الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آدابنا العربية
ناحية من نواحي نقدها
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
من كتابنا المعاصرين طائفة حديثة النشأة اتخذوا لأنفسهم طريقة جديدة في الكتابة ترتكز علباً على الأدب الإفرنجي. وتحتذي مثاله في الأسلوب الإنشائي.
وأنا أرى أن هذا لا يضر آدابنا العربية بل هو اقتباس أو تطور طبيعي في لغات الأمم وآدابها فإن بعضها يقتبس من بعض أساليب كما يقتبس ألفاظاً.
لكن هؤلاء المجددين أفرطوا في انتحال أساليب الإفرنج وأكثروا الغض من أساليب كتابنا الأقدمين. إلى حد أن عطلوا - أو كادوا يعطلون قواعد اللغة العربي: فهم لا يبالون نحوها ولا صرفها ولا يتكلفون عناء مراعاة هذه القواعد في خطبهم وكتاباتهم. بل ذهبوا إلى أبعد من هذا: فزعموا أن كل كلمة عربية مجَّها ذوقهم وجب أن تموت ويخلفها من كلمات الأعاجم وتعابيرهم ما شاءوا وأحبوا.
وكنت منذ ربع قرن صنفت كتاباً سميته (الاشتقاق والتعريب) جوزت فيه ماجوزه أدباؤنا الأولون من استعمال الكلمات غير العربية في الكلام العربي وأثبت أنها لا تخل بفصاحته. ولا تنزله عن درجة بلاغته. ثم إني كدت أندم على هذا التأليف إذ بلغني أنه أصبح أداة بيد بعض المجدين فاتخذوه حجة لمذهبهم في اصطناع الكلمات الأعجمية بمقياس أوسع مما كنت قررته في كتابي المذكور.
ولا يخفى أن أدباءنا الذين كتبوا في فن البلاغة اختلفوا في بلاغة الكلام وفصاحته أمرجعها اللفظ أو المعنى؟ فبعضهم جعل استجماع شروط الحسن في اللفظ هو معظم الفصاحة وجمهورها. وقد راجت هذه الفكرة من بعد عهد الجاحظ. ونفق سوق الكلام الضروب على غرارها أيما رواج. ولاسيما في أواخر القرن الرابع للهجرة أي في عهد ابن العميد وتلميذه الصاحب بن عباد.
وبقيت طريقة هذه المدرسة اللفظية - أي التي يعنى فيها بتجويد اللفظ - سائدة في بلاد العرب وفي دواوين ملوكهم الأعاجم حتى كان خاتمة أئمتها القاضي الفاضل في أواخر القرن السادس.
ثم من بعد هذا العهد أفل نجم فن البلاغة وأظلم البيان العربي وأصبحت الكتابة فيه صناعة لفظية محضة، لا تعبر عن نفسية الكاتب ولا تميز شخصية أديب عن شخصية أديب آخر. وإنما أصبح كل من كتب تقريباً (فنوغرافاً) يحكي لنا صدى أفكار المتقدمين ويسرد علينا تعابيرهم بتغيير طفيف.
وهذا ما حمل أدباء الإفرنج على نقد آدابنا العربية بالجملة، والإزراء بكتاباتنا الأدبية من دون تفريق، حتى قالوا: أنها ألفاظ ترن وجعجعة من دون طحن مع إن بلغاء كتابنا الأقدمين إلى عهد الجاحظ ما كانوا يقيمون للألفاظ رزناً كما فعل من بعدهم: فكانوا يرون أن البلاغة هي المعاني الجميلة الخلابة التي تلبس من لبوس الألفاظ القدر الذي يناسبها، ولا يكون فضاضاً عليها. ولعل الجاحظ من أرباب هذا المذهب: فهو لا يبالي الألفاظ والتأنق فيها والتكلف بها. لك يرسلها كيفما اتفق من دون تعمل ولا تكلف. وكأن سجاحة الألفاظ في عبارة الجاحظ وخلوها من التأنق وتكلف الاستعارة والمجاز والكناية وأفانين الصناعة اللفظية أصبح أمره متعالماً مشهوراً حتى للمتقدمين من أدبائنا: فالبدي الهمذاني جعل في مقاماته هذه: أن عيسى بن هشام ورفاقه كانوا في بعض مجالس الأدب يفاضلون بين الكتاب ولاسيما الجاحظ وابن المقفع. وكان أبو الفتح السكندري (بطل مقامات البديع) مشغولاً بالتهام ما قدم إليه من الطعام حتى إذا اكتفى التفت إليهم وقال:
أين أنتم من الحديث الذي كنتم فيه؟ قال عيسى بن هشام. فأخذنا في وصف الجاحظ ولسنه. وحسن سننه في الفصاحة وسننه. فقال أبو الفتح ياقوم لكل
عمل رجال. ولك مقام مقال. ولكل دار أركان. ولكل زمان جاحظ
ولو انتقدتم لبطل ما اعتقدتم.
فكل كشر له عن ناب الأنظار. وأشم بأنف الإكبار. وضحكتُ له
لأجلب ما عنده. وقلت: أفدنا وزونا. فقال: إن الجاحظ في أحد شقي
البلاغة يقطف (1). وفي الآخر يقف والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره. ولم يزر
كلامه بشعره. فهل ترون للجاحظ شعراً رائقاً؟ قلنا لا. قال: فهلموا إلى نثره
فهو بعيد الإشارات. قليل الاستعارات. قريب العبارات. منقاد لعريان (2)
الكلام يستعمله. نفور من بديعه يهمله فقل سمعتم له لفظة مصنوعة. وكلمة غير مسموعة
(3)
؟ قلنا لا.
ثم ختم أبو الفتح كلامه بأنه هو أفضل من الجاحظ.
ولا نسمح لأنفسنا أن نقول: أن حسن الألفاظ لا شأن لها في البلاغة والفصاحة وإنما نقول: إن الإفراط في التأنق ومراعاة الصناعة اللفظية يؤدي إلى التكلف والإحالة وأن الاهتمام بانتقاء الألفاظ والحرص على حشرها في الكلام يلهى السامع عن تعقل المعاني فيضطرب فهمه. وتنقطع سلسلة تفكيره. ويقد الكلام قوة تأثيره. وإذا ضاع التأثير ضاع كل شيء.
فالمعاني طيور. تحملها أجنحة الألفاظ إلى أوكار الأذهان. فإذا لم تكن
الأجنحة خفيفة مرهفة، بل كانت كثيفة مثقلة بضروب الزينة والجمال مصنوع ثقلت الأجنحة فوقع الطائر دون الغاية. فلنجتهد إذن في أن تكون أجنحة الفاظنا كأجنحة الطيور وإلا عجزنا عن إيصال المعاني إلى الأفكار. والطيور إلى الأوكار هذا ما عابوا به آدابنا العربية بوجه عام. ويمكننا ن نشير إلى بعض ما عابوها به بوجه خاص.
ذلك أن طائفة كبيرة من أدبائنا أولعوا باستعمال مجازات وكتابات وإشارات لها معان يقبح ذكرها. وتنفر النفس من تفسيرها. ففي أواخر القرن الماضي كتب بعض كتاب العرب في جريدة (الجوائب) التي كانت تصدر في الأستانة لمحررها العلامة (أحمد فارس الشدياق) مقالاً انتقد فيه الآداب الإفرنجية وقال: إن الإفرنج ليس له ذوق في الأدبيات. وكان حامل راية الأدب في ذلك العصر (نامق كمال) أديب الترك المشهور. فرد على الكاتب العربي قوله ولمز (الأدبيات العربية) فقال: نحن لا ننكر سعة اللغة العربية ولطافتها ولا مهارة أدباء العرب وفطانتهم حتى أن آثار العرب الأدبية ترجح على مؤلفات كل لغة.
ولكن القول بأن أدباء الإفرنج مجردون عن الذوق لا يمكن التسليم به. وإن قول أدباء العرب (يفتض إبكار المعاني) و (فلان أبو عذر هذا الأمر) و (قول امرئ القيس فمثلك حبلى إلى إذا ما بكى من خلفها الخ) وقول الحماسي: وفخذان بينهما نفنف الخ وقول ابن النبيه في وصف الخمرة (عذراء واتعها الغمام أما ترى - منديل عذرتها بكف سقاة) - وغير ذلك من التعابير الشائعة في منثور أدباء العرب كل ذلك لا يمكننا إلا أن نعده منافياً للذوق الأدبي السليم.
لكن (نامق كمال) عاد فاعتذر في المقال نفسه عن وقوع هذه الهنات في آدابنا العربية
أحسن اعتذار وأشده إيجازاً فقال:
(علي أنه إذا كان في هذه الهنات الأدبية خطأ فينبغي أن نلصقه بالآداب لا بالأدبيات) كأنه يريد أن يقول: يجب أن نلصقه بآداب الشاعر لا بأدبيات اللغة. فنقول مثلاً: إن العيب في امرئ القيس وأبي نواس وعبد الله بن حجاج: فهم المسئولون عن قبح قولهم وليس المسؤول عنه (الأدبيات) العربية فهي بريئة من العيب وليست مؤولة عن عيب غيرها. ثم قال (نامق كمال): (على أن هذه التعابير القبيحة إذا كانت منافية لحسن الذوق فليست منافية لحسن الصنعة) يعني أن النفوس الفاضلة والأذواق السليمة تمج به الأقوال من جهة قبح معانيها لكنا ترتاح إليها وتعجب بها من جهة ما فيها من جمال الصنعة وابتكار المعنى وانتهاز النكتة.
وهذا كالصور يصور لك صورة بشرية عارية فتستحيي منها. وتنال من مصورها عند أول وهلة ثم لا تلبث أن تعجب بها وتثني على صدق المصور ومقدرته على محاكاة الطبيعة. ثم ختم (نامق كمال) رده على الكاتب العربي الذي قال أن الإفرنج ليس له ذوق في (الأدبيات) - بقوله:
(إن انتقاد الأدب الإفرنجي ينبغي أن يكون بدراسة أقوال أدباء الإفرنج المشهرين وتقليب النظر في ما تركوه من الآثار البديعة - لا بقراءة ما تخطه أقلام محرري الصحف في جريدة الطان والتيمس ونحوهما)
المغربي