الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالصواب هو المشهور: أنها سميت جمارًا باسم الحصى، فإن الحصى يقال لها: جمار، وقيل غير ذلك من وجوه الاشتقاق، والمقصود بيان أن ما ذكره المعلِّم لا وجه له.
وأما
الأمارة الرابعة:
فقد اختلف في أبي رِغال، كما تراه في "معجم البلدان"
(1)
. وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن قيس بن سعد بن عبادة
…
فذكر الحديث، وفيه: "فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
…
ولا تكن كأبي رغال. فقال سعد: وما أبو رغال؟ قال: مصدق بعثه صالح
…
" فذكر القصة، وفيها قتل أبي رغال.
قال: "فأتى صاحب الغنم صالحًا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره، فقال صالح: اللهم العن أبا رغال
…
".
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. فتعقبه الذهبي قال: عاصم لم يدرك قيسًا
(2)
.
قال عبد الرحمن: هذا التعقب مبني على قول خليفة بن خياط وغيره: إن قيسًا توفي آخر خلافة معاوية. وليس بمتفق عليه، فقد قال ابن حبان: إنه بقي إلى خلافة عبد الملك، وعلى هذا فسماع عاصم منه ممكن، لكن صحح الحافظ في "الإصابة" القول الأول
(3)
. والله أعلم.
[ص 77] وعلى كل حال فهذا الحديث أحسن ما في الباب. وأكثر
(1)
(4/ 263 - 264). [المؤلف].
(2)
المستدرك (1/ 398). [المؤلف]. (1450).
(3)
راجع الإصابة رقم (7177). [المؤلف].
الحكايات في شأن أبي رِغال تدلُّ أنه قديم، وأشعارهم تدلّ على ذلك، وبعضها في "المعجم".
وعلى هذا، فلم يُرجَم قبرُه لأنه حُصِبَ في حياته، وإنما رُجِمَ إشارةً إلى لعنه، فإن اللعن ــ كما قال الراغب ــ هو:"الطرد والإبعاد على سبيل السخط"
(1)
. ويكنى عن اللعن بالرجم، كأنه مأخوذ من طرد الكلب، فإنه يكون في الغالب برجمه.
قال الراغب: "والشيطان الرجيم: المطرود عن الخيرات، وعن منازل الملأ الأعلى"
(2)
. فرجم القبر إشارة إلى لعن صاحبه. إذ كأنه رجم له، ولهذا حسن قول جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه
…
كما ترمون قبر أبي رغال
(3)
لم يرد بقوله: "فارجموه" ارجموا جسده، كما لا يخفى، وإنما أصل المعنى: فارجموا قبره، لكن حسن المجاز هنا، لما كان رجم القبر إنما هو إشارة إلى لعن صاحبه.
فتطبيق الجمار على هذا أن يقال: إنه هلك في مواضعها، أو رئي عندها من يستحق اللعن والسخط. والأول قد رده المعلِّم رحمه الله بحق، إذ قال:"إن الإسلام ترفع عن رجم القبور"، فتعين الثاني. ولا يمكن أن يكون من
(1)
مفردات الراغب (ل ع ن). [المؤلف].
(2)
أيضًا (رج م). [المؤلف].
(3)
سيرة ابن هشام. [المؤلف]. لم يرد في سيرة ابن هشام، وهو في معجم البلدان ط بيروت (3/ 53). وانظر ديوانه:(547).
أصحاب الفيل، وإلا لزم أن ترجم طريقهم كلها من اليمن إلى حيث بلغوا. فتعين أنه الشيطان كما جاءت به الروايات، واشتهر بين أهل العلم وغيرهم. وهو أحقّ بالرجم، لأن الله تبارك وتعالى سماه رجيمًا.
وذكر المعلِّم رحمه الله تعالى أربعة أوجه أخرى، يبين بها أن مناسبة رمي الجمار لرمي أصحاب الفيل أظهر من مناسبتها لرمي الشيطان
(1)
.
الأول: قال: "من الثابت المتفق عليه أن النحر تذكار لسنة قربان إبراهيم بابنه، فلو كان أصل الرمي ــ كما زعموا ــ رمي الشيطان لكان النحر في اليوم الثالث أو الرابع
…
فلماذا يرجم الشيطان في اليوم الثاني والثالث، وقد طرده [ص 78] إبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وقرب ابنه، واستراح من مكره؟
وأما أصحاب الفيل، فلما رموا أول يوم وأصيبوا وحبسوا عن التقدم، رجع الحجاج إلى رحالهم ومواقفهم بمنى، وشكروا الله ونحروا وكبروا. ثم لما لم ييأس أبرهة كل اليأس، وتشجع وأراد الخروج إلى مكة في اليوم الثاني، رمى الحجاج جيشه مرة أخرى، وهكذا في اليوم الثالث".
الثاني: قال: "في اليوم الأول من أيام الرمي لا ترمى إلا الجمرة التي تلي العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكة، ولا يتعرض في هذا اليوم للجمرتين الدنيا والوسطى. وهذا أحسن مطابقة بحال تقدم أصحاب الفيل إلى مكة في اليوم الأول، فإنهم لما أصيبوا في ذلك اليوم دخلهم الفشل، وتشجعت العرب، فمنعوهم وراء المقام الأول".
الثالث: قال: "الجمرة التي ترمى في اليوم الأول هي أكبرهن. وهذا
(1)
تفسير سورة الفيل (37 - 38).
أحسن مطابقة بحال الجيش، فإنهم لما أصيبوا وضعفوا قل عدد المتقدمين منهم، وأما الشيطان فهو الذي تراءى لإبراهيم في اليوم الأول، فبعيد أن يكون علامته متفاوتة في الحجم".
الرابع: قال: "بعد الرمي في اليوم الأول والثاني استقبال إلى الكعبة، ووقوف ودعاء طويل، ولا وقوف بعد الرمي في اليوم الثالث، فلو كان الرمي على الشيطان لم يكن هذا الاهتمام بالدعاء في اليومين، وتركه في الثالث. فإنَّ إبراهيم عليه السلام قد كان صمم العزم
…
وأما
…
جيش أبرهة فإنه كان جيشًا عظيمًا
…
فالتضرع إلى الله تعالى، وطلب النصر منه على [ص 79] هذا الجيش أقرب إلى المعقول
…
".
قال عبد الرحمن: ينبغي أن تستحضر أن الجمار ثلاث: الدنيا إلى مكة ــ ويقال لها: جمرة العقبة، والجمرة الكبرى ــ ثم الوسطى، ثم القصوى، وهي أقربهن إلى جهة المزدلفة.
والمشروع ــ كما في كتب السنة وكتب الفقه وكتب المناسك ــ أن يقدم الحاج من مزدلفة يوم النحر فيرمي الجمرة الدنيا إلى مكة بعد طلوع الشمس، ولا يقف عندها للدعاء، ثم يرجع إلى داخل منى فينحر، ويحلق. فيحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب فيطوف بالبيت فيحل له النساء أيضًا، ثم يرجع فيبيت بمنى. فإذا أصبح أول أيام منى وزالت الشمس ذهب فرمى الجمرة القصوى، ويقف ويدعو، ثم الوسطى فكذلك، ثم الدنيا إلى مكة، ولا يقف للدعاء. ثم كذلك في اليوم الثاني في أيام منى، ثم الثالث إن لم يكن نفر في الثاني.
فقول المعلِّم رحمه الله: "ولا وقوف بعد الرمي في اليوم الثالث" وهم،
انتقل ذهنه من الجمرات إلى الأيام!
ودونك الآن الجواب:
أما الوجه الأول: فهو مبني على أن الرواية تقول: إن تعرض الشيطان لإبراهيم عليه السلام إنما كان ليصده عن ذبح ابنه. والروايات الجيدة لا تقول ذلك، بل المفهوم منها أن تعرضه له كان ليدخل عليه الخلل في تعلم المناسك، كما تقدم. فرواية سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس لا ذكر فيها لقصة الذبح، وكذلك رواية أبي داود الطيالسي عن حماد عن أبي عاصم عن أبي الطفيل عن ابن عباس، ورواية أبي حمزة عن عطاء بن السائب [ص 80] عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وذكرت في الرواية الأخرى عن حماد عن أبي عاصم عن أبي الطفيل، ولكن ليس فيها أن تعرض الشيطان كان ليصد عن الذبح، فإنه ذكر فيها قصة الذبح بعد ذكر الجمرة الوسطى، ثم ذكر تعرض الشيطان بعد ذلك عند الجمرة القصوى، ولفظه في قصة الذبح يصلح أن تكون جملة معترضة، كما قدمته عند ذكر الروايات، ويؤيده عدم ذكر القصة في الروايات الأخرى.
وذكرت أيضًا في رواية حماد عن عطاء بن السائب، وإنما ذكرت فيها بعد ذكر الجمرات الثلاث، ومع ذلك فلفظهما صالح لأن تكون قصة أخرى غير مرتبطة برمي الجمرات، وهو الواقع كما تقدم. هذا، مع ما في رواية عطاء من الضعف لاختلاطه. فقد اتضح أن الروايات المصححة تفيد أن تعرض الشيطان لإبراهيم عليه السلام عند الجمرات إنما كان ليدخل عليه خللًا في تعلم المناسك.
هذا، والروايات المصححة تفيد أن تعرض الشيطان ورمي إبراهيم عليه السلام له كان وإبراهيم خارج من مكة ذاهب إلى عرفة، وليس ذلك وقت رمي الجمرات المشروع. فالظاهر أن رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان لم يكن لأن الرمي من المناسك، ولكنه بعد أن أفاض من عرفة أمره الله عز وجل أن يرمي تلك المواضع التي تراءى له الشيطان فيها أولًا تذكارًا لنعمة الله عز وجل عليه بتسليطه على الشيطان، وإعاذته منه. وصار ذلك من المناسك شكرًا لذلك، وتعليمًا للناس أنه إذا وسوس لهم الشيطان في طريقهم إلى ربهم عز وجل زجروه، وأخسؤوه، وطردوه، واستعانوا الله تعالى عليه؛ ووعدًا لهم بأنهم إذا فعلوا [ص 81] ذلك أعاذهم الله تعالى.
فإن قلت: فعلى ما ذكرته يكون المشروع من رمي الجمار غير موافق رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان، وهو مخالف له من جهات:
الأولى: أنه على قولك، يكون رميه للشيطان يوم التروية.
الثانية: أنه رماه أولًا عند جمرة العقبة ثم الوسطى ثم القصوى.
الثالثة: أنه كان ذلك مرة واحدة، لم يتكرر الرمي عند كل جمرة في يومين، أو ثلاثة.
الرابعة: أنه لم يتكرر عند جمرة العقبة مع أنها في المشروع فضلت برمي يوم، فلا أعجب منك، فررت من وجهين، فوقعت في وجوه!
قلت: إنك إذا تدبرت علمت أن المقصود في شرع رمي الجمار في الادكار والاعتبار، على ما تقدم، لا يتوقف على مشابهة رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان من كل وجه.
وإذا لم يكن كذلك، فأي غرابة في أن تتصرف الحكمة فيما اقترن بالرمي من وقت وكيفية وغير ذلك؟ فشَرَطَ الشارعُ ما تقتضي المصلحة اشتراطه، وغَيَّر ما اقتضت الحكمة تغييره، واستحبَّ ما تقتضي الحكمة استحبابه، ووكل ما عدا ذلك إلى اختيار المكلف.
وهذا الرمل، سببُ شرعه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اعتمر هو وأصحابه عمرة القضية أحب أن يري المشركين قوة في أصحابه، فأمرهم بالرمل. ثم كان ذلك مبدأ لشرع الرمل في الحج والعمرة في أي وقت كانت، ولم يقتصر على مثل تلك الأيام التي كانت فيها عمرة القضية.
وهكذا مبدأ السعي بين الصفا والمروة، وهو تردد أم إسماعيل بينهما، فإن الله تعالى شرع لنا السعي في الحج والعمرة، ولم يقيده بمثل ذلك اليوم الذي سعت فيه أم إسماعيل.
ورأي المعلِّم لا يتخلص من مثل هذه المخالفات، وإن جهد [ص 82] نفسه. فإنه ليس من المعقول، إن كان وقع رمي من العرب لأصحاب الفيل، أن يكون أول يوم وقع في موضع جمرة العقبة، لم يتعدها من جهة من الجهات الأربع، ثم وقع كذلك في أول أيام منى بعد الزوال، ولم يتعدها الرمي أيضًا، ثم وقع عقب ذلك عند الجمرة الوسطى ولم يتعدها، ثم عند الجمرة القصوى ولم يتعدها، ثم تلا ذلك اليوم الثاني من أيام منى، فاتفق أن كان الرمي على ما كان في اليوم الأول لم يتغير، ثم كذلك في اليوم الثالث، ثم اتفق أن كان كل يوم عند كل جمرة بسبع حصيات من كل شخص، إلى غير ذلك مما أرى التشاغل بذكره ضربًا من العبث لوضوح الأمر.
فمن الحكمة في تأخير الرمي عن يوم التروية أن لا يحتاج من يأتي من جهة عرفة أن يتعب أولًا إلى منى للرمي، ثم يرجع إلى عرفة، ثم إلى منى.
ومنها: أن يكون الحاج قد أقام البرهان من نفسه على صحة عزمه، وحسن استعداده لطرد الشيطان فيما يعرض له فيه. وإقامته البرهان إنما هي بتحمله مشاق السفر، وحفظ حرمة الإحرام مدة تستدعي مثلها المشقة غالبًا، وغير ذلك.
ولهذا شرع للحاج إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر أن يدع التلبية، ويأخذ في التكبير، وأن يشرع في التحلل، ولم يبق عليه إلا الحلق وهو نفسه من الاستمتاع. فكأن الله تبارك وتعالى يقول: إن العبد إذا فعل ما أمر به إلى يوم النحر، ثم عاهد الله عز وجل عند الجمرة برميها، إذ الرمي ــ كما تقدم ــ طرد للشيطان، وإبعاد له، وتأكيد للعزم على زجره وطرده وإبعاده في كل ما يعرض فيه للرامي حتى يلقى الله = إذا فعل ذلك فقد صدق في إجابة داعي الله عز وجل، ولم تبق حاجة للتلبية، فليشرع في التكبير، [ص 83] إذ هو شعار تعظيم الله عز وجل عند استحضار الحضور بين يديه، كما في الصلاة. ولذلك لم تبق حاجة لاختباره وترويضه بمحرمات الإحرام، فقد آن أن يؤذن له في التحلل. وأكد ذلك أنه الآن معدود ضيفًا لربه عز وجل، وحق الضيف أن لا يضيَّق عليه.
وأما عكس الترتيب، فمن المناسبة له أن رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان كان وهو مصعد إلى عرفة، فلما اقتضت الحكمة تأخير رمي الجمار إلى العود من عرفة ناسب عكس الترتيب. وأشير إلى أصل ترتيب رمي الشيطان بالاقتصار يوم النحر على جمرة العقبة، كما يأتي.
وأما التكرير، فمن الحكمة فيه أن رمي إبراهيم عليه السلام كان للشيطان وهو يشاهده، فكان المعنى المقصود ــ وهو مجانبته وطرده وإبعاده ــ واضحًا. ورمي الجمار ليس كذلك، فإن كثيرًا من الناس يرمي، ولا يدري لماذا يرمي، فكان ذلك داعيًا إلى تكرير رمي الجمار، ليظهر بذلك نحو ما ظهر من إبراهيم عليه السلام من صدق العزم على طرد الشيطان ومجانبته.
أما من عرف المعنى فإنه يستحضره كلما رمى، فيتقوى استحضاره في نفسه، ويرجى أن يثبت فيها، فينتفع به إلى قابل على الأقل.
وأما من لم يعرف المعنى فيكفيه خضوعه لأمرٍ ظاهره العبث، إيمانًا منه بربِّه، وتصديقًا لنبيِّه، وإذا تكرر الرمي قوي هذا المعنى.
وأنت خبير أن الإنسان لو حجَّ ألف حَجَّة لكان عليه في كل منها أن يرمي، مع أن الرمي الذي كان المبدأ ــ وهو رمي الشيطان ــ لم يكن إلا في سنة واحدة. وكذلك رمي أصحاب الفيل على رأي المعلم، لو صح. فإذا لم يبعد التكرار بتكرار السنين، فنحوه التكرار في عدة أيام.
[ص 84] وكما أن إبراهيم عليه السلام لو حج سنة أخرى بعد حجته التي رمى فيها الجمرات لكان عليه أن يرمي الجمرات، وإن لم ير الشيطان. فكذلك لا مانع أن يكون الأمر على ما قدمته: أنه رمى الشيطان مصعدًا إلى عرفة، ثم شرع له الرمي عند عوده منها.
وأما الاقتصار يوم النحر على رمي جمرة العقبة، وتقديم وقته، فمن الحكمة فيه ــ والله أعلم ــ التخفيف عن الحاج، فإنه متأذٍّ بطول الإحرام، وعليه في هذا اليوم أعمال كثيرة، سوى الرمي، كالنحر والحلق والتنظف وصلاة العيد وطواف الإفاضة، وغير ذلك. فلو كُلِّف بأن ينتظر حتى تزول