الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتابات العربية المنقوشة وفائدتها
للأستاذ المستشرق جان سوفاجه
تعريب كاظم الداغستاني
إن درس الكتابات العربية المنقَّشة هو علم حديث العهد. فلقد أ، شك القرن التاسع عشر أنن ينقضي والكتابات التي نقشت على المباني القديمة في البلاد الإسلامية لا تسترعي انتباه المستشرقين. فقد كان لديهم ما يحتم عليهم توجيه اهتمامهم لأشياء أخرى غير هذه ولذلك فلم ينشر من هذه الكتابات حتى ذلك العهد إلا بعض نصوص طبعت متفرقة مبعثرة بسائق الاستغراب وحب الإطلاع دون أن يقوم من يتصدى لجمعها وتصنيفها وشرحها تبعاً للأصول التي درست وجمعت معها الكتابات اللاتينية والإغريقية والسامية مما نقش على المباني القديمة. والمجد في درس الكتابات العربية المنقوشة يرججع للعالم السويسري (ماكس وان بيرشم) فهو أول من قدر الفائدة المتأتية عن جمع هذه المستندات القيمة. والمجموعة التي نشرها في سنة 1894 عن الكتابات العربية المنقوشة في القاهرة هي أول مؤلف من نوعه وضع صاحبه فيه أسس هذا العلم الجديد وحدد أصوله وقاعه. ثم جاء بعد (بيرشم) من أكملوا عمله ونخص بالذكر من بينهم غاستون ويت في فرنسا وموريتز سوبرهايم في ألمانيا وخليل أدهم في تركيا ولقد كان من وراء سعي هؤلاء العلماء أنه لم يبق من يشك في فائدة درس الكتابات المنقوشة التي أصبت من أعظم وسائل التتبع لمن وقفوا أنفسهم وجهودهم على درس القرون الوسطى الشرقية. ولرب قائل يقول: ما هو نوع هذه الفائدة المتوخاة من وراء هذا العلم؟
لعلنا لا ندع مجالاً لاستغراب أحد أذا قلنا أن الفائدة اللغوية المنتظرة من وراء درس الكتابات العربية المنقوشة هي تقريباً مما لا شأن له يذكر، لأن أكثر هذه الكتابات يرجع إلى عهد ازدهرت فيه آداب اللغة وحددت قواعدها الصرفية والنحوية من قبل النحاة ومتفقهي اللغة فلم يبق هنالك ما يحتاج للتمحيص والتدقيق فالفائدة اللغوية في ذلك لا يمكن أن تعادل مثلاً الفائدة اللغوية في درس الكتابات السامية المنقوشة والتي هي بقايا فذة من لغة قديمة كاملة، كاللغة التدمرية مثلا. على أن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالفائدة التاريخية في درس الكتابات العربية المنقوشة. لقد ترك الأدب العربي قبل الأعصر الحديثة
من وفرة المصادر التاريخية ملا مثيل له في الآداب الأخرى هذا لا شك فيه ولكن من يتصدى لدرس تاريخ الشرق في القرون الوسطى كثيراً ما يزعجه أن لا يجد أمامه ما يمن معه أ، يتحقق صحة المصادر الأدبية بوثائق أدلة التأييد فيا مادية تثق بها النفس. وذلك لأن بلاد الإسلام لم تحتفظ، وهذا مما يؤسف له، بتلك السجلات المخطوطة التي تعد في أوربا أساسا كل درس من دروس التاريخ الغابر، وحينما يرجع الباحث إلى ما وراء العصرين الأخيرين يجد أن الوثائق الصحيحة قد ندرت فلم يبق إلا ما تركه بعض المؤرخين من مخطوطات نسخت عن غيرها وهي غاية ما يمكن الرجوع إليه في البحث عن رسائل السلاطين ومستندات الحسابات في الدوائر القيمة وعقود الأوقاف وحججها وإلى غير ما هنالك ولكن ما مبلغ صحة هذه المصادر الوحيدة التي يمكن الرجوع إليه في التحقيق والتتبع؟ لا شك أن في نسخها شيئاً كثيراً من الاهتمام والأمانة ولكن رغم هذا فإنه لا محيد عن الشك بأنها قد تكون حرفت مع الزمن من جراء سهو وقع في نقلها أو إهمال جرى في نسخها أو تأويل حصل في ضبطها يضاف على ذلك أن عد هذه الوثائق قلقل نادر لا يفي بالغرض، وفي مثل هذه الأحوال تظهر فائدة الكتابات المنقوشة جلية واضحة وعلى الأخص إذا كانت مما أمر بكتابته ونقشه السلطان أو أحد أعاظم الرجال في الدولة فأمثال هذه الكتابات لم تكن لتنقش على جدران المباني وأبابه إلا بعد أن تنشأ وتحرر في الدواوين الرسمية وتوشح بتوقيع السلطان وتصديقه وهذا ما يجعل لها في أعيننا قيمة ثمينة فتكون كوثيقة صحيحة رسمية جديرة بأن يعتمد عليها. وكذلك على ما أيدته من روايات أحد المؤرخين التي تتفق مع ما جاء فيها. فلق تقرأ مثلا في كتاب الروضتين أن أتابك نور الدين عهد إلى وزيره أن يحرر النص الذي يجب على الخطباء أن يتلوه في مساجد مملكته عند ما يدعوه له بعد قراءة الخطبة وهذا النص كما رواه المؤرخ هو كما يأتي:
اللهم أصلح عبدك بالفقير إلى رحمتك الخاضع لهيبتك المعتصم بقوتك المجاهد في سبيلك المرابط لأعداء دنك أبا القاسم محمود بن زنكي أق سنقر ناصر أمير المؤمنين.
على أن في المسجد الذي بناه في حماه نور الدين كتابة منقوشة هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمله ابتغاء رضوان الله ورغبة في ثوابه العبد الفقير إلى رحمة الله الخاضع لهيبته المرابط لأعداء دينه أبو القاسم محمود بن زنكي بن أق سنقر
ناصر أمير المؤمنين ضاعف الله أجره وثوابه وأكرم منقلبه ومآبه في سنة تسع وخمسين وخمس مائة (1163م).
وبما أن ألقاب السلطان التي وردت في النص الأول هي تقريباً نفس الألقاب التي وردت في النص الثاني يحق لنا أن نستنتج من ذلك أن المؤرخ نقل بأمانة عبارة الدعاء التي كان يتلوها الخطباء على المنابر، وقد يقع في بعض الأحيان أن يكون النص الأب على تناقض مع الكتابات المنقوشة فإذ أخذنا مثلاً برواية المقريزي علمنا أن قلعة دمشق استولى عليها التتار في 22 جمادى الأولى سنة 658هـ (5 مارس 1260) لكننا إذا رجعنا إلى كتابة نقشت على إحدى شرفات هذه القلعة وجدنا أن في هذه الكتابة ما ينق على أن استيلاء الأعداء على القلعة كان بتاريخ 21 جمادى الآخرة (3حزيران) ولما كانت هذه الكتابة نقشت بعد جلاء المهاجمين وفي الزمن الذي شرع بترميم القلعة وإصلاح مبانيها بأمر من السلطان وتحت إشراف موظفي الدولة الذين خبروا شؤون الحادث وعرفوا يوم وقوعه فإنه من الصعب أن لا نميل لتفضيلها والأخذ بها دون غيرها من الروايات التاريخية التي ق تكون قد حرفت حينما أخذ أحد النساخ بنقلها دون أن يعيرها الاهتمام اللازم: وأن في هذين المثالين اللذين أضربهما لدليلاً على الفوائد التي تؤديها الكتابات المنقوشة في تحقيق المصادر التاريخية مقام ما فقد وضاع من السجلات المخطوطة وأن المؤرخ الصالح الحريص على نقل الحقائق ودفع الأغلاط يحتاج دائماً للمقابلة بين النصوص الأدبية والكتابات المنقوشة التي تكون أكثر نفعاً من المخطوطات في هدايته إلى التواريخ الحقة وأسماء الأعلام الصحيحة. وإذا كانت الكتابات المنقوشة تفيد في تحقيق الملومات التي نستخلصها من دراسة الأدب ونوادره فهي كثيراً ما تقوم مقامها وتغني عنها فتكون المستند الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في تمحيص قضية معينة من قضايا التاريخ.
لقد ضاعت كما ذكرنا أكثر حجج الأوقاف الخيرية وفقدت قيودها القديمة وذلك بداعي ما وقع من الحوادث أو بسبب إهمال بعض موظفي الدولة الذين لم يراعوا الأمانة في حفظها فإذا حاولنا اليوم أن نعرف حقيقة الغاية التي رمى إلها الواقف والأسس التي قامت عليها إدارة أحد الأوقاف الخيرية لغز علينا الوصول لما يدلنا عليها سوى هذا النوع من الوثائق والكتابات المنقوشة على أحجار وجدران مباني الوقف وفي الحق أن الواقفين كثيراً ما
كانوا ينقشون على الأبنية التي يحبسونها لجهة من جهات الخير خلاصة عن حجة الوقف لتقوم هذه الكتابة المنقوشة مقام الحجة المخطوطة التي كثيراً ما يخشى تلفها أو ضياعها.
ولكي ندل على الفائدة التي تنشأ عن مثل هذه الوثائق التاريخية المتينة يكفي أن نورد هنا كتابة من تلك الكتابات نقشت على جدران مسجد ساكرا كيا في طرابلس شام وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم. وقف الجناب الكريم السيفي أقطرق الحجب هذا المكان المبارك مسجداً لله تعالى وتربة للدفن ووقف على مصالحه وعمارة أثاثه وتطاويقه جميع المزرعتين المتلاصقتين من عمل حصن الأكراد وهما مرج السلطان وقميره وجميع البستانين المتلاصقين بقرية دشعين من عمل طرابلس أحدهما يعرف بمسعود والأخر بابن الأفرحي وجميع الحوانيت الأربعة المتلاصقات بالصف الشرقي من سوق الحلاويين بطرابلس وجميع الدار الملاصقة للمسجد وجميع الآدر الثلاث المتلاصقات يخان المصريين بطرابلس وجميع الحصة الشائعة وقدرها النصف والربع من جميع الدار شمالي خان المهندس بالجسر العتيق وجميع الفرن المعروف بكر خولد للمسجد المذكور وقفاً شرعياً يبدأ من ربعة بعمارته وإصلاحه ويصرف منه في كل شهر أربعون درهماً لإمام بالمسجد المذكور وخمسون درهما إلى مؤذنين بالنوبة يؤذنان بمئذنة المسجد المذكور وثلاثون درهماً إلى قيم المسجد والتربة وخمسون درهماً إلى خمسة أنفار يقرؤون بالمكان المذكور حزباً كاملاً فرادى ومجتمعين وخمسة عشر درهماً في ثمن زيت وقناديل وآلة الكنس والاستسقاء ويرف في كل يوم الاثنين من كل أسبوع ثلاثة دراهم في ثمن كسوة من قميص ولباس رفيع وغير ذلك للأيتام والأرامل والفقراء المسلمين وما فضل بعد ذلك يصرف إلى من كان فقيراً محتاجاً من أولاد الواقف وأنساله ومن عتقائه بالسوية فإن لم يكن فيهم محتاج صرف إلى الفقراء المسلمين في باب التربة وشرط الواقف النظر لنفسه ثم للأرشد من أولاده وأنساله وإلى من كان أمير حاجب كبيراً بطرابلس وشرط الواقف أن لا يؤجر وقفه بأكثر من ثلاث سنين وليصرف هذا ولا تقدر عليه مظالم ولا مكوس حسبما تضمن ذلك كتاب الوقف المؤرخ بمنتصف القعدة الحرام سنة سبع وخمسين وسبعماية (9تشرين ثاني 1356م) الثابت المحكوم به بمجلس الحكم العزيز بطرابلس المحروسة ونقش ذلك في ربيع الأول سنة ستون (شباط 1359م) وولاء لهذا المسجد من الماء بحق واجب نصف
وربع أصبع من قناة طرابلس
ومن الكتابات المنقوشة، المراسيم والقرارات التي لا يمكن العثور على ما يماثلها في الصحة بين النصوص الأدبية المخطوطة. فلقد كان من المعتاد أن يأمر السلاطين والحكام بنقض (ويمكن أن نقوم هنا بإعلان) ما يصدرونه من المراسيم والقرارات الهامة التي تتعلق بجميع أفراد الرعية وعلى الأخص ما كان ينص منها على إعفاء بعض الضرائب والإتاوات على جدران المساجد أو في أحد المعابد وذلك بعد إذاعتها على جميع أفراد الشعب بواسطة المنادين ولقد حفظت لنا الأيام من أمثال هذه المراسيم المنقوشة عدداً وافراً يعد من أصح الوثائق في التاريخ المالي والاقتصادي فهي تفيد في تحقيق وتمحيص كثير من الصكوك الإدارية التي لم يذكر عنها المؤرخون والرواة إلا أشياء تافهة أكتفوا بالإشارة إليها. وعلى سبيل المثال نورد ها نصاً لأحد هذه المقررات نقش في مسجد خالد بن الوليد في حمص وهو كمايلي:
بسم الله الرحمن الرحيم لما كان بتاريخ سنة أربع وأربعين وثمانمائة حضر جماعة من أهل حمص المحروسة شكوا للمقر السيفي بيغوت نائب السلطنة الشريفة بحمص المحروسة أعز الله أنصاره أنه قد أحدث عليهم وظالم وسألوا صدقاته لوجه الله تعالى سؤال الصدقات الشريفة في إبطال ذلك ففي الحال كتب سؤال الصدقات الشريفة في إبطال ذلك فعاد جواب وقرينه مربع شريف المرسوم العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري السيفي أعلاه الله تعالى وشرفه وأنفذ أن يبطل ما أحدث من ضحاف دلالة الحرير والصوف والتبن والخبز وشجرة الزيت بحمص المحروسة وإبطال الشهرة على الإطلاق وإن تكتب على باب السيد خالد رضي الله عنه القصة المشمولة بالخط الشريف عن أهل حمص حسب المرسوم الشريف شرفه الله تعالى وعظمه وفي ظاهره الرسم الشريف جقمق نصره الله
هذا وإن الكتابات المنقوشة هي مصدر ذو قيمة كبرى وشأن عظيم في تحقيق الألقاب التي كان يحملها السلاطين وأعاظم الرجال في الدولة والي لا يخلو درسها من فائدة. ومن المعلوم أن هذه الألقاب لم يكن يختارها أصحابها لأنفسهم بل هنالك أصول متبعة تمنح بموجبها من قبل السلطان أو الخليفة وذلك تبعاً لمرسوم يصدره صاحب الشأن، ولما كان أكثر هذه المراسيم والوثائق قد فق فلم يبق لدينا اليوم من مستند نرجع إليه في تحقيق هذه
الألقاب وتصنيفه وأصول منحها ومراتب الذين تمنح إليهم وسلطة عمال الخليفة ومواقفهم منه، إلا هذه الكتابات المنقوشة التي تدلنا بصورة موجزة، ولكن وفية وصحيحة، على الحالة الروحية وبعض صورها الاجتماعية في ذلك العصر.
إن الكتابات المنقوشة في عهد الملك الظاهر بيبرس تشير إلى أن الألقاب التي كان يلقب بها الملك هي كما جاء في العبارات الآتية:
مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين سلطن الإسلام والمسلمين قاتل الكفرة والمشركين قاهر الخوارج والمتمردين محيي العدل في العالمين ملك البحرين صاحب القبلتين خادم الحرمين الشريفين وإرث الملك سلطان العرب والعجم والترك إسكندر الزمان صاحب القران بيبرس الصالحي قسيم أمير المؤمنين
وهذه الألقاب، لا تنص فقط على الوظائف التي كانت تعد إذ ذاك من واجبات الملك (الجهاد المقدس ضد الصليبيين والذب عن حياض الإسلام وإقامة العدل) بل تستمد أيضاً أسسها من ساسة السلطان الذي أراد، بعد أن بسط حمايته في القاهرة على الخليفة العباسي الذي هزمه التتار، أن يجعل من مصر مركزاً لجميع البلاد الإسلامية.
ونهاية القول أن أبسط فائدة يمكن أن نذكرها للكتابات المنقوشة هي أنها تبين لنا بالضبط والدقة تاريخ البناء الأثري الذي نقشت عليه. فعلماء الآثار في أوربا الذين يحاولون تحديد مراحل التطور في فن البناء في القرون الوسطى لا يجدون لديهم من الوثائق بهذا الصدد ما يؤيد لهم تاريخ إنشاء البناء سوى وثائق خطية نادرة مما كتبه المؤرخون في السجلات المخطوطة أو مما رواه الرواة في ذلك العصر وهذا ما يضطرهم لأن يجددوا تاريخ البناء الأثري الذي يجعلونه موضع درسهم على وجه من التقريب يتراوح بين ربع ونصف قرن. أما في الشرق فليس من بناء أثري تقريباً لا يحتوي (أو لم يحتو) على كتابة منقوشة ينص فيها على اسم بانيه وتاريخ بنائه.
وبفضل هذه النصوص فقد أصبح لعلم الآثار وتاريخ في الشرق عدد كبير من المصادر الأساسية وهي من الدقة بمكان يمكن معه تحديد مراحل التطور في فن البناء بكل ثقة واطمئنان. هذا ولا ندري إن كان في هذه العجالة التي أوجزنا في سطورها فوائد الكتابات العربية المنقوشة ما يكفي لأن يسترعي اهتمام بعض طبقات الناس فيذكرهم بما في
الاحتفاظ بآثار الماضي العزيزة من منافع جلَّى.
دمشق في 25 آذار سنة 1933
جان سوفاجه