الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطبة الأصل
أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ الكبير الشهير الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الدمشقي، فيما أجازه لنا غير مرة، وابنه أبو عبد الله محمد بن أبي هريرة، وَابن عمته أبو محمد عبد القادر بن محمد بن علي، فيما شافهاني به غير مرة بدمشق في آخرين، عن المؤلف قال:
الحمد لله الحكم العدل، العلي الكبير، اللطيف الخبير، الماجد البصير، الذي خلق كل شيء فأحسن التقدير، ودبر الخلائق فأكمل التدبير، وقضى بحكمته على العباد بالسعادة والشقاوة: فريق في الجنة وفريق في السعير.
وأرسل رسله الكرام، بأصدق الكلام وأبين التحرير، وختمهم بالسيد أبي القاسم البشير النذير، السراج المنير، فأرسله رحمة للعالمين من نار السعير، وحفظ شريعته من التبديل والتغيير، وصير أمته خير أمة أخرجت للناس، فيا حبذا التصيير.
وجعل فيهم أئمة ونقادا يدققون في النقير والقطمير، ويتبصرون في حفظ آثار نبيهم أتم التبصير، ويتعوذون بالله من الهوى والتقصير، ويتكلمون في مراتب الرجال، وتقرير أحوالهم، من الصدق والكذب، والقوة والضعف، أحسن تقرير.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أدخرها لسؤال منكر ونكير، وأردفها بشهادة أن محمدا عبده ورسوله، خير نبي وأصدق نذير، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أولي العزم والتشمير.
أما بعد؛
هدانا الله وسددنا، ووفقنا لطاعته، فهذا كتاب جليل مبسوط في إيضاح نقلة العلم النبوي، وحملة الآثار، ألفته بعد كتابي المنعوت بالمغني، وطولت العبارة، وفيه أسماء عدة من الرواة، زائدا على من في المغني زدت معظمهم من الكتاب الحافل المذيل على الكامل لابن عَدِيّ.
وقد ألف الحفاظ مصنفات جملة في "الجرح والتعديل"، ما بين اختصار وتطويل.
فأول من جمع كلامه في ذلك الإمام الذي قال فيه أحمد بن حنبل: ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطان، وتكلم في ذلك بعده تلامذته: كيحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعمرو بن علي الفلاس، وَأبي خيثمة.
وتلامذتهم مثل: أبي زرعة، وَأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، وَأبي إسحاق الجوزجاني السعدي، وخلق.
ومن بعدهم مثل: النسائي، وَابن خزيمة، والترمذي، والدولابي، والعقيلي وله مصنف مفيد في معرفة الضعفاء، ولأبي حاتم بن حبان كتاب كبير عندي في ذلك.
ولأبي أحمد بن عَدِي كتاب الكامل هو أكمل الكتب وأجلها في ذلك، وكتاب أبي الفتح الأزدي، وكتاب أبي محمد بن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، والضعفاء للدارقطني، والضعفاء للحاكم ، وغير ذلك.
وقد ذيل ابن طاهر المقدسي على الكامل لابن عَدِي بكتاب لم أره، وصنف أبو الفرج بن الجوزي كتابا كبيرا في ذلك، كنت اختصرته أولا، ثم ذيلت عليه ذيلا بعد ذيل.
والساعة، فقد استخرت الله عز وجل في عمل هذا المصنف، ورتبته على حروف المعجم حتى في الآباء ليقرب تناوله، ورمزت على اسم الرجل من أخرج له في كتابه من الأئمة الستة فذكرها ثم قال:
وفيه من تكلم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين وبأقل تجريح فلولا أن ابن عَدِي أو غيره من مؤلفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته ولم أر من الرأي أن أحذف اسم أحد ممن له ذكر بتليين ما في كتب الأئمة المذكورين خوفا من أن يتعقب عليَّ لا أني ذكرته لضعف فيه عندي إلا ما كان في كتاب البخاري، وَابن عَدِي، وَغيرهما من الصحابة فإني أسقطهم لجلالة الصحابة، وَلا أذكرهم في هذا المصنف فإن الضعف إنما جاء من جهة الرواة إليهم
وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحداً لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس مثل: أبي حنيفة ، والشافعي ، والبخاري ، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف وما يضر ذلك عند الله، وَلا عند الناس إذ إنما يضر الإنسان الكذب والإصرار على الخطأ والتجري على تدليس الباطل، فإنه خيانة وجناية، والمرء المسلم يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب.
فقد احتوى كتابي هذا:
1 -
على ذكر الكذابين الوضاعين المتعمدين قاتلهم الله.
2 -
وعلى الكاذبين في أنهم سمعوا ولم يكونوا سمعوا.
3 -
ثم على المتهمين بالوضع أو بالتزوير.
4 -
ثم على الكذابين في لهجتهم لا في الحديث النبوي.
5 -
ثم على المتروكين الهلكى الذين كثر خطؤهم وترك حديثهم ولم يعتمد على روايتهم.
6 -
ثم على الحفاظ الذين في دينهم رقة وفي حديثهم وهن
7 -
ثم على المحدثين الضعفاء من قبل حفظهم فلهم غلط وأوهام ولم يترك حديثهم بل يقبل ما رووه في الشواهد والاعتبار بهم لا في الأصول والحلال والحرام.
8 -
ثم على المحدثين الصادقين أو الشيوخ المستورين الذين فيهم لين ولم يبلغوا رتبة الأثبات المتقنين وما أوردت منهم إلا من وجدته في كتاب في أسماء الضعفاء.
9 -
ثم على خلق كثير من المجهولين ممن ينص أبو حاتم الرازي على أنه مجهول أو يقول غيره لا يعرف أو فيه جهالة أو غير ذلك من العبارات التي تدل على عدم شهرة الشيخ بالصدق إذ المجهول غير محتج به.
10 -
ثم على الثقات الأثبات الذين فيهم بدعة والثقات الذين تكلم فيهم من لا يلتفت إلى كلامه، وَلا إلى تضعيفه لكونه تعنت وخالف الجمهور من أولي النقد والتحرير فإنا لا ندعي العصمة من السهو والخطأ في الاجتهاد في غير الأنبياء عليهم السلام.
ثم إن البدعة صغرى وكبرى روى عاصم الأحول، عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت نظروا من كان من أهل السنة أخذوا حديثه ومن كان من أهل البدع تركوا حديثه.
وروى هشام، عن الحسن قال: لا تفاتحوا أهل الأهواء، وَلا تسمعوا منهم
فالتليين بالبدعة باب صلف فيه اختلاف بين العلماء ليس هذا موضع تقريره.
ولم أتعرض لذكر من قيل فيه: محله الصدق، وَلا من قيل فيه: هو صالح الحديث أو يكتب حديثه أو هو شيخ فإن هذا وشبهه يدل على عدم الضعف المطلق.
فأعلى العبارات في الرواة المقبولين:
1 -
ثبت حجة وثبت حافظ وثقة متقن وثقة ثقة.
2 -
ثم ثقة.
3 -
ثم صدوق، وَلا بأس به وليس به بأس.
4 -
ثم محله الصدق وجيد الحديث وصالح الحديث وشيخ وسط وشيخ وحسن الحديث وصدوق إن شاء الله وصويلح ونحو ذلك.
وأردى عبارات الجرح:
1 -
دجال كذاب، أو وضاع يضع الحديث.
2 -
ثم متهم بالكذب ومتفق على تركه
3 -
ثم متروك ، وليس بثقة ، وسكتوا عنه ، وذاهب الحديث ، وفيه نظر ، هالك ، وساقط.
4 -
ثم واه بمرة ، وليس بشيء ، وضعيف جدا ، وضعفوه ، ضعيف ، واه ، منكر الحديث ، ونحو ذلك.
5 -
ثم يضعف، وفيه ضعف، قد ضعف، ليس بالقوي ، غير حجة ، ليس بحجة ، ليس بذاك ، تَعرِفُ وتُنْكِرُ، فيه مقال ، تكلم فيه ، لين ، سيء الحفظ ، لَا يُحْتَجُّ به ، اختلف فيه ، صدوق لكنه مبتدع.
ونحو ذلك من العبارات التي تدل بوضعها على اطّراح الراوي بالأصالة أو على ضعفه، أو على التوقف فيه، أو على جواز أن يحتج به مع لين فيه.
وكذلك من قد تكلم فيه من المتأخرين لا أورد منهم إلا من قد تبين ضعفه واتضح أمره من الرواة إذ العمدة في زماننا ليس على الرواة بل على المحدثين والمفيدين والذين عرفت عدالتهم وصدقهم في ضبط أسماء السامعين.
ثم من المعلوم أنَّه لابد من صون الراوي وستره والحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاث مِئَة ولو فتحت على نفسي تليين هذا الباب ما سلم معي إلا القليل إذ الأكثر لا يدرون ما يروون، وَلا يعرفون هذا الشأن وإنما سمِّعوا في الصغر واحتيج إلى علو سندهم في الكبر والعمدة على من أفادهم وعلى من أثبت طباق السماع لهم كما هو مبسوط في علوم الحديث والله الموفق، وَلا حول، وَلا قوة إلا بالله. (هذا آخر الخطبة).
وقد وجدت له في أثناء الكتاب ما يصلح أن يكون في الخطبة كقوله في ترجمة أبان العطار: إذا كتبت (صح) أول الاسم فهي إشارة إلى أنَّ العمل على توثيق ذلك الرجل
وقوله فيها: ومن عيوب كتابه، يعني ابن الجوزي- أنه يسرد الجرح ، ويسكت عن التعديل.
وقال في ترجمة أبان بن حاتم الأملوكي: اعلم أن كل من أقول فيه: مجهول، وَلا أسنده إلى قائل فإن ذلك هو قول أبي حاتم فيه ، وسيأتي من ذلك شيء كثير جدا فاعلمه فإن عزيته إلى قائله كابن المديني، وَابن معين فذلك بيِّن ظاهر.
وإن قلت: فيه جهالة، أو نُكرة، أو يجهل ، أو لا يعرف ، وأمثال ذلك ، ولم أعزه إلى قائل ، فهو من قبلي ، كما إذا قلت: صدوق ، وثقة ، وصالح ، ولين ، ونحو ذلك ، ولم أضفه إلى قائل فهو من قولي واجتهادي.
وقوله في ترجمة أبان بن تغلب: فإن قيل: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان فكيف يكون عدلا وهو صاحب بدعة؟ وجوابه: أن البدعة على ضربين:
فبدعة صغرى: كغلو التشييع، وكالتشييع بلا غلو، وَلا تحرق ، فهذا كثير في التابعين وأتباعهم مع الدين والورع والصدق فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة
ثم بدعة كبرى: كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك فهؤلاء لا يقبل حديثهم، وَلا كرامة.
وأيضًا فلا أستحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا، وَلا مأمونا بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم فكيف يقبل مَن هذا حاله؟ حاشا وكلا.
فالشيعي والغالي في زمان السلف وعُرْفِهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة وطائفة ممن حارب عليًّا رضي الله عنه وتعرض لسبهم.
والغالي في زماننا وعُرْفِنا هو الذي كفر هؤلاء السادة وتبرأ من الشيخين أيضًا فهذا ضال مُعَثَّر.
وقال في ترجمة إبراهيم بن الحكم بن ظهير: اختلف الناس في رواية الرافضة على ثلاثة أقوال:
أحدها: المنع مطلقا.
والثاني: الترخُّص مطلقا إلا في من يكذب ويضع.
والثالث: التفصيل فتقبل رواية الرافضي الصدوق العارف بما يحدث وترد رواية الرافضي الداعية ولو كان صدوقا.
قال أشهب: سئل مالك عن الرافضة فقال: لا تكلمهم، وَلا ترو عنهم فإنهم يكذبون.
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: لم أر أشهد بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكا يقول: احمل العلم، عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينا.
هذا آخر كلامه.
قلت: فالمنع من قبول رواية المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالرافضة والخوارج ونحوهم ذهب إليه مالك وأصحابه والقاضي أبو بكر الباقلاني وأتباعه.
والقبول مطلقا إلا فيمن يكفر ببدعته وإلا فيمن يستحل الكذب ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف وطائفة.
وروي، عن الشافعي أيضًا.
وأما التفصيل: فهو الذي عليه أكثر أهل الحديث بل نقل فيه ابن حبان إجماعهم ووجه ذلك:
أن المبتدع إذا كان داعية كان عنده باعث على رواية ما يشد به بدعته.
وقد حكى القاضي عبد الله بن عيسى ابن لَهِيعَة، عن شيخ من الخوراج أنه سمعه يقول بعد ما تاب: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.
حدث بها عبد الرحمن بن مهدي الإمام، عن ابن لَهِيعَة فهي من قديم حديثه الصحيح.
أنبأنا بذلك إبراهيم بن داود شفاها ، أخبرنا إبراهيم بن علي ، أخبرنا أبو الفرج بن الصيقل ، أخبرنا أحمد بن محمد كتابة ، أخبرنا الحسن بن أحمد ، أخبرنا أبو نعيم، حَدَّثَنا أحمد بن إسحاق، حَدَّثَنا أبو يحيى الرازي ، حَدَّثَنا عبد الرحمن بن عمر، حَدَّثَنا ابن مهدي بها.
قلت: وهذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمراسيل إذ بدعة الخوارج كانت في صدر الإسلام والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين فمن بعدهم.
وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا وأشاعوه فربما سمعه الرجل السني فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينا للظن به فيحمله عنه غيره ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع فيحتج به ويكون أصله ما ذكرت فلا حول، وَلا قوة إلا بالله.
وينبغي أن يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقا ولم يكن داعية بشرط أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشدها فإنا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى والله الموفق.
فقد نص على هذا القيد في هذه المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي فقال في مقدمة كتابه في "الجرح والتعديل":
ومنهم زائغ عن الحق ، صدوق اللهجة ، قد جرى في الناس حديثه لكنه مخذول في بدعته مأمون في روايته فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف إلا ما يقوي به بدعته فيتهم بذلك.
وقال حماد بن سلمة: حدثني شيخ لهم، يعني الرافضة- قال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئا جعلناه حديثا.
وقال مُسَبِّحُ بن الجهم الأسلمي التابعي: كان رجل منا في الأهواء مدة ، ثم صار إلى الجماعة ، وقال لنا: أنشدكم الله أن تسمعوا (1) من أحد من أصحاب الأهواء فإنا والله كنا نروي لكم الباطل ونحتسب الخير في إضلالكم.
_حاشية
(1) قوله: "أنشدكم الله أن تسمعوا" أي أنشدكم الله أن لا تسمعوا، على غرار قوله تعالى:{يبين الله لكم أن تضلوا} أي لئلا تضلوا.