الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 90]
القسم الثاني
تفسير السورة
وفيه: مقدمة وبابان
المقدمة
قال المعلِّم رحمه الله: "عمود السورة، وربطها بالتي قبلها والتي بعدها
…
"
(1)
.
قال عبد الرحمن: لا حاجة إلى سياق عبارته، بل أذكر ما عندي، وأنبه على ما يخالفها
(2)
من كلامه، وأبين ما فيه.
قرّع الله عز وجل في سورة التكاثر عباده بأنه ألهاهم التكاثر في الأعداد والأموال والأولاد والعزة والجاه وغير ذلك من الأغراض الدنيوية عن الآخرة، وأكد إنذارهم بالآخرة وعذابها.
ثم دعاهم في سورة العصر إلى تدبر ما مضى في العصور من أحوال الأمم كعاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم، فإنها واضحة الدلالة على أن الناس كلهم خاسرون، إلا من لم يلهه التكاثر عن الآخرة؛ وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
ثم أعلن في سورة الهمزة بهلاك كل من ألهاه مكاثرة الناس في الفخر والمال، واستعان على الأول بكثرة الهمز واللمز للناس، لينقصوا في العيون، ويكثر هو؛ وعلى الثاني بجمع المال وتعديده، ألهاه ذلك عن الآخرة، حتى كأنه يحسب أنَّ ماله مُخْلِدُه ولا بد. فزجر الله عز وجل من كان كذلك، وتوعده بالعذاب الشديد في الآخرة.
(1)
تفسير سورة الفيل (6).
(2)
كذا في الأصل.
والكلام في هذه السور الثلاث كلُّه على العموم، وفي سورة الهمزة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ
…
} ولا أصرح في العموم من كلمة "كل". ولا ينافي ذلك ما روي أنها نزلت في أبي بن خلف، [ص 91] أو أخيه أمية، أو جميل بن عامر، أو الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل، وغير ذلك؛ فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وقد ساق ابن جرير بعض تلك الأقوال، ثم روى عن مجاهد أنه قال:"ليست بخاصة لأحد". ثم قال ابن جرير: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عمّ بالقول كلَّ همزة لمزة، كلَّ من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها سبيله، كائنًا من كان من الناس"
(1)
.
ثم ذكر الله تعالى في سورة الفيل يومًا من أيامه التي تقدمت الإشارة إليها في سورة العصر، كأنه قال: هب أيها الإنسان أنك لم تسمع، أو لم توقن بأيام ربك في عاد وثمود وغيرهم مما تقادم عهده، فهذا يوم قريب، قد علمه كل أحد، وهو واقعة أصحاب الفيل. ألم تعلم كيف فعل ربك بهم؟ أوَلا يردّك عن الاغترار بما تُكاثِر به أنه لم يُغْنِ عنهم كثرةُ عَددهم، وعُددهم، وشدةُ كيدهم؟ أوَلا تخاف أن يعذبك ربك بذنبك، كما عذبهم بذنبهم؟
والخطاب يتناول أهل مكة عمومًا كما هو ظاهر، وخصوصًا لوجوه:
الأول: لأنهم أول من تليت عليه السورة.
الثاني: أن الواقعة كانت أمام أعينهم.
(1)
تفسير ابن جرير (30/ 162)، والعبارة كما ترى، ولكن المعنى ظاهر. [المؤلف]. صواب العبارة كما في ط التركي (24/ 620): "كلُّ من كان بالصفة
…
سبيلُه سبيلُه".
الثالث: أن ذنبهم أشبه بذنب أصحاب الفيل، وأشد منه. فإن ذنب أصحاب الفيل هو أنهم عمدوا لهدم البيت الحرام انتهاكًا لحرمته، وصدًّا عن عبادة الله فيه. ومن ذنب أهل مكة: انتهاك حرمة البيت بما نجسوه به من رجس الأوثان التي نصبوها في جوفه، وعلى ظهره، وحواليه؛ [ص 92] وأشركوا بالله فيه، وسعوا في خرابه بمنع أن يعبد الله فيه.
ففي "الصحيح" من حديث أبي هريرة قال: "قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم! فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأعفّرنَّ وجهه في التراب! قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه .. "
(1)
.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم مرة يصلي عند البيت، فجاء بعضهم، فألقى ثوبًا في عنقه، وخنقه به خنقًا شديدًا. وكان مرة أخرى يصلي، فلما سجد جاؤوا بِسَلَا جَزور، فألقَوه على ظهره
(2)
. وكذبوا الرسول الذي دعاهم إلى الحنيفية دين إبراهيم الذي بنى البيت وأمرهم بتطهير البيت واحترامه، إلى غير ذلك مما كان منهم.
الرابع: أن في واقعة الفيل منة لربهم عز وجل عليهم، نالتهم بسبب هذا البيت. صرف الله عز وجل أصحاب الفيل أن يدخلوا مكة، ويهدموا البيت،
(1)
صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب قوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} . [المؤلف]. (2797).
(2)
راجع صحيح البخاري، كتاب الفضائل، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم
…
إلخ. [المؤلف]. (3854).
فكان لقريش بذلك شرف وفخر.
قال ابن إسحاق: "فلما ردَّ اللهُ الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشًا، وقالوا: [هم] أهل الله، قاتل الله عنهم، وكفاهم مؤنة عدوهم"
(1)
.
وكان من تمام النعمة أن الله تبارك وتعالى لم يحوجهم إلى قتال، بل ثبطهم عنه، لئلا تنتقض [ص 93] مؤالفتهم لليمن والحبشة، فتنقطع تجارتهم. بل لا بد أن يكون بعد ذلك إعظام وإجلال لهم من ملوك الحبشة في الحبشة واليمن، فكان ذلك زيادة في تسهيل تجارتهم.
ولهذا ــ والله أعلم ــ عقب الله هذه السورة بسورة قريش، فامتنَّ عليهم فيها بما يسَّره لهم من الإيلاف لرحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والحبشة وغيرها {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .
فقد اتضح بما قدمناه أن عمود السورة هو تهديد العصاة الذين ألهاهم التكاثر عن الآخرة، ولم يعتبروا بأيام الله تعالى في العصور، فلم يؤمنوا، بل تشاغلوا بهمز الناس ولمزهم، وجمع المال وتعديده؛ وخاصة أهل مكة الذين كان ذنبهم شبيهًا بذنب أصحاب الفيل، وأشد منه كما مرَّ. واتصل بهذا التهديد الامتنان على أهل مكة كما علمت. فبالتهديد ارتبطت السورة بما قبلها، وبالامتنان ارتبطت بما بعدها.
(1)
سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (1/ 57) وما بين الحاصرتين منها.
فهذا الذي قررته هو الذي يتبين به حسن الانتظام، وقوة ارتباط الكلام. وهذا هو المقصود الأعظم للمعلم رحمه الله حتى سمى تفسيره:"نظام القرآن".
ولكنه رحمه الله ضحى بهذا المقصد في سبيل نفي الرمي عن الطير، فتعسف وتردد، فإنه ذكر أولًا فصلًا يقرر به أن الخطاب في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ} ليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. [ص 94] قال فيه
(1)
: "فهؤلاء المشركون أولى بأن ينبهوا على ما غفلوا عنه، كأنه قيل لهم: هلّا تعبد رب هذا البيت، وتوكل عليه، وتدع الشرك، فإنّه هو الذي نصرك
…
فإن صرف [هذا]
(2)
الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بد أن يراد به تسليته من الله تعالى، وأنه كما هزم جنود أعداء هذا البيت، فكذلك سيهزم هؤلاء المشركين
…
فهذا المحمل، وإن صحّ خطابًا بالنبي (؟ ) صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا قرأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم [عليهم] صار حجة لهم، فإنهم حينئذٍ يقولون: نحن أولى بنصر الله، فإنا ولاة بيته
…
فلا يحسن تأويل السورة إلى تهديدهم، وإنما يحسن تأويلها إلى تحريضهم على التوحيد بشكر النعمة
(3)
…
".
ثم ذكر عمود السورة، وربطها بالتي قبلها فقال: " [ذكر القرآن] في السورة السابقة كل همزة لمزة
…
ففي هذه السورة إشهاد على ما فعل بأمثاله
…
فذكّر القرآن هذا الغني المختال هذه الواقعة التي شهدها بعينه، فإنه من
(1)
تفسير سورة الفيل (5 - 6).
(2)
ما بين الحاصرتين هنا وفيما يأتي زيادة من كتاب المعلم.
(3)
كذا في الأصل. وفي كتاب المعلِّم (6): "بذكر النعمة
…
".
كفرة قريش، والظاهر أنه أبو لهب
…
فكأنه قيل له: ألم تر كيف حطم الله أمثالك
…
وقد علمت أنك لم تغلب عليهم بقوتك، بل بنصر من الله
…
فاتضح مما قدمنا أن عمود هذه السورة تمهيد وجوب الشكر لله تعالى، بذكر ما جعل لأهل مكة خصوصًا، والعرب عمومًا من العزة والكرامة
…
".
قال عبد الرحمن: حاول رحمه الله تعالى أن ينفي التهديد، فلم يزل به الحق حتى اضطره إلى إثباته، كما ترى.
فأما قوله: "فهؤلاء المشركون أولى بأن ينبهوا
…
" فهذا التنبيه حاصل على ما قررته كما عرفت، فالسورة فيها وعد، أو قل: تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتهديد للمسرفين، ولاسيما أهل مكة. وامتنان على أهل مكة، ولا تنافي بين هذه المعاني، فلا ضرورة إلى قصر السورة على واحد منها.
وقوله: "صار حجة لهم
…
" ليس بشيء، فإن التهديد إنما هو بأن يصيبهم [ص 95] رب البيت بعذاب ما، لا خصوص أن يسلط عليهم جيشًا من غيرهم. وخصمهم عند نزول السورة ثلاثة:
الأول: رب البيت عز وجل، لأنهم محاربون له أشد من محاربة أصحاب الفيل.
الثاني: البيت نفسه، فإن المقصود الأعظم مما فعل الرب عز وجل بأصحاب الفيل هو حماية البيت، وهم قد أهانوه أشد من إهانة أصحاب الفيل، فنجسوه بالأوثان، وأشركوا بالرب فيه، وسعوا في خرابه، ومنعوا من عبادة الله عنده.
الثالث: الرسول والذين آمنوا معه، وهم من ولاة البيت، وأحق به؛ لأنهم يدعون إلى تطهيره، وتوحيد الرب عنده.
وقوله: "فذكر القرآن هذا الغني المختال
…
والظاهر أنه أبو لهب" فيه أمران:
الأول: أنك قد علمت أن الكلام في سورة الهمزة عام، ولا أصرح في العموم من كلمة "كل".
الثاني: أن هذه العبارة كالصريحة في أن المعلِّم يرى أن الخطاب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} لشخص معين، الظاهر عنده أنه أبو لهب. وهذا ــ مع بطلانه في نفسه ــ مخالف لما قرره المعلِّم في فصل "تعيين المخاطب في هذه السورة". قال هناك:"فاعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة، أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية". وقرر ذلك تقريرًا بالغًا.
ثم قال في موضع آخر (ص 15): "الواقعة كانت على غاية الاشتهار
…
وإصدار الكلام بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} يناسب هذا الأمر، فإنه لا يخاطب به إلا فيما لا يخفى على أحد، كأنه رآه كل من يخاطب به، وإن لم يره بعينه. وهكذا ينبغي عند طلب الإقرار بشيء، كما هو معلوم عند أهل العربية".
ثم عاد فخص الخطاب بأهل مكة كما يأتي، فكأن له في المخاطب ثلاثة أقوال. والله المستعان.
وقوله: "ألم تر كيف حطم الله أمثالك
…
وقد علمت أنك لم تغلب عليهم بقوتك، بل بنصر الله" نزول منه رحمه الله على الحق في قصد
التهديد، ولكنه يخالف ذلك، فيقول: إن عمود السورة هو الامتنان. والصواب ما اقتضاه قوله: "ألم تر كيف حطم الله
…
" من أن عمود السورة هو التهديد، وبذلك يتم ارتباطها بما قبلها، وأن الامتنان فيها حاصل تبعًا. والله الموفق.
[ص 96] الباب الأول
في تفسير السورة على ما أفهمه وفاقًا لأهل العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
1 ــ الهمزة موضوعة للاستفهام، وحقيقته عندهم طلب الفهم، ومتى جاءت ــ ولا طلب فهم ــ فمجاز بمعنى آخر، وقد يجتمع معنيان أو أكثر. فمن المعاني: التقرير أي الحمل على الإقرار، والتقرير بمعنى تثبيت الحكم وتحقيقه، والإنكار الإبطالي، والإنكار التوبيخي أو التعجبي، والوعد، والوعيد، والتهديد، والامتنان، وغير ذلك. أنهاها السيوطي في "الإتقان"
(1)
إلى اثنين وثلاثين معنى، وفي تلخيص المفتاح وشروحه طائفة منها.
قال السعد التفتازاني: "والحاصل أن كلمة الاستفهام إذا امتنع حملها على الحقيقة تولد منه بمعونة القرائن ما يناسب المقام. ولا تنحصر المتولدات فيما ذكره المصنف، ولا ينحصر أيضًا شيء منها في أداة دون أداة، بل الحاكم في ذلك هو سلامة الذوق، وتتبع التراكيب. فلا ينبغي أن تقتصر في ذلك على معنى سمعته، أو مثال وجدته، من غير أن تتخطاه. بل عليك بالتصرف، واستعمال الروية ، والله الهادي"
(2)
.
(1)
(2/ 79 ــ 80). [المؤلف].
(2)
المطول المطبوع بمصر مع حواشي عبد الحكيم وتقرير الشربيني (3/ 279). [المؤلف].
[ص 97] قال عبد الرحمن: يلوح لي أن الأصل في الاستفهام المجازي تنزيل المتكلم نفسه منزلة خالي الذهن عن الحكم الطالب للفهم، فيأتي بصورة الاستفهام، كما يأتي بها هذا؛ ليريك أنه لم يتحكم عليك، بل ترك الحكم إليك. فإن هذا أدعى لك إلى التدبر والتبصر، وليعلم من سمع الكلام وعرف حقيقة حال المتكلم أنه إنما أتى بهذا الأسلوب لوثوقه بأنك إذا تدبرت وتبصرت وافقته في الحكم، وأنه يرى أن الأمر بغاية الظهور إن احتاج إلى شيء فإلى التدبر والتبصر. وهذا هو التقرير بمعنى الحمل على الإقرار.
ثم إن كان الحكم عند المتكلم الإثبات، فالأغلب أن يؤتى عقب الهمزة بأداة نفي، كقوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]. وإن كان النفي فالغالب أن لا يؤتى بأداة نفي كقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 61 و 63 و 64].
والسر في ذلك ــ والله أعلم ــ هو تأكيد المعنى المتقدم، لأن الاستفهام إذا جاء في الصورة عن الإثبات كان فيه إيهام أن المتكلم يريد حملك على الإثبات، كما أشار إليه الشُّمُنِّي قال: "لأن الحكمة اقتضت أن يذكر تقرير الإثبات بصورة النفي، قصدًا إلى الدلالة على أنَّ المُقِرَّ على يقين مما أقرَّ به، وأنه لم يتلقن ذلك من تقرير المتكلم
(1)
.
والتقرير الذي يعلم منه الإثبات نحو {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قد يطلق عليه أنه تقرير بمعنى آخر، وهو تقرير الحكم بمعنى تثبيته وتحقيقه.
والذي يقصد منه النفي يسمى إنكاريًّا إبطاليًّا، وقد يطلق على نحو {أَلَمْ نَشْرَحْ} إنكار إبطالي على معنى أنه إنكار يبطل نفي الشرح.
(1)
حواشي الشمني على مغني اللبيب (1/ 38). [المؤلف].
[ص 98] وقد يتوصل بصورة تقرير يظهر منه الإثبات أو النفي إلى إفادة شدة بعد الانتفاء في الأول، والثبوت في الثاني، ليفاد بالاستبعاد قوة المقتضي في الأول، والمانع في الثاني.
ثم إن كان المقتضي أو المانع طبيعيًا ــ ولا لوم ــ فذاك الاستفهام التعجبي، كقول من يعتقد حياة الخضر: ألم يمت الخضر بعد؟ وقول الذي كلمه الذئب: أذئب يتكلم؟
وإن كان هناك لوم فهو الإنكار التوبيخي. فإن لم يمكن التدارك فهو لمجرد التقريع، كقولك لمن مات عنده إنسان جوعًا: ألم تطعمه حتى مات؟ وقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106].
وإن أمكن التدارك فهم منه الأمر أو النهي، فالأول: كقوله تعالى:
{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران: 20]، أي فأسلموا الآن، وما أخبر به سبحانه من قول إبراهيم لقومه:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي فمن الآن لا تفعلوا.
وكثيرًا ما يقترن التوبيخ بالتعجب، كما في هذا المثال، وكما أخبر الله عز وجل عن المشركين:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
واعلم أن من الوجوه التي مثل لها بما صورته استفهام عن النفي قد تأتي بصورة الإثبات، وعكسه، كقول معتقد حياة الخضر: آلخضر حي إلى الآن؟ وقولك لكافر: ألم تسلم؟
واعلم أن التوبيخ أريد به ما يعم اللوم والعتاب، فلا تغفل!
[ص 99] فأما الوعد، والوعيد والتهديد، والامتنان، فيلوح لي أنها إنما تفهم من فحوى الكلام. فمثال الوعد قول الله تبارك وتعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى
…
} الآيات [الضحى: 1 ــ 6]. أي فسوابق العناية تدل على لواحقها.
وعليه قول الشاعر
(1)
:
اللهُ عوَّدك الجميـ
…
ـلَ فقِسْ على ما قد مضى
وهذا هو الوعد، لكنه إنما أخذ من فحوى الكلام، لا من خصوص الاستفهام، ولو قيل: "وجدك ربك يتيمًا فآوى
…
" بدون استفهام، لكان الوعد حاصلًا.
ومثاله مع الوعيد والتهديد قوله عز وجل {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 15 ــ 18]، فأصل الاستفهام للتقرير، وفُهِمَ من الكلام: الوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بإهلاك عدوهم، والوعيد والتهديد للمكذبين؛ فإن إهلاك الله تعالى للمكذبين من الأولين والآخرين ظاهر الدلالة على أن تلك سنته.
ومثال الامتنان قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ
(1)
هو الصفيّ الحِلّي انظر: الكشكول 1/ 273.
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
فقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا .... } . الاستفهام للتقرير، والامتنان مفهوم من فحوى الكلام، وأوضحه بقوله:{وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} .
ولأقتصر في هذا الموضع على هذا القدر، فإنه كافٍ لتوضيح الاستفهام في سورة الفيل. والله أعلم.
[ص 100] فالاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} للتقرير. أما إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فواضحٌ، لأنه كان قد علم بقصة الفيل، والمراد بالرؤية في الآية العلم كما يأتي. وأما إن كان الخطاب عامًّا على ما يأتي توضيحه، كأنه قيل: ألم تر أيها الإنسان؟ فلأن مثل هذا إنما هو كناية عن شدة ظهور الواقعة واشتهارها. يقال: هذا أمر قد علمه القاصي والداني، فلا يفهم من هذا إلا الوصف بشدة الظهور والاشتهار، فلا تسمع أحدًا يناقش في مثل ذلك بأن من القاصين من لم يعلم. فكذلك هنا لا يقدح في القول بالتقرير بأن من الناس من لم يسمع بواقعة الفيل البتة.
فإن لم تقنع بهذا فاجعل الاستفهام يتنوع بتنوع المخاطبين. فمن بلغته الآية وقد علم، فالاستفهام في حقه للتقرير. ومن بلغته ولما يعلم وهو مقصر، فللتوبيخ، وإلا فللتعجب.
وعلى كل حال، فالوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والوعيد والتهديد للناس عامة، ولأهل مكة خاصة، والامتنان على أهل مكة، كل ذلك حاصل من فحوى الكلام، كما سبق.
2 ــ اتفق المفسرون على أن الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} بمعنى العلم، لأن الواقعة كانت قبل المولد النبوي، ولم يشاهدها كل من يصلح للخطاب. ثم منهم من قال: الرؤية بمعنى العلم مباشرة، ومنهم من قال: بل هي التي بمعنى الإبصار، تجوّز بها عن العلم، مبالغةً في تقريره وتثبيته وتحقيقه، كما يقتضيه المقام.
وقد يقال: من بلغته السورة وكان قد شاهد الواقعة، فالرؤية في خطابه بصرية على حقيقتها، ويكون هذا من النكت في العدول عن "ألم تعلم". وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، لكن باعتبارين.
3 ــ اتفق المفسرون ــ فيما أعلم ــ على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الآلوسي [ص 101] أشار إلى احتمال خلاف ذلك، وعبارته:"والظاهر أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"
(1)
.
واختار المعلِّم رحمه الله تعالى أولًا عموم الخطاب، قال:"فاعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة، أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية ممن رآها". وأطال في تقريره. وحاصله ــ مع إيضاحٍ ــ أنه كثيرًا ما يأتي الكلام بلفظ خطاب الواحد، ولا يقصد به واحد معيّن، بل كل واحد صالح للخطاب. وذلك كما يقع في كلام المؤلفين كثيرًا:"اعلم"، "فتأمل"، "فتنبه"، "قد علمت" وأشباه ذلك، ولا يقصد به المؤلف قصد واحد معين، بل يقصد كل واحد يقرأ كتابه، أو يقرأ عليه.
(1)
روح المعاني (9/ 455). [المؤلف].
وذكر المعلِّم أمثلة من القرآن أصرحها قول الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 ــ 24]. فالخطاب في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ} وما بعده لواحد لا بعينه، كأنه قيل:"إما يبلغن عندك أيها الإنسان" على حد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].
قال عبد الرحمن: أرى أن المعلِّم رحمه الله تعالى أجاد باختيار هذا الوجه، وإن لم ينقل عمن تقدم. فإنه ليس في القول به زيادة في الدين، ولا نقص منه، ولا ردّ رواية صريحة، ولا تعسف في التأويل، ولا مداهنة للمرتابين، ولا فتح باب للتحريف، ولا غير ذلك مما قد يكون في نفي رمي الطير. وهو مع ذلك الأوفق بما يقتضيه المقام من تقرير الواقعة، وبيان ظهورها واشتهارها، [ص 102] والإبلاغ في الوعيد والتهديد والامتنان.
فإن الإنسان إذا تلا السورة، أو تليت عليه، واستحضر المعنى المذكور، شعر بأنه يخاطب بها مباشرة، فكان أجدر أن يعمل فيه ما فيها من الوعيد والامتنان، إن كان من أهله.
ثم رجع المعلِّم رحمه الله تعالى فخص الخطاب بقريش، فكأنه قيل: قد علمت أيها القرشي. ولا أحفظ لهذا نظيرًا في الخطاب بلفظ الواحد بدون تقييده بما يخصصه، بل إما أن يكون لواحد معين، وإما أن يكون لكل أحد يصلح أن يخاطب.
ثم أوهم في ذكر عمود السورة أن الخطاب خاص بفرد واحد، يظن أنه أبو لهب. وهذا كما ترى!
وعلى ما قدمت، فالخطاب لكل إنسان إلى يوم القيامة. وإنما يصير الإنسان مخاطبًا بالفعل حين تبلغه السورة، وهو أهل أن يخاطَب، كما يكتب الرجل إلى غائب عنه، فيصير ذلك الغائب مخاطبًا بالفعل حين يبلغه الكتاب، فيقرؤه، أو يقرأ عليه، وهو أهل للخطاب. وربما حضرت الرجل الوفاة، وامرأته حامل، فيكتب كتابًا يخاطب به من في بطنها، فإذا ولد وبلغ سن التمييز فقرأ الكتاب، أو قرئ عليه، صار مخاطبًا به بالفعل. ولو كتب رجل كتابًا إلى كل من يولد بعده من ذريته ما تناسلوا، أو إلى كل من يولد في قومه، لكان كلما ولد مولود، فبلغ حدّ التمييز، فقرأ ذلك الكتاب أو قرئ عليه، يصير مخاطبًا به بالفعل.
وهكذا حكم الرسالة والوصية بدون كتاب. وبهذا تنحلُّ مغالطة بعض الأصوليين كالآمدي
(1)
، والله أعلم.
وكما أن من كتب إليه جدُّه بنصيحة لا تتقيد بوقت مثل: "احذر قرناء السوء" يتصور تكرر الخطاب كلما قرأ الكتاب، فكذلك ينبغي لك حين تذكر قول ربك سبحانه {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، وأشباهها، ومنها سورة الفيل.
[ص 103] 4 - "كيف" في الآية في موضع نصب على أنها مفعول مطلق، قاله ابن هشام في المغني قال:"إذ المعنى: أيَّ فِعْل فَعَلَ ربُّك"؟
(1)
راجع الإحكام للآمدى. [المؤلف]. (1/ 199 وما بعدها).
قال المحشي: "أي ألم تر أيَّ فِعْلٍ فَعَلَ ربُّك بأصحاب الفيل؟ أي ألم تر جوابَ هذا الاستفهام؟ وجوابه: فَعَلَ فعلًا عظيمًا، فكأنه قيل: ألم تر أن ربك فعل فعلًا عظيمًا بأصحاب الفيل؟ "
(1)
.
5 -
قال الراغب: "الربُّ في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام
…
فالربُّ مصدر مستعار مستعمل للفاعل. ولا يقال "الربّ" مطلقًا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات"
(2)
.
قال عبد الرحمن: معنى قوله: {رَبُّكَ} مدبرك بما تقتضيه الحكمة. والحكمة تقتضي أن ينصر رسله والذين آمنوا، وأن يعذب الظالمين. ومن جملة تدبيره بسطه النعم. فالكلمة تناسب الوعد والوعيد والامتنان، وقد جاءت في سياق كل منها.
فمن الأول: قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وقوله سبحانه:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129].
ومن الثاني: قوله تعالى: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه: 86].
ومن الثالث: قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66].
فهذه الكلمة في سورة الفيل تُقرِّر في حقِّ كلِّ قارئ أو سامع المعنى الذي يليق به.
(1)
راجع مغني اللبيب مع حواشي الدسوقي (1/ 217). [المؤلف].
(2)
مفردات الراغب (رب ب). [المؤلف].
6 -
ذكر القوم بعنوان "أصحاب الفيل" لفوائد:
منها: وضوحه في التعريف، مع وجازته، فقد كان هذا اللفظ صار كالعلم على ذلك الجيش.
ومنها: الإيماء إلى سبب عذابهم، فإن أبرهة طلب الفيل لذلك الغرض المذموم، وهو هدم الكعبة كما يأتي.
ومنها: الإشارة إلى عظمة ذلك الجيش، فإنه كان [ص 104] أهول ما فيه الفيلة، وذلك الفيل الأعظم. فإن العرب كانت تعرف كثرة العدد، وتعرف الخيل والإبل والسيوف والرماح والدروع وغير ذلك، ولم تكن تعرف قتال الفيلة، بل غالبهم لم يكن قد رأى الفيل ألبتة. ولذلك حرص أبرهة على التهويل من هذه الجهة، ففي رواية الواقدي في شأن أبرهة لمّا تألَّى ليهدمنّ البيت: "وكتب إلى النجاشي أن يبعث إليه بفيله محمود
(1)
. وكان فيلًا لم ير مثله في الأرض عظمًا وجسمًا وقوة
…
وقيل: كانت ثلاثة عشر فيلًا"
(2)
.
ومنها: الإشارة إلى الآية الأولى، وهي حبس الله تعالى الفيل، فقد زادتها غرابته عند العرب غرابة. ولذلك كثر ذكرها في أشعارهم، كما تقدم في فصل (ز) من القسم الأول.
7 -
"ال" في {الْفِيلِ} للعهد، أريد به ذلك الفيل الأعظم محمود، واكتفى به عن ذكر بقية الفيلة؛ لأن العارف بالقصة يتذكرها بتذكره.
(1)
استظهر صديقي الدكتور محمد حميد الله، أستاذ الجامعة العثمانية بحيدراباد الدكن في بعض مقالاته أن أصل الكلمة مَمُّوت، أو مَمُّود mammoth)) اسم لنوع من الفيلة. [المؤلف].
(2)
طبقات ابن سعد (1/ 1/55). [المؤلف]. ط صادر (1/ 91 - 92).
وقال المعلّم: "أما الفيل فواحد، ولكن أضيف إليه الجمع فأريد به الصنف، وهذا كثير، كقولك: أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث. قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11]. فاللفظ محتمل للواحد والأكثر، وبكليهما جاءت الروايات، والكثرة أقرب، والله أعلم".
قال عبد الرحمن: في قاعدته هذه نظر، وليس في الأمثلة ما يشهد لها، فإنك تقول: فلان يحفظ الحديث، ويعرف الرأي، ولا يحب النعمة؛ فيكون الجنس بحاله، ولا إضافة. وتقول: عند فلان حديث كثير، وله رأي صائب، وله نعمة ظاهرة؛ فترى الجنس بحاله.
بقي أن يقال: إن "ال" في [ص 105]{الْفِيلِ} للجنس، ولم يتبين لي، ولا ملجئ إليه، لما علمت أن بقاء الكلمة على ظاهرها من العهد لا ينفي ما جاءت به الروايات من تعد د الفيلة. والله أعلم.
8 -
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} إجمال يحيط بكل ما فعله الله تعالى بالقوم. وإذ كان عمود السورة هو التهديد ــ كما تقدم ــ فإنما يدخل في هذا الإجمال ما فعله الله بالقوم مما فيه توهين لقوتهم، وتعذيب لهم.
ولفظ "فعل" الموصول بالباء يساعد ذلك، وكأنه إنما جاء كذلك في القرآن للعذاب ونحوه. قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6 ــ 13].
وقال سبحانه فيما حكاه من خطاب يوسف لإخوته: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} [يوسف: 89]، أي من إلقائه في الجب، ثم بيعه، وغير ذلك، وذاك
نوع من التعذيب.
وقال حكاية عن قوم إبراهيم {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] يعنون حطمها حتى جعلها جذاذًا، وذاك عذاب شديد لو كانت تعقل.
وقال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45]، أي من العذاب.
وقال سبحانه: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54].
* * * *
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)}
1 -
هذا ــ كما قاله المفسرون ــ شروع في تفصيل ما أجملته الآية الأولى، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على الأولى، لأن بينهما كمال الاتصال، على وزان قوله تعالى:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 132 ــ 134].
2 -
الهمزة لتقرير الجعل، أو لإبطال نفيه. وعلى الثاني بنى ابن هشام، قال:"ومن جهة إفادة هذه الهمزة نفي ما بعدها، لزم ثبوته إن كان نفيًا؛ لأن نفي النفي إثبات .. ولهذا عطف {وَوَضَعْنَا} على {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} لما كان معناه: شرحنا، ومثله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6 ــ 7]، {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 2 ــ 3] "
(1)
.
(1)
مغني اللبيب مع شرح الدماميني وحواشي الشمني (1/ 34). [المؤلف].
فقوله سبحانه: {أَلَمْ يَجْعَلْ
…
} في قوة "جعل كيدهم في تضليل".
[ص 106] 3 - تقدم في فصل (ج) من القسم الأول تفسير "الكيد"، وأنه يكفي في تقرير كيد أصحاب الفيل: سوقهم الفيلة، وقدومهم في المحرم؛ وأن تضليل الله عز وجل لكيدهم هو حبس الفيل، ومنعهم من التقدم.
والتضليل من قولهم: ضلَّ الشيء إذا ضاع، وضلَّ سعيهم: ذهب باطلًا، وضلَّله: جعله يضِلُّ. فالمعنى أنه سبحانه جعل كيدهم ضائعًا ذاهبًا في غير شيء، لم يحصل به مطلوبهم.
* * * *
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)}
1 -
عطفت هذه الجملة على التي قبلها للتوسط بين الكمالين. فإن الأولى خبرية كما علمت، تقديرها: جعل كيدهم في تضليل. وهذه خبرية، والتناسب قائم؛ لأن كلا الأمرين من جملة ما فعله الله تعالى بأصحاب الفيل. وليست الثانية كأنها الأولى، لأن المفاد بالأولى حبس الفيل والجيش، والمفاد بهذه غير ذلك، كما لا يخفى.
2 -
إرسال الله تعالى إذا وصل بكلمة "على" كان في القرآن للعذاب، إما مطلقًا، وإما غالبًا، كما يعلم من مواقعه في القرآن، كقوله تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا} [الأعراف: 162]، {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً} [القمر: 31]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 34]، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} [الكهف: 40]، {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 33]،
{فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} [الإسراء: 69] وغيرها.
[ص 107] ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] فإن هذا التسليط نوع من العذاب استحقه الكفار بعنادهم وإصرارهم.
والظاهر أن "أرسل" في هذه الآيات ونحوها ــ ومنها آية الفيل ــ ضُمِّن معنى "سلط"، فلذلك عُدِّي بـ (على). والتضمين كثير في القرآن، وذكر منه ابن عبد السلام نحو خمسين مثالًا
(1)
.
وقد ذكر أهل اللغة في معاني "أرسل" سلَّط، قاله الزجاج وغيره في الآية الأخيرة. (راجع اللسان)
(2)
.
فأما قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} [الأنعام: 6]، فيمكن أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بقوله:{مِدْرَارًا} ، لا بـ (أرسل) والتقدير: وأرسلنا السماء مدرارًا عليهم.
ونحوها في ذلك آيات أخرى، منها قوله تعالى:{فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وقوله سبحانه {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 33]، وقوله عز وجل:{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] وغيرها.
فهذان دليلان على أن إرسال الطير كان لتعذيب أصحاب الفيل:
الأول: وقوع هذه الجملة في تفصيل فعل الرب بأصحاب الفيل.
(1)
الإشارة والإيجاز ص 54 ــ 58. [المؤلف].
(2)
(11/ 285 - رسل). وانظر: معاني الزجاج (3/ 345).
الثاني: تعدية الإرسال بـ"على" كما سمعت.
3 -
الأبابيل: تقدم تفسيره في فصل (ج) من القسم الأول، وحاصله أنه الجماعات، وتقدم ما جاء في وصف الطير.
4 -
{تَرْمِيهِمْ} على ظاهره، والمعنى: ترميهم تلك الطير. والجملة نعت لـ {طَيْرًا} على حد قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]، أوحال منها لتخصيصها بالنعت لقوله:{أَبَابِيلَ} . قال الرضى: "واعلم أنه يجوز تنكير ذي الحال إذا اختص بوصف، كما جاء في الحديث: "سابق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الخيل، فجاء فرس له سابقًا" وكذا تقول: مررت برجل ظريفًا قائمًا"
(1)
.
لا يقال: إن الرمي هنا لم يقارن الإرسال، لأننا نقول: إن لم يقارنه من أوله فهو مقارن له دوامًا، لأن الإرسال لم ينته إلا برجوع الطير، على أن الإرسال مضمن معنى التسليط، فلا إشكال، على أنه قد سبق قريبًا آية النساء، وآية التطفيف. ومما حسَّنه ههنا أنه فعل مضارع، وأنه المقصود من الإرسال. والحال المقدرة جائزة عندهم.
[ص 108] وقد يجوز أن يحمل قوله: {تَرْمِيهِمْ} على أنه استئناف بياني. كأنه ــ والله أعلم ــ لمّا مضى التشويق والتهويل، ثم جاء:{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} ، وهو يدل أنها أرسلت لعذابهم ــ كما علمت ــ كان مما تقتضيه العادة أن يسأل من لم يعلم الواقعة من المخاطبين: وما صنعت بهم
(1)
شرح الكافية (1/ 204). [المؤلف].
الطير؟ فأجيب بقوله: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} . وقد قيل مثله في: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]. وزاده حسنًا ههنا أن الجملة الأولى تمت برأس آية من شأنها أن يوقف عليها. وستعلم تمام هذا في الفائدة (15) من الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
ولكنه يضعف هاهنا بأن مبنى السورة على تحقيق العلم كما تقدّم كأنه قيل: "قد علمه كل من يخاطب" وكانت الواقعة والكيفية بغاية الشهرة، فلا يحسن مع هذا فرض السؤال، والله أعلم.
واختير الفعل المضارع تصويرًا لتلك الحال الغريبة، والهيئة العجيبة. وسيأتي إيضاح ذلك في الفوائد آخر الرسالة إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر الآلوسي
(1)
في تفسير آية النساء الماضية آنفًا أن بعض أهل العلم جوَّز أن يكون قوله: (حفيظًا) مفعولًا ثانيًا لـ (أرسلنا) على أنه ضمن معنى "جعلنا".
قال عبد الرحمن: ويؤيده قول الله تعالى في نظير الآية {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107].
وللخفاجي بحث نفيس في التضمين
(2)
، قد يظهر بمراجعته احتمال وجه رابع في {تَرْمِيهِمْ} وهو أنه مفعول ثانٍ لـ (أرسلنا) على أن يكون المعنى: جعلنا الطير ترميهم مسلطةً عليهم. فراجعه إن شئت.
(1)
راجع روح المعاني (2/ 136). [المؤلف].
(2)
طراز المجالس ص 20 ــ 29. [المؤلف].
[ص 110]
(1)
5 - قوله: {مِنْ سِجِّيلٍ} نعت لحجارة، وذلك ظاهر في أنها ليست من الحجارة المتعارفة، بل هي من سجيل. ومعناه اللفظي: طين متحجر، كما قاله السلف، بل فسره القرآن نفسه، فإنه ذكر في قصة لوط:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82 ــ 83]، وفي موضع آخر:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74]، وفي الثالث:{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33 ــ 34].
ولعل النكتة في اختيار هذا الوصف {مِنْ طِينٍ} في هذا الموضع الثالث: أن العبارة فيه محكية عن الملائكة في إخبارهم لإبراهيم عليه وعليهم السلام، وكان أواهًا حليمًا رؤوفًا رحيمًا، يشق عليه أن يعذب أولئك القوم، فإنه جادل في شأنهم كما في سياق القصة، فاختار الملائكة في محاورته وصفها بأنها من طين؛ لأنه أخفُّ من سجيل في التصور، وإن كان المآل واحدًا.
هذا، وتفسير السجيل بحجارة من طين لا يعين أنها مما تحجر من طين الأرض، فإن الآيات تعطي أنه نوع خاصّ معدّ عند الله عز وجل، أي حيثُ يُعلَمُ، ليعذّب به من يشاء. وقوله:{مُسَوَّمَةً} يشهد لذلك، قال ابن عباس:"المسومة: الحجارة المختومة، يكون الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، أو يكون الحجر أسود فيه نقطة بيضاء، فذلك تسويمها عند ربك يا إبراهيم للمسرفين"
(2)
.
(1)
الصفحة (109) مضروب عليها.
(2)
تفسير ابن جرير (27/ 2). [المؤلف].
[ص 111] وعن مجاهد وغيره: "المسومة: المعلمة". زاد ابن جريج: "لا تشاكل حجارة الأرض". ونحوه عن قتادة
(1)
.
وفي بعض التفاسير عن ابن عباس: أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجَزْع الظَّفاري
(2)
.
وقال الآلوسي: "وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية أنه قال: رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل: حصى مثل الحمص، وأكبر من العدس [حُمْر] بحُتْمة
(3)
، كأنها جَزْع ظَفار. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال: حجارة مثل البندق. وفي رواية ابن مردويه عنه: مثل بعر الغنم"
(4)
.
ثم ذكر ما قيل: إن الحجارة كانت كبارًا، وقد تقدم بيان وهمه في فصل (هـ) من القسم الأول.
قال: وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح: "أنه مكتوب على الحجر اسم من رمي به، واسم أبيه، وأنه رأى ذلك عند أم هانئ".
قال عبد الرحمن: إن صح السند إلى أبي صالح، فكأنه رأى تلك الخطوط التي وصفها غيره، فحدس أنها كتابة بلسان غير العربي، ورأى أنها
(1)
تفسير ابن جرير (13/ 54 ــ 55). [المؤلف].
(2)
تفسير النيسابوري بهامش تفسير ابن جرير (30/ 164)، تفسير الخطيب. [المؤلف]. (32/ 97).
(3)
كذا ضُبطت في الأصل. وكذا في روح المعاني (ط المنيرية 30/ 237)، وقال في الحاشية:"بالضم: السواد". وفي مطبوعة دلائل النبوة لأبي نعيم (88): "مختَّمة". وكذا في إمتاع الأسماع (4/ 79) وسبل الهدى والرشاد (1/ 221).
(4)
روح المعاني (9/ 458 - 459). [المؤلف].