الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ[ما رأيك في
من يضعف حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله قال: من عادى لي وليّاً؛ فقد آذنته بالحرب
. . . وما تردَّدت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت، وأنا أكره مَسَاءَته)). رواه البخاري (6502). واستند إلى قول الذهبي في الميزان عند ترجمة خالد بن مخلد القطواني بعد أن ساق هذا الحديث:" فهذا الحديث غريب جداً، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدّوه من منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك، وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد" أهـ. ثم سرد قول من يضعف خالد هذا: قال ابن سعد: كان متشيعا منكر الحديث، في التشيع مفرطا، وكتبوا عنه للضرورة. قال الجوزجاني:(كان شتاماً معلنا لسوء مذهبه. ) قال الأعين: قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل في المثالب أو المثاقب ـ يعنى بالمثلثة لا بالنون ـ. ). . وحكى أبو الوليد الباجي في " رجال البخاري " عن أبى حاتم أنه قال: لخالد بن مخلد أحاديث مناكير ويكتب حديثه. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: له أحاديث مناكير. ثم ذكر أن في الإسناد شريكا وهو متكلم فيه من جهة حفظه والسؤال: هل الحديث كما ذكر؟ ثم هل هناك كلام للأئمة المتقدمين في هذا الحديث؟ ]ـ
قبل أن أجيب عن هذا السؤال بعينه أنبه أنَّ هذا السؤال يتعلق بمسألة كثر الخوض فيه في هذا الزمان بعلمٍ تارة وبجهل تارات، وبقصد حسن تارة وبقصد سيئ تارات وهي هل في الصحيحين أحاديث ضعيفة؟ وهل هما بمعزل عن النقد؟ وماذا يفسر صنيع الحفاظ الذين نقدوا بعض الأحاديث؟
وأوجز الكلام على هذه المسألة في نقاط:
1 -
أن غالب من ينتقد أحاديث الصحيحين في هذا العصر لا يظهر منهم العمق العلمي والنفس الحديثي الذي يمكنهم من نقد أحاديث الصحيحين بموضوعية ونصفة وعدل!، ويظهر ذلك من خلال الخوض معهم في تفصيلات النقد الحديثي ودقائق العلل ولذا ربما قال بعضهم عن حديث أخرجه البخاري في صحيحه: فيه فلان ضعفه ابن حجر!! مغفلا جميع القرائن التي احتفت بالخبر والتي يراعيها كبار الأئمة خاصة صاحبا الصحيح، وربما سمعنا من بعضهم أن عددا من المحدثين- مثل: ابن عمار الشهيد، والدارقطني، وأبي مسعود الدمشقي، والغساني وغيرهم، - انتقدوا أحاديث في صحيحين فإذا سألتَ هذا القائل عن نوعية نقد هؤلاء الأعلام للأحاديث؟، وهل له أثر على الحديث صحة وضعفا؟ وهل يلزم منه الرد أو أنه راجع إلى الصناعة الحديثية؟ لا تجد في الغالب كلاما علميا يوثق به، بل يلقون مثل هذه الشبه بدون خوض في التفصيلات، وربما لا يعرف بعضهم اسم الكتاب الذي ألفه الناقد ولم يره في حياته، وهذه الصفة تغلب على العصرانيين ومقلديهم والمتأثرين بهم.
وهذه النقطة تجر إلى النقطة الثانية وهي:
2 -
أنه ينبغي أن يبين للمخالف أنّ دفاعنا عن الصحيحين ليس عاطفة وتقليدا محضا، أو دعوى أن صاحبي الصحيح معصومان-كما قد يظن البعض وربما صرح بعضهم!! سبحانك هذا بهتان عظيم، فأهل السنة ليس عندهم معصوم إلاّ الرسل والأنبياء في تبليغ الرسالة-، بل دفاعنا عن الصحيحين نتاج معرفتنا بواقع الكتابين ودقة المنهجية التي سلكها مؤلفا الكتاب، وشدة تحريهما في تحقيق شرطهما، والنقد التفصيلي يدل على هذا، بل ويدعو للإعجاب والثقة بهذين الكتابين حتى نالا لقب أصح الكتب بعد كتاب الله، وحظيا بقبول الأمة- بالجملة - ومما يدل على أهمية سلوك هذا المنهج في مناقشة الأحاديث المنتقدة أن بعض من يتبنى هذا التوجه يتفاجأ بهذه التفصيلات الدقيقة، ويصرح بأنه لأوَّل مرة يسمعها، وأن الذي تعلمه أن سبب التعظيم لهذين الكتابين التقليد والعاطفة فحسب!. ومن نعم الله أنَّ الدراسات العلمية الدقيقة والموضوعية حول الصحيحين أثبتت هذا بجلاء، ومن خلال إشرافي على رسالة لأحد طلابي والتي بعنوان:«أحاديث الصحيحين التي أعلها الدارقطني في كتابه"العلل"وليست في"التتبع" من أول حديث أبي بكر الصديق إلى نهاية حديث أبي سعيد الخدري _جمع وتخريج ودراسة» تأكد لي أنّ جل الانتقادات منصبة على الصناعة الحديثية-بغض النظر عن أيهم المصيب- وأما المتون فهي صحيحة.
3 -
ومما أبينه هنا أنَّ للبخاريّ وكذلك مسلم عند تخريج الحديث نظرات عديدة أبرزها:
- نظرة في شيوخ الراوي.
- نظرة في تلاميذ الراوي.
- نظرةٌ في متن الحديث المراد تخريجه من حيث كونه في الأصول أو في المتابعات أو الشواهد ونحو ذلك، وهل هو في الأحكام أم في الرقاق.
وله في كل ذلك نكت حديثية دقيقة بديعة!، ومن هنا يُعلم أنّ وصفَ حديثٍ ما بأنه على شرط الشيخين أو شرط البخاري أو مسلم أمرٌ في غاية الصعوبة، وقد قال ابن الأخرم ـ وهو من كبار الحفاظ-:«قلَّ ما يفوت البخاري ومسلم حديث على شرطهما» ، وقال ابنُ حجر: «وقرأتُ بخط بعض الأئمة أنه رأى بخط عبد الله بن زيادن المسكي قال: أملى على الحافظ أبومحمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي سنة خمس وتسعين وخمسمائة قال: نظرت إلى وقت إملائي عليك هذا الكلام فلم أجد حديثاً على شرط البخاري ومسلم لم يخرجاه إلا أحاديث:
(1)
حديث أنس"يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة".
(2)
وحديث الحجاج بن علاط لما أسلم.
(3)
وحديث علي "لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع" النكت لابن حجر (1/ 313). ولابن عبد البر كلامٌ نحو هذا.
قال ابن عبد الهادي: «واعلم أن كثيرا ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين لخصوصيته به ومعرفته بحديثه وضبطه له ولا يخرجون حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه ولا معروف بضبط حديثه أو لغير ذلك فيجيء من لا تحقيق عنده فيرى ذلك الرجل المخرج له في الصحيح قد روى حديثا عمن خرج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل فيقول هذا على شرط الشيخين أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة وهذا فيه نوع تساهل فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره فلا يكون على شرطهما» الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص256)
4 -
ومما ينبغي التفطن له أنّ من منهج الإمامِ البخاريّ في الرواية عن شيوخه المتكلم فيهم أنْ ينتقي من أصولهم ما صحَّ من حديثهم، ومما يدل على ذلك:
- قول البخاريّ: ((كَانَ إسماعيلُ بنُ أبي أُويس إذا انتَخَبتُ مِنْ كِتابهِ، نَسَخَ تلك الأحاديثَ لنفسِهِ، وَقَالَ: هذه الأحاديثُ انتخبها مُحَمَّد بنُ إسماعيل مِنْ حَدِيثي)). انظر: "تاريخ بغداد"(2/ 19)، "تاريخ مدينة دمشق"(52/ 77).
- وقول البخاريّ أيضاً: قَالَ لي مُحَمَّد بنُ سَلَام: انظرُ في كتبي فما وجدتَ فيها من خطأ فاضرب عليه كي لا أرويه، فَفَعلتُ ذلكَ. "تاريخ مدينة دمشق"(52/ 77)، "مقدمة فتح الباري"(ص483).
- قول الحافظ ابن حجر في "مقدمة الفتح"(ص391): ((روينا في "مناقبِ البخاريِّ" بسندٍ صحيحٍ أنّ إسماعيلَ أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وأنْ يعلمَ لهُ على ما يحدث به ليحدث به، ويعرض عما سواه، وهو مشعرٌ بأنَّ ما أخرجه البخاريُّ عنه هُو مِنْ صحيحِ حديثه لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه)).
-وقال أيضاً في "النكت على كتاب ابن الصلاح"(1/ 288): ((الذينَ انفردَ بهم البخاريُّ ممنْ تُكُلمُ فيهِ أكثرهُمْ مِنْ شيوخهِ الذينَ لَقِيهم، وَعَرَفَ أحوالَهُم، وَاطلع عَلَى أحاديثهم فميّز جيدها مِنْ رديها بخلافِ مُسلم، فإنَّ أكثرَ مَنْ تفردّ بتخريجِ حَدِيثه ممن تُكُلمُ فيه مِنْ المتقدمين، وقد أخرج أكثر نسخهم كما قدمنا ذكره. ولا شكَ أنَّ المرءَ أشدّ معرفة بحديثِ شيوخهِ، وبصحيحِ حَدِيثهم مِنْ ضعيفه ممن تقدم عَنْ عصرهم)).
وقال نحوه في "مقدمة الفتح"(ص12). وانظر: "مقدمة الفتح"(ص387، 388، 413)، "فتح المغيث"(1/ 29).
وكذلك الانتقاء من منهج مسلم في صحيحه قال ابن القيم: «ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة ومن ضعف جميع حديث سئ الحفظ فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن والله المستعان»
قلتُ: وَمَنهجُ انتقاء ما صحَّ من مرويات المجروحين مما في أصولهم منهجٌ لكبار نقاد الحديث؛ ومما يدل على ذلك: قولُ البرذعيّ رأيتُ أبا زُرْعةَ يسيىءُ القولَ فيه-أي في سُوَيد بنِ سَعِيد- فقلتُ له: فأيش حَاله؟ قَالَ: أمَّا كُتُبهُ فَصِحَاحٌ، وكنتُ أتتبعُ أصولَهُ وَأكتبُ مِنْها، فَأمَّا إذا حدّثَ مِنْ حفظهِ فلا. سؤالات البرذعي (ص409).
ولابن القيم كلام متين في هذه المسألة قال فيه: «وربَّما يظنُّ الغالط الذي ليس له ذوق القوم ونقدهم أَنَّ هَذَا تناقض مِنْهُم، فإنهم يحتجون بالرَّجل ويوثقونه فِي موضع، ثم يضعِّفونه بعينه ولا يحتجُّون به فِي موضع آخر. ويقولون إن كَانَ ثقة وجب قبول روايته جملة، وإن لم يكن ثقة وجب ترك الاحتجاج به جملة. وهذه طريقة فاسدة مجمع بين أهل الحديث عَلَى فسادها، فإنهم يحتجُّون من حديث الرجل بما تابعه غيره عليه وقامت شهوده من طرق ومتون أخرى، ويتركون حديثه بعينه إذا روى ما يخالف الناس أوانفرد عنهم بما لا يتابعونه عليه. إذ الغلط فِي موضع لا يوجب الغلط فِي كل موضع والإصابة فِي بعض الحديث أو فِي غالبه لا توجب العصمة من الخطأ فِي بعضه ولا سيما إذا علم من مثل هذا أغلاط عديدة ثم روى ما يخالف الناس ولا يتابعونه عليه فإنه يغلب عَلَى الظن أو يجزم بغلطه. وهنا يعرض لمن قصر نقده وذوقه هنا عَنْ نقد الأئمة وذوقهم فِي هذا الشأن نوعان من الغلط ننبه عليهما لعظيم فائدة الاحتراز منهما: -
- أحدهما: - أن يرى مثل هذا الرجل قد وثق وشهد له بالصدق والعدالة أو خرج حديثه فِي الصحيح فيجعل كل ما رَواهُ عَلَى شرط الصحيح، وهذا غلط ظاهر فإنه إِنَّمَا يكون عَلَى شرط الصحيح إذا انتفت عنه العلل والشذوذ والنكارة وتوبع عليه فأما مع وجود ذَلِكَ أو بعضه فإنه لا يكون صحيحاً ولا عَلَى شرط الصحيح. ومن تأمل كلام البخاري ونظرائه فِي تعليله أحاديث جماعة أخرج حديثهم فِي صحيحه، علم إمامته وموقعه من هذا الشأن وتبين به حقيقة ما ذكرنا.
- النوع الثاني من الغلط: - أن يرى الرجل قد تكلِّم فِي بعض حديثه وضعِّف فِي شيخ أو فِي حديث فيجعل ذَلِكَ سببا لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجد كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم وهذا أَيْضَاً غلط فان تضعيفه فِي رجل أو فِي حديث ظهر فيه غلط لا يوجب التضعيف لحديثه مطلقاً. وأئمة الحديث عَلَى التفصيل والنقد واعتبار حديث الرجل بغيره والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثِّقَات. وهذه كلمات نافعة فِي هذا الموضع تبين كيف يكون نقد الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه ومعلوله من سليمه «ومَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورَاً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ» انتهى من كتاب الفروسية (ص242).
وانظر: "العلل الكبير" للترمذي (ص 394 تحقيق: السامرائي)"الجرح والتعديل"(5/ 147)، "زاد المعاد"(1/ 364)، "شرح علل الترمذي"(1/ 420)، "التنكيل" للمعلمي (1/ 123).
5.
ومما ينبه عليه أنّ الأحاديث في الصحيحين على قسمين:
1 -
قسم تكلم فيه أئمة الحديث وكبار النقاد سواء من حيث الصناعة الحديثية -وهو الغالب على كلام أئمة الحديث الذين لهم تعقبات وتتبعات على الصحيحين ممن تقدم ذكره- أو من حيث نقد بعض الأحاديث جملة-وهو قليل ونادر- أو من حيث نقد بعض الألفاظ فهذه سبيله النظر في الخبر وما أحتف به من قرائن ووجه النقد ومن ثمّ الموازنة، والترجيح، وكلّ حديث له نَظَرٌ خَاص، فكيفما دار طالب العلم دار على ملي، ومن أحيل على ملي فليتبع!. قال ابن حجر: «ينبغي لكل منصف أنْ يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها وارد من جهة أخرى، وهي ما ادَّعاه الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من الإجماع على تلقي هذا الكتاب بالقبول والتسليم لصحة جميع ما فيه، فإنَّ هذه المواضع متنازع في صحتها فلم يحصل لها من التَّلقي ما حصل لمعظم الكتاب وقد تعرَّض لذلك ابن الصلاح في قوله "إلا مواضع يسيرة انتقدها عليه الدارقطني وغيره" وقال في مقدمة شرح مسلم له: ما أخذ عليهما يعني على البخاري ومسلم وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول، انتهى.
2 -
قسم لم يتكلم فيه أحد من أئمة الحديث المتقدمين وكبار النقاد فهذا القسم لا يقبل الكلام عليه من المعاصرين، ولو تأمل الأخ السائل عبارة الذهبي وهي قوله: «لولا هيبة الجامع الصحيح
…
» فالذهبي على جلالته وبراعته في هذا الفن يقول مثل هذا، لمَّا لم يتبين له وجه إخراج البخاري لهذا الحديث لم يضعفه كما يفعل بعض المعاصرين، ومع ذلك أرى أن من يتكلم في الصحيحين من الأخوة الذين يريدون الحق ولكن عندهم نقص في دقائق الحديث أن يتلطف معهم ويرفق بهم ويعلمون ما تقدم ذكره، وتسهل لهم العبارة وتوضح لهم شروط صاحبي الصحيح وشيء من دقيق مسالكهما .. وهذا هو المطلوب، والهداية والتوفيق من الله.
إذا تبين ما تقدم سهل الإجابة عن هذا السؤال بعينه وهو تفرد البخاري بهذا الحديث وما نقله الأخ السائل-بارك الله فيه- من كلام حول هذا الحديث: وهنا لنا نظران:
-النظر الأوَّل:
تحقيق القول في حال خالد بن مخلد القطواني وهل هو ثقة أم لا أم فيه تفصيل؟ وكيفية رواية البخاري عنه؟ وكم روى له، ومن هم شيوخه وتلاميذه الذين اعتمدهم في الرواية عنه؟ وهل هو من شيوخه الذين ميز أحاديثهم أم لا؟ وما هو السر في أنّ البخاري يروي عنه مباشرة وأحيانا يروي عنه بواسطة؟! فيلاحظ عناية البخاري بالرواية عنه، فمثل هذه الأسئلة الافتراضية تخدم الكلام على هذا الحديث وتؤدي إلى إجابات علمية موضوعية.
وتحقيق القول في خالد بن مخلد أنه من كبار شيوخ البخاري الذين ميز حديثهم من خلال كتبهم أو من خلال موافقتهم للثقات أو من خلال استقامت المتون التي يرويها، وأنه -بالجملة-صدوق، ولكنه في روايته عن سليمان بن بلال متقن، رمي بالتشيع وله بعض المنكرات خاصة عن الإمام مالك، ولكن لم يذكر أحد من المتقدمين هذا الحديث من منكراته، يراجع الكامل لابن عدي (3/ 34).
قال الذهبي: «خالد بن مخلد القطواني من شيوخ البخاري صدوق إن شاء الله» .
وهاهنا أمر في غاية الأهمية في هذه المسألة وهو أنه يلاحظ أن البخاري أكثر من الرواية عن خالد بن مخلد القطواني عن شيخه سليمان بن بلال دون غيره، وهو شيخه في هذا الحديث المنتقد، مما يدل على عناية خالد بن مخلد بمرويات شيخه سليمان، وتأمل هذه النصوص النفيسة التي لم يتفطن لها بعض المعاصرين ممن تكلم على الحديث، قال ابن رجب:«ومنهم-أي من الضرب الثاني من حدث عن أهل مصر أو إقليم فحفظ حديثهم وحدث عن غيرهم فلم يحفظ - خالد بن مخلد القطواني، ذكر الغلابي في تاريخه قال: القطواني يؤخذ عنه مشيخة المدينة وابن بلال فقط، يريد سليمان بن بلال، ومعنى هذا أنه لا يؤخذ عنه إلا حديثه عن أهل المدينة وسليمان بن بلال منهم لكنه أفرده بالذكر» شرح علل الترمذي (2/ 776).
وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي (1/ 256): «فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره؛ فلا يكون على شرطهما، وهذا كما يخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال وعلي بن مسهر وغيرهما، ولا يخرجان حديثه عن عبد الله بن المثنى، وإن كان البخاري قد روى لعبد الله بن المثنى من غير رواية خالد عنه» .
وهذه الجملة التي ذكرتها تحتاج إلى صفحات لبيانها ونقل أقوال العلماء فيها، ولكن أكتفي بنصوص يسيرة تدل على ما ورائها:
-قال ابن حجر: «خالد بن مخلد القطواني الكوفي أبو الهيثم، من كبار شيوخ البخاري، روى عنه، وروى عن واحد عنه!.
قال العجلي: ثقة فيه تشيع، وقال ابن سعد: كان متشيعا مفرطا، وقال صالح جزرة: ثقة إلا أنه كان متهما بالغلو في التشيع، وقال أحمد بن حنبل: له مناكير، وقال أبو داود: صدوق إلا أنه يتشيع، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
قلتُ: أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره؛ لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه، وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه وأوردها في كاملة وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري، بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة (من عادى لي وليا) الحديث» مقدمة الفتح (ص400)، والذي يقوى عندي أن رواية المبتدع مقبولة مطلقا حتى لو كان داعية.
-قال المعلمي: «أقول: في باب الإمام ينهض بالركعتين من (جامع الترمذي): (قال محمد بن إسماعيل: ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه لأنه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً) والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله (لا أروي عنه) أي بواسطة، وقوله (وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً) يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة، وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة فلأن لا يروي عنه بلا واسطة أولى، لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيراً ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة. وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقاً في الأصل فإن الكذاب لا يمكن أن يعرف صحيح حديثه. فإن قيل قد يعرف بموافقته الثقات لروى عن ابن أبي ليلى ولم يقل فيه تلك الكلمة فإن ابن ليلى عند البخاري وغيره صدوق وقد وافق عليه الثقات في كثير من أحاديثه ولكنه عند البخاري كثير الغلط بحيث لا يؤمن غلطه حتى فبما وافق عليه الثقات، وقريب منه من عرف بقبول التلقين فأنه قد يلقن من أحاديث شيوخه ما حد ثوابه ولكنه لم يسمعه منهم، وهكذا من يحدث على التوهم فأنه قد يسمع من أقرأنه عن شيوخه ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه فيرويها عنهم.
فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الرواي من شيوخه بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين إما أن يكون الراوي ثقة ثبتا فيعرف صحيح حديثه بتحديثه وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصاً بجهة كيحيى بن عبد الله بكير روى عنه البخاري وقال في (التاريخ الصغير): ما روى يحيى [بن عبد الله] بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني اتقيه
…
)) انتهى كلام المعلمي من التنكيل وهو كلام في غاية الجودة.
قلتُ: والأمر في شريك بن عبد الله بن أبي نمر أخف لأنه أوثق من خالد فلا نطيل الكلام عليه.
-النظر الثاني:
في متن الحديث فهذا المتن أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب التواضع، ومثل هذه المتون لا يتشدد فيها المحدثون بخلاف أحاديث العقائد أوالحرام والحلال، مع وجود شواهد للحديث وإن كانت ضعيفة، قال ابن رجب: «وقد روى هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال ورواه عبد الواحد بن ميمون أبو حمزة مولي عروة ابن الزبير عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من آذي لي وليا فقد استحل محاربتي وما تقرب إلى عبد بمثل أداء فرائضي وإن عبدي ليتقرب إلى بالنوافل
…
» جامع العلوم والحكم (ص358).
وأمّا غرابة لفظه فلم يتبين لي وجه ذلك بدقة، فالبخاري وغيره صححوا الحديث ويلزم من ذلك-هنا-صحة المتن، ثمّ الغرابة في هذا شيء نسبي تقوم في أذهان بعض الناس دون آخرين، فربما استغربتَ معنى ما في حديث لم يتبين لك وجهه، بينما غيرك بان له المعنى بوضوح ومن طالع كتب شروح الحديث وجد هذا جليا، فعالم يستشكل مسألة ما، والآخر يستغرب هذا الاستشكال ويبين أنه ليس مشكلاً .. وهكذا، والخطير في هذه المسألة ما وقع في هذا العصر من بعض المسلمين المنهزمين حيث ردوا بعض النصوص الثابتة لأنها لم توافق عقولهم .. ولست أدري هل هناك عقل بشري كمدلول مطلق نحتكم إليه؟! .. هناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعلان وهذه عقول متفاوتة واقعة تحت مؤثرات شتى علمية .. ومكانية .. وزمانية .. وغيرها .. ففتح هذا الباب بدون مراعاة الضوابط التي سار عليها سلفنا الصالح أئمة الحديث ونقاده أمر بالغ الخطورة، وله أثر سيء في الأمة، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد قلتُ في كتابي (إِشْكَالٌ وَجَوَابُهُ-في حَدِيثِ أُمّ حَرَام بِنْت مِلْحَان-): «إنّ كثيراً من هذه الإشكالات التي تورد على الأحاديث الصحيحة في هذا العصر إنّما هي إشكالات تعرض نتيجةً لضعفِ التسليم لله ولرسوله ?، أولقلة العلم، أولضعف الديانة، أو لنصرة مذهب وقول، وكلما بعد الزمان أثيرت شبهات وإشكالات متوهمة لم تكن عند السلف الصالح وهذا مصداق لقوله ?: (لا يَأْتِي زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)»