الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِشَارَاتُ الصَّابِرِينَ فِي الْقُرْآنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} } [البقرة: 155-157] فَقَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْوَاوُ فِيهَا مَفْتُوحَةٌ لالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عِنْدَ غَيْرِ سِيبَوَيْهِ، وَعِنْدَهُ مَبْنِيَّةٌ، وَمَعْنَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ: وَلَنُصِيبُكُمْ بِذَلِكَ إِصَابَةً تُشْبِهُ فِعْلَ الْمُخْتَبِرِ لأَحْوَالِكُمْ، هَلْ تَصْبِرُونَ وَتَثْبُتُونَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّسْلِيمِ لأَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ أَمْ لا؟ بِشَيْءٍ بِقَلِيلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْبَلايَا، وَطَرَفٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: بِشَيْءٍ لِيُؤْذِنَ أَنَّ كُلَّ بَلاءٍ أَصَابَ الإِنْسَانَ وَإِنْ جَلَّ، فَفَوْقَهُ مَا يَقِلُّ عَنْهُ، وَلِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ، وَيُرِيَهُمْ أَنَّ رَحْمَتَهُ مَعَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ لا تُزَايِلُهُمْ، وَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ كَوْنِهِ، لِيُوَطِّنُوا عَلَيْهِ نُفُوسَهُمْ.
وَنَقْصٍ عَطْفٌ عَلَى «شَيْءٍ» ، أَوْ عَلَى الْخَوْفِ، بِمَعْنَى: وَشَيْءٍ مِنْ نَقْصِ الأَمْوَالِ.
وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ الْخَوْفَ: خَوْفُ اللَّهِ، وَالْجُوعُ: صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالنَّقْصُ مِنَ الأَمْوَالِ: الزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَاتُ، وَمِنَ الأَنْفُسِ: الأَمْرَاضُ، وَمِنَ الثَّمَرَاتِ: مَوْتُ الأَوْلادِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه:«يَقُولُ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ» .
وَسَيَرِدُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقِيلَ: الْخَوْفُ مِنَ الأَعْدَاءِ فِي الْحُرُوبِ، وَالْجُوعُ، وَالْجَدْبُ، وَالشِّدَّةُ، وَالسّنةُ.
أَمَّا الْحَاجَةُ إِلَى الأَكْلِ فَإِنَّمَا اسْمُهَا: الْغَرَثُ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِيهَا الْمُحَدِّثُونَ الْجُوعَ اتِّسَاعًا، وَنَقْصُ الأَمْوَالِ: بِالْجَوَائِحِ، وَالْمَصَائِبِ، وَالأَنْفُسِ: بِالْمَوْتِ، وَالْقَتْلِ.
وَالثَّمَرَاتِ: بِالْعَاهَاتِ، وَنَزْعِ الْبَرَكَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: مُؤَنُ الْجِهَادِ وَكُلَفِهِ، فَالْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَالْجُوعُ بِهِ، وَبِالأَسْفَارِ إِلَيْهِ، وَنَقْصُ الأَمْوَالِ: بِالنَّفَقَاتِ، وَالأَنْفُسِ: بِالْقَتْلِ، وَالثَّمَرَاتِ: بِإِصَابَةِ الْعَدُوِّ لَهَا، أَوْ بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا، بِسَبَبِ الْجِهَادِ.
ثُمَّ وَصَفَ الصَّابِريَن الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156] الآية.
وَجَعَلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَلْجَأً لِذَوِي الْمَصَائِبِ، لِمَا جَمَعَتْ مِنَ الْمَعَانِي الْمُبَارَكَةِ، وَهِيَ: تَوْحِيدُ اللَّهِ، وَالإِقْرَارُ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَالْبَعْثُ مِنَ الْقُبُورِ، وَالْيَقِينُ بِأَنَّ رُجُوعَ الأَمْرِ كُلِّهِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ لَهُ، وَهَذَا الابْتِلاءُ لِلزِّيَادَةِ فِي ثَوَابِهِمْ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمْ يُعْطَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ نَبِيٌّ قَبْلَ نَبِيِّنَا، وَلَوْ عَرَفَهَا يَعْقُوبُ لَمَا قَالَ:{يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلِكُلِّ مَنْ تَأْتِي مِنْهُ الْبِشَارَةُ، أَيْ: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الْمُسْتَرْجِعِينَ عِنْدَ الْبَلاءِ، لأَنَّ الاسْتِرْجَاعَ تَسْلِيمٌ، وَإِذْعَانٌ.
ـ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ» .
ـ وَرُوِيَ أَنَّ مِصْبَاحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْطَفَأَ، فَقَالَ:«إِنَّ لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» .
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمُصِيبَةٌ هِيَ؟ قَالَ: «نَعَمْ كُلُّ شَيْءٍ
يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيبَةٌ» .
وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُسْتَرْجِعِينَ، الصَّابِرِينَ، وَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: عَفْوُهُ، وَرَحْمَتُهُ، وَتَزْكِيَتُهُ وَتَشْرِيفُهُ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَكَرَّرَ الرَّحْمَةَ لَمَّا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ تَأْكِيدًا، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ جَزَاءِ الصَّلاةِ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الصَّلاةُ: الْحُنُوُّ، وَالتَّعَطُّفُ، فَوُضِعَتْ مَوْضِعَ الرَّأْفَةِ، وَجُمِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]، و {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] وَالْمَعْنَى: عَلَيْهِمْ رَأْفَةٌ بَعْدَ رَأْفَةٍ، وَرَحْمَةٌ أَيُّ رَحْمَةٍ.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ حَيْثُ اسْتَرْجَعُوا؛ وَسَلَّمُوا لأَمْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: «نِعْمَ الْعَدْلانِ، وَنِعْمَ الْعُلاوَةُ» أَرَادَ بِالْعَدْلَيْنِ: الصَّلاةَ وَالرَّحْمَةَ، وَبِالْعُلاوَةِ: الاهْتِدَاءَ.