المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الأضحية الأضحية بالتشديد اسم لواحد من النعم يذبح يوم النحر، - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٨

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌باب الأضحية الأضحية بالتشديد اسم لواحد من النعم يذبح يوم النحر،

‌باب الأضحية

الأضحية بالتشديد اسم لواحد من النعم يذبح يوم النحر، أو في أيام منى تقرباً لله تعالى.

قال الأصمعي: وفيها أربع لغات: أُضْحّية، وإِضْحِيّة، بضم الهمزة وكسرها والجمع: أضاحي، وضَحِيَّة، والجمع: ضحايا، وأَضْحاة: والجمع: أَضْحًى، كأرطاة، وأرطى، وبها سمي يوم الأضحى.

وقد اختلف في اشتقاقها من ماذا؟

فقيل: من الضحوة؛ لأنها تفعل ضحوة النهار، فسميت باسم أول زمان جواز فعلها، والضحوة: اسم للزمان الذي يعقب طلوع الشمس وارتفاعها، وما بعد الضحوة سمي: الضحى.

وقيل: من الضحى، وهو الموضع الذي يذبح فيه، فسميت باسمه، حكاهما القاضي الحسين.

والأصل في مشروعيتها قبل الإجماع من الكتاب آيات:

منها قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [الحج: 36].

و [منها] قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].

و [منها] قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].

على التفسير الأشهر في أن المراد بالصلاة: صلاة العيد، وبالنحر: نحر البدن.

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "عظموا ضحاياكم؛ فإنها على الصراط مطاياكم"، أي: تهيأ مراكب للمضحين.

وقيل: بل يسهل بها الجواز على الصراط.

ص: 58

وما سنذكره من الأحاديث الصحيحة في أثناء الباب إن شاء الله تعالى.

وقد حكي عن سفيان أنه قال: كان في نبيكم ثلاث خصال: كان من ولد من قرب قرباناً، فتقبل منه، وهو هابيل؛ فصار ذلك سنة في الأضحية؛ وكان من ولد من فُدي بذبح عظيم، وهو إسماعيل؛ فصار ذلك سنة في العقيقة، وكان من ولد من فدي بمائة من الإبل، وهو عبد الله بن عبد المطلب، فصار ذلك سنة في الدية.

قال: والأضحية سنة؛ لما روى الدارقطني بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كتب علي النحر، وليس بواجب عليكم".

وروى الترمذي أنه- عليه السلام قال: "أمرت بالنحر، وهو سنة لكم" وهذا نص في الباب.

وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما [أنهما] كانا لا يضحيان؛ مخافة أن يرى أنها واجبة.

والحديث الوارد في وجوبها قال علماء هذا [الشأن إن] راويه مجهول وإن سلم عن الطعن، فهو محمول على الاستحباب.

وإذا عرفت أنها سنة، فهل هي سنة على كل شخص، أو سنة على الكفاية؟

الذي أورده في العدة الثاني، وقال: إذا أتى بها واحد من أهل البيت، تأدى عن الكل حق السنة، ولو تركها أهل بيت، كره لهم ذلك.

والمخاطب بها الحر القادر عليها، وكذا من بعضه حر إذا ملك مالاً ببعضه الحر يخاطب بها وأما العاجز فغير مخاطب بها.

والعبد من طريق الأولى لعدم ملكه.

نعم لو ملكه سيده مالاً، وقلنا: يملكه جاز له أن يضحي بإذن سيده، وبغير إذنه لا يجوز، قاله البندنيجي وغيره.

وتضحية المكاتب تبرع، وسيأتي الكلام في تبرعاته.

ص: 59

وللإمام أن يضحي عن المسلمين من بيت المال [كما] قاله الماوردي.

ولا يجوز التضحية عن الميت إلا أن يوصي بها؛ قاله الفوراني وغيره.

وحكى الرافعي في كتاب الوصية عن بعضهم: أنه يجوز أن يضحي عنه، والمشهور الأول.

نعم: تجوز النيابة عنه فيما عينه بنذره قبل موته.

قال: إلا أن تنذر فتجب، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه".

ولفظ "تنذر"[قال النواوي]: بكسر الذال، وضمها.

قلت: والأولى أن يقرأ. بضم التاء ثالثة الحروف، وفتح الذال.

وأراد الشيخ رحمه الله بهذه الزيادة. أن يعرفك أموراً:

أحدها: أنها غير واجبة بأصل الشرع، لا على العين، ولا على الكفاية وإن كانت من الشعائر.

ولا يقال: إن قوله أولاً: "الأضحية سنة" يغني عن ذلك، لأن السنة قد تطلق، ويراد بها الطريقة ومنه قوله عليه السلام:"من رغب عن سنتي فليس مني" وقول جابر "مضت السنة في كل أربعين جمعة".

وقد حكى القاضي الحسين عن الشافعي- رضي الله عنه أنه قال: "إذا ضحى الرجل في بيته، فقد وقع اسم الأضحية" وأن من الأصحاب من قال: أراد بذلك أن الأضحية وإن كانت سنة فإذا تركها جميع الناس، أثموا وحرجوا كالجماعات، والأذان، فإذا ضحى في بيته عن أهل البيت، أو عن نفسه، فقد وقع ثم اسم ضحية، وخرجوا عن الإثم.

والصحيح: أن مراد الشافعي رضي الله عنه بهذا القول: أن التضحية لا تختص بالحرم؛ كالهدي، بل يضحي في أي موضع شاء، وهو الذي أورده العراقيون.

الثاني: أنه ليس من شرط ما يلزم بالنذر أن يكون له أصل واجب بالشرع؛ كما رآه

ص: 60

بعض أصحابنا، وستعرفه من بعد.

الثالث: أنها لا تصير واجبة الذبح بمجرد الشراء بنية التضحية؛ كما قاله أبو حنيفة؛ لأن ذلك ليس بنذر؛ كما ستعرفه في بابه، وقد نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.

فإن قلت: قد نص على قولين فيما يحصل به لزوم التضحية:

أحدهما قاله في الجديد: لا تصير أضحية إلا بالقول، وهو موافق لهذا النص.

والثاني قاله في القديم: أنه لا يحتاج إلى القول، وبه قال ابن سريج، والإصطخري.

فعلى هذا ينبغي أن يلزم الذبح عند الشراء بمجرد نية الأضحية.

قلت: للأصحاب في إجراء هذا القول في مسألة الأضحية اختلاف.

فمنهم من نفاه، وقال: لا يصير ما في ملك الشخص مستقراً أضحية بمجرد النية بل لابد من القول قولاً واحداً، والقولان اللذان نص عليهما الشافعي- رضي الله عنه في الهدي، ومن خرج من الهدي إلى الأضحية قولاً فقد غلط.

والفرق: أن التقليد والإشعار علامة في الهدي مع النية، وليس في الأضحية علامة، والنية بمجردها لا حكم لها، وعلى هذا اندفع السؤال.

ومنهم من أثبته في مسألة الأضحية؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب وغيره، وسنذكره في باب النذر، لكنهم اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها تصير أضحية بالني والذبح.

والثاني: بالنية والسوق، وهذان نسبهما البندنيجي إلى ابن سريج، وعليهما يندفع السؤال.

والثالث: بالنية المجردة، قال في "البحر" هنا: وهو اختيار الإصطخري.

وقال القاضي أبو الطيب وغيره: إنه اختيار ابن سريج.

وعلى هذا لا يلزم التضحية في مسألة الشراء بنية التضحية؛ لأن محله- كما قال الرافعي- فيما إذا وقع ذلك في دوام الملك؛ لأن النذر فيما لا يملكه ابن آدم لا يصح؛ قال- عليه السلام: "لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم" وهذا حالة

ص: 61

النية لم يكن مالكاً لها؛ لأن الملك يتعقب الشراء، والنية وجدت حالة الشراء.

وأيضاً: فإن الشراء يوجب الملك، وكونها أضحية مزيل للملك، ويستحيل أن يكون [الشيء] الواحد في حالة واحدة موجباً لثبوت الملك وإزالته، فلما أفاد الشراء ثبوت الملك، امتنع أن يزول به الملك؛ كما إذا اشترى عبداً ينوي به العتق، أو داراً ينوي بها الوقف- يصح الشراء دون العتق والوقف.

نعم قد حكي في "تتمة التتمة" وجهاً: أن المشتري بنية التضحية يصير أضحية.

وقال الرافعي: غالب ظني: أنه صدر عن غفلة منه.

وقد سلك الماوردي طريقاً آخر في ترتيب الأصل السابق، فقال: في الأضحية ثلاثة أوجه:

أحدها: تصح بالقول وحده.

والثاني: بالنية وحدها.

والثالث: بالنية واستمرارها إلى الذبح.

وفي الهدايا قولان، ووجهان:

أحدهما: بالقول، وهو الذي نص عليه في الجديد.

والثاني: قاله في القديم: بالتقليد، والإشعار.

والثالث: بالذبح مع النية.

والرابع: بالنية المجردة.

واعلم أن ما ذكره الشيخ من الحصر يرد عليه ما إذا قال: "جعلت هذه الشاة أضحية؛ فإن التضحية بها تكون واجبة بلا خلاف؛ إن علق ذلك بشفاء مريض، أو قدوم غائب، ونحوه.

وكذا إن لم يعلقه على شيء؛ على أصح الوجهين في "تعليق القاضي أبي الطيب" في باب الهدي، وهو الذي يقتضي إيراد المراوزة الجزم به، وليس ذلك بنذر، بل ألحقه الأصحاب بالتحرير من العتق، أو الوقف؛ كما ستعرفه، ولذلك قال في الوجيز:

ص: 62

والتضحية سنة غير واجبة إلا إذا نذرها، أو قال:"جعلت هذه الشاة أضحية .. ".

ويؤيد ذلك قول الشيخ في باب النذر: ويصح النذر بالقول، وهو أن يقول:"لله على كذا"[أو "على كذا] ".

قال: ويدخل وقتها- أي: وقت الأضحية المتطوع بها والمنذورة إذا انبسطت الشمس يوم النحر، أي: لارتفاعها قدر رمح؛ كما قاله القاضي أبو الطيب، والماوردي، والبندنيجي، والقاضي الحسين، والفوراني، والإمام.

وقال في "البحر": إن الشافعي- رضي الله عنه أشار إليه في المبسوط بقوله: فإذا برزت الشمس يوم النحر، ومضى قدر صلاة العيد، أي [التي صلَاّها] رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المأتي بها بالتكبيرات، وقراءة سورة قاف، واقتربت الساعة، والخطبتين، أي: اللتين خطبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما روى مسلم عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع، فننحر، فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء". وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح، فقال: عندي جذعة أي: من معز خير من مسنة، فقال:"اذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك".

فإن قيل: هذا يدل على اعتبار الصلاة، فلم عدلتم عنه إلى وقتها؟

قيل: لأن فعل الصلاة ليس شرطاً في دخول الوقت بالنسبة إلى أهل السواد بوفاق الخصم؛ فكذلك في أهل الأمصار.

ونظمه قياساً: ما كان وقتاً للذبح في حق [أهل] السواد كان وقتاص له في حق أهل الأمصار؛ أصله: ما بعد الصلاة.

ولأن آخر الوقت معتبر بالوقت دون الفعل؛ فكذا أوله؛ كأوقات الصلوات.

وقد روى الشافعي- رضي الله عنه بسنده عن البراء بن عازب أنه- عليه السلام قال في خطبته يوم النحر: "لا يذبحن أحد حتى يصلي"، فعلق النحر

ص: 63

بصلاة المضحي، لا بصلاة الإمام، والمضحي يجوز أن يصلي منفرداً، وليس يعتبر فعله الصلاة اتفاقاً؛ فدل على أنه أراد وقت الصلاة.

وقد أغلب الماوردي، فحكى وجهين عن أصحابنا في أن وقتها في عهده- عليه السلام كان معتبراً بمضي الوقت؛ كما في زمن الخلفاء من بعده وإلى هلم، أو كان معتبراً بفعله- عليه السلام الصلاة.

وما قيدنا به كلام الشيخ هو ظاهر ما نقله المزني؛ فإنه قال: ولا وقت للذبح يوم الأضحى إلا في قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم[ذلك] حين حلت الصلاة، وقدر خطبتين خفيفتين، وإذا كان هذا الوقت فيدخل الذبح؛ وقد اختاره القفال؛ كما قال في "البحر".

ومن الأصحاب من لم يعتبر في دخول الوقت مضي قدر صلاته- عليه السلام وخطبتيه بل اعتبر مضي قدر ركعتين خفيفتين، وخطبتين خفيفتين.

ووجهه الإمام بأنا نعلم- أو نظن ظناً غالباً- بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خفف الصلاة والخطبة، لكان يضحي بعد ذلك، أو يأذن في التضحية، وهؤلاء تمسكوا بعَجُز قول الشافعي- رضي الله عنه السابق.

وعلى هذا ما المراد بالخفة في الركعتين؟

الذي أورده القاضي أبو الطيب: مضى زمان يأتي فيه بركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، وسورتين خفيفتين، وخطبتين خفيفتين؛ [وهذا يعضد قول الإمام: إن من صار إلى الاكتفاء بركعتين خفيفتين] فما أراه يكتفي بركعتين مشتملتين على أقل ما يجزئ في الصلاة، وكذلك ما أراه يعتبر خطبتين مع إسقاط شعار العيد والعلم عند الله.

وقال الماوردي: المعتبر على هذا الوجه: مضي زمان يأتي فيه بأقل ما يجزئ في صلاة ركعتين، وأقل ما يجزئ من خطبتين، وهو الذي صححه القاضي الحسين، وقال الروياني: إنه أقيس عندي.

وحكي الإمام عن المراوزة: أنهم قالوا: الوجهان في اعتبار قدر صلاته، فأما الخطبتان، فالمعتبر فيهما الخفة لا محالة، وكان- عليه السلام لا يطول، وقد ندب

ص: 64

إلى تخفيفهما في الجمعة، وهما ركن بقوله:"قِصَرُ الخطبة وطول الصلاة مِئنّة من فقه الرجل"، وكيف والناس يوم العيد مستوفزون.

وحكى عن بعض المصنفين: أنه اعتبر مضى قدر الركعتين لا غير، وهو المذكور في "الإبانة"، وقال: لا أعتد به.

وإذا جمعت بين ما ذكرناه، واختصرت، قلت: في المسألة خمسة أوجه:

أحدها: قدر صلاته- عليه السلام وخطبتيه.

والثاني: قدر صلاته، وخطبتين خفيفتين، عملاً بظاهر النص.

والثالث: قدر ركعتين يأتي فيهما بأقل ما يجزئ وخطبتين كذلك.

والرابع: قدر ركعتين يأتي فيهما بفاتحة الكتاب، وسورتين خفيفتين، وخطبتين [خفيفتين].

والخامس: لا يعتبر زمن الخطبة أصلاً.

قال: ويخرج وقتها بخروج أيام التشريق؛ لما روى جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيام التشريق كلها منحر".

وروي: أيام منى كلها منحر"، وأيام منى هي ثلاث بعد العيد؛ وهذا نص في المدعى، وحجة على من قال: لا يجوز الذبح في اليوم الثالث منها.

ومن القياس: أنه يوم من أيام التشريق، أو يوم من أيام منى، أو يوم يستدام فيه تحريم الصوم، أو يوم من أيام الرمي فوجب أن يصح النحر فيه؛ كاليومين قبله.

ولا فرق عندنا في المدة المذكورة بين ليلها ونهارها في الإجزاء؛ لأن اسم اليوم يتناول الليل والنهار.

ص: 65

نعم: الأحسن الإتباع، وإيقاع التضحية نهاراً؛ خشية من أن يخطئ المذبح، أو يصيب نفسه، وليتيسر تفرقة نصيب الفقراء إليهم طرياً، فلو خالف كره؛ قاله البندنيجي، وغيره.

قال: ومن لم يضح حتى فات الوقت، فإن كان تطوعاً لم يصح؛ لفوات الوقت.

قال الإمام: فإن قيل: التضحية عندكم مؤقتة، والسنن المؤقتة إذا انقضت أوقاتها، فلكم في قضائها قولان، فهلا خرجتم قضاء الأضحية على هذا الخلاف؟

قلنا: ما فات من السنن الراتبة لا يمكن تداركه أداء، لم يشرع فيه القضاء؛ لتحقق الفوات فيها، وانقطاع المستدرك، والأضحية إن فات وقتها في سنة، أمكن إيقاعها أداء في أخرى إذ الوقت قابل لأضاحٍ يتقرب بها؛ فلا يكاد ينقدح معنى القضاء.

قال: وهكذا نقول فيما [هذا] سبيله؛ حتى إذا كان الرجل يعتاد صوم أيام تطوعاً، فترك الصوم، فليس يتحقق عندي قضاؤه، وكذلك لو أفسده بعد التحرم به، فإن الذي يأتي به يكون ابتداء تطوع، والأيام التي رغب الشارع في التطوع بصيامها إذا لم يصمها [المرء] فلا معنى لتقدير القضاء فيها.

وغيره قال في الجواب: إن القضاء [إنما] يجب بأمر جديد، وقد قام الدليل على مشروعية القضاء في الصلاة، وهو قوله- عليه السلام:" من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها". ولا يلحق بها الأضحية؛ لأن الزمان كله وقت لفعل صلاة النوافل؛ فصح القضاء.

قلت: وهذا يبطل بما إذا كانت منذورة.

وحكم الهدي المتطوَّع به كما صرح به الإمام هنا، والماوردي في باب الهدي؛ وكذا الرافعي وغيهر حكم الأُضحية؛ حتى لا يجوز ذبحه في غير أيام النحر.

ص: 66

لكن القاضي أبو الطيب قال في كتاب النذور كما ستقف عليه: إن النحر في الحرم قربة، وهو في غير أيام النحر بمنزلة النحر في أيام النحر في غيره من البلاد.

وكلام القاضي الحسين يقرب منه.

وقد حكى الرافعي في كتاب الحج ما ذكرناه من الاختلاف وجهين، وأن أظهرهما- وهو الذي أورده في الوجيز والعراقيون- الأول، وكذلك قال في "الروضة": إنه الأصح.

والذي [أورده] في "التهذيب"، الثاني.

قال: وإن كان منذوراً، لزمه أن يضحي؛ لأنها عبادة مالية، تعلقت بوقت فجاز أداؤها بعد فواته؛ كزكاة الفطر؛ وهذا ما حكاه البندنيجي وغيره، وقالوا: إن ذلك يكون قضاء. وزاد أبو إسحاق المروزي فقال: إذا ذبحها في أيام النحر من قابل، كانت قضاء أيضاً لأن الوقت الأول تعين لها؛ كذا حكاه في "البحر" وغيره عنه.

ويسلك بالمذبوح مسلك الأضحية في وقتها.

وقال ابن أبي هريرة: إنها تكون للمساكين خاصة، لا يجوز أن يأكل منها، ولا يدخرها؛ لأنها قد صارت قضاء عن الأداء؛ فصارت حقاً لغيره.

والذي عليه الجمهور، الأول.

ص: 67

ولا فرق في ذلك بين أن يتفق ترك الأضحية مع وجودها، للنسيان، أو غيره، أو مع غيبتها؛ كما إذا ضلت.

لكن القاضي أبو الطيب قال فيما إذا ضلت، ثم وجدها بعد أيام التشريق: فإنه ينحرها، وتجزئه، ويقع ذلك موقع التضحية.

وقال فيما إذا كان قد أوجبها، ثم نسيها عنده حتى مضت أيام التشريق: فإنها لا تجزئه في الأضحية، ولكن يذبحها، ويفرقها على الفقراء، فيكون له ثواب تفرقة اللحم، دون إراقة الدم.

وقال في "البحر" فيما إذا ضلت [ثم وجدها] بعد أيام النحر: إن له ذبحها، وله تأخيرها إلى أيام النحر.

ولو كان تأخير الذبح مع القدرة عليه، لزمه النحر، وعليه البدل؛ كما سنذكره عن "الحاوي" من بعد.

وما ذكرناه هو المشهور.

وقد أغرب الإمام فقال: التضحية الملتزمة في الذمة بقوله: "لله عليَّ أن أضحى بشاة"؛ هل تتأقت التضحية بها في يوم النحر، وأيام التشريق؛ كما تتأقت بذلك إذا قال:"جعلت هذه أضحية"، أو لا تتأقت، ويجوز فعلها في جميع أيام السنة، مهما وجدت كما في [غير] دماء الجبرانات؛ لوقوع ذلك في الذمة؟ فيه وجهان.

وعلى الثاني منهما: لو كان قد قال بعد ذلك: "جعلت هذه الشاة عن جهة نذري"؛ فهل يتأقت ذبحها؟

إن قلنا: إن لهذا القول أثراً كما سيأتي ففيه وجهان:

أحدهما: لا؛ كالمنذورة المطلقة؛ فإنها مصروفة إلى النذر.

والثاني: تتأقت، تغليباً لحكم التعيين.

وقد عكس الماوردي ذلك في الهدي، فقال: إن كان الهدي واجباً عن نذر، تعين فيه من غير أن يتعلق بالذمة، فالمذهب: أنه لا يجوز أن ينحره إلا في أيام النحر.

وقد أشار في موضع من "المختصر" إلى أنه يجوز قبل أيام النحر أو بعدها.

وحكم التضحية كما سنعرفه أيضاً حكم الهدي.

ص: 68

قال: والمستحب لمن دخل عليه عشر ذي الحجة، وأراد أن يضحي ألا يحلق شعره، ولا يقلم ظفره حتى يضحي، لما روى مسلم عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ذبح يذبحه؛ فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً من حتى يضحي". والذبح بكسر الذال: الذبيحة، وبالفتح: المصدر.

وحمل الشافعي- رضي الله عنه ذلك على الاستحباب، لحديث عائشة- رضي الله عنها:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهدي من المدينة، فأقبل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنب المحرم"، رواه البخاري ومسلم.

وعنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مع أبيها، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي"، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحاياه؛ لأنه أقام بالمدينة، وأنفذه مع أبي بكر سنة تسع، وحكمها أغلظ؛ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير المحرم.

وعن بعض أصحابنا: أنه خرَّج وجهاً في أنه يجب تركها كمذهب أحمد حملاً لظاهر الأمر على الوجوب؛ حكاه الرافعي عن الرقم.

وقد أشار إليه القاضي أبو الطيب حيث قال: وأما قولهم: "النهي يدل على التحريم"، فعلى قول أكثر أصحابنا لا يدل على التحريم، ويحمل على الاستحباب؛

ص: 69

وهذا هو المشهور.

واختلف أصحابنا في معنى الأمر به:

فقيل: تشبيهاً بالمحرمين؛ فإنهم الأصل، وهم أصحاب الهدايا والقرابين.

قال الإمام: وهذا غير سديد؛ فإنا لا نأمر العازم على الأضحية أن يجتنب الطيب، ولبس المخيط.

وقيل: إن التضحية في مأثور الأخبار سبب في استجلاب الغفران، والعتق من النار؛ قال عليه السلام لمن كان يحرضه على التضحية:"كثر ضحيتك يعتق بكل جزء منها جزء منك من النار".

وعلى كل حال، فإن خالف، وحلق شعره، أو قلم ظفره؛ فقد ارتكب مكروهاً.

وقيل: إنما يكره ذلك إذا كان قد اشترى ما يضحي به، أو عيَّنه من جملة مواشيه، أما إذا لم يكن ذلك، ونوى أن يضحي، فلا يكره له ذلك؛ قاله الماوردي، والحديث السابق دال عليه.

لكن رواية الشافعي- رضي الله عنه تدل على الأول؛ لأنه روى عن أم سلمة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره، ولا بشره شيئا".

وذكر عن الشافعي- رضي الله عنه أنه ذكر في قوله: "فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً" تأويلين:

أحدهما: أنه أراد بالشعر: شعر الرأس، والبدن، وبالبشرة: تقليم الأظفار.

والثاني: أنه أراد بالشعر: شعر الرأس وبالبشرة: شعر البدن.

قال الماوردي: وعلى هذا لا يكره له تقليم الأظفار، والصحيح الأول للخبر.

قال: ويجزئ في الأضحية الجذع من الضأن؛ لما روى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعز عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن".

ص: 70

وروي أنه- عليه السلام قال: "نعم الضحيَّة الجذعة من الضأن".

وتخالف الجذعة من المعز حيث لا تجزئ على المذهب كما سنذكره لأن لحم المعز دون لحم الضأن؛ فجعل زيادة سِنّه جابراً لنقص لحمه.

قال: وهو ما له ستة أشهر، أي: ودخل في السابع؛ كما حكاه غيره.

وعن أبي محمد القتبي: أنها تجذع إذا استكملت سنة، ودخلت في الثانية، ويحكي عن ابن فارس أيضاً وهو الذي حكاه الإمام هنا، والبندنيجي أيضاً وحكاه حرملة، واختاره النواوي.

وقال في الذخائر: إنه الذي عليه أكثر الأصحاب.

وقال في "التهذيب": هي التي استكملت سنة، وشرعت في الثانية، أو سقط سنها قبل ذلك، وكأنه أخذ ذلك من كون الإجذاع كما قال أبو الطيب: سقوط أسنان اللبن، ونبات غيرها، كما يثغر الصبي.

وعن الجوهري أنه قال: الجذع: اسم له في زمن ليس بسن تنبت، ولا تسقط، وهذا الذي ذكره الجوهري هو ما حُكي عن رواية أبي الحسن العبادي، تشبيهاً لذلك بالبلوغ في الإنسان؛ فإنه تارة يكون بالسن؛ إن لم يوجد احتلام، وتارة يكون بالاحتلام؛ إذا وجد قبل استكمال خمس عشرة سنة في زمن الإمكان، والكلام في هذا مستوفي في كتاب الزكاة.

وقد حكى بعضهم: أنه سأل أهل البادية، كيف تعرفون الضأن إذا جذع؟ قال: لا تزال الصوفة قائمة في ظهره ما دام حَملاً، فإذا نامت الصوفة في ظهره، علم أنه قد أجذع.

قال: والثنية من المعز والإبل والبقر، لاتفاق العلماء على ذلك.

ص: 71

وقد ادعى الماوردي فيه الإجماع.

نعم: ذهب الأوزاعي إلى جوازها بالجذعة من جميع الأنواع، والحديث حجة عليه، وكذا قوله- عليه السلام لأبي بردة بن نيار حين قال له:"عندي عناقُ جذعُ، وهي خير من شاتي لحم، فهل تجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك"، كما أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما، لأن العناق الأنثى من المعز ما لم يتم لها سنة.

وقد جاء في رواية عندي: داجناً من المعز" فقال: "اذبحها، ولا تصلح لغيرك".

قال الماوردي: وفي تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة بأجزائها عنه وجهان:

أحدهما لأنه كان قبل استقرار الشرع؛ فاستثناه.

والثاني: أنه علم من طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه.

واختلفوا هل كان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد أو وحي على وجهين:

فإن قيل: قد أخرج البخاري ومسلم عن رواية عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً، فقسمها على أصحابه ضحايا، فبقي عتود، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ضح به أنت"، وهذا يدل على جواز التضحية بما دون الثني من المعز؛ لأن العتود بفتح العين وضم التاء ثالثة الحروف؛ كما قال الجوهري: من أولاد المعز ما رُعي وقوي، وأتى عليه حول.

قلنا: قد قال [به] بعض الأصحاب؛ تخريجاً كما قاله في الرقم للعبادي.

لكن الصحيح عدم الإجزاء.

وجواب الحديث: أنه وقع في حديث عقبة هذا من رواية يحيى بن بكير عن الليث ابن سعد، وفيه:"ولا رخصة لأحد فيها بعدك".

ص: 72

قال البيهقي: فهذه الزيادة إذا كانت محفوظة، كانت رخصة [له]؛ كما رخص لأبي بردة.

وقال غيره: حديث عقبة منسوخ بحديث أبي بردة.

قال الشيخ زكي الدين: وفيه نظر؛ فإن في حديث عقبة "ولا رخصة لأحد فيها بعدك".

وأيضاً: فإنه لا يُعرف المتقدم منهما من المتأخر.

قال: فالثنية من المعز: ما لها سنة تامة، أي: ودخلت في الثانية؛ لأنه لا يعرف تمام الأولى إلا بالدخول في الثانية؛ وهذا ما تقدم ذكره في باب صدقة المواشي، وهو المذكور في "الحاوي".

وقد قيل ثم: إنه المحكي في "الإبانة" أيضاً.

وسميت به لطلوع سنها.

لكن الذي أورده القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ، والإمام: أنها التي استكملت سنتين، ودخلت في الثالثة.

قال الإمام: ويسمى الحيوان إذا كان بهذا السن: مسناً ومسنة.

وقد نسب الماوردي هذا القول إلى رواية حرملة، وقال: إنه ليس بقول ثان في المسألة، وإنما هو محمول على بيان انتهاء سن الثنية، والأول محمول على بيان ابتداء سنها، والله أعلم.

قال: ومن البقر: ما لها سنتان، أي: ودخلت في الثالثة، وهذا ما حكاه ابن الصباغ، والإمام، وغيرهما.

وفي "تعليق القاضي أبي الطيب": أنها التي لها ثلاث سنين، وطعنت في الرابعة، ولم يحك غيره.

وهو المعزى في "الحاوي" إلى رواية حرملة، ثم قال: وتأويله: أنه بيان لانتهاء من الثنية، والأول بيان لابتداء سنها.

قال: ومن الإبل ما لها خمس سنين، أي: ودخلت في السادسة.

قال في "الحاوي": وروى حرملة عن الشافعي- رضي الله عنه: [أنها التي]

ص: 73

استكملت ستاً ودخلت في السابعة، وليس هذا قولاً ثانياً يخالف الأول، كما وهم فيه بعض أصحابنا، ولكن ما رواه الجمهور عنه وهو قول أهل اللغة إخبار عن ابتداء السن، وما رواه حرملة إخبار عن انتهاء سن [الثني].

قال الأصحاب: والحكمة في اعتبار السن المذكور في هذه الأجناس: أن به ينتهي إلى حالة الكمال من الحمل والنزوان، فهو كالبلوغ في الإنسان.

وقد نبه الشيخ بإجزاء الأنثى من الأجناس المذكورة إذا اتصفت بالسن المذكور على إجزاء الذكر منها، إذا اتصف به من طريق الأولى؛ لأن الضحية المراد منها اللحم، وقد تقدم في كلامه: أن ما يراد به اللحم: الذكر فيه أولى، حيث قال:"وقيل: إن أراد تفرقة اللحم، لم تجزئ الأنثى عن الذكر".

وقد صرح الأصحاب بأنه لا فرق بين الذكر والأنثى في الإجزاء إذا اتصف بالسن المذكور بل قالوا: إنه أفضل.

وقال الرافعي: على الصحيح، وينسب إلى نصه في رواية البويطي؛ لأن لحمه أطيب.

وحكى الإمام أن الشافعي- رضي الله عنه نص في كتاب الحج على أن الأنثى أحب من الذكر، وإنما قال هذا في القرابين والهدايا، وأن أصحابنا ترددوا في هذا على وجهين.

فقال قائلون: إنما ذكر ذلك في جزاء الصيد عند تقويم الحيوان، ليخرج مقدار قيمته من الطعام؛ فإن الأنثى أكثر قيمة؛ فلا يفدى الأنثى بالذكر؛ إذا أراد التقويم.

وقال آخرون وهو المذكور في الوجيز: إنه أراد الأنثى التي [لم] تلد؛ فإنها أطيب لحماً، وأرطب من الذكر وإنما يذهب طيب لحم الأنثى إذا ولدت، وطيب لحم الذكر إذا كثر النزوان، وإنما عم في الناس تفضيل الذكر على الأنثى في الطيب؛ لأنهم يعتادون أكل لحوم الخصيان، ولحومها أطيب.

قال الإمام: والوجه عندنا: تقديم الذكر على الأنثى، وحمل النص على التقويم، كما تقدم.

ثم لا ينبغي أن يعدل الشيء إلا بما يساويه، فالفحل الذي أكثر النزوان لا يقاس بالأنثى الرخصة التي لم تلد، لكن يعتبر بالتي ولدت؛ فإن النزوان في الذكورة؛

ص: 74

كالولادة في الإناث، وإذا فرضنا ذكراً لم ينز وأنثى لم تلد، فالذكر [أفضل] وأولى.

ونبه أيضاً على أن غير الأنواع المذكورة لا تجزئ في الأضحية بالمفهوم، كما صرح به غيره من الأصحاب، حيث قالوا: التضحية تختص بالنعم؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] وهي: الإبل، والبقر، والغنم، كما نقله المفسرون.

قال في "الحاوي" و"البحر": سميت بذلك، لنعمة وطئها؛ حتى لا تسمع لأقدامها وقعاً.

وقيل: لعموم النعمة بها في كثرة الانتفاع بألبانها ونتاجها.

ومن المعنى: أنه حق لله تعالى، متعلق بالحيوان فوجب أن يختص ببهيمة الأنعام؛ كالزكاة.

وقد ادعى الرافعي الإجماع على اختصاصها بالأنعام قال: وتجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة؛ لما روى مسلم عن جابر قال:"نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرةَ عن سبعة" وجاء في غيره: أنه قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: أربع عشرة مائة، أي: ألفاً وأربعمائة.

وفي ابن يونس: أن أبا إسحاق المروزي قال: تجزئ البدنة عن عشرة؛ لأنه [قد] روى ذلك عن ابن عباس، يريد ما رواه البخاري والترمذي عنه أنه قال:"كنا في سفرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتركنا في البدنة عشرة"، وهذا لم أره في غيره، نعم: حكاه

ص: 75

القاضي الحسين عن إسحاق، وإن روى خبراً: أن أصحاب الحديبية كانوا سبعمائة، فنحروا سبعين بدنة؛ وهذا لا يثبته أهل الحديث.

قال: فإن كان بعضهم يريد اللحم، وبعضهم يريد القربة جاز؛ لأن كل سبع منها بمنزلة شاة، وإذا فعلوا ذلك قسمت بينهم إن قلنا: إن القسمة إفراز نصيب، وإن قلنا إنها بيع، فمنهم من منع؛ لأن بيع اللحم الطري باللحم الطري لا يجوز.

ولأنه يؤدي إلى بيع لحم الأضحية، وهو غير جائز.

والطريق في الانفصال أن يملك الحصة المضحي بها لثلاثة من الفقراء، ثم يبيعونها بدراهم إن شاءوا.

قال القاضي أبو الطيب، والماوردي:"أو يصبروا" إلى أن ييبس اللحم؛ فيقتسموه، أعني: الفقراء، ومن لم يرد القربة، أو يطبخوا ذلك، ويأكلوا الجميع.

ومن الأصحاب من جوز القسمة، ومن صاحب التلخيص، وإن قلنا: إنها بيع للضرورة.

قال الرافعي: وأيضاً: فإنما نجعل القسمة على قول؛ إذا كانت الشركة فيما يقبل البيع، والضحية لا تقبله.

والأصح في "المهذب" وغيره الأول، وبه جزم القاضي أبو الطيب والماوردي.

وفي الوجيز؛ لانتفاء الضرورة بما ذكرناه.

وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا تجزئ الشاة إلا عن واحد، وهو كذلك، وما رواه أبو داود، والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم حين ضحى بكبش قال:"بسم الله، والله أكبر، [اللهم] هذا عني، وعمن لم يضح من أمتي"، فهو اشتراك في الثواب، وهو جائز.

نعم: لو اشترك اثنان في شاتين على الشيوع ففي الإجزاء وجهان، يخرجان كما قال الإمام على الخلاف في إجزاء إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة.

وأظهرهما في الرافعي: عدم الإجزاء لتمكن كل واحد منهما من الانفراد.

ص: 76

قال: وأفضلها البدنة، ثم البقرة، ثم الجذعة، من الضأن؛ لقوله- عليه السلام:"من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة؛ ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً"؛ فدل هذا الخبر على تفاوت الدرجات.

وأيضاً: فإن لحم البدنة أكثر من لحم البقرة، ولحم البقرة أكثر من لحم الجذعة من الضأن، وما كان أكثر لحماً، كان أفضل، للتوسع على الفقراء، وعموم نفعه، وقد قال – عليه السلام:"لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن".

واستأنس القاضي الحسين في تفضيل البدنة على البقرة بأن الله تعالى جعل نصاب الإبل في الزكاة خمساً، ونصاب البقر ثلاثين، فبان التفاوت فيما بينهما، والله أعلم.

قال: ثم الثنية من المعز، أي: أفضل من سبع بقرة، أو بدنة، لانفراده بإراقة الدم المطلوب في ذلك، وطيب اللحم؛ ولأجله قال الأصحاب: إن التضحية بسبع شياة، أفضل من ذبح بدنة، على أصح الوجهين في "التهذيب" وهو الذي حكاه الفوراني، والإمام عن الأصحاب، ثم قال: ولم أرهم مجمعين عليه، ولا أرى القطع به، وكيف أقطع به والبدنة مخصوصة بالذكر في كتاب الله من الشعائر.

والذي اختاره في "المرشد": أن البدنة أفضل، والتضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن.

قال الشافعي- رضي الله عنه في المبسوط: "وكل ما غلا من الرقاب، كان أحب إليَّ [مما رخص.

وقال في القديم: كما قال القاضي الحسين: "استكثار القيمة مع استقلال العدد أحب إلى من استكثار العدد مع استقلال القيمة، وفي العتق استكثار العدد أحب إليَّ [من استكثار القيمة دونه]؛ لأجل تخليص الرقاب من ذل الرق.

قال: وأفضلها البيضاء؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى

ص: 77

الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وفسر بعضهم تعظيمها باستحسان الهدى، والضحايا، وإسمانها، والبياض أحسن من غيره.

قال الإمام: وفي قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} معنى لطيف، وهو أن إقامة مراسم الشريعة قد يستحب على المرور والاعتياد والنشوء، واعتماد التعظيم والاستحسان لا يتأتى إلا من تقوى القلوب.

وقد روى مسلم والبخاري عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشين أقرنين أملحين، يذبح، ويكبر، ويسمي، ويضع رجله على صفحتهما"، والأملح: الأبيض الشديد البياض في قول ابن الأعرابي، وثعلب، ولم يذكر الإمام غيره.

وقال الكسائي، وأبو زيد، وأبو عبيد: هو الذي فيه بياض وسواد، وبياضه غالب.

وقالت عائشة: "هو الذي ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد، ويبرك في سواد" تعني: أن مواضع هذه مزيدة سواد، وباقية بياض؛ كذا قاله أهل اللغة.

وقال أصحاب الحديث: معنى كونه ينظر في سواد، ويبرك فيه ويطأ فيه: أن ذلك يكون في ظل نفسه؛ لسمنه؛ كذا حكاه البندنيجي عنهم.

قال الماوردي: وفي قصد أضحيته بالأملح وجهان:

أحدهما: لحسن منظره.

والثاني لشحمه، وطيب لحمه؛ لأنه نوع يتميز عن جنسه.

قال: ثم الصفراء؛ لأنها أقرب إلى البيضاء.

وغير الشيخ قال: ثم العفراء، وهو المذكور في المذهب، لقوله- عليه السلام "لدم عفراء عند الله أزكى من دم سوداوين":

قال: ثم السوداء؛ لما ذكرناه.

وقد حكى ابن قتيبة: أن مداومة أكل الجذاع السود يورث موت الفجأة.

ص: 78

والذي أورده القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: أن أفضلها البيضاء، ثم العفراء [ثم البلقاء، ثم السوداء.

وقال الماوردي: أفضلها البيضاء، ثم العفراء]، ثم الحمراء، ثم البلقاء، ثم السوداء، لأن لحوم ما خالف السوداء أطيب وأصح.

والعفراء: هي التي يضرب لونها إلى البياض، وليست صافية البياض، ومنه قيل للظباء: العُفْر.

قال: ولا يجزئ فيها معيب يُعيّب بنقص اللحم.

الأصل في ذلك: ما روى عن البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابعي أقصر من أصابعه، وأناملي أقصر من أنامله، فقال:"أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ظلعها، والعجفاء التي لا تنقى"، أخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح.

وفي لفظ لأبي داود: "والكسير [الذي] لا ينقى"؛ فنص على عدم إجزاء هذه الأربعة، وفهم معناه، وهو اتصاف الذبيحة بنقص ما هو مستطاب من الحيوان لا لتحصيل طيب أجزاء، أو هزال أو ما يفضى إليه، وذلك عين المدعى، وإنما قلنا ذلك؛ لأن العوراء البين عورها إذا قلعت الحدقة منها فقد، [ذهب منها شحمة العين، وهي

ص: 79

مستطابة لا يحصل بفواتها طيب آخر، وإن بقيت فقد] عدم رعيها من الجانب الخراب، وذلك يؤدي إلى هزالها لو بقيت.

والعجفاء التي لا تنقى أو الكسير الذي لا ينقى صريح في عدم إجزاء الهزيلة؛ لأن التي لا تنقى قيل: إنها التي لا شيء فيها من الشحم، والنقي: الشحم.

وقيل: التي لا مخ لها؛ لأن النقاء: المخ، ويقال بالحاء.

والجامع ما نقله ابن الصباغ، وقيل: إنه مخ العظم، وشحم العين.

والكسير في رواية أبي داود، المراد به: الذي لا يقوم، ولا ينهض؛ من الهزال.

والعرجاء البين ظلعها. [وهو] عرجها، [لأن ذلك] يفضي بها إلى الهزال؛ لقلة ترددها في المرعى، وسبق غيرها إليه.

والمريضة البين مرضها كذلك.

والمراد بها في الخبر كما قال أبو حامد؛ حكاية عن الشافعي- رضي الله عنه الجرباء وما في معناها: كالمجروحة، وذات القروح.

وقال: إن قليل الجرب وكثيره سواء؛ لأنه يفسد اللحم الذي هو عليه، وما ليس عليه جرب، فهو لحم مريضة؛ وهذا ما أورده الماوردي، وحكاه القاضي الحسين عن الشافعي رضي الله عنه، وتبعه في "البحر".

ويقرب منه ما حكاه الإمام عن شيخه: أن أدنى الجرب يفسد اللحم؛ فهو في معنى المرض الكثير لكنه قال: إنه متروك عليه؛ فإن أدنى الجرب لا يظهر أثره في اللحم: نعم: إذا عم، وظهر ظهوراً فاحشاً، فهو يهزل إهزال المريض، ولا يبعد أن يفسد اللحم؛ فلابد أن يكون بيناً كما ذكرنا في المرض، وعليه ينطبق قول ابن الصباغ: المراد بها في الحديث: الجرباء الذي كثر جربها وأثر في لحمها، واختاره في "المرشد".

ولأن المقصود بالأضحية اللحم، فما كان مؤثراً في نقصه، منع من الإجزاء، كالعتق في الكفارة، لما كان المقصود منه تخليص الرقبة، ليتفرغ للعبادات والوظائف المختصة بالأحرار، منع الإجزاء فيها ما ضر بالعمل لأنه لا يتأتى هذا الغرض إلا إذا اشتغل، وقام بكفايته، وإلا فيصير كلَاّ على نفسه وغيره.

ص: 80

وعن أبي الطيب ابن سلمة أن العوراء تجزئ إذا كانت الحدقة باقية؛ فإن ذلك لا يؤثر في الهزال، [ولا في ظاهر الصورة.

قال الغزالي: ويرد عليها العمياء إلا أن العمى يؤثر في الهزال] على قرب بخلاف العور، والأول هو المنصوص عليه للشافعي- رضي الله عنه فإنه قال:"أقل العور البياض الذي يغطي الناظر".

نعم: لو غطى بعض الناظر قال في "الحاوي": فإن كان الذاهب الأكثر لم تجزئ أيضاً، وإن كان أقل أجزأت؛ كالحولاء، والعمشاء، وكذا العشواء، وهي التي تبصر بالنهار دون الليل على الصحيح.

وفيها وجه آخر لبعض البصريين: أنها لا تجزئ، وأجراه "البحر" في التي ذهب اليسير من بصرها.

وفي معنى ما نص عليه الشارع الثولاء: وهي التي تدور في المرعى ولا ترعى، وقد جاء النهي عنها بصريح اللفظ عن علي، كرم الله وجهه.

والهيماء: وهي الشديدة العطش، التي لا تروى بقليل الماء وكثيره؛ لأنه داء مؤثر في اللحم.

ومن طريق الأولى العمياء، والمقطوعة اليد أو الرجل، أو أخذ الذئب ونحوه قطعة من فخذها.

والمعنى في قول البراء بن عازب: "وأصابعي أقصر من أصابعه": أنه صلى الله عليه وسلم أشار بأصابعه، وكذلك البراء بن عازب أشار بأصابعه، كما رواه الشافعي، رضي الله عنه.

وقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "البين عورها" من على عينها نقطة يسيرة كما تقدم.

وكذا بقوله: "البين مرضها" من بها مرض يسير، فإنه لا يؤثر كما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه في الجديد، وإن كان قد أشار في القديم إلى تأثيره في الخطر.

قال الماوردي: فصار على قولين.

وحكى الرافعي عدم الإجزاء وجهاً عن "الكافي" وغيره.

وبقوله: "البين ظلعها": العرج الخفيف الذي يمكن الشاة معه متابعة الغنم.

وبقوله: "التي لا تنقي": المهزولة التي ليست بغاية في الهزال، وضبط الأصحاب

ص: 81

ما يمنع منه بانتهاء الحيوان به إلى حد تأباه نفوس المترفهين في رخاء العيش، ورخص الأسعار.

قلت: وينبغي أن يكون المرجع في ذلك إلى العرب؛ كما سنذكره فيما يستطاب، ويستحب.

وقد قيل: لا يؤثر ذلك أيضاً؛ قاله في "الوسيط".

وقال في "الحاوي": إن كان العجف بها قد أذهب نِقْيَها، نظر:

فإن كان عجفها؛ لمرض، لم تجزئ، وإن كان خِلْقة، أجزأت؛ لأنه في المرض داء، وفي الخلقة غير داء.

ومراد الشيخ بقوله: "ينقص اللحم" أي: إما في الحال: كقطع فلقة من الفخذ، ونحوه؛ أو في المآل إن دام: كالعرج، ونحوه.

وكذلك قال الأصحاب:

لا يشترط في المريضة البين مرضها- أي: الكثير- إفضاء المرض بها إلى الهزال؛ إذ لو شرط ذلك لما كان لذكره- عليه السلام العجفاء مع المريضة معنى؛ فالمرض إذن مستقل.

قال الإمام والغزالي: وفيه وجه بعيد: أنه إذا لم يظهر العجف فلا أثر له؛ لأنه لا يؤثر في اللحم.

وعند كتاب ابن كج حكاية وجه: أن المانع من المرض الجرب، أما سائر الأمراض فلا تمنع الإجزاء، والصحيح الأول.

نعم، لو أضجعت الشاة [للذبح] فانكسرت رجلها في اضطرابها قبل الذبح؛ لإحالته ففي إجزائها وجهان مشهوران:

أشبههما: المنع أيضاً.

أما إذا انكسرت حال الذبح، فقد جزم الشيخ أبو محمد بالإجزاء.

ويندرج فيما ذكره الشيخ بالتفسير الذي ذكرناه من انكسرت أسنانها بحيث لا يمكنها أن تعتلف؛ كما حكاه أبو الطيب، والماوردي عن الأصحاب دون من يمكنها العلف مع كسر السن.

ص: 82

وقوله في "الوسيط": "وتناثر الأسنان لا يمنع الإجزاء؛ إذ لا يؤثر في اللحم"، ولم يرد فيه حديث منطبق على الصورة الأخيرة، لكنه قال: وقيل: إن تناثر جميع الأسنان لا يجزئ، وإن تناثر بعضها أجزأ، وهو بعيد ينافي ذلك.

والذي حكاه القاضي الحسين عن الشافعي- رضي الله عنه فيها: أنه لا يَحْفَظُ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأسنان شيئاً، ولا يجوز فيها إلا واحد من قولين:

أحدهما: لا تجزئ؛ لأنه يضر باللحم؛ لعدم الأسنان وإن قلَّ ذلك.

والثاني: الإجزاء؛ لأنه لا منفعة في السن؛ فصار كالقرن.

وكذا يندرج فيه الحامل إن قيل: إن الحمل في الحيوان عيب؛ كما هو الصحيح، وستعرفه من بعد، وهو وجه محكي في "شرح الوجيز" للعجلي عن بعض الأصحاب.

والمشهور: الإجزاء؛ لأن ما حصل من نقص في اللحم بسبب الحمل ينجبر

ص: 83

بالجنين؛ فهو كالخصي، كما سنذكره.

واحترز الشيخ بقوله: ما ينقص اللحم، عن العيب الذي لا ينقصه، وهو على قسمين:

أحدهما: ألا يحصل به إلا نقص القيمة، مثل: كونها جموحاً، أو عضوضاً، أو رموحاً، أو تشرب لبنها، ونحو ذلك؛ فهذا لا يمنع الإجزاء وجهاً واحداً.

وألحق به أبو الطيب التي انشق طرف أذنها.

والثاني: أن ينقص غير القيمة، وهو- أيضاً- على قسمين:

أحدهما: أن ينقص ما ليس بمأكول: ككسر القرنين من أصلهما أو أحدهما، والأولى تسمى: القصعاء، والثانية تسمى: الجمَّاء، وذلك لا يمنع الإجزاء- أيضاً- سواء سال الدم أو لم يسل؛ لأن الفائت جزء ليس بمأكول؛ فكان كالصوف.

ومن طريق الأولى كون الجلحاء تجزئ: وهي التي لم يخلق لها قرن، والعضباء: وهي التي ذهب بعض قرنها، والعصماء: وهي التي انكسر غلاف قرنها، والقصماء: وهي التي انكسر قرنها الباطن؛ فإن القرن الظاهر غلاف القرن الباطن. نعم، تكره التضحية بذلك.

والثاني: أن ينقص ما هو مأكول غير اللحم، وهو- أيضاً- على قسمين:

أحدهما: ما يكون تنقيصه سبباً في زيادة اللحم وطيبه: كالخصي؛ فإنه ينقص الأنثيين ويزيد في اللحم وطيبه، وهذا لا يمنع الإجزاء.

قال الإمام وفاقاً: وعنه احترزنا بقولنا في تنقيح المعنى المراد بالنص: لا لتحصيل طيب آخر.

وليس لقائل أن يقول: إن الخصي ليس بمعيب؛ لما ستعرفه في باب المصراة.

وقد أغرب ابن كج، فحكى في الخصي قولين، وأن الجديد: المنع.

والثاني: ما لا يحصل بسببه زيادة في اللحم وطيبه، وذلك يُفْرَضُ في صور:

منها: قطع الأذنين، وقد حكى ابن يونس إلحاقه بالقسم قبله، وهو الذي يفهمه كلام الشيخ.

والذي أورده البندنيجي، وابن الصباغ، والقاضي الحسين: عدم الإجزاء.

ص: 84

قال ابن الصباغ، والبندنيجي: لأنه قد ورد النهي عن المصفرة، وهي هذه، سميت بذلك- كما قال في "البحر"-: لأن الأذن إذا زالت، صفر مكانها، أي: خلا.

وقال الماوردي: إن المصفرة هي الهزيلة التي [قد] اصفر لونها من الهزال، وإن المقطوعة الأذن من أصلها تسمى [المصطلمة والمستأصلة]، ولا تجزئ أيضاً؛ لأنه قد ورد النهي عنها.

وقد حكى القاضي أبو حامد في "جامعه": [أنها لا تجزئ] أيضاً، ولم يحك سواه، بل قال في الشاة السكاء، وهي التي لم تخلق لها أذن: إنها لا تجزئ. وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن الشافعي- رضي الله عنه ولم يورد الفوراني غيره.

قال القاضي أبو حامد: وهذا بخلاف [فَقْد] الآلية منها؛ فإنها إن فقدت من أصل الخلقة أجزأت، وإن قطعت لم تجزئ. وهذا ما حكاه الماوردي.

وقال القاضي أبو الطيب: ما وجدت هذه المسألة للشافعي في "المبسوط".

ويمكن أن يفرق بأنه- عليه السلام أجاز أن يضحي بالثنية من المعز ولا ألية لها؛ فتكون الشاة المخلوقة بغير ألية بمنزلة المعز، وليس كذلك الأذن؛ فإن العنز التي لا أذن لها لا يضحى بها، سواء قطعت أذنها أو فقدت خِلْقةً.

وقد تلخص من ذلك في إجزاء المقطوعة الأذن وجهان، وإجراؤهما في التي لم يخلق لها أذن من طريق الأولى، وقد حكاهما في "الوسيط:" فيها قولين؛ تبعاً للإمام، وألحق مقطوعة معظم الأذن أو القدر الذي يظهر على بعدٍ بالمستأصلة.

وحكى في المقطوع قدر يسير من أذنها، أي: الذي لا يرى من البعد- كما قال الإمام- وجهين، والمذكور منهما في "الحاوي": المنع، وقال القاضي الحسين: إنه لا خلاف فيه.

وحكى الغزالي في الخرقاء: وهي المخرومة الأذن- زاد غيره: من السمة، وزاد الماوردي: ثقباً مستديراً.

والشرقاء: وهي المشقوقة الأذن- زاد الماوردي: بالطول- والمقابلة: وهي التي قطعت فلقة من أذنها، وتدلت من قبالة الأذن، والمدابرة: ما تدلت من خلف أذنها- طريقين-:

ص: 85

أحدهما: [أن] في الإجزاء وجهين، حكاهما القاضي الحسين والفوراني فيما إذا لم يذهب من الأذن شيء:

أحدهما: الجواز؛ للقياس؛ فإن ذلك لا ينقص مأكولاً؛ فأشبه الصوف.

والثاني: المنع، وهو اختيار القفال؛ لنهي علي- رضي الله عنه عن التضحية بذلك، وقال:"أمرنا باشتراف العين والأذن"، أي: بتأملهما وطلب سلامتهما، وروى:"نستشف"، أي: نكشف.

وتتمة الخبر: "ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء"، أخرجه أبو داود.

وعن القفال: أن وجه المنع في مثقوبة الأذن بالسمة؛ لأن موضع الشق يتصلب، ولا يمكن أكله.

والطريق الثاني: القطع بالإجزاء؛ كما أفهمه كلام الشيخ، وهو الذي أورده الماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ، واختاره في "المرشد"، لكن مع الكراهة؛ لقوله- عليه السلام:"أربع لا تجوز في الأضاحي"؛ فدل على الجواز فيما عداها، وإلا لم يكن للحصر فائدة، وحديث عليِّ محمول على الكراهة؛ جمعاً بينهما.

ومنها: المقطوعة الآلية، وقد تقدم ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب وغيره: أنها لا تجزئ، بخلاف التي لم تخلق لها ألية، وسوى في "التهذيب" بينهما في عدم الإجزاء، وألحق البعير الذي لم تخلق له ذنب بالشاة التي لم يخلق لها ألية.

وفي "الوسيط" حكاية وجهين في المقطوعة الألية، وفي التي لم تخلق لها ألية وجهان مرتبان، وأولى بالجواز.

ومنها: المقطوعة الضرع، وقد قيل: إنها كالمقطوعة الآلية؛ فيجيء فيها الطريقان، وهما جاريان فيما إذا خلقت ولا ضرع لها، حكاهما القاضي الحسين.

وقيل: تجزئ المقطوعة الضرع؛ لأنه ليس من الأطايب المقصودة، فهو كالإخصاء،

ص: 86

وبه يحصل فيها ثلاث طرق.

فرع: الموسومة تجزئ؛ لأن ذلك ليس ينقص اللحم ولا [يؤثر] نقصاناً فاحشاً في الثمن.

قال في "البحر": وقال بعض أصحابنا بخراسان: في الموسومة وجهان؛ لأن موضع الوسم صار جِلْداً لا يؤكل. وليس بشيء.

قال: والأفضل أن يذبحها بنفسه؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضي الله عنهم فإنهم كانوا يفعلون ذلك، وكان- عليه السلام يأمر نساءه أن يَليِنَ ذبح هديهن.

ولأنها قربة؛ فاستحب لفاعلها أن يتولاها، وهكذا الحكم في الهدي.

وقد أفهم كلام الشيخ: أن له أن يستتيب في ذلك كما صرح به غيره.

ووجهه: ما روى جابر أنه- عليه السلام "ساق مائة بدنة، فنحر منها بيده ستاً وستين بدنة، ثم أعطى علياً المدية، فنحر ما غبر"، أي: ما بقي.

ولا فرق فيمن يستنيبه بين المسلم والكافر، والبالغ والصبي، والرجل والمرأة في الصحة؛ والمعتبر فيه أن يكون ممن تصح ذكاته.

نعم: يكره أن يستنيب الكافر والصبي إذا حلت ذكاته.

وفي كراهية استنباة الحائض وجهان في "الحاوي"، والمذكور منهما في "تعليق" القاضي الحسين: الكراهة؛ لقوله- عليه السلام: "لا يذبح أضاحيكم إلا طاهر".

فإن قيل: الأضحية إذا لم تكن متعينة إما منذورة أو متطوعاً بها؛ فلا بد من النية عند الذبح، والكافر ليس من أهل النية، فكيف تصح استنابته؟

قلت: يجوز أن يحمل كلام الأصحاب في إطلاق الجواز على ما إذا كانت الأضحية معينة، وقلنا: لا تشترط النية عند ذبحها؛ كما جزم به ابن يونس؛ تبعاً للغزالي، وجعله الإمام المذهب وإن كان الراجح عند غيره- كالشيخ إبراهيم

ص: 87

المروروذي، والقاضي الروياني، وصاحب "العدة"-: الاشتراط.

قال الرافعي: وليكن الوجهان مفرعين على جواز تقديم النية على الذبح، فإن لم نجوزه فلينقطع باعتبارها عند الذبح. انتهى.

ويجوز أن يحمل على ما إذا كان الموكل حاضر الذبح، ونوى؛ كما نقول بإجزاء تفرقة الكافر للزكاة والكفارة على هذا النحو، وبالإجزاء فيما إذا وكَّلَ مسلماص وذبح وهو لا يدري أنها أضحية، وعلى هذه الحالة يحمل قوله في "البحر" بعد إيراد السؤال: الجواب أن نية المالك التي يتقرب بها إلى الله كافية؛ إذ لو ذبحه من لا يعلم أنه للقربة، جاز.

نعم: لو كان غائباً، فقد قال الأصحاب في حق الوكيل المسلم- كما حكاه ابن التلمساني-: إن الموكل ينوي عند الاستنابة، وينوي الوكيل عند الذبح، وهذا إذا كان شرطاً فقضيته ألا يصح توكيل الكافر في حال الغيبة وإن نوى الموكل عند الدفع إليه.

لكن الغزالي قال: وتجب النية عند الذبح، أو عند الدفع إلى الوكيل، وقضية ذلك الإجزاء، وهو ما ذكره في "الزوائد" عن "العدة"، حيث قال: وإن دفع إلى وكيله ينوي حين يدفع أو حين يذبح الوكيل، أو يفوض إلى الوكيل: إن كان مسلماً فينوي حين يذبح، وإن كان كافراً فينوي عند الدفع، أو الذبح، ولا يجزئ التفويض إليه.

وقد أبدى مجلي في ذلك احتمالاً، وقال: ينبغي أن يلحق بالزكاة في أنه هل يجوز تقديم النية؟ وهل يكتفي بالنية من المستنيب دون النائب، وهذا ما حكاه الإمام حيث قال: ثم النية في التضحية كالنية في تأدية الزكاة، وقد مضى القول فيها، وفي جواز تقديمها، وفي جواز الاستنابة فيها مفصلاً، ولا فرق بين البابين، والأظهر- كما قال الرافعي-: الجواز.

قال: فإن لم يحسن، فالأفضل أن يشهد ذبحها؛ لما روي أنه- عليه السلام قال لفاطمة:"قومي فاشهدي أضحيتك؛ فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب تحملينه، وقولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي [ومماتي] لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين"، قال عمران بن الحصين: هذا لك ولأهل بيتك

ص: 88

خاصة أو للمسلمين عامة؟ قال: "بل للمسلمين عامة"، وسيأتي الكلام فيما ينبغي للذابح أن يقوله عند الذبح في الكتاب، وكذا ما ينبغي أن يفعل بالذبيحة.

قال الماوردي: ويختار إن ضحى لنفسه أن يضحي في منزله بمشهد أهله؛ ليفرحوا بالذبح، ويستمتعوا باللحم.

والإمام إذا ضحى عن المسلمين، فيختار أن يذبح في المصلى بعد فراغه من صلاته، وينحر بنفسه؛ اقتداء به- عليه السلام والأئمة الراشدين، ويخلي بين الناس وبينها.

وقال- أيضاً-: إنه يختار لمن يريد التضحية بعدد أن يفرقه في أيام النحر.

قال: والمستحب أن يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدى الثلث في أحد القولين.

اعلم أن الأكل من الأضحية المتطوع بها، وكذا من الهدى المتطوع به- جائز بلا خلاف، والهدية إلى الأغنياء ملحقة به، ولا تجب بلا خلاف، والتصدق منها ومن الهدي جائز- أيضاً- بلا خلاف؛ لما ستعرفه، ولكن هل يجب الأكل والتصدق من ذلك، أو يستحب؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الماوردي:

أحدهما- وينسب إلى ابن سريج، والإصطخري، وابن الوكيل، وحكاه ابن القاص عن النص؛ كما قاله في "البحر"، وغيره؛ نسبه إلى تخريجه-: أنهما مستحبان، فإن أكل الجميع أو تصدق بالجميع جاز؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] فجعل مقصودها بعد الإراقة التقوى.

وأيضاً: فقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] يظهر أن المراد به: كلوا، ومكنوا البائس من الأكل؛ فيحمل على الاستحباب؛ فإن الواجب يجب فيه التمليك لا التمكين كما في الكفارة.

والثاني- وهو قول أبي الطيب بن سلمة-: أنهما واجبان؛ فإن أكل جميعها، أو

ص: 89

تصدق بجمبيعها لم يجز حتى يجمع بين الأكل والصدقة؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] فجمع بينهما، وأمر بهما؛ فدل على وجوبهما.

وعلى هذا: فالواجب من الأكل والصدقة: ما يقع عليه الاسم.

والثالث- وهو مذهب الشافعي، وما عليه أصحابه-: أن الأكل مستحب؛ لقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] فجعلها لنا، ولم يجعلها علينا؛ فدلَّ على أن أكلنا منها مباح، وليس بواجب؛ لأن الإنسان مخير فيها بين الاستبقاء والإسقاط.

ولأنها ذبيحة يتقرب بها إلى الله تعالى؛ فلم يكن الأكل منها واجباً؛ كالعقيقة.

ولأن الصدقة واجبة؛ لأنها المقصودة، وجمعه تعالى بين الأكل والصدقة بالأمر لا يدل على استوائهما في الحكم؛ كما في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141]، وقوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ} [النور: 33].

وقال الغزالي: إن التصدق بالكل أحسن على كل قول. وهو متبع فيه الإمام؛ فإنه قال: إن ذلك لا شك فيه غير أن شعار الصالحين الأكل منها.

ثم الذي يسقط الواجب: ما يقع عليه الاسم أيضاً.

قال في "الحاوي": وهو ما يخرج عن القدر التافه إلى ما جرى العرف أن يتصدق به منها من القليل الذي يؤدي الاجتهاد إليه.

ومن هنا يظهر لك: أنه لا يجب صرفها إلى عدد، بل يكفي الصرف إلى مسكين واحد؛ كما صرح به الإمام؛ لأنَّا لا نرى في الشرع لذكر الجمع في هذا الباب أصلاً، ويجب فيه التمليك، ولا يكفي فيه الإطعام؛ كما في الكفارات، ولا يكفي التصدق بالجلد على الظاهر؛ كما قاله صاحب "التقريب".

قال الإمام: وهو حسنُ، وفيه احتمال؛ كما ردد جوابه فيه.

قلت: التردد فيه يشبه أن يكون مأخذه: أن له الانفراد به على قول وجوب التصدق، أم لا بد من التصدق منه أيضاً؟ وفيه وجهان:

فإن قلنا: ليس له الانفراد به، فلا يجزئ، وإن قلنا: له الانفراد به فيجوز أن يقال: إنما كان ذلك لجعله كالجزء؛ فيكفي هنا.

ص: 90

ويجوز أن يقال: إنما كان ذلك؛ لأنه تابع فلا يجزئ هنا.

وأما الذي يحصل به تأدية المستحب من الأكل والتصدق فيه ما ذكره الشيخ، وهو قوله: "والمستحب أن يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث في أحد القولين؛ لقولهت تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 28]، فذكر ثلاثة أصناف فاقتضى أن يكون أثلاثاً بينهم، والقانع: الذي يسألك، والمعتر: الذي يتعرض لك بالسؤال؛ قاله الحسن.

وقال مجاهد: القانع: الجالس في بيته، والمعتر: الذي يسألك. وهذا القول نص عليه في "البويطي"، وهو المنسوب إلى الجديد، وهو الصحيح؛ وعلى هذا ما المراد بالذي يهدي إليهم الثلث؟

قال في "البحر": إنهم المتجملون، أي: من الفقراء، وعليه يدل تفسير القانع والمعتر.

وعلى هذا يكون المستحب أكل الثلث، والتصدق بالثلثين؛ وهو ما حكاه القاضي أبو الطيب عن الجديد، وصححه.

وقال القاضي الحسين: إنه قيل: إنهم الأغنياء، وهو الذي يوافق كلام الماوردي وغيره، وكلام الشيخ الآتي من بعد.

وقال الإمام: إنه لو وهب من غنى شيئاً من الضحية هبة تمليك حتى يتصرف فيها المتهب بالبيع وما يراه- فالذي يظهر لنا أن ذلك ممتنع؛ فإن الهبة ليست صدقة، والضحية ينبغي أن تكون مردودة بين التطعم والإطعام، وبين الصدقة، وإن الأغنياء ضيفا الله تعالى على لحوم الأضاحي، فالضيف لا يهب، ولكن يطعم.

وقال الرافعي: إن الشيخ أبا حامد قال: يأكل ثلثاً، ويتصدق بثلث، ويهدي إلى الأغنياء والمتجملين ثلثاً، وإنه لو تصدق بالثلثين كان أحب.

وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر: أن القول الجديد: أنه يستحب أن يأكل الثلث، ويدخر الثلث، ويتصدق بالثلث؛ لقوله- عليه السلام:"كلوا وادخروا وتصدقوا".

ص: 91

وجاء: "واتجروا"، أي: اطلبوا الأجر بالتصدق، وهذا ما أورده في "الوجيز".

وقال الرافعي: إنه لا يكاد يوجد في غيره.

وأما الحديث فلك أن تمنع أنه تضمن ثلاث جهات، وتجعل الأكل والادخار جهة واحدة، وتقول: إنما تعرض للادخار؛ لأنهم راجعوه فيه، فقال: كلوا في الحال إن شئتم، وادخروا إن شئتم.

قلت: وقد عرفت أنه وجد في غيره من الكتب، وما ذكره من الحديث لو حمل على ما ذكره، لاقتضى أن تكون القسمة بين جهتين، وهي تقتضي التنصيف، لا التثليث.

وقد استدل الأصحاب بهذا الخبر على التثليث.

قال: وفيه قول آخر: إنه يأكل النصف، ويتصدق بالنصف؛ لقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] فجعلهما صنفين؛ فاقتضى أن تكون بينهما نصفين.

وظاهر كلام الشيخ في حكاية هذا القول، وكذا كلام القاضي أبي الطيب، والحسين، والروياني، وغيرهم: أنه لا يستحب إلا هذا من الأضحية.

لكن المحكي في "الحاوي": أنه على هذا القول يستحب له أن يتصدق بالنصف، ويأكل ويهدي النصف، ونسبه إلى القديم.

وحيث قلنا: يطعم، فقد قال في "البويطي": لا يطعم منها أحداً على غير دين الإسلام.

وما قلنا بأنه يجوز له أكله، لا يجوز له بيعه، ولا أن يعطيه أجرة للجازر؛ لأنه في معنى البيع، وقد ورد النهي عنه.

والإتلاف من غير أكل أولى بالمنع من البيع.

والجلد في منع البيع ملحق باللحم.

وعن صاحب "التقريب" رواية قول تفرد به: أنه يجوز بيعه، وصرف ثمنه إلى من يهمه الأمر:

ص: 92

يجوز صرف اللحم له، وهل يجوز له ادخار ما جاز له أكله من اللحم؟

قال الأصحاب: قد كان – عليه السلام أمر بالادخار لثلاث، والتصدق بالفاضل، حين دفَّ ناس من أهل البادية حَضْرَةَ الأضحى، أي: وقت الأضحى ومشاهدته، ثم قيل له بعد ذلك:[يا] رسول الله، كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويحملون منها الوَدَكَ، ويتخذون منها الأَسْقِيَة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟، قالوا: يا رسول الله، نهيت عن إمساك [لحوم الضحايا] بعد ثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم من أجل الدافَّة التي دفَّت، فكلوا، وتصدقوا، وادخروا". أخرجه أبو داود ومسلم بمعناه؛ فاشتمل هذا الحديث على جواز الادخار لثلاث، وهل الثلاث من أول أيام الذبح، أو من حين الذبح؟ فيه تردد للعلماء، ودل على تحريم الادخار لما بعد الثلاث؛ لأجل الدافة، وهي- بتشديد الفاء، وفتح الدال المهملة-: النازلة؛ يقال: دف القوم موضع كذا، إذا نزلوا فيه، والمراد بها هنا: من ورد عليهم من ضعفاء الأعراب.

ودل على إباحة الادخار بعد الدافة.

واختلف أصحابنا في معنى هذا النهي والإباحة على وجهين:

أحدهما: أنه نهي استحباب؛ كما حكاه القاضي الحسين.

والثاني: نهي تحريم، وعلى هذا فوجهان:

أحدهما: أنه على العموم في أهل المدينة التي دفَّ أهل البادية إليها، وفي غيرها من البلاد على جميع المسلمين، وكانت الدافة سبباً في التحريم، ولم تكن علة في التحريم، ثم وردت الإباحة بعدها نسخاً للتحريم.

وعلى هذا إذا دفَّ قوم إلى بلدٍ مِنْ فاقةٍ، لم يحرم ادخار لحوم الأضاحي.

والثاني: أنه نهي [تحريم خاص] بمعنى حادثٍ، اختص بالمدينة ومن فيها دون غيرهم؛ لنزول الدافة عليهم، وكانت الدافة علة للتحريم، ثم ارتفع التحريم بارتفاع موجبه، وكانت إباحة الرسول صلى الله عليه وسلم إخباراً عن السبب، ولم تكن نسخاً.

وعلى هذا اختلف أصحابنا إذا حدث مثله في زماننا، فدف ناس إلى بلد؛ لفاقة، هل يحرم على أهله ادخار لحوم الأضاحي لأجلهم؛ كما حرم على أهل المدينة في عهده- عليه السلام أم لا؟ على وجهين.

ص: 93

فرع: إذا فعل المضحى المستحب، فأكل البعض، وتصدق بالبعض، فهل يثاب على الكل، أو على ما تصدق به؟ فيه وجهان كوجهين ذكرا في أن المتطوع بالصوم إذ نوى نهاراً يثاب لجميع اليوم، أو لما اقترنت به النية.

قال الرافعي: وينبغي أن يقال: له ثواب التضحية بالكل، والتصدق بالبعض.

قال: فإن أكل الكل أو أهداه للأغنياء فقد قيل: لا يضمن.

هذا مفرع- كما قال الماوردي وغيره- على قول ابن سريج في أنه لا يجب التصدق بشيء من الأضحية.

وقال البندنيجي: إن هذا منصوص عليه في القديم، وإن ابن سريج صار إلى أنه [لا يجب التصدق] بشيء من الأضحية؛ أخذاً من هذا النص.

قال: والمذهب: أنه يضمن- أي للفقراء- لما تقدم: أن التصدق عليهم واجب.

قال: القدر الذي يجزئه وهو أدنى جزء؛ لأنه لو اقتصر على إخراجه في الابتداء أجزأه؛ فلا يضمن في الانتهاء غيره.

وقيل: يضمن القدر المستحب، وهو النصف أو الثلث، ويخالف الابتداء؛ لأن إخراج الجزء موكول إلى اجتهاده، فلما أكل الكل ظهر حيفه؛ فأسقط اجتهاده، ورجع إلى ما اقتضاه إطلاق نص الكتاب.

وقد حكى الماوردي، والقاضي الحسين، والفوراني، وصاحب "التقريب" هذا القول، كما حكاه الشيخ، وكذا القاضي أبو الطيب في نظير المسألة من الهدي.

وحكى بدله هاهنا: أنه يضمن الثلثين؛ بناء على ما نقله من أن الجديد: أنه يستحب أن يتصدق بالثلثين، وتبعه ابن الصباغ.

وحكى البندنيجي ذلك- أيضاً- وقال تفريعاً عليه: إنه مخير بين أن يتصدق بالثلث ويهدي الثلث، وبين أن يتصدق بالثلثين ويترك الهدية، وإن الشافعي قال: هذا أفضل.

وهذا الخلاف مأخوذ- كما قال الأصحاب هنا- من اختلاف قولي الشافعي- رضي الله عنه فيما إذا وقع جميع السهم إلى اثنين، فماذا يغرم للثالث؟

وقال الإمام: إن تخريجه على هذا الأصل زلل؛ لأن مسألة الزكاة لا تناظر ما نحن فيه؛ فإن التصدق فيها بالكل حتم، فإذا حرم واحداً بار فيه، وهنا لا يجب التصدق إلا

ص: 94

على واحد بأقل ما يجب التصدق به.

وقال المحاملي في كتاب الرهن: إن الخلافَ في مسألة الزكاة وهذه المسألة مأخوذة من قولين للشافعي منصوصين في "اللقيط" فيما إذا باع العدل الرهن بأكثر مما يتغابن الناس بمثله، مثل إن باع ما يساوى عشرة بخمسة، والذي يغبن بمثله درهم، وتعذر رد المبيع-:

فأحد القولين: أنه يضمن جميع قيمته.

والثاني: ما انحط عن القدر الذي يتغابن الناس بمثله، وهو تسعة.

وعلى كل من الوجهين- أعني: في تضمينه أدنى [جزء أو القدر] المستحب- ما الذي يضمن به؟ فيه الأوجه التي سنذكرها فيما إذا قلنا: لا يأكل من المنذورة، فأكل منها؛ قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما في الهدي، والأضحية مثله، كما سنذكره.

ووجه القاضي الثالث بأن إراقة الدم [لا] يعتد بها إذا لم يصل اللحم إليهم؛ ألا ترى أنه لو ذبح شاة، وسرقت منه، لزمه أن يذبح أخرى، ولا يجوز له شراء اللحم؟! فكذا هاهنا.

وفي "البحر": أنه لا يجوز أن يخرج ما وجب عليه وَرِقاً، وهل يشتري به لحماً، أو يشارك به في ذبيحة؟ فيه وجهان، وهذا مذكور في "الحاوي" أيضاً.

ولا يجوز على الوجهين معاً أن يأكل مما يغرمه؛ صرح به الماوردي.

ويجوز تأخير تفرقة ذلك، وكذا ذبح الشقص- إن أوجبناه- عن أيام التشريق؛ لأن الشقص ليس بأضحية؛ فلا يعتبر فيه وقت التضحية.

وحكى الماوردي في أصل المسألة وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاق المروزي وابن أبي هريرة: أنه يضمن جميعها بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها؛ لأنها خرجت بأكلها عن حكم الضحايا، وعادت لحماً؛ فكان إيجاب الأضحية باقياً؛ فيلزمه أن يضحي.

قال: وعلى هذا، لو أخّر ذبح البدل حتى خرجت أيام التشريق مع القدرة، فذبحه بعدها- ففي إجزائه وجهان:

أحدهما: لا يجزئ، ويكون لحماً مضموناً بمثل ثانٍ؛ كما لو أخر أصل الأضحية

ص: 95

حتى ذبحها بعد أيام التشريق.

والثاني: يجزئ؛ لأن إراقة دم الأضحية في أيام النحر قد حصل بما أكل، وإنما هذا بدل في الإطعام دون الإراقة، فجاز في غير أيام النحر.

وهل يجوز أن يأكل من لحم البدل إذا ذبحه في أيام النحر أو غيرها؟ فيه الوجهان في الأكل من الأضحية المنذورة.

قال: ومن نذر أضحية معينة، زال ملكه عنها؛ لأنه تقرب بما لو أتلفه ضمنه، فزال ملكه عنه، كالمعتق.

واحتزرنا بقولنا: "إنه تقرب بما لو أتلفه ضمنه" عما إذا قال: "لله علي أن أعتق هذا العبد"، فإنه لا يزول ملكه عنه، إذ لو أتلفه لم يضمنه، وإن كان لا يجوز له بيعه؛ لأن العبد هو المستحق لذلك؛ فلا يضمن بغيره.

قال: ولم يجز بيعها؛ لما روى أبو داود، قال: أهدى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه بختيَّة، فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أهديت بختية، فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها، وأشترى بثمنها بدنا؟ قال:"لا، انحر إياها".

والبخت من الإبل: طوال الأعناق، بلا غلظ، ذوات سنامين، الواحد: بختي، والأنثى: بختية، والجمع: بخاتي، والأضحية كالهدي.

وقد روى عن علي- كرم الله وجهه- أنه قال: "من أوجب أضحية، فلا يستبدل بها".

وعن شرح الفروع للشيخ أبي علي حكاية وجه آخر: أنه لا يزول الملك عنها، وكذا في الهدي المعين، حتى يذبحه، ويتصدق باللحم؛ كما لو قال:"لله علي أن أعتق هذا العبد"، لا يزول ملكه [عنه] إلا بإعتاقه.

ص: 96

قلت: وهذا القياس منه يقتضي تصوير محل هذا الوجه بما إذا قال: "لله علي أن أضحي بهذه الشاة"، أو "أهديها".

وقد حكاه القاضي الحسين أيضاً في هذه الصورة، وحكى وجهاً في مسألة العتق المقاس عليها:"أنه يزول الملك فيها أيضاً".

ووجهاً ثالثاً- وهو المشهور-: أن الملك في مسألة الأضحية [والهدي يزول، وفي مسألة العتق لا يزول. وفرق بأن الأضحية] إلزام قربة لله تعالى في عين لمن هو أهل للملك، وهم المساكين، فنقل ملكه؛ كما لو قال:"وقفت هذه الدار على المساكين"، أو "تصدقت بهذه الدراهم عليهم"، بخلاف العبد؛ فإنه التزام قربة لله تعالى في عين لمن ليس من أهل الملك في الحال، بل يصير به مالكاً، فهو كأم الولد.

فإن قلت: إذا كان محل الخلاف مصوراً بما ذكرتم، فالخلاف مذكور في "الوسيط" وغيره- كما ستعرفه- في أن من قال:"لله علي أن أضحي بهذه الشاة"، هل تتعين أم لا؟

قلت: الذي يظهر أن هذا الخلاف مفرع على القول بالتعيين، ويدل عليه أن القاضي الحسين ادعى بعد حكاية الخلاف المذكور أن الأضحية لو غصبت، وركبت، كانت أجرتها مصروفة للمساكين، بلا خلاف، وهذا يدل على التعيين، والله أعلم.

فإن قيل: من زال ملكه عن الشيء لا يملك بيعه، فما فائدة قول الشيخ:"ولم يجز بيعها"، بعد قوله:"زال ملكه عنها"؟

قلنا: له فوائد:

منها: أن الخصم- وهو أبو حنيفة- قال: "لا يزول الملك، ويجوز البيع"، فأراد أن يذكر عن المذهب ما يخالفه.

ص: 97

الثاني: أن الملك قد يزول، ويتسلط من زال عنه على بيعه، كمن نذر أن يهدي إلى الحرم شيئاً معيناً- كما سيأتي- فنفى بذلك توهم إلحاق هذه المسألة بتلك.

الثالث: أنه جزم بجواز شرب اللبن الفاضل عن الولد، والركوب، والانتفاع بالصوف المضر بها، مع أن زوال الملك يأبى ذلك، فقد يظن أن البيع كذلك؛ فصرح بنفيه.

والمبادلة بها في معنى البيع، بل هي بيع حقيقة.

ثم المسألة مصورة على ما تقدم تقريره في أول الباب بما إذا قال: "لله علي أن أضحي بهذه الشاة، إن شفى الله مريضي".

والمراوزة حكوا في التعيين في هذه الصورة وجهين:

أصحهما ما ذكرناه، وهو ما أورده القاضي الحسين- أيضاً- في موضع، وإن حكى الوجهين في آخر.

و [الوجه] الثاني: لا تتعين، [بل يجوز له إبدالها]، وجعلوا محل الجزم بزوال الملك، وعدم صحة البيع إذا قال:"جعلت هذه الشاة أضحية"، وهو ظاهر نصه في "المختصر"؛ فإنه قال: وإذا أوجبها أضحية، وهو أن [يقول] هذه أضحية، وشبه الأصحاب ذلك بتوجيه العتق على العبد تنجيزاً.

وقال الإمام: إن تشبيهه بتعين الشيء للحبس بالوقف أقرب؛ فإن الضحية لا تخرج عن المالية بالكلية.

ص: 98

قال الرافعي: وهذا لا يسلمه الأولون، بل صرحوا بزوال الملك عن الهدي المعين، والأضحية المعينة.

قلت: وهذا من الرافعي فيه نظر، لأن مراد الإمام: أن الأضحية بهذا التعيين، لم تخرج عن أن تكون مالاً في نفسها، كما لم تخرج العين الموقوفة بالوقف عن المالية؛ حتى إذا أتلفت، ضمنت ضمان الأموال، وتضمن بوضع اليد عليها، ويتصرف فيها الفقراء تصرف الملاك بالبيع، والهدية، وغيرهما، كما أن العين الموقوفة قد يطرأ عليها حالة يجوز مثل ذلك [فيها]، بخلاف العبد المعتق؛ فإنه بعد العتق غير مال، وحينئذ فما ذكره الرافعي [غير] وارد على الإمام.

وقد أشار القاضي الحسين في موضع إلى أن قوله: "هذه أضحية"، أو "جعلتها أضحية" لا يكفي على قول، ما لم يقل "لله"- بقوله: لو قال: "هذه أضحية"، أو "جعلتها أضحية"، ولم يقل:"لله"، فظاهر كلام الشافعي: أنه يلزمه؛ ولأجله قال في "التهذيب": إنه المذهب.

وأجرى المراوزة الخلاف المذكور في التعيين فيما إذا قال: "لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم"، أو "أن أعتق هذا العبد، إن شفي [الله مريضي"]، لكن بالترتيب.

والتعين في التضحية أولى من تعين الدرهم؛ لتعلق الأغراض بالضحية دون الدرهم، وفي العتق أولى منه في الأضحية؛ لأن للعبد حظاً وحقاً في العتق، فإذا عينه للاستحقاق، ظهر وجوب الوفاء، والضحية لا حق لها في تعيينها.

ولو كان قد قال: "إن شفي الله مريضي، فلله علي أن أضحي بشاة"، ثم قال:"جعلت هذه الشاة عن نذري"، أو "لله علي أن أضحي بها عن نذري".

قال العراقيون: يتعين، بمعنى أنه يجب ذبحها، ولو تلفت، لم يسقط ما في ذمته؛ كما سنذكره مثله في الهدي في باب النذر وتفاريعه.

وحكى المراوزة في التعين وجهين أيضاً، وأن عدم التعين هنا أولى منه في الصورة السابقة؛ لأن الملتزم في الذمة دين، وتعيين الشاة للدين بمثابة جعل الدين عيناً، والدين لا يتعين إلا بالإيفاء، وليس التعيين إيفاء، وأنَّا إذا قلنا بالتعيّن، فلو تلفت، فهل يجب بدلها، أو لا يجب عليه شيء؟ كما لو قال:"جعلتها أضحية" فيه وجهان،

ص: 99

ولا يجري الوجهان في التعين فيما إذا قال: "إن شفي الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بدرهم"، أو كانت عليه زكاة، ثم عين درهماً عن نذره، أو زكاته، وادعى الإمام اتفاق الطرق على ذلك وإن كان فيه احتمال، وكأن سبب ذلك ضعف التعيين في الدرهم؛ لعدم تعلق كبير فائدة به، بخلاف الشاة؛ ولهذا جزموا فيما لو قال:"جعلت هذه الشاة أضحية" بالتعيين، وحكوا فيما لو قال:"جعلت هذه الدراهم صدقة" خلافاً؛ نعم: هما جاريان بالترتيب- أيضاً- فيما لو قال: "إن شفي الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبداً"، ثم عين عبداً عن نذره، والتعيين في العبد أولى منه في الشاة؛ لما أشرنا إليه.

وقد نسب الرافعي القول بعدم تعين العبد في هذه الصورة في كتاب الإيلاء، ضمن فرع منه إلى المزني، وأنه قاسه على ما إذا كان عليه صوم، فنذر أن يصوم يوم الاثنين مثلاً، وأن الذاهبين إلى التعيين في العتق، اختلفوا في مسألة الصوم:

فقال ابن أبي هريرة: يتعين ذلك أيضاً: وسلمه الأكثرون، وقالوا: تعلق العتق بالعبد أشد من تعلق الصوم باليوم؛ ولذلك لو نذر صوم يوم، ففاته، قضى مكانه، ولو نذر عتق عبد بعينه، فمات، لا يعتق غيره.

ولأنه تعلق للعبد به حق، وإن القاضي الحسين في تقصيه هذا الفرق، قال: لو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاص معينين من أصناف الزكاة، تعينوا؛ رعاية لحقهم.

والأكثرون قالوا: لا يتعينون، وسيأتي في باب النذر في موضعين منه، أو أكثر شيء يتعلق بما نحن فيه؛ فليطلب منه.

واعلم أنه لا فرق فيما ذكره الشيخ في زوال الملك وعدم البيع بين أن تكون الأضحية المعينة بالنذر سليمة أو معيبة لا تجزئ في الأضاحي، ويدل عليه قول الشافعي- رضي الله عنه:"لو أوجبه ناقصاً، ذبحه ولم يجزئه"، وأراد أنه لا يكون أضحية، ولكن عليه ذبحه لأنه أوجبه على نفسه، لكن هل يختص ذبحها بأيام النحر، وتجري مجرى المصرف في الضحايا؟ فيه وجهان:

أصحهما عند الإمام ومن تبعه: نعم، وهو الذي ادعي القاضي الحسين أنه المذهب؛ لأنه أوجبها باسم الضحية، ولا محمل لكلامه إلا هذا.

ص: 100

فعلى هذا لو ذبحها [قبل] يوم النحر، تصدق بلحمها، ولا يأكل منها شيئاً، وعليه قيمتها يتصدق بها، ولا يشتري أخرى؛ لأن المعيب لا يثبت في الذمة؛ قاله في "التهذيب".

نعم: لو زال العيب قبل الذبح، فهل تكون أضحية؟ حكى الغزالي فيها وجهين.

وقال في "البحر": إنه قال في الجديد: لا، وهو الذي أورده البندنيجي، وأبو الطيب، وابن الصباغ؛ لأن السلامة وجدت بعد زوال الملك.

وحكى القاضي أبو حامد عن القديم قولين:

أحدهما: هذا.

والثاني: تجزئ، وتكون أضحية شرعية، وهذا فيما إذا قال:"لله علي أن أضحي بهذه الشاة"، أو:"جعلت هذه الشاة أضحية"، وكانت معيبة، فلو كان قد قال:"لله علي أن أضحي بشاة مثلاً"، ثم عين شاة معيبة، نظر:

إن قال: "عينت هذه عما في ذمتي"، لم تلزمه، وإن قال:"لله علي ذبحها عن الواجب في ذمتي"، فوجهان:

أظهرهما على ما ذكر الشيخ أبو علي والأئمة: أنه يلزمه ذبحها أيضاً، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب؛ كما لو التزم ابتداء ذبح معيبة، وكما لو أعتق عبداً معيباً عن كفارته، عتق ولا يجزئه.

فعلى هذا هل يختص ذبحها بأيام النحر؟ فيه الوجهان.

والثاني: [لا يلزمه] وهو المذكور في "الحاوي"؛ لأنه جعلها عما في ذمته، ولا تقع عنه؛ فيستمر الملك فيها.

وقد حكى القاضي الحسين وجهاً مثل هذا الوجه فيما إذا أعتق المعيب عن الكفارة، فقال: لا يعتق، كما لو أعتق عبده عن غيره بغير إذنه، لا يعتق على أحد الوجهين، والصحيح الأول.

ولو كان قد أشار إلى ظبية، وقال:"جعلت هذه أضحية"، فهو لاغ.

ولو أشار إلى فصيل، أو سخلة، فهل يلحق بتعيين الظبية أو بتعيين المعيب؟ فيه وجهان:

ص: 101

أشبههما الثاني، وبه أجاب أبو علي، لأن ناقص السن من جنس ما يضحي به.

فرع: لو كانت المعيبة قد اشتراها، ولم يعلم بعيبها حتى نذرها، ثم اطلع عليه لا يجوز له ردها؛ لخروجها عن ملكه، وله طلب الأرش؛ للإياس من الرد، وإذا أخذه فماذا يصنع به؟

الذي ذكره العراقيون كالبندنيجي، والمصنف، وغيرهما: أنه يكون للفقراء؛ فيتصدق به إن لم يمكن أن يشتري به جزءاً، وإن أمكن ذلك، فعلى ما مضى من الوجوه، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين.

قال ابن الصباغ: ولم يذكروا لذلك وجهاً إلا أنهم فرقوا بين الأضحية وبين أن يشتري عبداً فيعتقه فيجد به عيباً؛ فإن الأرش يكون للمعتق؛ لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام، والعيب لا يؤثر في ذلك، والمقصود من الأضحية اللحم، وإذا كانت معيبة، لم يكن لحمها كاملاً.

وهذا غير مستقيم؛ لأن أرش العيب إنما وجب؛ لأن عقد البيع اقتضى [سلامة المبيع] وذلك حق للمشتري، وإنما أوجبها وهي في ملكه؛ فلا يستحق الفقراء ما أوجبه الشراء.

ولأن العيب قد لا يؤثر في اللحم؛ فلا يكون ذلك مؤثراً في المقصود بها، كما ذكروه في العبد.

وقد حكى الماوردي في الأرش وجهين:

أحدهما: ما ذكره العراقيون.

والثاني: أنه للمضحي خاصة، ولا يلزمه صرفه إلى مصارف الأضحية، كما ذكره ابن الصباغ، وهو الذي قال الإمام: إنه الذي يقتضيه قياس المراوزة، وهو الأولى، والله أعلم.

قال: وله أن يركبها، أي: إذا لم يلحقها في ذلك مشقة فادحة؛ لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33].

قال عطاء: الأجل المسمى: يوم النحر، والمنافع [كل] ما انتفع به، والركوب لها

ص: 102

من جملة المنافع.

وقد روى أبو داود بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال:"اركبها"، فقال: إنها بدنة، قال: اركبها، ويلك في الثانية، أو الثالثة" وأخرجه البخاري ومسلم.

وهذا ما ذكره في "المختصر" هاهنا، وعليه جرى القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والرافعي.

وحكى بعض الشارحين لهذا الكتاب: أن محل جواز ركوب الأضحية عند العراقيين إذا اضطر إلى الركوب؛ لقوله- عليه السلام في البدن التي أهداها صاحبها: "اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهراً"، [كما] أخرجه مسلم، أما إذا لم يضطر إليه فلا؛ لمفهوم الخبر.

وأن الخراسانيين أطلقوا وجهين في جواز الركوب إذا كان لا يضر بها.

وما ذكره عن الخراسانيين صحيح؛ لأنهم حكوا الوجهين في ركوب الهدي. وصحح منهم الفوراني الجواز.

وحكم الأضحية في هذا، وفي ولدها، و [في] لبنها، وجز صوفها، وإتلافها، وذبحها، ونقصانها بالعيب حكم الهدي؛ كما قاله في "المهذب".

وما ذكره عن العراقيين من عدم الجواز إذا لم يكن مضطراً، لم أره في طريقهم مصرحاً به.

نعم: قال في "المهذب": "يجوز ركوب الهدي بالمعروف، إذا احتاج إليه"، فأفهم أنه في غير حالة الاحتياج لا يجوز، وهذا إن كان قد تمسك به، فلا يوافق ما نقله؛ لأن الفرق بين الحاجة والضرورة [مفهوم] مشهور.

ص: 103

وإن كان قد تمسك بمفهوم ما نقله الماوردي في باب الهدي عن الشافعي- رضي الله عنه أنه قال: "ويركب الهدي إذا اضطر إليه ركوباً غير قادح، ويحمل المضطر عليها؛ للخبر" فقد أعرض عن المنطوق.

والذي حكاه الماوردي أيضاً بعده في الباب، وهو أنه لو ركبها من غير ضرورة، جاز ما لم يضر بها، سواء كان واجباً أو تطوعاً؛ للخبر الذي رواه أبو الزناد عن الأعرج.

وعلى كل حال، فحيث يجوز له الركوب، يجوز له الإعارة؛ لذلك، كما قاله في "البحر"، فإن تلفت منه ضمنها المستعير دون المعير.

ولا يجوز له الإجارة، فإن فعل، وسلمها، فتلفت في يد المستأجر، ضمنها المؤجر، كما لو أتلفها، وسيأتي بماذا يضمنها، ولا يضمنها المستأجر، كما قال في "الحاوي"، لكنه يضمن المنافع، وبماذا يضمنها؟ فيه وجهان:

أظهرهما: بأجرة المثل.

وقال ابن أبي هريرة: بأكثر الأمرين من أجرة المثل والمسمى.

ثم ماذا يصنع بالمأخوذ منه؟ فيه وجهان:

أحدهما: يسلك به مسلك الأضحية.

والثاني: يصرف للفقراء، والمساكين.

قال: فإن ولدت- أي: بعد النذر- ذبح ولدها معها، أي: سواء علقت به قبل النذر، أو بعده، كما قاله في "المهذب" وغيره؛ لأنه معنى يزيل الملك، فاستتبع الولد، كالعتق، وجاز ذبحه في الأضحية بطريق التبعية، وتقديراً له كالجزء منها.

وقد فصل الإمام في باب الزيادة في الرهن على أصله السابق، فقال: إن محل الجززم بهذا إذا قال: "جعلتها أضحية"؛ [لأنها تتعين بذلك، فيزول الملك عنها.\

وإذا نذر التضحية بها ولم يجعلها أضحية] ففي ولدها طريقان:

أحدهما: أنه كولد المدبرة.

والآخر: أن حكمه حكم الأم.

ص: 104

[قلت: والطريقان يمكن تخريجهما على أن ذلك يعينها أم لا؟ فإن قلنا: يعينها] تبعها الولد قطعاً، وهي الطريقة الثانية.

وإن قلنا: لا تتعين، كان كولد المدبرة، فيجيء فيه الوجهان.

وقد حكى الماوردي، وابن الصباغ، وغيرهما فيما إذا التزم هدي شاة في الذمة، ثم عينه في شاة- تعينت، وإذا ولدت، فهل يلزمه سوق الولد أم لا؟ فيه وجهان:

وجه المنع: أن التعيين غير مستقر؛ إذ قد تعينت؛ فلا يسقط الوجوب بها؛ فلم يكن النتاج تابعاً لها، ومن هذا يؤخذ أنه إذا عين معيبة للضحية ابتداء، وولدت- لا يذبح ولدها معها.

وقياس النص في أن ملكه قد زال عنها يقتضي ذبحه معها.

ولو ماتت الأم في مسألة الكتاب قبل الزكاة، وبقي الولد- لزمه ذبحه، إن كان قد قال:"جعلت هذه أضحية". وإن كان قد قال: "لله علي أن أضحي بشاة"، أو "أهدي شاة"، ثم عين شاة، وقلنا بالتعين، فهل يلزمه ذبحه أم لا إذا قلنا: بتبعيته لها مع البقاء؟ فيه وجهان في "الشامل" وغيره، ذكرناهما في باب النذر:

والأصح: لزوم ذبحه.

فرع: إذا ذبح معها الولد، وقلنا: يجوز الأكل منها، كما سيأتي، وأنه لا يجوز أن يأكل الكل، فهل يجب عليه التصدق منها، أو يكفيه التصدق من أحدهما خاصة؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها المراوزة، والماوردي: ثالثها: إن تصدق من "الأم" جاز، وإن تصدق من الولد لا يجزئه؛ قاله الرافعي.

والوجهان الآخران مشتركان في جواز أكل جميع الولد، والذي أورده الغزالي أصح.

وذكر الروياني: أن المذهب الأول.

قال الرافعي: وإذا ضحى بشاة، فوجد في بطنها جنيناً، فيمكن أن يطرد فيه هذا الخلاف، ويمكن أن تقطع بأنه بعضها.

قال: وله أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها، لقوله تعالى:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ....} الآية [الحج: 33].

ص: 105

وقد رأى عليُّ رجلاً يسوق بدنة معها ولدها، فقال:"لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، وإذا كان يوم النحر، فانحرها وولدها"، وليس يعرف له مخالف.

نعم: قال الشافعي: "لو تصدق به على المساكين، كان أحبَّ إليَّ".

فلو لم يفعل، قال في "الحاوي": فالأفضل أن يسلك فيه مسلك اللحم، فيشرب منه، ويسقي غيره، فإن [لم يفعل و] شرب جميعه جاز، وإن كرهناه.

فإن قيل: اللبن من نمائها، كالولد؛ فلم أجزتم [له] شربه دون التصرف في الولد؟

قلنا: قد حكى ابن كج عن تخريج أبي الطيب بن سلمة منعه من ذلك.

[لكن] الذي حكاه [العراقيون، و] القاضي الحسين- هنا- عن النص الأول، وفرقوا- كما قال ابن الصباغ، وأبو الطيب في باب الهدي- بثلاثة فروق:

أحدها: أن بقاء اللبن معها يضر بها ويؤذيها، وبقاء الولد لا ضرر فيه؛ فلهذا جوز له أخذ اللبن وإتلافه.

والثاني: أن اللبن يستخلف مع الأوقات، فما يتلفه يعود غيره؛ فجرت فيه المسامحة.

والثالث: أن اللبن لو جمعه لفسد، وبطلت منفعته، فجوز له شربه.

وأما المراوزة فاختلفوا فيه:

فجزم الفوراني بمنع الشرب من الهدي الواجب، وقال في المتطوع به: إن كان يضر [به]، لم يجز أيضاً، وإلا فطريقان:

منهم من قال: يجوز كلحكمه.

ومنهم من جعله كالركوب على وجهين.

والقاضي الحسين قال في المنذور: إن قلنا: لا يجوز ركوبه، فشرب لبنه أولى، وإلا فوجهان.

ص: 106

والفرق: أن الركوب لو ترك تتعطل المنافع، ولا يصل إليهم شيء بدله، ولو ترك شرب اللبن انتفع الفقراء بتركه.

وقال في "التتمة": شرب اللبن ينبني على أكل اللحم، فإن لم نجوزه، لم يشرب اللبن، وينقل لبن الهدي إلى مكة إن تيسر، وأمكن تحقيقه، وإلا تصدق به على الفقراء.

وإن جوزنا الأكل، فيشرب اللبن.

وقضية بناء شرب اللبن على اللحم أن يقال: إذا جوزنا له شرب اللبن، لا يستوعبه، بل يترك بعضه، كما سيأتي في اللحم، وقد صرح به القاضي الحسين في هذا الكتاب عن بعض الأصحاب، وعليه جرى الإمام، فقال: لبن الشاة المعينة بمثابة لحمها [لو ضحيت]، ولعل الظاهر جواز استيعاب اللبن بالتعاطي إذا جوزنا الأكل من لحمها.

أما إذا كان لبنها لا يفضل عن ولدها، فلا يجوز له شرب شيء منه بحال؛ لأثر علي، كرم الله وجهه.

ولأنه غذاء الولد، والولد كالأم، فكما لا يجوز أن تمنع الأم علفها، لم يجز أن يمنع الولد غذاءه، بل قال الأصحاب: لو كان لبنها دون غذاء الولد، وجب عليه تكميل غذائه من غيرها، حكاه الماوردي.

وحكم جميع اللبن بعد فقد الابن أو غناه عنه حكم الفاضل عنه.

قال: وإن كان صوفها يضر بها إلى وقت الذبح، جاز له أن يجزه؛ لانتفاعها به، وينتفع به، قياساً على اللبن.

والأفضل- كما قال الأصحاب- أن يتصدق به.

وقد أطلق الشافعي- رضي الله عنه القول بأنه لا يجز صوفها، وهو محمول على ما إذا كان بقاؤه غير مضر بها، أو ينتفع به في دفع حر أو برد.

وقال القاضي الحسين: إن حكمه حكم اللبن، وإن الصحيح أنه يتخذه لبداً، ويتصدق به على الفقراء.

قال: ولا يأكل من لحمها شيئاً؛ لأنه إراقة دم واجب؛ فلم يجز الأكل منه، كالدم

ص: 107

الواجب في الإحرام بسبب قران، أو تمتع، أو جزاء صيد، أو جبران، وهذا قول أبي إسحاق.

[قال القاضي أبو الطيب في تعليقه] في باب دخول مكة: وعليه نص الشافعي، رضي الله عنه [في مختصر الحج].

فعلى هذا: لو أكل منه شيئاً، ضمنه، وفيما يضمن به ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ وغيره:

أظهرها عند الرافعي، ويحكى عن نصه في القديم: أنه يضمن قيمة ما أكل.

والثاني: يشارك به في ذبيحه أخرى.

والثالث: يضمنه بمثله من اللحم، واختاره في "المرشد".

[قال]: وقيل يجوز؛ لأن النذر يحمل على المعهود في الشرع، والمعهود شرعاً في الأضحية جواز الأكل منها، وهذا قول أبي إسحاق المروزي، كما قال أبو الطيب في باب دخول مكة، وأنه تأول كلام الشافعي.

فعلى هذا يكون الحكم في قدر ما يأكله كالأضحية المتطوع بها، قاله البندنيجي، والبغوي، وغيرهما.

وهذا الخلاف جار في الهدي المنذور أيضاً، صرح به الماوردي، وأبو الطيب.

ومنهم من قال: لا يجوز الأكل من الهدي، ويجوز من الأضحية؛ حملاً لكل [واحد] منهما على المعهود شرعاً، وهذا قول الخضري، كما قال القاضي الحسين، ويوافقه قطع الشيخ أبي حامد والبندنيجي بأنه لا يجوز الأكل من الهدي المنذور.

[فإن قيل]: ما محل الخلاف المذكور؟ وما الصحيح منه؟

قلنا: أما محله، فقد اختلف فيه الأئمة:

فمنهم من أطلقه، كما فعل الشيخ، وظاهر إطلاقه يقتضي التسوية بين المنذورة على سيل المجازاة، أو على وجه التبرر؛ إذا ألزمناه، وبين الملتتزم المعين والمرسل.

ص: 108

وممن جرى على الإطلاق المذكور الغزالي، والبندنيجي، والماوردي في باب دخول مكة، وكذا هنا، وقال: إنه إذا قال: جعلت هذه الشاة أضحية، أو هدياً؛ فله أن يأكل منها، ولم يحك غيره، وهو الذي حكاه الفوراني في الهدي.

وقال الرافعي: إن كثيراً من معتبري الأصحاب فصَّلوا [فقالوا:] محل الخلاف إذا قال: "جعلت هذه الشاة- مثلاً- أضحية"، أو كان نذر تبرر، وهو الذي لم يعلق على شيء وألزمناه به ما نذر، أما إذا كان نذراً معلقاً على أمر يطلبه: كشفاء المريض، ووجد شرطه، فلا يجوز أن يأكل منها، وجهاً واحداً، كما لا يجوز أن يأكل من جزاء الصيد، وهذا ما صرح به القاضي أبو الطيب في باب الهدي في نذر التبرر والمجازاة، واقتضاه كلامه في قوله:"جعلت هذه الشاة أضحية"، كما صرح به في باب دخول مكة، وأنهم قالوا: لو التزم في الذمة التضحية على وجه التبرر، ثم عين [في] واةحدة عما عليه، فهل يجوز الأكل منها إذا ذبحها؟ ينبني ذلك على جواز الأكل من المعينة ابتداء، فإن لم نجوزه [ثَمَّ] فهاهنا أولى، وإن جوزناه فوجهان، أو قولان.

والفرق: أن ما في الذمة آكد، ألا ترى أنه إذا عين [عنه] شاة، فهلكت، لم تبرأ ذمته، والمعينة ابتداء إذا هلكت، برئت ذمته.

وأيضاً: فإن ما ثبت في الذمة، ثبت لغيره، وما لا يتعلق بالذمة لا يبعد أن يكون هو فيه كغيره.

قلت: وقضية هذا البناء أن يكون في الأكل من المعينة ابتداء على وجه التبرر، وجهان، وفي المعينة بعد الالتزام في الذمة طريقان:

إحداهما: القطع بالمنع.

والثانية: إجراء الوجهين فيه.

وقد عكس الفوراني [ذلك]، فقال: إذا قال: "لله علي أن أهدي شاة فذبح شاة"، فهل له أن يأكل منها؟ فيه وجهان.

وإن قال: "لله علي أن أهدي هذه الشاة"، فهل له أن يأكل [منها]؟ فيه طريقان:

منهم من خرجه على الوجهين في الصورة قبلها.

ومنهم من قطع بالأكل، كما لو قال:"جعلتها هدياً".

ص: 109

وأما الصحيح منهما، فقد قال في "المرشد": إنه الأول، وادعى المحاملي في صورة نذر التبرر: أنه المذهب.

وقال الماوردي في باب الهدي: إنه أقرب إلى منصوص الشافعي، رضي الله عنه.

والذي رجحه القفال، والإمام، وقال في "العدة" فيها- أيضاً-: إنه المذهب الثاني، ونسبه الماوردي في باب الهدي إلى أبي إسحاق، وفي باب دخول مكة إلى كثير من أصحابنا.

وقال الرافعي: يشبه أن يتوسط، فيرجح في المعين الجواز، وفي المرسل المنع، سواء عين عنه ثم ذبح المعين، أو ذبح بلا تعيين؛ لأنه عن دين في الذمة كجبرانات الحج.

قال: وإلى هذا ذهب الماوردي، وعليه ينطبق كلام الشيخ أبي علي، وما ذكره عن الماوردي قد رأيته في "الحاوي".

قال: فإن تلفت- أي: قبل إمكان ذبحها من غير تفريط- لم يضمنها؛ لأنها وديعة عنده.

وفي "الحاوي" في كتاب النذر حكاية وجه آخر: أنه يضمنها.

والمشهور: عدم الضمان.

وهكذا الحكم فيما إذا ضلت من غير تفريط منه قبل أيام النحر من طريق الأولى؛ لإمكان وجودها، ولا يجب عليه في هذه الحالة طلبها إن كان لتحصيلها مؤنة، وإلا وجب.

وكذا لا يضمنها إذا تعيبت من غير تفريط، وقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أوجبت أضحية، فأصابها العوار، فقال:"ضح بها".

ص: 110

نعم: اختلف أصحابنا في أنه إذا ذبحها تكون أضحية، أم لا؟

فقال أبو جعفر الإستراباذي: لا تكون أضحية شرعية، لأنه لو تعذر أن تصل إلى محلها، نحرها في موضعها، ولا تكون أضحية، لذلك العيب.

قال البندنيجي: والمذهب الأول، وما ذكره أبو جعفر، فقد غلط فيه؛ فإنه لا فرق بين أن تتعيب أو لا تبلغ محلها، فإنه ينحرها على صفتها، وتكون [أضحية] شرعية.

وعلى هذا يختص ذبحها بأيام النحر، فلو خالف، وذبحها قبله، تصدق باللحم، وعليه التصدق بقيمتها أيضاً، ولا يجب أن يشتري بها أضحية أخرى، قاله في "التهذيب".

وهكذا [الحكم] فيما إذا لم يذبحها حتى مضت أيام النحر مع إمكان الذبح [فيها]، قاله القاضي الحسين.

أما إذا تلفت بتفريط منه، ضمنها، كما لو أتلفها.

ولو ضلت بتفريط منه في حفظها قبل أيام النحر، [فعليه طلبها، فإن فاتت ضمنها.

ولو علم أنه يجدها بعد أيام النحر]، لزمه بدلها في أيام النحر، ولم يجز أن ينتظرها بعد فوات زمانها، فإذا وجدها بعد فوات الزمان، لزمه أن يضحي بها [أيضاً]، فيصير التفريط ملزماً للأضحيتين؛ كذا قاله الماوردي وغيره.

وفي "الوسيط": أنا إذا أوجبنا عليه البدل، وقد ضحاه ففي انفكاك الضالة قولان، حكاهما القاضي الحسين وجهين:

أحدهما: تنفك؛ إذ لا وجه للتضعيف، وقد ضحى بالبدل، وهذا ما صححه في "التهذيب".

ص: 111

والثاني: أنه يضحي بها أيضاً؛ لأنها الأصل.

وإن لم يكن قد ضحى بالبدل، اقتصر على الأصل إلا أن يكون قد عين البدل بلفظه، فأي الشاتين يذبح؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: الأصل، وهو الذي أورده الماوردي. والثاني: البدل. والثالث: كلاهما. والرابع: يتخير أيهما شاء.

وهذا الكلام ظاهره أنه مفروض فيما إذا كانت الضالة معينة ابتداء.

والإمام أورده فيما إذا كانت الضالة معينة ابتداء.

والإمام أورده فيما إذا نذر شيئاً في الذمة، ثم عينه في شاة، وقلنا بالتعيين، فضلت، فهو كما لو تلفت، وفي وجوب البدل وجهان:

فإن أوجبنا البدل، وضحاه، [ثم وجد] الأصل، فهل يلزمه ذبحه؟ فيه قولان، حكاهما الفوراني- والصورة هذه- وجهين.

ولو لم يضح بالبدل، لكنه عينه، وهو بعد باق، ثم وجد الضالة، ففيه الأوجه الأربعة.

ولو وجد الأصل قبل أن يعين البدل، لم يلزمه غيره؛ قاله الفوراني.

ولو لم يوجد منه تفريط في ذبحها حتى ضلت، لكنه أخرَّ ذبحها عن يوم النحر، وضلت في أيام التشريق، فهل يكون ذلك تفريطاً منه في حفظها حتى يضمنها، ويلزمه مؤنة طلبها أم لا؟ فيه وجهان في "الحاوي".

ولو قصر في الذبح حتى عابت ذبحها، وتصدق بلحمها، وعليه ذبح بدلها.

قال: وإن أتلفها ضمنها، كالمودع إذا أتلف الوديعة، ويخالف ما إذا قال: "لله علي أن أعتق هذا العبد، فأتلفه، لا يضمنه؛ لأن الحق في عتق العبد له، فإذا فات لم يبق له مستحق، والأضحية للفقراء، وهم باقون بعد تلفها.

وأيضاً: فإن العبد لم يزل الملك فيه بالنذر- كما تقدم- بخلاف الأضحية.

قال القاضي الحسين: وقد قال القفال: يحتمل في مسألة العبد أن تكون على وجهين، إذا قتله الناذر أو غيره:

أحدهما: عليه، وعلى غيره القيمة.

والثاني: لا شيء عليه، وإذا أتلفه غيره فالقيمة للناذر.

قلت: ويمكن تخريج ذلك على أنه يزول الملك عنه بالنذر أم لا، كما سبق.

قال: بأكثر الأمرين من قيمتها- أي: وقت الإتلاف- أو أضحية مثلها-

ص: 112

أي: وقت الذبح؛ لأن الأكثر إن كان القيمة، فضمانها ظاهر؛ لأنه لا يتقاعد عن الأجنبي، وإن كان المثل؛ فلأنه قد التزم الإراقة والتفرقة، وقد [فوتهما فضمنهما].

وقيل: يلزمه القيمة بكل حال، كالأجنبي، حكاه المراوزة.

والصحيح الأول، والفرق ما ذكره.

تنبيه: قوله: "بأكثر الأمرين من قيمتها، أو أضحية مثلها" كذا وقع في "التنبيه"، وسائر كتب الفقه مثل هذه الصيغة، والأجود حذف الألف، وتبقية الواو؛ لأنها على تقدير إثبات الألف، يكون معناه: أكثر الأمرين من قيمتها أو أكثر الأمرين من أضحية [مثلها]، ومعلوم أن هذا ليس بمنتظم؛ فوجب حذف الألف.

قال: فإن زادت القيمة على مثلها، أي: ولم يمكن أن يشتري بها أضحية كاملة، تصدق بالفاضل- أي: نقداً- لأن الأضحية لها مقصودان، فإذا تعذر أحدهما، سقط اعتبار الآخر، كالمعلق بشرطين، إذا فقد أحدهما، كان بمنزلة فقدهما جميعاً، وهذا قول أبي إسحاق، واختاره في "المرشد".

وقبل: يشتري به اللحم، ويتصدق به؛ لأن إراقة الدم واللحم مقصودان، والإراقة تشق؛ فتسقط، وتفرقة اللحم لا تشق؛ فتجب.

وقبل: يشارك به في ذبيحة أخرى، أي: وإن كان ذلك الجزء لا يجزئ في الأضحية، كما إذا كانت الذبيحة شاة؛ كما صرح به الإمام، وسيأتي في كلام غيره؛ لأن الإراقة مستحقة، فإذا أمكنت، لم تسقط؛ وهذا ما قال البندنيجي: إنه المذهب.

وهذه الأوجه قد حكاها القاضي أبو حامد في جامعه.

أما إذا أمكن أن يشتري بالزائد عن القيمة هدياً كاملاً، لزمه ذلك وجهاً واحداً، ولا فرق بين أن يكون من جنس ذلك، أو من غير جنسه، كما صرح به أبو الطيب وغيره.

ولو تعذر شراء جزء من ذبيحة، قال في "الشامل": فينبغي أن يكون فيه وجهان:

أحدهما: يتصدق به نقداً.

والثاني: يشتري به اللحم.

ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا يناله من الفاضل شيء، وهو المذكور في "البحر" عن العراقيين، وإن صاحب "الإفصاح" وجهه بأنه قد تعدى فيه.

ص: 113

والأصحاب قالوا: هو كما لو عطب عليه بدنة من الهدي ذبحها، ولم يأكل منها شيئاً، وإن كانت لو سلمت حل له أكلها؛ حسماً للتهمة، كذلك هذه الزيادة، وهذا قد حكاه الرافعي وجهاً عن رواية أبي علي الطبري بعد أن قال: إن الشافعي استحب أن يتصدق بالفاضل الذي لا يفي بشاة أخرى، ولا يأكل منه شيئاً، وفي معناه البدل الذي يذبحه.

وقال في "الحاوي": إن قلنا: إنه يصرف ذلك في سهم من أضحية، كان في ذلك السهم كأهل الضحايا، وإن قلنا: إنه يشتري به لحماً، أو يصرفه نقداً، ففيه وجهان:

أحدهما: أنه يسلك به مسلك الضحايا- أيضاً- فيكون فيه بمثابتهم.

والثاني: يختص به الفقراء.

وحكى القاضي الحسين وغيره من المراوزة وجهاً: أنه يجوز له أن يمسك. الفاضل، ويتخذ منه خاتماً أو غيره، كما له أن يمسك جلد الضحية ينتفع به.

ولو كان المتلف لها أو للهدي أجنبياً بغير الذبح، لم يلزمه غير القيمة وجهاً واحداً، ثم إن كانت القيمة غير زائدة ولا ناقصة عن المثل، اشتراه، لكنه إن اشتراه بعين المأخوذ، صار أضحية [وهدياً] بنفس الشراء، [وهذا] إن لم ينو [به] الأضحية والهدي، وإن اشتراه في الذمة، نوى بالشراء: أنه أضحية، أو هدي، ولا يحتاج بعد ذلك إلى إيجاب، قاله الماوردي.

وإن كانت القيمة أزيد من المثل، فالحكم فيه كما لو أتلفها الناذر؛ فتجيء الأوجه.

وإن كانت أنقص من المثل؛ لارتفاع الأسعار، فإن أمكن أن يشتري بها ما يجزئ في الأضحية ولو من غير جنسها، فعل، ولا يجزئه غيره.

فإن لم يمكن ذلك، فقد نقل الرافعي في كتاب الوقف: أنه لا يضحي به.

وقال القاضي أبو الطيب، وتبعه المصنف، وابن الصباغ: إن فيه الأوجه السابق.

وفي كتاب النذب من "الحاوي". حكاية وجهين:

أحدهما: أنه يلزم الناذر تمام قيمة مثلها.

والثاني: لا يلزمه.

ص: 114

وعلى هذا ففيما [يفعل] بالمأخوذ وجهان:

أحدهما: يتصدق به نقداً.

والثاني: يشارك به في ذبيحة أخرى.

وحكى هنا الوجهين في ضمانة تمام القيمة، وقال: إذا [قلنا:] لا يضمنه، فحال القيمة المأخوذة، لا يخلو من خمسة أحوال: إحداها: أن يمكن أن يشتري بها من جنس تلك الأضحية ما يجوز أن يكون أضحية، وإن كان دون التالفة، مثل أن يكون قد أتلف ثنية من الضأن، ويمكن أن يشتري بالمأخوذ جذعة من الضأن، فعليه ذلك ولا يجوز أن يشتري بها ثنية من المعز.

والثانية: أن يكون ثمناً لدون الجذعة من الضأن، [وثمناً لثنية] من المعز، فعليه أن يشتري بها ثنية من المعز

والثالثة: أن يمكن أن يشتري بها دون الجذعة مما لا يكون أضحية، أو سهماً شائعا في أضحية، فعليه أن يشتري بها ما كمل [دون الجذعة]، وهو أولى من [سهم من أضحية].

والرابعة: أن يمكن أن يشتري بها سهماً شائعاً في أضحية، أو لحماً، فيشتري سهماً يف أضحية، ويخالف الزيادة؛ حيث يشتري بها في أحد الوجوه لحماً؛ لأن الزيادة بعد إراقة الدم، وهذه لم يحصل فيها إراقة دم.

والخامسة: ألا يمكن أن يشتري [بها] سهماً من حيوان، وأمكن أن يشتري بها لحماً، أو يفرقها ورقاً، فيجب أن يشتري اللحم، بخلاف الزيادة على أحد الوجوه؛ لأن اللحم هو مقصود الأضحية، وقد وجد في الزيادة مقصودها فجاز أن تفرق ورقاً، ولم يوجد في النقصان مقصودها فوجب أن يفرق لحماً.

أما إذا أتلفها بالذبح بدون إذن الناذر، نظر:

فإن كان قبل وقت الذبح، فالحكم كما إذا ذبحها في الوقت، وقلنا: لا تقع

ص: 115

الموقع، كما سنذكره.

وإن كان في وقته، فالمشهور الذي أورده العراقيون: أنها تقع الموقع.

وادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف في ذلك.

وقال الرافعي: إنه حكى عن القديم قولاً: أن لصاحب الأضحية، أن يجعلها عن الذابح، ويغرمه القيمة بتمامها؛ بناءً على وقف العقود، وهذا القول حكاه القاضي الحسين فيما إذا كان قد شراها بنية الأضحية.

وقال الإمام: إن وقوعها الموقع ينبني على اشتراط النية عند الذبح في المعينة، فإن اشترطت، لم تقع الموقع، ووجب على الذابح أرش ما بين قيمتها حية ومذبوحة، وفيما يصنع باللحم وجهان:

أحدهما: يصرف في مصارف الضحايا وإن لم تقع ضحية.

والثاني: أنه يصير ملكاً للناذر.

وإن لم تشترط النية؛ اكتفاء بالتعيين السابق، وقعت الموقع، وإن كان لا يجوز له الإقدام على الذبح بدون الإذن، وفي لزوم الأرش له قولان حكاهما القاضي الحسين أيضاً:

أصحهما- وهو المنصوص، والذي أورده المعظم-: نعم؛ لأن إراقة الدم مقصودة وقد فوتها.

والثاني: لا؛ لوقوعها موقعها، وهو ما ادعى الإمام أنه الأقيس.

وقال الماوردي: عندي أنه إن ذبحها وفي الوقت سعة، فعليه الأرش؛ لأنه لم يتعين ذبحه حينئذٍ، فإن ضاق الوقت، ولم يبق إلا ما يسع الذبح، فذبحها، فلا أرش عليه؛ لتعين الوقت.

وهذا الذي أبداه الماوردي لنفسه قد سبقه به صاحب "التلخيص"؛ فإن الرافعي حكى عنه في آخر [باب] اللقيط: أن الشخص إذا وجد بعيراً في الصحراء في أيام منى مقلداً، وخشي فوات وقت الذبح، جاز له ذبحه، ولا فرق بين الأضحية والهدي.

وإذا أوجبناه، ففيم يصرف؟ فيه وجوزه حكاها الماوردي:

ص: 116

أحدها: أنه للمضحي.

وثانيها: أنه للمساكين خاصة؛ لأنه بدل بعض الأضحية، وليس للمضحي من الأضحية إلا الأكل، وهذا ما أورده القاضي الحسين.

وأظهرها، وهو ما أورده ابن الصباغ، والمصنف؛ تبعاً للقاضي أبي الطيب: أن حكمه حكم الزائد من القيمة على المثل، [وقد تقدم].

وهذا إذا كان اللحم باقياً بحاله، أما لو كان الذابح قد أكله، أو صرفه مصرف الضحايا، فهو كما لو أتلفها فيضمنها، لكن بماذا يضمنها؟ فيه وجهان:

أحدهما: بالقيم، كما في صورة الإتلاف.

والثاني- وهو الذي رجحه الماوردي، وبه قال ابن أبي هريرة: أنه يضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها وقيمة اللحم.

وروى بعضهم بدل الثاني: أنه يغرم أرش الذبح، وقيمة اللحم.

وعلى هذا جرى الإمام ومن تبعه، وقال: إن هاذ مما لا خلاف فيه، وإن أجرينا الخلاف في ضمان الأرش إذا لم يفرق اللحم، وإنما القولان فيه إذا اقتصر على الذبح، وترك اللحم [لصاحب الضحية]. قال: وليس يبعد عن القياس طرد القولين في ضمان الأرش في صورة تفرقة اللحم، فإن الضحية بالذبح وقعت موقعها، وتفرقته جناية على ضحية قد بلغت محلها.

وعن كتاب ابن كج: أنه تقع التفرقة عن المالك، كالذبح.

وما ذكرناه في الأضحية [يجري مثله] في الهدي.

والحكم في الأضحية والهدي المنذور في الذمة إذا عين شاة فذبحها أجنبي في يوم النحر، أو في الحرم، في وقوعها [موقعها] عن صاحبها، وفي أخذ اللحم، وتصدقه به، وفي غرامة الذابح أرش ما نقص بالذبح، على ما ذكرناه فيما إذا [كانت] معينة في الابتداء.

فإن كان اللحم تالفاً، قال صاحب "التهذيب": يأخذ القيمة، ويملكها، والأصل في ذمته.

ص: 117

قلت: وهذا يظهر أنه مفرع على أنَّ ما عينه عما في الذمة إذا تلف يعود الحق إلى ذمته، كما أورده الجمهور.

أما إذا قلنا: إنه إذا تلف، لم يلزمه شيء؛ فينبغي أن يكون حكمه حكم المعينة في هذا- أيضاً- ولا يكون في ذمته شيء.

ولو كان الذابح للأضحية المعينة مشتريها من الناذر، نظر:

فإن كان عالماً بفساد البيع، فالحكم كما تقدم.

وإن كان ظاناً صحته، قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه لا يقع عن المشتري، وهل يقع عن الناذر؟ فيه جوابان؛ بناء على ما [لو] باع المكاتب، وقلنا بعدم الصحة، فأدى النجوم إلى المشتري، فهل يعتق؟ فيه قولان:

أحدهما: نعم؛ لأن البائع الذي سلطه عليه، فصار نائباً من جهته كالوكيل.

والثاني: لا يعتق؛ لأنه يقبض لنفسه، بخلاف الوكيل.

فإن قلنا: يعتق المكاتب، وقعت الأضحية موقعها عن الناذر، [وإلا فلا.

والفوراني أطلق القول بوقوع الذبح عن الناذر البائع] وهل يغرم أرش النقص؛ فيه قولان ينبنيان على الأصل المذكور في المكاتب.

فإن قلنا: يعتق المكاتب، لم يغرم الذابح الأرش، وإلا غرمه.

قلت: ويظهر أن يكون هذا بناء على أنه لو ذبح بغير الإذن، يضمن الأرش.

وفي هذه الصورة إذا قلنا: لا تقع الضحية موقعها؛ إما على أحد الوجهين- كما ذكره القاضي- أو لكون الذبح وجد قبل وقته، إذا لم تف القيمة بمثلها، ضمن الناذر تمام قيمة المثل؛ لعدوانه بالبيع والتسليم والله أعلمز

قال: فإن لم يذبحها حتى فات الوقت، لزمه أن يذبحها؛ لما ذكرناه في أول الباب.

فإن قلت: لم كرر الشيخ هذه المسألة، وفيما ذكره [في] أول الباب غنية؟

قلت: يجوز أن يكون أراد بما ذكره [أولاً: ما إذا التزم التضحية بشاة في الذمة، وما ذكره] هنا إذا كانت معينة، كما هو ظاهر لفظه، فلا تكرار.

ص: 118

ويجوز أن تكون الصورة المذكورة أولاً وآخراً واحدة، [و] لكنه ذكرها أولاً لمعنى، وهو أن هذه العبادة مما يقضي الواجب منها دون التطوع، وذكرها آخراً؛ للاحتراز عن مذهب أبي حنيفة؛ فإنه يرى [أنه] إذا لم يذبح الناذر الضحية المعينة حتى فات الوقت، لا يجوز [له] ذبحها، بل يسلمها للفقراء حية، حتى لو ذبحها، ضمن أرش نقصها، وكثيراً ما يكرر البخاري الأحاديث لمثل ذلك؛ فكان له فيه أسوة.

وقد نجز شرح مسائل الباب ولنختمه بذكر فرعين:

أحدهما: هل يجوز صرف نصيب الفقراء من الأضحية إلى المكاتب؟ فيه وجهان:

الثاني: هل يتعين فقراء بلد الذبح للتفرقة؟

فيه وجهان، والله سبحانه أعلم.

ص: 119