك ذكاته؛ فيحل له إذ ذاك، كما نقول في الكلب الذي ليس بمعلم.

وقد جزم في "الوجيز" بأن فريسة الفهد والنمر حرام؛ لأنه لا يتأدب ويترك الأكل.

قال الرافعي: ومضمون هذا أن ما يفعله الفهد والنمر حرام؛ لأنه لا يصير معلماً؛ لأن أحد أركان التعليم ترك الأكل، ولكنه لا يتركه، لكن هذا المفهوم خلاف ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه والأصحاب، وأراد بالنص: ما حكاه في"المختصر"؛ فإنه قال: "يجوز بكل معلم من كلب [و] فهد ونمر وغيرها من الوحوش، وكان [بحيث] إذا أشلى استشلى، وإذا أخذ حبس ولم يأكل، فإذا فعل هذا مرة بعد مرة فهو معلم".

الأمر الثاني: أنه لا فرق في اشتراط إتيان الجارح عند إشلائه بين أن يكون في

ص: 170

ابتداء إطلاقه، أو في دوامه بعد اجتذابه في جريه وطيرانه؛ لأن به يظهر أثر التعليم كما هو ظاهر النص.

وقد فصل الإمام، فقال: أما اشتراط ذلك في الكلب ونحوه في ابتداء الأمر، فلا شك فيه؛ وأما اعتباره بعد الإطلاق وهو في حموة العدو، فصعب، والمتحصل فيه من كلام الأصحاب وجهان، وأما اشتراطه في الطيور بعد الطيران، فلا مطمع فيه، ويبعد – أيضاً- أن يشترط انكفافها في أول الأمر وقد سنح لها الصيد وهي جائعة.

الأمر الثالث: اعتبار الإرسال ممن يريد الصيد، حتى لو استرسل الجارح بنفسه، لم يحل ما قتله، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب؛ لقوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]؛ فلم يحلل ما أمسكه على نفسه.

وقوله- عليه السلام لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم، فكل ما أمسك عليك"، فشرط في ذلك الإرسال؛ لأن "إذا" من حروف الشرط؛ فدلَّ على أن الإرسال شرط، وهو مأخوذ من قول الشافعي- رضي الله عنه في "المبسوط":"وتعليم الطائر كله واحد، البازي والصقر والشاهين والعقاب وغيرها، وهي أجمع أن تدعى فتجيب، وتشلى فتطير، وتأخذ فتحبس، فإذا فعلت ذلك مرة بعد مرة فهي معلمة"، فاستعمل لفظ "الإشلاء" في الإغراء، وهو الإرسال، وقد اعترض عليه بأن الإشلاء في اللغة: الدعاء؛ قال الشاعر: [من الرجز].

أشليت ععنزي ومسحت قعبي

وأجيب عنه بأجوبة:

أحدها: أن العامة تستعمل الإشلاء موضع الإغراء؛ فأجراه على عادتهم.

والثاني: أخذ من قول الأزهري: إن أشلى: إذا دعى؛ فإذا دعاه صاحبه إلى صيده، فقد أشلاه.

والثالث: أن قول الشافعي في اللغة حجة؛ لأنه عربي الدار من أهل اللسان، فإذا عبر عن الإغراء بالإشلاء، وجب قبوله، وهذا أحد جوابي الشيخ أبي حامد.

وقد نقل الماوردي وأبو الطيب: أنه من الأضداد؛ يشمل الأمرين.

ص: 171

ونقل ابن فارس: أن استعماله في الإغراء لغة أخرى، وإن كانت الأولى أفصح، وأنشد فيه [من الطويل]:

أتينا أبا عمرو فأشلى كلابه علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل

والرابع- وهو الجواب الثاني لأبي حامد-: أنه عبر عنه بما يئول إليه؛ لأنه إذا دعاه إلى الصيد، وأجاب، حصل الإغراء بعد الإجابة؛ فلذلك عبر عن الإغراء بالإشلاء، والله أعلم.

نعم: لو استرسل الجارح بنفسه، فزجره صاحبه، فوقف، ثم أغراه على الصيد، فطلبه وقتله- حل.

وإن زجره، فلم ينزجر، فأغراه بالصيد، فزاد في العدو، وقتل الصيد، فهل يحل؟ فيه وجهان لهما التفات- كما قال الإمام- على أن الانزجار في ابتداء العدو هل يعتبر في أصل التعليم؟ والأظهر التحريم.

ولو لم يزجره، لكنه أغراه؛ فازداد عدواً وحمواً، فوجهان مرتبان على التي قبلها، وأولى بالحل، والذي أورده العراقيون منهما التحريم، وهو في الأولى من طريق الأولى، ووجهه: أن استرساله بنفسه يقتضي التحريم، وإغراء صاحبه يقتضي الإباحة؛ فغلب جانب التحريم.

وإذا جمعت بين هذه المسألة والتي قبلها، جاء فيها ثلاثة أوجه. وعلى الأولين منهما فروع:

أحدها: لو أرسل شخص جارحته، فأغراها غيره فازدادت عدواً، وأخذت الصيد، فلمن يكون ذلك؟ ينبني على أنه إذا غصب جارحة، واصطاد بها، فلمن يكون الصيد؟ فيه خلاف، والأصح في "التهذيب": أنه للمالك؛ كما لو اصطاد عبده المغصوب شيئاً؛ فإنه له.

والأصح في غيره- ولم يورد العراقيون سواه-: أنه للغاصب؛ كما إذا اصطاد بالشبكة المغصوبة؛ وعلى هذا يقع التفريع مع ملاحظة الخلاف السابق في الأصل:

فإن قلنا ثم بالتحريم، كان الصيد في حالة إغراء الغاصب وزيادة عدو الجارحة للمالك.

ص: 172

وإن قلنا بالحل ثم، كان هاهنا للغاصب.

قال الإمام: ولا يمتنع على هذا خروج وجه في أنهما يشتركان في الملك، ولا فائدة لمثله فيما إذا أرسل مسلم كلبه فأغراه مجوسي، فازداد عدواً- كما سنذكره- فإنا إذا نظرنا إلى الاشتراك حرمنا وهو أحد الوجهين.

قلت: وقد قال بهذا البغوي وشيخه؛ كما ستعرفه، وسيظهر له فائدة في التحريم.

الثاني: لو أرسل مسلم كلبه، فأغراه مجوسي، فازداد عدوه، فإن قلنا [هناك] بالحل، قلنا بالتحريم هنا، وإن قلنا بالتحريم ثم، قال الإمام والجمهور: حل هاهنا.

وفي "تعليق القاضي الحسين" و"التهذيب" الجزم بالتحريم [على الوجهين؛ لأن إغراءه دائر بين أن نقطع الأول أو نوجب الشركة، وعلى التقديرين يلزم التحريم،] وقد أبدى القاضي أبو الطيب التحريم احتمالاً لنفسه مع جزمه بالتحريم ثم؛ لما في ذلك من الإعانة، فإن قلنا بالتحريم؛ بناء على أنه يحل ثم، فلا يجب على المجوسي قيمته، اللهم إلا أن نقول: إن ما يصطاده بالكلب المغصوب يكون لمالكه؛ فيظهر أن يقال بوجوب الغرم.

وإن قلنا: إنما حصل التحريم؛ لأجل المشاركة- كما أشار إليه البغوي وغيره، وهو [ما أشار إليه] الإمام وجهاً- ينبغي أن يجب على المجوسي نصف قيمته؛ نظراً للمشاركة؛ وتفريعاً على الأصح في أن صيد الكلب المغصوب للغاصب.

ولو كان الكلب قد استرسل بنفسه، فأغراه مجوسي؛ فازداد عدواً، فقتل الصيد، فلا شك في التحريم [لكن] هل يجب على المجوسي قيمته؟ يشبه أن يقال: إن قلنا: إن الصيد بالكلب المغصوب للمالك، فعليه القيمة جزماً؛ إن قلنا: إن [للإغراء أثراً]، وإلا فلا.

ويؤيد ذلك أن الماوردي حكى فيما لو استرسل الجارح بنفسه، فأغراه محرم، وازداد عدوه، وقتل الصيد- الجزم بالتحريم، وفي وجوب الغرم وجهان.

الثالث: لو كان المرسل مجوسياً، فأغراه مسلم، وازداد عدوه، فقضية ما تقدم

ص: 173

من طريقة الإمام: أن ينعكس [الحكم في] البناء، فيقال: [إن قلنا ثم بالحل، فهاهنا كذلك، وإن قلنا بالتحريم ثم، حرم هنا أيضاً.

وعلى طريقة البغوي وشيخه قد يقال:] إنه ينبغي أن نقطع بالتحريم، وهو ما أورده الروياني، لكنهما خرجا الحل على الوجهين؛ نظراً إلى أن الاعتبار بآخر الأمرين أو بالمشاركة، ونحن إذا نظرنا إلى ذلك في الفرع قبله، لم نتحصل على غير التحريم.

الأمر الرابع: أنه لا فرق في الحل بين إرسال البصير والأعمى، والبالغ والصبي، والعاقل والمجنون، والصاحي والسكران؛ لأن الأعمى من أهل الذكاة بلا خلاف، وكذلك الصبي والمجنون والسكران [عند العراقيين].

[وقد حكى] في "العدة" في حل صيده بالكلب وجهين:

أحدهما: الحل؛ كما اقتضاه كلام الشيخ.

والثاني: التحريم، وينسب إلى أبي إسحاق؛ لأن القصد للصيد لابد منه، ولا يتأتى ارتباط قصده الصيد قبل الإدراك، وبهذا فارق الذكاة؛ وهذا ما أورده ابن الصباغ. وحكى في "البحر" في موضع منه عن صاحب الإفصاح القطع به؛ فتحصلنا به على طريقين.

إحداهما: حاكية لوجهين فيه.

والثانية: القطع بالمنع.

وأما حل صيده بالسهم، ففيه- أيضاً- طريقان حكاهما في "البحر".

إحداهما: القطع بالحل، وهي ما نقلها في موضع عن صاحب "الإفصاح".

والثانية: حكاية الوجهين فيه عن رواية القاضي الطبري وغيره في موضع آخر.

والمذكور في "النهاية" عن بعض التصانيف حكاية وجهين في إرسال الكلب والسهم.

لكن ما محل الخلاف المذكور في الكتب التي نقلنا عنها؟

ما ذكرناه إطلاقه.

ص: 174

وقال الرافعي: الأشبه تخصيصه بما إذا دله بصير على أن يجد أنه صيد، فرمى أو أرسل الكلب إليه بدلالته، وبه صور صاحب "التهذيب" وشيخه في موضع من تعليقه في مسألة الرمي، ووجها الحل: بأنه فعل ما فعل بدلالة البصير؛ فأشبه ما لو دله على القبلة؛ وهذا ما أجاب به الموفق بن طاهر في شرح مختصر الجويني، والصورة كما ذكرنا.

قال البغوي: والمذهب المنع، وهو ما صححه شيخه وكان قد قطع به في الكرة الأولى، وفرق بأن التوجيه إلى القبلة يسقط بالأعذار، وعند الاشتباه، يجوز له الاجتهاد، وتصح صلاته وإن لم يتيقن القبلة بخلاف الرمي.

أما إذا فعل ذلك بدون دلالة بصير.

قلت: فالذي يظهر الجزم بالمنع، ويؤيده اتفاق الأصحاب فيما إذا رمى صيداً أو أرسل عليه كلباً، فغاب عنه قبل أن يجرحه السهم أو الكلب، ثم وجده ميتاً- على عدم الحل؛ كما ستعرفه.

لكن في "البحر": أن البصير لو كان يحس بالصيد في ظلمة أو من وراء شجرة أو غيره، فرماه: أنه يحل بالإجماع؛ لأنه وقع له نوع علم به؛ فصحت نيته، وعزى ذلك إلى القفال؛ وهذا قد يقدح فيما ذكرناه؛ لأن إحساس الأعمى كإحساس البصير في الليل؛ فينبغي أن يكون محل الخلاف إذا أحس بالصيد: إما بدلالة بصير، أو بدونها وأخبر بإصابة سهمه أو كلبه للصيد وجرحه؛ كما سنذكره.

[وقد أفهم كلام القاضي الحسين في موضع آخر: أن من الأصحاب من أجرى الخلاف وإن كان بدون دلالة بصير؛ فإنه قال: ومن الأصحاب من لم يفصل بين أن يرمي الأعمى أو يرسل كلباً في أنه يحل، ومنهم من يفرق بين رميه وإرساله بأن رميه حصل بفعله فيحل، ولا معنى لإرساله الكلب؛ لأنه لا يدري آرسله على صيد أو غيره؟

ومنهم من قال: إن أرسل بحضرة من يدله على الصيد، حل.

وقال الإمام في كتاب الأضحية: إن محل الخلاف عندنا فيما إذا استشعر وكراً من الصيد، وأدركه بحس نفسه، وبنى الإرسال عليه].

وأما الصبي والمجنون، فقد أجرى الخلاف في اصطياده بالرمي والجارح.

ص: 175

ومنهم من خصهما بالجارح، وقطع بالحل في رمي السهم؛ تنزيلاً له منزلة الذبح بالسكين.

وقد اقتصر ابن الصباغ على حكايتهما في صيد المجنون، ونسب عدم الحل إلى أبي إسحاق.

وإذا عرفت حكم المجنون، عرفت حكم السكران؛ لأن الشيخ سوى بينهما في الذكاة، والله أعلم.

قال: وإن أرسله مجوسي، أو شارك المسلم في الإرسال، أو شارك الجارح جارحة أرسلها مجوسي في قتل الصيد- لم يحل؛ لأن المرسل كالذابح، والجارح كالسكين، وذكاة المجوسي التي انفرد بها أو شارك فيها- لا تحل؛ نظراً لتغليب التحريم على التحليل؛ كما في المتولد بين مأكول وغيره، وعن هذا احترز الشيخ بقوله:"من هو من أهل الذكاة".

ويجيء فيه الوجه المذكور في حل ذبيحته.

والحكم فيما لو شاركه من تحل ذكاته بجارحة غير معلمة أو بجارحة لا يعلم حالها [كذلك]؛ لقوله- عليه السلام لعدي بن حاتم: "فكل ما أمسكن عليك"، قال: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن؛ ما لم يشركها كلب ليس منها".

وفي مسلم عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل، فلا تأكل؛ لأنك لا تدري أيهما قتله".

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجارحة المشاركة لجارحة المرسل من نوعها أو من غيره، كما إذا أرسل أحدهما كلباً والآخر فهداً أو بازاً؛ وكذا لو أرسل أحدهما جارحته والآخر سهماً، أما لو لم يقتل الصيد عند إرسال كل من المسلم والمجوسي جارحته إلا إحدى الجارحتين، نظر: فإن كان القاتل جارحة المجوسي، حرم، وإن كان جارحة المسلم نظر: فإن كانت الجارحتان قد أمسكتا الصيد أولاً، لم يحل أيضاً؛ لحدوث القتل عن الإمساك المشترك، وإن لم تمسكه جارحة المجوسي حل؛ قاله الماوردي وهذا بخلاف ما لو رده كلب المجوسي على كلب المسلم، فقتله

ص: 176

كلب المسلم، [حَلَّ] كما لو رده المجوسي بسهم أصابه سهم المسلم.

ولو كان كلب المسلم قد صير الصيد إلى حركة المذبوح، لم يؤثر فيه جرح كلب المجوسي بعد ذلك؛ نعم: لو كان كلب المسلم قد فارقه، ثم أدركه كلب المجوسي وفيه حياة مستقرة، فعقره ومات من الجراحتين حرم، ووجب على المجوسي قيمته؛ كما لو ذبح شاة غيره.

قلت: وينبغي أن يفصل فيقال: إن كان المسلم لم يتهاون في ذكته حتى أدركه كلب المجوسي، فالأمر كذلك، وإن كان قد تهاون فيه، فينبغي أن يكون فيه ما سنذكره فيما إذا رمى سهماً، ثم رمى آخر بعده إليه، ومات منهما.

ولو كان كلب المجوسي قد جرحه أولاً في غير المقتل، ثم أصاب كلب المسلم المقتل- حلَّ إن لم يزل امتناعه بجرح كلب المجوسي، فإن زال امتناعه حرم؛ لأنه لا يحل إلا بقطع الحلقوم والمريء؛ قاله في "البحر".

وحكم الكلب غير المعلم [و] المجهول حاله [و] المعلم إذا استرسل بنفسه فيما ذكرناه- حكم كلب المجوسي ولو اصطاد المسلم بكلب المجوسي، حل، ولا يحل ما اصطاده المجوسي بكلب مسلم؛ لأن الاعتبار بالصائد.

فرع: لو أرسل المجوسي سهمه على الصيد، ثم أسلم، ووقع السهم في الصيد، فقتله- لم يحل، وكذا لو أرسل المسلم سهمه، ثم ارتد، ثم وقع [سهمه،] فقتل- لم يحل؛ نظراً إلى أغلظ الحالين- ولو كان مسلماً في حال الرمي والإصابة، وتخللت الردة بينهما- لم يحل أيضاً؛ قاله القاضي الحسين.

قال: وإن قتل الجارح الصيد بثقله، ففيه قولان:

وجه التحريم قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، فجعل الجارح نعتاً؛ فصار في الإباحة شرطاً.

وقوله- عليه السلام: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل" فدل على

ص: 177

أن ما لم ينهر الدم لا يحل؛ وهذا ما اختاره المزني وصاحب "المرشد".

ووجه الإباحة: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، ولم يفرق بين قتله بظفره أو نابه أو ثقله، ولأنه يعسر تعليم [الجارح] ألا يقتل إلا جرحاً؛ وهذا ما رجحه الإمام، والموفق بن طاهر، والروياني، والنواوي، ولم يحك البندنيجي سواه، وطرد ذلك فيما إذا عضه فلم يجرحه، أو ضمه فمات.

وقد حكى مجلي عن بعضهم أنه خرج على القولين لو مات فزعاً من الجارح من غير جراحة، وقال: إنه يحتمل أن يكون بمثابة ما لو مات تعباً؛ فإنه لا يحل قولاً واحداً، وكأن الفرق: أن الفزع حصل من الجارح؛ فنسب القتل إليه، وليس كذلك التعب؛ فإنه حصل من جري الصيد؛ فأشبه التردية.

قال: وإن رمى سهماً أو غيره، فقتل الصيد بثقله، لم يحل، أي: سواء أدماه أو لم يدمه؛ لقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3].

وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض فقال: إذا أصاب بحده فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل؛ فإنه وقيذ".

وقوله: وقيذ: [هو] فعيل بمعنى: مفعول، والموقوذة: المقتولة بعصا أو حجر أو بما لا حد له.

وقال الجوهري: شاة موقوذة؛ [إذا] قتلت بالخشب.

والمعراض: بكسر الميم وسكون العين المهملة وبعد الألف ضاد معجمة، قال الخطابي: نصل عريض، وفيه رزانة ونصل.

وقال الجوهري: سهم بلا ريش ولا نصل، [ويصيب] بعرض عوده دون حده.

وقيل: خشبة محددة الطرف.

وقيل: في طرفها حديدة ترمي بها.

ص: 178

وقيل: هو عود رقيق الطرفين، غليظ الوسط، إذا [رمى] به ذهب مستومياً.

ومن هذا القبيل القتل بالبندق لا يحل [المقتول]؛ قال الماوردي: لأنه يقتل الصيد بقوة راميه، وليس يقتله بحده، ولا فرق في ذلك بين أن يخرج جوفه أو لا.

وقد روى عنه- عليه السلام أنه نهي عن الجلاهق، ولا يحل الرمي به [لأنه يعرض] الحيوان للهلاك؛ صرح به في الذخائر، نعم: لو رمى به، فأدرك الحيوان وفيه حياة مستقرة، فذبحه- حل؛ لقوله تعالى بعد ذكر المحرمات:{إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].

وقد أفهم كلام الشيخ: أنه إذا رمى سهماً [أو غيره] فقتل الصيد بحده، حل؛ كما تقدم التصريح به في الخبر، وما سنذكره من بعد، ولم يخالف في ذلك أحد من الأصحاب، وفرع الشافعي على ذلك فقال: "لو ضرب الصيد فقطعه قطعتين، أكلتا وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى، وإن قطع منه يداً أو رجلاً أو أذناً أو شيئاً، يمكن لو لم يزد على ذلك أن يبقى بعد ساعة أو مدة أكثر منها؛ ثم قتله بعد رميته- أكل ما كان [باقياً فيه] من أعضائه، وله أن يأكل العضو الذي فات منه وفيه الحياة، وقال:[إن] هذا فيما إذا لم يتمكن من ذبح الحيوان، ومات بسبب الرمي الأول؛ فيحل المبان منه والمتصل به.

وحكى ابن أبي هريرة وجهاً آخر عن بعض أصحابنا: أن البائن منه لا يؤكل وإن كان الأصل مأكولاً؛ لأنه بان منه مع بقاء الحياة، وتأول كلام الإمام الشافعي: أنه يؤكل- على أن القطع كان موحياً، لا تثبت به حياة.

قال الماوردي: ولا وجه لهذا الوجه.

أما إذا مات الصيد بغير هذا الرمي: إما بالذبح إن قدر عليه، وإما برميه ثانية إن كان غير مقدور عليه- فلا يؤكل ما بان منه بالقطع الأول جزماً؛ لأنه لما لم يكن ذكاة له لم يكن ذكاة لما بان منه.

ص: 179

قال: وإن أكل الجارحة، أي: المعلمة من كلب أو بازي من الصيد، أي: عقيب قتله، ففيه، أي: في ذلك الصيد قولان:

وجه الحل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] والباقي بعد أكله قد أمسكه علينا؛ فحل لظاهر الآية.

وروى أبو داود عن أبي ثعلبة [الخشني] قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: "إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يداك".

قال الشافعي- رضي الله عنه في "المبسوط": والقياس يدل عليه؛ لأن الكلب إذا عقر الصيد، [وقتله] فقد حصلت الذكاة، فأكله منه بعد حصول ذكاته لا يمنع من أكله؛ كما إذا ذكى المسلم صيداً، ثم أكل منه الكلب.

وهذا ما نص عليه في القديم، وأومأ إليه في [الجديد] بالقياس المذكور.

ووجه التحريم ما روي عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا نصيد بهذه الكلاب؟ فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله عليها، فكل مما أمسكن عليك وإن قتل إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" أخرجه البخاري ومسلم.

ولأن من جملة شرائط التعليم عدم الأكل، فإذا أكل فإما أن يتبين أنه لم يكن معلماً، أو يبين أنه كان معلماً، ولكنه نسي التعليم، وأيهما كان فإنه يحرم أكله، وهذا ما نص عليه في "المختصر" وبه قال أكثر أهل العلم، وهو الأصح في "التهذيب" و"البحر" و"الرافعي" وغيره.

والجواب عن الآية السالفة: أن الحديث دل على أنه إذا أكل، فقد أمسك لنفسه.

وعن الحديث: أن في رجاله داود بن عمرو الأودي عامل "واسط"، وقد تكلم فيه.

ثم على تقدير كون روايته لا بأس بها-[كما] قال أبو زرعة وابن عدي-

ص: 180

فيحمل قوله: "وإن أكل منه"[على ما إذا أكل منه] بعدما قتله، وانصرف عنه؛ كما قال ابن الصباغ، أو على ما إذا أطعمه مرسله منه؛ كما قاله أبو الطيب.

وعلى تقدير إجرائه على ظاهره، فالأخذ بحديث عدي أولى؛ لأنه أحوط، وناقل عن الأصل؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة.

وقد قيل: إن كان الجارحة بازاً ونحوه، حل قولاً واحداً؛ قاله المزني كأبي حنيفة، وفرق بأن البازي يعلم الصيد بالأكل منه، فأكله لا يخرجه عن أن يكون معلماً، بخلاف الكلب، لأنه يعلم الصيد بالضرب على ترك الأكل، فإذا أكل منه، علم أنه غير معلم؛ فحرم صيده.

قال القاضي أبو الطيب وغيره: وهذا فاسد؛ للخبر، وأما ما ذكره من الفرق، فقد قال الأصحاب: لو كان كذلك لوجب إذا اصطاد ولم يأكل منه ألا يحل أكله؛ كما أن الكلب لما كان معلماً بترك الأكل إذا اصطاد وأكل حرم أكله، وقد أجمعنا على أن البازي يحل صيده إذا لم يأكل منه؛ فدلَّ على أنه لا يعلم بالأكل.

قال الشافعي- رضي الله عنه: ولأنهما في الابتداء استويا، فلا يؤكل صيد البازي حتى يأخذ فيحفظ فكذلك في الدوام.

وقيل: إن قلنا: إن الكلب إذا أكل لا تحرم فريسته، [فالبازي أولى] وإلا فوجهان، وهذه طريقة أبي علي في "الإفصاح"، وهي مخالفة للنص في التسوية ورد الفرق.

وقيل: إن قلنا: إن البازي لا يضر الأكل في تعليمه، فالأكل بعد التعليم لا يحرم بحال، وإن قلنا: يضر الأكل في البازي في الابتداء، ففيه قولان كما في الكلب؛ وهذه طريقة القفال.

ولا خلاف عند الماوردي والقاضي الحسين والعراقيين في أنه إذا شرب من دم الصيد، لا يحرم، ولا يكره، وأشار الإمام إلى وجه في التحريم بقوله: لا يحرم على الأصح.

ولو شق جوفه، وأخرج حشوته، وأكلها، [ففيه طريقان]:

ص: 181

منهم من جزم بالحل؛ كالدم.

ومنهم من خرجه على القولين.

أما إذا انصرف الجارح بعد القتل، ثم عاد وأكل منه، فقد أفهم كلام الإمام: أن الخلاف فيه حيث قال: وكنت أود لو فصل فاصل بين أن ينكف الكلب زماناً ثم يأكل، وبين أن يأكل لما أخذ؛ فإن الزمان إذا تمادى فيندر أن ينكف الكلب عن الأكل، ولكن لم يتعرض لهذا أحد من الأصحاب.

وما أورده هو ما أورده الماوردي والجرجاني [والعمراني] في زوائده، وإليه يرشد ما حكيناه عن ابن الصباغ في حمل حديث أبي ثعلبة.

ولو أكل من لحم الصيد قبل قتله، قال الرافعي: فهو كما لو أكل عقيب قتله، ففيه القولان.

التفريع: إن قلنا بالجديد، فلا تحرم فرائسه الماضية.

قال العراقيون والماوردي والقاضي الحسين: لا يختلف قوله في ذلك.

قال مجلي حكاية عن الأصحاب: ولا يخرج بأكله مرة عن أن يكون معلماً؛ لجواز أن يكون إنما أكل؛ لفرط الجوع؛ فتحل فريسته من بعد، وعليه يدل ما سنذكره من كلام الإمام، نعم: لو تكرر ذلك منه، خرج عن أن يكون معلماً؛ إذا كان أكله بعد الإرسال؛ بخلاف ما إذا استرسل بنفسه، [واصطاد وأكل وتكرر ذلك منه؛ فإنه لا يخرجه عن التعليم.

قال الإمام عند الكلام فيما إذا استرسل الكلب بنفسه:] لأنه إنما يراعى انكفافه إذا كان استرساله على حكم الاصطياد لصاحبه.

وفيما وقفت عليه من نسخ الرافعي: أنا إذا حرمنا الفريسة التي أكل منها، فلابد من استئناف التعليم، وسيأتي في كلامه ما يفهمه- أيضاً- وهو الذي يقتضيه كلام أبي الطيب وغيره.

وإن قلنا بالقديم: فلو اصطاد [به] ثانياً، فأكل [منه] مرة أخرى، فقد سكت العراقيون عنه، وفيما وقفت عليه من "الحاوي" ما يدل على أنه لا فرق بينهما.

وقال القاضي الحسين: إنه يحرم قولاً واحداً، وهل يستبين بهذا أن ما قتله أولاً

ص: 182

وأكل منه قبل هذا يكون حراماً أم لا؟ يحتمل وجهين.

وعلى ذلك جرى في "التهذيب"؛ وهذا صريح في أن أكله مرتين يخرجه عن التعليم، وكلام الإمام يقتضي خلاف ذلك؛ فإنه قال: لو أكل من الثانية أيضاً، ثم من الثالثة، واعتاد الأكل- خرج عن كونه معلماً، ثم تحرم الفريسة الأخيرة التي وقع القضاء عند الأكل منها بالخروج عن التعليم، وهل ينعطف التحريم إلى أول فريسة أكل منها [إلى الأخيرة؟] اختلف أصحابنا فيه، وهذا الاختلاف فقه حسن، بخلاف ما إذا انكف الجارح عن الأكل في ابتداء الأمر إلى حيث حكم بكونه معلماً؛ فإنه لا ينعطف الحل إلى أول فريسة حصل الانكفاف عن أكلها بلا خلاف، والفرق تغليب التحريم، وهو فرق في الصورة، جمع في الحقيقة.

فرع: لو لم يسترسل عند الإرسال، أو لم ينزجر عند الزجر، قال الرافعي: فينبغي أن يكون في تحريم الصيد وخروجه عن كونه معلماً الخلاف المذكور في الأكل؛ لأن كل واحد من الخصال المذكورة ركن في التعليم.

وعن القفال: أنه إذا أراد الصائد أخذ الصيد منه، فامتنع، وصار يقاتل دونه، فهو كما لو أكل [منه]؛ قاله في "البحر".

قلت: بل ينبغي أن يكون هذا الحكم فيما إذا أراد أخذ الصيد منه، فهر في وجهه؛ لأن من شرائط التعليم في الابتداء أيضاً ألا يهر في وجه صاحبه.

قال: وإن كان الجارحة كلباً، غسل موضع الظفر والناب من الصيد، أي: سبع مرات إحداهن بالتراب؛ لأن نجاسة الكلب أصابته، فهو كالإناء، وهذا ما اختاره في "المرشد".

وقيل: يكفيه على هذا الغسل مرة واحدة.

وقيل: يعفي عنه؛ لأن الله تعالى أباح أكله بقوله: {فَكُلُوا} [المائدة: 4]، ولم يشترط الغسل، ولأنه يشق الاحتراز منه؛ فصار كدم البراغيث، [والدم] الذي يكون في العروق؛ وهذا أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه:"الموضع الذي أكل الكلب منه نجس"، ولم يأمر بغسله.

ص: 183

قال في "البحر": وهذا غلط؛ لأنه حكم بنجاسته؛ فدل على وجوب غسله.

وقال البغوي تبعاً لشيخه: والأصح الأول؛ لأن الله- تعالى- وإن لم يبين، فهو مؤول إلى بيان السنة.

والخلاف المذكور حكاه القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين وجهين، والصيدلاني قولين منصوصين، وهما متوافقان على أن الموضع نجس، وقد صرح به في "المهذب" و"التهذيب". وقال البندنيجي: إنه ينجس قولاً واحداً، وفي "الإبانة": أنه هل ينجس بذلك أم لا؟ فيه قولان؛ والأقيس: أنه ينجس، وقد حكاهما في "البحر" عن المراوزة.

وقيل: لا يطهر بالغسل موضع فمه [بل يقطع]؛ لأن لعابه قد دخل في أجزائه [وغسله يزيد في نجاسته؛] فلا يطهر بالماء.

قال الإمام: وقائل هذا يطرده في كل لحم، وما في معناه يعض عليه الكلب، بخلاف الموضع الذي يناله لعابه من غير عض.

وحكى عن القفال: أن ناب الكلب إذا أصاب عرقاً نضاحاً بالدم، سرى حكم النجاسة إلى جميع الصيد، ولا يحل أكله.

قال الإمام: [وهذا لا اعتداد] به، وهو غلط من الحاكي؛ لأن النجاسة وإن اتصلت بالدم، فالعروق وعاء حاجز بينه وبين اللحم، ثم الدم إذا كان يفور، امتنع غوص النجاسة فيه؛ كالماء المتصعد من فوارة، إذا وقعت نجاسة على أعلاه لم ينجس ما تحته، وعلى عكسه الماء المنحدر من الإبريق إذا لاقى نجاسة، لا ينجس ماء الإبريق؛ وبهذا أجاب ابن الصباغ.

قال: وإن رمى طيراً، فأصابه السهم، أي: في غير المذبح، فوقع في ماء، أو على جبل فتردى منه- أي: سقط منه- فمات، لم يحل.

أما في الأولى؛ فلما روى مسلم والبخاري وغيرهما عن عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تتمة حديث: "وإن رميت بسهمك، فاذكر اسم الله؛ فإن غاب عنك يوماً، فلم تجد

ص: 184

فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل"، والمعنى فيه: أنه يحتمل أن يكون قد مات من الرمية أو من الغرق، والأصل في الميتات التحريم؛ ولأجل هذه العلة، حرم في الصورة الثانية؛ لأنه يحتمل موته من الرمية؛ فيحل، أو من التردية؛ فيحرم، أو منهما، فيحرم أيضاً؛ تغليباً للتحريم.

وهذا مما لم يختلف فيه قول الشافعي-[رضي الله عنه وللإمام] احتمال فيما إذا رماه في الجبل فتحدر من حجر إلى حجر في الحال، والمنقول الأول، ويخالف هذا ما إذا وقع على جبل أو شجرة أو حائط ونحو ذلك ولم يترد منه، أو على أرض حيث قلنا بالحل بلا خلاف، وإن احتمل أن يموت من الصدمة، لأن ذلك لابد منه؛ فعفي عنه؛ كما عفي عن الذبح في [غير] المذبح عند التعذر، فإنا لو لم نقل بحله، لأدى إلى ألا يجوز الاصطياد، بخلاف التردية والوقوع في الماء، فإن ذلك [نادر]، فألحق بما لو وقع في نار؛ فإنه يحرم؛ لندور ذلك.

ويخالف- أيضاً- ما لو رمى، فحملت الريح السهم؛ لقصور الرمية وأصاب؛ فإنه يحل؛ لأن الظاهر: أن الإصابة كانت بإرساله، والجو لا ينفك من الريح؛ فيعسر الاحتراز منها، وليس لها فعل [حتى يكون منسوباً] إليها، [وللإمام فيها احتمال]، نعم: لو أصاب السهم الأرض أو حجراً، فازدلف، فأصاب صيداً، ففي الحل وجهان مخرجان- كما قال في "المهذب" وغيره- من الخلاف في نظير المسألة من المسابقة.

والمختار في "المرشد": الحل أيضاً، وهو ما ادعى الشيخ أبو حامد: أنه المذهب فإن ما يتولد من فعل الرامي منسوب إليه؛ ولم يورد البغوي سواه، وقد ألحق بوقوعه على الجبل والتردية منه ما لو وقع على سكين أو شيء محدود من قصب

ص: 185

أو حجر أو على الأرض، ثم وثب منها وثبة طويلة بحيث مر في الهواء، ثم سقط على الأرض-[فإنه لا] يحل؛ كما قال القاضي [الحسين]؛ بخلاف ما لو وثب وثبة خفيفة فإنه يحل.

وألحق البغوي بالوقوع على الأرض ما [إذا وقع في بئر لا ماء فيها، أي: ولم تصدمه جدرانها؛ لأن قعر البئر أرضه.

أما] إذا أصابه السهم في المذبح، فذبحه، أو طير رأسه، فيحل، سواء وقع في الماء أو تردى بعد ذلك أو لا، وكذا [لو قطعه] اثنين، أو وقع في مقتل؛ لانتفاء المعنى المذكور، وقد ادعى الماوردي فيه الاتفاق.

ولو لم يجرح السهم الطائر، فلا خلاف في تحريمه وإن وقع على الأرض.

وقال الإمام: الذي أرى إلحاقه-[أيضاً]- بذلك ما لو جرحه جرحاً خفيفاً؛ فإنه يحرم إحالة للموت على الصدمة.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي تحريم ما وقع في الماء، سواء كان الماء حالة الرمي أرضه أولاً.

وفي "المهذب": أنه لو كان حين أصابه السهم في هواء الماء، فوقع فيه، حل؛ إذا كان الرامي في مركب في الماء، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً.

قال البغوي: [وإن كان] في البر، [لم يحل].

وقال فيما إذا رمى إلى طير الماء، وهو على وجه الماء، حل، وإن كان خارج الماء فطار في الماء فأصابه السهم، لم يحل.

وأطلق في "الحاوي" حكاية وجهين في حل طير الماء إذا وقع في الماء.

وقال الرافعي: إنهما منقولان عنه فيما إذا كان خارج الماء، ووقع في الماء بعدما أصابه السهم.

والذي رأيته فيه ما ذكرته، ويمكن حملهما على الصورة التي قال البغوي فيها بالحل؛ لأن الماوردي وجه الحل بأنه لا يفارق الماء غالباً، فوقوعه في الماء كوقوع

ص: 186

غيره على الأرض؛ وحينئذ فيكون ما اقتضاه كلام الشيخ أحد الوجهين.

تنبيه آخر: الطائر مفرد، وجمعه طير؛ كصاحب وصحب، وجمع الطير: طيور، وأطيار؛ كفرخ وأفراخ؛ هذا قول جمهور أهل اللغة.

وعن أبي عبيدة وقطرب: أن الطير يقع على المفرد أيضاً.

فرعان: [أحدهما]: لو رمى طائراً واقفاً على شجرة ونحوها، فبقي ساعة يتحرك ويضطرب، ثم سقط على الأرض ومات، لم يحل، وإن سقط على الأرض لما أصابه السهم في الحال، حل؛ قاله القاضي الحسين.

الثاني: إذا رمى طائراً، فخر إلى الأرض، فاستقبله رجل بسيفه، فقطعه باثنتين، قال في "الحاوي": حرم أكله إلا أن يكون الجرح قد وحاه في الهواء، فلا يحرم؛ لأن قطعه بالسيف قبل التوحية ليس بذكاة؛ فصار متلفاً له؛ فحرم به، وضمنه لمالكه.

قلت: ولم يخرج على الخلاف في إيجاب القصاص؛ لأن باب الذكاة مخالف لباب القصاص؛ ألا ترى أنه لو قتله بمثقل، وجب القصاص، ولو قتل الصيد به لم يحل.

قال: وإن أصاب صيداً فجرحه، أي: بسهمه، أو جارحته جرحاً لم يقتله، أي: ويجوز أن يقتله، ثم غاب عنه، فوجده ميتاً، وليس فيه إلا أثره، حل في أحد القولين؛ لعموم قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].

وما روى أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت الصيد فأدركته [بعد ثلاث ليال وسهمك فيه، فكل ما لم ينت". وأخرجه مسلم.

قال في "البحر": وقوله: "ما لم ينتن" يحتمل]: أن يكون خشية من أن تكون هامة نهشته؛ فتغير اللحم؛ لما دب فيه من سمها؛ فأسرع إليه الفساد.

ص: 187

ويحتمل أن يكون أمره بذلك على وجه الاستحباب، وإلا فأكل ما تغير ريحه حلال، كما سيأتي بيانه.

وروى أبو داود- أيضاً- عن عدي بن حاتم: أنه قال: "إذا رميت سهماً، وذكرت اسم الله، فوجدته من الغد، ولم تجده في ماء، ولا فيه أثر غير سهمك فكل"، وقد أخرجه عنه مسلم- أيضاً- بمعناه.

وهذا ما صححه البغوي وقال في "الروضة": إن الغزالي في الإحياء صححه- أيضاً- وهو الأصح دليلاً، وهو مأخوذ من قول الشافعي- رضي الله عنه في "الأم" كما قال أبو الطيب: "القياس ألا يأكله؛ لأنه يمكن أن يكون قتله غير ما أرسل عليه إلا أن يكون قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو توهمه؛ فلا يثبت مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي ولا قياس؛ لأن الله تعالى [قطع] العذر بقوله، وقد ورد عنه ما ذكرناه؛ فحل.

قال: ولا يحل في الآخر؛ لما روى زياد بن أبي مريم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رميت صيداً، ثم تغيب عني، فوجدته ميتاً، فقال- عليه السلام:"هوام الأرض كثير"، ولم يأمره بأكله.

وروي أن رجلاً سأل ابن عباس، فقال: إني أرمي فأصمي وأنمي فقال: "كل ما أصميت، ودع ما أنميت".

قال القاضي الحسين: وقد روي هذا مرفوعاً من طريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي

ص: 188

التي صدر الإمام [بها] كلامه.

والإصماء: ما عاين قتله مشتق من الصميان، وهو السرعة.

والإنماء: ما غاب عنه مقتله، يقال: نمت الرمية؛ إذا غابت؛ ولأن القياس يقتضيه؛ كما قال الشافعي- رضي الله عنه لأنه إذا احتمل الحل [والتحريم] غلب التحريم، ولأنه قد ورد ما يقتضي الحل، وما يقتضي الحظر، فغلب حكم الحظر؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر"، وهو الأظهر عند الماوردي والنواوي، وهذه الطريقة قال بها ابن سريج- كما قال البندنيجي- ونسبها الماوردي إليه، وإلى أكثر البغداديين، ولم يورد القاضي الحسين والإمام غيرها، ووراءها طريقان:

إحداهما: القطع بالقول الثاني، وبها قال أكثر البصريين، وقالوا: ما ورد من الخبر غير صحيح، ولا هو ثابت، وهي التي نسبها القاضي أبو الطيب إلى أكثر الأصحاب.

وقد يحملون ما ورد من الحديث على ما إذا كان الجرح موحياً؛ كما سنذكره.

والثانية: القطع بالقول الأول؛ حكاها البندنيجي والمصنف، ونسبها القاضي أبو الطيب إلى ابن سريج وأبي الطيب بن سلمة، وكلامه يميل إلى ترجيحها، ولمن انتصر لها أن يقول: حديث زياد ليس مشهوراً، بل قال النواوي: إنه لم يثبت في التحريم شيء، وإن ثبت، فالحجة فيه بالمفهوم؛ فلا يعارض ما دل بمنطوقه، وهو في الصحيح.

وأثر ابن عباس محمول على ما إذا غاب عنه، ولم يشاهد [فيه أثر] الإصابة، فإنه لا يحل عندنا كما سنذكره، ومسألتنا مفروضة فيما إذا شاهد العقر والإصابة، ثم غاب عنه، واحتمال كونه مات بسبب آخر، الظاهر خلافه، والأحكام تناط بالظاهر؛ ألا ترى أنه لو جرح شخص إنساناً، ثم مات؛ فإنه يجب عليه ضمانه وإن احتمل أن يكون غيره قد شاركه فيه.

قال الإمام: وأيضاً: فإنا نحل الجنين إحالة على انقطاع الروح عنه بذكاة أمه، وإن أمكن تقدير موته بسبب آخر؛ وهذا ما وعدت من قبل: أنه يدل على تحريم الجنين إذا خرج بعضه من أمه ميتاً، ثم ذكيت.

وسلك في "المرشد" طريقاً آخر، فقال: إن غلب على ظنه: أنه إنما مات بجرحه

ص: 189

حل، وإن لم يغلب على ظنه [ذلك] لم يحل؛ لجواز أن يكون موته بسبب آخر.

أما إذا أصاب ما أرسله الصيد، ولم يشاهد المرسل الجرح، ثم غاب عنه، فوجده ميتاً- لم يحل قولاً واحداً، وإن وجد السهم فيه أو الكلب على رأسه.

وعن كتاب ابن كج حكاية وجه: أنه يحل.

وإن كان الجرح الذي شاهد قد قتله؛ كما إذا أخرج حشوته، أو أصاب مذبحه، ونحو ذلك، ثم غاب ووجده ميتاً، حل بلا خلاف، لأنه لا أثر لما يطرأ بعد ذلك؛ دليله ما لو رمى مجوسي إلى مثل هذا الصيد فجرحه، لا يحرم.

قال: وإن أرسل سهماً أو كلباً على صيد، فقتل غيره حل، أي: سواء كان ذلك الغير في سمت الأول أو لا؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وقوله- عليه السلام لأبي ثعلبة: "فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عز وجل [عليه] ثم كل وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله عز وجل ثم كل". أخرجه مسلم؛ فكان ذلك على عمومه.

ولأنه لو أرسل السهم أو الكلب إلى [جماعة] صيود كبار، فنفرت، فأصاب واحداً من أولادها، حل وهو [لم يقصده] فدل على أنه ليس من شرطه أن يصيب الذي أرسله عليه، وهذا ما ادعى البندنيجي أنه المذهب، وهو ظاهر النص.

وعن أبي إسحاق: أن الصيد المصاب إن كان في سمت المقصود حل، وإن كان في غير سمته لم يحل في مسألة الكلب؛ لأنه لما عدل عن السمت، قطع إرسال صاحبه؛ فصار كالمسترسل بنفسه، وإذا مضى في ذلك السمت، فما قطع إرسال صاحبه.

ومفهوم كلامه: أنه في السهم يحل، وإن كان [المصاب] في غير سمت المقصود، وقد صرح به العراقيون؛ حتى قال أبو الطيب: إنه مما لا خلاف فيه بين أصحابنا، وكذا القاضي الحسين ادعى أنه لا يختلف فيه المذهب؛ لأن الهلاك حصل بفعله.

والأصح في "البحر" وغيره الأول؛ لأنه لا يمكن تعليم الكلب اصطياد الأبعد، وترك الأقرب إليه الأسهل عليه، كما لا يمكن تعليمه أن يعقر في محل الذكاة دون

ص: 190

غيرها؛ فاغتفر ذلك، ولأن هذا يدل على فراهته.

وقال في "الحاوي": الصحيح عندي أن يراعي مخرج الكلب عند إرساله، فإن خرج عادلاً عن جهة إرساله إلى غيرها، لم يؤكل صيده، وإن خرج إلى جهة إرساله، ففاته صيدها، فعدل إلى غيره فأخذه أكل؛ لأنه على الصفة الأولى مخالف؛ فصار مسترسلاً لنفسه، وعلى الصفة الثانية موافق؛ فكان مرسلاً، وهو أدل على فراهته؛ وهذا الذي ذكرناه هو المذكور في كتب العراقيين.

وأما المراوزة فقد حكى عنهم في "البحر" وجهاً [خرجه][في مسألة السهم كوجه] أبي إسحاق في مسألة الكلب.

وأطلق الفوراني حكاية الخلاف [في مسألة الكلب من غير تقييد بحالة كون المصاب في غير سمت المقصود، وأفهم كلام القاضي الحسين] أن أبا إسحاق لا يخص ما قاله من عدم الحل بكون المصاب في غير سمت المقصود؛ لأنه قال: إذا أرسل على صيد فقتل غيره، فظاهر كلام الشافعي- رضي الله عنه أنه يحل [أكله].

وقال أبو إسحاق: لا يحل؛ لأن للكلب قصداً واختياراً، فإذا عدل عما قصده الصائد إلى غيره، فقد أخذ باختياره دون إرسال صاحبه، واحتج عليه بما قال أصحابنا: لو أرسل كلباً على صيد في الحل، فدخل الحرم خلفه، وقتله، فلا شيء عليه، وبمثله في السهم عليه الجزاء لأن الذي حصل برميه حصل بفعله.

وأما الإمام فقال: إذا قصد ظبية من سرب عينها بسهمه، فأصاب غيرها- فثلاثة أوجه:

أصحها: الحل، وبه قطع طوائف.

والثاني: التحريم.

والثالث: إن كان قد رأى الظبية المصابة حين الرمي أو كانت في السرب حلت، وإن لم يرها أو ثارت بعد مرق السهم فأصابها، لم تحل؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".

ص: 191

ولو أرسل عليها كلبه فأصاب غيرها، فالخلاف جار في الحل- أيضاً- لكن بالترتيب، واختلف الأصحاب في الترتيب:

فرتب الأكثرون الكلب على السهم، وجعلوا مأخوذ الكلب أولى بالتحريم؛ لأنه حيوان؛ فله اختيار على الجملة، بخلاف السهم.

ومنهم من قال: مأخوذ الكلب أولى بالحل؛ لعسر التعليم على هذا النحو، بخلاف السهم؛ ولأجل ذلك قيل: إن السهم لو انفلت، فأصاب بعرضه [فقتل]، لم يحل، ولو مات الصيد بثقل الجارح: ففي الحل قولان.

وقال: إن الكلب لو كان حين إرساله مضى في الصوب الذي أراده المغري، ثم بان صيد آخر، فاستدبر الكلب الأول، وأعرض عنه، ومضى في صوب الصيد الثاني، فقتله- فهو حرام لاشك فيه؛ وهذه الطريقة إذا تأملتها كانت عكس طريقة العراقيين.

فرع: وإن أرسله على غير صيد، أي: مثل أن أرسله ليلاً، وهو لا يتوهم وجود صيد، أو نهاراً وهو لا يرى صيداً ولا قصده، فقتل صيداً- لم يحل؛ لأنه لم يرسله على صيد معين ولا مرسل، فكان في السهم كما لو سقط منه سيف على حلقوم شاة، فقطع المنحر منها، والجامع: فقدان أصل القصد في المصاب وفي الكلب كالمسترسل بنفسه.

[قال:] وقيل: يحل في السهم دون الكلب؛ لأن السهم قتل بفعله، وقصده إلى الذبح غير معتبر.

دليله: ما لو قطع عنق شاة على أنه ثوب؛ وهذا الوجه قد حكاه القاضي الحسين، واختاره في "المرشد".

وفي "البحر" عن صاحب "الإفصاح" القطع به، وهو منسوب في "تعليق البندنيجي" وغيره إلى أبي إسحاق، وطرده البندنيجي والمصنف فيما إذا وقع منه السيف، فقطع المنحر من الشاة: أنها تحل، والبغوي نسبه في هذه – أيضاً- إلى أبي إسحاق، واختاره في "المرشد".

ص: 192

وفي "تعليق القاضي أبي الطيب" حكايته في السهم والكلب معاً عن رواية القاضي أبي حامد، وهو في "البحر" أيضاً.

وظاهر النص في مسألة الكتاب الأول؛ فإن الشافعي- رضي الله عنه قال: "ولو أرسل سهماً و [هو] لا يرى صيداً، فلا يأكل، ولا تعمل النية إلا في عين ترى"، وبه جزم الإمام، والمشهور في مسألة الكلب الجزم بالتحريم.

نعم: لو أرسل سهماً في الليل، وخطر له أنه قد يصيب صيداً، قال الإمام: فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه؛ ثالثها: أنه ينظر: فإن رمى في موضع يغلب على الظن الصيد فيه [حل وإن كان لا يغلب على الظن الصيد فيه] فالقصد لا أصل له، وحكمه حكم البازي.

واعلم أنه يمكن تصوير مسألة الكتاب- أيضاً- بما إذا أرسله إلى ما يجوز الرمي إليه من هدف أو ذئب أو خنزير ونحوه، فأصاب صيداً، فإن [في] الحل في هذه الصورة- أيضاً- خلاف- موافق لما ذكره الشيخ؛ صرح به الإمام، والذي جزم به البغوي فيها تبعاً لشيخه التحريم في السهم والكلب.

قال: وإن رمى شيئاً يحسبه- أي: بكسر السين وفتحها- حجراً، أي: ونحوه، فكان صيداً- فقتله- حل أكله.

قال أبو إسحاق: لأنه قتله بفعله، ولا اعتبار بالقصد؛ دليله: صحة ذكاة الصبي والمجنون مع أنه لا قصد لهما صحيح، وما لو قطع شيئاً ليناً ظنه ثوباً، فإذا هو حلقوم شاة- حلت كما نص عليه.

وقال غيره: إنما حل؛ لأنه قصده بفعله وإن ظنه غيره، وانبنى على العلتين الخلاف في المسألة السابقة، وهي إذا رمى إلى غير صيد، فقتل صيداً وما ألحق بها؛ كذا قاله في "الحاوي" وغيره، وما ذكره الشيخ لم يورد العراقيون والإمام غيره.

وحكى في "التهذيب"- تبعاً لشيخه- وجهاً في عدم الحل، وهو في "البحر" منسوب إلى رواية القاضي أبي حامد عن بعض الأصحاب، ثم قال: والمذهب الأول، وكذا لو قطع عنق شاة ظنها خشبة لينة، أو وضع سكيناً على موضع يحسبه جداراً، فإذا هو حلق شاة، أو رمي إلى حيوان ظنه خنزيراً أو حيواناً غير مأكول [فأصابه]،

ص: 193

فإذا هو صيد مأكول؛ وهذا منه يشعر بأن الخلاف في المجموع وهو كذلك؛ لأن الماوردي حكى عن ابن أبي هريرة عن بعض الأصحاب فيما إذا قطع شيئاً ظنه ثوباً فإذا هو عنق شاة- عدم الحل وإن كان النص الحل، وهو المشهور، والغزالي جزم به فيها.

وحكى الإمام فيما إذا ظنه حيواناً محرم اللحم، ومنه الآدمي والخنزير، فأصابه، فإذا هو صيد-[خلافاً]، والأصح: الحل، وهو [ما أورده] الماوردي فيما إذا ظنه كلباً أو خنزيراً.

ووجه مقابله: أنه لم يقصد صيداً حلالاً.

وفي بعض فحاوى كلام الشيخ أبي محمد وجهاً ثالثاً، وهو إن كان قد حسب الحيوان المرمي يحل أن يقصد بالرمي، فإذا تبين أنه صيد حل، وإن كان لا يحل قصده بالرمي: كالآدمي المحقون الدم مثلاً، ثم تبين أنه صيد- لم يحل؛ لأنه قصد محرماً، والقصد في نفسه محرم.

قال الإمام: ولا يجري هذا الوجه عندي فيما لو ذبح في ظلمة حيواناً [ظنه حيواناً] محرماً، فتبين أنه شاة، بل الوجه القطع بالحل؛ لقوة الفعل؛ فإنه في حكم التعاطي، والرمي لا يحكم عليه بالإصابة.

وقد حكى الغزالي في هذه الصورة وجهين مرتبين على وجهين فيما إذا قطعه وهو يظن أنه حلق آدمي، وأولى بالحل، لأن هذا فعل مباح، وإنما المحرم الأكل؛ بخلاف الآدمي.

فرع: لو رمى شيئاً ولم يلغب على ظنه ما هو؟ ولكن استوت الجائزات عنده، [فإذا تبين كونه] صيداً، فقد أشار الشيخ أبو محمد إلى وجهين:

قال الإمام: ولست أرى لهما في هذه الصورة وجهاً، بل الوجه القطع بالحل؛ كما لو حسبه حجراً شاخصاً.

قال: وإن أرسل عليه كلباً- أي: على ما ظنه حجراً- فقد قيل: يحل؛ كما في رمي السهم؛ لأنه وجد منه قصد إرساله؛ وهذا هو الصحيح؛ تبعاً للرافعي والبغوي والفوراني.

ص: 194

وقيل: لا يحل؛ كما لو أرسله على غير شيء، ويخالف السهم؛ لأن للكلب اختياراً؛ وهذا ما اختاره في "المرشد" وكذا القاضي الحسين.

وفي "البحر" أن صاحب "الإفصاح" قطع به.

أما إذا ظنه خنزيراً أو كلباً ونحو ذلك، فكان صيداً، فقد ألحقه البغوي والمصنف بما لو ظنه حجراً، وجزم الماوردي فيه بالحل؛ لأن الكلب يشلي على كل حيوان، فيستشلي؛ فاستوى في إرساله حل المأكول وغير المأكول وإن اختلفا في إباحة الأكل.

والقاضي الحسين جعل الخلاف في هذه الصورة مرتباً على الخلاف فيما إذا ظنه حجراً، ومسألة الخنزير أولى بالحل؛ لأنه قصد الصيد فيها، بخلاف تلك، وهكذا جعله مرتباً على طريقة في مسألة إرسال السهم السابقة، وأولى بالحل؛ لما ذكرناه، وهو مخالف لطريقة الإمام وشيخه ويتركب من هذه المسألة والمسألة السابقة فرع، وهو إذا أرسله على شيء ظنه حجراً، وكان صيداً، فأصاب غيره، فحيث قلنا: إذا أرسله على صيد فأصاب غيره لم يحل، فهاهنا أولى.

[وإن قلنا: ثم: يحل، فهاهنا] خلاف، وتجيء التفرقة فيه بين السهم والكلب على رأي؛ وكذا أشار إليه الإمام والقاضي والحسين.

وفي "التهذيب": أن المرسل إن كان كلباً، فلا يحل، وفي السهم وجهان، والأصح التحريم.

ولو كان ما ظنه حجراً كذلك، فأصاب غيره، فإن اعتبرنا ما ظنه في المسألة الأولى حيث قلنا: لا يحل، فهاهنا يخرج على ما لو قصد صيداً، فأصاب غيره.

وحكى في "التهذيب" عن شيخه في هذه الصورة الحل؛ بناء على هذا؛ وقال: إنا إن اعتبرنا الحقيقة، فلا يحل.

وقد حكى الطبري في مسألة الكتاب طريقة أخرى، وهي إن كان المرسل كلباً لم يحل، وإن كان سهماً ففي الحل وجهان. [والله أعلم].

قال: وإن نصب سكيناً، فوقع به صيد، فجرحه، فمات- لم يحل؛ لأنه مات بغير فعل من جهة أحد، ولابد من أصل الفعل أو حكم الفعل بلا خلاف؛ دليله: المتردية،

ص: 195

وما إذا احتك صيد أو شاة بسكين ونحوها، فقطعت حلقومه ومريئه؛ فإنه لا يحل بوفاق الخصم؛ لأنه قاتل نفسه.

والمراد بحكم الفعل: إرسال الكلب؛ كما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق.

قال القاضي الحسين: ولهذه النكتة حرم الصيد إذا كان المرسل مجوسياً.

فإن قلت: لا نسلم أن ذلك حصل بغير حكم فعله، بل نصب ذلك كإرسال الكلب.

قيل: فعل واضعها، وحكم فعله منقطع عنها؛ ألا ترى أنه لو وقع بها إنسات، فمات، لا قصاص عليه، ولو كان حكم فعله موجوداً، لوجب؛ كما لو أغرى عليه كلباً، ولا يرد علينا وجوب الضمان؛ لأن باب الضمان [أوسع] من باب الذكاة كما تقدم.

ثم على تقدير [تسليم] نسبة الفعل إليه، فشرط الفعل المبيح أن يقصد به صيداً معيناً، أو من جملة معين؛ [دليله:] ما لو رمى سهماً إلى العلو، فسقط على صيد اعترضه لا يحل، والمقتول بالسكين المنصوبة، لم يكن معيناً، ولا من جملة معين؛ وهذا قول أبي الطيب بن سلمة.

قال الماوردي: وهو مدخول؛ لأنه لو نصبه لصيد معين أو لجملة معينة، لم يحل؛ فكان التعليل الأول أصح؛ كما قال ابن الصباغ.

ومن هنا يظهر لك أنه إذا نصب أحبولة، فمات الصيد بها خنقاً، أو [كانت] من شعر، فقطعت الحلقوم والمريء، لا يحل، وقد نص الشافعي- رضي الله عنه عليه.

والحكم فيما لو كانت السكين في يد شخص، وقد احتك بها صيد أو غيره، ولم تتحرك يده- كما لو كانت منصوبة في الأرض، وكذا لو تحركت، وتحامل عليها الحيوان؛ للاشتراك في الفعل المبيح والمحرم.

فرع: إذا كان في عنق الكلب قلادة محددة، فضرب الصيد بها، فجرحه، فمات، حل؛ حكاه الرافعي عن "التهذيب" كما لو أرسل سهماً أو كلباً.

ثم قال: وقد يفرق بأنه قصد [بالسهم الصيد] ولم يقصده بالقلادة؛ وهذا منه

ص: 196

حمل لكلام البغوي على ظاهره، وليس كذلك، بل هو محمول على ما ذكره شيخه القاضي الحسين في تعليقه، وهو ما إذا كان الكلب معلماً بأن يضرب بتلك الحديدة؛ لأنه يصير كالرمي إلى الصيد.

قال: ومن أخذ صيداً أي: يحل له اصطياده، سواء كان غير ممتنع: كصغار الصيود وفراخها، أو ممتنعاً: كالكبار، وله تمييز، أو أزال امتناعه، أي: بسهمه أو كلبه – ملكه؛ لأنه بذلك يكون مستولياً عليه؛ فشابه سائر المباحات التي تملك بالاستيلاء، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ} [المائدة: 94]، أي: يختبركم بتكليف إباحة ما حلله، وحظر ما حرمه {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] وأراد بما تناله الأيدي: الصغار، وبما تناله الرماح: الكبار؛ كما قال ابن عباس.

وقال مجاهد: المراد بالأول: البيض، وبالثاني: الصيد.

وروي أنه- عليه السلام وأصحابه مروا بظبي حاقف، أي: مُثْخَنٍ عاجز عن الامتناع- فهمَّ أصحابه بأخذه، فقال:"دَعُوهُ حَتَّى صَاحِبُهُ"، فسماه: صاحباً، ومنعهم من أخذه.

أما إذا كان لا يحل له اصطياده؛ لكونه مملوكاً لغيره، أو مباحاً لكن الصائد محرم- فلا يملكه، وفي المحرم كلام تقدم.

ولو كان الأخذ ممن لا تمييز له: كالأعمى والمجنون، فإن لم يأمره أحد بذلك ملكه أيضاً، وإن أمره بذلك غيره، فهل يكون له إن كان حراً أو لسيده إن كان عبداً، أو للآمر؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين"، والمذكور منهما في "التهذيب" و"البحر" الأول، وألحقا بالأعمى الصبي، والله أعلم.

ص: 197

المراد بالأخذ: أن يضع يده عليه، سواء قصد ملكه بذلك أو لا، وفي معناه: وقوعه في الشبكة التي نصبها، أو أحبولته مباحة كانت أو مغصوبة، وقع فيها الصيد بنفسه، أو طرده إليها طارد.

ومنها مسك جارحته المعلَّمة، التي أرسلها ولم تَقْتُلْ، وكذا المغصوبة على المذهب الذي لا يعرف العراقيون غيره، وغير المعلَّم في ذلك كالمعلم.

وفيه احتمال للرافعي؛ لأن للجارح اختياراً.

ولو استرسلت الجارحة بنفسها وأخذته، ملكه-[أيضاً] – على أحد الوجهين في "تعليق القاضي الحسين"؛ بناء على أضعف الوجهين فيما إذا تَوَحَّل الصيد في أرض يملكها، ولم يقصد إرسال الماء إليها كذلك، أو فَرَّخ الطائر البري في ملك رجل، أو [باض بملكه] كما يملك الصيد إذا توحل في أرض ساق الماء إليها؛ لأجل أخذ الصيد؛ كما قاله الإمام، وعليه يحمل كلام الماوردي والروياني، وكما إذا فرخ الطير في البرج الذي بناه لأجل ذلك؛ فإنه يملكه بذلك قولاً واحداً وإن كان في ملكه للفرخ الحاصل في الدار التي بناها لأجل ذلك وجهان، لكن المذهب في المبني عليه عدم الملك، وبه جزم الماوردي وغيره في بعض الصور؛ لأن ذلك غير معد للاصطياد.

ثم يثبت له حق الاختصاص به، حتى إذا أخذه غيره كان في ملكه له وجهان قريبان من إحياء المتحجر.

قال الإمام: وهاهنا أولى بأن يملكه الآخذ، وهو ما اختاره في "المرشد"؛ لأن المتحجر قد حصل له قصد التملك، بخلافه هاهنا، ولا خلاف أن من دخل بستان إنسان، وأخذ منه صيداً ممتنعاً: أنه يملكه.

والفرق: أن البستان غير ضابط؛ فهو كالبرية.

ومنها أن يدخل داره، فيغلق عليه الباب قاصداً ملكه، وكذا لو لم يقصده، بل وقع وفاقاً على أضعف الوجهين الجاريين فيما لو وقعت منه سكينة، فتعقل بها صيد

ص: 198

فحبسه، ولا يقوم غلق غير المالك الباب قصداً مقام غلق المالك؛ حتى لا يملكه المالك؛ لأنه لم يقصده، ولا الغالق؛ لأنه فعل ذلك في ملك غيره الخارج عن يده.

ومنها: أن يحشره في مضيق، لا مخلص له منه، أو يسد منافذ البركة الصغيرة التي دخل [فيها] السمك، دون ما إذا كانت كبيرة لا يمكن أخذه منها إلا بعسر.

والمراد بإزالة الامتناع: كسر جناح ما يمتنع بجناحه، وقطعه من طريق الأولى، ورجل ما يمتنع بجريه، وقطعها من طريق الأولى، وكسرهما أو قطعهما إن كان مما يمتنع [بجريه وجناحه] مثل: الدُّرَّاج والفتخ؛ فإنه يقال: إنهما يمتنعان بالعدو والطيران جميعاً، فإذا فعل ذلك ملكه، ومن طريق الأولى إذا قطع حلقومه ومريئه، أو أخرج حشوته بسهمه أو جارحته.

قال الماوردي: وكذا إذا أغرى عليه سبعاً، فعقره، وكان له عليه ولاية، دون [ما] إذا لم يكن له على السبع ولاية؛ فإنه لا يملكه؛ لأن اختيار السبع أولى من إغرائه، ولا يقوم مقام ذلك جريه خلف الصيد حتى يقف تعباً وإعياء.

قال الماوردي: لأن وقوفه استراحة، وهو بعدها على امتناعه.

أما إذا لم يزل فعل الصائد امتناعه، لم يملكه، ولا يثبت له حق اختصاص به؛ حتى إذا أخذه غيره [أ] وأزال امتناعه [ملكه، سواء كان ما أصابه من فعل الأول مما يسلم منه أو لا، وسواء طال معه زمان امتناعه] أو قصر، وسواء قصر طيرانه وجريه عما كان عليه أو لا، وهو باق على الامتناع، ولا يجب على الأول شيء للثاني وإن أثر فعله نقصاناً للصيد، لأنه حين أصابه كان مباحاً، نعم: لو لم ير منه فعلُ آخر حتى ثبت بجراحة الأول، صار حينئذٍ ملكاً للأول، وكذا لو ثبت بعطش أصابه بعد الجراحة؛ لعجزه عن الوصول إلى الماء مع وجوده، دون ما إذا ثبت بالعطش لعدم الماء؛ قاله الماوردي.

ولو أزمنه الثاني بواسطة تقدم فعل الأول، ففي "تعليق القاضي الحسين" في باب العمد وغيره هاهنا حكاية وجهين فيه:

ص: 199

أحدهما: أنه بينهما؛ لأن الزمانة حصلت بفعلهما.

قال الرافعي: وقد يسمى هذا قولاً مخرجاً، وإليه مال الإمام.

والثاني: أنه للثاني إذا ألزمناه تعقيب رميه؛ وهذا ما ادعى الرافعي: أنه الظاهر من المذهب عند الجمهور.

قال: وهما شبيهان بما إذا كان له امرأتان صغيرتان، فأرضعت أمه إحداهما بعد الأخرى، هل ينفسخ نكاحهما أو نكاح الثانية؟ فإن حرمناهما اشتركا هاهنا، وإلا اختص به الثاني.

وقد أطلق الرافعي تصوير محل الوجهين، وصوره البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما بما إذا كان امتناع الصيد بجناحه ورجله، فقطع أحدهما جناحه، والآخر رجله.

وفي "الحاوي" وجه ثالث: أنه يكون لكاسر الجناح، سواء تقدم أو تأخر؛ بناءً على أحد الوجهين فيما: إذا رمياه معاً، فقطع أحدهما جناحه، والآخر رجله: أنه يكون لكاسر الجناح/.

ولو وقع شك في أن فعل الأول هل أزال امتناعه أو لا؟ وقد مات بفعل الثاني، فلا يحكم به للأول، وإن ادعى أن رميه أزمنه، وطلب الغرم من الثاني؛ لأن الأصل بقاء الامتناع، ويحلف الثاني، ويسلم له.

وأما حله: فينظر في إصابة الثاني، فإن قطعت الحلقوم والمريء، أو أدرك معها قطعهما وفيه حياة مستقرة، وفعل ذلك- حَلَّ، وإن كانت في غير محل الذكاة، ومات بها قبل إدراك ذكاته- ففي إباحته وجهان في "الحاوي".

وقد علق الأصحاب بحاله فرعاً له تعلق بكتاب الجنايات لا غناء عن ذكره، وهو إذا أرسل شخص على صيد سهماً أو كلباً، وملكه به، ثم أرسل آخر عليه [ذلك]، فإن لم يمت بفعل الثاني، وجب [للأول] على الثاني أرش ما نقص بفعله، وإن

ص: 200

مات بفعل الثاني خاصة، فإن كان بسبب الرمية، وقد قطعت حلقومه ومريئه، حل، كما قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي والماوردي وغيرهم، وللإمام فيه احتمال تقدم مثله فيما إذا رمى شاة الربيطة فقطع حلقومها ومريئها، ومع الحل يجب على الثاني ما بين قيمته حياً على الحالة التي صادفه سهمه فيها وقيمته مذكى؛ كما لو ذبح شاة الغير، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الصيد مما يبقى أو لا.

وقال الإمام: عندي أن الحيوان الثابت إذا كان لما به من الجرح لو لم يذبح لهلك، وفات، فالذبح لا ينقص منه شيئاً، نعم لو فرض إثبات تصوير الحياة معه؛ فإذ ذاك يظهر التفاوت.

وإن صادف سهمه غير المنحر أو قتله كلبه، وفيه حياة مستقرة يمكن الصائد معها الذكاة- حرم، وضمن تمام قيمته مجروحاً الجرح الأول.

قال القاضي الحسين: وإن كان الأول قد توانى في ذكاته، [ومات] بالفعلي معاً- فالصيد حرام؛ لأنه مات من مبيح ومحرم، أو من محرم كما يظهر لك، وهل يجب على الثاني شيء؟ الذي حكاه الجمهور: أنه ينظر: فإن لم يكن الأول قد توانى في ذكاته بعد ذلك حتى مات، وجب على الثاني تمام قيمته، ولا يقال: إن الهلاك حصل بالفعلين؛ فيجب على الثاني نصف القيمة لا غير؛ لأن فعل الأول هو الكاسب والمبيح؛ لأنه أصابه وهو غير مقدور عليه؛ فلم يوجد منه تفريط، والعقر الثاني: هو المحرم لما أباحه الأول، فهو المفسد، فوجب كل الضمان عليه، وبهذا خالف ما لو جرح إنسان شاته ثم جرحها آخر، وماتت من الجرحين، يجب على الأجنبي نصف الضمان؛ لأن كل جرح محرم.

وعن صاحب "التقريب": أنه استدرك، فقال: فعل الأول وإن لم يكن مفسداً، فهو مؤثر في حصول الزهوق لا محالة؛ فينبغي أن يعتبر في الإفساد حتى يقال: إذا كان غير زمن يساوي عشرة، وزمناً [يساوي] تسعة، ومذبوحاً [يساوي] ثمانية-

ص: 201

يلزمه الثمانية، والدرهم الآخر أثر في فواته الفعلان جميعاً.

قال الرافعي: وهذا هو الأصح.

وإن كان الأول قد توانى في ذكاته، فهل يجب على الثاني شيء أو لا؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين": فإن قلنا بالوجوب- وهو الذي أورده العراقيون- فما الواجب؟ فيه وجهان:

أحدهما: جميع القيمة؛ كما تقدم، [وبه قال الإصطخري. والثاني: نصفها] وبه قال سائر أصحابنا على طبقاتهم؛ كما قاله أبو الطيب والبندنيجي، وصححه الرافعي لأن الثانية وإن كانت مفسدة لم تخرج الأولى عن أن تكون جناية أيضاً؛ فأشبه جرح الشاة، وبهذا فارقت المسألة قبلها.

وحكى الماوردي فيما إذا مات بالجرحين؛ أربعة أوجه:

أحدها- وهو ظاهر المذهب، وقول جمهور أصحابه-: أن الواجب على الثاني القسط كما سنذكره.

والثاني: أنه يجب عليه جميع قيمته مجروحاً، وبه قال الإصطخري.

والثالث- وهو قول ابن أبي هريرة-: إن مات وقد حصل في يد صاحبه حياً ضمن الثاني القسط، وإن كان قبل ذلك ضمن الجميع.

والرابع- وهو أظهرها عندي-: أنه إن مضى من الزمان بين الجراحتين قدر ما يدركه صاحبه، فعلى الثاني القسط، وإن لم يمض بين الجراحتين زمان إدراكه، فالجراحة الثانية هي المختصة بالتحريم؛ فاختص الثاني بجميع القبة.

ثم إذا رأينا التوزيع، فما الذي يضمنه الثاني؟ فيه ستة طرق: خمسة منها حكاها العراقيون، وسادسة ذكرها الإمام؛ تبعاً للقاضي الحسين، ولا تخلو واحدة منها عن احتمال، ولنذكرها أولاً فيما لو كان كل واحد من الجرحين مضموناً لنبين ما يجب على كل واحد منهما، فإذا عرفنا ذلك طرحنا عن الأول الضمان في مسألتنا،

ص: 202

وأوجبنا على الثاني ما يجب عليه، ويفرض ذلك في صيد قيمته عشرة فجنى عليه الأول جناية أرشها درهم؛ فعادت قيمته [إلى] تسعة، ثم جنى الثاني عليه جناية أرشها درهم؛ فعادت قيمته إلى ثمانية، ثم سرت الجراحتان إليه فمات- فالطريق الأول: أنه يجب على كل واحد منهما [خمسة، وبه قال المزني وأبو إسحاق.

لكن المزني يقول: يجب على كل واحد منهما] أرش جنايته، وهو درهم، ويجب عليه نصف قيمته بعد الجرحين؛ وهو أربعة؛ لأن الموت حصل بالفعلين؛ وعلى هذا لو نقصت جناية الأول ثلاثة، والثانية نقصت درهماً- وجب على الأول ستة وعلى الثاني أربعة، ولو انعكس الفرض انعكس الحكم.

وقد حكى القاضي الحسين هذا القول عن أبي الطيب بن سلمة أيضاً.

وقال أبو إسحاق: هذا خطأ؛ لأنه أفرد أرش الجناية مع سرايتها إلى النفس، والجناية إذا سرت إلى النفس، وضمن [بذلك النفس، كان الاعتبار بها؛ كما سيأتي فيما إذا قطع يدي حر ورجليه، فسرت إلى نفسه، ومات- لا يجب إلا دية واحدة، بل الصواب أن يقال: يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنى عليه، ويدخل نصف جناية كل واحد منهما في نصف] بدل النفس الذي ضمنه؛ عملاً بالأصول؛ وذلك يقتضي أن يكون على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، لكن يضمن الثاني للأول أرش جنايته على ما دخل في ضمانه إن غرمه؛ كما نقول فيما إذا غصب ثوباً قيمته عشرة، فجنى آخر على الثوب جناية قيمتها درهم، وتلف الثوب- يجب على الغاصب عشرة [دراهم] لصاحب الثوب، وعلى الثاني درهم، لكن إذا غرم صاحب الثوب الغاصب لا يرجع على الجاني بشيء، ويرجع الغاصب عليه بدرهم؛ لأنه جنى على ما ضمنه؛ فضمن جنايته؛ على ما دخل في ضمانه.

وإن غرم صاحب الثوب الجاني الدرهم، رجع على الغاصب بتسعة لا غير؛ كذلك نفعل هاهنا، ونقول: وجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، لكن إن غرم الأول خمسة ونصفاً لم يرجع على الثاني إلا بأربعة ونصف، ويرجع

ص: 203

الأول على الثاني بنصف درهم، وإن ضمن الثاني خمسة لم يرجع على الأول إلا بخمسة، ولا يرجع الأول على الثاني بشيء، وقد اختار هذا القفال، كما قال الروياني، وقال الماوردي: إنه الظاهر من مذهب الشافعي على قول أكثر أصحابه، وقيل: إنه قول أبي إسحاق، ولم أره في شرحه.

وحكى وجهين في أن النصف الزائد على الخمسة في حق الأول، هل للمالك مطالبته به، أو ليس له ذلك، ويكون بضمان الثاني [له] ساقطاً عنه؛ كما سقط عنه نصف الأرش بضمانه له؟ ورأي الثاني أصح، والذي أورده البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم الأول؛ وعلى هذا لو كانت جناية الأول قد نقصت القيمة ثلاثة، وجناية الثاني نقصت درهماً، فعلى الأول ستة ونصف: خمسة: نصف قيمته حال حياته، ودرهم ونصف: نصف أرش جنايته.

وعلى الثاني أربعة، ثلاثة ونصف:[نصف] قيمته حال جنايته، ونصف: نصف أرش جنايته، وهو داخل في ضمان الأول، فإن غرم [المالك] الأول ستة ونصفاً لم يأخذ من الثاني غير ثلاثة ونصف، ورجع الأول على الثاني بنصف درهم وإن اقتصر على مطالبته بستة رجع على الثاني بأربعة، ولا شيء للأول على الثاني.

ولو انعكس الحال، فكان أرش جناية الأول درهم، والثاني ثلاثة- وجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني ستة: أربعة ونصف: [نصف] قيمته حال جنايته، ودرهم ونصف: نصف أرش جنايته، وهو داخل في ضمان الأول، إن غرمه المالك خمسة ونصفاً [لم يأخذ من الثاني غير أربعة ونصف،][ورجع الأول على الثاني] بدرهم ونصف.

وإن اقتصر [المالك] على مطالبة الأول [بما يستقر عليه؛ وهو] أربعة لا غير، رجع على الثاني بستة.

ص: 204

وعلى الوجه الآخر الذي صححه الماوردي، لم يكن للمالك غير ذلك؛ وعلى هذا فقس.

والطريق الثاني قال بها أبو الطيب بن سلمة: إنه يجب على كل واحدة منهما نصف قيمته وقت الجناية، ويدخل نصف أرش جناية كل منهما فيما ضمنه؛ كما قاله أبو إسحاق؛ فيكون على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، [لكن يجمع ذلك] فيكون [الجميع] عشرة ونصفاً، فاقسم العشرة عليها، فيكون على الأول خمسة أجزاء ونصف جزء من عشرة [أجزاء ونصف من عشرة] وطريق تصحيح ذلك أن تضرب خمسة ونصفاً في عشرة [أجزاء ونصف من عشرة] وطريق تصحيح ذلك أن تضرب خمسة ونصفاً في عشرة فيكون خمسة وخمسين، ونقسمها على عشرة فيخصها خمسة وسبع وثلثاً سبع.

ويكون [على] الثاني خمسة أجزاء من عشرة أجزاء ونصف من عشرة، وطريق تصحيح ذلك أن تضرب خمسة في عشرة تكون خمسيناً نقسمها على عشرة ونصف فيخصها أربعة وخمسة أسباع وثلث [سبع] ومجموع ذلك عشرة، وعلى هذا فقس.

قال: وإنما فعلت هذا كي لا يؤدي إلى التسوية بين الأول والثاني في الغرامة؛ كما فعله أبو إسحاق، وهو محذور؛ لأن الأول جرحه وقيمته عشرة، والثاني جرحه وقيمته تسعة، ومات العبد من سرايتهما؛ فلا يجوز أن يكون ما يجب عليهما سواء، وقد يفضي التفريع إلى أن يجب على الثاني أكثر مما وجب على الأول كما ذكرناه، فالوجه أن يكون الواجب على من جنى عليه وقيمته عشرة أكثر مما يجب على من جنى عليه وقيمته تسعة؛ وهذا أيضاً يضعف به قول المزني.

وقد ضعفه الماوردي بشيء آخر، وهو أن قاعدة الشافعي- رضي الله عنه أن يضمن المجني عليه بقيمته حين وقوع الجناية عليه، لا بعد استقرارها، وهو قد اعتبرها بعد الجرح قال: وقد اختلف الأصحاب لأجل ذلك في أن المزني قاله

ص: 205

تخريجاً على [أصول] مذهب الشافعي وأخطأ فيه، أو قاله مذهباً لنفسه؟ على وجهين.

والطريق الثالث قال به أبو علي بن خيران: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النفس؛ اعتباراً بسائد الأصول، ويجب على كل واحد كمال قيمته يوم جنايته عليه؛ حتى كأنه ما جنى عليه غيره، وتضم القيمتان معاً، وتقسم العشرة على الجملة.

بيانه: جناية الأول أرشها درهم، وقيمته عشرة، دخل الأرش في البدل، فأوجبنا عليه عشرة، ثم جناية الثاني أرشها درهم، وقيمته تسعة، دخل الدرهم فيها فأوجبنا عليه تسعة؛ فنضم تسعة إلى عشرة، وتقسم العشرة عليها؛ فيكون على الأول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءاً، وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءاً وعلى هذا فقس.

قال: وما قاله المزني وأبو إسحاق وأبو الطيب خطأ، أما ما ذكره المزني؛ فلما سلف، [وأما ما ذكره أبو إسحاق؛ فلما ذكرناه، ولأنه أسقط نصف أرش الجناية، وأوجب النصف؛ نظراً إلى] أن كل واحد منهما ضامن لنصف النفس، [وإذا كان كذلك؛ فيجب أن يكون كل واحد منهما جانياً على النصف]، وإذا كان كذلك، يجب أن يسقط اعتبار جميع أرش الجناية.

[وأما قول أبي الطيب، فخطؤه من وجه واحد، وهو أنه أفرد نصف: أرش الجناية] مع ضمان السراية إلى النفس.

وهذا الطريق هو الذي صححه [القاضي] أبو الطيب وغيره من العراقيين، وارتضوه؛ ولأجله قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: هذه الطريقة [هي] أصح الطرق، واختارها- أيضاً- وقال: إنه يمكن قسمتها بطريق أسهل من ذلك؛ بأن يقال: الأول أتلف نصف النفس، وقيمتها عشرة؛ فيكون عليه خمسة.

ص: 206

والثاني أتلف نصف النفس، وقيمتها تسعة؛ فيكون عليه أربعة ونصف؛ وذلك أقل من قيمة الصيد؛ فيقسم عشرة على تسعة ونصف؛ فيكون على الأول ما يخص خمسة، وعلى الثاني ما يخص أربعة ونصفاً.

والطريق الرابع قاله بعض الأصحاب: أنه يجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني أربعة ونصف، واختلف في توجيهه:

فقال الإمام: لأن الأول منتسب إلى التفويت إلا فيما تعرض للالتزام به الثاني، والذي التزمه الثاني أربعة ونصف؛ فكان باقي القيمة على الأول وهو خمسة ونصف.

وقال العراقيون: إنما كان كذلك؛ لأنه يدخل أرش جناية الثاني في بدل النفس، ولا يدخل أرش جناية الأول في بدلها، وعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد جناية الأول، وفرق بينهما: بأن الأول انفرد بالجناية، والثاني وجدت جنايته مع جناية الأول، وسرتا إلى النفس؛ فكان البدل عليهما.

قال البندنيجي: وهذا قول العراقيين، وهو سهل، وبه قال صاحب "التقريب"، واختاره، وقد وافقه في ترجيحه الإمام، وقال الغزالي: إنه الأقرب، وسبيل الاعتراض عليه: أما على طريقة الإمام من نسبة الأول إلى التفويت فبأن يقال: إن هذا فيما إذا انفرد، فأما إذا شاركه غيره، فقد خرج عن أن يكون مفوتاً للكل، والنظر في القدر الذي ينسب إليه من الفائت.

وأما على طريقة غيره، فبما اعترض به على طريقة المزني [أبو إسحاق].

والطريق الخامس: قال به ابن أبي هريرة- كما قال الماوردي- وابن سريج- كما قال الموافق ابن طاهر-: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النفس؛ كما قال ابن خيران، لكن يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنى عليه؛ فيكون على الأول خمسة، وعلى الثاني أربعة ونصف.

قال الإمام: وما ذكره من إسقاط الأرش، وإسقاط اعتباره فقيه، ولكنه أدى إلى إسقاط نصف درهم من قيمته، وهما الجانيان، ولا سبب سوى جنايتهما؛

ص: 207

وذلك محال؛ ولأجل هذا قال البندنيجي: إنه فاسد.

والطريق السادس: أنه يجب على الأول خمسة ونصف، وعلى الثاني خمسة، [يجوز جميع] ذلك المالك؛ عملاً بما قاله أبو إسحاق في صدر كلامه.

قال الإمام: وهو ينسب إلى اختيار القفال، واعترض عليه بأن فيه زيادة الواجب على المتلف، وقال: إن القفال اعتذر عن ذلك بأن ترتيب الجنايات قد يجيز مثل هذا؛ فإن من قطع يدي عبد [و] التفريع على أنه يلزمه تمام القيمة؛ فإنا نلزمه القيمة، ثم لو قتله آخر يلزمه قيمة عبد مقطوع اليدين؛ فيحصل للسيد من الجانبين قيمة عبدٍ وزيادة.

[قال الإمام:] ولا حجة في ذلك، فإن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، والقتل بعد القطع من [أجنبي] يلحق القطع بالاندمال؛ فليس تلك الصورة نظير مسألتنا.

وقد أيد الأصحاب تحقيق الطرق المذكورة في هذه الصورة بمثال آخر ذكروه، وهو ما إذا جنى على الصيد المملوك ثلاثة، ونقصت قيمته بسبب كل جناية درهمين، وعادت قيمته بعد الجنايات إلى أربعة:

فعلى الطريق الأول: يجب على كل واحد منهم مستقراً ثلاثة وثلث؛ لأن المزني يقلو: يجب على كل واحد أرش جنايته وهو درهمان، وثلث قيمته بعد الجنايات، وهو درهم وثلث، ومجموع ذلك ثلاثة وثلث.

وأبو إسحاق يقول: يجب على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنايته عليه وثلثا أرش جنايته، ويسقط ثلثها؛ فالأول جنى عليه وقيمته عشرة فثلثها ثلاثة وثلث، وثلثا أرش جنايته درهم وثلث، ومجموع ذلك أربعة وثلثان.

والثاني جنى عليه وقيمته ثمانية، وثلثها درهمان وثلثان، وثلثا أرش جنايته درهم وثلث، ومجموع ذلك أربعة.

ص: 208

والثالث جنى عليه وقيمته ستة، [وثلثها درهمان] وثلثا أرش جنايته درهم وثلث، وذلك ثلاثة وثلث، إلا أنه دخل فيما ضمنه الأول من جناية الثاني والثالث درهم وثلث، وعلى كل [واحد] منهما ثلثان، ودخل فيما ضمنه الثاني من جناية الثالث ثلثان، فإن أخذ المالك من الأول أربعة وثلثين، غرم له كل من الثاني [والثالث ثلثين، ويبقى للمالك في جهة الثاني درهمان وثلثان، وفي جهة الثالث كذلك، وإن أخذ من الثاني] أربعة، كان له أن يأخذ من الأول ثلاثة وثلثا، ومن الثالث درهمين وثلثين، ويرجع الثاني على الثالث بثلثين، [وكان] له أن يأخذ من الأول أربعة ومن الثالث درهمين ويرجع عليه الأول بثلثين وكذلك الثاني.

وإن أخذ من الثالث ثلاثة وثلثاً، كان له أن يأخذ من الأول أربعة ومن الثاني درهمين وثلثين، ويرجع الأول على الثاني بثلثين، [وكان] له أن يأخذ من الأول ثلاثة وثلثاً، ومن الثاني كذلك، ولا تراجع في هذه الصورة.

وعلى الطريق الثاني [يجب] على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنى عليه، وثلثا أرش جنايته؛ فيكون على الأول أربعة وثلثان، وعلى الثاني أربعة، وعلى الثالث ثلاثة وثلث، ومجموع ذلك اثنا عشر يقسم على العشرة؛ فيجب على الأول أربعة وثلثان من اثني عشر من عشرة، وذلك ثلثها ونصف تسعها، وعلى الثاني أربعة من اثني عشر من عشرة وذلك ثلثها، وعلى الثالث ثلاثة وثلث من اثني عشر من عشرة، وذلك ربعها وربع تسعها، ومجموع ذلك عشرة.

وعلى الطريق الثالث يجب على كل منهم تمام قيمته يوم جنى عليه، ويضم ذلك، ويقسم على العشرة، ومجموع القيم أربعة وعشرون؛ فيكون على الأول عشرة من أربعة وعشرين من عشرة، وهي ربعها وسدسها، وعلى الثاني ثمانية من أربعة وعشرين من عشرة، وهي ثلثها، وعلى الثالث ستة من أربعة وعشرين من عشرة وهي ربعها.

وعلى الطريق الرابع الناظر إلى أنه لا يدخل أرش جناية الأول في بدل النفس،

ص: 209

ويدخل أرش جناية الثاني، نقول هاهنا: لا يدخل أرش جناية الأول [عليه] في بدل النفس، ويدخل أرش جناية الثاني والثالث، وعلى كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جناية الأول عليه، ويجب على الأول أربعة وثلثان، وعلى الثاني والثالث خمسة [وثلث بالسوية].

وعلى الطريق الخامس لا يخفى الحكم، وكذلك على الطريق السادس؛ وعلى هذا فقس.

[ومثل] ما ذكرناه في مسألة الصيد جارٍ فيما لو وقعت جناية غير مقدرة على رقيق، فسرت إلى النفس؛ ولا يجيء [مثله] فيما إذا وقعت على حُرٍّ، لأن بدل الحر مقدر لا ينقص بما يطرأ عليه من نقص في الأعضاء؛ ودليله ما لو قطع شخص أطراف حُرٍّ، ثم قتله آخر، يجب عليه كمال ديته، نعم: لو كانت مقدرة كالأطراف فقد خرج ابن أبي هريرة فيه وجهين.

أحدهما: أنه كالحرٍّ، والثاني: أنه كالبهيمة، قال الماوردي: وكل من الوجهين معلولل.

فروع: [أحدها:] إذا رمى شخصان صيداً، فوقع سهامهما فيه في حالة واحدة؛ فأزمناه، فإن مات بالرميتين، فهو لهما، وإن مات بإحدى الرميتين: فإن كانت موحية دون الأخرى، فهل يكون بينهما، أو يختص به الموحي رميه؟ فيه وجهان في "الحاوي".

[الثاني:] لو رمياه، فادعى أحدهما اجتماعهما على إصابته؛ فيكون بينهما، وقال الآخر:[بل] أنا انفردت بالإصابة؛ فجميعه لي- فإن كان في يدهما- فهو بينهما مع اليمين؛ [وإن كان في يد أحدهما؛ فالقول قوله مع يمينه] وإن كان خارجاً عنهما، فهل نجعل القول قول مدعى الاجتماع أو لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ عملاً بحكم الظاهر.

والثاني: أنه يحكم بموجب الدعوى؛ فنجعل لمدعي الانفراد النصف بغير يمين

ص: 210

-والربع باليمين إن حلف وحلف الآخر، وإن نكل فاز الآخر بعد حلفه بالنصف.

[الثالث:] إذا رماه شخص، ثم رماه آخر، فوجد ميتاً، ولم يعلم القاتل منهما- قال في "الأم":"يؤكل، وهو بينهما"، واختلف الأصحاب في حله على وجهين:

أحدهما: المنع؛ لأنه يحتمل أن يكون الثاني قتله بعد أن أثبته الأول؛ فلا يحل أكله، ويحتلم أن يكون الثاني قتله قبل أن أثبته الأول فيحل، والأصل الحظر.

واختلف القائلون بهذا في تأويل النص:

فمنهم من قال: محله إذا علمنا إباحته قطعاً؛ إما بالذكاة أو بالعقر، وجهلنا الذابح؛ ولأجل ذلك جعله بينهما؛ لأنه في يدهما.

ومنهم من قال: ما ذكره مفروض فيما إذا كان المصاب مما يمتنع برجله وجناحه؛ فكسر أحدهما رجله، والآخر جناحه؛ فإن فيه وجهين:

أحدهما: هو لهما.

والثاني: أنه للثاني؛ فيكون على الوجهين حلال؛ لأن الرمي الأول لم يزمنه، والثاني: إن حصل به القتل غير قادح في حله، وإنما جعله بينهما على الوجه الثاني؛ لأن الثاني مجهول، ويدهما عليه؛ فكان بينهما.

والوجه الثاني: إنه حلال، وهو ظاهر النص، وبه قال أبو إسحاق موجهاً له بأن الأصل بقاؤه على الامتناع حتى نعلم أن الأول أزاله فكان الظاهر أنه مات بالثاني؛ فيحل.

ووجه كونه مشتركاً بأنه في يدهما، وهي تدل على الملك؛ فجعل بينهما، ولا تدل على الذكاة؛ فكان مباحاً.

قال: ومن ملك صيداً، ثم أرسله- أي: مختاراً فيه- لم يزل ملكه عنه في أصح القولين؛ لأنه لم يوجد منه إلا مجرد رفع اليد، وذلك لا يقتضي زوال الملك؛ كما لو ملك بهيمة، ثم سيبها؛ فعلى هذا لا يجوز لمن عرفه أن يصيده، ومن لم يعرفه، وصاده لا يملكه؛ ولأجله قال القفال: بعض [العوام يحتسبون بإرسال الطيور

ص: 211

المملوكة ويسمونه: إعتاقاً، ولا ينبغي أن يفعل؛ لأنه يخلط] ملكه بالطيور المباحة، فيأخذه رجل يظن أنه ملكه، ولا يملك بذلك.

نعم: لو أراد مالك الصيد عند الإرسال إباحته لمن أخذه حصلت الإباحة، ولا ضمان على من أكله، لكن لا ينفذ تصرفه فيه، ولا يحل تناوله لمن عرف أنه مملوك إلا إذا سمع الإباحة بأن يكون المالك قد قال عند الإرسال:"أبحته لغيري".

ولو قال عند الإرسال: "أعتقته"، لم يزل ملكه عنه؛ قاله المسعودي، ويجيء فيه الوجه المذكور في صحة عتق البهيمة المملوكة من غير الصيود، وتفريعه كما سيأتي في موضعه.

والقول الثاني: أنه يزول كما لو ملك عبداً، ثم أعتقه؛ وهذا ما حكاه في "البحر" عن نصه في "المبسوط".

قال الرافعي: لكنه شرط فيه أن يخليه على قصد [إخراجه من ملكه، وإلحاقه بالوحش؛ وعلى هذا من أخذه ملكه.

وخص الماوردي] محل الخلاف بما إذا لم يقصد بإرساله التقرب إلى الله- تعالى-، فإن قصده، فهو موجب لزوال ملكه؛ كما في العتق.

وعن أبي علي الطبري: أنه إن قصد التقرب إلى الله –تعالى- بإرساله، زال ملكه، وإلا فلا؛ حكاه ابن الصباغ وجهاً ثالثاً في المسألة.

وقال في "البحر": إن ما قاله الطبري يحكي عن ابن أبي هريرة، فإن قلنا به، وكان قد أرسله، وقصد التقرب؛ وصار الصيد ممتنعاً، فهل يحل صيده؟ فيه وجهان:

أحدهما- ويحكى عن ابن أبي هريرة-: نعم؛ لأنه يعود إذا زال عنه الملك إلى حكم الإباحة.

والثاني: لا؛ كما أن العبد إذا عتق لا يعود الملك فيه؛ وهذا ما حكاه الماوردي ععن كثير من البصريين.

قلت: وللأول أن يقول: نظير عود الصيد إلى الامتناع عود العبد للكافر بعد العتق إلى دار الحرب؛ فإنه يجوز استرقاقه على رأي، وإن منعناه؛ فذاك لأجل

ص: 212

إبطال الولاء، وهو مفقود هنا، ولا جرم، صحح الأول الشيخ محيي الدين النواوي في "الروضة".

وقد أثبت العراقيون وغيرهم القولين [،و] في مسألة الكتاب وجهان: ونسبوا الأول منهما إلى أبي إسحاق، والثاني إلى ابن أبي هريرة؛ [وعلى هذا يكون مراد الشيخ بقوله:"في أصح القولين"، أي: المخرجين للأصحاب]، وكثيراً ما يطلق الأصحاب في المسألة قولين، ويريدون ذلك، وهما جاريان- كما قال في الفروع- فيما إذا كان معه ماء فصبه أو أعرض عن سواقط الثمار كما سنذكره، وكذا فيما لو كان معه كسرة خبز، فأعرض عنها، وأخذها آخذ، لكن بالترتيب، وهاهنا أولى بأن لا يملكها الآخذ؛ لأن سبب الملك في الصيد [اليد] وقد زالت.

قال النواوي: والأرجح: أنه يملك ذلك، ويصح تصرفه فيه بالبيع وغيره، وهو ظاهر أحوال السلف، ولم ينقل أنهم منعوا من أخذ شيء من ذلك من التصرف.

قال الإمام: وهذا الخلاف في زوال الملك، وما فعله إباحة للطاعم في ظاهر المذهب؛ لأن القرائن الظاهرة كافية في الإباحة.

و [قد] أجزنا- أيضاً- فيما لو أعرض عن إهاب ميتة، وألقاه، فأخذه غيره، ودبغه، هل يحصل الملك له أو لا؟ لكن بالترتيب أيضاً، وهنا أولى بأن يملكه الآخذ؛ لأن الإعراض عما لا ملك فيه قوي ظاهر.

قال الرافعي: ولك أن تزيد فتقول: إن قلنا: إن من غصب جلد ميتة ودبغه، ملكه، فهاهنا أولى بلا خلاف، وإلا فوجهان.

أما إذا أرسله وجوباً؛ كما إذا أحرم، وفي ملكه صيد، زال ملكه عنه قولاً واحداً، ويعود إلى حاله الأول؛ حتى إذا أخذه غيره ملكه، وقد تقدم ذكر ذلك [في موضعه].

ولو استرسل الصيد بنفسه، فلا يزول ملكه عنه وبلا خلاف، وإن عاد إلى حاله الأولى؛ كما لو ملك عبداً بالسبي، وعاد إلى دار الحرب، ويخالف ما لو ملك ماءً فانصب في النهر؛ فإنه يزول ملكه على أحد الوجهين؛ للقدرة على مثله، بخلاف

ص: 213

الصيد؛ قاله في "الحاوي".

نعم: لو انفلت الصيد بعد وقوعه في الشبكة، قال القاضي الحسين: فهو باقٍ على ملكه – أيضاً- لا يملكه أحد بعد وهو ما ادعى في "الوسيط" في باب الوليمة: أنه الظاهر، وفيه وجه؛ لأنه لا يعد مستقراً في العرف.

وقال الماوردي: إنه ينظر: فإن كان انفلاته؛ لكونه حالة وقوعه فيها قادر على الخلاص، لم يملكه بالوقوع، لكنه أحق به، وإذا أخذه غيره ملكه، وإن كان لتقطع الشبكة، فإن كان الصيد الذي قطعها، كان الأمر كذلك، وإن قطعها غيره من صيود اجتمعت على قطعها، كان باقياً على ملك صاحبها؛ فلا يملكه غيره إذا أخذه.

ولو كان قد اقتلع الشبكة، وذهب بها، فإن كان ثقل الشبكة يبطل امتناعه بحيث يتيسر أخذه، فهو لصاحبها، وإلا فهو لمن أخذه؛ قاله الرافعي.

ولو انفلت من الكلب، فقد قال القاضي في "المجرد": إن كان ذلك قبل ما أدركه صاحبه لم يملكه، وإن كان بعده فوجهان؛ لأنه لم يقيضه ولا ثم امتناع؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وهو كالمخالف لما حيكناه عن القاضي الحسين من قبل.

وفي الرافعي في آخر الباب فيما إذا استرسل كلب فحبس صيداً، فلما انتهى إليه [صاحبه] أفلت الصيد- حكاية وجهين عن ابن كج في أنه هل يملكه أخذه أو هو ملك للأول.

فرع: لو وقع الشك في أن الصيد استرسل بنفسه، أو أرسله صاحبه إرسالاً يزول به الملك عنه، ويحل اصطياده- لا يجوز أخذه على حكم الاصطياد، ويتفق ذلك فيما لو رأى على الصيد أثر ملك؛ بأن كان مُقَرَّطاً أو مخضوباً أو مقصوص الجناح ونحو ذلك؛ لأن هذه الأحوال تدل على أنه ملك، والأصل بقاء الملك فيه لمن ملكه.

ص: 214

قال الأصحاب: ومثل هذا إذا اصطاد سمكة ووجد في بطنها جوهرة مثقوبة، لم يملكها؛ لدلالة أثر الملك عليها، بل تكون لقطة، بخلاف ما لو كانت غير مثقوبة؛ فإنه يملكها.

وخص الماوردي محل ملكه لها إذا كانت غير مثقوبة بما إذا اصطاد السمكة من بحر الجوهر، وقال فيما إذا كانت من غيره: إنه لا يملكها، وأجراه فيما إذا وجد في جوفها عنبرة، وقال فيما غذا وجد في جوفها ذهباً: فإن كان مطبوعاً، أو عليه أثر دخوله النار، لم يملكه، وإلا فإن كانت في بحر فيه معادن الذهب ملكه، وإلا فلا، وتكون لقطة.

وقد أطلق البغوي القول بأن من اشترى سمكة، فوجد في بطنها درة غير مثقوبة: أنها تكون للمشتري، وإن كانت مثقوبة، فهي للبائع إن ادعاها.

قال الرافعي: ويشبه أن يقال: إن الدرة لمن اصطاد السمكة؛ كما أن الكنز [الذي] يكون في الأرض يكون لمحيي الأرض.

وقد نجز شرح مسائل الباب، فلنختمه بفروع تتعلق به:

أحدها: [إذا أمر عبداً أعجمياً أو مجنوناً بالصيد، فهل الصيد للآمر أو للمأمور؟ فيه وجهان في "تعليق القاضي الحسين"، والمذكور منهما في "التهذيب" و"البحر": أنه إذا كان المأمور عبداً أعجمياً يكون لسيده، وألحق به الصبي].

[الثاني] إذا أرسل كلبه على صيد فقتله، ولم يعلم أنه مملوك، فهل يضمنه؟ فيه وجهان في "الحاوي".

أحدهما: نعم؛ كما لو أرسل عليه سهمه؛ فإنه يضمنه وجهاً واحداً.

والثاني: لا؛ كما لو وقع في شبكته، وانفلت منها، وتلف، ويخالف مسألة السهم؛ لأن القتل فيها منسوب إلى راميه، وقتل الكلب [منسوب] إلى اختياره.

[الثالث]: إذا اختلطت حمامات برج مملوكة بحمامات مباحة، نظر: إن كان المباح محصوراً لم يحل صيد شيء منها، وإن كان غير محصور، حل الصيد؛ كما إذا اختلطت من يحرم عليه نكاحها بنسوة.

ص: 215

قال الغزالي في "الإحياء" في كتاب الحلال والحرام: والعدد المحصور وغير المحصور إنما يضبطان بالتقريب، فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد يعسر على الناظر عددهم بمجرد النظر: كالألف ونحوه، فهو غير محصور، وما سهل: كالعشرة والعشرين، فهو محصور، وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن، وما وقع فيه الشك [اُستُفتى] فيه القلب.

ولو اختلطت حمامات أبراج مملوكة [لا تكاد تنحصر] بحمامات أخرى مباحات، فوجهان:

أحدهما: لا يجوز الاصطياد منها؛ فإن ما لا ينحصر بالإضافة إلى مثله كما ينحصر بالإضافة إلى مثله.

والثاني: يجوز؛ استصحاباً لما كان.

قال الإمام: وهذا إليه صَغْوُ معظم الأصحاب، والأول أقيس.

ولو اختلطت حمامات برج مملوكة بحمامة [من] برج آخر مملوكة، وعسر التمييز- ففي "التهذيب": أن لكل مالك أن يأكل بالاجتهاد واحدة واحدة [حتى] تبقى واحدة؛ كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمرته.

والذي حكاه الروياني: أنه ليس له أن يأكل واحدة منها، حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه؛ ولهذا قال بعض مشايخنا: ينبغي للتقي أن يجتنب [طير البرج] وبناءها.

ونقل الإمام وغيره: أنه ليس لواحد منهما أن يتصرف في شيء منها ببيع أو هبة من ثالث؛ لأنه لا يتحقق الملك فيه، ولو باع أو وهب [أحدهما] من الآخر، ففيه وجهان:

وجه الصحة: وهو أولى؛ للحاجة الداعية إليه، وقد ترتفع التعبدات بالضرورات والحاجات؛ ولذلك صححنا القراض والجعالة على ما فيهما من الجهالة.

وأنهما لو باعا الحمام المختلط، ولا يدري واحد منهما عين ماله، فإن كانت

ص: 216

الأعداد معلومة: مائتين، ومائة، والقيم متساوية، وزعنا الثمن على أعدادها، وصح بإطباق الأئمة.

وإن كانا يجهلان الأعداد [قال الإمام]: فالوجه عندي [عدم] صحة البيع؛ لأنه لا يعرف كل واحد منهما ما يستحقه من الثمن، والطريق أن يقول كل واحد منهما: بعتك الحمام الذي لي في هذا البرج بكذا؛ فيكون الثمن معلوماً، ويحتمل الجهل في المبيع؛ للضرورة.

وفي "الوسيط": أنهما لو تصالحا على شيء، صح البيع، واحتمل الجهل بقدر المبيع.

ويقرب من هذا ما أطلق من مقاسمتهما.

قال الرافعي: واعلم أن الضرورة قد تدعو إلى المسامحة في بعض الشروط المعتبرة في العقود؛ ألا ترى أن الكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة، ومات قبل الاختيار- يضصح اصطلاحهن على القسمة؛ إما بصفة التساوي، أو التفاوت، مع الجهل بالاستحقاق؛ فيجوز أن تصح القسمة هاهنا- أيضاً- بحسب تراضيهما.

ويجوز أن يقال: إذا قال كل واحد منهما: بعت ما لي من حمام هذا البرج بكذا، وصححناه مع الجهل بالمبيع، فإذا قالا: بعنا حمام هذا البرج بكذا والأعداد مجهولة- أن يصح أيضاً مع الجهل بما يستحقه كل واحد منهما؛ إذ المقصود انفصال الأمر بحسب ما يتراضيان عليه.

والإمام قوى رأيه في عدم الصحة في هذه الصورة بأن رفع الجهل عن الثمن- بأن يبيع كل واحد [منهما] ما يملكه من ذلك- ممكن؛ فلا معنى لاحتمال جهل لا تلجأ إليه الضرورة.

ولو انثالت حنطة إنسان على حنطة غيره، أو انصب مائع في مائع، وجُهِلَ المقدار، قال الرافعي: فليكن الحكم كما ذكرنا في اختلاط الحمام.

ولو اختلط درهم حرام أو دراهم بدراهم، ولم يتميزا، أو دهن بدهن ونحو

ص: 217

[ذلك]، قال في "الإحياء" وغيره من الأصحاب: طريقة ذلك أن يفصل قدر الحرام، فيصرفه إلى الجهة التي يجب صرفه فيها، ويبقى الباقي له يتصرف فيه بما أراد.

الرابع: إذا أخبر فاسق أو كتابي: أنه ذكَّى هذه الشاة، قبلناه؛ لأنه من أهله؛ ذكره في "التتمة".

ولو وجدت شاة مذبوحة، ولم يدر: أذبحها مسلم، أو كتابي، أو مجوسي؟ فإن كان في البلد مجوس ومسلمون، لم تحل الذبيحة بالشك في الذكاة المبيحة، والله- عز وجل أعلم.

ص: 218