المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب النذر النذر: واحد النذور، وهو في اللغة: الوعد بخير أو - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٨

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب النذر النذر: واحد النذور، وهو في اللغة: الوعد بخير أو

‌باب النذر

النذر: واحد النذور، وهو في اللغة: الوعد بخير أو شر؛ قال عنترة العبسي المشهور: [من الكامل].

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لقيتهما دمي

وفي الشرع- كما قال الماوردي-: الوعد بالخير دون الشر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم".

وهذا قريب من قول من حده بأنه التزام قربة غير لازمة بأصل الشرع.

وقد قيل: إنه التزام قربة مقصودة غير لازمة بأصل الشرع؛ ولهذا الاختلاف أثر يظهر لك من بعد.

ويقال: نذرت أنذر وأنذر؛ بكسر الذال وضمها.

والأصل فيه قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". أخرجه البخاري وغيره عن عائشة.

لكن هل هو مكروه أو قربة؟ الذي دل عليه ظاهر الخبر الأول؛ فإن البخاري ومسلم وغيرهما أخرجوا عن ابن عمر أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر، ويقول:"لا يرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل".

وفي "التتمة" في كتاب الوكالة: أن التوكيل بالنذر لا يجوز؛ لأن نفس النذر قربة؛ بدليل أنه لا يصح من الكافر على طريقة.

ويمكن أن يتوسط فيقال: الذي دل عليه ظاهر الخبر كراهة نذر المجازاة، وأما نذر التبرر وهو الذي لم يعلق على شيء؛ فيظهر أن يقال: إنه القربة؛ تمسكاً بما علل به

ص: 284

القاضي الحسين صحته، وهو أن له فيه غرضاً صحيحاً، وهو أن يثاب على القربة إذا فعلها، لو لم تكن منذورة، فإذا نذرها صارت متجهة عليه، فإذا فعلها يثاب ثواب المفترض، وثواب الفترض يزيد على ثواب المتنفل بسبعين درجة.

وفي "الحاوي": أن الحديث يدل على أن ما ينتدبه الشخص من البر أفضل مما يلزمه بالنذر.

قال: ولا يصح النذر إلا من مسلم، لأنه معنى وضع لإيجاب القربة؛ فلم يصح من الكافر؛ كالإحرام بالحج.

قال: بالغ عاقل؛ للخبر المشهور، ولأنه إيجاب حق بالقول؛ فلم يصح من الصبي والمجنون؛ كضمان المال.

وقيل: يصح من الكافر [أي]: ويلزمه الوفاء به إذا أسلم؛ لما روى مسلم والبخاري عن عمر- وهو ابن الخطاب، رضي الله عنه[أنه] قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية: أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك".

وقد وقع في الصحيح- أيضاً-: "أن أعتكف يوماً".

والمذهب الأول، والخبر محمول على الاستحباب؛ لأنه لا يحسن أن يترك بسبب الإسلام ما عزم عليه في الكفر من خصال الخير.

قال الشيخ مجلي: ويمكن بناء الخلاف على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟

قلت: وفي البناء نظر من وجهين:

أحدهما: أنه يتقضي أن يكون الصحيح الصحة؛ لأن الصحيح أنهم مخاطبون بها.

والثاني: أن القائل بأنهم مخاطبون بالفروع، قائل بعدم المخاطبة بالأداء بعد الإسلام.

ص: 285

والقائل بصحة النذر هاهنا قائل بلزوم الوفاء بالنذر بعد الإسلام؛ عملاً بظاهر الخبر.

تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في صحة النذر من المسلم البالغ العاقل بين أن يكون محجوراً عليه؛ لسفه أو فلس أو رق، أو لا ولا شك في ذل كفي السفيه والمفلس؛ إذا كان المنذور غير مال: كالصلاة والصوم، وإن كان مالاً فلا يصح من السفيه، ويصح من المفلس؛ إذا كان في الذمة، ويؤديه بعد البراءة من حقوق الغرماء، وإن كان معيناً قال في "التتمة": فيبنى على أنه لو أعتق أو وهب: هل يصح تصرفه موقوفاً أم لا؟ فإن قلنا: يصح موقوفاً، فكذلك نذره، [وإلا فلا.

وقال فيما إذا نذر المفلس عتق المرهون إن قلنا بصحة عتقه صح نذره] وإلا فهو كما لو نذر عتق عبد غير مملوك، وسنذكره.

وأما العبد فيظهر أن يقال: صحة نذره في الذمة المال كضمانه، وفي العين التي يملكها على القول القديم لا يصح كالعتق والصدقة، ونذره للحج في انعقاده وجهان سبق ذكرهما؛ أصحهما الانعقاد كالسفيه.

وعلى هذا لو أتى به في حال الرق، فثلاثة أوجه؛ ثالثها: إن كان الأداء بإذن السيد أجزأه، وإلا فلا.

وغير الحج يشبه أن يكون كالحج في انعقاد النذر به.

قال: ولا يصح النذر إلا في قربة، أما صحته في القربة وعدم صحته في المعصية؛ فدليله خبر عائشة السابق.

وقد روى مسلم وغيره في حديث طويل أنه- عليه السلام قال: "لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".

وأما عدم صحته في المباح؛ فدليله ما روى أبو داود عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، قال:"مروه فليتكلم، وليقعد، وليتم صومه"، وأخرجه البخاري وغيره.

وأبو إسرائيل هذا اسمه: قيصر العامري، وليس من الصحابة من يشاركه في اسمه ولا كنيته.

ص: 286

فإن قيل: قد روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال:"أوف بنذرك"، والضرب بالدف ليس بقربة، وقد أمرها بالوفاء به.

قيل: هو محمول على الإباحة دون الوجوب.

وقال في "البحر": إن الخطابي أجاب بأنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته، وكان مساءة للكفار، وإرغاماً للمنافقين صار فعلها كبعض القرب التي هي من نوافل الطاعات؛ ولهذا أبيح ضرب الدف، واستحب في النكاح؛ لما فيه من الإشارة بذكره، والخروج عن معنى السفاح.

وما ذكره الشيخ من عدم صحته بالمعصية هو المشهور، وقد رأيت في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الاعتكاف: أنه لو نذر أن يعتكف جنباً، فالأصح أنه ينعقد نذره.

وهل يخرج عن نذره قراءة القرآن إذا قرأ وهو جنب؟ الأصح: لا، ومقابله: نعم؛ كما يحنث إذا حلف لا يقرأ القرآن، فقرأه وهو جنب، وسيأتي في نذر صوم يوم العيد ونحوه خلاف.

تنبيهان:

أحدهما: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن كل قربة غير لازمة بأصل الشرع، تلزم بالنذر؛ كما هو قضية حد النذر الأول، وعليه ينطبق قول القاضي الحسين:"عندي كل ما يتقرب بجنسه إلى الله تعالى فرضاً أو تطوعاً ينعقد نذره عليه؛ إذا لم يكن فيه إبطال رخصة: كنذر السلام على مسلم، أو عيادة مريض، أو شهود جنازة، أو زيارة قادم؛ إذا قصد بها التقرب".

ويوافقة قول الماوردي فيما إذا قال: "إن هلك فلان فلله علي أن أهب مالي من زيد": [إنه] ينظر: فإن كان فلان من أعداء الله، وزيد ممن يقصد بهبته الأجر والثواب- انعقد نذره. وإن لم يكن فلان من أعداء الله، وزيد ممن يقصد به التواصل والمحبة- لم ينعقد.

وكذا فيما إذا قال: "لله علي أن أتزوج"، فإنه ينظر: فإن قصد به غض الطرف،

ص: 287

وتحصين الفرج- فإنه يكون قربة، قال: ويكون واجباً في أصح الوجهين يعني الآتيين فيما إذا نذر شيئاً، ولم يعلقه على شيء.

وإن قصد به الاستمتاع والتلذذ، كان مباحاً، لا يجب على الوجهين.

قال: ثم على قياس هذا في نظائره، يعني: كالأكل؛ إذا قصد به التقوية على العبادة، والنوم؛ إذا قصد به طرد الغفوة؛ حتى إذا نسك في جوف الليل، كان صاحي القلب، منتفض النفس؛ فيلزم بالنذر.

وقد ادعى الإمام في هاتين الصورتين ونظائرهما: أنه لا خلاف في عدم لزومهما بالنذر.

وحكى عن شيخه والمتقدمين: أنهم قالوا: إنما يلزم بالنذر ما له أصل في الوجوب الشرعي: كالصلاة، والصدقة، والحج ويوافقه قول القاضي الحسين.

ويحتمل أن يقال: كل ما له مثل في الشرع، فينعقد نذره، وإلا فلا، وأنه مستنبط من قول الشافعي فيما لو نذر المشي إلى المسجد الأقصى قال: لا ينعقد في قول، وفرق بينه وبين المسجد الحرام؛ وعلى هذا لا يلزم بالنذر عيادة المرضى، وزيارة القادمين، وإفشاء السلام على المؤمنين، وتجديد الوضوء؛ كما صرح بحكايته عن الشيخ أبي محمد، ويوافقة قول من حد النذر بأنه التزام قربة مقصودة غير لازمة بأصل الشرع؛ لأن العبادة المقصودة هي التي وضعت للتقرب بها، وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق باتباعها عبادة، والأظهر الأول.

قال المتولي تبعاً للقاضي: والخلاف ينبني على أن مطلق النذر يحمل على أقل ما يتقرب به أو على أقل ما يجب في الشرع من جنس الملتزم، وسيأتي هذا الأصل، إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرناه يظهر لك ما هو متفق عليه وما هو مختلف فيه، ولنذكر من ذلك نبذة:

فمن المتفق عليه: نذر الصلاة، والصدقة، والصوم، والحج، وكذا الاعتكاف.

قال الأصحاب: لأن له أصلاً ثابتاً في الشرع، وهو الوقوف بـ"عرفة"؛ لأنه لبث بمكان مخصوص.

وفيه نظر يظهر لك من كلام القاضي الذي سنذكره فيما إذا نذر شيئاً، ولم يعلقه على شيء.

ص: 288

وقال الإمام: إن فروض الكفايات التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو معاناة مشقة: كالجهاد، وتجهيز الموتى- من ذلك.

ثم قال: ولا أعرف خلافاً في لزوم الجهاد بالنذر كما حكيته عن صاحب التلخيص، وحكى الخلاف في لزوم الصلاة على الجنازة بالنذر، وكذا في الأمر بالمعروف، وما ليس فيه بذل مال وكبير مشقة من فروض الكفايات، والأظهر اللزوم.

لكن ما ادعاه في نذر الجهاد غير مسلم؛ فإن العبادي في "الرقم" حكى وجهاً عن القفال: أنه إذا نذر أن يجاهد لا يلزمه شيء.

وقد ادعى الغزالي في "الوسيط" في الباب الثاني في كيفية الجهاد من كتاب السير في المسألة الخامسة-: أنه الصحيح.

ومن المختلف فيه نذر تطويل القراءة، والركوع، والسجود في الفرائض، أو إقامة بعض الرواتب، أو أن يقرأ في صلاة الصبح سورة كذا، أو أن يصلي الفرائض بالجماعة، أو في المسجد- كما قاله في "الوسيط"- أو ألا يفطر في السفر في رمضان.

والمنسوب إلى عامة الأصحاب في الأخيرة، وبه جزم الغزالي-: أنه لا ينعقد نذره، وله أن يفطر إن شاء؛ لأن في إلزام ذلك إبطال رخصة الشرع.

والمختار عند البغوي وشيخه الصحة أيضاً، لكنه يشكل بما إذا وجب عليه كفارة يمين، فنذر تعيين إحدى الخصال؛ فإن القاضي جزم في كتاب الأيمان بعدم اللزوم؛ لأن فيه تغيير إيجاب الله تعالى.

وقد ألحق بنذر الصوم في السفر إتمام الصلاة في السفر؛ إذا قلنا: الإتمام أفضل، وما لو نذر أن يقوم في السنن ولا يقعد فيها، ويديم غسل الرجلين، ويستوعب الرأس بالمسح في الوضوء، ويغسل الأعضاء ثلاثُا ثلاثاً في الوضوء والغسل، وأن يسجد للتلاوة، أو الشكر عند ما يقتضي السجود.

وذكر الإمام على مساق وجه المنع: أنه إذا نذر المريض أن يقوم في الصلاة، ويتكلف المشقة- لم يلزمه الوفاء، وأنه لو نذر صوماً وشرط ألا يفطر بالمرض- لم يلزمه الوفاء.

ص: 289

ومنه إذا نذر أن يتيمم، فالمذهب أنه لا ينعقد نذره؛ لأن التيمم يؤتى به عند الضرورة.

فرع: إذا نذر أن يصلي الظهر في جماعة، وصححنا نذره، فصلاها فرادى- قال القاضي أبو الطيب: لا يجب عليه أن يعيدها في جماعة [لأنه لما صلاها سقط عنه الفرض، وإذا سقط عنه الفرض، سقط النذر؛ وهذا بخلاف ما لو نذر أن يصلي ركعتين في جماعة]؛ فإنه يلزمه ذلك، فإن صلاهما وحده؛ فلا يجوز؛ لأن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الواحد بخمس وعشرين درجة، وتحصيل ذلك ممكن.

وفي "التتمة" في المسألة الأولى: أنه يقضي الصلاة كما لو صلى الفرض منفرداً، ثم أدرك الجماعة، وأراد إدراك القضيلة؛ فإنه يستحب له قضاء الصلاة وهذا يظهر إذا قلنا إن الثانية هي الفرض.

التنبيه الثاني: المفهوم من عدم صحة النذر: إلغاؤه؛ حتى يصير وجوده كعدمه.

لكن القاضي الحسين حكى أنه لو قال: "إن دخلت الدار، [فلله علي عتق رقبة" يلزمه كفارة يمين، ولو قال:[نذرت لله] أن أدخل الدار"]، أوك "آكل هذا الطعام" فموجبه كفارة يمين؛ [قال- عليه السلام: "من نذر فسمى، فعليه ما سمى؛ ومن لم يسم؛ فعليه كفارة يمين".

وأشار البغوي إلى خلاف في ذلك بقوله: "لزمته كفارة يمين] على ظاهر المذهب"، وكذلك قال: إن ظاهر المذهب فيما إذا قال: "لله علي أن أصلي الظهر" أو: "أصوم رمضان" أو: "لا أشرب الخمر"، ونحو ذلك- أنه يمين حتى إذا لم يصل ولم يصم وشرب الخمر [تلزمه كفارة يمين، وهو قياس قول القاضي فيما إذا قال: "نذرت لله أن أشرب الخمر"] أن الظاهر أن عليه كفارة يمين.

قال: وقيل: لا يلزمه شيء؛ لأنه معصية؛ وهذا هو المشهور؛ كما قال المتولي، والذي عليه عامة الأصحاب من العراقيين وغيرهم؛ كما قال الرافعي، والمختار في "المرشد"، وقد نسب الأول إلى رواية الربيع واختيار البيهقي.

ص: 290

وقد يستدل له بما روى الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". وقد أخرجه أبو داود وابن ماجه، لكن الترمذي قال: إنه لا يصح؛ لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة.

وقال غيره: لم يسمعه الزهري من أبي سلمة، لكن سمعه من ابن أرقم، وهو متروك.

وعلى الخلاف يخرج ما إذا نذر ذبح ولده، أو نذرت المرأة صوم أيام حيضها، أو الصلاة فيها، ونذر صوم أيام العيدين والتشريق، ونحو ذلك.

نعم: لو نذر الصلاة في الأوقات المكروهة، فقد تقدم أن الكراهة [كراهة تحريم فيأتي فيه الخلاف مع وجه آخر حكاه الأصحاب: أنه ينعقد نذره على القضاء في غيرها] دون الوفاء به؛ وهذا هو المنقول.

ص: 291

وقد رأى الإمام أن يلحق قوله: "نذرت لله أن أدخل الدار"، ونحوه بالكناية في اليمين، فرجع إلى نيته وقصده؛ فإن إلحاق ذلك بالأيمان مطلقاً لا وجه له، والخبر الأول فيه احتمال، وهو متردد بين الغلق والتبرر.

قال: ويصح النذر بالقول، مثل أن يقول:"لله علي كذا"، أو:"علي كذا"، أي: وإن لم يضفه إلى الله تعالى. [أما في الأولى فبالاتفاق، وأما في الثانية، فلأن القربة لا تكون إلا لله تعالى].

وحكى القاضي الحسين- ومن بعده- وجهاً آخر: أنه لا يكون نذراً، والأول هو الأصح في "النهاية"، وهما جاريان- كما قال مجلي- فيما إذا أتى بلفظ يقتضي إلزاماً؛ كقوله:"يلزمني"، أو:["لازم لي"] أو: "ألزمت نفسي" أو: "أوجبت عليها"، ونحو ذلك.

قال الرافعي: وهو قريب من الخلاف في أنه: هل يجب في نية الصلاة والصوم الإضافة إلى الله تعالى؟

ومحل الخلاف- كما حكاه الإمام عن القاضي- فيما إذا كان النذر معلقاً على شيء، أما إذا قال:"علي عتق رقبة"، واقتصر على هذا، فلا يلزمه مذهباً واحداً.

قال الإمام: ولا وجه للقطع الذي ذكره؛ فإن النذر المطلق إذا جعلناه ملتزماً بمثابة النذر المعلق على الشرط عند وجوده، فإذا جرى الخلاف في النذر المعلق؛ وجب – لا محالة- إجراء مثله في النذر المطلق.

قال: وقيل: يصح بالنية وحدها؛ لأن اعتماد القربات على النية؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".

وهذا يشبه أن يكون من تخريج ابن سريج، وإن لم أقف عليه منقولاً؛ لأن الشافعي نص في الجديد على أن الصالح للأضحية والهدي لا يصير أضحية وهدياً بمجرد النية، بل لابد من القول وهو أن يقول:"جعلته أضحية"ـ، ونحوه كما تقدم، ووجهه بأن ذلك إزالة ملك على وجه القربة، يصح بالقول؛ فلم يصح بدونه مع القدرة عليه؛ كالوقف والعتق.

ونص في القديم- كما حكاه أبو الطيب- على أنه يصير كذلك إذا قلده وأشعره،

ص: 292

ونوى أن يكون أضحية أو هدياً، وإن لم يوجد النطق؛ احتجاجاً بأنه- عليه السلام "كان إذا بعث الهدي قلده وأشعره"، ولم يثبت أنه كان يقول:"هذه أضحيتي".

واختلف الأصحاب - تفريعاً على القديم-:

فقال الإصطخري بإجراء اللفظ على ظاهره.

وقال غيره: تصير هدياً وأضحية بالنية والذبح.

وقال ابن سريج: تصير هدياً وأضحية بالنية والذبح.

وقال ابن سريج: تصير هدياً وأضحية بمجرد النية؛ فلأجل هذا [قلنا] يشبه أن يكون القول بصحة النذر بمجرد النية من تخريج ابن سريج؛ لأنه لا فرق؛ ويؤيده أن الأصحاب جعلوا المذهب فيما إذا لم يعلق النذر على شيء الصحة؛ لأن الشافعي نص على أنه إذا قال: "لله علي أن أضحي" أنه يصح؛ فدل على أنه لا فرق؛ ومن هذا يظهر لك أن التخريج من القديم، والصحيح هو الجديد.

وأجاب الأصحاب بأن قوله- عليه السلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يقتضي أن يكون ما نواه له لا عليه، ولو جعلناه بمجرد النية ملتزماً، لكان عليه لا له؛ فيكون بخلاف الخبر، وسوقه- عليه السلام[الهدي] يحتمل أنه كان تطوعاً، أو عن قضاء، وبتقدير أن يكون عن نذر، فلعله تلفظ، ولم ينقل، وقد ذكرت طرفاً من ذلك في باب الأضحية؛ فليطلب منه.

قال: ومن علق النذر على أمر يطلبه، أي: من الله تعالى: كشفاء المريض، وقدوم الغائب، أي: مثل أن قال: "إن شفى الله مريضي" أو: "قدم غائبي، فلله عليه أن أتصدق بكذا"، أو:"أن أحج"، ونحو ذلك- لزمه الوفاء به عند وجود الشرط؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] وهه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري؛ لأنه كان له مال بالشام خاف هلاكه، فنذر إن وصل إليه أن يتصدق منه، فلما قدم بخل به؛ كذا قاله الكلبي.

ص: 293

وقال مقاتل: إن سبب نزولها فيه: أن مولى لعمر- وقيل: حميماً له- نذر: إن وصل إليه الدية أن يخرج حق الله تعالى منها، فلما وصلت إليه، بخل بحق الله تعالى، فلما بلغ ثعلبة ما نزل فيه، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله أن يقبل صدقته، فقال:"إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك"، فحثا التراب على رأسه، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبض منه شيئاً، ثم أتى بعده أبا بكر، فلم يقبلها منه، ثم أتى عمر، فلم يقبلها منه، ثم أتى بعده عثمان- قال الماوردي-: فلم يقبلها منه، ومات فيأيامه.

وهذا من أشد وعيد وأعظم زجر في نقض العهود ومنع النذور، ويدل عليه من جهة السنة مع ما ذكرناه في صدر الباب: ما روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عباس أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله- تعالى- أن تصوتم شهراً، فنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها- أو أختها- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها.

ومن هذا النوع ما إذا علق النذر على حصول مال له، أو ولد؛ لاشتراكهما في طلب مباح، وطرده القاضي الحسين في كل مباح.

قال الإمام في كتاب الأيمان: وكان شيخه يخصص النذر بما يظهر كونه مقصوداً، وحصوله على ندور، وقد وافقه طائفة من الأصحاب.

وحاصل الطريقة: أن التبرر لا يتحقق في النعم المعتادة، كما أنا لا نستحب سجود الشكر لها وإن كانت نعماً، وما ذكره القاضي أفقه، وأوقع، والمعتبر في سجود الشكر التعبد، ومن طريق الأولى إذا علقه على حصول طاعة، مثل أن يقول:"إن كفاني الله ظفر أعدائي بي"، أو:"رفع عني ما يقطعني عن الصلاة والصيام"، أو:"إن رزقني الله عز وجل الحج" أو: "فتح على يدي بلاد أعدائه"- فله علي كذا.

ص: 294

ولا فرق في لزوم الوفاء بالنذر في الصور التي ذكرناها بين أن يقول: "فلله علي كذا"، ويعين بعض ماله، أو يقول:"فلله علي أن أتصدق بمالي"، أو يقول:"فمالي صدقة"؛ حتى يلزمه التصدق بجميع ماله؛ الزكاة منه وغيره؛ كما في الوصية.

وقياس ما سنذكره عن القاضي أن يكون قوله: "فما لي صدقة" لغو، لكن الذي فهمته من كلامه في التعليق الأول، وهو الذي أورده الجمهور.

نعم: حكى الماوردي في أواخر كتاب الأيمان وجهين في التصدق [بجميع ما] يستر به عورته.

ولو كان المنذور الحج قال في "البحر": فلا يعتبر في وجوبه عليه الزاد والراحلة، وهل يعتبر وجودهما في وجوب أدائه؟ ظاهر المذهب أنه يعبتر.

وقال صاحب "الحاوي": فيه وجهان، حكاهما ابن أبي هريرة.

أحدهما: لا يعتبر؛ لأنه كان قادراً على استثنائه في نذره، وهو قول من لا يطرح [الغلبة] في الأيمان.

والثاني: يعتبر؛ كما قلنا في المشروع.

وهل يجب تعجيله على الفور؟ فيه وجهان.

وهل يجوز تعجيل المنذور قبل وجود الشرط؟ قال الرافعي في كتاب الأيمان: إنه يجوز، وإن [في] فتاوي القفال ما ينازع فيه.

وفصل المتولي ثم وهنا، فقال: إن كان المنذور مالاً جاز، وإن كان صوماً أو صلاة فوجهان:

ووجه الجواز: أن الصوم هاهنا أصل، فهو كالعتق في الكفالرة.

ومقابله، لم يحك الفوراني غيره.

فرع: لا يجوز تعليق النذر على مشيئة [زيد]، فإن علقه لم ينعقد، وإن شاء زيد؛ لأنه لم يوجد منه التزام جازم كما يليق بالقربات؛ كذا حكاه القاضي الحسين والماوردي.

وقال الإمام: هذا عندي خطأ؛ فإن تقديره: فإن شاء زيد، فلله علي [صوم فهو بمثابة ما لو قال: إن قدم فلله علي صوم أو غيره. ولا نزاع بينها في أنه لو قال: لله

ص: 295

علي] أن أصوم – إن شاء الله تعالى- أنه لا يلزمه شيء بالنذر، نعم نقل الإمام في كتاب الاعكاف عن صاحب "التقريب" فيما لو قال الناذر:"لله علي أن أتصدق بعشرة دراهم إلا أن أحتاج قبل التصدق" واحتاج، هل يسقط واجب النذر؟ - أنه قال: المسألة محتملة.

وكذلك لو فرض في نذر الصلاة والصوم وغيرهما من القرب الملتزمة بالنذر، وطرد هذا فيما إذا قال:"لله علي شيء من ذلك إلا أن يبدو لي"، وزعم أن المسألة محتملة إذا بدا له.

نعم: ذكر شيخي أنه استثنى في هذه القربات ما يتعلق به غرض: كالافتقار في نذر الصدقة، أو ما يناظر هذا في كل قربة- فالاحتمال لائح، وأما إذا قال:"إلا أن يبدو لي"، فالأوجه إبطال هذا الاستثناء، وقد يتجه عندنا إفساد النذر في هذه الصورة.

قال: ومن نذر شيئاً، ولم يعلقه على شيء؛ أي: مثل أن قال: "لله علي أن أتصدق بمالي" أو: "أن أحج"، ونحو ذلك- فقد قيل: لا يصح؛ لأن أهل اللغة قالوا- كما حكاه ثعلب-: النذر هو وعد بشرط، ولم يوجد هاهنا شرط؛ فلم يوجد النذر الذي تقدمت النصوص على الوفاء به.

ولأن الحقوق على ضربين: حق لله تعالى، وحق للآدمي، ثم [ثبت أن] حق الآدمي إذا كان بعوض؛ لزم الوفاء به: كالبيع وغيره، وما لا يكون بعوض: كالهبة، لا يلزمه الوفاء به؛ [فكذلك حقوق الله تعالى ما لم يكن فيها عوض، لا يلزم أن يفي بها]. وتحريره قياساً: أنه إلزام حق من غير عوض؛ فلم يلزم بالقول؛ كالوصية، والهبة؛ وهذا قول أبي إسحاق، وأبي بكر الصيرفي، ونسبه المتولي إلى جماعة من الأصحاب، وحكاه القاضي الحسين [قولا]؛ أخذاً من قول الشافعي في هذا الموضع:"إن أعمال البر لا تكون إلا ما فرض الله أو تبرراً"، وفسر التبرر بما إذا قال:"إن شفى الله مريضي، فلله علي كذا".

قال: والمذهب أنه يصح؛ لعموم الأدلة السابقة، وما ذكر من أنه لا يسمى نذراً؛ إذا لم يعلق بشرط- ممنوع؛ لأن الله تعالى- قال حاكياً عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا

ص: 296

فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] فأطلق نذرها، ولم يذكر تعليقه بشرط وجزاء؛ فدل على صحة التسمية بدون الشرط؛ وهذا ما ادعى البندنيجي: أنه المنصوص عليه في كتبه، ونسبه القاضي أبو الطيب وغيره إلى قول ابن سريج، والإصطخري، وابن أبي هريرة.

قال القاضي: وإنما كان كذلك؛ لأن الشافعي قد نص عليه، وقال:"إذا قال: "لله علي أن أضحي"، أو: "لله علي أن أعتكف"، يلزمه ذلك"، كذلك هاهنا.

وبالجملة: فالذي ذهب إليه الأكثرون من أصحابنا- كما قال القاضي الحسين-: الصحة.

وكذلك قال في "البحر" في آخر كتاب "الأيمان": إن الجمهور قطعوا بها وصحح هذه الطريقة.

قال القاضي: ومن قال بالأول، قال: إنما لزم الاعتكاف بالنذر؛ لأنه ليس له أصل في الوجوب ابتداء، وكان نذره له سبيلاً إلى إيجابه، ولا كذلك الصلاة والصوم والحج؛ وهذا منه يدل على أنه لا خلاف في لزوم الاعتكاف، وكذلك في الأضحية؛ [نظراً للعلة المذكورة.

وقد وافق البندنيجي على الجزم باللزوم في الأضحية، وحكى الخلاف في الاعتكاف، وكذلك حكاه فيه الماوردي أيضاً هاهنا، والإمام في كتاب الأضحية].

وقد ادعى القاضي الحسين في أواخر كتاب الأيمان: أنه لو كان له مريض، فشفاه الله تعالى، فقال:"لله على عتق رقبة؛ لما أنعم الله علي من شفاء مريضي" يلزمه الوفاء بالمنذور قولاً واحداً؛ كما لو علق العتق بشفائه.

وعنه أنه لو قال ابتداءً: "مالي صدقة"، أو:"في سبيل الله" أنه لغو؛ لأنه لم يأت

ص: 297

بصيغة إلزام، وهو ما رآه الغزالي أظهر.

وقال في "التتمة": إن [كان] المفهوم من اللفظ في عرفهم معنى النذر أو نواه، فهو كما لو قال:"لله علي أن أتصدق بمالي" أو: "أنفقه في سبيل الله"، وإلا فلا حكم له.

وعن الشيخ أبي محمد ذكر طريقين:

أحدهما: حمل ما ذكره على النذر المطلق؛ فيكون فيه الخلاف السابق.

والثاني: أن ماله يصير بهذه اللفظة صدقة؛ كما لو قال: "جعلت هذه الشاة ضحية"، واستبعده الإمام، وقال فيما إذا قال:"إن دخلت الدار، فمالي صدقة": إنه لغو عند القاضي، وعلى طريقة شيخه يكون تعليق إيقاع في طريقة، ونذر لجاج [وغضب في طريقة].

والذي رأيته في "تعليق" القاضي: أنه يكون نذر لجاج وغضب حتى يلزمه أن يتصدق بجميع ماله حتى [ثياب بدنه] ونفقة يومه على قول.

قال: ومن نذر شيئاً على وجه اللجاج والغضب بأن قال: "إن كلمت فلاناً أي: أو: إن لم أكلمه"، أو:"إن دخلت الدار" أو: "إن لم أدخلها"، ونحو ذلك- فعلي كذا، فهو بالخيار عند وجود الشرط بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين.

ووجهه: أنه إن اختار الوفاء، فهو الذي صرح بإلزامه؛ فلم يلزمه غيره؛ كما في النذر المعلق على أمر يطلبه؛ وعملاً بقوله- عليه السلام:"من نذر وسمى، فعليه ما سمى".

وإن اختار كفارة اليمين، فهي التي أوجبها ظاهر أدلة الشرع؛ قال الله تبارك وتعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وهذا حلف؛ لأنه يقال: حلفت بطلاق امرأتي، وبعتق عبدي لا فعلت كذا، وهو إجماع الصحابة.

روي أن رجلاً أتى عمر فقال: إني جعلت مالي في رتاج الكعبة إن كلمت أخي، فقال: إن الكعبة لغنية عن مالك، كلم أخاك، وكفر عن يمينك.

ص: 298

وقد روي نحو هذا اللفظ عن عائشة وحفصة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة- رضي الله عنهم ولم يظهر لهم فيه مخالف.

وروى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة النذر كفارة يمين".

وباتفاق لا يكفر عن نذر التبرر وهو النوع الأول والثاني؛ فتعين أن يكون المراد به نذر الغلق وهو هذا، وسمي به؛ لأنه يغلق به على نفسه طريق الفعل أو الترك؛ كما سمي: نذر لجاج وغضب؛ لأنه إنما يقع غالباً في حالة الغضب.

ولأن هذا الفرع أخذ شبهاً من أصلين: من نذر المجازاة؛ لأنه التزام طاعة، ومن اليمين وهو منع نفسه من الفعل أو الترك، والفرع إذا أخذ شبهاً من أصلين لا يمكن الجمع بينهما، يجب أن يكون مخيراً في إلحاقه بأيهما شاء؛ وهذا ما حكاه الماوردي وابن الصباغ عن مذهب الشافعي [رحمه الله تعالى- ولم يورد القاضي أبو الطيب سواه، وبعضهم قطع به.

قال الرافعي] ومنهم من يقول: إنه غير منصوص عليه.

وقيل: إن نذر حجاً لزمه؛ لأنه لما لزم بالدخول فيه، كان أغلظ من غيره؛ فلزم بالنذر. ومن هذه العلة يظهر لك أن العمرة تلزم به على هذا؛ كما صرح به الأصحاب؛ وهذا أخذه الشيخ أبو حامد من قول الشافعي:"فيه قولان".

قال: وليس بشيء؛ لأن العتق أيضاً يلزمه إتمامه بالتقويم؛ فكان أغلظ من غيره، وهو لا يلزم بالنذر، وقول الشافعي:"فيه قولان"، أراد للفقهاء؛ لأن لهم في الصدقة ستة أقاويل حكاها، وليس لهم في الحج إلا قولان: إما التزامه، وإما التخيير بينه وبين التكفير، وإن كان مذهبه فيه التخيير.

قال البندنيجي: وهو الذي نص عليه، والذي حكاه المراوزة في المسألة ثلاثة أقوال:

ص: 299

أحدها: قول التخيير، واختاره القاضي الحسين لنفسه، وقال: إن الشيخ- يعني: القفال- استنبطه مما إذا قال: "إن قربتك، فعلي صوم هذا الشهر"، فليس بمول يضيق عليه؛ لأنه لا يخاف من التزام شيء بعد المدة، وإنما هو حالف: إن قربها في خلال الشهر، صام بقية الشهر، أو كفر كفارة اليمين؛ فيصير على التخيير.

والثاني: أنه يلزمه الوفاء بما نذر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر وسمى [فعليه ما سمى".

قال في "البحر": وهذا أخذ من قول الشافعي في الاعتكاف: "لو قال: إن فعلت] كذا وكذا، فعلي اعتكاف شهر"[وكان] قد فعل ذلك الشيء_ فعليه اعتكاف شهر.

والقائلون بالتخيير، قالوا: ما ذكره في الاعتكاف ليس بقول آخر في المسالة، بل هو أحد الشيئين المخير فيهما.

والثالث: أنه يلزمه كفارة يمين؛ لما ذكرناه من الأخبار والآثار، وقد ادعى الإمام والقاضي الحسين: أنه المنصوص، والصحيح، وبالتصحيح قال- أيضاً- البغوي، وإبراهيم المرورذي، والموفق بن طاهر، ومنهم من قطع به، ونفي ما عداه.

وحكى الصيدلاني وغيره عن القفال: أنه أنكر هذا القول، ولم يثبت في المسألة إلى قول التخيير وقول وجوب الوفاء بما نذر، لكن نقل بعضهم أنه سمع الحليمي يقول: إن الشافعي نص عليه، فلما قدم على القفال حكى له ذلك، فلم يصدقه، ثم عاد إلى الدرس في اليوم الثاني، فقال للناقل: أسهرتني البارحة، طالعت الكتب، فوجدت النص كما ذكرته عن الحليمي.

قال الرافعي: فلعل ما حكاه الصيدلاني وغيره كان قبل هذه الحكاية، وعلى هذا هل يجزئه الوفاء بما نذر عن الكفارة؟

قال الرافعي: فيه وجهان في شرح مختصر الجويني، والظاهر المنع.

وقد حكى الوجهين الإمام أيضاً، ثم قال: وقول الإجزاء زلل عظيم؛ فإنه قول التخيير بعينه؛ فلا معنى لاعتقاد مزيد في التفريع على قول التخيير.

وكلام الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ يقتضي أنه غيره؛ لأنهم بعد حكاية قول التخيير عن المذهب، قالوا: ومن أصحابنا من قال: الواجب عليه كفارة يمين، وله أن

ص: 300

يسقطها بالوفاء بما نذر، وهو الأفضل.

قال ابن يونس: بشرط ألا يكون أقل من الكفارة؛ كما تقول فيمن ملك خمساً من الإبل: يلزمه شاة، وله إسقاطها بإخراج بعير.

قال الرافعي: وعلى القول بعدم الإجزاء إن كان الملتزم من جنس ما تتأدى به الكفارة، فالزيادة على قدر الكفاءة تقع تطوعاً، وإن كان المنذور عبداً لا يجزئ في الكفارة لا يجزئه عتقه عن النذر.

فروع:

أحدها: لو قال: "إن دخلت الدار، فلله علي نذر"، قال في "الحاوي" لزمته كفارة يمين؛ لأنها معلومة، وموجب النذر المطلق مجهول؛ فلم يجز أن يقع التخيير بين معلوم ومجهول، وهذا ما حكاه البغوي وغيره.

وقال القاضي الحسين: إنه المنصوص، وإن أصحابنا ذكروا وجهين.

وعندي أن ذلك مبني على أن موجب يمين المعلق ماذا؟ فإن قلنا: موجبها الكفارة، فعليه كفارة يمين، وإن قلنا: موجبها الوفاء، فيؤمر بتسمية شيء يتقرب به.

قال الرافعي حكاية عنه وعن غيره: وإن قلنا بالتخيير تخير [بين] ما ذكرناه وبين الكفارة.

الثاني: إذا قال: "إن فعلت كذا، فعلي كفارة يمين"، قالوا:[تلزمه] كفارة يمين بلا خلاف، وإن قال:"فلله علي يمين"، فالصحيح في "النهاية" أنه لغو؛ فإنه لم يأت بنذر ولا بصيغة يمين، وليست اليمين مما يلزمه في الذمة.

ومنهم من قال: عليه ما على الحالف إذا حنث.

قال الإمام: والوجه عندنا في هذه الطريقة أن يلحق هذا بالكنايات المحضة، ويرجع إلى نيته وقصده.

ولو قال: "نذرت لله أن أفعل كذا"، فإن نوى اليمين فهو يمين، وإن أطلق فوجهان، أوردهما الفوراني والبغوي.

الثالث: إذا قال في نذر اللجاج والغضب: "إن كلمت فلاناً، فلله علي حج وعتق وصدقة".

ص: 301

قال الإمام: كان شيخي يتردد في ذلك، فربما كان يقول: إن فرعنا على قول الكفارة عددناها بتعدد الأجناس؛ وهذا أبداه في معرض الاحتمال، ثم استقر جوابه على اتحاد الكفارة، وهو الذي يجب القطع به؛ فإنا إذا لم نوجب الوفاء؛ فلا حاصل إلى النظر [إلى] الملتزم تعدد أو اتحد، بل التعويل على الالتزام فيما يصح التزامه، ثم يحاد عنه إلى الكفارة، وما قدمناه غير معتد به، ولا خلاف أنه لو ذكر حججاً لم تتعدد الكفارة.

الرابع: إذا قال: "إن دخلت البصرة"، أو:"إن رأيت زيداً، فمالي صدقة" أو: "علي حج"، ونحو ذلك- قال في "الحاوي": إنه ينظر: فإن أراد به الترجي لدخول البصرة ولقاء زيد، فهو معقود على فعل الله دون فعل نفسه، فهو نذر جزاء وتبرر؛ فيلزم الوفاء بنذره.

وإن أراد منع نفسه من دخول البصرة ورؤية زيد، فهي يمين عقدها على نذر؛ فيكون مخيراً فيها بين الوفاء والتكفير، ويجيء فيه الأقوال الباقية.

وهكذا الحكم فيما لو قال: "إن صليت فلله علي صوم يوم": إن أراد: إن وفقني الله للصلاة صمت، كان نذر مجازاة؛ فيلزمه الوفاء بما نذر. وإن قصد منع نفسه من الصلاة، كان نذر لجاج وغضب؛ فيجيء فيه الأقوال.

ولو قال: "لا صليت الظهر" لم يجيء فيه إلا نذر اللجاج.

ولو قال: "إن لم أَزْنِ، فلله علي صوم يوم": فإن قصد: إن عصمني الله من الزنا، فهو نذر مجازاة.

وإن قصد حث نفسه على الفعل، فهو نذر لجاج وغضب.

ولو قال: "إن زنيت، فلله علي كذا"، لم يتصور فيه إلا نذر اللجاج والغضب، [والله أعلم].

قال: ومن نذر الحج راكباً، فحج ماشياً، لزمه دم.

هذا الفصل ينظم حكمين:

أحدهما: صحة نذره في لزوم الركوب في الحج المنذور، وللأصحاب فيه خلاف مبني على أن الأفضل الحج راكباً أو ماشياً؟ وفيه قولان مشهوران حكاهما القاضي

ص: 302

أبو الطيب وغيره [في باب المواقيت]:

أحدهما: أنه راكب أفضل؛ لأنه- عليه السلام حج راكباً؛ وهذا ما ادعى النواوي في "الروضة" في كتاب الحج: أنه المذهب، ولم يحك في "المهذب" ثم غيره؛ فعلى هذا يلزمه الدم؛ كما صرح به الشيخ، وهو الحكم الثاني؛ لأنه قد ترفه بتركه مؤنة الركوب.

وفيه قول آخر: أنه لا يجزئه الحج ماشياً عن نذره؛ كما سنذكر مثله في المسألة الآتية؛ صرح به المتولي؛ حيث قال: إن الحكم في هذه المسألة تفريعاً على هذا كالحكم في تلك المسألة.

والقول الثاني: إن المشي أفضل؛ لقوله- عليه السلام لعائشة- رضي الله عنها: "أجرك على قدر نصبك"، ولأن المشي إلى العبادة أفضل من الركوب إليها؛ ولهذا روي أنه- عليه السلام لم يركب في عيد ولا جنازة قط؛ وهذا هو الصحيح في "التهذيب" وغيره، والمنصوص عليه في "المختصر"، ولم يورد القاضي أبو الطيب وابن الصباغ سواه هنا؛ فعلى هذا هو مخير بين المشي والركوب؛ كما قال المتولي، ولا يلزمه الدم؛ لأنه فعل الأفضل.

لكن القاضي أبا الطيب والبندنيجي جزما القول بلزوم الدم عند ترك الركوب.

وقال القاضي: إنه لو أكرى ما يركبه، واختار المشي، جاز؛ لأنه قد تكلف المؤنة التي شرطها.

وإيراد البغوي يقتضي: أن ما ذكره الشيخ هو المذهب أيضاً؛ لأنه الذي صدر به كلامه، ثم قال: وقال الشيخ: عندي لا دم عليه؛ لأن عدوله عن الطريق الأسبق؛ لزيادة الثواب؛ فلا دم عليه.

ووراء ما ذكرناه من القولين في أن الأفضل الركوب أو المشي؛ وجهان.

أحدهما: عن الصيدلاني أنهما سواء، وقد حكاه في "البحر" قولاً.

ص: 303

قال الرافعي: وقد يوجه ذلك بتعارض المعنيين.

والثاني- عن ابن سريج-: التسوية بين الركوب والمشي ما لم يحرم، فإذا أحرم، فالمشي أفضل.

وقال في "الإحياء": ينبغي أن يفصل؛ فيقال: من سهل عليه المشي فالمشي في حقه أفضل؛ لأن الصوم للمسافر والمريض- ما لم يؤد إلى ضعف وسوء حال- أفضل.

قال: ومن نذر الحج ماشياً، أي: بأن قال: "إن شفى الله مريضي فلله علي أن أحج ماشياً" أو: "أمشي حاجاً" لزمه الحج؛ لما سبق من الأدلة.

قال: ماشياً، أي: تفريعاً على الصحيح في أن المشي إلى العبادة أفضل.

قال: من دويرة أهله، أي: يحرم بالحج، ويمشي من دويرة أهله؛ كما قاله المتولي والماوردي والعمراني في "الزوائد"؛ لأن إتمام الحج في الأصل يتعلق بذلك؛ قال الله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال عمر وعلي- رضي الله عنهما: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك.

وإذا كان كذلك فتأخيره إلى الميقات رخصة، فإذا نذر رجع إلى الأصل؛ وهذا قول أبي إسحاق؛ كما قال المتولي.

وقيل: من الميقات؛ لأن المطلق يحمل على ما عهد لزومه شرعاً، وهو الإحرام من الميقات؛ وهذا قول عامة الأصحاب؛ كما قال ابن يونس.

والوجهان متوافقان على أنه حيث يلزمه الإحرام يلزمه المشي، وحيث لا يلزمه الإحرام لا يلزمه المشي؛ فلا ينفك أحدهما عن الآخر.

وفي كلام المراوزة خلافه؛ فإن القاضي الحسين وغيره قالوا فيما إذا قال: "لله علي أن أحج ماشياً"، أو:"أمشي حاجاً"- في المسألة ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يلزمه المشي من مخرجه الذي يخرج منه.

والثاني: من مكان الإحرام؛ لأنه نذر الحج ماشياً، وإنما يصير شارعاً في الحج بالإحرام؛ وهذا ما صححه الرافعي، وقال: إن به قطع قاطعون، وردوا الخلاف إلى ما

ص: 304

إذا نذر المشي إلى مكة، أو إلى بيت الله تعالى، وسيأتي القول فيه، إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا جرى صاحب "البحر" والقاضي أبو الطيب.

والثالث: إن قال: "أمشي حاجاً" يمشي من مخرجه؛ لأن هذا يقتضي أن يمشي في القصد إلى الحج.

وإن قال: "أحج ماشياً" يمشي من مكان الإحرام؛ لأنه [لا] يحج قبل ذلك؛ وهذا ما أورده الفوراني، وقال الإمام: إنه ضعيف صادر عن الجهل بالعربةي، ومقتضى الألفاظ؛ فإنه لا فرق بين أن يقول القائل:"أمشي حاجاً" وبين قوله: "أحج ماشياً"، واللفظان جميعاً يقتضيان اقتران الحج [والمشي]، وما ذكروه من لزوم المشي من مخرجه قبل الإحرام مفرع على أنه لو صرح في نذره بالمشي من مخرجه، يلزمه كما [هو] وجه [حكاه الإمام ومن تبعه، ورآه الرافعي أقرب.

أما إذا قلنا بأنه لو صرح به لا يلزمه إلا من وقت الإحرام، كما هو وجه] آخر، فلا يلزمه المشي عند الإطلاق إلا من وقت الإحرام وجهاً واحداً.

وقد وجه عدم لزوم المشي من مخرجه عند التصريح بالتزامه بأن المشي قبل الإحرام [لا قربة فيه.

وقال الإمام: إن للخلاف التفاتاً على أن الأجير في الحج إذا مات في الطريق] هل يستحق شيئاً من الأجرة أم لا؟

والخلاف المذكور [جارٍ] فيما لو نذر العمرة ماشياً، من أي موضع يلزمه المشي؟ كما قاله الماوردي.

قال: ولا يجوز أن يترك المشي إلى أن يرمي في الحج؛ أي: جمرة العقبة؛ إذا جعله آخر التحللين، ويفرغ من العمرة، أي: إن كان المنذور عمرة؛ لأن بذلك يحصل الخروج من الإحرام بهما؛ وهذا ما أورده البندنيجي وابن الصباغ والبغوي، وهو المنصوص، وكذلك ادعى القاضي أبو الطيب: أنه المذهب.

وحكى مع القاضي الحسين والإمام وجهاً آخر: أنه يجوز له ترك المشي بالتحلل الأول في الحج؛ لأنه فارق اسم الحج المطلق؛ ولهذا يلبس، ويحلق، ويتطيب.

ص: 305

وقال الروياني: إنه غلط، وجعله الغزالي الأظهر، ولا يظهر لهذا الوجه أثر في العمرة، فإنا إن قلنا: إن الحلق نسك، فلا يخرج من العمرة إلا به؛ فلا يركب حتى يأتي به.

وإن قلنا: إنه استباحة محظور، فقد خرج من العمرة بالطواف والسعي؛ فيجوز له أن يركب.

قال القاضي الحسين: والخلاف في المسألة أخذ من قول الشافعي: ولا يترك المشي إلى أن يحل له النساء:

فمنهم من قال: وطئاً؛ فعلى هذا لا يحل له الركوب إلى أن يتحلل التحلل الثاني.

ومنهم من قال: عقداً؛ فعلى هذا يمشي إلى أن يتحلل التحلل الأول؛ فإن العقد يحل له بذلك على أظهر القولين.

ولا خلاف في أنه لا يلزمه المشي لرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق.

[قال:] فإن حج راكباً من غير عذر، فقد أساء؛ لأنه ترك ما وجب عليه مع القرة، وعليه دم؛ لأنه أتى بأصل الحج؛ وترفه بترك صفة فيه؛ فلزمه الدم؛ كما لو تطيب؛ وهذا هو الجديد؛ كما قال المتولي.

وحكى القاضي الحسين والإمام قولاً نسبه المتولي إلى القديم: أنه لا يحسب له هذه الحجة عن نذره؛ لأنه نذر أن يحج ماشياً، وألزم المشي فيه، ولم يأت بما التزم.

قال القاضي والمتولي: وعلى هذا القول فرع الشافعي؛ فقال: لو مشى بعض الطريق، وركب في بعض؛ قضى، ومشى فيما ركب، وركب فيما مشى.

قال الإمام: ولا يتصور على مذهب الشافعي تطوعاً يسبق الحج الواجب إلا في هذه الصورة على هذا القول.

وقد حكى الغزالي –تفريعاً على الجديد وجهاً-: أنه لا يجب الدم.

قال: وإن حج راكباً؛ لعذر- أي: بأن عجز عن المشي- جاز، أي: الركوب؛ لما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادي بين اثنين، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي، فقال: إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه،

ص: 306

وأمره أن يركب".

ورويا عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لتمش ولتركب"؛ أي: لتمش ما قدرت، ولتركب إذا عجزت.

قال: وعليه دم في أصح القولين؛ لما روى أبو داود عن كريب عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أختي نذرت -يعني: أن تحج ماشية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً؛ فلتحج راكبة، وتكفر عن يمينها".

ص: 307

وعن عكرمة عن ابن عباس أن أختب عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الل، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هدياً.

قال الإمام: وحديثها محمول على العجز، فإن المرأة لا تستقل بالمشي في غالب الأمر.

وأخت عقبة: هي [أم] حبان بنت عامر.

ولأن ما وجب بتركه [الدم] مع القدرة، وجب بتركه مع العجز؛ كسائر المناسك.

والقول الثاني: لا يلزمه شيء؛ كما لو عجز عن القيام في الصلاة التي نذر القيام فيها، فصلى قاعداً؛ فإنه لا يلزمه شيء؛ لأنه ليس من أبعاض الحج شرعاً؛ وهذا قال في "التتمة"، و"البحر": إنه المذهب؛ فإنه قال: وإذا ركب أراق دماً؛ احتياطاً من قبل أنه إذا لم يكن مسيئاً سقط.

والقائلون بالأول، فرقوا بين الصلاة والحج بما أشار إليه الشافعي، وهو أن الصلاة لا تصلح بالمال؛ بخلاف الحج.

وقد أشار المتولي إلى أن الخلاف في المسألة انبنى على أن من نذر أن يصوم متتابعاً، فأفطر بالمرض، هل ينقطع التتابع أم لا؟

أما إذا قلنا: إن الركوب أفضل من المشي، لم يلزمه المشي عيناً، وإذا ركب فلا دم عليه.

وقد جمع في "الحاوي" بين مسألة نذر الحج راكباً، ونذره ماشياً، وقال: فيهما ثلاثة أوجه:

أحدها: لا يلزمه الركوب، ولا المشي؛ لأنه لما لم يجب واحد منهما بالشرع، لم يجب بالنذر، فله أن يركب إن شرط المشي، ويمشي إن شرط الركوب؛ لأنه- عليه السلام خير أخت عقبة بن عامر في الركوب والمشي.

قلت: ولهذا الوجه مأخذان:

أحدهما: أنه لا يلزم بالنذر إلا ما له أصل في الوجوب؛ كما ذهب إليه الشيخ أبو محمد وغيره.

ص: 308

والثاني: أن المشي مساوٍ للركوب في الأفضلية- كما تقدم- فلا جرم، خير بينهما.

الوجه الثاني: أنهما يجبان؛ لأن في المشي زيادة عمل، وفي الركوب زيادة نفقة، وكلاهما قربة.

والثالث- قال: وهو الأشبه-: إنه يلزم المشي دون الركوب؛ لأن في المشي مضشقة؛ فلزم لتغليظه، وفي الركوب ترفه؛ فلم يلزم لتخفيفه، وأداء الأخف بالأغلظ مجزئ دون العكس.

قال: وعلى الأول يلزمه أن يحرم بالحج من الميقات، وعلى الثاني من حين خروجه [من دويرة أهله.

وعلى الثالث: إن كان قد نذر الحج ماشياً فمن حين خروجه]، وإن كان قد نذره راكباً فمن الميقات.

وحيث قلنا: يلزم الركوب أو المشي، فترك أحدهما إلى الآخر، فهل يلزمه الجزاء؟

فيه ثلاثة أوجه؛ ثالثها: يلزمه إن ترك المشي إلى الركوب، ولا يلزمه إن ترك الركوب إلى المشي؛ وهذا إذا كان الركوب لغير عذر، فإن كان لعذر ففي وجوبه- والحالة هذه- إذا قلنا بوجوبه في الحالة الأولى. وجهان.

أحدها: يلزمه بدنة؛ قاله في "التتمة".

والثاني: فدية الحلق، وهو الصحيح في "التتمة".

والثالث- حكاه الماوردي مع الذي قبله-: أنه يلزمه فدية التمتع.

وقد ادعى القاضي أبو الطيب في أثناء كلامه في المسألة: أنا أجمعنا على [أن] البدنة لا تجب عليه.

واعلم أن ما ذكرناه في لزوم الركوب والمشي بالنذر إذا كان الحج منذوراً أيضاً.

أما لو نذر الركوب أو المشي في حجة الإسلام، فإن قلنا: لا يلزم عند نذره في

ص: 309

الحج المنذور، فهاهنا أولى؛ وإن قلنا: يلزم [ثمّ] فهاهنا الوجهان المذكوران فيما لو نذر طول القراءة والركوع والسجود في الصلاة المفروضة؛ قاله الغزالي، وهما جاريان فيما لو نذر أن يحرم بالحج من شوال، والأظهر فيها- وهو اختيار صاحب "التهذيب"- اللزوم، وكذا لو نذر أن يحرم من بلد كذا.

فروع:

أحدها: إذا فاته الحج الذي نذره، ونذر المشي فيه بعد التلبس به، فقولان:

أحدهما: يمشي إلى أن يتحلل من الفائت؛ لأنه يأتي بهذه البقية بحكم الإحرام؛ وهذا هو المنصوص في "الأم"، والأصح عند القاضي الطبري والروياني.

والثاني: لا يلزمه المشي؛ لأن الفائت ليس هو الحج المنذور؛ بدليل أن الفرض لا يسقط به؛ وهذا أصح عند الشيخ أبي حامد والقفال والصيدلاني والقاضي الحسين وغيرهم.

[و] هل يعتد بمشيه في الفاسد؛ حتى يركب في القضاء حيث مشى؟ فيه وجهان في "الحاوي" وأظهرهما: أنه لا يعتد به.

والنص الذي حكيناه عن القديم يوافق مقابله.

وهل يجب القضاء على الفور؟ فيه وجهان إذا قلنا: إن الوفاء بالحج المنذور لا يجب على الفور؛ وهذا إذا كان الحج المنذور غير مخصوص بزمان معين، فإن كان قد عينه بأن قال:"إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أحج في العام القابل"، فعليه أن يحج فيه، وفي جواز تقديمه عليه وجهان:

وجه الجواز: أنه يجوز تقديم حج الفرض قبل وجوبه.

والأصح في الرافعي مقابله.

ص: 310

وإذا أحرم به ففاته؛ ففي وجوب قضائه قولان:

فإن قلنا: لا يلزمه، لزمه المشي فيه حتى يتحلل.

وإن قلنا: يلزمه القضاء؛ ففي مشيه فيه إلى أن يتحلل القولان السابقان فيما لو [لم] يعين وقت الحج، وأحرم به، وفاته.

ولو أخره عن الوقت المعين، فإن كان بغير عذر، لزمه قضاؤه؛ وإن كان بعذر، ففي لزوم القضاء القولان في الفوات، والله أعلم.

قال: ومن نذر المضي إلى مكة أو إلى الكعبة- أي: وأطلق- لزمه قصدها_ لأن الله تعالى أوجب قصد ذلك والإتيان إليه؛ فلزم بالنذر كسائر القرب.

قال: بحج أو عمرة؛ لأن مطلق كلام الناذرين محمول على ما ثبت له أصل في الشريعة؛ كمن نذر أن يصلي، تلزمه الصلاة المعهودة، وإن كانت الصلاة في اللغة الدعاء، والمعهود في الشريعة قصد مكة والكعبة بحج أو عمرة، فحمل نذره عليه؛ وهذا ما نص عليه الشافعي؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره، وبه قال بعض المراوزة، كما حكاه القاضي.

ونقل عن بعضهم- وبه قال أبو علي بن أبي هريرة؛ كما قاله الماوردي-: أن هذا إذا قلنا: إن دخول مكة يقتضي الإحرام، أما إذا قلنا: لا يقتضيه؛ ففي انعقاد نذره قولان؛ كما إذا نذر المضي إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى؛ وهذا ما أورده القاضي الحسين في كتاب الحج، وقال الصيدلاني وغيره: إن إيجاب الحج أو العمرة عليه مفرع على القول بأن مطلق النذر يحمل على الواجب شرعاً.

أما إذا قلنا: لا يحمل على الواجب شرعاً، انبنى على أن دخول مكة يقتضي إحراماً بحج أو عمرة أو لا؟

فإن قلنا: يقتضيه، فالأمر كذلك؛ وإن قلنا: لا يقتضيه، فهو كما لو نذر إتيان مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى؛ فيكون في انعقاد نذره قولان.

فإن صححناه، قال القاضي الحسين [هنا:] خرج عن موجب نذره بركعتين يصليهما في البيت الحرام، وقال في كتاب الحج: إنه يكون مخيراً: إن شاء طاف بالبيت، وإن شاء صلى ركعتين.

ص: 311

وقال الرافعي: إنه يكون التفريع عليه كالتفريع على القول بانعقاد نذره بإتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى كما سنذكره، إلا أن من قال ثم: إنه يتعين عليه الاعتكاف [فيه]؛ لاختصاص الاعتكاف بالمسجد- قال بدله هاهنا: إنه يتعين عليه الحج أو العمرة؛ فإنهما يختصان بالحرم؛ وقد صرح به الإمام- أيضاً- ثم قال: ولو ذكر ذاكر الطواف المحرم، لم يعد.

قلت: وهذا ما حكيته عن القاضي.

والمخير ثَمَّ، يخير هاهنا بين النسك والاعتكاف والطواف والصلاة؛ وعلى ما حكاه الماوردي؛ ينضم إلى ذلك الصوم.

وقد قال الماوردي: إن ما ذكره أبو علي من التخريج في الأصل الذي انبنى عليه هذا التفريع وإن كان محتملاً؛ فإنما يستعمل مع عدم النص، وقد نص الشافعي على وجوب إحرامه في النذر بحج أو عمرة؛ فلم يجز العدول عنه إلى تخريج ما يخالفه.

والفرق بينه وبين سائر البقاع- كما ذكرنا- بخلاف غيره؛ وهذا الخلاف يجري فيما لو قال: لله علي أن أمضي إلى الصفا والمروة أو منى أو مسجد الخيف، أو إلى أي بقعة كانت من الحرم، بخلاف ما لو نذر المضي إلى مر الظهران، أو إلى الميقات، أو إلى عرفات، أو إلى أي موضع كان من الحل؛ فإنه لا يلزمه شيء.

وقال الماوردي: لو قيل: ينعقد النذر في نذره المضي إلى عرفات، كان مذهباً، ويكون المنعقد بنذره الحج دون العمرة؛ لاختصاص عرفة بالحج؛ وهذا لأن قصده عرفة يجب بالشرع- فوجب بالنذر.

ولا يطرد هذا في الميقات؛ لأنه لا يلزمه قصده شرعاً؛ لانعقاد الإحرام قبله وبعده.

وحكى الإمام عن القاضي: أنه تردد جوابه في المسألة:

فقال مرة: إنه يلزمه الحج؛ إذا أطلق إتيان عرفة، وهذا موافق لاحتمال الماوردي.

وقال مرة: إن خطر له شهود عرفة في يوم عرفة، لزمه؛ كما لو نذر المضي إلى بيت الله الحرام.

وإذا كان هذا مع خطور ذلك بباله؛ فمع تصريحه به في نذره بأن يقول: "لله علي

ص: 312

أن آتي عرفة في يوم عرفة" أولى، وهو ما أورده القاضي في تعليقه.

وقد نسب الرافعي القول بلزوم الحج عند التصريح في النذر بإتيان عرفة في يوم عرفة إلى ابن أبي هريرة، وأن في "التتمة" تقييده بما إذا قال:"يوم عرفة بعد الزوال"، والصحيح الأول، وهو الذي قطع به أئمتنا في الطرق.

أما إذا قصد بنذره المضي إلى الكعبة، أو إلى مكة للحج أو العمرة، لزمه ما قصده بلا خلاف، بل لو قصد بنذره إتيان عرفة للحج لزمه؛ كما قاله الإمام.

ولو قال: "لله علي أن أمضي إلى بيت الله الحرام، لا حاجاً، ولا معتمراً"- قال الأصحاب: ففي انعقاد نذره وجهان، أصلهما- كما قال البندنيجي تبعاً للشيخ أبي حامد- أن من نذر المشي إلى مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى، هل ينعقد نذره أم لا؟ لأنه يأتيه لا حاجاً ولا معتمراً؛ كذلك هاهنا غير أن هاهنا متى [قلنا:] ينعقد نذره، لزمه أن يمضي بالنسك.

قال ابن الصباغ: وليس يستقيم هذا البناء؛ لأن من يقول هاهنا: ينعقد نذره، يقول: يلغو قلوه: "لا حاجاً ولا معتمراً"، فلا يكون نذره خالياً من النسك.

قلت: وما ذكره ابن الصباغ من الاعتراض إنما جاء لاعتقاده أن القائل بانعقاد النذر ولزوم الحج أو العمرة إنما صار إليه؛ لاعتقاده أن من نذر المضي إلى بيت الله الحرام، وأطلق- يلزمه الحج أو العمرة من غير بناء على شيء؛ كما هو الصحيح؛ فذلك إلغاء قوله:"لا حاجاً ولا معتمراً" كما وجهه القاضي أبو الطيب.

ويجوز أن يكون هذا القائل إنما صار إلى ذلك؛ تفريعاً على أن دخول مكة يجوز بغير إحرام، وأن مطلق النذر يحمل على جائز الشرع، وأن من نذر المضي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، يصح نذره، ويلزمه الاعتكاف فيه؛ لاختصاص الاعتكاف بالمسجد، ولم يتبع ظاهر النص في لزوم الحج والعمرة بمطلق نذر المضي إلى بيت الله الحرام، بل اتبع مذهب ابن أبي هريرة؛ فإن قضيةذلك صحة نذره، والتزامه الحج أو العمرة- كما تقدم- بناء على ألأصل المذكور؛ فلعل الشيخ اطلع على ذلك وحينئذ يندفع الاعتراض.

وقد سلك الماوردي وغيره في المسألة طريقاً آخر، فقال في انعقاد نذره وجهين؛

ص: 313

فإن صححناه، فهل يلغى الشرط أو يصح؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يصح؛ لاتصاله بالنذر، فثلاثة أوجه:

أحدها: يلزمه أن يصلي ركعتين هنالك؛ وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب.

والثاني: أنه يلزمه أن يضم إلى قصد البيت عبادة من صلاة أو طواف أو صيام أو اعتكاف؛ ليصير القصد طاعة إذا اقترن بطاعة.

والثالث: لا يلزمه ذلك؛ لأن قصد البيت طاعة، ومشاهدته قربة؛ وبذلك يحصل في المسألة خمسة أوجه: النذر باطل، النذر صحيح والشرط باطل، النذر والشرط باطل، النذر والشرط صحيحان وعليه فعل ركعتين، النذر والشرط صحيحان وعليه فعل عبادة، هما صحيحان وليس عليه غير القصد، والله أعلم.

فرع: إذا قلنا: يلزمه المضي إلى مكة بحج أو عمرة، فهل يلزمه المشي؟ ينظر: إن كان قد صرح بالمشي، لزمه بناء على الصحيح في أنه إذا كان قد صرح بالمشي، لزمه؛ بناء على الصحيح في أنه إذا نذر الحج ماشياً يلزمه، ويكون ابتداؤه من دويرة أهله، وهل يلزمه الإحرام بالحج أو العمرة من دويرة أهله أو من الميقات؟ فيه وجهان.

أحدهما: من دويرة أهله- أيضاً- لأنه لا قربة في المشي دون الإحرام؛ وهذا قول صاحب "الإفصاح"، وبعضهم ينسبه إلى أبي إسحاق.

والثاني- وهو المشهور عن أبي إسحاق-: أنه يلزمه المشي من دويرة أهله، ويحرم من الميقات.

قال في "البحر": فلا يختلف أصحابنا في وجوب المشي من دويرة أهله، واختلفوا في وقت الإحرام منها، والذي عليه عامة الأًحاب- وهو الصحيح؛ كما قال- الثاني، وما ذكره من الجزم بلزوم المشي من دويرة أهله، هو ما أورده الماوردي؛ لكن في "تعليق" البندنيجي: أنه إذا نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام، كان عليه أن يأتيه ماشياً، ومن أين عليه أن يمشي؟ فيه وجهان [بناء] على الإحرام.

ومن أين يلزمه أن يحرم؟ على وجهين:

قال أبو إسحاق: من دويرة أهله؛ فعلى هذا يمشي من الميقات.

ص: 314

والثاني- وهو المذهب-: وفي آخر مشيه ثلاثة أوجه حكاها [الماوردي]:

أحدها: إذا وصل مكة أو الكعبة؛ بلفظ نذره.

والثاني: إذا طاف بالبيت طواف القدوم؛ اعتباراً بأول قربة.

والثالث: إذا أحل إحلاله الثاني: اعتباراً بكمال نسكه.

ويجيء وجه رابع: إذا أحل التحلل الأول؛ كما ذكرنا مثله فيما إذا نذر الحج ماشياً.

وإن لم يصرح بالمشي، بل اقتصر على لفظ المضي والذهاب، فعن "العدة": أنه يتعين عليه المشي أيضاً.

والمذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الحاوي" و"البحر": أنه يتخير بين الركوب والمشي؛ لأنه لم يذكر المشي.

قال: وإن نذر المشي إلى بيت الله تعالى، ولم يقل: الحرام، أي: ولا نواه- لم يلزمه المشي على ظاهر المذهب، أي: المنصوص في "الأم"؛ كما قاله البندنيجي؛ لأن المساجد كلها بيوت الله- تعالى- وهذا ما صححه الإمام والرافعي وغيرهما.

وقيل: يلزمه؛ لأن إطلاق البيت ينصرف إليه دون غيره؛ وهذا ما نقله المزني، واختاره في"المرشد".

أما إذا نوى بيت الله الحرام، فهو كما لو صرح به.

قال: وإن نذر المشي إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى المسجد الأقصى- لزمه ذلك في أحد القولين؛ لأنه مسجد تشد الرحال إليه؛ كما نطق به الخبر الذي سنذكره، فلزم المشي إليه؛ كالمسجد الحرام؛ وهذا ما نص عليه في "البويطي"، وصرح أبو الطيب بأنه القديم، واختاره أبو إسحاق؛ كما قال في "البحر".

والقول الآخر: لا يلزمه المشي؛ لما روى جابر أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شأنك إذاً".

ص: 315

ولأنه مسجد لا يلزم قصده بالنسك، ولا يضمن صيده؛ فأشبه سائر المساجد؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، ونقله المزني؛ ولأجل ذلك قال القاضي أبو الطيب: إنه الجديد، وأجاب به عامة أصحابنا؛ كما قال في "البحر".

وقد أجاب من قال بالأول عن الحديث، بأن قوله- عليه السلام "صل هاهنا"، أراد: في المسجد الحرام، وهو أفضل؛ فلا حجة فيه.

قال في "البحر": وهذا التأويل خطأ؛ لأنه روي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أصلي ركعتين في مسجد إيلاء- وهو المسجد الأقصى- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صل في بيتك"، فأعاد السؤال، فقال:"أنت أعلم".

التفريع:

إن قلنا بالأول، فهل يلزمه إذا بلغ إليه ضم عبادة أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وشرح الشيخ أبي علي:

أحدهما: لا؛ لأنه لم يلزمه بنذره سواه، ويكون النذر مقصوراً على التبرك بقصده، والمشاهدة له.

وقد اعترض الإمام على هذا، فقال: الصائر إليه ماذا يقول لو أتى باب المسجد وانصرف؟ إن قال: يكفيه ذلك، فقد أبعد؛ لأنه لا قربة فيه، بل هو قريب من العبث.

وإن قال: يدخل المسجد، والدخول من غير اعتكاف وعبادة لا قربة فيه، بل نهي عن طروق المساجد لا لحاجة، والثاني- وهو الصحيح في الرافعي-: أنه يلزمه أن يضم إليه عبادة أخرى؛ وعلى هذا فماذا يلزمه من العبادة؟ فيه أوجه:

أحدها: الصلاة؛ لأنه- عليه السلام ميز المسجدين عن سائر المساجد بالصلاة، فقال:"صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلاء تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره"، وإذا كان التمييز بالصلاة، وجب أن يضم إلى الإتيان الصلاة؛ وعلى هذا يلزمه أن يأتي بركعتين؛ كما قاله القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم، وأبداه الإمام احتمالاً لنفسه، بعد أن قال:"والذي أراه: أنه لا يجب ركعتان قولاً واحداً، بل يكفي ركعة؛ لأن الصلاة غير مقصودة بالنذر في هذا الموضع".

ص: 316

وهل يكفي أن يصلي هناك فريضة، أم لابد من صلاة زائدة؟ فيه وجهان حكاهما ابن كج عن أبي الحسين؛ بناء على الوجهين فيما لو نذر أن يعتكف شهراً بصوم، هل يجزئه أن يعتكف رمضان؟

والثاني: أنها الاعتكاف؛ فيلزمه أن يعتكف فيه ولو ساعة؛ لأن الاعتكاف أخص القرب بالمسجد، والصلاة لا تختص به.

والثالث: أنه يتخير بينهما، قال الرافعي: وهو أشبه، والمذكور في "العدة"، وكذا في "التهذيب".

وقال في مسجد المدينة: إنه يتخير بين أن يصلي فيه، أو يعتكف، أو يزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والاعتكاف بالزيارة هو المنقول عن الشيخ أبي علي.

وتوقف فيه الإمام من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه.

قال: وقياسه: أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوماً كفاه، ثم قال: ويجوز أن يقال: الزيارة تنفصل عما ذكرناه؛ لوكن المرور في رقعة المسجد؛ فهو مختص من هذا الوجه.

والرابع- حكاه في "الحاوي"-: أنه يتخير بين أن يصلي فيه، أو يعتكف، أو يصوم، والاعتكاف بالصوم، [و] يظهر أن يكون مفرعاً على أنه لو نذر الصوم في المسجد الحرام، يلزمه كالصلاة؛ كما نقل عن صاحب التلخيص.

وقال الشيخ أبو زيد: إنه محتمل وإن كان بعيداً؛ لأن الحرم يختص بأشياء.

والأصح: أنه لا يلزمه؛ لأن المكان لا حظ له فيه؛ ألا ترى أن الصوم الذي يجب بدلاً عن الهدي لا يختص بالحرم، وإن كان مبدله يختص به.

وإن قلنا بالقول الثاني، لم يلزمه شيء؛ وعلى القولين يتخرج- أيضاً؛ كما قال القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين والماوردي- ما إذا قال:"لله علي أن آتي بيت المقدس" أو: "مسجد المدينة وأصلي فيه ركعتين"، فإن قلنا بالأول، لزمه أن يمضي

ص: 317

إليه، ويصلي فيه ركعتين. وإن قلنا بالثاني، فإنه لا يلزمه المضي، ويصلي ركعتين في أي المواضع شاء.

وقد حكى الإمام عن العراقيين وراء هذه الطريقة طريقة أخرى قاطعة بأنه تلزمه الصلاة فيه، وهي التي حكاها عن المراوزة لا غير؛ قياساً على ما لو نذر صلاة ركعتين في البيت الحرام؛ بجامع ما اشتركوا فيه من زيادة الأجر؛ قال صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره"؛ وهذه الطريقة هي المختارة في "المرشد".

وقال الإمام- تفريعاً عليها-: إنه لو نذر الصلاة في مسجد المدينة، فهل تجزئه في المسجد الأقصى، وبالعكس؟ وجهان:

المختار منهما في "المرشد": الإجزاء؛ كما لو صلاها في المسجد الحرام؛ فإنه يخرج عن موجب نذره؛ كما قال القاضي الحسين، وغيره نسب ذلك في كتاب الاعتكاف إلى نصه في البويطي.

وقال الإمام: إنه يجزئ على الصحيح، وفيه شيء؛ أخذاً من الإلزام.

قلت: ويتجه أن يكون في المسألة وجه ثالث فارق بين أن تكون المسافة بين المسجدين من مكانه متساوية في المشقة والرفق فتجزئه الصلاة في أحدهما عن الآخر، وبين أن تكون متفاوتة؛ فلا يجزئه الأخف عن الأثقل؛ أخذاً من قول الأصحاب فيما إذا نذر الجهاد في جهة، هل تتعين أو له أن يجاهد في جهة أخرى؟ وفيه ثلاثة أوجه، حكاها الإمام:

أحدها: أنها تتعين، وهو مذهب صاحب التلخيص، ولم يحك في "البحر" غيره.

والثاني: لا تتعين، ويخرج الناذر عن عهدة النذر بجهاد وإن قرب وسهل، وهو قول الشيخ أبي زيد.

والثالث- وإليه ميل الشيخ أبي علي-: أن تلك الجهة لا تتعين، ولكن يخرج الناذر عن موجب نذره بالجهاد فيها أو في مثلها في المسافة والسهولة؛ كما قلنا في الميقات.

وقد حكى ابن الصباغ وغيره في كتاب الاعتكاف عن النص في "البويطي": أنه إذا صلى في مسجد المدينة ما نذر صلاته في المسجد الأقصى، أجزأه، ولو انعكس الأمر لم يجزئه، ولم يورد الفوراني [والقاضي الحسين] سواه.

ص: 318

ووجه ذلك: بأن مسجد المدينة أفضل من المسجد الأقصى؛ ولأجل ذلك صححه النواوي في "الروضة".

ولا خلاف في أنه لو نذر صلاة ركعتين في المسجد الحرام، لا يجزئه فعلهما في غيره من المسجدين، ومن طريق الأولى: ألا يجزئه فعلهما في سائر المساجد.

لكني [رأيت فيما] وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه لو نذر أن يصلي ركعتين في الكعبة، فإن قلنا: إنه ينعقد نذره، يلزمه المضي، وصلاة ركعتين فيه وإن قلنا: لا ينعقد نذره؛ فإنه يلزمه صلاة ركعتين في أي موضع شاء؛ وهذا لم أره في غيره، نعم: حكى مجلي عن المراوزة قولاً: أنه إذا نذر الاعتكاف في المسجد الحرام، لا يتعين عليه الاعتكاف فيه؛ وهذا يقوى بما ذكره القاضي.

وقد قال القاضي: إن على القولين في مسألة الكتاب يخرج ما إذا نذر أن يمشي إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: في لزوم المضي إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وفعل ما يجب عليه إذا نذر المضي إليه.

وقد رأى ابن كج فيما إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يلزمه الوفاء به وجهاً واحداً، وأنه إذا نذر زيارة قبر غيره؛ ففي لزوم ذلك له عندي وجهان.

فرع: إذا قلنا يلزم المضي إلى أحد المسجدين، فهل يجب عليه المشي إذا كانت صيغته:"لله علي أن أمشي"؟ قال في "التهذيب": إن قلنا فيما إذا نذر الحج ماشياً: يلزمه المشي من دويرة أهله، لزمه هاهنا، وإن قلنا: لا يلزمه المشي ثم، أو يلزمه من الميقات، فلا يلزمه هاهنا، وله أن يركب.

وقال في "الحاوي": في لزوم المشي له وجهان:

أحدهما: لا يجب، ويكون لفظ المشي محمولاً على القصد، فإن مشى أو ركب جاز، والمشي الذي صرح به أفضل.

والثاني: أنه يجب، وهو الأظهر عند غيره؛ اعتباراً بصريح لفظه؛ وعلى هذا لو ركب؛ ففي إجزائه وجهان:

أحدهما: لا يجزئه؛ إذا قيل: إن نذره مقصور على الوصول إليه؛ لأنه يصير المشي هو العبادة المقصودة، [و] عليه إعادة قصده إليه ماشياً.

ص: 319

والثاني: يجزئه إذا قيل: إنه يلزمه بقصده فعل عبادة فيه؛ لأنه يصير المقصود بالنذر فعل العبادة فيه، ولا يلزمه أن يجبر ترك المشي بفدية، كما قيل في المضي إلى الحرم؛ لاختصاص الفدية بجبران الحج دون غيره من العبادات.

قال: وإن نذر المشي إلى ما سواهما من المساجد، لم يلزمه المشي؛ لما روى مسلم والبخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى"؛ فبين صلى الله عليه وسلم أن قصد غير المساجد الثلاثة لا قربة فيه مقصودة، وما لا يكون قربة وعبادة مقصودة، لا يلزم بالنذر، وما ذكره الشيخ مما لم يختلف فيه الأصحاب.

قال الماوردي: ويخالف ما إذا نذر المضي إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة على أحد القولين؛ لأنهما كانا مقصودين في الشرع بعبادة واجبة.

ص: 320

أما المسجد الأقصى، فقد كان في صدر الإسلام قبلة يصلى إليها، وأما مسجد المدينة فقد كان مقصوداً بوجوب الهجرة إليه؛ ففارقا ما عداهما من سائر مساجد الأمصار في حكم الشرع؛ ففارقاهما- أيضاً- في حكم النذر، وعلى هذا فرعان:

أحدهما: هل يكره شد الرحال لغير المساجد الثلاثة؟ قال الإمام: كان شيخي يفتي بالمنع من شدها إليه، وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم بعدما تظاهر النهي.

وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم، ولا يكره، والمقصود من الحديث بيان أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة؛ وهذا حسن لا يصح عندي غيره.

الثاني: إذا نذر الصلاة في مسجد غير الثلاثة، انعقد نذره بالصلاة، ولم يتعين عليه الصلاة في المسجد الذي عينه في نذره، بل له أن يفعلها في بيته، وكذا في سوقه.

قال ابن الصباغ: بخلاف ما لو نذر صوم يوم، فإنه يتعين صوم ذلك اليوم؛ لأن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم في زمان بعينه، لا يجوز له في غيره؛ فكذلك إذا نذره، وليس كذلك الصلاة؛ فإنها لم تختص بمكان بعينه فيما وجب ابتداءً؛ كذلك النذر.

فإن قلت: هذا الفرق يبطل بالاعتكاف؛ فإنه لو نذر الاعتكاف في مسجد، تعين؛ كما قاله القاضي الحسين جزماً، والفوراني وغيره وجهاً.

قلت: المنقول في "الشامل" وغيره عدم تعين الاعتكاف- أيضاً- كما نقله في كتاب الاعتكاف، وهو قضية ما في "الحاوي"؛ حيث قال: "إذا نذر الاعتكاف في أحد المسجدين، وقلنا: لا يلزمه المضي إليه كغيره من المساجد، كان له أن يعتكف في أي مسجد شاء، وقد قال ذلك ابن الصباغ أيضاً، لكن الرافعي ادعى أن الصحيح في هذه الصورة اللزوم، وإن كان الصحيح عدم لزوم المضي إليهما.

ص: 321

ثم على تقدير تسليم الحكم، فنقول: الشرع لما أوجب الصلاة، ولم يعين لها موضعاً، دل على أنه لم ينظر إليه؛ فلا يعتبر في النذر- أيضاً- والاعتكاف حيث شرعه خصه بمكان وهو المسجد؛ فجاز أن يخصه الناذر أيضاً؛ وهذا قد أشار إليه القاضي الحسين والفوراني، ثم وراء ما ذكرناه وجوه:

أحدها: أنه إذا نذر أن يصلي ركعتين في مسجد، تعين عليه الصلاة فيه؛ حكاه في "الذخائر"، ونسبه القاضي أبو الطيب إلى قول أبي العباس بن القاص، [ثم قال: وسمعت أبا عبد الله الحسين يقول: هذا ليس بصحيح عن أبي العباس].

والثاني- حكاه مجلي أيضاً-: أن من أصحابنا من قال: إذا نذر الصلاة في الجامع تعين عليه.

والثالث- حكاه في "البحر"-: أنه إذا نذر الصلاة في الجامع، له أن يصلي في مسجد وإن لم يكن جامعاً؛ وهذا يمكن أن يكون أخذ من قول القاضي الحسين؛ فإنه قال فيما إذا نذر الصلاة في الجامع، كان في خروجه عن موجب النذر بالصلاة في السوق إشكال؛ لأن الصلاة في الجامع أفضل من الصلاة في وسط السوق، ولو نذر أن يصلي ركعتين يقرأ في إحداهما سورة البقرة، وفي الأخرى آل عمران- لزمه ذلك؛ لأن طول القيام أفضل؛ فكذا هاهنا الصلاة في المسجد أفضل، والصحيح الأول، وما ادعاه القاضي من لزوم قراءة البقرة وآل عمران، لا يسلم عن النزاع؛ فإن في "النهاية" في كتاب الاعتكاف حكاية الخلاف فيها عن القفال؛ كالخلاف فيما لو نذر أن يعتكف صائماً؛ وعلى هذا لو نذر صلاة ركعتين في مسجد [في] الحرم: كمسجد الخيف، فهل يتعين عليه صلاتهما فيه؟

ص: 322

قال الماوردي: ينظر: فإن كان من أهل مكة، لم يلزمه بهذا النذر أكثر من صلاة ركعتين؛ لأنه في الحرم الذي حرمته مشتركة، وعليه ينطبق قول الشيخ أبي محمد: إنه إذا نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أطراف المسجد الحرام؛ خرج عن النذر، وأن الزيادة التي رويت في الحديث السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وصلاة في الكعبة [تعدل] مائة ألف صلاة في المسجد الحرام" لم يصححها الأثبات.

وإن كان من أهل الحل، لزمه هذا النذر؛ كمن نذر المشي إلى الحرم، وفيما ينعقد [به] نذره وجهان:

أحدهما: بما نذر من الصلاة في الحرم؛ إذا قيل: إنه يجوز له دخول الحرم بغير إحرام، وفي تعيين الصلاة في مسجد الخيف وجهان:

أحدهما: لا تتعين، ويجوز أن يصليها في أي موضع شاء من الحرم؛ لأن حرمة جميع الحرم واحدة، والثاني: يتعين عليه فعلها في مسجد الخيف ولا تجزئه في غيره؛ اعتباراً بصريح نذره.

والوجه الثاني في الأصل: أنه يلزمه بانعقاد نذره أن يحرم بحج أو عمرة؛ إذا قيل: [إنه] لا يجوز دخول الحرم إلا بإحرام؛ وعلى هذا في التزامه ما عقد نذره من الصلاة وجهان:

أحدهما: لا يلزمه الصلاة؛ لأن الشرع قد نقل نذره إلى ما هو أعظم منه؛ فلم يجمع عليه بين بدل ومبدل.

والثاني: أن فعل الصلاة لا يسقط؛ لأنه ملتزم لها بنذره، وملتزم للإحرام بالدخول؛ فلم يجمع عليه بين بدل ومبدل.

قال: ومن نذر النحر بمكة؛ أي: بأن قال: "لله علي أن أنحر هذه الشاة أو البدنة بمكة" مقتصراً على ذلك- لزمه النحر بها؛ لأن النحر في الحرم قربة.

قال القاضي الحسين: ولا يختص بيوم النحر، بل له أن ينحر في جميع الأوقات؛

ص: 323

كدماء الجبرانات؛ وعليه ينطبق قول أبي الطيب: إن النحر قربة، وهو في الحرم في غير أيام النحر بمنزلة النحر في أيام النحر في غيره من البلاد.

قال: وتفرقة اللحم على أهل الحرم- أي: من المساكين- كما قاله البندنيجي وغيره؛ لأن كل منحور في الحرم وقع نحره واجباً بالشرع، يجب تفرقته على من ذكرنا؛ فحمل مطلق كلام الناذر عليه؛ وهذا ما ادعى البندنيجي، وكذا ابن الصباغ: أنه المذهب.

وحكى وجهاً آخر: أنه يلزمه النحر بها، وتفرقة اللحم حيث شاء؛ لأن النحر بها قربة، فإذا نذر لزم، ولم يلزم به ما لم يسمه في نذره؛ وهذا الخلاف لم يورد الأكثرون في المسألة غيره؛ كما أنهم لم يوردوا غيره فيما إذا قال:"لله علي أن أضحي بمكة".

وبعضهم اقتصر في مسألة الكتاب على إيراد ما ذكره الشيخ، ومنهم القاضي أبو الطيب في التعليق، لكنه صور المسألة بما إذا نذر ذبح هدي في الحرم، والجمهور صوروها كما ذكر الشيخ، وعليها ينطبق لفظ المزني في "المختصر".

وحكى الإمام فيها: أن بعض أصحابنا قال: لا يلزمه بهذا اللفظ شيء؛ فإنه لم يذكر الملتزم بعبارة معتبرة بالقربة، وإنما تثبت القربة بما هو عبارة عنها؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين بدلاً عن الوجه قبلة.

ووجهه: بأن النحر مقصود، وتفرقة اللحم مقصودة، فإذا نذر أحدهما، لم يلزمه الآخر؛ وهذا ضعيف؛ لأن الذبح في الحرم إنما كان قربة حتى يكون اللحم مصروفاً إلى أهله، وإلا فلا إرب في اتخاذ الحرم مجازر ومذابح وهذا الوجه لا يجري فيما إذا قال:"لله علي أن أضحي بمكة"؛ لأن لفظ التضحية مصرح بالقربة؛ وكذا فيما إذا أتى بلفظ يدل على القربة؛ كما اقتضاه كلام الإمام.

ولا خلاف في أنه إذا نذر النحر بمكة، وتفرقة اللحم على أهلها: أنه يلزمه النحر وتفرقة اللحم على أهل الحرم، فلو دفع إليهم ما نذر ذبحه حياً، لم يجزه.

ولو نحر في غير الحرم، وفرق في الحرم، أو نحر في الحرم، وفرق على غير أهل الحرم- لم يجزه أيضاً، وكان مضموناً عليه.

قال الماوردي: ولو طبخ اللحم، لم يجز، فإذا دفعه إليهم مطبوخاً، ضمن ما بين

ص: 324

قيمته نيئاً ومطبوخاً؛ إن كان الطبخ قد نقص منه.

ولو نذر النحر بالحرم، وتفرقة اللحم على غير أهله.

قال الرافعي: وفَّى بما التزمه.

وفي "الحاوي" أنه قد صار معيناً لمساكين غير الحرم؛ فلا يجوز أن يفرقه في مساكين الحرم، وفي وجوب نحره في الحرم قولان حكاهما ابن أبي هريرة:

أحدهما: يجب نحره فيه؛ لانعقاد نذره مع اختصاص الحرم بقربة النحر.

والثاني: لا يجب النحر فيه؛ اعتباراً بمستحقي لحمه، ويستحب له النحر بالحرم؛ إن وصل إليهم اللحم طرياً، ولا يستحب؛ إن لم يصل إليهم طرياً.

ولو نذر النحر في غير الحرم، وتفرقة اللحم في مكة- قال في "التتمة": فالذبح خارج الحرم لا قربة فيه؛ فيذبح حيث شاء، ويلزمه تفرقة اللحم في الحرم، وكأنه نذر أن يهدي إلى "مكة" لحماً، وفيه شيء، سأذكره من بعد.

فرع: إذا قال: "لله علي أن أذبح بأفضل البلاد"، فهو كما لو نذر النحر بـ"مكة"؛ لأنها أفضل البلاد؛ قاله في"المرشد" و"التهذيب".

تنبيه: في قول الشيخ: "ومن نذر النحر بمكة، لزمه النحر بها، وتفرقة اللحم على أهل الحرم" ما يعرفك أن لفظ [مكة] في هذا المقام قائم مقام لفظ الحرم؛ لأن الحرمة شاملة لجملته، وإلا لما جاز صرف اللحم لمن هو خارج مكة من أهل الحرم، ومنه يؤخذ أنه لو نحر خارج مكة في الحرم جاز؛ لقوله- عليه السلام وهو بمنى:"هذا المنحر".

قال: ومن نذر [النحر] والتفرقة في بلد آخر، لزمه، أي: النحر بها، والتفرقة على أهلها؛ كما لو نذر النحر بمكة، وتفرقة اللحم على أهلها.

قال في "الحاوي": ويصرف ذلك إلى الفقراء والمساكين، دون [الأغنياء]

ص: 325

لاختصاصهم بالقرب، [وجاز أن يصرف في ستة أصناف من مستحقي الزكاة، وهم: الفقراء، والمساكين، والرقاب]، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل.

وقيل: لا يلزمه النحر بها وإن دخل في نذره؛ لأنه ليس للذبح في غير الحرم قربة، بخلاف مكة؛ فإن النحر بها قربة؛ لاختصاصها بنحر الهدايا، نعم: يستحب له النحر بها، ويلزمه تفرقة اللحم على مساكين تلك البلد؛ وهذا ما أورده أبو الطيب، وكذا البغوي وشيخه وجماعة؛ كما قال الرافعي؛ حيث قالوا: لو أراد الذبح بالقرب منها، ونقل اللحم غضاً طرياً، [جاز].

قال الماوردي: وقد توافق الوجهان على تعين مساكين تلك البلد للتفرقة، وهو ما حكاه الرافعي عن الأكثرين، وهما جاريان فيما لو نذر التضحية ببلد معين غير الحرم، وصرح في نذره بتفرقة اللحم على أهلها.

وسلك الإمام طريقاً آخر، فقال: في تعينهم قولان مأخوذان من تفرقة الصدقة ونقلها، فإن لم نجوز نقل الصدقة، لم يجز التفرقة في غيره؛ لعرف الشرع ونذره. وإن جوزنا نقل الصدقة ففي جواوز صرف اللحم لغير من في البلد المعينة وجهان:

وجه الجواز: أن المنذور يلحق بحقوق الله تعالى، وليس لمن تلزمه حقوق الله تعالى تحكم فيها، ولأنه لا قربة في تخصيص أهل بلد غير الحرم بالصدقة؛ فكان ذكره لغواً، ويخالف الحرم؛ فإن للقرب فيه مزية على غيره، وهو مختص بالهدايا.

قال: وتعين الفقراء فيما إذا قال: "لله علي أن أتصدق على زيد هذا" وكان فقيرا، يخرج على تعين أهل البلد، والمعزي إلى فتاوي القفال تعينه؛ حتى لو لم يقبل، لا يلزم الناذر شيء، وهل له مطالبة الناذر بعد وجود ما علق عليه النذر؟

في الرافعي: [أنه] يحتمل أن يقال: نعم [كما] لو نذر إعتاق عبدٍ معين؛ إن شفى الله مريضه، فشفاه الله؛ فإن له المطالبة بالإعتاق؛ كما لو وجبت الزكاة، والمستحقون في البلد محصورون، لهم المطالبة.

ثم مهما أبطلنا تقييده، فقد يخطر للفقيه: أن النذر يبطل، ويعارضه أن الشرط يبطل، والقربة تثبت.

ص: 326

ويجوز أن يقال: لا يثبت النذر، لا لفساده بفساد شرط مقترن به، ولكن لأن ما التزمه لم يلزمه، وهو لم يلتزم إلا التصدق على أهل البلد التي عينها، أو على زيد.

ثم إذا قلنا: لا يتعين أهل تلك البلد للتفرقة، فلا يتعين [البلد] لإراقة الدم.

وإن قلنا: يتعينون، فهل يتعين البلد للإراقة؟ فيه وجهان:

أحدهما: يتعين.

والثاني: لا، حتى لو أراق الدم بالقرب، ونقل اللحم غضاً طرياً- جاز.

قال: وإن نذر النحر وحده، أي: في بلد آخر بأن قال: "لله علي أن أنحر هذه الشاة- أو هذه البدنة- بالبصرة مثلاً"، فقد قيل: يلزمه النحر والتفرقة؛ لأن النحر على وجه القربة لا يكون إلا بالتفرقة، فإذا نذر النحر تضمن التفرقة؛ فصار كما لو نذرها.

وقد روي أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً في موضع سماه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قال: لا، قال:"هل كان فيه عيد من أعيادهم؟ " فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوف بنذرك".

وعلى هذا يجيء ما ذكرناه في الصورة السابقة، صرح به الرافعي؛ وهذا الطريق يشهد له ظاهر لفظ المزني، وقد اختاره أبو إسحاق وصاحب "المرشد" وغيره؛ كما سنذكره.

وقيل: لا يلزمه أي شيء، بل يلغو نذره؛ لأن النحر وحده في غير الحرم لا قربة فيه، وهو لم يلتزم التفرقة؛ فلم تلزمه؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، وصححه النواوي؛ تبعاً للرافعي والروياني وغيرهم، وهو قول المعتبرين؛ كما قال الإمام، ونسبوا المزني إلى الغلط في النقل.

وقال القاضي أبو الطيب: إنه ليس بصحيح؛ لأن ما ليس بواجب إذا لم يمكن الوصول إلى الواجب إلا به صار ذلك الشيء واجباً؛ كما نقول في غسل الوجه، والسعي إلى الجمعة، وغير ذلك.

وحكى الماوردي في هذه الصورة ثلاثة أوجه:

ص: 327

أحدها: أنه يلزمه النحر بالبصرة [وتفرقة اللحم على أهلها]؛ اعتباراً بالنذر والعرف.

والثاني: يلزمه تفرقة اللحم بالبصرة، ويجوز له النحر في غيرها؛ اعتباراً بالعرف دون النذر، لأنه لا فضيلة في تعينها بالنذر.

والثالث: يلزمه النحر بالبصرة، وله تفرقة اللحم حيث شاء؛ اعتباراً بالنذر دون العرف.

وإنما لم يجيء هذا الوجه في المسألة قبل هذه في الكتاب؛ لأن صاحب هذا الوجه متبع لصيغة النذر، وصيغة نذره فيها مصرحة بلزوم النحر والتفرقة بها؛ فيشبه أن يكون هو القائل فيها بلزوم النحر والتفرقة بها، نعم: يظهر مجيئه فيما لو نذر النحر خارج الحرم، وتفرقة اللحم في الحرم؛ نظراً لنذره.

فإن قلت: لو صح ذلك، لامتنع أن يجزئه الذبح في الحرم مع أنه أفضل من الذبح في غيره.

قلت: لا يمتنع ذلك؛ لأن من نذر صلاة في المسجد الأقصى أو مسجد المدينة، وقلنا بصحة النذر، وتعين ما نذره، إذا صلى في المسجد الحرام، أجزأه؛ لزيادة الفضيلة؛ كما تقدم؛ فكذلك نقول هاهنا.

ثم الوجهان المذكوران في الكتاب في الصورة الأخيرة جاريان- كما صرح الرافعي وغيره- فيما إذا قال: "لله علي أن أنحر هذه الشاة، أو هذه البدنة"، ولم يتعرض للتفرقة، ولا لكون النحر في موضع معين بلفظه ولا بنيته، وأصحهما: عدم اللزوم أيضاً، نعم: لو قال: "لله علي أن أذبح هذه الشاة، وأفرق لحمها"، ولم يعين له موضعاً- لزمه الذبح، والتفرقة جزماً، وهل يتعين موضعه للتفرقة، أم يستحب، وله الصرف في أي موضع شاء؟

قال الماوردي: فيه قولان مبنيان على اختلاف قولي الشافعي في زكاة المال، هل يكون صرفها في بلد المال مستحقاً أو مستحباً؟ وفيه قولان:

فإن قلنا بالأول، لزمه التفرقة على مساكين بلده، وهل يلزمه الذبح بها؟ فيه وجهان، ولا يخفى أن الوجهين في مسألة الكتاب مفرعان على المذهب فيما لو نذر

ص: 328

النحر بمكة: أنه يلزمه النحر والتفرقة [بها].

أما من قال: لا يلزمه ثم، فهو هاهنا جازم بعدم الوجوب.

فرع: لو قال: "لله علي أن أضحي بنيسابور"، ولم يتعرض لتفرقة اللحم بها، وفرعنا على أنه لو قيد النذر بالتفرقة بتلك البلد، لوجب الوفاء بموجب تقييده، فهل يتضمن إضافة التضحية تفرقة اللحم على التخصيص؟

قال بعض أصحابنا: تضمن ذلك تخصيص أهل البلدة بالتفرقة؛ وعلى هذا هل تتعين البقعة للتضحية وإراقة الدم؟ على ما ذكرنا من الوجهين.

قال الإمام: فإن قيل: كيف يثبت التضمن، ولم يثبت اللفظ المصرح به؟ يعني: كيف يثبت تعين أهلها بالتضمن، ولم يثبت تعين البلدة للنحر، وقد عينها؟ قلنا: لأن تفرقة اللحم على أهل بقعة مستندة إلى أصل في الشريعة، والتضحية في غير الحرم لا أصل لها، ومن خصص التضحية بها فلا محمل لتخصيصها إلا ابتغاء طراوة اللحم إذا فرق.

فإن صور مصور إخراجاً ونقلاً على القرب، أجبنا عنه بقاعدة الحسم في أمثال ذلك.

وقال بعضهم: لا يتعين أهل البقعة، والله أعلم.

قال: ومن نذر أن يهدي شيئاً معيناً إلى الحرم، أي: مثل أن قال: "لله علي أن أهدي هذا إلى الحرم؛ إن شفى الله مريضي" فشفاه الله، أو قال:"لله علي أن أهدي هذا" وقلنا: يلزمه ذلك على أصح الوجهين.

قال: نقله إليه؛ إن كان مما ينقل، أي: كالأثمان، والمتاع، والحيوان؛ لتخصيصه الحرم بذلك، وتعلق القربة به.

قال القاضي الحسين: ومؤنة النقل عليه، وكذا علفه إلى أن يصل إن كان حيواناً؛ كما قاله الماوردي أيضاً؛ وهذا بخلاف ما لو قال:"جعلت هذا هدياً إلى الكعبة"، لا يلزمه المؤنة، بل يباع منه شيء بقدر المؤنة؛ قاله الفوراني وغيره، وفي "البحر" نسبة هذا إلى القفال.

قال الرافعي: وقد أطلق مطلقون: أن المؤن في ماله، فإن لم يكن له مال بيع منه ما

ص: 329

يكفي المؤنة، ثم إذا حصل المنذور في الحرم، نظر فيه: فإن كان حيواناً يجزئ في الأضحية، وجب على الناذر ذبحه، وتفرقته على فقراء الحرم ومساكينه، لكن هل يجب الذبح في الحرم؟ فيه وجهان:

أصحهما: الوجوب.

والثاني: لا يجب؛ إذا أمكن نقل اللحم إليه غضاً طرياً، وقد تقدم مثلهما.

وإن كان لا يجزئ في الأضحية؛ لكونه من غير النعم، لم يلزمه الذبح، ولكن يتصدق به حياً؛ فإن الذبح ينقصه، وليس فيه قربة فلو ذبحه، قال في "البحر": تصدق باللحم، وغرم ما نقص بالذبح.

وفي "التتمة" وجه آخر: أنه يلزمه الذبح.

وإن كان من النعم، ولكنه لا يجزئ في الأضحية؛ لعيب فيه، فهل يكون كالسابق حتى لا ينحر بل يتصدق به حياً على الأصح، أو يلزمه النحر؟ فيه تردد للأصحاب:

والظاهر في الرافعي منع الذبح.

ولو كان المنذور غير حيوان، تصدق به على فقراء الحرم ومساكينه عند إطلاق النذر.

وفي الرافعي حكاية وجه عن رواية ابن كج: أنهم لا يتعينون.

والمشهور: التعين.

ومن طريق الأولى إذا صرح في نذره بالصدقة عليهم أو نواها، لكن هل يجوز صرف ذلك لذوي القربى؟ فيه وجهان في "الحاوي".

أحدهما: لا؛ لوجوبه؛ كالزكوات، والكفارات.

والثاني: نعم؛ لأنه تطوع بنذره؛ فأشبه تطوع الصدقات.

قال الإمام: وفي بعض التصانيف: أنه إذا أطلق نذر هدي الثوب إلى الحرم، وكان صالحاً للستر، حمل مطلق نذره على ستر الكعبة، وهذا كلام سخيف، لا أصل له، ولا اعتداد به.

وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بـ"خراسان" قال عند الإطلاق- والمنذور هدية ثوب أو طيب-: إنه يتخير الناذر بين أن يصرف ذلك للفقراء، وبين أن يستر به الكعبة،

ص: 330

أو يطيبها به، وهو غلط.

ولا خلاف في أنه لو نوى ذلك [بنذره] لزمه، وهو ما نص عليه الشافعي؛ لأن ذلك من جملة القربات، وفي اعتبار الناس ذلك في العصر الخالية وعدم النكير من علماء الشريعة ما يوضح ذلك.

قال الإمام: وفي بعض ألفاظ الرسول- عليه السلام ما يدل عليه؛ فإنه قال: "إن لهذا البيت ستراً".

ولو كان قد نوى بما نذر هديه: أن يخص به الكعبة؛ فلا يصرف للمساكين أيضاً، ثم إن كان ثوباً، كساها به، وجعله ستراً عليها، وإن كان طيباً، جعله طيباً لها، وإن كان شمعاً أشعله فيها، وإن كان دهناً، جعله لمصابيحها، وإن كان من صنوف المتاع الذي لا يستعمل في الكعبة، باعه، وصرف ثمنه في مصالحها؛ قاله الماوردي.

قال: وإن لم يمكن نقله، أي: كالأرض، والدار، وكذا حجر الرحا ونحوه – كما قاله القاضي الحسين وغيره- باعه، ونقل ثمنه؛ لأن العين لما تعذر نقلها، كان النذر في الحقيقة متعلقاً ببدلها، لا بعينها وقد روي أن ابن عمر- رضي الله عنه سئل عن امرأة نذرت أن تهدي داراً، فقال: تبيعها وتتصدق بثمنها على مساكين الحرم.

فلو أراد الناذر ألا يبيع ذلك، ويدفع قيمته، قال في "الحاوي": ففيه وجهان مخرجان من اختلاف قول الشافعي في العبد الجاني، هل يفتديه السيد بقيمته أو بثمنه؟ على قولين:

أحدهما: يفتديه بقيمته؛ فعلى هذا يجوز للناذر أن يصرف قيمته إليهم وإن لم يبعه.

والقول الثاني: أن عليه أن يبيع العبد الجاني؛ لجواز ابتياعه بأكثر من قيمته؛ فعلى هذا يلزمه بيعه؛ لجواز أن يرغب فيه من يشتريه بأكثر من قيمته.

ولو أراد أن يأخذه بالثمن المبذول جاز.

وما ذكره الشيخ من البيع في هذه الحالة هو المذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب.

وقال: إنه سمع الماسرجسي يقول: سئل ابن مهران عن هذه المسألة، فقال: يؤجر، وتنقل الأجرة، فأخطأ ثم رجع عن ذلك؛ لأن الأجرة ليست بدلاً عن العين، وإنما هي

ص: 331

بدل المنفعة، ولا شك في أن منفعة ذلك قبل البيع تصرف حيث يصرف ثمن العين، وكذا الثمرة الحادثة بعد لزوم الوفاء بالنذر، والكلام في المصرف كما تقدم.

واعلم أن [المفهوم] من كلام الشيخ منع بيع ما يمكن نقله، وهو الذي أورده الإمام؛ حكاية عن الأئمة، وقال: إنه قياس المذهب، لتعلق لفظ الإهداء بعينه، وإمكان التصدق به، ولو فرض عسر التصدق بعينه، وعدم تأتي جمع المساكين وتسليم العين إليهم فهذا بمثابة ما لو فرض ذلك في الزكاة؛ فلا يعدل عن العين.

وفي "الحاوي" فيما إذا كان المنذور مما لا يمكن تعميم نفعه إذا فرقه على المساكين، وقد تعينوا للصرف: كاللؤلؤ، والجواهر، والثوب الواحد، وكذا الطيب، والصيدلة- باعه، وفرق ثمنه عليهم، لكن هل يباع في الحرم بعد النقل أو في موضع النذر؟ يظهر أن يقال: إن كانت قيمته في الموضعين سواء، يخير فيه، وإن كانت قيمته في بلد النذر أكبر، باعه فيها، وإن كانت في الحرم أكثر تعين النقل والبيع فيه.

وهل له إمساكه لنفسه بالقيمة؟ فيه الوجهان السابقان؛ صرح بهما الماوردي.

فرع: لو قال: "لله علي أن أهدي هذا"، ولم يقل:"إلى الحرم"، ولا نية له، فهل ينزل منزلة قوله:"لله علي أن أجعل هذا هدياً"؛ حتى يصح، ويجب نقله إلى الحرم؛ إن كان مما ينقل، أو ثمنه، أو لا يصح؟

قال الماوردي: فيه وجهان؛ لأنه تعارض فيه عرف الشرع: وهو أن يكون هدياً، وعرف اللفظ: وهو أن يكون هدية بين المتواصلين.

قال: وإن نذر الهدي، وأطلق، أي: مثل أن قال: "لله علي أن أهدي الهدي"، ولم يسم شيئاً- لزمه الجذع من الضأن أو الثني من المعز أو الإبل أو البقر؛ لأن مطلق كلام الناذر يحمل على معهود الشرع؛ بدليل ما لو نذر الصلاة؛ فإنه يلزمه الصلاة الشرعية دون اللغوية، والهدي المعهود فيه ما ذكرناه؛ فحمل إطلاقه عليه، وقد تقدم بيان سن الجذع من الضأن، والثني مما سواه، ويعتبر مع ذلك سلامته من العيوب المانعة من الإجزاء في الأضحية، ويجب على الناذر والحالة هذه تبليغ الهدي إلى الحرم؛ لأن الهدي المطلق هو الذي محله؛ قال الله تعالى:{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]؛ قاله في "الشامل" وغيره، وللقاضي الحسين احتمال فيه؛ بناء

ص: 332

على أن مطلق النذر ينزل على جائز الشرع.

واعلم: أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا يجزئه إخراج سبع ثنية من الإبل والبقر؛ لأنه حصر اللازم في جذعة من الضأن، وثنية من المعز والبقر والإبل.

وقد قال ابن الصباغ وغيره: إن الهدي على ضربين: أعلى، وأدنى؛ فالأعلى: البقرة والبدنة، والأدنى: شاة أو سبع بقرة أو بدنة، فمن وجب عليه هدي، فهو مخير بين أن يهدي الأعلى وبين أن يهدي الأدنى، فإن أهدى الأعلى، فهل يكون واجباً كله أو سبعه؟ فيه وجهان.

وأبلغ من ذلك ما حكاه القاضي الحسين فيما إذا نذر هدياً، وسمى شاة: أنه يجزئه أن يعطي سبع بدنة أو بقرة، ويأخذ ستة أسباعها لحماً لنفسه.

ولو أخرج كل البدنة عن الشاة، فما الواجب [منها؟] فيه الوجهان.

قال: وإن نذر أن يهدي، أي: مثل أن قال: "لله علي أن أهدي"، أو:"أن أهدي هدياً" كما ذكره البندنيجي وصاحب "البحر"، ولم يكن له نية- لزمه ما ذكرناه في أحد القولين؛ لأنه عند الإطلاق ينصرف إليه عرفاً؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"؛ كما قال الماوردي، وهو الجديد.

والصحيح عند النواوي وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر- تفريعاً على أنه يتعين عليه بدنة أو بقرة أو شاة-: أنه لا يعتبر السن المعتبر في الضحايا، وكذا السلامة من العيوب.

قال: وما يقع عليه الاسم في القول الآخر، أي: ولو لم يميزه أو ينصه؛ عملاً بإطلاق لفظه؛ فإن الهدي يقع على ذلك كله؛ قال الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} إلى قوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [البقرة: 95]، فسمى بدل العصفور الذي قتله وغيره هدياً.

ولأنه مشتق من الهدية، وهي تقع على القليل والكثير، وهذا ما نص عليه في "الإملاء" من الحج والأيمان والنذر.

وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر تفريعاً على هذا القول-: أنه لا يجزئه إلا ما يجوز أن يكون ثمناً لمبيع حتى لا تجزئه التمرة؛ فإنها لا تكون ثمناً ولا مبيعاً.

ص: 333

قال: وقائله يقول ما ذكره الشافعي من إجزاء التمرة، قاله على سبيل المبالغة.

ثم على هذا القول، فالفرق بين هذه المسألة والتي قبلها: أن هناك قد أدخل الألف واللام في لفظه، وهما يدخلان لجنس أو معهود، فلما لم ينصرفا إلى عموم الجنس، انصرفا إلى معهود الشرع، وهو الضحايا، وهاهنا نكرة، والمنكر يقع على القليل والكثير، وهذا الفرق قاله الشيخ أبو حامد ومن تبعه؛ لاعتقادهم أن المسألة الأولى لا خلاف فيها؛ كما حكاه القاضي الحسين ومجلي.

وقال في "الحاوي": إن سائر أصحابنا ذهبوا إلى استواء الحكم في الصورتين.

أما إذا كانت له نية بأن قال: "لله علي أن أهدي هدياً"، ونوى بهيمة، أو جدياً، أو رضيعاً- فقد قال في [الأم كما حكاه] في "البحر": إنه يجزئ كما لو نذر أن يهدي شاة عرجاء، أو عوراء، وما لا يجزئ في الأضحية.

قال الشافعي: لأن [كل] هذا هدي؛ ألا ترى إلى قوله- تعالى-: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} [المائدة: 95]، [وقد يقتل صغيراً، أو أعرج، أو أعور، ويجزئه مثله].

وقد فرع الأصحاب على القولين في مسألة الكتاب فرعين:

أحدهما: قال ابن الصباغ: إذا قال: "لله عليه أن أهدي بدنة، أو بقرة، أو شاة"، فإن قلنا: إنه إذا أطلق، لزمه ما يجزئ في الهدي، وجب عليه بدنة، أو بقرة تجزئ.

وإن قلنا: يجزئه أي شيء أخرجه، أجزأه أي بدنة كانت، أو أي بقرة كانت.

وفي "النهاية" حكاية الخلاف المذكور عن العراقيين فيما إذا قال: "لله علي أن أضحي ببعير أو شاة أو بقرة"، فقال: إن الذي ذهب إليه المحققون أن مطلق ذلك محمول على الذي يجزئ في الأضحية.

وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أن اللفظ يتنزل على الاسم، ولا يشترط السن، ولا السلامة.

نعم: لا يجزئ الحوار ولا الفصيل، ولا يقبل الفحل، والمذكور البقرة، كما لا يقبل السخلة، والمذكور الشاة.

قلت: وهذا فيه نظر؛ لأن التضحية تسمية شرعية مخصوصة بنوع خاص؛ فينبغي أن يحمل نذره عليه جزماً؛ إذ لا معهود لها في العرف غير ذلك، ولا في اللغة حتى

ص: 334

يعارض المألو شرعاً، ويقع الترجيح، وليس كقوله:"أهدي"؛ لأن ذلك يصدق لغة على الهدية، نعم: الخلاف المشهور فيما إذا قال: "لله علي أن أضحي بشاة عرجاء أو عجفاء أو بفصيل"، فهل يلزمه ذبحه، أو ذبح غيره، أو لا يلزمه شيء؟ وفيه ثلاثة أوجه

أحدها: لا يلزمه شيء.

والثاني: يلزمه ما التزمه، ولا يلزمه غيره، وهو الذي يقتضي نظم الغزالي في كتاب الأضحية ترجيحه.

والثالث: يلزمه صحيحه، والسن الذي يجزئ.

الفرع الثاني: قال الإمام: هل يجب على الناذر تبليغ ما لزمه بهذا النذر الحرم؟ إن قلنا بالقول الأول، فالذي ذهب إليه الأكثرون الوجوب؛ وهذا ما حكاه ابن الصباغ وغيره في باب الهدي من كتاب الحج.

وفي كلام بعض الأصحاب ما يشير إلى أنه لا [يجب] تبليغ المنذور الحرم على هذا القول ما لم يصرح به؛ فإن دماء الجبرانات هي الواجبة شرعاً ولا يجب تبليغها الحرم.

قال الإمام: وهذا وهم؛ فإنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع، والهدي ظاهر في ألفاظ الشرع في اقتضاء التبليغ إلى "مكة".

وإن قلنا بالقول الثاني، قال ابن الصباغ: فهل يتعين تفريقه على فقراء الحرم ومساكينه، أم له صرفه في أي موضع شاء؟ فيه وجهان:

أصحهما في "الحاوي" الأول.

وقال الإمام: قطع الأصحاب بأنه لا يجب تبليغه "مكة"، وكان شيخي في دروسه يقطع بأنه يجب تبليغه مكة؛ وهذا تناقض؛ فإنا إذا لم نعتبر جنس النعم في الهدي؛ فلأن لا يتعين التبليغ- وهو تابع – أولى؛ فلا اعتداد بهذا.

قال: وإن نذر بدنة في الذمة؛ أي: ولم ينو بذلك أن تكون من الإبل ولا غيره، بل أطلق- لزمه ما نذر، أي: وهو البدنة من الإبل؛ لأنه المفهوم من اللفظ، والحيوان يثبت في الذمة؛ فاندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه".

ص: 335

قال: فإن أعوزه الإبل، أخرج بقرة؛ وإن أعوزه البقر، أخرج سبعاً من الغنم؛ لأن ذلك يقوم مقام البدنة في الشرع؛ فحمل النذر عليه عند العجز؛ وهذا هو المنصوص، والذي صححه القاضي الحسين وغيره، وقال به عامة الأصحاب؛ كما قال في "البحر"؛ وعلى هذا لو عدم الجميع لم يجز أن يعدل إلى الإطعام وإن كان في الشرع بدل منها؛ لانتفاء اسم البدنة عنه، ونحن نراعي في النذر عرف الشرع مع وجود الاسم إما حقيقة أو مجازاً؛ لتكون معانيها تبعاً لها، وإن كانت في الشرع تبعاً لمعانيها؛ ألا ترى أنه لو نذر عتق عبد فعدمه، لم يعدل عنه إلى الصيام وإن كان بدلاً من العتق في الكفارات.

وقيل: هو مخير بين الثلاثة؛ لأن الشرع أقام البقرة والسبع من الغنم مقام البدنة؛ فجاز أن يتخير فيها، ولأن إطلاق الناذر يحمل على معهود الشرع، والبدنة المعهودة في الشرع تكون من الإبل، وتكون من البقر، وتكون سبعاً من الغنم؛ قال الله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]، والمراد به هذا- كما قال القاضي الحسين- فخير فيه.

والإمام والقاضي الماوردي استدلا بالآية على أن إطلاق البدنة منطلق على الإبل لا غير.

قال القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين: وأصل هذين الوجهين ما إذا فسد حجه؛ فإنه يجب عليه بدنة، وهل تكون مرتبة أو مخيراً فيها؟ على وجهين؛ كذا في مسألتنا.

قال الطبري في "العدة": وهذا إذا قلنا: إن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، فأما إذا قلنا بالقول الآخر؛ فلا تجزئ فيه البقرة، ولا السبع من الغنم؛ لأن اسم البدنة من جهة اللسان غير واقع على هذين الجنسين.

وعلى هذا يبقى في ذمته إلى أن يقدر.

وما ذكره في منازعة تظهر لك كما ذكرناه في باب كفارات الإحرام.

ص: 336

فرع: هل يجزئ في البدنة والبقرة والسبع من الغنم ما يقع عليه الاسم، أو يراعى في ذلك شروط الأضاحي في السن والسلامة من العيوب؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وهما محكيان في "النهاية" عن العراقيين، والمنصوص في "المختصر" منهما الثاني، وقال: إنه يجزئ فيها الخصي، قال في "المرشد": لأن لحمه أرطب، وأوفر.

ولا فرق في إجزاء الإبل بين الذكر والأنثى.

أما إذا قصد بالبدنة البدنة من الإبل، لم يجز الوجه الثاني جزماً؛ كما صرح به من المراوزة الفوراني، ومن العراقيين البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ؛ تبعاً للشيخ أبي حامد، بل يتعين إخراج البدنة من الإبل عند القدرة.

قال في "البحر": وقيل هذا إذا كان مراده: ألا يتقرب إلا بالبدنة دون البقر والغنم، وهو ضعيف.

وعلى الأول إذا عجز عن البدنة، هل يجوز له العدول عنها إلى شيء آخر، أم تبقى في ذمته إلى أن يجدها؟ فيه وجان حكاهما البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما:

أحدهما: الإبل تبقى في ذمته إلى أن يجدها؛ لأن نذره تعين فيها؛ فأشبه ما لو نذر عتق عبد فتعذر، لا يجوز أن يعدل إلى الصيام وإن كان الشرع قد عدل إليه في الكفارات.

والثاني- وهو المنصوص، والصحيح في المذهب، ولم يحك القاضي أبو الطيب سواه-: أنه يجوز؛ لأنه وإن عينها، فإنما تعين هدياً شرعياً، والهدي الشرعي له بدل؛ فعلى هذا ما الذي يعدل إليه؟ أطلق البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما القول بأنه يعدل إلى البقر، وسكتوا عن العدول إلى الشاة، وهو ما في "المختصر".

وقال في "البحر": إن أصحابنا قالوا: إنه يتخير بين البقر والغنم، وهو ظاهر كلام الإمام.

وفي "الحاوي"، و"تعليق" أبي الطيب، وكتاب ابن كج، و"التتمة": أن يتنقل إلى البقر، فإن عجز عن البقر انتقل إلى الغنم، وعلى كل حال فإذا عدل إلى بقرة في هذه الحالة، فهل يعتبر أن تكون قيمتها قيمة البدنة؟ فيه وجهان في "الحاوي":

ص: 337

أحدهما: لا يعتبر، وكذلك إذا عدل إلى الغنم؛ لأنه يعدل إلى ذلك على وجه البدل؛ فلا فرق بين قليل القيمة وكثيرها.

والثاني: يعتبر وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: "وإن كانت ثنية من الإبل، لم يجزه من البقر إلا بقيمتها"، وهو المختار في "المرشد"، وبه جزم القاضي أبو الطيب، فعلى هذا يعدل إلى البقرة بأكثر الأمرين من البقرة أو قيمة البدنة، فإن كانت قيمة البقرة أكثر أخرجهأ، وإن كانت قيمة البدنة أكثر صرفها فيما أمكن من البقر، ولو في عشر بقرات، فإن لم يمكن صرف ذلك إلا في بقرة وفضلت فضلة، فماذا يفعل بالفضلة؟ فيه الخلاف المذكور في نظير المسألة من الأضحية، قاله البندنيجي وغيره، والمعزى إلى تعليق الشيخ أبي حامد:[أنه] يتصدق بالفاضل و [المعزى] إلى "التتمة" المشاركة إذا عدل إلى السبع من الغنم، فقياس قول من يقول بالتخيير بين البقر والغنم: أن يكون الحكم كما تقدم في البقرة، و [هو] في "النهاية" كذلك.

وذكر عن صاحب "التقريب" تفريعاً على اعتبار القيمة- الذي اعتقد ضعفه- أنه لو أخرج خمساً من الغنم تعدل قيمتها بدنة، فهل يقبل؟ فعلى وجهين، وكذلك إن تصور هذا في شاة واحدة.

قال الإمام: والمصير إلى أن الخمس والشاة الواحدة تجزئ عن بدنة، فيه بعد عظيم عن القاعدة، ولولا عظم قدر الحاكي ما استجزت ذكر هذا.

وقد حكى الرافعي الوجهين عن رواية ابن كج؛ فإنه نسب الوجه الآخر إلى الشيخ أبي الحسن السبوري، وهو شيخ من أصحابنا في زمن أبي إسحاق وابن خيران؛ ونسب مقابله إلى أبي الطيب بن سلمة، وهو الأظهر.

ومن قال بالترتيب بين البقرة والشاة- ومنهم الماوردي- قال في القيمة المعتبرة في الشاة ثلاثة أوجه:

أحدها: أكثر الأمرين من قيمة البدنة وسبع من الغنم.

[والثاني: أكثر الأمرين من قيمة البقرة وسبع من الغنم].

ص: 338

والثالث: أكثر الثلاثة من قيمة البدنة، ومن قيمة [البقرة] ومن قيمة [السبع من الغنم؛ لأن البدنة أصل البقرة، والبقرة أصل الغنم؛ فاعتبروا أغلظها].

وحكى الفوراني عن القفال: أنه لا يجوز الإتيان بغير الإبل؛ إذا قال: بدنة، سواء قيده أو لم يقيده، وسواء كانت الإبل موجودة أو معدومة.

قال في "البحر": وهو القياس، ولكنه خلاف النص.

وقد حكى الإمام في المسألة طريقين من غير تفصيل بين أن يطلق لفظ البدنة أو يقيده بالبدنة من الإبل:

أحدهما: أنه يجزئه البقر والغنم عند العجز، وعند القدرة، قولان.

والثاني: لا يجزئ عند القدرة، وعند العجز، قولان.

ويجيء من مجموع ذلك ثلاثة أقوال؛ كما أشار إليها، لكنه فرض الكلام فيما إذا كان قد قال:"لله علي أن أضحي ببدنة"، ولا يظهر فرق، والله أعلم.

قال: ويستحب لمن أهدى شيئاً من البدن أن يشعرها بحديدة فيصفحة سنامها الأيمن، وأن يقلدها خرب القرب ونحوها من الخيوط المفتولة والجلود؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة؛ ثم دعا ببدنة، فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، [وقلدها بنعلين.

وفي رواية: "ثم سلت الدم بيده"، وفي رواية:"سلت الدم عنها] بأصبعه"، وأخرجه مسلم.

وروى أبو داود عن المسور بن مخرمة ومروان أنهما قالا: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة، قلد الهدي، وأشعره، وأحرم"، أخرجه البخاري.

وروى أبو داود عن عائشة أنها قالت: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

والإشعار: هو أن يجرحها بمبضع حاد أو نحوه حتى يسيل الدم، وأصله: العلامة،

ص: 339

سمي هذا: إشعاراً؛ لأنه علامة الهدي، وكل شيء أعلمته علامة، فقد أشعرته.

قال النواوي: وقوله: "صفحة سنامها الأيمن" الصواب: اليمنى.

قلت: والشيخ تابع في ذلك لفظ الخبر، وتقديره: في صفحة سنامها من الجانب الأيمن.

وخُرَب القرب: هو بضم الخاء المعجمة، وفتح الراء، وهي عراها، أحدها بضم الخاء: كركبة، وركب.

وقد أفهم سياق كلام الشيخ: أن الإشعار يكون قبل التقليد؛ كما جاء في الخبر الأول، وهو الذي قاله أكثر الأصحاب؛ عملاً بالخبر.

لكن الذي حكاه ابن الصلاح عن الشافعي: أنه قدم التقليد على الإشعار، وهو الذي يقتضيه نظم الخبر الثاني.

قال ابن الصلاح: وقد صح ذلك عن ابن عمر- رضي الله عنهما من فعله.

قال: ويقلد البقر والغنم، ولا يشعرها؛ لإمكان ظهور العلامة بالتقليد دون الإشعار.

وقد استدل لتقليد الغنم بما رواه أبو داود بإسناده عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى غنمه مقلدة"، وأخرجه البخاري ومسلم.

قال النواوي في"الصحيح": والصواب أنه يسن في البقرة المهداة الإشعار كالإبل؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر"، ولم يورد ابن الصباغ وغيره فيما وقفت عليه غيره؛ ولأجل ذلك يوجد في بعض النسخ:"ويستحب لمن أهدى شيئاً من البدن أو البقر أن يشعرها"، وعليها جرى ابن يونس وابن كج، لكن قد يعكر عليه قوله من بعد:"في صفحة سنامها"، فإن البقر الذي بعدها لا سنام لها.

ثم ظاهر كلام الشيخ التسوية بين الإبل والبقر والغنم في التقليد بخرب القرب.

والمنقول عن الشافعي أن ذلك سنة في الغنم خاصة، ووجهه الأصحاب بأنه يضعف عن حمل النعال، فأما الإبل والبقر، فالسنة عند الشافعي كما نص عليه في

ص: 340

"المختصر" تقليدها بالنعال؛ كما يشهد به الخبر.

واستحب أصحابنا أن يكون لها قيمة، ويتصدق بها إذا ذبح الهدي.

قال: فإن عطب منها شيء قبل المحل، أي: قبل وقت الذبح، وهو بكسر الحاء [كما قال النواوي، ويجوز أن يقرأ بالفتح، ويكون المراد به: مكان الذبح، وهو الحرم، وعليه يدل سياق الكلام في التفريع؛ حيث قالوا: لا يأكل منها فقراء الرفقة، كما سيأتي ذلك وغيره، إن شاء الله تعالى.

قال:] نحره، وغمس نعله في دمه، أي: النعل الذي في عنقه الذي تقدم ذكره، قال النواوي: وإنما ذكره [وإن] لم يسبق له ذكر؛ لأنه معلوم- وضرب [به] صفحته، وخلى بينه وبين المساكين، أي: بأن يقول: أبحته للفقراء والمساكين؛ لما روى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي ثم قال: "إن عطب فانحره، ثم ضع نعله فيدمه، ثم خل بينه وبين المساكين"، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح.

وروى أبو داود عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاناً الأسلمي، وبعث معه بثمان عشرة بدنة، فقال: أرأيت إن أرجف على شيء منها؟ قال: "تنحرها، ثم تضع نعلها في دمها، ثم اضرب بها على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك".

وفي رواية: "اجعله على صفحتها" مكان "اضربها"، وأخرجه مسلم، ولفظه: "فأرجفت عليه في الطريق بفتح الهمزة، وعن الخطابي أن هكذا يقوله المحدثون،

ص: 341

والأجود فأجرفت بضم الهمزة؛ يقال: أرجفت البعير؛ إذا قام من الإعياء، وأرجفه السير.

قال الشيخ زكي الدين: والذي قاله المحدثون صحيح؛ لأنهما لغتان: أَرْجَف ورجف البعير، وأُرْجف؛ حكاه الزجاج وغيره.

وقد حكى الماوردي عن القديم فيما إذا كان قد وجد الإشعار والتقليد: أنه لا تتوقف إباحة الأكل على أن يقول: أبحت لمن يأكل.

وهذا إذا كان الهدي متطوعاً به، فلو كان منذوراًن فقد قيل: إنه لابد من الإباحة فيه أيضاً.

وحكى الرافعي وجهاً في كتاب الحج: أنه لا يتوقف إباحة الأكل على أن يقول: "أبحت لمن يأكل"، وهو الذي يقتضي كلام الماوردي الذي حكيناه الجزم به، وهو الصحيح في "التهذيب"؛ لأنه بالنذر زال ملكه عنه، وصار للناس، والأول هو الذي أورده ابن الصباغ ثَمَّ؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء؛ فصار هذا كما قلنا في الزكاة: ليس للفقراء أن يأخذوها إلا بإذن صاحب المال، نعم: إذا قال ذلك: فمن سمعه، جاز له أن يأخذ، وأما من لم يسمع إذنه، فهل يجوز أن يأكل منه؟ فيه قولان:

قال في "الإملاء": يحل له الأكل؛ اعتماداً على العلامة.

وقال في "القديم" و"الأم": لا يحل.

قال القاضي الحسين: ومن الأول خرج ابن سُريج جواز بيع المعاطاة.

ثم المساكين الذين يباح لهم الأكل منهم أهل الركب، والقافلة وغيرهم، غير رفقته المختصين به والسائقين [للهدي معه؛ وأما رفقته المختصون به والسائقون] له، فهل يباح لهم الأكل؟ فيه وجهان في "الشامل"، و"تعليق" القاضي الحسين، وغيرهما:

أحدهما: الجواز كغير الرفقاء، وبالقياس على ما لو وصل الهدي إلى المحل معيباً، ونحر فيه؛ بأنه يحل لهم الأكل جزماً، بل يحل للمهدي على الظاهر من المذهب؛ كما قاله الإمام، وكذا القاضي الحسين في كتاب الأضحية، وقاسه على ما لو بلغ المحل سليماً، ولم يحك الفوراني غيره فيما إذا قال:"جعلت هذا هدياً" وإن حكى وجهين فيما إذا قال: "لله علي أن أهدي هذا"، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في باب الأضحية.

ص: 342

والثاني: المنع؛ بالقياس على المهدي، ويشهد له الحديث، والمعنى فيه: أنه يجوز أن تلحقهم التهمة في السعي في سبب عطبها؛ ليأكلوا منها قبل محلها، وهذا هو الصحيح في الرافعي، والمختار في "المرشد"، والمحكي في "النهاية" عن الشافعي لا غير.

وهذا إذا كان الهدي واجباً بالنذر، أما إذا كان تطوعاً، فهو له، يفعل [فيه] ما شاء من بيع وأكل وغيرهما؛ صرح به الرافعي وأبو الطيب وغيرهما.

وفي "الحاوي" في باب الهدي من كتاب الحج: أنه إذا كان تطوعاً، فعليه أن ينحره في موضعه، ويخلي بينه وبين المساكين، وليس له أن يأكل منه غنياً كان أو فقيراً، ولا أحد من أغنياء رفقته، وكذا فقراؤهم على مذهب الشافعي، وهذا ما أورده الفوراني كما سنذكره.

[ثم] قال الماوردي: ومن أصحابنا من قال: يجوز الأكل؛ لفقراء الرفقة.

فرع: لو لم ينحر ما عطب حتى مات مع تمكنه من ذبحه، ضمنه، ومن طريق الأولى إذا أتلفه، ويكون الضمان بأكثر الأمرين من قيمته وقت التعدي بعدم الذبح أو الإتلاف، أو هدياً مثله، ويجب تفريق ذلك على مساكين الحرم؛ كما قال ابن الصباغ؛ لأنه لا يتعذر نقله إليهم.

وإن لم يتمكن من الذبح حتى تلف بآفة سماوية، فهل يضمنه؟ فيه وجهان في "الحاوي":

أحدهما- وهو الأصح فيه، وبه جزم غيره-: لا؛ لأنه بعد النذر كالأمانة في يده، وكما لو نذر عتق عبد، فمات قبل عتقه، لا يضمنه.

والثاني: يضمنه؛ لتعلق نذره بذمته بجهة باقية، وخالف نذر العتق للعبد؛ فإن الجهة المستحقة له فائتة.

قال في باب الهدي: وعلى هذا لو كان قد نحره، فإن له أكله؛ وهذا الوجه لم يحك الفوراني سواه؛ فإنه قال: لو عطب الهدي في الطريق، فذبحه قبل أن يبلغ به مكة، نظر: فإن كان تطوعاً، لم يحل له ولا لمن معه من أصحابه أكله؛ لأنه متهم بأن يكون قد ندم على سوقه، فأحدث ما أتلفه؛ ليأكل ويأكلون.

ص: 343

وإن كان واجباً، فله ولأصحابه أكله؛ لأن عليه بذله بالحرم، وإن عطب بعد أن بلغ مكة، أجزأه، وليس عليه غيره.

والوجه الثاني: أنه يضمن كما قال الماوردي في باب النذر، وفيما يضمن ثلاثة أوجه:

أحدها: المثل.

والثاني: القيمة:

والثالث: أكثر الأمرين من المثل أو القيمة.

وما ذكرناه كله فيما إذا كان الهدي معيناً، فلو كان في الذمة بأن قال:"إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أهدي شاة- مثلاً- إلى الحرم، فشفاه الله تعالى، ثم عين شاة عن نذره، فقال: "لله علي أن أهدي هذه الشاة عما في ذمتي"، فهل يتعين عليه ذبحها؟ فيه وجهان:

المذكور في "الشامل" وغيره: التعيين، ويملكها الفقراء؛ وهكذا لو عين بدل الشاة بقرة أو بدنة، ملكها الفقراء، إلا أنها تكون مضمونة عليه في الصورتين، فإن هلكت عاد ما كان واجباً عليه إلى ذمته؛ كما قلنا في رجل كان له على رجل دين، فاشترى منه سلعة بالدين، وهلكت قبل القبض؛ إنه ينفسخ البيع، ويعود الدين إلى ذمته؛ ولذلك نقول فيما إذا عابت الشاة؛ بحيث لا تجزئ في الأضحية-: يعود الواجب إلى ذمته، وتعود المعيبة إلى ملكه.

وحكى الغزالي وإمامه وجهاً آخر: أنه لا يعود الواجب إلى ذمته بالتلف أو التعييب.

وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر في كتاب الأضحية: أنه يجب ذبح البدل مع الأصل، [إلا أن يكون قال وقت الإيجاب]:"وهذا عن الواجب علي؛ أن يسلم إلى وقته"، والصحيح الأول.

وفي هذه الصورة قال ابن الصباغ: إنه يلزمه إخراج ما نذره إن كان ما عينه مثله، وإن كان المعين أفضل منه، مثل: أن عين عن الشاة بقرة أو بدنة، فهل يجب عليه ما كان في ذمته، أو مثل ما عين؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي قولين: أحدهما- قاله

ص: 344

في الجديد- وهو الصحيح-: الأول؛ لأن حدوث العيب في الأول قد أبطل وجوبه؛ فسقط حكمه.

ووجه القديم- وهو إيجاب مثل المعين-: أنه أوجب الفضل بتعيينه.

قلت: وهذا ظاهر إذا قلنا: إن كل البقرة تقع واجباً فيما إذا خرج ذلك عن نذره بدون تعيين، أما إذا قلنا: إن الواجب منها السبع، ففيه نظر.

وعن الشيخ أبي حامد: أنه إن حصل ذلك بتفريط الناذر، لزمه مثل الذي عين، وإن لم يفرط، ففيه الوجهان، والأصح الأول.

وفي "الشامل" وجه فيما إذا عاب المعين: أنه يجب ذبحه مع ما في الذمة، وهو بعيد.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون ما عينه قد وصل إلى الحرم أو لم يصل إليه.

وحكى ابن الصباغ عن ابن الحداد: أنه إذا عاب بعد ما وصل إلى الحرم، أجزأه، لبلوغه المحل؛ وكذا قياس أصله فيما لو هلك؛ وهذا ما حكاه الإمام في كتاب الأضحية عن القفال؛ وكذا الرافعي في كتاب النذر عن فتاويه- أعني: القفال- حيث قال: لو نذر أن يهدي شاة، ثم عين واحدة، وذهب بها إلى مكة، فلما قدمها للذبح تعيبت- تجزئ، وبمثله لو نذر أن يضحي بشاة، ثم عين شاة لنذره، فلما قدمها للذبح، صارت معيبة- لا تجزئ.

والفرق: أن الهدي ما يهدي إلى الحرم، وبالبلوغ إليه حصل الإهداء، والتضحية لا تحصل إلا بالذبح.

قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأنها عابت قبل الوصول إلى مستحقها؛ فأشبه ما لو عابت قبل ذلك، ووصولها إلى الغرض لا يسقط عنه الفرض.

ولو لم يتلف المعين عما في الذمة، لكن ضل- فهو كما لو تلف، [لكن] إذا وجد الضال فما حكمه؟

قد قدمت الكلام فيه في الأضحية.

وبعضهم قال: إن كان وجوده بعد الذبح والصرف، ذبح أيضاً.

قال القاضي أبو الطيب: وتبين أن الأول لم يكن واجباً.

ص: 345

قال ابن الصباغ: ويحتمل أن يقال: إنه واجب كما إذا لم يجد ما يتطهر به، فصلى، ثم وجد الطهارة.

وإن كان بعد الذبح، وقبل صرف اللحم- كان اللحم له، ووجب ذبح الضالة.

وفي "تعيق" القاضي الحسين: أنها إذا وجدت بعد الذبح، فهل يتملك الضالة أم لا؟ فيه وجهان، ووجه التملك: أنه أخرج بدلها.

فرع: لو نتجت الشاة المعينة سخلة، ثم ماتت أو تعيبت، فما حكم السخلة؟ ذلك ينبني على أنها لو ولدت ولم تتعيب فلمن يكون الولد؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنه للناذر؛ لأن ملك الفقراء لم يستقر فيه؛ ألا ترى أنه لو مات أو تعيب عاد ملكه.

والثاني- وهو المنصوص-: أن حكمه حكم أمه؛ كولد المبيعة قبل القبض، يكون للمشتري وإن لم يستقر الملك؛ وعلى هذا؛ فإذا تلف الهدي، قال ابن الصباغ: فقياس المذهب أن يكون للفقراء؛ كما في ولد المبيعة إذا تلفت في يد البائع بعد ما ولدت.

وفيه وجه آخر: أنه يعود ملكاً للناذر بعوده له.

قال: ومن نذر صوم سنة بعينها، أي: مثل أن قال: "لله علي صوم سنة من غد" أو: "صوم سنة سبع وثمانين وستمائة"، وهو في سنة ست وثمانين- لم يقض أيام العيد والتشريق، أي: على الجديد؛ كما قال البندنيجي وغيره ورمضان؛ لأن هذه الأيام لو نذر صومها، لم ينعقد نذره، فإذا أطلق أولى ألا تدخل في نذره.

وقد أفهمك قوله: "لم يقض .. " إلى آخره: أنه لا يصوم هذه الأيام عن النذر، وإلا لم يكن لذكر القضاء معنى، وقد صرح به الأصحاب، وقالوا: لو نوى بصوم رمضان النذر، لم ينعقد للنذر ولا لرمضان.

قال: وإن كانت امرأة فحاضت، قضت أيام الحيض- أي: الواقعة في غير رمضان وايام العيد والتشريق- في أصح القولين؛ لأن الزمان زمان الصوم، وإنما أفطرت لمعنى فيها؛ فوجب عليها القضاء؛ كصوم رمضان.

وقد وافق الشيخ في تصحيحه البندنيجي، وأبا الحسين بن القطان، وأبا علي الطبري، وقال ابن كج: إنه المشهور، وحكى في "البحر" طريقة قاطعة به.

ص: 346

وعلى هذا قال الماوردي: فإن قيل: لو نذرت صوم أيام حيضها، لم يصح، ولم يلزمها القضاء، فهلا كان هذا كذلك؟

قيل: لأن إفرادها بالنذر يجعله معقوداً على معصية، ولا يجعله إذا دخل في العموم معقوداً على معصية.

والقول الثاني: لا تقضي؛ لأن أيام الحيض لا تقبل إيقاع الصوم فيها؛ فلم تدخل في نذرها؛ كأيام العيد والتشريق ورمضان؛ وهذا ماصححه النواوي.

فعلى هذا: لو أفطرت لمرض- وكذلك الرجل- فهل تقضي؟ أطلق البندنيجي وغيره حكاية وجهين فيه:

والأظهر القضاء، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وفرق بأن زمان الحيض لا يقبل الصوم، وليس كذلك زمان المرض، وبناهما الشيخ في "المهذب" تبعاً للماوردي- على أن الفطر بالمرض، هل يقطع التتابع إذا وجب الصوم متتابعاً: إما بالنذر، أو في الكفارة؟ وفيه وجهان مذكوران هنا في كتاب الظهار.

فإن قلنا: يقطعه، لزم القضاء.

وإن قلنا: لا يقطعه؛ كما لا يقطعه الحيض؛ فلا يلزمها قضاء أيام المرض؛ كأيام الحيض؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".

ولو أفطر لأجل السفر، قال الرافعي تبعاً للإمام: فالظاهر وجوب القضاء؛ لأنه

ص: 347

يتعلق بمحض اختياره، وبه قال أبو الحسين، وهو المذكور في "الوجيز" و"تعليق" القاضي أبي الطيب.

ومنهم من طرد الخلاف، وبه قال ابن كج.

وفي "الحوي" حكاية الطريقين؛ لأنه قال: والفطر بالسفر هل يلحق بالفطر بالمرض أو بالفطر بغير عذر؟ فيه قولان.

واعلم أن الأصحاب قالوا: إن صوم السنة المعينة بالنذر يجب متتابعاً؛ لانحصار ذلك في وقت معين، لا لأجل أن التتابع وصفه، وهذا كما قلنا في صيام رمضان: إنه يجب متتابعاً؛ لتعين وقته، لا لأن التتابع شرط فيه؛ حتى لو أفطر أياماً بغير عذر، عصى، وقضاها متفرقة أو متتابعة، والتتابع أولى.

نعم: لو نذر صومها متتابعاً؛ ففي جعل التتابع شرطاً وجهان:

الذي أورده العراقيون: أنه شرط؛ إذا أفطر فيها يوماً بغير عذر، لم يعتد له بما مضى.

والمنسوب إلى القفال: أن ذكر التتابع مع تعيين السنة لغو، وهو ما أورده القاضي الحسين.

وقال في "البحر": إنه غلط.

فرع: هل يجوز تقديم الصوم المعين وقته بالنذر، على وقته، وتأخيره عنه من غير عذر؟ والمشهور لا.

وحكى الإمام وجهاً عن طوائف من الأئمة- منهم الصيدلاني-: أنه يجوز تقديمه عليه وتأخيره عنه؛ قياساً على ما لو عين له مكاناً.

وقال: إنه منقاس، وهو جار فيما لو نذر حجاً في سنة بعينها، أو صلاة في وقت مخصوص.

وفي "الحاوي": أنه إذا عين للصلاة وقتاً- كيوم الخميس- فإن قصد به تفضيل ذلك الزمان، يجوز أن يصلي في يوم الأربعاء ويوم الجمعة؛ لأنه لا فضل ليوم الخميس. وإن قصد به أن يجعله وقتاً للنذر لا يجوز قبله.

وإن كان لذلك الوقت الذي خصها به فضيلة على غيره: كليلة القدر، فقال:"لله علي أن أصلي ليلة القدر"- فلا تجزئه الصلاة في غيرها، ويلزمه أن يصليها في كل ليلة من ليالي العشر الأخير من رمضان؛ ليصادفها في إحدى لياليه؛ كما إذا نسي

ص: 348

صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها، فإن لم يصلها في ليالي العشر كلها، لم يقضها إلا في مثله.

وقد فرع إبراهيم المروزي على الصحيح- وهو تعين الوقت- إذا نذر صوم يوم خميس، ولم يعين: أنه يصوم أي خميس شاء، ويخرج عن النذر، وإذا مضى خميس، استقر في ذمته، حتى يفدي عنه إذا مات قبل أن يصوم.

ولو نذر صوم يوم من الأسبوع، والتبس عليه، قال الرافعي: ينبغي أن يصوم يوم الجمعة؛ فإنه آخر يوم في الأسبوع، فإن كان هو الذي عينه، فقد أتى بما التزم، وإن كان يوماً قببله كان صومه قضاء.

قلت: ويجوز أن يقال: يلزم صوم جميع أيام الأسبوع؛ عملاً بما قاله الماوردي.

ثم على الصحيح في التعين يجوز أن يوقع فيه صوماً آخر، وسواء فيه الفرض والتطوع والنذر؛ كما يدل [عليه] ما سنذكره من النص.

وفي "التهذيب" وجه آخر: أنه لا ينعقد فيه صوم غيره؛ كما في أيام رمضان.

أما إذا نذر صوم سنة، ولم يعينها، بل أطلق؛ فإنه يلزمه صوم اثني عشر شهراً، ولا يجب عليه أن يبتدر إلى الصوم، بل يستحب، وله أن يصومها يوماً يوماً، وشهراً شهراً، فإن صام بالأيام [لزمه ثلاثمائة وستون يوماً، وإن صامها شهراً شهراً] لزمه اثنا عشر شهراً.

ثم إن صام ما بين الهلالين، حسب له شهراً، سواء كان كاملاً أو ناقصاً، ولو أفطر في شهر يوماً، قضاه إن كان كاملاً، وقضاه مع يوم آخر إن كان ناقصاً؛ لأن صومه فيه انقلب إلى الأيام، وهكذا نقول فيما إذا صام شوال، يلزمه يوم إن كان تاماً، ويومان إن كان ناقصاً، وفي ذي الحجة يلزمه أربعة أيام إن كان تاماًوخمسة إن كان ناقصاً؛ وهذا إذا قلنا: إنه يلزمه بدل صوم أيام العيد والتشريق ورمضان؛ كما هو المنقول في كتب العراقيين.

أما إذا قلنا: إنه لا يلزمه بدل ذلك؛ كما قاله القاضي أبو الطيب من عند نفسه، ولم يورد القاضي الحسين سواه؛ قياساً على المسألة قبلها- فيظهر أن يقال: إذا كان شوال أو ذو الحجة تاماً أو ناقصاً فصامه، حسب له شهراً كاملاً.

ووراء ما ذكرناه أوجه:

ص: 349

أحدها: قال في "البحر": إن بعض أصحابنا قال: لو ابتدأ في هذه السنة التي ذكرناها من المحرم إلى المحرم، يقال: صام سنة، فالقياس: ألا يلزمه قضاء هذه الأيام، وإن كان ظاهر المذهب بخلافه؛ وهذا ما حكاه الإمام عن الصيدلاني [و] قال: إنه زلل وغفلة.

وفي الرافعي- حكاية عنه- أنه قال: إذا صام من المحرم إلى المحرم، أو من آخر شهر إلى مثله- خرج عن نذره لأنه يقال: إنه صام سنة، ولا يلزمه قضاء رمضان وأيام الفطر.

وعن ابن القطان: أنه إنما يخرج عن النذر بصوم ثلاثمائة وستين يوماً؛ لأن السنة تنكسر- لا محالة- بسبب رمضان وأيام الفطر، وإذا انكسرت، وجب أن يعتبر العدد؛ كما في الشهر إذا انكسر.

وعلى كل حال فلا يلزم التتابع في صومها إلا أن يشترطه، فإذا اشترطه، فقال:"لله علي صوم سنة متتابعة"، لزمه، ولا يسقط عنه بدل أيام العيد والتشريق ورمضان [وأيام الحيض، بل يأتي به.

وقال القاضي أبو الطيب: هذا عندي غلط، ولا يجب قضاء أيام العيد والتشريق ورمضان]؛ لأنه لا يمكنه أن يصوم سنة متتابعة لا يتخللها ذلك؛ فيكون بمنزلة السنة المعينة؛ وهذا حكاه المتولي مع الأول وجهين، وجعل أظهرهما ما ذكره القاضي.

لكن المنصوص، والذي عليه أكثر الأصحاب مقابله؛ لأنه التزم صوم سنة، ولم يصم عما التزم سنة، ويخالف ما إذا كانت السنة معينة؛ لأن المعين في العقد لا يبدل بغيره، والمطلق إذا عيب قد يبدل، وشبه ذلك بأن المبيع إذا خرج معيباً لا يبدل، والمسلم فيه إذا سلمه فخرج معيباً، يبدل.

ولو شرط التفريق، فيجوز له التفريق.

وفي إجزاء صومها متتابعاً وجهان، في "الحاوي" وغيره.

وقال الإمام: إنهما ينبنيان على اختلاف القول في أن التفريق في صوم التمتع بين الثلاثة والسبعة هل يجب إذا فاتت الثلاثة؟

ثم قال: والأولى عندنا تقريب الوجهين من الوجهين في أن الأوقات: هل تتعين

ص: 350

للصيام إذا عيّنت؟

فإن قلنا: تتعي، لم يبعد حمل استحقاق التفريق عليه؛ كما لو قال:"لله علي صوم الأثانين"؛ فإنه يصومها على صفة التفريق؛ وهذا تكلف؛ فإن الذي يعين الأوقات مجرد قصده إلى معين، والذي يذكر التفريق، ليس تعين الأزمنة في باله وقصده؛ وللك كان الأصح أن التفريق لا يلزم، والأصح أن الأوقات تتعين إذا عينت.

والذي اختاره ابن كج والبغوي وغيرهما وجوب التفريق، وقالوا: لو نذر صوم عشرة أيام متفرقة فصامها متتابعة، حُسِبَ له منها خمسة أيام.

ولو شرط صوم هذه السنة، لم يتناول نذره إلا السنة الشرعية، وهي من المحرم إلى المحرم، فإن كان قد مضى منها شيء، لم يلزمه غير صوم الباقي، فإن كان فيه رمضان، لم يلزمه قضاؤه عن النذر، وكذا أيام العيد والتشريق، وكان فيقضاء أيام الحيض والمرض والسفر ما ذكرناه في نذر صوم سنة معينة، والله أعلم.

قال: وإن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، لم يصح نذره في أحد القولين؛ لتعذر الوفاء به؛ لأنه إن قدم ليلاً فهو إنما نذر صوم اليوم، وإن كان قد أراد باليوم الوقت، فالليل لا يقبل الصوم، وإن قدم نهاراً فالنية لم توجد من الليل، ولا تجزئه نية من النهار؛ لخلو بعضه عنها.

وأيضاً: فإن نذره تضمن نذر صوم زمان ماضٍ، وهو ما قبل القدوم، ونذر صوم ما مضى من الزمان لا يصح.

دليله: ما لو قال: "لله علي صوم أمس اليوم الذي يقدم فيه فلان"؛ فإنه لا يصح قولاً واحداً، وإن كان لابن الصباغ احتمال في إجراء القولين فيه، وإذا كان صومه متعذراً، لم ينعقد النذر [به؛] كما لو نذر الحج في سنة معينة، ولم يبق من الوقت ما يتمكن من السير فيه لأدائه؛ فإنه لا ينعقد على ظاهر المذهب، وإن كان في لزوم كفارة اليمين بهذا النذر خلاف؛ كما تقدم مثله؛ وهذا القول مختار الشيخ أبي حامد.

قال: ويصح في الآخر؛ لأنه نذر صوماً يمكنه فعله؛ لأنه إذا أخبر أنه يأتي في يوم، فنوى من ليلته، صح ذلك، وما أمكن صومه، صح نذره؛ كصوم غد [اليوم]

ص: 351

الذي يقدم فيه فلان؛ فإنه يصح قولاً واحداً؛ وهذا ما صححه الماوردي، والقاضيان: أبو الطيب والروياني، والنواوي، وصاحب "المرشد"، وقال البندنيجي: إنه اختيار الشافعي، وكذا المزني، وأنه وجهه بأنه قد يجب الصوم في زمان لا يمكن فعله فيه؛ كالصبي يبلغ في أثناء اليوم؛ فيلزمه قضاؤه، وكذلك المغمى عليه.

وعلى هذا قال الشيخ: فإن قدم في أثناء النهار، أي: أخبر بقدومه في أثناء النهار من الليل، نوى صومه، أي: من الليل، ويجزئه؛ لوجود شرط الصوم، وهو النية من الليل، وصحت اعتماداً على الظن؛ كصوم يوم الثلاثين من رمضان وقد وقع الشك في رؤية الهلال.

وقد قاس بعضهم هذا على ما لو نوى الصبي الصوم من الليل، ثم بلغ في أثناء النهار؛ فإنه يجزئه صومه على ظاهر المذهب، وكذلك من شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، فإنه يصح على ظاهر المذهب كما قال الرافعي، وادعى الإمام فيه الوفاق؛ ويلزمه إتمامه.

والقائلون بالقول الأول منعوا صحة الصوم فيما إذا نوى من الليل وقد أخبر بالقدوم في الغد؛ لأمرين:

أحدهما: أنه لم يقطع بالنية؛ لأن من المحتمل أن يقدم وألا يقدم، ومن شرط النية الجزم، وقد حكي هذا عن القفال، والقاضي الحسين نسبه إلى الشيخ أبي زيد.

وقال الماوردي: إنه قياس قول ابن أبي هريرة، ويخالف ما لو نوى الصوم [في] ليلة الثلاثين من رمضان؛ لأن الظن الحاصل ثم من أن الأصل بقاء الشهر، لم يعارضه شيء، وهاهنا الظن الحاصل من الإخبار قد عارضه أن الأصل عدم القدوم.

والثاني: أن ما يصومه من اليوم قبل القدوم يكون تطوعاً؛ فلا يجزئه عما وجب جميعه بالنذر؛ لأن قوله: "فعلي صوم ذلك اليوم" يقتضي [إيجاب] صوم جميعه؛ وبهذا خالفما لو نوى الصبي الصوم من الليل، ثم بلغ في أثناء النهار، وما إذا شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه؛ لأنه إنما وجب بالبلوغ والنذر البقية.

وقد خص المتولي محل الخلاف في [صحة] صوم يوم القدوم إذا نواه من الليل بما إذا قلنا: إن نذره يقتضي إيجاب صوم جميع النهار.

ص: 352

أما إذا قلنا: لا يقتضي إلا إيجاب الصوم من حين القدوم، لا ما مضى من اليوم قبله، فلا يصح وجهاً واحداً؛ لأن سبب الوجوب لم يوجد في أول النهار، حتى ينوي إيقاع الصةوم فيه عن الواجب، وما ذكره من الترتيب هو ما أورده العراقيون.

وأما المراوزة، فقد اختلفوا في أصل القولين في صحة نذر يوم القدوم:

فمنهم من قال: أصلهما [أنه] لو نذر صوم بعض [يوم، هل يصح نذره؟ وفيه قولان؛ أصحهما: أنه لا يصح؛ لأن صوم بعض] اليوم ليس بقربة؛ فعلى هذا لا يصح نذره في مسألة الكتاب.

والثاني: أنه يصح، ويلزمه صوم يوم؛ لأنه يتضمنه؛ فعلى هذا يصح نذره في مسألة الكتاب.

وعن الإمام: أنه لا يصح نذره في مسألة الكتاب على هذا أيضاً؛ لأنه التزم يوماً في بعض يوم، وذلك محال؛ فيلغو.

وقد جعل المتولي انعقاد نذر بعض اليوم مبنياً على أن المتنفل إذا نوى الصوم نهاراً يكون صائماً من وقت النية، أو من ابتداء النهار؟ إن قلنا: من وقت النية، انعقد نذره، وإن قلنا: من ابتداء النهار- كما هو الأظهر- فوجهان:

أحدهما: لا ينعقد؛ لما ذكرناه أولاً.

والثاني: ينعقد؛ لأنه قد ورد الأمر بإمساك بقية النهار؛ كما فيحق من أصبح مفطراً يوم الشك، ثم بان أنه من رمضان.

ومنهم من قال: أصلهما: ما إذا قدم زيد في خلال النهار، هل يستند النذر إلى أول النهار أم لا؟ [و] فيه قولان: فإن قلنا بالأول، لم يصح؛ لما ذكرناه. وإن قلنا بالثاني، صح.

ومثل القولين في هذه الصورة يجري فيما لو قال لعبده: "أنت حر يوم قدوم فلان"، أو [قال] لزوجته:"أنت طالق يوم قدوم فلان"، فقدم في أثناء النهار، فهل يستند العتق والطلاق إلى أول اليوم أو إلى وقت قدومه.

وتظهر فائدتهما فيما لو كان قد باع [العبد] المعلق عتقه في ذلك اليوم قبل القدوم، وانقضى الخيار قبل القدوم، أو أعتقه عن الكفارة فيه قبل القدوم، أو مات

ص: 353

السيد فيه قبل القدوم، أو خالع زوجته فيه وكان الطلاق المعلق ثلاثاً أو قبل الدخول؛ فعلى الأول نتبين وقوع العتق، وبطلان البيع، وعدم الإجزاء عن الكفارة، والانتقال للوارث، وعدم صحة الخلع؛ وبه قال ابن الحداد.

وعلى الثاني لا يقع العتق، ويصح البيع، ويجزئ عن الكفارة، ويصح الخلع.

وقد بقي من التفريع على القول الثاني في مسألة الكتاب صور:

منها- كما قال الشيخ-: وإن كان مفطراً، لزمه القضاء؛ كما لو نذر صوم يوم معين، ففاته؛ فإنه يجب عليه القضاء؛ قياساً على صوم رمضان.

قال الرافعي: وكيف ذلك؟ أنقول: يلزمه بالنذر الصوم من أول اليوم؟ أو نقول: يلزمه من وقت القدوم؟ فيه وجهان، ويقال: قولان:

أصحهما- وبه قال ابن الحداد – الأول.

ووجه الثاني: أنه علق الالتزام بالقدوم، وبكونه في النهار، إلا أن صوم بعض اليوم لا يمكن؛ فيلزمه صوم يوم تام.

قال في "التهذيب" وليس هذا كما إذا نذر صوم بعض يوم؛ حيث لا ينعقد نذره على ظاهر المذهب؛ لأنه نذر هاهنا صوم يوم، لكن شرط الوجوب حصل في البعض؛ فهو كما لو شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، يلزمه على ظاهر المذهب، ويكون واجباً من حين نذر؛ كما في جزاء الصيد يصوم عن كل مُدِّ يوماً وإن فضل نصف مد يصوم يوماً تاماً، والواجب فيه نصف يوم.

وعلى هذا الخلاف [خرج] ما لو نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان؛ فإنه لا خلاف في انعقاد نذره، ثم إن قدم ليلاً، لم يلزمه شيء، وإن قدم في أثناء النهار، لزمه اعتكاف باقيه، وهل يلزمه قضاء ما فات منه؟ إن قلنا بالأول لزمه، وإن قلنا بالثاني فلا؛ وهو ما ادعى في "المهذب" أنه المذهب، وقال فيما لو قدم فلان والناذر محبوس أو مريض: إنه يلزمه القضاء على المنصوص؛ خلافاً لأبي حامد وأبي علي الطبري.

وقال الصيدلاني: إن قلنا بالأول، وقد قدم في أثناء النهار، اعتكف باقيه، أو يوماً مكانه؛ وهذا ما قاله؛ بناء على أن الزمان المعين للاعتكاف لا يتعين، والظاهر التعين.

ص: 354

وقد حكى الإمام عن رواية شيخه: أن من أصحابنا من لم يوجب الاعتكاف في بقية النهار؛ تخريجاً من أن النهار إذا نذر اعتكافه لا يجوز تبعيضه بتفريق الساعات، وهو قد ذكر اليوم، واعتكاف يوم بعد قدومه غير ممكن إلا على نعت التقطع.

ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون إفطاره لعدم نية صدرت منه من الليل، وهو ممسك، أو لمباشرة ما يفطر به الصائم؛ لأنه مفطر في الصورتين شرعاً، وقد صرح القاضي أبو الطيب بذلك في حالة الإمساك، ومنه يظهر لك: أن مراد الشيخ بالمسألة الأولى ما ذكرناه، وإلا لكانت المسألتان واحدة.

فإن قلت: هذا ظاهر فيما إذا كان قد باشر ما يفطر به الصائم على أن فيه شيئاً على بعد.

أما إذا كان ممسكاً ولم ينو من الليل، فلم لا يُخَرَّج على الخلاف المشهور في أن النذر المطلق يحمل على أقل واجب في الشرع أو جائزه؟

فإن قلنا: يحمل على واجبه- كما اختاره العراقيون والروياني وغيرهم- فالأمر كذلك، وإن قلنا: على جائزه- كما هو الصحيح عند الإمام والغزالي- فينبني على أنه إذا قدم في أثناء النهار: هل يلزمه الصوم من أول النهار أو من حين القدوم؟ فإن قلنا بالأول، انبنى أيضاً على أن النية تنعطف على ما مضى في صوم التطوع أو لا تنعطف؟ فإن قلنا بالثاني، فالأمر كذلك، وإن قلنا بالانعطاف على ما مضى أو بعدمه؟ وقلنا: إن الوجوب يكون من حين القدوم؛ فينبغي أن ينوي صومه، ويجزئه، ولا يسمح له في تأخير ذلك؛ لتعين الوقت.

قلت: قد أطلق الغزالي القول بأن الصوم المنذور هل يصح بنية من النهار؟ إن قلنا: مطلق النذر يحمل على الواجب الشرعي، لم يجزئه، وإلا أجزأه، وصحح الإجزاء.

وقال الرافعي: إن هذا إذا نذر مطلق الصوم، أما إذا نذر صوم يوم أو أيام، فإن قلنا: إنه يسلك به مسلك جائز الشرع، انبنى على أصل آخر، وهو أن النية تنعطف على أول النهار كما هو الظاهر أو لا؟ فإن قلنا بالأول، أجزأه، وإلا فلا، وعزا هذا إلى الإمام.

ص: 355

والذي رأيته في أوائل كتاب النذر من "النهاية" حكاية ذلك في الصورتين، وجزم في موضع آخر منه: أنه إذا قال: "لله علي صوم [يوم] " أنه لا يكفيه أن ينوي نهاراً وإن قلنا: المتطوع لو نوى نهاراً، انعطفت النية؛ ولأجل هذا ادعى في "البسيط"- كما قال مجلي- قطع الأصحاب بعدم الإجزاء.

وقد حكى ابن يونس أن بعض الأصحاب قال: بإجزاء الصوم في مسألة الكتاب خاصة بنية من النهار، وأن على هذا يمكن حمل كلام الشيخ في المسألة السابقة.

فرع: هل يجب على الناذر الإمساك في هذا النهار؛ تشبهاً بالصائمين؟ فيه طريقان:

إحداهما- وهي التي أوردها الإمام والقاضي الحسين والماوردي- القطع بالمنع.

قال الماوردي: لكن يستحب له الإمساك؛ كما لو قدم المسافر في يوم من رمضان، قد أفطر في أوله، استحببنا له أن يمسك في بقيته وإن لم يجب عليه الإمساك.

وحكى الروياني ومجلي عن بعض المراوزة: أنا إن قلنا: يجب القضاء؛ وجب، وإلا فلا.

وقال الغزالي: قد أطلق الأصحاب القول في هذا الفرع، وظني: أنه إنما يجب الإمساك إذا كان كان لم يأكل، فأما إذا كان قد أكل، فكيف يلزمه الإمساك وهو من خصائص رمضان؛ وهذا ما اقتضاه كلام أبي الطيب؛ فإنه قال:"إذا قدم نهاراً أو كان مفطراً، ولم يطعم ذلك اليوم- أمسك يومه وقضى".

قال: وإن وافق ذلك رمضان، لم يقض؛ لأنه لو نذر صوم يوم من رمضان، لم ينعقد نذره؛ لتعينه للصوم عن رمضان، وعدم قبوله لغيره، وقد بينا أن النذر وقع فيه؛ فلم يصح، وإذا لم يصح، لم يلزمه القضاء؛ وهذا ما حكاه الماوردي، وألحق به ما إذا قدم وكان صائماً عن نذر تعين عليه فيه؛ لتقدم استحقاقه، وحكى وجهين في لزوم القضاء إذا وافق قدومه صيامه عن قضاء رمضان أو عن كفارة:

أحدهما- وهو قول أبي إسحاق-: أنه يلزمه القضاء، ويستحب له مع ذلك أن يعيد يوماً آخر؛ لأجل الاعتداد بيوم القدوم عما نواه، واستحباب الإتيان بيوم آخر محكي عن الشافعي في غيره؟ لأنه صام يوماً مستحق الصوم؛ لكونه يوم القدوم، قال في

ص: 356

"التهذيب": وفي هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه، ثم صامه عن قضاء، أو [عن] نذر آخر: أنه ينعقد، ويقضي بدل هذا اليوم.

والثاني- وهو قول ابن أبي هريرة-: أنه يستحب القضاء، ولا يجب، والله أعلم.

قال: وإن وافق يوم عيد- أي: وما في معناه من أيام التشريق- قضاه في أصح القولين؛ لأن نذره قد انعقد على طاعة، وكان يجوز ألا يصادف يوم العيد ونحوه؛ فلزمه قضاؤه، لانعقاد النذر؛ وهذا نظير ما نص عليه الشافعي في كتاب الصيام فيما إذا نذر صوم يوم الاثنين أبداً، فوافق يوم الاثنين يوم عيد: أنه يلزمه قضاؤه.

والقول الثاني: لا يلزمه القضاء؛ كما لو وافق ذلك رمضان؛ وهذا ما أورده البندنيجي حكاية عن النص في "الأم" لاغ ير، ولم يورد الرافعي سواه، وصححه ابن الصباغ والنواوي وغيرهما؛ كما سنذكره، وهو نظير ما نص عليه الشافعي- أيضاً- في النذر فيما إذا نذر صوم يوم الاثنين أبداً، وكان يوم الإثنين يوم عيد: أنه لا يلزمه القضاء؛ كما اختاره المزني، وصححه البندنيجي، واختاره في "المرشد".

فإن قلت: ما ذكره من علة وجوب القضاء في هذه المسألة موجود فيما إذا وافق ذلك رمضان، وقد جزم الشيخ بعدمه فما الفرق؟

قلت: [قد] يتخيل بينهما فرق، وهو أن احتمال القدوم في يوم من شهر أغلب من احتمال وقوع يوم في يوم أو أربعة أيام؛ فلا يلحق أحدهما بالآخر؛ وهذا لا أثر له.

وقد جعل البندنيجي عدم إيجاب القضاء فيما إذا وافق ذلك رمضان مقيساً على ما إذا وافق يوم عيد؛ وهذا يدل على عدم الفرق بينهما؛ فيكون القولان عند من يثبتهما في الجميع؛ ويدل على ذلك: أن الأصحاب قالوا: لو نذر أن يصوم يوم يقدم فلان أبداً، فقدم في يوم الإثنين، كان في صحة نذره يوم القدوم القولان، ويلزمه صوم كل إثنين بعد ذلك، إلا الأثانين الأربعة الواقعة في رمضان، ولو وقع فيه اثنين خامس، ففي وجوب قضائه قولان، كما لو وقع يوم عيد.

ولو كان الناذر لصوم يوم القدوم امرأة، فصادف القدوم يوم حيضها أو نفاسها؛ ففي قضائه طريقان، حكاهما الروياني وغيره.

ص: 357

قال الأكثرون- ومنهم أبو الطيب، وابن كج، وابن الصباغ، والإمام، والمتولي-: فيه قولان؛ كما في العيد.

قال الرافعي: والمفهوم من كلام هؤلاء ترجيح [المنع.

وقال الشيخ أبو حامد: الأصح من] القولين هاهنا لزوم القضاء، وفيما إذا وافق يوم العيد عدمه.

وفرق بأن يوم العيد لا يصح صومه في حق كل الناس، وزمان الحيض يختص بها، وتبعه في ذلك البندنيجي والماوردي.

وقال ابن الصباغ: هذا الفرق ضعيف، لأن الشرع حرم عليها صوم زمان الحيض كزمان العيد؛ ولهذا لو نذرت صوم الزمانين، لم ينعقد نذرها.

وقال بعضهم: يجب القضاء هاهنا قولاً واحداً لأن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع، وهو إذا فات بالحيض والنفاس يقضي.

قال في "البحر": ومنهم من قال: إن قلنا بقضاء يوم العيد، فقضاء يوم الحيض أولى؛ وإن قلنا: لا يقضي يوم العيد؛ ففي قضاء يوم الحيض قولان؛ وهذه الطريقة يمكن أخذها مما قاله الشيخ في هذه المسألة، ومسألة ما إذا نذرت صوم سنة بعينها، والله أعلم.

ومن المسائل المفرعة على القول بصحة نذر يوم القدوم: أنه لو قدم ليلاً، فلا يلزمه شيء، قال الشافعي:"وأحب أن يصوم من الغد؛ من أجل أنه قصد ذلك بنذره".

ومنها: إذا قدم وكان صائماً عن تطوع، فالمشهور: أنه لا يجزئه عن نذره، ويقضيه، ويتخير في إتمامه، والفطر فيه، مع قولنا بأنه لا يجب الإمساك فيه إذا قدم وكان مفطراً.

وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أنه يلزمه إتمام صيامه؛ لأنه قد كان عند الله مستحقاً في نذره.

وفي "التهذيب": أنا إن قلنا: إنه وجب عليه صوم جميع النهار، لا يجزئه عن النذر، ويجب عليه القضاء، ويستحب أن يمسك بقية النهار.

وإن قلنا: إنما وجب عليه الصوم من حين القدوم، فهل يجب عليه القضاء إذا كان

ص: 358

القدوم قبل الزوال؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم.

والثاني: لا يجب، وينوي أن يتمه عن النذر.

وقال في "التتمة": إنا إذا قلنا: إنما وجب الصوم من حين القدوم، انبنى على أنه هل يجوز أن ينذر بعض يوم؟ إن قلنا: - يجوز؛ فينوي إذا قدم، ويكفيه ذلك، ويستحب أن يعيد يوماً كاملاً؛ للخروج من الخلاف.

وإن قلنا: لا يجزئه؛ فلا شيء عليه، ويستحب أن يقضي.

واعلم أن ما ذكرناه مفرع على الصحيح من المذهب: أنه إذا نذر صوم يوم بعينه: أنه يتعين صومه؛ حتى لا يجوز تقديم الصوم ولا تأخيره عنه مع القدرة، فإن أخر كان قضاء.

أما إذا قلنا: إنه لا يتعين- كما تقدم ذكره- فقد يقال: إنه يصح النذر وجهاً واحداً.

وإذا وافق قدومه رمضان، أو يوم عيد، أو وقت حيض: أنه يلزمه صيام يوم [واحد] وجهاً واحداً؛ كما لو قال: "لله علي صوم يوم إذا قدم فلان"، إلا أنه يلزم على ذلك- لو صح- أن يقال إذا نذر صوم يوم من رمضان أو يوم عيد: إنه ينعقد نذره بيوم، ولم أره، وقد يفرق بما ذكرناه عن الماوردي عند الكلام في لزوم قضاء أيام الحيض، وقد نذرت صوم سنة بعينها.

فرع: لو نذر صوم الأثانين أبداً، وقلنا بالتعين، ووجب عليه صيام شهرين في الكفارة، فإن سبق النذر وجوب الشهرين، فالأولى أن يصوم الأثانين التي فيها عن كفارته، واذا فعل ذلك، فعليه أن يقضي كل إثنين كان فيها؛ كذا أطلقه الإمام.

ويجيء فيه وجه آخر: أنه لا يصومها عن الكفارة، بل عن النذر؛ لأن صاحب "التهذيب" حكى وجهاً تقدم ذكره: أنه إذا عين يوماً بالنذر لا ينعقد فيه صوم آخر؛ كما في أيام رمضان.

فإن قلت: هذا يلزم منه ألا يتصور أن يقع منه صوم عن الكفارة؛ لأن من شرطها التتابع، وصوم الأثانين المنذورة يقطع التتابع كرمضان.

قلت: بل يتصور؛ لأن عدم التصور جاء من إلحاق الأثانين برمضان، وليس كذلك؛ لأن صوم الشهرين يتصور أن يقع في وقت لا يتخلله رمضان؛ فلذلك قطع التتابع،

ص: 359

والشهران- والصورة هذه- لا يتصور إيقاعهما خاليين- من الأثانين؛ فكان إلحاق الأثانين بأيام الحيض أولى؛ لأن الحيض قد لا يقع فيهما، بخلاف الأثانين.

وإن سبق وجوب الشهرين النذر، فإنه يصوم الشهرين عن كفارته، ويؤخر النذر.

والمذهب- كما قال في "المهذب" والبندنيجي-: أنه يقضي كل إثنين فيهما.

وقال الرافعي: إنه ينسب إلى رواية الربيع، وهو الأصح عند صاحب "التهذيب".

قال في "المهذب": ومن أصحابنا من قال: لا يقضي ما كان في الشهرين؛ لأنه نذر صوم يوم قد استحق صيامه، فهو كأثانين رمضان؛ وهذا ما حكي عن رواية الربيع.

قال في "البحر": وقد قيل: إنه المذهب، وهو الذي رجحه الإمام ومن تبعه، وكذا القاضيان: ابن كج وأبي الطيب؛ كما قال الرافعي.

وقال البندنيجي: إنه سهو؛ فإن أثانين رمضان لا يصح صومها عن نذره؛ لأنه لا يصح في رمضان صوم غيره، وأثانين الشهرين يصح أن يصومها عن نذره؛ ولهذا قضاها.

قال البندنيجي: وأصل هذا إذا نذر صوم يوم، وذلك اليوم مستحق صيامه لغيره، فإن كان مستحقاً لرمضان لم ينعقد نذره قولاً واحداً، وإن كان مستحقاً لغير رمضان: كالكفارة، والنذر السابق لهذا النذر، فهل ينعقد نذره [به] أم لا؟

على وجهين:

المذهب: أنه ينعقد.

وقد فهم من هذا أن محل الخلاف في النذر إذا لم يكن تعلق بوقت معين؛ كما في الكفارة؛ فإن الصوم الواجب فيها ليس له زمن معين، أما إذا تعين صوم يوم بالنذر، فقد قال في "التتمة": إن ذلك ينبني على أنه هل يجوز أن يصوم فيه عن قضاء أو نذر؟ [و] فيه خلاف سبق.

فإن قلنا: يجوز، فهو كما لو تعين، وإن قلنا: لا يجوز، فحكمه حكم رمضان.

قال الرافعي: وهذا ما رآه صاحب "التهذيب".

قال: ومن نذر صلاة، أي: بأن قال: "إن شفى الله مريضي، فلله علي صلاة"، لزمه ركعتان في أصح القولين؛ لأن إيجاب الآدمي على نسفه كما تقدم فرع لإيجاب الله

ص: 360

تعالى، وأقل ما أوجب الله – تعالى- من الصلاة فعل ركعتين، وهي صلاة الصبح، والصلاة في السفر، وإذا كان أقل الصلاة ركعتين كذلك هنا لا يجزئه أقل منهما؛ وهذا ما نقله المزني؛ ولأجله قال البندنيجي: إنه المذهب.

قال: وركعة في القول الآخر؛ تنزيلاً على أقل جائز الشرع، وهو الوتر؛ قال- عليه السلام:"من أحبَّ أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بركعة فليفعل".

ولأنا أجمعنا على أنه يثاب على الركعة الواحدة إذا سلم منها؛ لأنه يسمى: مصلياً؛ كما إذا صلى ركعتين؛ فوجب أن يخرج عن نذره بها؛ وهذا ما حكي عن رواية الربيع مع القول الأول.

قال الرافعي: ويقال: إنه القديم.

وقال الماوردي: إنه منفرد بنقله، وقد صححه الغزالي، وإليه ميل ابن الصباغ؛ فإنه قال: وما ذكره الأولون: يبطل بالصوم؛ فإن أقل ما وجب بالشرع صوم ثلاثة أيام، ولا يجب ذلك بمطلق النذر.

والجمهور على ترجيح الأول؛ لأن حمل الشيء على نظيره أولى من حمله على غير نظيره، ونظير [إيجاب] الآدمي إيجاب الله تعالى؛ ولأن الوتر تابع للواجب، وإطلاق الصلاة ينصرف إلى الشرع الذي هو الواجب دون التابع.

وأما قول ابن الصباغ: إن ذلك يبطل بالصوم .. إلى آخره فيظهر أن يقال في جوابه: بل أوجب أقل من ثلاثة أيام، وذلك يتصور في جزاء الصيد، اللهم إلا أن يريد أنه أقل صوم وجب بالشرع نصاً؛ فحينئذ يمنع هذا الجواب؛ على أن الماوردي قال لأجل ذلك: لو قيل: يلزمه ثلاثة أيام كان مذهباً، والمذهب أنه لا يلزمه إلا يوم واحد؛ لأنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع.

وقال الرافعي: إنه يجيء فيه وجه آخر: أنه يخرج عن نذره بإمساك بعض يوم؛ على أن النذر يحمل على أقل ما وجب من جنسه، وأن إمساك بعض اليوم صوم.

وقد استنبط الأصحاب من القولين في مسألة الكتاب، ومن القولين الماضيين في أنه إذا نذر الهدي، وأطلق، ماذا يلزمه؟ أن مطلق النذر يحمل على أقل واجب في

ص: 361

الشرع، أو على أقل جائز في الشرع؟ [فيه] قولان، والذي رجحه العراقيون والروياني وغيرهم- كما تقدم- الأول.

قال الرافعي: ويدل عليه ما تقدم: أن الصحيح أنه لا يجوز أن يجمع بين فريضة ومنذورة، ولا بين منذورتين بتيمم واحد.

والذي رجحه الإمام والغزالي: الثاني، ثم استدل له بأنه لو نذر أن يتصدق، خرج عن نذره بما يقع عليه الاسم، وإن كان من غير أموال الزكاة باتفاق الأصحاب.

وقد يجاب عن ذلك بما ذكره الرافعي حيث قال: إن الأصحاب قالوا: لو نذر الصدقة، أجزأه ما يقع عليه الاسم ولو حبة؛ لأن ذلك القدر يحل شرعاً عند اختلاط المال، لكن هذا إنما يستمر على قولنا بتأثير الخلطة في النقود.

ثم لك أن تقول: إذا حملنا المطلق على الواجب، فإنما نحمله على أقل واجب من ذلك الجنس، والأقل من الصدقة غير مضبوط جنساً وقدراً، بل صدقة الفطر أيضاً واجبة، وليس لها قيمة مضبوطة؛ فامتنع إجراء هذا القول في الصدقة، ويتعين اتباع اللفظ، والله أعلم.

التفريع على القولين في مسألة الكتاب:

إن قلنا بالأول، فلا يجوز أن يصلي الركعتين قاعداً إلا أن يعجز، ولا على الراحلة، وله أن يصلي أربع ركعات، بل لو نذر أن يصلي ركعتين، جاز له أن يصلي أربعاً، ويجزئه؛ كما قال في "التهذيب"؛ تفريعاً على هذا القول.

وفي "التتمة" حكاية وجهين في إجزائها في الصورة الأخيرة من غير بناء.

وقال الرافعي: إنه يمكن بناؤها على أن النذر يحمل على أقل واجب الشرع أو جائزه.

وإن قلنا: بالقول الثاني، جاز أن يصلي الركعة قاعداً؛ كما صرح به البغوي، ويجوز فعلها على الراحلة، وحكى الرافعي في جواز القعود فيها وجهين.

وقد خرج على القولين- أيضاً- ما إذا نذر أن يصلي أربع ركعات، فإن قلنا

ص: 362

بالقول الأول، أمر بتشهدين، فإن ترك التشهد الأول، سجد للسهو، ولا [يجوز أن] يؤديها بتسليمتين.

وإن قلنا بلاثاني، يخير بين أدائها بتسليمة واحدة أو بتسليمتين، وأداء ذلك بتسليمتين أفضل؛ وهذا ما صححه النواوي في "الروضة"، وقال: الفرق بينه وبين سائر المسائل المخرجة على هذا الأصل- وقوع الصلاة مثنى وزيادة.

وقد فهم من حكاية الشيخ القولين: أنه لا يخرج عن نذره صلاة على القول الثاني بأقل من ركعة؛ لأن سجدة التلاوة والشكر وإن اعتبر فيها شروط الصلاة لا تسمى صلاة؛ وهذا كله عند الإطلاق، فلو قيد، فقال:"لله علي أن أصلي ركعة"، لم يلزمه غيرها، وكذا لو نذر أن يصلي قاعداً، لم يلزمه القيام، وإن قيدنا المنذور بواجب الشرع.

وقال الإمام: إنه يجب تنزليهما على [الخلاف] فيما إذا أصبح [الشخص] ممسكاً عن المفطرات غير ناوٍ للصوم، فقال:"لله علي صوم هذا اليوم"، فإنه هل يلزمه الوفاء؟ على وقولين مأخوذين من تنزيل المنذور على واجب الشرع، فإن نزلناه عليه، لم

ص: 363

يصح النذر كذلك، وإن نزلناه على ما يجوز في الشرع وإن لم يكن فرضاً، صح.

ووجه الشبه: أن نذر الصوم نهاراً حيث يجوز التطوع بالصوم بالإضافة إلى الصوم الواجب شرعاً، بمثابة الركعة بالإضافة إلى أقل واجب في الصلاة.

ولو نذر ركوعاً أو سجوداً أو تشهداً أو دون ركعة، فهل يلغو نذره أو يصح؟ فيه وجهان:

اختيار الشيخ أبي محمد منهما في السجود الأول؛ لأن السجدة الواحدة من غير سبب ليست قربة على الرأي الظاهر.

وعلى الثاني: قال الإمام: يجب عليه أن يأتي بما يأتي به الناذر للصلاة المطلقة، وفيه الخلاف السابق.

وفي "التتمة" فيما إذا نذر دون ركعة: أنه يلزمه ركعة واحدة؛ إن أراد أن يأتي بالمنذور منفرداً؛ أو إن اقتدى بإمام بعد الرفع من الركوع في الأخيرة خرج عن نذره.

وقال فيما إذا نذر الركوع: يلزمه، وفيما إذا نذر تشهداً: فإما أن يأتي بركعة ويتشهد بعدها، أو يكبر، ويسجد سجدة على طريقة من يقول: سجود التلاوة يقتضي التشهد.

قال: ومن نذر عتق رقبة، أي: بأن قال: "إن قدم غائبي، فلله علي عتق رقبة"، أجزأه ما يقع عليه الاسم، أي: من صغير وكبير، سليم أو معيب، [مسلم] أو كافر؛ لأنه إذا أعتق ذلك، وقع عليه اسم رقبة حقيقة؛ فأجزأته؛ وهذا ظاهر ما نقله المزني في "المختصر"، وعليه جرى بعض الأصحاب، واختاره من المتأخرين المحاملي والمستظهري، وصاحب "المرشد"، والأكثرون؛ كما قال النواوي في "الروضة"، وقال: إنه الراجح في الدليل.

وقيل: لا يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة؛ لأن مطلق كلام الآدمي محمول على ما تقرر في الشريعة، والذي قرره الشرع أن تكون الرقبة في الكفارة مؤمنة سليمة من العيوب؛ وهذا ما صححه القاضي أبو الطيب والداركي، وبه قال أبو إسحاق، واختار المزني، وحمل قول الشافعي:"فاي رقبة أعتق، أجزأه" على أنه أراد: أي رقبة أعتق مما تجزئ في الكفارة.

وقد جعل البغوي الوجهين في هذه الصورة مبنيين على القولين في المسألة السابقة.

فإن قلنا: يلزمه ركعتان، لم يجزئه إلا ما يجزئ في الكفارة، وإلا أجزأه ما وقع عليه الاسم.

ص: 364

وقال ابن الصباغ: إن أصلهما ما إذا نذر هدياً، هل يلزمه من النعم، أو يجزئه أي شيء أهداه؟

وقال الماوردي: إن مسالة الصلاة والهدي أصلهما إن قلنا: يلزمه ركعتان، والجذع من الضأن، والثنية من المعز والإبل والبقر- لم يجزئه هنا إلا ما يجزئ في الكفارة.

وإن قلنا: يلزمه ركعة وما يقع عليه اسم هدي، أجزأه [هنا] ما يقع عليه الاسم أيضاً.

وكلام القاضي أبي الطيب والداركي يقتضي أنه لا يجزئه هنا إلا ما يجزئ في الكفارة وإن قلنا: إنه يجزئه من الهدي ما يقع عليه الاسم؛ لأنهما قالا: فإن قيل: هلَاّ قلتم: إنه يجزئه أن يعتق ما يقع عليه اسم الرقبة حقيقة؛ كما قلتم في الهدي- قلنا: له في الهدي قولان:

أحدهما: لا يجزئه إلا شاة، وعلى هذا سقط السؤال.

والقول الثاني: يجزئه ما يقع عليه اسم هدي؛ وعلى هذا فالفرق: أن هاهنا وقع عليه اسم الهدي بالشرع أيضاً؛ وذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} الآية [المائدة: 95]، وإذا قتل عصفوراً وما أشبهه لا يجب عليه شاة، وقد سمى ما يجب عليه به: هدياً؛ فلهذا قلنا: يجزئه ما يقع عليه الاسم، وليس كذلك في مسألتنا؛ فإن الشرع ما ورد بوجوب رقبة إلا مؤمنة سليمة من العيوب.

فرع: لو نذر اعتكافاً، قال في "التهذيب": خرج عن نذره بأقل ما يقع عليه الاسم، ولو ساعة، ويستحب أن يتمه يوماً.

وقال الإمام: لست أجد لهذا أصلاً في واجبات الشرع؛ فلا وجه إلا القطع باتباع اللفظ، وتنزيله على أقل المراتب.

وقد ذكرنا خلافاً في كتاب الاعتكاف في أن الحصول في المسجد مع النية- أي: من غير مكث: كالمرور- هل يكون اعتكافاً؟ فإن اكتفينا به، فهذا فيه تردد عندي؛ فإنا إن اتبعنا اللفظ، فالاعتكاف مشعر بالمكثف؛ فينبغي أن نوجب المكث تعلقاً باللفظ، ويحتمل أن يجعل الاعتكاف في لفظ الناذر لفظاً شرعياً: كالصلاة والصوم، ثم يكتفي فيه بما يصح في الشرع.

ص: 365

قال: وهذا ما جزم بمثله [الإمام] عند الكلام في وجوب تبليغ الهدي إلى الحرم حيث قال: "إنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع.

ثم قوله: "لم أجد لهذا أصلاً في واجبات الشرع" فيه نظر؛ لأن الأصحاب حيث جزموا بصحة نذر الاعتكاف وإن اختلفوا في صحة النذر بما لم يجب بأصل الشرع، جعلوا أصله المكث بعرفة؛ وعلى هذا إذا حملنا النذر على واجب الشر ينبغي أن نكتفي بالعبور في المسجد مع النية؛ لأن ذلك يكفي في الوقوف بـ"عرفة" والله أعلم.

وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به.

إذا قال الشخص: "لله علي أن أعتق هذا العبد"، وكان ملك غيره، [فملكه يوماً- لا يلزمه عتقه؛ لقوله- عليه السلام:"لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".

ولو قال: "إن ملكت عبداً، فلله علي أن أعتقه"، فملك عبداً- لزمه عتقه.

وإن قال: "عن ملكت هذا العبد، فلله علي أن أعتقه"، فملكه هل يلزمه عتقه؟ فيه وجهان في "تعليق" البندنيجي وغيره في كتاب الأضحية.

ومثل ما ذكرناه في محل الجزم وجريان الخلاف، جار فيما لو قال لشاة الغير:"لله علي أن أضحي بها"، أو:"عن ملكت شاة، فلله علي أن أضحي بها"، أو:"إن ملكت هذه الشاة، فلله علي أن أضحي بها"؛ حكاه في "الحاوي"، و"البحر" في موضعه.

وذكر القاضي الحسين فيه إذا نذر إعتاق جارية بعينها، فولدت، لزمه إعتاق الولد معها؛ لأنها استحقت العتق استحقاقاً لا يرد عليه النقض والإبطال، ولا يعود إلى ما كان؛ فأشبه أم الولد، وذلك أنه إذا ألزم ذمته إعتاق عبدٍ فللعبد أن يرافعه إلى الحاكم؛ حتى يجبره على الإعتاق، وأنه لو أعتق على مال، المذهب: أنه يعتق، ولا يثبت المال].

ص: 366