الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آراء في النقد واللغة
معنى النقد
بقلم الأستاذ محمد البزم
حاول كثير ممن تكلف الكتابة في النقد أن يثبت أن هناك فناً يجب أن يدعى فن النقد، فبذلوا ف ذلك كثيراً من الوقت في البحث والتنقيب عما يظفرهم بضالتهم وينتهي بهم إلى طلبتهم فعادوا وملء أيديهم الإخفاق واردانهم الخيبة: غير أنهم أبو إلا أن يضعوا في ذلك تآليف أرادوا بها حمل الناس على الاعتقاد بأنها كتب في النقد وليست هي في الواقع إلا أبحاثاً في شؤون مختلفة شاؤا أن يطلقوا عليها فن النقد. على أن من تتبع ما قاله العرب - ونحن إنما نتكلم عن النقد في لغة العرب - في لفظة النقد والانتقاد يعلم أن ليس من ضرورة لأن يكون بين العلوم ومستحدث الفنون علم أو فن يسمى فن النقد أو علمه إذ أ، هذه اللفظة قلما تستعمل غير مضافة إلى لفظة أخرى كقولك: نقد الشعر ونق الأدب ونقد اللغة وغير ذلك ما ق يعرض لمعانيه الخطأ فيه والنقص ببعض شؤونه والتقصير في جهة من جهاته فيبدو لبعض الناس خلله دون بعض ويتجلى مكان الضعف فيه لنفر دون آخرين، فليس يستطيع أن يتعرض لنقد شيء أياً كان إلا ما هو فيه حاذق بتفاصيله وجمله
وقد كان للأمة العربةي في النقد عناية كبيرة وحفاوة واهتمام لا تزيد عليها فيه أمة من الأمم. يدلنا على ذلك كثرة ما اسحدثته لها المعنى من الألفاظ المرادفة لكمة النقد. وإن كان لقائل أن يقول أن كثرة الكلمات الدالة على النقد في العربية ليست حتما أن تكون دليلاً على هذه العناية وتلك الحفاوة لأن العرب من خصائص لغتهم كثرة الترادف فقد وقفوا للمعنى الواحد من الأفعال والأسماء والحروف ما تضيق عن بعضه أد اللغات سعة وأكثرها عدد كلم، غير أن كثرة المترادف لمعنى النقد ليست مستندنا وحده بل هناك أدلة جمة تدل دلالة نيرة على أن النقد كان فطريا في العرب لما جبلوا عليه من قوة الطباع وسلامة الفطر وتوقد الخواطر وشدة الإلهام يعلم هذا ويروح منه على أشد من اليقين من كثر اختلافه إلى كتب أدب العرب وطال عهده بممارستها مع نفوذ بصر وصفاء بصيرة فأصبح وليس بالمتعذر عليه أن يجيء من الأدلة والبراهين بما لا يسع مكابراً أو منكراً ن يقوم له أو يثبت أمامه خلافاً لما اعتمده وقلد به بعض المتكلين في الأدب ول رو بذلك لأن السبب فيه
أنهم حديثو عهد بالأدب وأن للأدب العربي آفاقا لم يتح لهم الجولان في عامتها أو الانتهاء إلى غايتها والإشراف عليها جملة، وليس من شك بأن النقد في أي فن أو علم إنما هو نتيجة الثقافة فيه وإن من ينصب نفسه لانتقاد شيء تحتم عليه أن يكون ملماً به إلمام الإحاطة بكل منحى من مناحيه متغلغلاً كل التغلغل في مدابه وخوافيه فلا ينتقد في اللغة مثلاً إلا من قتلها خبرة وعلماً وقتلته ممارسة وعمراً ولا يأخذ على الشعراء شيئاً في شعرهم إلا من جرى الشعر في نفوسهم مجرى الدم في سمام أعراقهم فحذقوا من خفاياه ومداق شؤونه ما يحول بينهم وبين العسف فيه والجور والسفه على ذويه لما توفر عنده من عزة العلم وشمم المعرفة فيترفعون عن منح الألقاب هبات والنعوت فارغة أو ملأى على من لا يستحق إلا أن يسل لسان شيطانه من قفاه كيلا يجود عليه بما يبدو قرحة في وجه الشعر وخراجة في جسم الأدب.
قال ابن سلام الجمحي في مقدمة كتابهطبقات الشعراء:
وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهله كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومن ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا حس ولا صفة ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها (1) وزائفها (2) وستوقها (3) ومفرغها (4) ومنه البصر بغريب النخل والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده وتشابه لونه ومسه وذرعه حتى يضاف كل صنف منها إلى بلده الذي خرج منه وكذلك البصر بالرقيق فتوصف الجارية فيقال، ناصعة اللون، جيدة الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهود، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون بهذه الصفة بمائة دينار وبمئتي دينار وتكون بأخرى بألف دينار وأكثر لا يجد واصفها مزيداً على هذه الصفة
وقد أبى الله لهذه العامة إلا أن يكون لها سبق إلى كثير من استعمال ألفاظ لا تتعدى فيها ما أرادته العرب من معان كثيراً ما تنحرف عنها الخاصة جهلاً أو ذهولاً فلا تأبه - أي الخاصة - ولا تفطن لجهلها أو ذهولها حتى يصدع بخطاها صادع أو بشهر أمرها مشهر وذلك كثير بحيث يتعذر علينا الإتيان عليه إلا في كلمة ضخمة عسانا نرسلها متسلسلة في
هذه المجلة حتى إذا تمت أخرجت للناس كتاباً قد يكون عوناً كبيراً لكل كاتب أو شاعر من أبناء الضاد. فمن هذه الألفاظ التي يستعملها العامة بالمعنى المقصود عند العرب ويجاريهم بذلك بعض الخاصة ممن أشتد بصره في اللغة كلمة النقد فهم لا يقولون نقد فلان فلاناً إلا إذا أخذ عليه أو عاب خلة أو اهتدى إلى موطن سبة.
وهاك ما دونه أرباب المعاجم عن أفواه العرب في كلمة النقد قالوا: النقد والتنقاد تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. روى سيبويه لأحدهم يصف ناقة:
البهرج: الدرهم المضروب في غير دار الأمير
الزائف: الدرهم الرديء المردود لغش فيه. جمعه: (زيف) و (زيوف)
الستوق: على وزن تنور وقدوس: درهم زيف بهرج ملبس بالفضة وقيل هو أردأ من البهرج
المفرغ: المصبوب في قالب ليس بمضروب ضرباً.
تنفي يداها الحصي في كل هاجرة نفي الدراهم تنقاد الصياريف
وقالوا: ناقدت الرجل مناقدة إذا ناقشته في الأمر، ونقد الصبي الحوزة إن يضربها بإصبعه ونقد الرجل أرنبة انفه ضربها وفي حديث أبي الدر داء انه قال إن نقدت الناس نقدوك وان تركتهم تركوك. ويقال نقد بصره إلى الشيء ونقد بعينه الشيء ونقد بعينه الشيء إذا خالسه والنقد مخالسة النظر بحيث لايفطن له وما زال بصره ينقد إلى ذالك نقودا شبه بنظر الناقد إلى ما ينقده ومن ذالك النقد بفتحتين لنوع من الغنم قصير الأرجل ولسفلة الناس، إلى غير ذالك مما يجيء بمزيد هذه المادة
فأنت ترى في كل متقدم إن كلمة النقد أم تخرج عن العيب والإنكار إلا إلى ما يشبهه ويقاربه من إرادة الشر يبدو ذالك بينا ظاهرة لكل من رزق نصيبا من حسن النظر في هذه اللغة
هذا وان أمهرة ممن ألفوا في خصائص اللغة أدركوا هذا الذي ندعيه بلفظة النقد فلم يخلطوا المترادف منها بغيره من الألفاظ الاختبار والبحث كما فعل إبراهيم اليازجي في كتابه (نجعة الرائد) فانه فظلا عن مزجه باب النقد بالاختبار فقد أذبت كثيرا مما أورده في باب النقد في الذم، وعذره في هذا شدة التقارب بين البابين حتى انه لو جمع بينهما لكان أدنى
إلى الصواب من عمله الأول. وهذا عبد الرحمن الهمذاني يقول في كتابه (الألفاظ الكتابية) في باب المناقد:
تقصيت على الرجل وحاصصته على الأمر محاصة وناقشته وصارفته وناقدته وحاسبته. قال بعض الأدباء: محاسبة الصديق على الأمور دفاءة وترك الحقوق للضنين غباوة إلى أخر ما يرى أكثره في كتب الخصائص وجملته في كتابنا ((الجحيم) لاحتفالنا بالنقد هناك توسعا وإشباعا وسدا لنهم محبي الاطلاع على مال لعرب في النقد
وجري بنا وقد نقلنا شيئاً من مادة النقد وما يريد منها العرب في كلامهم إن الثقافة ج1 - م 11
الثقافة
نورد ما يرادفه على تقارب في المعنى واختلاف قليل في مواطن الاستعمال وفرق لا يأبه إليه إلا الكيس اللبق من أهل اللغة والكتاب والشعراء، غير ما ذكر عن عبد الرحمن الهمذاني: قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز نقرته وناقرته، عبته وغبته ورميته بناقرة ونواقر وبينها مناقرة أي مراجعة كلام ونقرت عن الخبر ونقرة عن الخبر ونقرت عنه بحثت وعبت وسهم ناقر أي صائب قال الشاعر:
رميت بلانواقر الصياب
…
أعداءكم فنالهم ذنابي
ومثل هذه رذل الشيء جعله رذيلا ضد انتقاه وارذله مثله. تقول: ارذل فلان من غنمي وأصحابي كذا عددا عابه ورده ونقاه ولم يرضه وعلى هذا فلا بد لنا من القول بأن اللغات والألفاظ كالأمم والفراد تعلو في زمن وتنحط في غيره وترتقي في إقليم وتهبط في آخر وتحالفها السعوج في قطر وتناكرها في سواه ولم يكن عصر من إعصار اللغة يخلو من أن تكون السيادة فيه لكوكبة من الألفاظ تلح على استعمالها الخاصة ويتهافت عليها السواد مجاراة وتقليداً. ومن هذه الألفاظ التي كان لها سيادة وذيوع، وترادف كلمة النقد على فرق قليل ولم تصل إليه أيدي أصحاب كتب الخصائص: التتبع.
قال في اللسان: التتبع أن تتبع في مهلة شيئاً بعد شيء وفلان يتتبع مساوئ فلان وأثره ويتتبع مداق أموره. وفي كتاب (البخلاء) للجاحظ في حديث سهل بن هارون رداً على أناس عابوا عليه قولاً لهوقد تتبعتموني في قولي كذا أي أخذتم وعبتم ولست أشك في أن
لفظة التتبع هذه كان لها من الحول والسلطان والذيوع على الألسنة، صدر الدولة العباسية حتى عجزها، ما لا يقل عن نفوذ كلمة النقد اليوم. وإن في لفظة التتبع مع جدتها وحداثة عهدنا بها من الجمال ما تطيق معها مزاحمة كلمة النقد بعد أن ألحفنا عليها ذلك الإلحاف الذي أغرى العالمة فلهجوا بها حتى أذهبوا من جدتها وأنضبوا من ماء بهائها، على أن من أعين بالصبر وأمد بسعة الجلد على طول التنقيب يجد في ثنايا اللغة مما يجري مجرى كلمة النقد والتتبع الشيء الكثير مما لم يعثر عليه مؤلفو الخصائص في اللغة.
محمد البزم