المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الفوات والإحصار - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٨

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب الفوات والإحصار

‌باب الفوات والإحصار

هذا الباب مترجم [بباب] الفوات والإحصار، والمراد بالفوات هاهنا فوات الحج، لأمرين:

أحدهما: قوله من بعد: "ومن فاته الوقوف بعرفة".

والثاني: أن العمرة إذا كانت مفردة لا يتطرق إليها فوات؛ لأن وقتها غير محصور.

نعم: إذا أحرم بها وبالحج قارناً، فقد تفوت تبعاً لفوات الحج، كما سنذكره.

والمراد بالإحصار: الإحصار عما بقي على المحرم من أركان ما أحرم به من وقوف، أو طواف، أو سعي، أو جميع ذلك.

قال البندنيجي: ويقال في اللغة: أحصره المرض، بلا خلاف بينهم.

وأما العدو فمنهم من قال: "حصره العدو" لا غير.

وعلى ذلك ينطبق قول الأزهري: قال أهل اللغة [إنه] يقلا لمن منعه خوف أو مضر من التصرف: أحصره؛ فهو محصر، ولمن حبس حصر وهو محصور.

وقد حكى الجوهري وابن السكيت ذلك أيضاً، وحكاه الواحدي عن نقل الزجاج عن أهل اللغة.

وعن الفراء أنه يقال أحصره العدو، وحصره، لغتان؛ كذا حكاه البندنيجي.

وحكاية الأزهري عنه أنه قال: يجوز [أحصره، وحصره]، في النوعين.

وعن الواحدي: أنه حكي عن الزجاج: أنه قال في موضع آخر: ويغلب: أحصر، وحصر؛ لغتان.

قال الأزهري: والأول كلام العرب، والله أعلم.

قال: ومن فاته الوقوف بعرفة أي: بعذر، أو بغير عذر حتى طلع عليه الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج، لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك عرفة ليلاً، فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة ليلاً، فقد فاته الحج، فليهل بالعمرة، وعليه الحج من قابل".

ص: 21

ولأن الوقوف ركن لا يتم الحج إلا به، وهو مقيد بهذا الوقت؛ فيفوت بفواته؛ كالجمعة.

قال: وتحلل بأفعال عمرة، وهي الطواف، والسعي، [والحلق]، للخبر؛ فإن معناه: فليأت بعمل عمرة.

وقد روي أن هبار بن الأسود أتى عمر بن الخطاب يوم النحر بمنى فقال: يا أمير المؤمنين، إني أخطأت العدد، وظننت اليوم يوم عرفة، فما تأمرني به؟ فقال له عمر:"امض أنت ومن معك إلى مكة، فطف، واسع، وانحر ما استيسر من الهدي، فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعت، وعليك القضاء من قابل".

وقد روي أن أبا أيوب الأنصاري فاته الوقوف بعرفة فقال له عمر: "اصنع ما يصنع المعتمر، فإذا أدركك الحج من قابل، فاهد ما استيسر من الهدي، وعليك الحج من قابل".

وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ولا يعرف لهم

ص: 22

مخالف [من الصحابة] وقد اقتضى ما ذكرناه من الخبر إيجاب التحلل في الحال، وكلام الشيخ يفهمه أيضاً، ولأجل ذلك قال الماوردي: لو أراد استدامة إحرامه إلى العام الثاني، لم يجز؛ لأنه يصير محرماً بالحج في غير أشهره، والبقاء على الإحرام في غير أشهره كابتداء الإحرام بالحج في غير أشهره.

وذِكْرُ الشيخ الحَلْقَ في هذا المقام تَفريعُ على الصحيح في أنه نسك.

أما إذا قلنا: إنه استباحة محظور، تحلل بالطواف، والسعي، لا غير كما تقدم؛ قاله البندنيجي، والماوردي وغيرهما.

قال ابن الصباغ: وعلى هذا يجوز أن يحلق قبل الطواف؛ لأنه تحلل بفوات الرمي، ومعنى هذا ما حكاه في "البحر" عن ابن المرزبان: أن الفائت حجه بمنزلة من تحلل [التحلل] الأول؛ لأنه لما فات الوقوف، سقط عنه الرمي؛ فيصير بمنزلة من رمى، فإن جامع لم يفسد إحرامه، وإن تطيب أو لبس، لم تلزمه الفدية.

وكما يسقط الرمي بالفوات، يسقط عنه المبيت.

وقال المزني: لا يسقط؛ كما لا يسقط الطواف، والسعي؛ [وقال: إن ذلك قياس مذهب الشافعي- رضي الله عنه لأنه يأتي بالطواف والسعي] وهو بعدُ في الحج، ولا يقع ذلك عن عمرته؛ فكان كما لو أفسد الحج.

قال الرافعي: وقد ذكر أن الإصطخري مال إليه، والأصحاب على مخالفته؛ لأن ذلك من توابع الوقوف؛ بدليل عدم وجوبه في العمرة؛ فوجب أن يفوت بفوات الوقوف.

[قال الماوردي: ونظمه قياساً: أنه نسك عرى عن الوقوف] فوجب أن يسقط فيه الرمي، والمبيت، كالعمرة.

قال ابن الصباغ: وهذا معنى ضعيف؛ لأنه [لا] دلالة له على سقوط [ذلك لسقوط] الوقوف في العمرة، وأثر عمر أولى، وأشار بذلك إلى أن عمر، ومن ذكر

ص: 23

معه رضي الله عنهم لم يأمروا بالرمي والمبيت، ولو كان واجباً لذكروه.

وقد ذكر في المسالة قول آخر: أنه يكفيه في التحلل هنا الطواف وحده؛ لأن السعي ليس من أسباب التحلل؛ ألا ترى أنه لو سعى مع طواف القدوم، أجزأه، ولو كان من أسباب التحلل، لم يجز تقدمه على الوقوف.

قال القاضي الحسين: وهذا ظاهر قوله في "حرملة"، و"الإملاء":"إذا فات الحج، أمرناه بأن يطوف بالبيت، وأُحبُّ أن يسعى" قال: والقائل بهذا لا يفصل بين أن يكون قد سعى عقيب طواف القدوم أو لم يسع.

وقال الإمام: إن القائل به يوجب مع الطواف الحلق؛ إذا قلنا: إن الحلق نسك، كما ذكره الصيدلاني وغيره؛ لأنه مختص باقتضاء التحلل إذا جعلناه نسكاً، وهو ما حكاه في ["البحر" عن رواية القفال عن القديم.

لكن الذي حكاه في] "المختصر" ما ذكره الشيخ، وبه أخذ بعض الأصحاب.

وعلى هذا إذا كان قد سعى مع طواف القدوم، لا يحسب له ذلك؛ لأنه بطل بالفوات.

ومنهم من أبقى النصين على حالهما، ولم يثبت في المسألة قولين، وقال: ما ذكره في "الإملاء" و"حرملة" محمول على ما إذا كان قد سعى مع القدوم.

ونصه في "المختصر"[محمول] على ما إذا لم يكن قد سعى مع القدوم.

وهذه الطريقة هي الموافقة لما في "الحاوي".

وقد تقدم في كلام المزني: أن ما أتى به من الطواف والسعي لا يعتد به عن عمرة الإسلام، وهو الصحيح، لأنه لا ينقلب عمرة، وإنما هو شبيه بها، وهو نصه هنا، واستدل له بأنه أحرم بأحد النسكين، وصح منه؛ فلم ينقلب إلى النسك الآخر؛ كما لو أحرم بالعمرة؛ [فإنه لا ينقلب إلى الحج.

وقولنا: "وصح منه" احترزنا به عمن أحرم بالحج] في غير أشهره؛ فإنه ينعقد عمرة؛ لأن إحرامه بالحج قبل أشهره لا يصح.

وقد ذهب بعض أصحابنا كما حكاه القاضي الحسين وغيره إلى أن ذلك ينقلب عمره ويجزئه عن عمرة الإسلام [أخذاً من قول الشافعي- رضي الله عنه فيما إذا فات القارن الحج: "إن ما أتى به يجزئه عن عمرة الإسلام].

ص: 24

قال الإمام: وهو مفرع على أنه يأتي بالطواف، والسعي.

قال القاضي الحسين: والأصح الفرق؛ لأن القارن أحرم بنسكين معاً، فإذا فات أحدهما، بقي الآخر؛ لإدراك وقته، بخلاف المفرد؛ لأنه لم يحرم بالعمرة.

قال: وعليه القضاء أي: قضاء الحج خاصة للخبر والأثر السابق.

ولا فرق في القضاء بين أن يكون ما فاته هو حج الإسلام، أو حجة تطوع بها.

نعم: إن كان الفائت حج الإسلام، وقع القضاء عنه.

وكذا لا فرق في لزومه بين أن يكون قد أحصر بعد الفوات عن لقاء البيت أو لا لسبق وجوبه.

وهل يجب [عليه] القضاء على الفور؟ فيه وجهان في "المهذب" وغيره؛ كما في الإفساد.

قال البندنيجي: والمذهب: أنه على الفور، وهو الصحيح في "الحاوي" وغيره.

قال: ودم التمتع أي: دم مثل دم التمتع للأثر السابق.

وقد ادعى الإمام اتفاق الطرق على ذلك، ولا شك أن هذا هو المشهور، ولم يورد الأكثرون غيره.

لكن حكى قولاً آخر: أنه كدم الجماع في الأحكام، إلا أن ذلك بدنة، وهذا شاة.

ووجه الشبه: اشتراك الصورتين في التفريط المحوج إلى القضاء.

قال: في الحال [كالبدنة في الوطء؛ ولأنه تحلل من إحرامه قبل استتمامه؛ فوجب عليه الدم في تلك الحال]، أصله: المحصر إذا تحلل، وهذا ما صححه الماوردي واختاره في "المرشد".

قال: وقيل: يجب الدم في القضاء؛ لأثر عمر- رضي الله عنه ولأن الهدي تعلق بالنسك الفائت وبقضائه في المستقبل، والهدي إذا تعلق بنسكين، وجب [في] الثاني منهما، أصله: دم التمتع؛ وهذا ما اختاره أبو إسحاق؛ كما قال في "البحر".

وقد أغرب صاحب التقريب، فروى قولاً بعيداً مخرجاً، وقال: ذهب بعض الأصحاب إلى أن من فاته الحج، يلزمه دمان: أحدهما: في مقابلة الفوات.

والثاني: لأنه في قضائه يضاهي المتمتع؛ لأنه تحلل عن الأول، ثم شرع في الثاني، وقد تخلل بين التحلل والشروع في القضاء التمكن من الاستمتاع، وتحلله لم

ص: 25

يكن عن الحج وإن كان شروعه في حج.

والمشهور: أنه لا يجب غير دم واحد.

وقد أفهم كلام الشيخ حكاية الخلاف في أن الدم: هل وجب في الحال، أو وجب عند القضاء؛ وهو الذي حكاه الجمهور.

قال الماوردي: وعلى الأول [الأولى أن] يأتي به في عام القضاء، فإن أخرجه في عام الفوات، أجزأه.

وعلى الثاني: لو أخرجه في عام الفوات؛ ففي الإجزاء وجهان:

أحدهما: يحسب؛ لوجود سببه.

والثاني [لا]، لأنه يتبع القضاء، فإذا لم يصح القضاء في عام الفوات، لم تصح الكفارة فيه؛ وهذا ما صححه النواوي.

وقد عكس البندنيجي ذلك تبعاً للشيخ أبي حامد فحكى القولين في أنه هل يجوز إخراج الدم في سنة الفوات أو لا؟

أحدهما وهو الذي نص عليه في "الإملاء": هو بالخيار بين أن يخرجه في سنة الفوات، وبين أن يخرجه في سنة القضاء، وقال وعلى هذا يكون الوجوب في سنة الفوات.

والثاني: لا يجوز إخراجه إلا في سنة القضاء؛ وعلى هذا ففي [وقت] الوجوب وجهان:

أحدهما: وجب في الفوات، وإخراجه في سنة القضاء؛ [كالقضاء: وجب في سنة الفوات، والقضاء من قابل.

والثاني: وجب في سنة القضاء] لأنه لو وجب في سنة الفوات، لجاز إخراجه.

وقال القاضي الحسين: متى يجوز إخراج الفدية؟ فيه وجهان:

أحدهما: في سنة الفوات؛ وعلى هذا لا خلاف [في] أن الوجوب يكون في هذه السنة.

والثاني: في سنة القضاء؛ وعلى هذا فمتى يجب؟ فيه وجهان:

أحدهما: في سنة الفوات، ويتأخر الإخراج عنه.

والثاني: في سنة القضاء؛ وعلى هذا لو أخرج في سنة الفوات، فإن كان قبل التحلل، لا يجوز، وإن كان بعد التحلل وقبل الشروع في إحرام القضاء، فهل

ص: 26

يجوز؟ فيه وجهان؛ كدم التمتع إذا أريق بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج؛ وعلى ذلك جرى الإمام، وقال فيما لو كان عاجزاً عن الدم، فأراد الصوم: فإن قلنا: إن الوجوب في سنة القضاء، فلا يجزئه الصوم في سنة الفوات.

[وإن قلنا: الوجوب في سنة الفوات] فهل يجوز؟ فيه وجهان:

والأوجه، وهو الذي قطع به الصيدلاني: إيثار الصوم في القضاء.

واعلم أن الوزير ابن هبيرة قال في كتابه الذي ذكر فيه ما أجمع عليه الأئمة الأربعة، وما اختلفوا فيه إن محل إيجاب القضاء عليه والهدي إذا لم يشترط التحلل عند الإحرام إذا عرض له الحصر، فإن شرط ذلك استفاد به عند الحصر التحلل، وإسقاط الهدي، والقضاء.

فرع: القارن إذا فاته الحج، فهل تفوت العمرة بفواته؟ فيه قولان، حكاهما الفوراني وغيره، وقد سبق ذكرهما:

ص: 27

والأصح: نعم، وبه جزم القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ هنا.

فعلى هذا يقضيهما ثم إن قرن في القضاء، أجزأه القضاء عنهما، وكذا إن أفردهما وعليه ثلاث دماء:[دم] لقرانه في الأداء، ودم للفوات، ودم لقرانه في القضاء، سواء قضى قارناً أو مفرداً؛ كما ذكره الماوردي، وقد حكاه في "البحر" عن رواية ابن المرزبان عن نصه في "الإملاء".

وعلى مقابل الأصح وهو أن العمرة لا تفوت إذا طاف، وسعى، وحلق تحلل بذلك عن الحج، وحسب عن العمرة ولا يقضيها، وتجزئه عن عمرة الإسلام.

فرع: لو عدم الدم، قال في "البحر": فحكمه حكم دم التمتع إذا لم يوجد.

قال: وإن أخطأ الناس في العدد، فوقفوا في غير يوم عرفة، أجزأهم ذلك.

اعلم أن هذه المسالة تصور بصورتين ذكرهما في "المهذب"، وادعى أن الحكم فيهما كما ذكره هنا:

إحداهما: أن يكون قد غم هلال ذي الحجة على الناس، فأكملوا عدد ذي القعدة [ثلاثين، ووقفوا [يوم] التاسع من ذي الحجة على زعمهم، فقامت بينة بعد فوات يوم العاشر والليلة التي تليه بزعمهم على رؤية [الهلال] ليلة الثلاثين من ذي القعدة] فقد تبين لهم أنهم وقفوا في غير يوم عرفة، وهو العاشر، وإنما أجزأهم والحالة هذه ولم يجب القضاء، وهو مما لا خلاف فيه، لقوله- عليه السلام "حجكم يوم تحجون".

وروي أنه قال: "يوم عرفة الذي يعرف فيه الناس".

ورواية أبي داود عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر".

ص: 28

ووجه الدلالة منه على هذه الرواية: أنه جعل أضحانا يوم نضحي، وفطرنا يوم نفطر، وفيه تنبيه على أن عرفتنا يوم نعرف.

ولأن الآفات المانعة من الرؤية في هذا الشعر من الغيوم وغيرها لا يؤمن مثلها في الضقاء مع ما فيه من المشقة العظيمة الفادحة؛ لأن في ذلك إبطالاً للسفر الطويل والمال [الكثير].

وقال القاضي الحسين: لماذا أسقط القضاء في هذه الصورة؟ فيه معنيان:

أحدهما: أنه لا يؤمن مثله في القضاء، فيؤدي إلى ما لا يتناهى.

والثاني: للحوق المشقة لكافة الخلق.

وأبدى لذلك فوائد:

منها: أنهم لو علموا بالخطأ بعد طلوع الفجر يوم النحر هل لهم أن يقفوا بعرفة أم لا؟ قال: يحتمل وجهين:

إن قلنا بالمعنى الأول، فهاهنا ليس لهم ذلك؛ حتى لو وقفوا لا يجزئهم، لأن مثل ذلك يقع نادراً ويؤمن وقوع مثله في القضاء؛ وهذا ما ادعى في "التهذيب": أنه المذهب، ووجهه بأنهم وقفوا مع يقين الصواب.

قال القاضي: وإن قلنا بالمعنى الآخر؛ جاز؛ وهذا ما مال إليه الرافعي؛ وقال: إن ما ادعاه في "التهذيب" غير مسلم؛ لأن عامة الأصحاب ذكروا أنه لو قامت البينة على رؤية الهلال يوم العاشر بمكة، [و] لا يمكنهم من حضور الموقف بالليل [أنهم] يقفون من الغد، ويحسب لهم؛ كما قال الشافعي:"إذا شهد شاهدان برؤية الهلال ليلة الحادي عشر، أو بعد الزوال يوم العاشر [في زمن لا يمكن اجتماع الناس فإنهم يخرجون من الغد، ويصلون العيد أداءً للصلاة، لا قضاء" فإذا لم يحكم بالفوات لقيام الشهادة ليلة العاشر، لزم مثله في اليوم العاشر].

والصورة الثانية: أن يشهد اثنان برؤية الهلال ليلة الثلاثين من ذي القعدة، فيقف الناس [في تاسع] يوم؛ بناء على ذلك، ثم يتبين أنهما [كانا] كافرين، أو

ص: 29

شاهدي زور فإنه يتبين: أنهم وقفوا في غير يوم عرفة وهو الثامن، وإنما أجزأهم ذلك؛ لما ذكرناه من الخبر.

ولأن مثل هذا لا يؤمن في القضاء أيضاً فكان كالمسألة قبلهاز

وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب، والماوردي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين عند الكلام في صوم الأسير، وادعى البندنيجي ثم: أنه لا خلاف فيه، وأثبته هاهنا في "البحر" وغيرُهُ من المراوزة وجهاً، وقال: إنه أقرب إلى القياس، وإنه مخرج من الأسير إذا صام قبل رمضان بالاجتهاد.

وبنى القاضي الحسين الخلاف في هذه الصورة هنا على المعنيين السابقين في الصورة السابقة:

والأصح عند الأكثرين كما قال الرافعي: لزوم القضاء؛ ولأجل ذلك جزم به النواوي في "المناسك"، ووجه بأن صدور مثل ذلك في سنة القضاء أيضاً نادر.

وعبارة الغزالي فيه: "أن ذلك نادر، لا يتفق إلا بتوارد شهادتين كاذبتين في شهرين" أي: من سنتين، كما ذكرنا.

قال: وإن وقع ذلك لنفر، لم يجزئهم وعليهم القضاء، كما وصفت؛ لما ذكرناه من خبر هبار مع عمر رضي الله عنهما.

وعلته أنهم مفرطون، ومثله مأمون في القضاء، وهذا ما صححه النواوي في "المناسك".

وفي "التتمة": [أنهم لو كانوا] في الموقف عدداً فيهم قلة خلاف ما هو المعهود، ففي وجوب الإعادة وجهان:

وجه الوجوب: أنهم يأمنون الغلط في القضاء.

وبنى القاضي الحسين الخلاف المذكور على المعنيين في الصورة الأولى، فقال: إن قلنا بالمعنى الأول، لا يجب القضاء، وإن قلنا بالمعنى الثاني وجب، وأن هذا الخلاف يقرب من الحصر الخاص؛ فإن الحصر العام يبيح التحلل، وفي الخاص قولان:

وبنى على المعنيين أيضاً ما لو وقفوا ليلة الحادي عشر، وأخطأوا، وقال: الأصح: أنه لا يجزئ.

ص: 30

ولا خلاف أنهم لو غلطوا في المكان، فوقفوا في غير عرفة، لا يجزئهم، لبعد مثل ذلك، والله أعلم.

قال: ومن أحصره أي: منعه من المضي لإتمام نسكه عدو، وهو محرم، ولم يكن له طريق غيره ذبح هدياً، أي: وأقله شاة تجزئ في الأضحية؛ كما قال الماوردي وغيره، وتحلل؛ لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].

وإنما قلنا: إن معناها كذلك؛ لأن مجرد الإحصار لا يوجب الهدي؛ فتعين الإضمار، وأضمرنا ما قلناه؛ لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله:{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].

قال الشافعي: ولا خلاف بين أهل التفسير: أنها نزلت بالحديبية، حين أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال المشركون بينه وبين البيت، فنحر، ثم حلق، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال، ولم يرجع إلى البيت الحرام هو ولا أصحابه غير عثمان بن عفان.

وقد روي أنه عليه السلام قال لأصحابه بالحديبية لما صدوا "قوموا ثم انحروا، ثم احلفوا".

وروى مالك عن أبي الزبير عن جابر قال: أحصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة.

ووجه الدلالة من ذلك أن إحرامه صلى الله عليه وسلم كان حين صُدَّ بالحديبية بعمرة.

وإذا جاز التحلل منها فمن الحج أولى، وقد وافق الخصم عليه.

وإنما قلنا يجوز التحلل من العمرة وإن لم يخش فواتها؛ لإجماعهم على أنه لا يجوز إخراج سبب النزول من اللفظ، وإن قلنا: العبرة بعموم اللفظ؛ لأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ولأنَّا لو لم نجوز له التحلل، وأوجبنا عليه أن يقيم على إحرامه حتى يأتي بالأعمال أدى ذلك إلى إلحاق المشقة به؛ لأن الحصر قد [لا يزول إلا] بعد سنين كثيرة،

ص: 31

والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]

وقال عليه السلام: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة".

وقد اقتضى كلام الشيخ- رحمه الله أموراً:

أحدها: أنه لا فرق في الحصر المرتب عليه ما ذكره بين أن يكون عن باقي أفعال الحج من الوقوف، والطواف، والسعي، أو عن بعضها، ولو بعد فوات الوقوف؛ فإنه يجب عليه كما تقدم التحلل بأفعال عمرة، أو عن الطواف والسعي في العمرة، وهو مقتضى الآية أيضاً، وبه قال أصحابنا، واستدلوا على من خالفهم بالآية كما تقدم.

وقالا لإمام حكاية عن ابن سريج فيما إذا تحلل بعد فوات الوقوف: إنه يلزمه دم الفوات ودم الإحصار، ثم أشار إلى اتجاه إجراء خلاف سبق مثله فيما إذا قرن، ثم أفسد الحج، هل يندرج دم القران تحت دم الفساد؛ لأنه لم يستفد من تخفيف القران أمراً إذا أفسد عليه.

ثم قال: ولست أرى لمخالفة ابن سريج وجهاً.

الثاني: أنه لا فرق في العدو وهم مشركون بين أن يكون منعهم بسبب قطع الطريق أو غيره، كما هو مقتضى الآية أيضاً بل مقتضاها أنه لا فرق في المانع بين أن يكون كافراً، أو مسلماً، أو سلطاناً، أو غيره، لإطلاقها، وإن كانت قد وردت على سبب خاص، وهو صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت؛ كما تقدم لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قال به الأصحاب، واستدلوا مع ذلك بما روي [أن] ابن عمر خرج إلى مكة للعمرة في زمن الفتنة، فقال:"إن أحصرنا صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

قال الشافعي: معناه: أحللنا كما أحللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبالقياس: فإن المحصر بقطاع الطريق، أو بطلب الضرائب، أو بغيرهما مصدود عن البيت، فجاز له التحلل، كالمحصر بالمشركين.

ص: 32

وهذا الحكم يؤخذ من كلام الشيخ أيضاً إن لم يجعل لفظ العدو يشمل المعادي من الكافرين والمسلمين؛ لأنه إذا جاز له التحلل عند منع الكفار مع أن قتالهم مع القدرة عليه مندوب [إليه] كما ستعرفه، فجوازه عند منع المسلمين مع أن الأفضل ترك قتالهم مع القدرة عليه أولى.

وقد أخرج الشيخ بلفظ العدو المحصر بالمرض، وسيأتي حكمه.

الثالث: أنه لا فرق في جواز التحلل عند الحصر بين أن يكون الحصر عاماً؛ لحصر جميع الناس، أو خاصاً؛ كما إذا حبس شخص أو جماعة يسيرة ظلماً في الظاهر والباطن [أو في الباطن] فقط؛ كالحبس بدين معجوز عن أدائه، وهو مقتضى الآية أيضاً، وهو الذي حكاه العراقيون.

وقال المراوزة: الحصر الخاص هل يفيد التحلل كالعام أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما: نعم، وهو الأوجه عند الإمام، وبه قطع بعضهم أيضاً لما ذكرناه.

والثاني: لا؛ كما لو ضل عن الطريق.

قال الإمام: فإن قيل: كيف يطرد المراوزة ذكر القولين في جواز التحلل مع إجماع الأصحاب على أن العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه [فمنعه المولى] فله التحلل، وهذا حصر خاص؟

قلنا: لأن العبد أدى بإحرامه ما يسلط المولى على حله، وهذا المعنى لا يتحقق في منع يطرأ من ظالم على المحرم؛ فإن ذلك مسبوق بتأكد الإحرام.

الرابع: أنه لا فرق في جواز التحلل عند المنع بين أن يكون قادراً على دفعه بقتال، أو دفع مال، أو غير قادر، وهو مقتضى الآية، وبه صرح العراقيون، والماوردي، ووافقهم المراوزة على ذلك، في حالة العجز، وحالة القدرة بدفع المال، وأما في حالة القدرة بالقتال، فإن كان المانع من المسلمين، فالأمر كذلك، وإن كان من الكفارن قال الإمام: فقد قال بعض المصنفين: إذا كان المسلمون على الحد الذي لا يجوز الفرار معه، ولم يزد الكفار على الضعف يجب مصادمة الكفار، ولا يجوز

ص: 33

التحلل، وهذا ما ذكره في "الإبانة".

قال الإمام: وهذا كلام مخلط، وقد نص الأئمة في الطرق على جواز التحلل، سواء كان الأعداء مسلمين أو مشركين؛ فإن الحجيج يكونون على أهبة القتال في أغلب الأحوال؛ فلا يجب القتال لذلك، وقد لا يسوغ إذا منعنا الاستقلال كما سيأتي في كتاب الجهاد.

فإن كان الحجيج متأهبين للقتال، وقد صدمهم الكفار، فلا فرار إذا تجمعت الشرائط المعتبرة في تحريم الفرار، فإذا تعين الاشتغال بالقتال، فلا معنى للانصراف، ولا سبيل إلى التحلل إذا امتنع الانصراف؛ ولأجل ذلك قال في "الوسيط": إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف، تعين القتال إن كان معهم أهبته، ولا يجوز التحلل.

قلت: لكن كلام الإمام مخصوص بحالة الالتقاء؛ لأنها الحالة التي لا يجوز فيها الفرار وما قاله الغزالي لا يقتضي التخصيص بذلك، بل هو جامع لما قاله الفوراني، وبعض ما قاله الإمام، وكلام الإمام لا يخالف ما ذكره العراقيون، فإنهم استدلوا لعدم وجوب القتال- كما نص عليه الشافعي- بقوله: كما قال ابن الصباغ والماوردي: إن قتال المشركين لا يجب إلا أن يبدءوا بالقتال، أو يستنفر به أهل الثغور إلى قتالهم؛ ولهذا لم يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، والله أعلم.

ثم قال العراقيون: إذا قدر المحصر على زوال المنع ببذل مال، فإن كان المانع من الكفار، كان بذله مكروهاً؛ لأن فيه وَهَناً للإسلام من غير ضرورة، وإن كان من المسلمين، جاز بذله من غير كراهة.

وإن قدر على زوال الحصر بالقتال، فإن كان المانع من المسلمين، فالتحلل أفضل من قتاله؛ لأنه ربما أفضى إلى القتل، والتحلل أخف منه، وقد وافقهم المراوزة على ذلك.

وإن كان من الكفار: فإن كان فيهم قوة، وفي المسلمين ضعف، فالترك أولى كي لا يكون وَهَناً للإسلام.

وإن كان في المسلمين قوة، وفي الكفار ضعف، فالقتال أولى؛ للجمع بين إتمام النسك، ونصرة الدين؛ وحينئذ إن احتاجوا في القتال إلى لبس الدروع والبيض، لبسوا وافتدوا؛ كما لو لبس لحر أو برد.

ص: 34

الخامس: أن التحلل واجب، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "قوموا فانحروا، ثم احلقوا".

وقد أفهمه قول أبي الطيب أيضاً حيث قال عقيب ذكره هذا الخبر وهذا إنما يجب للتحلل، فدل على أن التحلل واجب، وكلام الأصحاب دال على أنه غير واجب؛ كما سنذكره، بل صرح القاضي أبو الطيب من بعد، والبندنيجي، وغيرهما بأنه ليس بواجب.

السادس: أنه لا فرق في جواز التحلل بين أن يكون الوقت ضيقاً أو واسعاً، وقد أحصر عن الوقف وهو مقتضى الآية، وعليه يدل فعله عليه السلام؛ فإنه حيث أحصر وتحلل، كان محرماً بعمرة، وهي لا تفوت.

وما اقتضاه كلام الشيخ هو ما صرح به الأصحاب، وقالوا: إن كان الوقت واسعاً، فالمستحب له البقاء على إحرامه، وإن كان ضيقاً، فالمستحب له أن يتحلل، كي لا يلزم نفسه ما قد يشق عليه فعله، فإنه إذا لم يتحلل حتى فاته الوقت، لزمه القضاء؛ كما قال العراقيون قولاً واحداً وإن كان في طريق المراوزة حكاية قولين فيه.

وقال الرافعي: إنها أظهر الطريقين، ويلزمه- مع القضاء، أو دونه [إذا زال] الإحصار قبل التحلل: الطواف، والسعي، ودم الفوات.

وإن لم يزل الحصر، وجب عليه دم الفوات، ودم الإحصار.

وفي "الحاوي": أن ما ذكرناه من استحباب البقاء على الإحرام والتحلل منه مصور بما إذا كان يتحقق زوال الحصر بعد مدة لا يمكنه بعدها إدراك عرفة، وكان يرجو زواله قبل ذلك، فلو كان يتحقق أنه لا يزوال إلا بعد الفوات، فالأولى له التحلل في الحال بكل حال.

وكلام البندنيجي الذي حكاه عن نصه في "الأم" عند الكلام في الحصر الخاص يوافق [ذلك] وإن كان يتحقق [زوال الحصر قبل فوات وقت الوقوف، ويمكنه من الإدراك، لم يجز له التحلل.

وقال فيما إذا كان قد أحرم بالعمرة: إن تحقق زوال الحصر بعد يومين أو ثلاثة، لم

ص: 35

يجز له التحلل، وإن كان يتحقق]: أنه يزول بعد مدة طويلة، كالشهر، ونحوه، فهو كما لو تحقق أن الحصر يزول بعد فوات وقت الوقوف وقد أحرم بالحج، وقد تقدم بيانه.

السابع: أن ذبح الهدي يكون قبل التحلل عند إرادته، وهو ما اقتضاه قوله تعالى:{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وبه صرح العراقيون؛ لأن ذبح الهدي قائم مقام ما عجز عنه من أسباب التحلل.

وحكى المراوزة في جواز التحلل قبل الهدي مع القدرة عليه قولين:

والقائل بالجواز يحتاج إلى أن يضمر بعد قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} وتحللتم {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} .

قال الإمام: وعلى هذا فلا يقع التحلل بفعل من الأفعال.

وقد يبتدر فهم بعض الناس إلى أن التحلل يقع بالحلق، وليس الأمر كذلك؛ فإن القول وإن اختلف في أن الحلق هل هو نسك أم لا؟ في أوان التحلل بالنسك الجاري على النظام لم يختلف بأنه ليس بنسك في حق المحصر، وإذا كان كذلك، فلا يحل إلا بالقصد الجازم سببه بما ذكرناه [عن] أئمتنا، وصرح به العراقيون، فإذا تحلل بالنية، أراق الدم.؟

وهذا منه يدل على أن الخلاف في جواز تأخير الإراقة عن التحلل مذكور في طريقة العراق أيضاً.

ثم قال: والذي يجب التنبيه له: أن دم الإحصار إذا أجريناه على قياس الدماء يعني: في كونه له بدل فهو دم جبران، وسببه التحلل عن الإحرام قبل أوانه، وإذا كان كذلك بعد ربط التحلل بإراقة الدم، فإن الإراقة موجب التحلل، فليتصور تحلل موجب لها؛ اعتباراً بكل مُوجِب، ومُوجِب [في] الكفارات.

ثم لو وفينا هذا الأصل حقه، لجعلنا تقديم الإراقة على التحلل بمثابة تقديم فدية الأذى على الحلق، وفي جواز ذلك وجهان، لكنهم لم يختلفوا في أن تقديم الإراقة جائز.

وأجاب عن ذلك بأن التحلل عن الإحرام من غير سبب مشكل، وأسباب التحلل كلها منتفية في حق المحصر، فأثبت الدم في إفادة التحلل حالاً محل أسباب التحلل

ص: 36

في حق المستمر على نظم النسك من غير صد.

ولا ينبغي أن يعتقد أن دم الإحصار بدل عما صُدَّ المحرم عنه؛ فإنه مصدود عن الأركان، والأركان لا بدل لها، ولو كان بدلاً عنها، لأجزأه ذلك عن فرضه، وليس كذلك.

الثامن: أنه يجوز ذبح هذا الهدي في غير يوم النحر، وفي غير الحرم؛ كما صرح به غيره، وقد تقدم ذكره.

التاسع: أن نية التحلل عند الذبح وغيره ليست بشرط؛ إذ لو كانت شرطاً لذكرها؛ فإنه يحتاج بعد الذبح إلى فعل يحصل به التحلل.

وقد قال الأصحاب: إنه لابد من نية التحلل عند الذبح؛ لأجل الحصار، وما يفعله من بعد وهو الحلق، وإن كان ذلك لا يعتبر عند التحلل في غير الإحصار، وفرقوا بوجهين:

أحدهما: أن غير المحصر قد أتى بكمال أفعال العبادة، فتحلل منها بإكمالها، وليس كذلك المحصر؛ لأنه يريد الخروج من العبادة قبل إتمامها؛ فافتقر إلى قصد ذلك.

والثاني: أن الهدي قد يكون لغير التحلل، وكذلك الحلق؛ فلا يختصان بالتحلل إلا بالقصد، بخلاف الرمي، فإنه لا يراد إلا للنسك؛ فلم يفتقر لقصد التحلل.

وأما فعل شيء بعد الذبح، فقد قال الأصحاب: إنه ينبني على أن الحلق نسك أم لا؟

فإن أوجبناه، توقف تحلله هنا عليه؛ كما قلنا: إنه يفهمه كلام الشيخ، ويجب أن تكون نية التحلل مقرونة به.

وإن قلنا: إنه استباحة محظورة فقد حَلَّ بمجرد ذبحه مع إرادة التحلل.

وقد أخرج الشيخ بقوله: "وهو محرم" ما إذا أحصر عن الرمي والمبيت في لياليه بعد التحللين؛ فإنه لا يفيده الإحصار إلَاّ عدم الإثم؛ فإن الأيام إذا مضت، وجب عليه؛ لأجل ترك الرمي ما يجب عليه لو ترك ذلك بدون الإحصار.

وأما لترك المبيت فينبغي أن يكون ما يجب عليه مبنياً على أن من له عذر غير السقاية والرعي، هل يلحق بهما؛ إذا قلنا بوجوب المبيت أم لا؟

فإن ألحقناه بهما، لم يجب هنا شيء، وإلا وجب.

ص: 37

نعم: لو أحصر بعد التحلل الأول، أفاده الحصر التحلل الثاني؛ ليستبيح النساء.

قال في "البحر": فإن انكشف العدو، وأحرم إحراماً ناقصاً، وأتى بما عليه من الرمي، والطواف قولاً واحداً.

أما إذا كان له طريق غيره فمقتضى إطلاق الآية الجواز؛ لأنه قد أحصر.

لكن الأصحاب قالوا: إنه ينظر في الطريق الآخر، فإن كان مما لا يجب سلوكه لو لم يكن ثم طريق غيره، [فهو كالمفقود، وإن كان يجب سلوكه لو لم يكن ثم طريق غيره]، وجب [عليه] سلوكه، سواء كان قصيراً أو طويلاً يأمن إذا سلكه فوات الوقوف، وكان قد أحرم بالحج، أو يتحقق معه الفوات، ولا يجوز له التحلل؛ لأنه لم يوجد في حقه اسم المحصر مطلقاً.

نعم: إذا حصل الفوات في هذه الحالة، فهل يجب عليه القضاء إذا كان ما أحرم به تطوعاً؟ فيه قولان منصوصان في "الأم" و"المختصر الأوسط من الحج"؛ كما قال البندنيجي:

أحدهما: نعم [كما] لو أخطأ الطريق، ففاته ذلك؛ فإنه [لا يجب] القضاء بلا خلاف، وهي قضية أبي أيوب الأنصاري التي قضى فيها عمر بما ذكرناه، وهذا ما نسبه في "البحر" إلى نصه في مختصر الحج وهو الذي أورده الجمهور.

والثاني: [لا]؛ لأن سبب الفوات الإحصار، والفوات بالإحصار لا يوجب قضاء وما تطوع به؛ كما سنذكره؛ وهذا ما اختاره في "المرشد"، وصححه الماوردي، وصاحب "البحر".

وفي "تعليق القاضي الحسين": أن هذا الطريق إن كان أبعد من الطريق الذي أحصر فيه، ووجد الزاد، فهل يجوز له التحلل فيه وجهان:

وجه الجواز: أنا [لو] لم نجوزه له، أدى إلى أن يطوف حول جميع الدنيا، وتلحقه مشقة عظيمة.

وقد قيد الإمام محلَّ القولين في القضاء [بما] إذا كان الطريق الآخر أبعد من

ص: 38

الذي صُدَّ فيه، وقال فيما إذا كانا متساويين في كل معنى: فهذا فوات محض، يجب القضاء فيه لا محالة.

قلت: وتوجيهه: أنه مع التساوي كما ذكر يكون عدم الإدراك؛ لتقصير في الابتداء، أو الدوام، والفوات بالتقصير لا خلاف في وجوب القضاء به.

دليله: ما إذا أحرم من بلده في عشر ذي الحجة، وبينه وبين مكة أكثر من شهر، والمرأة إذا أحرمت، ثم طرأت عليها العدة، منعت من المضي؛ لأجل العدة.

قال ابن كج: وليس لها أن تتحلل إلا إذا كانت عن طلاق رجعي، فراجعها، ثم للزوج أن يمنعها، فإذا منعها، تحللت، وإذا لم يراجعها، وانقضت العدة، مضت في الحج، فإن فاتها، كان في وجوب القضاء عليها القولان، حكاهما الفوراني، والنواوي.

فرع: إذا شرط في إحرامه التحلل عند الحصر، فهل يؤثر شرطه أم لا؟

منهم من قال: نعم؛ حتى يكون في لزوم الدم له عند التحلل وجهان كما يأتي:

ومنهم من قال: لا، قال الإمام: وهو الأصح؛ لأن ما ذكره بالشرط ثابت قبله؛ فلُغي، والله أعلم.

قال: فإن لم يكن معه هدي "أي: [ولا"] ثمنه أو كان معه ثمنه، ولم يجده؛ كما قال الماوردي، ففيه قولان، أي: منصوصان في "الأم" كما قال البندنيجي:

أحدهما: لا بدل للهدي؛ لأنه لو كان له بدل لذكر؛ كما في هدي التمتع، وجزاء الصيد؛ فعلى هذا يبقى في ذمته إلى أن يجد.

والثاني: له بدل؛ لأنه هدي تعلق بالإحرام؛ فكان له بدل؛ كهدي التمتع؛ وهذا ما صححه النواوي، وغيره، واختاره في "المرشد".

قال: وهو الصوم؛ لما تقدم؛ وهذا ما أورده البندنيجي، والماوردي عند الكلام في الدماء لا غير.

وكلام القاضي الحسين يرشد إلى أنه المذهب، وهو الذي نص عليه في "المختصر" والله أعلم.

وفيه ثلاثة أقوال:

ص: 39

أحدها: صوم التمتع؛ لما ذكرناه، وهو قول الصحابة، فيصوم عشرة أيام.

والثاني: صوم الحلق؛ لأنه وجب للترفه؛ فيصوم ثلاثة أيام.

والثالث: صوم التعديل عن كل مد يوماً لأنه أقرب إلى الهدي؛ وهذا ما نص عليه في مختصر الحج، واختاره المزني؛ كما قال القاضي الحسين.

[وقد عد] في "المهذب" وابن الصباغ هذه الأقوال وجوهاً.

والذي حكاه الشيخ هنا هو المشهور وحكوا [الذي أورده الجمهور] على قولنا: إن للهدي بدلاً مع ما ذكره الشيخ هنا قولين:

أحدهما: أن بدله الإطعام؛ لأن الإطعام قيمة الهدي؛ فكان رعايته أولى من الصوم؛ وهذا ما نص عليه في "الأوسط".

وقال القاضي الحسين: إنه أومأ إليه في "المختصر"؛ فإنه قال: تقوم الشاة دراهم، ثم الدراهم طعاماً، ويتصدق، أو يصوم عن كل مد يوماً؛ وهو الذي صححه النواوي؛ وعلى هذا ما ذاك الطعام؟ فيه وجهان:

أحدهما: طعام التعديل، وهو الذي قاله في "المختصر"؛ كما قدمناه.

والثاني: طعام [فدية الأذى]، وهو ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لأنه أشبه به.

والقول الثاني: قال في "البحر": وهو من تخريج الأصحاب أن بدله صوم الحلق، أو الإطعام فيه، والخيرة إليه في ذلك؛ لأنه أشبه به؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".

وحكى في "الإبانة" قولاً آخر، وهو ما قال في "البحر" إنه الأصح من الأقوال: إنه يقوم الهدي دراهم، والدراهم طعاماً، ويؤديه إن أمكنه، فإن لم يمكنه، صام عن [كل] مُدٍّ؛ قياساً على جزاء الصيد في التعديل، دون التخيير، وعلى دم التمتع في الترتيب.

وسلك الماوردي طريقاً آخر، فقال: إن كان قد عدم لإعساره، فبدله الصوم، وفيه الأقوال الثلاثة، وإن كان قد عدمه لتعذره مع القدرة على المال، فهل يكون البدل الذي ينتقل [إليه] طعاماً أو صياماً؟ فيه ثلاثة أقوال:

[أحدها: صياماً، وفيه الأقوال].

ص: 40

والثاني: طعاماً، وما هو؟ فيه الوجهان [السابقان].

والثالث: أنه يتخير بين الطعام والصيام؛ كفدية الأذى.

وعلى هذا إن اختار الصيام، ففيه الأقوال، وإن اختار الإطعام، ففيه الوجهان، والله أعلم.

قال: وفي تحلله قبل أن يصوم أي: إذا لم يجد الهدي في أحد القولين أي: وهو أن له بدلاً، وهو الصوم أو قبل أن يهدي في القول الآخر [أي]: وهو قولنا: لا بدل للهدي قولان:

وجه المنع: قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولم يفرق.

ولأنه في حالة العجز قادر على الصوم؛ فتوقف تحلله عليه، كما توقف على الهدي عند القدرة.

ووجه الجواز: أنه إنما شرع التحلل للمحصر؛ دفعاً للمشقة، فلو وقفنا حله على صومه، أو على ذبحه الهدي، وهو عاجز عنه- لحقته المشقة؛ وهذا ما صححه النواوي؛ تبعاً للرافعي وغيره.

قال الأصحاب: وعلى هذا إذا قلنا: لا بدل له، تحلل بالنية، والحلق؛ إن قلنا إنه نسك، وإلا تحلل بالنية وحدها.

وقد بنى الإمام القولين في تحلله قبل الهدي إذا قلنا: لا بدل للهدي على القولين في أن الهدي لو كان موجوداً، هل يقع التحلل قبله أو بعده؟

فإن قلنا: قبله تحلل، وبقي الهدي في ذمته.

وإن قلنا: بعده، فهاهنا قولان:

والقولان في الكتاب يجريان كما قال في "المهذب" وغيره فيما إذا قلنا: بدله غير الصوم إما تعيناً، أو على حكم التخيير، فاختاره، هل يتحلل قبل الإتيان به عند العجز أو لا يتحلل ما لم يأت به؛ كما لو كان قادراً عليه؟

وقال الإمام: إن حكم تحلله قبل إخراجه مع وجوده وعدمه كحكمه [في]

ص: 41

الهدي نفسه؛ فيجيء في جواز التحلل قبل إخراجه مع القدرة القولان.

قال: والخلاف في التحلل قبل الصوم إذا جعلناه بدلاً مرتبُ على الخلاف في التحلل قبل إخراج البدل، وأولى بالجواز؛ لأن مدته أطول من مدة إخراج ما عداه.

قال: ومن أحصره مرض، لم يتحلل إلا أن يكون قد شرط ذلك في الإحرام؛ لما روى أبو داود [عن ابن عباس] أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج أشترط؟ قال: نعم قالت: فكيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني" قال في مختصر السنن: وأخرجه مسلم.

و [أخرجه] البخاري ومسلم من حديث عروة عن عائشة.

ورأيت في مسلم من حديث ابن عباس أن ضباعة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال: أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث حبستني" قال فأدركت.

وقد زاد النسائي فيه: "فإن لك على ربك ما استثنيت".

ووجه الدلالة من ذلك على الجواز عند الاشتراط ظاهر، وعلى عدمه عند عدم الشرط: أن المرض لو كان مجوزاً للتحلل؛ كما صار إليه أبو حنيفة؛ تمسكاً بالآية لما أمرها بالشرط.

قال الماوردي: وهو إجماع الصحابة؛ فإن الشافعي روى عن مالك عن أيوب السختياني: أن رجلاً من البصرة خرج؛ ليحج، فوقع من بعيره، فانكسرت فخذه، فبعثوه إلى مكة، وبها عبد الله بن عمر، وابن عباس، والناس، فلم يأذن له أحد في

ص: 42

التحلل، فبقي سبعة أشهر، ثم تحلل بعمرة، ولم يعلم في الصحابة مخالف لهذا القول؛ فثبت أنه إجماع، ويخالف المحصر من وجهين:

أحدهما: أن الحصر يمنع الوقوف، بخلاف المرض.

والثاني: أنه يتخلص من أذى العود ومقاساته، ويرجع إلى وطنه، والمريض لا يزول بالتحلل مرضه.

فإن قيل: يلزم على هذا الفرق: أن العدو إذا أحاط بالمحرم من جميع الجهات، وحصره عنها، أنه لا يجوز له التحلل؛ لأنه لا فائدة [له] فيه.

قال الماوردي: قلنا: ليس للشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة نص، [واختلف أصحابنا فيها على وجهين]، وحكاهما في "الشامل"، وفي "الوسيط" [حكاهما] قولين:

أحدهما: لا يتحلل؛ لما ذكرناه.

والثاني: وهو الصحيح: أنه يتحلل؛ لأنه يتخلص عن بعض الأذى، وهو العدو الذي في وجهه؛ لأنه بالإحلال والعود لا يحتاج إلى الغارة.

وأما ما تمسك به الخصم من الآية حيث قال:

إن لفظة "أحصر" مختصة بالحصر بالمرض؛ كما حكاه الأزهري وغيره، أو هي مستعملة في الحصر بالعدو وبالمرض؛ كما قاله آخرون؛ فتستعمل فيهما.

فجوابه: أن استعمالها فيهما إن كان لكونه حقيقة في أحدهما، ومجازاً في الآخر، فعنده أنه لا يجوز أن يستعمل اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، وقد ثبت جواز التحلل بالعدو بما ذكرناه، عملاً بالآية فثبت أنها لا تستعمل في المرض.

وإن كان لكونه حقيقة فيهما، فقد دلت الآية على إرادة الحصر بالعدو؛ حيث قال سبحانه:{فَإِذَا أَمِنتُمْ} [البقرة: 196] فتعين والله أعلم.

وغير المرض من الأعذار، مثل: إعواز النفقة، والضلال في الطريق، والخطأ في العدد كما قال البندنيجي عند الشرط وعدمه كالمرض.

وعند الشيخ أبي محمد اختصاص المرض [بذلك] وأنه لا يطرد فيما إذا شرط التحلل عند الضلال، ونحوه؛ لأن المجوز للتحلل بالشرط في المرض [إنما

ص: 43

هو] الخبر، والأقيسة لا تجول في المضايق، والجمهور على الأول.

ثم ما ذكره الشيخ من الجواز عند الشرط هو الذي حكاه الأصحاب عن نصه في القديم، ومنهم البندنيجي هنا، وقالوا: إنه علق القول فيه في الجديد، فقال: إن صح حديث ضباعة قلت به.

وعكس القاضي الحسين ذلك في كتاب الاعتكاف، فقال: الذي نص عليه في الجديد: أنه لا يجوز له الخروج لوقوع العارض، وقال في القديم:"إن صح حديث ضباعة قلت به" فمن الأصحاب من أثبت لأجل ذلك قولين في المسألة:

أحدهما- وهو القديم-: الجواز.

والثاني- وهو الجديد-: المنع.

وعلى ذلك جرى الإمام والفوراني؛ فحكيا القولين هكذا من غير نقل التعليق.

ووجه المنع بأنه عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر، فكذا مع العذر والشرط؛ كما في الصلاة، وقد كان ابن عمر ينكر الاشتراط في الحج.

قال الإمام: وعلى هذا يحمل الحديث على أمرها بالإهلال، وإعلامها أن محلها حيث تتوفى، فكأنه قال: أَهِلِّي، فإن حبسك أجلك، فإن كل نفس تذوق الموت.

ومنهم من قال: قد صح حديث ضباعة؛ فتعين الجواز، وهو الصحيح.

ولأن الإحرام يجب به النسك؛ كما يجب بالنذر، ثم ثبت أنه إذا شرط في النذر أن يصوم إن كان حاضراً أو صحيحاً، صح شرط ذلك في الإحرام.

وأما إنكار ابن عمر، فلعله لم يبلغه الخبر.

قال البيهقي: ولو بلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكره كما لم ينكره أبوه فيما رويناه عنه.

وضُباعة: بضم الضاد المعجمة، وباء ثانية الحروف مفتوحة، وبعد الألف عين مهملة، وتاء تأنيث، وهي بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و"محلي" المذكور في الحديث بكسر الحاء.

وقد رأيت فيما وقفت عليه من "تعليق البندنيجي" في كتاب الاعتكاف: أن في القديم إن شرط الخروج من الحج بالمرض لا يصح، وفي الجديد [أنه] يصح.

ص: 44

ولم أر ذلك في غيره.

ولا فرق على المشهور إذا قلنا إن للشرط أثراً: بين أن يكون في فرض الإسلام، أو ما نذره، أو تطوع به.

وحكى القاضي الحسين في كتاب الاعتكاف أن الداركي خص الجواز بالحج المنذور، والتطوع، فأما مَنْ أحرم بحجة الإسلام، وشرط هذا عند الإحرام، فلا يكون له الخروج؛ لأنا لحج لزمه من غير الشرط، وليس له إسقاطه؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط العبادة.

فرع: إذا قلنا بما ذكره الشيخ، كان عند وجود الشرط كالمحصر بالعدو.

وحكى الإمام وجهاً: أنه لا يجب عليه الهدي، والمشهور وجوبه، اللهم إلا [إذا] شرط أنه إذا وجد المرض ونحوه، تحلل من غير دم، أو شرط أنه إذا وجد المرض ونحوه صار حلالاً، فلا يجب عليه الهدي.

قال القاضي أبو الطيب: ومن أصحابنا [من قال: يجب الدم بكل حال، ومنهم] من قال: إنه لا بد من التحلل وإن شرط أنه يصير حلالاً بوجود الشرط.

قال القاضي الحسين والفوراني: وهذا بخلاف ما لو شرط التحلل يباح له التحلل، لأن للتحلل مدخلاً في الحج، فأما كونه حلالاً بلا تحلل، فلا مدخل له في الحج أصلاً.

قال في "البحر": وعلى هذا هل يلزمه الدم أم لا؟

فيه وجهان:

المنصوص: أنه يصير حلالاً عند وجود الشرط، وأنه لا يلزمه الدم، وعليه حمل ما رواه أبو داود عن عكرمة قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كسر أو عرج، فقد حَلَّ، وعليه الحج من قابل".

ص: 45

قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهم فقالا: صدق.

وفي رواية: "من عرج، أو كسر، أو مرض"، وأخرجه النسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن.

وإنما حملناه على ذلك؛ لأنه لا يمكن حمله على ظاهره بوفاق الخصم، وهو أبو حنيفة؛ فحملناه [نحن] على ما ذكرناه، وكذا حملنا قوله:"وعليه الحج من قابل" على ما إذا كان ما أحرم به فرض الإسلام، وقد استقر في ذمته.

وسلك الرافعي في التفريع على ما ذكرناه طريقاً آخر، فقال: إن شرط: أنه إذا وجد المرض، تحلل بالدم، أو بغير دم، اتبع شرطه، وإن أطلق، فوجهان في وجوبه: أظهرهما، وبه قال أبو إسحاق والداركي: عدم اللزوم.

وقد فرع الشافعي في القديم على صحة الشرط أنه لو قال "إذا فاتني الحج، كان إحرامي بعمرة" كان على ما شرط.

ولا خلاف أنه إذا شرط: أن يخرج من إحرامه متى شاء لا يصح الشرط، قاله ابن الصباغ، وغيره.

قلت: وكان يتجه إذا ألحق بالإحرام بالنذر أن يكون الحكم في هذه الحالة كالحكم في النذر، وقد تقدم ذكره في باب الاعتكاف.

قال: وإن أحرم العبد بغير إذن مولاه، جاز له أن يحلله.

اعلم أن العبد لا يجوز له أن يحرم بحج أو عمرة بدون إذن سيده؛ لما فيه من تفويت [منفعته] المملوكة لسيده، فإن أذن له في ذلك، جاز ولا يجب عليه.

ص: 46

قال في "الحاوي": وغلط بعض أصحابنا، فقال: للسيد إجباره على ذلك، كما يجبره على غيره من الأعمال.

وإذا أذن له في العمرة، لم يكن له أن يحرم بالحج، سواء أحرم بالعمرة أو لا، وكذا لو أذن له أن يحرم بالحج في [ذي] القعدة، لم يكن له أن يحرم به في شوال.

نعم: لو أذن له في أن يحرم بالحج، جاز له أن يحرم بالعمرة، وبهما قرآنا: لأن أعمال القران كأعمال المفرد.

فإذا عرفت ذلك، وأحرم العبد بدون إذن سيده، فإحرامه صحيح؛ كما يصح بالصلاة، والصوم، وهو الذي أفهمه كلام الشيخ، وللسيد [تحليله؛ صيانة لحقه.

وكذا حكمه فيما لو أذن له في الإحرام، ثم رجع عنه، وعلم العبد برجوعه قبل أن يحرم، ولو لم يعلمه حتى أحرم، ففيه وجهان:

قال الرافعي: أصحهما جواز] تحليله أيضاً وهما مخرجان من اختلاف قوليه في الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم، هل ينفذ أم لا؟

قال الإمام: وإطلاق القول بأن له تحليله مجاز بلا خلاف؛ فإن التحلل لا يحصل إلا من جهة العبد، ولو أراد السيد تحصيله دون العبد، لم يجد إليه سبيلاً عندنا، بل الذي للسيد منعه من المضي، واستخدامه في الجهات التي يستخدمه فيها.

وقد حكى عن ابن كج رواية وجه: أنه ليس له تحلله إذا أحرم بغير إذنه؛ لتعينه بالشروع تخريجاً من أحد القولين في الزوجة إذا أحرمت بالتطوع.

والمنصوص المشهور ما ذكره الشيخ.

ثم حيث قلنا: له ذلك، فقد قال الشافعي- رضي الله عنه أحب له أن يدعه؛ لما في ذلك من إبطال العبادة؛ فإن لم يفعل حبسه، وكان له التحلل؛ لأنه إذا جاز للمحصر بغير حق، فالمحصر بحق أولى، وإذا أراد ذلك، كان حكمه في الهدي حكم المحصر الحر المعسر.

قال البندنيجي: ولا يجيء فيه القولان في أن بدل الهدي الإطعام أو يتخير، بل يتعين الصوم بدلاً في حقه، وبهذا يتأيد ما أسلفنا حكايته عن "الحاوي" في الحر المعسر.

ص: 47

وحكى البندنيجي والماوردي وأبو الطيب وغيرهم عن أبي إسحاق: أنه يتحلل قبل القدرة على الدم، وقبل الصوم قولاً واحداً، بخلاف الحر المعسر؛ لأنه إنما أمر بالتحلل؛ لدفع الضرر عن سيده، وفي البقاء على إحرامه أعظم إضرار به.

وقد صحح الرافعي هذه الطريقة، وحكى الإمام مثلها عن الصيدلاني فيما إذا قلنا: لا بدل للهدي أو بدله غير الصيام، موجهاً لها بأن وجود الدم أو بدله في حقه يتوقف على العتق، وليس هذا أمراً ينتظر، وبربط الترقب به يؤدي إلى عسر لا يحتمل مثله في الشرع.

قال: وهذه الطريقة أصح من طريقة إجراء القولين في الحر المعسر فيه.

وقال: إنا إذا قلنا: بدله الصيام، فهو كالحر بلا فرق، وهذا إذا لم يملكه السيد مالاً، أو ملكه، وقلنا: لا يملك.

أما إذا قلنا: إنه يملكه، تحلل بالهدي؛ قاله الماوردي، وغيره.

وقيد الإمام ذلك بما إذا أذن له السيد في إراقته، وهذا ينبني على أن العبد إذا ملكه سيده مالاً، وقلنا: يملكه، هل يملك التصرف فيه بدون إذن سيده؟ وفيه كلام يأتي في باب العبد المأذون.

ولو امتنع العبد من التحلل، وقد جوزناه [له] بمنع السيد، فلم يتحلل، ومضى في حجه كان عاصياً، وصح حجه.

وحكم المدبر، والمعلق عتقه بصفة، وأم الولد، ومن بعضه حر، وبعضه عبد فيما ذكرناه حكم القن.

وأما المكاتب: فهل للسيد منعه من السفر للحج؟ فيه طريقان:

منهم من قال: فيه قولان [كالقولين] في السفر والتجارة.

ومنهم من قال: له منعه قولاً واحداً، وهو ما ادعى البندنيجي: أنه المذهب، ولا يخفى الفرق.

وعلى هذا إذا أحرم بغير إذن السيد، كان له تحليله، كما ذكرناه.

فرع: حيث قلنا: إن واجب العبد الصوم، فلو أعتق، وأيسر، فهل واجبه الدم أو

ص: 48

الصوم؟ فيه قولان؛ بناء على أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، أو بحال الأداء؟

فعلى القول بوجوب الدم، لا يجزئه الصوم، وعلى مقابله في إجزاء الدم وجهان، حكاهما الماوردي قولين:

وجه المنع- وهو الجديد: أنه كان في حال رِقِّهِ لا يجزئه إلا الصوم؛ فكذا بعد عتقه؛ وبهذا خالف الحر المعسر إذا قلنا إن واجبه الصوم، فأيسر، وأخرج الدم؛ فإنه يجزئه؛ لأنه لو تكلف ذلك، وأخرجه في حال عسرته، أجزأته لتصوره الملك له.

نعم: لو مات على الرق قبل الصوم، فأراق السيد عنه الدم، وقع عنه؛ نص عليه.

قال الغزالي: لأن الملك امتنع في الحياة؛ لكونه مملوكاً مسخراً، ولا تسخير بعد الموت.

وقد استشكل الإمام النص، ثم قال: ولكني لم أر أحداً من الأصحاب يخالف النص.

قال: وإن أحرمت المرأة [بحج التطوع] بغير إذن الزوج، جاز له أن يحللها؛ لاستيفاء حقه؛ كما له أن يخرجها من صوم النفل.

ومعنى تحليل الزوج لها: ما ذكرناه في [السيد مع] عبده.

وإذا عرفت: أنه له تحليلها بعد تلبسها بالعبادة التي تلزم بالشروع، عرفت أن له منعها من السفر لذلك قبل التلبس به من طريق الأولى، وهو مما لا خلاف فيه، وإن كان في مسألة الكتاب خلاف؛ كما سنذكره.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون الزوجة حرة، أو أمة.

وقد أفهم كلام الشيخ: أنها إذا أحرمت بإذنه، لم يكن له تحليلها، وهو كذلك إذا كانت حرة، أما إذا كانت أمة، توقف إحرامها على إذن السيد، والزوج معاً.

قال: وفي حجة الإسلام قولان:

القولان في هذه المسألة ينبنيان على أصل آخر، وهو أن الزوج هل له منعها من فرض الإسلام، أم لا؟ وفيه قولان:

أحدهما-قاله في باب خروج النساء إلى المساجد من اختلاف الحديث-: أنه ليس له المنع، وبه قطع بعضهم؛ كما قال الرافعي؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ

ص: 49

الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].

والمراد بالحج هاهنا: القصد؛ فوجب عليها أن تقصد البيت، ولم يكن له منعها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".

ولأنها عبادة واجبة على المرأة؛ فلم يكن له منعها من ذلك؛ كالصلاة في أول الوقت.

والثاني: نص عليه في باب حج المرأة من "المناسك الكبير"، قال البندنيجي: و [في] عامة كتبه: أن له منعها، وهو الذي صححه الرافعي؛ لما روى الدراقطني بسنده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من امرأة لها مال وزوج، ولا يأذن لها في الحج فقال: ليس لها أن تنطلق إلا بإذنه".

ولأن حقه على الفور، وما طلبته وجوبه على التراخي، فقدم ما وجب على الفور؛ أصله إذا وجبت عليها العدة؛ فإنه لا يجوز لها الخروج للحج؛ لما ذكرناه، ويفارق الصلاة؛ لأن زمنها يسير، وهو يشاركها في الوجوب غالباً.

على أن الإمام حكى عن الأصحاب أنهم حكوا وجهين في أن الزوج، هل له منعها من إقامة الصلاة في أول الوقت كالقولين هنا، وقال: الحج أولى بأن لا يمنع؛ فإن الصلاة مؤقتة، والقلب يرتبط بوقتها على ثقة في العادة، وصدق رجاء، وأما ما يناط بالعمر فهو على إبهام، ولهذا قال الفقهاء: إذا مات في أثناء وقت الصلاة لا يكون عاصياً على ظاهر المذهب، بخلاف نظيره في الحج.

فإذا تقرر هذا، عدنا إلى مسألة الكتاب:

فإن قلنا: ليس له المنع في الابتداء، لم يكن له المنع [دواماً] وأما من طريق الأولى.

وإن قلنا: له المنع ابتداء، فإذا أحرمت بدون إذنه، فهل له تحليلها بالمعنى الذي ذكرناه؟ فيه القولان اللذان ذكرهما الشيخ، وهما منصوصان كذلك:

وجه الجواز: أن الحج على التراخي، وحقه على الفور؛ فقدم كما قبل الإحرام؛

ص: 50

وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب، والرافعي، والنواوي.

وعلى هذا يستحب له ألا يمنعها من إتمام العبادة، فإن منعها، كان لها التحلل، ولو لم يفعل، فكيف السبيل في استمتاع الزوج بها.

وكذلك القول في الأمة إذا امتنعت، قال الصيدلاني: يستمع بها، وبه قطع جوابه، والإثم عليها.

قال الإمام: وهذا فيه نظر من جهة أن المحرمة محرمة لحق الله تعالى فيحتمل أن يحرم على السيد والزوج الاستمتاع.

قلت: وما قاله الصيدلاني يعضده قول الأصحاب: إن نفقتها والحالة هذه قبل الخروج [للحج] واجبة على الزوج على الأصح، ولو كان الاستمتاع حراماً، لم تجب؛ لأن استمرارها [يجعل] كالنشوز والله أعلم.

ووجه المنع: أنها عبادة واجبة، شرعت فيها، فلم يكن له منعها من إتمامها وإن كان الوقت واسعاً، كصلاة الفرض في أول الوقت، بل أولى؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيه؛ فيضيق.

وهذا من هذا القائل بناء على أن من تحرَّم بالصلاة في أول الوقت لا يتعين عليه إتمامها؛ كما قاله في "الوسيط" في باب التيمم؛ تبعاً للإمام.

أما إذا قلنا: إنه [لا] يجوز الخروج منها كما تقدم في [باب] صلاة التطوع فلا أولوية.

وقد قيل: يطرد هذا القول فيما إذا أحرمت بحج التطوع أيضاً لهذه العلة.

قال البندنيجي: وليس بشيء.

وإذا جمعت بين هذه المسألة والتي قبلها، جاء فيها ثلاثة أقوال؛ كما حكاها القاضي أبو حامد في جامعه.

ثالثها: أن له تحليلها من حج التطوع دون الفرض.

ووجه رابع حكاه القاضي الحسين: أن الزوجة إن كانت أمة، كان له تحليلها، كما له تحليل أمته؛ لأنها ليست من أهل الفرض، وإن كانت حرة فلا.

ص: 51

فرع: الابن الرشيد إذا أراد السفر؛ لأداء فرض الإسلام، أو ما نذره ليس لأحد أبويه منعه منه.

وإن أراد السفر للتطوع بالحج أو العمرة، كان لكل منهما منعه، فلو أحرم بذلك دون إذنهما، فهل لكل منهما تحليله؟ فيه قولان؛ كما في المرأة.

والصحيح في تعليق أبي الطيب: نعم؛ وقال القاضي الحسين: إنه المذهب.

وعلى هذا لو أذن [له] أحدهما ومنعه الآخر، فهل له تحليله؟

قال في "الحاوي": إن كان الآذن الأب فلا، وإن كان الآذن الأمل فنعم؛ وهذا مجموع ما قاله العراقيون والماوردي.

وقال الغزالي: للأبوين منع الولد من التطوع، وفي الفرض طريقان:

قيل: إنه كالزوج.

وقيل: لا تنتهب شفقة القرابة إلى المنع من الفرض [ابتداء].

وقضية ما قاله أن يكون على الطريق الأول، هل لهما منعه من الفرض [ابتداء]؟ فيه قولان:

أحدهما: نعم.

والثاني: لا.

وعلى الطريق الثاني، ليس لهما المنع قولاً واحداً.

وقد حكى الطريقين هكذا ابن كج.

فإن قلنا: لهما المنع [فأحرم] فقضية ما تقدم في الزوجة: أن يأتي في تحلله القولان في تحللها، وقد [قال الرافعي: أنه لا يمنع بحال.

ونقل ابن كج فيه وجهاً ضعيفاً، وكذا حكى وجهاً غريباً، أنهما ليس لهما منعه من حج التطوع ابتداء].

قال الرافعي: ولم أجد حكاية الخلاف في حج الفرض في المنع ابتداء، والتحلل دواماً إلا للغزالي وابن كج.

ص: 52

قلت: وقد رأيت نفس ما ذكره في "الإبانة".

وأشار القاضي الحسين في تعليقه إلى خلاف فيما إذا أحرم بالفرض دون إذنهما، هل لهما تحليله؟

حيث قال: المذهب: أنه ليس للأبوين أن يحللاه.

ولو كان الابن سفيهاً، فإن كان قد أحرم بعد الحجر بحجة الإسلام، أو بحجة نذرها قبل الحجر عليه لم يكن له تحليله على الأصح، وأنفق عليه سواء كان بقدر نفقة الحضر أو أكثر.

قال المتولي: ولا يسلم ذلك إليه، بل يسلم إلى أمين.

وإن كان تطوعاً، فعلى الولي إذا لم يكن له التحلل أن يدفع إليه قدر نفقة الحضر، فإن لم يكفه، وأمكنه التكسب، والتحمل، والإنفاق لزمه المضي في الحج، وإن لم يتمكن، فهو كالمحصر، وهو ما حكاه في "الحاوي" عن النص.

قال المحاملي في كتاب "الحجر": فإذا تحلل صام.

وهكذا فيما إذا ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، يكفر بالصوم.

ولفظ البندنيجي في كتاب "الحجر" أنه عند العجز عن اكتساب تمام ما يحتاج إليه يكون لوليه حصره، وتحليله من إحرامه كالعبد.

ولو كان قد وقع إحرامه- قبل الحجر عليه- بحج تطوع، كان كما لو أحرم بعد الحجر بحجة الإسلام.

قال: ومن تحلل بالإحصار أي: العام، أو الخاص وكان ما أحرم به تطوعاً، أو كان فرضاً، وجب عليه في تلك السنة لا قبلها لم يلزمه القضاء؛ لأنه لو وجب لبينه الله تعالى في الآية، ولبينه صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين أحصروا؛ لأنه أهم من الهدي، ولأنه لا يجوز [تأخير] البيان عن وقت الحاجة.

وأيضاً: فقد كان من أحصر معه عليه السلام ألفاً وأربعمائة رجل، قال الشافعي- رضي الله عنه ولم يعتمر في العام القابل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفر معروفون بأسمائهم وأنسابهم.

قال الماوردي: وأكثر ما قيل: إنهم سبعمائة، ولم ينقل أنه أمر من

ص: 53

تخلف بالقضاء.

وأيضاً: فقد روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: لا قضاء على المحصر، ولا يعرف لهما مخالف.

ولأنه عبادة يجوز التحلل منها مع صلاح الوقت، فلم يجب قضاؤها للدخول فيها، أصله: إذا دخل في الصوم يعتقد وجوبه ثم تبين أنه غير واجب فإنه إذا أفطر لا يجب عليه القضاء، وقد وافق على ذلك الخصم، وهو أبو حنيفة.

أما إذا كان ما أحرم به لازماً: كفرض الإسلام المستقر في الذمة، والمنذور، وغيرهما- أتى به، ولا يكون قضاء؛ لأن ما تحلل عنه لم يسقط ما كان عليه؛ فبقي ما كان على ما كان.

قال: وفيه قول آخر: أنه يلزمه القضاء إذا لم يكن الحصر عاماً؛ لأنه تحلل من العبادة قبل وقتها بسبب خاص؛ فأشبه ما لو أضل الطريق حتى فاته الحج.

والفرق على الأول [أنه] منسوب إلى التفريط فيما إذا أضل الطريق، وليس منه هنا تفريط.

فرع: إذا تحلل بالإحصار، والوقت باقٍ، ثم انكشف العدو، فهل له البناء على ما مضى؟ فيه قولان حكاهما الفوراني، والرافعي، وقال: إن القديم الجواز، والجديد: المنع.

ويقربه منه قول ابن الصباغ:

إن الشيخ أبا حامد قال في التعليق: إنا إن قلنا بقوله القديم: إنه إذا مات قبل كمال الأفعال، جاز البناء، فهاهنا إن أمكنه أن يستاجر من يكمل عنه ما بقي من حجه أجزأه، ولأجله قال البندنيجي، وصاحب "البحر": إنه إذا أحصر بعد الوقوف، وأمكنه أن

ص: 54

يستأجر من يكمل حجته، فهل يجوز؟ على قولين:

وكلام الرافعي عند الكلام في الاستئجار على الحج يقتضي الجزم بالمنع من البناء؛ فإنه قال: الحاج لنفسه إذا مات في أثناء الحج، هل يجوز البناء على حجه؟ فيه قولان:

الجديد الصحيح: المنع لأنها عبادة يفسد أولها بفساد آخرها؛ فأشبهت الصوم، والصلاة.

ولأنه لو أحصر، فتحلل، فزال الحصر، فأراد البناء عليه لا يجوز، وإذا لم يجز له البناء على فعل نفسه، فأولى ألا يجوز لغيره البناء على فعله.

ثم إذا قلنا بجواز البناء، فلم يبن، ولم يعد مع إمكانه ففي القضاء وجهان، حكاهما الإمام.

أحدهما: لا قضاء؛ فإن الحج كان تطوعاً، وقد تحلل.

والثاني: نعم؛ فإن المتمكن من البناء إذا قصر منتسب إلى ترك الممكن.

قال: وقد يتجه أن يقول: هل يجب عليه البناء أم لا؟

أخذاً مما ذكرناه.

واعلم أنه يستثنى مما قاله الشيخ صورتان:

أحدهما: ما إذا كان قد أحرم بحج أو عمرة تطوعاً، ثم أفسدها بالجماع، ثم أحصر؛ فإنه يجوز [له] أن يتحلل.

قال الأصحاب: ويجب عليه بدنة للإفساد بكل حال، ثم إن تحلل لزمه مع ذلك شاة للفوات؛ فيكون عليه ثلاثة دماء، ولا يجب عليه سوى قضاء حجة واحدة.

قلت: وكان يتجه أن يقال فيما إذا أفسد الحج قبل الوقوف، وأحصر عن إتمامه، وتحلل أن يكون في وجوب الكفارة خلاف مبني على أصلين:

أحدهما: أنه هل يجوز له البناء إذا تحلل، ثم زال الحصر أم لا؟

ص: 55

الثاني: أن [من] جامع في رمضان عامداً، ثم طرأ عليه مرض أباح له الفطر، فأفطر، هل يجب عليه كفارة الجماع [أم لا؟] وفيه قولان على الطريقة الظاهرة:

فإن قلنا بالسقوط في الصوم، وعدم جواز البناء على ما مضى بعد التحلل؛ لما ذكرناه لم يجب القضاء [هنا] و [لا] الكفارة؛ لأنا تبينا بالتحلل إحباط ما مضى؛ كما قال الرافعي؛ ولهذا قلنا على هذا القول: لا يستحق الأجير شيئاً من الأجرة على عمله على طريقة وإلا وجبا، والله أعلم.

الثانية: إذا كان قد أحصر بين الطواف والسعي خاصة دون الوقوف، فإنه يجب عليه أن يقف، ويجوز له التحلل كما تقدم.

وإذا فعل ذلك، هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان منصوصان، قال في "الحاوي": كالقولين فيما إذا فات الوقوف، وقد أحصر عن طريق، فسلك أبعد منه، ثم قال: فإن قيل: ما الفرق بين أن يكون مصدوداً عن الوقوف بعرفة؛ فإنه لا يلزمه القضاء قولاً واحداً إذا أحل قبل الفوات، وبين ما إذا صد عن الطواف والسعي، فأحل، فإن في لزوم القضاء قولين؟

قيل: لأن فوات الوقوف بعرفة قد يوجب القضاء، وليس للطواف وقت يفوت فيوجب القضاء، فكان الصد عن الوقوف أغلظ حكماً؛ فلذلك افترقا.

وحكى الإمام عن صاحب التقريب القولين فيما إذا صد عن البيت بعد الوقوف بعرفة، وتحلل وفيما إذا صد عن الوقوف فقط، وأنه جعل ضابط التحلل المتفق على عدم وجوب القضاء به: ألا يصدر منه قبل الإحصار [إلا] الإحرام المحض، ثم تحلل، وإذا جرى مع الإحرام لنسك، ثم فرض الصد، والتحلل- ففي القضاء قولان.

ص: 56

وفي "الوسيط": أن العراقيين قالوا بسقوط القضاء عن كل ممنوع من لقاء البيت، وإذا لم يمنع منه، ومنع من عرفة، ففي القضاء قولان، وهو الذي حكاه البندنيجي، وصاحب "البحر" ونسبا الخلاف إلى نصه في "الأم".

وقال في "البحر": [إن] الأصح عدم الوجوب، والله أعلم.

ص: 57