الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التين والزيتون
من مقال للكاتب الألماني الشهير توماس مان
تتكلم الأساطير الشرقية عن شجرتين في حديقة العالم لهما مكانة سامية في حوادث الكون يأتي ذكرهما كمثال لاختلاف والتضاد في كل شيء.
الأولى: شجرة الزيتون التي يدهن الملوك بزيارتها ليزدادوا طولاً في العمر. فهي شجرة الحياة وأخت الشمس المقدسة، رمز النور واحد نواميس العقل، أصل الرجولة والوضوح وكل ما ينبثق منها يتصف باللمعان والقوة ويدعو إلى الحزم والطمأنينة وهي التي تغدق على الأقوام السلوى والانشراح وتنقذها من الآلام والمخاوف.
والثانية: شجرة الموت تهدينا حقيقتها إلى معنى المعرفة والتمييز والشهوة. إنها أخت القمر تنتهي بنا مسالكها المتشعبة إلى سحر الليل والإنتاج وعمق الحواس وهي تمنح الألم والروح كثيراً مم لا يقدر عليه سخاء شجرة الزيتون الملوكية - المبهجة.
وهذا التضاد في حوادث الكون كما يتمثل لنا في أسطورة هاتين الشجرتين في حديقة العالم قد ظل مسيطراً في جميع الأزمنة على عقول البشرية ومشاعرها ومرافقاً لها في طموحها إلى الحقيقة وسعيها وراء الغايات السامية حتى أننا نستطيع أن نقصر تاريخ التطور الفكري على التصادم والجدال بين هذين المبدأين.
وقد جرت العادة أن نقول لبيان شدة الاختلاف بين شيئين أنهما متباينان كالليل والنهار. وهذا التعبير يرجع إلى الأساطير القديمة التي تنبئ بأن اختلاف الليل والنهار والشمس والقمر مازال منذ القدم يشغل أفكار البشر ويؤثر في عقائدهم الدينية فيتجهون إلى البحث فيه بكثير من الحب والتقى والإيمان.
إن عالم النهار والشمس هو عالم التفكير والرجولة والإبداع. إنه عالم العلم والإرادة والحرية وتحديد القواعد الأخلاقية وتقرير المثل العليا عدم الخضوع للطبيعة والأقدار شأن العقول الجبارة. فهو إذن، عالم الحركة والعمل، عالم المستقبل والحياة الاجتماعية والسياسية. والأبطال والملوك الذين تدهن جباههم بزيت شجرة الزيتون يضحون بدمائهم وحياتهم في سبيل إنقاذ الأمم من البغضاء والأحقاد ويفادون بأنفسهم وهم يسيطرون، لتحقيق حياة سعيدة للأقوام أقرب إلى العقل وأولى بالبشر. وترى الناس يمجدونهم ولكن مع
شيء من البرودة ثم لا يتركون لهم مجالا لتنفيذ أفكارهم ف الإصلاح.
ولا غرابة في ذلك. فإن نصف القلوب البشرية على الأقل لا تربطها أي صلة بهذا العالم بل تعيش في العالم الآخر الذي يتهافت الشعراء للتغني به: عالم الليل وآلهة القمر التي تنعم علينا بثمرة التي العذبة، عالم تلك الليالي الساحرة الغارقة في أنوار القمر التي يشعر جميع الخياليين بانجذاب باطني نحوها.
إن هذا ليس عالم الفكر بل عالم الروح. ليس عالم الرجولة المولدة والمبدعة بل عالم الأمومة الحاملة، الحنونة، العميقة الإحساس. ليس عالم الوجود واليقظة والانتباه بل عالم النمو في حضن اللاشعور وحرارته الغريزية. وليس السيطرة هنا للحرية بل للتقيد، ليس للفكر بل للعاطفة، ليس للعظمة والجبروت بل للخضوع والتسليم، ليس للإرادة بل للانقياد والتضحية، تلك التضحية التي لا انفصام لها عن فكرة الماضي ومحبته فإن الماضي مقدس في نظر كل من يحب التقيد بينما رجال العلم لا يعبئون إلا بالمستقبل ولهذا فإن المهم في عالم الليل ليس هو إصدار الأحكام والتصميم الأخلاقي بل المشاهدة العميقة والشعور المتأثر المتألم والتسليم الديني لقوى الطبيعة البعيدة عن كل فكر وعن كل حكم أخلاقي.
ومنذ القدم انصرفت الأمم في عقائدها الدينية إل البحث في تفضيل أحد هذين العالمين وتقرير أيهما أكثر قدسية وأعلى رتبة هل مملكة الشمس أم مملكة القمر وحسب الجواب على هذا السؤال كانت الأمم تسير في نظرتها إلى العالم وتقرير طراز حياتها وطرق تفكيرها وقد علقوا على ذل تفسير فكرة الحياة نفسها ونسبوا إلى أحد العالمين، عالم الفكر أو عالم الروح، كل قدسية، وكل قيمة للحياة.
ولا شك في أن الغرب كان منذ أيام اليونانيين، عبداً للآله (زبوس) متعلقاً بمبدأ الشمس وعالم النور والإرادة والحرية والعمل بينما الشرق الآسيوي يتصف بتقديس مبدأ القمر وعالم الأمومة والروحية السلبية. .
تعريب: كامل عياد