المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علم الاجتماع وعلم وصف الجماعات - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٢

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌علم الاجتماع وعلم وصف الجماعات

‌علم الاجتماع وعلم وصف الجماعات

من جان غولميه إلى كاظم الداغستاني

عن الفرنسية

قال دور كليم في نتيجة ما استخلصه من قواعده الشهيرة التي وضعها لعلم الاجتماع، وفي قوله شيء من السيطرة ما يأتي: نعتقد أنه قد آن لعلم الاجتماع أن يتصف بصفات العلم الحقيقية لا أن يقتصر على مالقيه من النجاح الذي يلقاه كل شيء جديد في هذا العصر وعلى أثر دور كليم سار رجال المذهب الاجتماعي الفرنسي فأرادوا أن يلبسوا أبحاثهم هذه الصبغة العلمية التي تمناها شيخهم وأضع هذا العلم. فهل وفقوا؟.

هذا ما يجب البحث فيه منذ الآن بع أن أصبح مذهب دور كليم في علم الاجتماع نوعاً من الفلسفة (الرسمية)

في فرنسا وأصبح تلمذة دور كليم وأشياعه ك (ليفي برول) و (بوكله) و (موص) و (دافي) و (وفو كونه) من أعاظم الأساتذة في الجامعات الكبرى.

لقد أيدت التجارب أن كل مذهب علمي يدرس في جامعة من الجامعات يصبح وقد أصابه من الجمود ما يفقده صفات الكائن الحي. نزيد على ذلك أن هذه القضية هي ذات بال في هذه البلاد حيث علم الاجتماع يستهوي عدداً كبيراً من الشبان فيعتبرونه وكأنه أحدث ما ظهر مما أنتجته القرائح العلمية في الغرب ويضعون في قواعده وأصوله، كما أتضح لنا، من الثقة ما تدعو الحيطة لأن نحذرهم منه وننبههم إليه.

يرى دور كليم أن علم الاجتماع هو علم الحاثات الاجتماعية ولذلك فهو يعتقد أن كيان هذا العلم يقوم على تعريف الحادث الاجتماعي ومراقبته ودرسه وتفسيره ثم إثباته ولهذا الأسلوب العلمي من القواعد والتعابير ما يجعل لعلم الاجتماع (سوسيوغرافيا) صورة عليمة ويخيل إلينا أنه ليس هنالك من العلم إلا صورته الظاهرية. ونستطيع القول أن دور كليم أسس مذهبه على معنى واحد لكلمة لها معان مختلفة فاتخذ العلم بمعنى المعرفة فقال علم الاجتماع هو علم الحادث الاجتماعي وذلك على مثال قولهم: علم ما وراء الطبيعة هو العلم الإلهي أي معرفة الله، ولقد عدا بعد ذلك هذا التعريف الذي وضعوه لعلم الاجتماع لاستنباط الفكرة العلمية من معرفة الحادث الاجتماعي وهذا أدى أيضاً إلى وضع أصول وقاعد

ص: 30

اجتماعية وتأسيس مذهب خاص في علم الاجتماع. ولكن أين العلم الصحيح من ذلك؟

إن مذهب دور كليم الاجتماعي يقوم على أسس مجردة من التصور والتصديق وأهمها العامل الاجتماعي الذي لا مندوحة عن الخضوع لمشيئته وغير ذلك من الأصول ذات النتائج الخطرة كالتدرج في الحياة من المتجانس إلى المتباين وقاعدة التحريم (تابو) ونظرية العقلية الولية لواضعها ليفي برول وغيرها من الأصول والنظريات التي لا نرى محلاً هنا لذكرها وتعداها. وقليل من التفكير العلمي يكفي لكي يتأكد الباحث أن ليس في ذلك كله إلا فرضيات، على أن للفرضيات العلمية أصولاً لا تجعلها أبداً في قواعد المذهب الاجتماعي الفرنسي (ولعل القارئ يستغرب الأمر إذ نبهناه إل الأصل اليهودي الذي يمت إليه دور كليم وليي بورل وموص فيجد معنا في هذا المذهب أثراً ظاهراً لفكرة قضاء ما وراء الطبيعة المحتم التي جرى عليها مفكرو بني إسرائيل فكانوا في تفكيرهم كهنة وأنبياء أكثر منهم فلاسفة) وكيفما كان المر فإن علم الاجتماع (سوسيولوجيا) جدير بأن يسمى: العلم الوليد الذي ليس فيه فرضيات علمية. وبعبارة أخرى قد تكن شديدة اللهجة: هو علم أسس على التصديق لا على الواقع وجريا على هذا الأسلوب في تصديق الأشياء دون البحث عن حقيقتها فق ألفت مؤلفات ضخمة لعلم الاجتماع ككتاب فوكونه عن التبعة وتاب دافي عن الحلف وكتب دور كليم في الانتحار وفي زواج المحارم ومع ذلك فإننا لا نريد أن نشك بأن النظريات قد سبقت هذه المؤلفات بل نميل إلى الظن بأن المؤلفين قد استنبطوا آراءهم مما وضعوه ودرسوه ولولا ذلك لما كان لهذه الكتب من الصفات ما يدعو الباحث المتتبع إلى الحذر منها والاشتباه بصحتها. . والخلاصة أنه ليس من الظلم في شيء إذا قلنا بأن دور كليم يمثل لنا في علمه إذا استعنا بتعبير أوغوست كونت - مرحلة ماوراء الطبيعة وقد مثل روسو من قبل المرحلة الدينية لا العلم وها نحن أولاً نصل اليوم إلى المرحلة الثالثة من تطور علم الاجتماع التي هي مرحلة العلم الصحيح.

إننا نفضل على تعبير علم الاجتماع الذي لا يخلو من إدعاء تعبير (سوسيو غرافيا) أي علم وصف الجماعات وهو علم له محسنات كثيرة من أهمها أنه واضح وذو أصول مستقلة في حدود معينة وهو لا يطمح إلى تعميم شامل يتطلب مواد كثيرة من الحادثات الاجتماعية تلك الحادثات التي لم يعرف حقيقة أكثرها بع ونقول ذلك إننا نعتقد أن أمثال هذه المؤلفات التي

ص: 31

ذكرناها لا تصح مستنداً لما يطمح إله علم الاجتماع من بسط الأحكام وتعميمها ونضرب على ذلك بعض الأمثلة: لقد نشر الأستاذ بوكله منذ عهد قريب كتاباً عن نظام الطبقات الاجتماعية في الهند ولقد يظن القارئ أن المؤلف قضى قبل أن يتعرض لها البحث بضع سنوات في بلاد الهند باحثاً متتبعاً فدرس اللغات الهندية واختلط بأبناء الهند فعرف عاداتهم وأخلاقهم وأختبر أفكارهم وآراءهم في الحياة. ولكن ليس هنالك شيء من هذا. وكذلك دور كليم فقد وضع مؤلفه الشهير عن أصول الطوطمية في أستراليا فأستمد جميع مواد بحثه من أشخاص آخرين شاهدوها بأنفسهم أو نقلوها هم أيضاً عن غيرهم وقد أعتمد في أكثر ما وصفه من الحادثات الاجتماعية على تقارير من جهلوا لغة وعادات البلاد التي مروا بها في طريقهم وعاداتهم أ، على ما كتبه المبشرون الذين يشوهون بقصد أو بدون قصد ما يلحظونه من ظاهر الفكر دون أن يتعمقوا في درسه وتفهمه. وهكذا أيضاً فإن ليفي برول ألف كتابه عن العقلية الأولية في القبائل الهمجية دون أن يرى هو نفسه في كل حياته واحداً من أفراد تلك القبائل يعيش في البيئة التي وصفها وتكلم عنها.

إن ذلك أشبه شيء بحكم يصدره أحد نقدة الفنون في تقدير صورة من عمل الرسام رفائيل مكتفياً بالنظر لرسم فوتوغرافي بسيط نقل عن الصورة الأصلية أو بحكم طبيب أستن ف تشخيص المرض على ما وصفه له أحد الجهلاء من حالة المريض الذي لم يعده قط. فإذا لم يقم عدد وافر من العلماء والباحثين ينصرفون لوصف دقائق الحادثات الاجتماعية في الجماعات ويدرسونها بأنفسهم فيصفونها كماهي لا كما يجب أن تكون فإن كل تعميم بهذا الشأن يكون عبثاً لا ترجى من ورائه فائدة علمية. وعلى وصف هذه النواحي المختلفة في الأوضاع الاجتماعية يجب أن تقوم دعائم (السوسيوغرافيا) علم وصف الجماعات على أن يترك التعميم بسط الأحكام لمن يجيء في الآتي من العلماء الذين يستفيدون مما تقدم بإضافته إلى ما وصفه الآخرون في الجماعات الأخرى التي درسوا وعرفوها بأنفسهم. فعلم الكيمياء لم يكن ليستحق لقب العلم قبل أن ينبذ نظرية الإحراق الموهومة التي كانت إحدى مراحل تطوره قبل ظهور العالم لافوازيه ولعل هذه المرحلة هي نفسها التي يجتازها اليوم علم الاجتماع بانتظار من يؤدي له الخدمات التي أداها لافوازيه إلى علم الكيمياء.

ومن الغرائب المدهشة أن أصحاب المذهب الاجتماعي الفرنسي استطاعوا أن يتركوا مجالاً

ص: 32

للبحث في الصلات القائمة بين علم الاجتماع والأخلاق بداعي أنه يمكن الاستعاضة عن الأخلاق بعلم الاجتماع وقد أرادوا بذلك أن يؤسسوا أخلاقا مستنبطة من العلم ولكن أليس في ذلك ما يؤيد أن علم الاجتماع في وضعه هو كالأخلاق على أن الأخلاق لا يمكن أن تتصف بصفة العلم بمعناها الوضعي المعروف يزاد على ذلك ما ينشأ من الخطر من جراء وصفها بهذه الصفة وسترها بها الستار العلمي الموهوم.

أما في علم وصف الجماعات فليس هنالك ما يدعو لهذا المحاذير ولهذا الخلط بين شيئين مختلفين فالباحثون يكتفون بوصف الأوضاع الاجتماعية من الوجهة الفكرية والمادية دون أن يحتاجوا للاستعانة بما يسميه دور كليم في قواعده الاجتماعية (التصرف تقديم الأدلة) وبذلك يصفون الحادثات الاجتماعية كما هي دون أن يجعلوا منها أدلة وحججاً ليسخروها في تأييد نظرية من النظريات الموضوعة. فعلى هذا الأساس الذي يأبى أن يستعجل الشيء قبل أوانه يجب أن يبنى العلم الاجتماعي وبهذه الشروط وحدها يمكنه أن يكون علماً خصباً يبحث في أوضاع الإنسان بحثاً دقيقاً تستطيع الإنسانية أن تستفيد منه في الآتي فوائد كبرى.

دمشق في 28 آذار سنة 933

جان غولميه

ص: 33