الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و"باسط" هنا مثل "لابس" في المثال الماضي، إذ ليس المعنى أنه يحدث البسط، بل على أنه كائن على تلك الهيئة، فتدبَّرْ.
واعلم أن الصفات كلها مثل المضارع في أنها للحال، فعند الإطلاق يكون لحال الكلام. تقول:"زيد حسن الوجه"، فيفهم أنه حال كلامك متصف بحسن الوجه، وقس على ذلك. وإذا كانت خبرًا لـ"كان" كانت حاليتها باعتبار كان، وكذا إذا كانت حالًا نحوية أو في جملة حالية، فحاليتها باعتبار عامل الحال. وكذا في الباقي على نحو ما تقدم في المضارع.
[ص
15] (10) الحال النحوية من شرطها الاقتران بعاملها في الزمن
، أي بأن يكون تلبُّس العامل بصاحبها في وقت مدلولُها فيه حاصل.
قال ابن مالك في الخلاصة:
الحالُ وصفٌ فضلةٌ منتصِبُ
…
مُفْهِمُ في حال كفردًا أذهبُ
فإذا جاء ما يظهر منه عدم الاقتران فهو متأوَّل بما يحصل به الاقتران. فقولهم: "جاء زيد راكبًا" المراد بالركوب الهيئة الحاصلة عن أصل الفعل، وهي مستمرّة تقارن المجيء، وليس المراد به إحداث الركوب.
ولهذا إذا أتيت بالفعل الماضي غير المقارن وجب أن تأتي بـ (قد)، فتقول:"جاء زيد قد ركب".والمقارنة حينئذ مأخوذة من معنى (قد) وهو التحقيق، فكأنه قيل: جاء متحققًا أنه ركب، أو في حال تحقق أنه ركب. وهذا معنى قولهم: إنّ (قد) تقرّب الماضي من الحال، فاحفظه. فإن لم تكن (قد) مذكورة وجب تقديرها في المثال المذكور.
فأما إذا كان الفعل مقارنًا بنفسه فلا حاجة لـ (قد)، بل لا يجوز الإتيان بها، وذلك كقولك:"أبصرت زيدًا صلّى الظهر" إذا كانت صلاته الظهر
مقارنة للإبصار. ولو قلت: "أبصرت زيدًا قد صلّى الظهر" لَفُهِم منه أن الإبصار كان بعد الصلاة.
هذا، وإنما يحسن حذف (قد) لنكتة، كما في قوله تعالى في إخوة يوسف:{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65]. لم يعلموا بردّها إلا حينئذ، فكأنها إنما رُدَّت حينئذ.
ونحوه في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]، فإن الحصر يتجدد، فيوجد حال المجيء.
[ص 16] ويلوح لي أنه عندما يكون الفعل سابقًا، إن قرب العهد به أتي بـ (قد) وحدها، وإلّا أتي بها مع الواو، والقرب والبعد في كل شيء بحسبه. تقول:"جاء زيد قد حجّ" إذا كان مجيئه عقب الحج، فإن تأخر قيل:"وقد حجّ". والله أعلم.
وقولهم: "خرج فلان إلى الحجاز حاجًّا" فيه مجاز بإطلاق كلمة "الحاجّ" على العامد له، ولهذا يقال إذا خرج المسافرون إلى الحج:"خرج الحجاج اليوم"، وحاصل المعنى: خرج ناويًا أن يحجّ، ولهذا يسميها بعضهم "حالًا منويّةً". وقد يطلق عليها في نحو المثال:"مقدّرة"، من قولهم: قدّرت كذا، أي نويته وعقدت عليه، كما في اللسان
(1)
.
وقوله سبحانه: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، فيه مجاز أيضًا، وذلك أن
(1)
قدر (5/ 76)، وأصله في تهذيب اللغة (9/ 24).
الله عز وجل قدّر أن يخلدوا فيها حتمًا، فكأنه حاصل لهم حين الدخول، ولهذا تسمّى "حالًا مقدّرة"، وتفسَّر بقولهم:"ادخلوا مقدّرًا خلودُكم". ويمكن أن يكون المجاز في قوله (ادخلوا) بتضمينه معنى "اسكنوها" أو نحوه.
وهكذا يقال في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. كذا قالوه، وهو مبنيّ على أن المراد بالدخول: دخولهم حال القدوم، ومحلقين ومقصرين: فاعلين ذلك. ويمكن أن يقال: إن المراد بالدخول: دخول المسجد بعد تمام العمرة، وبمحلقين ومقصرين: كائنين على الهيئة التي تحدث عن الفعل على نحو ما تقدم في الفائدة التاسعة. والذي يدلّ على هذا مع ظهور المقارنة فيه أن الآية حكاية لرؤيا مناميَّة، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى نفسه وأصحابه في المسجد الحرام أو داخلين فيه آمنين ما بين محلق ومقصر. وهذه الصفة تنطبق على بعض دخلاتهم في عمرة القضاء بعد أن قضوا عمرتهم، فإنهم أقاموا بمكة ثلاثًا، ولا بدّ أنهم دخلوا المسجد بعد قضاء عمرتهم مرارًا، فتأمَّلْ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1)
[ص 21](13) لا شبهة في مجيء "تفعل" الخطابي حالًا من ضمير المخاطب به تارة هكذا، وتارة مع الابتداء "وأنت تفعل". وستأتي أمثلة ذلك وتوجيه الفرق بين الصيغتين في الفائدة الآتية إن شاء الله تعالى.
(1)
وقع هنا خرم في الأصل ذهب بأربع عشرة صفحة (ص 17 - 30) تضمنت ثلاث فوائد (11، 12، 13) وجزءًا من الفائدة الرابعة عشرة. ثم عثرنا بأخرة على الصفحات (21 - 30) ضمن مجموع برقم 4706، فأثبتناها فيما يأتي.
والكلام هنا في صحة مجيء "تفعل" بدون "أنت" حالًا من غير ضمير المخاطب، فإني لم أجده صريحًا في الكلام الفصيح، وإنما وجدته مع "وأنت"
(1)
، كقوله عز وجل:{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]. وأجد الذوق يستنكر أن يقال: "مررنا بزيد تحدِّثه". وقد يقال في هذا المثال: إن الواجب ــ على ما تقدَّم في الفائدة السابقة عن الهمع ــ أن يقال: "مررنا بزيد تحدِّثه أنت"، ولكنني أجد الذوق لا يطمئن إلى هذه كما لا يطمئن إلى قولك:"مررنا بزيد تحدِّثانه". وإنما يطمئن إلى "مررنا بزيد وأنت تحدِّثه" أو"وأنتما تحدِّثانه". فإن صحَّ نحو "مررنا بزيد تحدِّثه" فالظاهر أنه لا يخلو من ضعف. والله أعلم.
(14)
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، وقال سبحانه:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128]. وقال عز وجل: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} [آل عمران: 99]. وقال تعالى: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85].
قوله: {تَسْتَكْثِرُ} حال من ضمير المخاطب، وكذلك {تَعْبَثُونَ}
(1)
في أصل الجزء الثاني في الصفحة التالية للصفحة الخمسين: "فأمَّا إذا أتى حالًا من غير ضمير المخاطب، فإنما وجدته مع "وأنت"، كقوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ولم أجد للنحاة ما يصرِّح بجواز نحو "مررنا بزيد تحدِّثه" ولا ما هو ظاهر في منعه، ولكني لم أجده في الكلام الفصيح، وأجد الذوق يستنكره ويرى حقَّ الكلام أن يقال: "وأنت تحدِّثه"، ويتردَّد في "تحدِّثه أنت". ولم يرقم المؤلف هذه الصفحة لكونها غير متعلقة بالسابق واللاحق.
و {تَبْغُونَهَا} و {تَظَاهَرُونَ} .
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]. [ص 22] وقال عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 42].
قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير الخطاب، وكذا قوله:{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} . فينبغي النظر في الفرق بين الموضعين، ومتى ينبغي أن يقال:"تفعل"، ومتى ينبغي أن يقال:"وأنت تفعل"، وكلٌّ منهما حال من ضمير الخطاب؟
قال الشيخ عبد القاهر رحمه الله: " .... فاعلم أنَّ كلَّ جملة وقعت حالًا ثم امتنعت من الواو، فذاك لأجل أنَّك عمدتَ إلى الفعل الواقع في صدرها فضممتَه إلى الفعل الأول في إثبات واحد. وكلُّ جملة جاءت حالًا ثم اقتضت الواو، فذاك لأنك مستأنف بها خبرًا
…
"
(1)
.
ثم شرح الفرق بين "جاءني زيد يسرع" و"جاءني زيد وهو يسرع". وحاصله بإيضاح: أنَّ المثال الأول موضعه حيث تكون الفائدة إنما تحصل من مجموع الفعلين، كأن يكون مجيء زيد إليك معلومًا للمخاطب، أو أمرًا عاديًّا، لا تحصل بالإخبار به وحده فائدة تُذكر، أو يكون إسراع زيد غير مستغرب فلا تكون لذكره وحده فائدة تُذكر، أو غير ذلك.
وموضع المثال الثاني: حيث يكون لكل من الفعلين فائدة لها وقع، بحيث لو علم المخاطب أحدهما لم يستغن عن أن يخبر بالثاني.
(1)
دلائل الإعجاز (213).
فالحال في المثال الأول شبيهة بالنعت، وفي المثال [ص 23] الثاني قريبة من العطف. وكأنك تقول في الأول: حصل من زيد مجيء إليَّ فيه إسراع. وقد أشار الشيخ إلى هذا بقوله: "تثبت مجيئًا فيه إسراع". وكأنك في الثاني تقول: "جاءني زيد"، ثم بعد علم المخاطب بذلك تقول:"جاءني زيد يسرع"، ولكنك لمَّا أردت أن تجمع الخبرين استغنيت عن "جاءني" الثانية بالأولى ، وجعلت بدل "زيد" ضميره "هو"، ولم يمكنك إسقاط الضمير لئلا يلتبس بالضرب الأول، فربطتَ الجملتين بالواو.
قال الشيخ: "وتسميتُنا لها واو حال لا يخرجها عن أن تكون مجتَلَبةً لضمِّ جملة إلى جملة. ونظيرها في هذا: الفاء في جواب الشرط، نحو: إن تأتني فأنت مكرم، فإنَّها وإن لم تكن عاطفة، فإنَّ ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة .... وذلك أن إعادتك ذكر زيد لايكون حتى تقصد استئنافَ الخبر بأنه يسرع
…
"
(1)
.
فارجع إلى الآيات السالف ذكرها. فقوله عز وجل: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} المنُّ كما قال ابن عباس وغيره: الإعطاء. ولا ريب أن الآية لا تنهى عن الإعطاء، وإنما تنهى عن إعطاءٍ يُقصد به الاستكثار. وهذا شبيه بقولك في النعت:"لا تلبس ثوبًا نجسًا"، فظهر أن الفائدة إنما تحصل من مجموع الفعلين.
وكذلك قوله سبحانه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} فإنها لا تنهى عن البناء، وإنما تنهى عن بناء لا فائدة فيه، وذلك معنى العبث.
(1)
راجع "دلائل الإعجاز"(ص 115) فما بعد. [المؤلف]. طبعة محمود شاكر (214 - 216).
وقوله سبحانه: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص 24] مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} بغيُ السبيل عوجًا لازمٌ للصدِّ عنها، فهو بمنزلة النعت الذي يؤتى به للذمِّ، نحو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وكذلك التظاهر مع الإخراج في الآية الرابعة.
وهذا ما يتعلق بالضرب الأول.
فأما الثاني: فقوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فذنب العالم ــ كما قيل ــ ذنبان، فكأنه تعالى وبَّخهم على الذنب من حيث هو، ثم وبَّخهم عليه من حيث إنهم يعلمون أي: ليسوا من الجهال.
ونحو ذلك يقال في الآية الثانية. والله أعلم
(1)
.
[ص 25] تقرير المجاز في استعمال ما هو للحال فيما هو ماضٍ أو مستقبل
(2)
اعلم أنَّ للأمر الواقع في الحال خواصَّ بملاحظتها يكون التجوُّز:
منها: الاستمرار من الحال إلى الاستقبال. أعني تلك اللحظات الثلاث التي تقدَّم بيانها في الفائدة الخامسة والسادسة. وكأنه بملاحظتها كان التجوُّز في استعمال المضارع للاستمرار من الماضي البعيد إلى المستقبل البعيد، كما مرَّ في الفائدة السابعة. ويمكن تقريره بوجوه لا تخفى على المتأمل.
ومنها: الملابسة للحال، فإنَّ الواقع في الحال ملابس له بالظرفية، فيشبَّه
(1)
ترك بعده بقية الصفحة بيضاء.
(2)
كتب أولًا قبل هذا العنوان رقم (11)، ثم غيَّره إلى (14).
به ما وقع في الماضي القريب، أو يقع في المستقبل القريب، لملابستهما الحال بالمجاورة. وهذا في الزمان شبيه بما يقع من التجوُّز في المكان نحو قوله تعالى حكاية عن فرعون:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. شبه الإلصاق بالجذوع بالإدخال فيها.
ويوضِّحه أنَّ كلمة "الآن" موضوعة لزمن التكلم، ثم تجدها تُستعمل في الماضي القريب، كقول زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلب:
الآن لمَّا كنتَ أكرمَ مَن مشَى
…
وافترَّ نابُكَ عن شباة القارح
(1)
أي الآن تموت؟ مع أنه إنما رثاه بعد موته. ويستعجلك صاحبك فتقول: الآن أخرج إليك، تريد: عن قرب.
وقد حمل عليه قوله عز وجل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، وقوله سبحانه حكاية عن الجن:{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9]، لأنَّ مَن الشرطية تُخلص المضارع للمستقبل، وفي هذا بحث.
وقد تطلق كلمة "الآن" على ما يحيط بزمن التكلم متسعًا، كقولك: كنت قبل سنة مهاجرًا لزيد، أما الآن فإننا نتزاور. وانظر هذا مع المضارع الاستمراري.
[ص 27]
(2)
ومنها: التحقق، فإنَّ من شأن الواقع في الحال أن يكون
(1)
ستأتي الحوالة. [المؤلف].
(2)
الصفحة (26) كتب فيها سطرًا، ثم ضرب عليه، فهي فارغة.
مُدْرَكًا بالحسِّ مشاهَدًا بالعين ، وكفى بذلك تحقُّقًا. وإنما يكثر عند إرادة تحقيق المستقبل تشبيُهه بالماضي، لأنه إذا شُبِّه بالحال كان التعبير بالمضارع، والمضارع يُستعمل في المستقبل حقيقةً أو مجازًا شائعًا ذائعًا، فلا تظهر إرادة المجاز، وإذا لم تظهر لم يُتنبَّه لِما قُصِد من التحقق، مع أنه قد جاء منه مواضع كما يأتي.
فبالنظر إلى هذه الصفة يشبَّه ما تحقَّق أنه وقع في الماضي أو أنه سيقع في المستقبل بما هو واقع في الحال بجامع التحقق.
وقد يقع التشبيه بهاتين الصفتين معًا، والتشبيه الصريح يقع غالبًا على سبيل الكناية كقولهم "كأنك بالشتاء مقبل، وكأنك بالفرج آتٍ".
الصواب أنَّ قوله "مقبل" خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو مقبل، ومثله قوله "آت"؛ وأن الباء بعد (كأنك) كالباء في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة أم إسماعيل:"فإذا هي بالمَلَك"
(1)
، وفي حديث آخر:"فإذا أنا بموسى آخذٌ"
(2)
، وفي حديث الإسراء: "فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين
…
فإذا هو بنهر آخر"
(3)
. وفيه: "فإذا أنا بآدم
…
فإذا أنا بابني الخالة
…
فإذا أنا بيوسف
…
فإذا أنا بإدريس
…
فإذا أنا بهارون
…
فإذا أنا
(1)
صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [المؤلف]. من حديث ابن عباس [3364].
(2)
أيضًا باب قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} [المؤلف]. من حديث أبي سعيد [3398].
(3)
أيضًا كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله عز وجل:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [المؤلف]. من حديث أنس [7517].
بموسى
…
فإذا أنا بإبراهيم"
(1)
.
[ص 28] فأصل التشبيه في هذين أنه شبَّه حلولَ الشتاء في المستقبل القريب بحلولٍ له في الحال، بجامع ملابسة الحال. وشبَّه وقوعَ الفرج في المستقبل القريب بوقوع منه في الحال، بجامع ملابسة الحال والتحقق. ولكنه عدل عن هذا إلى لازمه، وهو تلبُّس المخاطب بهما في الحال، فإنه إنما يتلبَّس في الحال بما هو واقع فيه.
ومنه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الكعبة: "كأنِّي به أسودَ أفحَجَ يقلعها حجرًا حجرًا"
(2)
.
شبَّه هدمَ ذلك الحبشي في المستقبل بهدمٍ يقع منه في الحال بجامع التحقُّق، وعدل إلى الكناية فقال:"كأنِّي به" أي: كأني ملتبِّس به أي: أُبصِره، لأنه إنما يُبصره يَهدِم في الحال إذا كان الهدم واقعًا في الحال.
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم ــ وقد مرَّ بوادي الأزرق ــ: "كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم ــ فذكر من لونه وشعره ــ واضعًا إصبعيه في أذنيه، له جُؤارٌ إلى الله بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي
…
". ثم قال عندما مرَّ بثنيَّة هَرْشَى
(3)
: "كأنِّي أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطامُ ناقته لِيفٌ خُلْبَةٌ مارًّا بهذا الوادي ملبِّيًا"
(4)
.
(1)
صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء. [المؤلف]. من حديث أنس [259].
(2)
صحيح البخاري، كتاب الحج، باب هدم الكعبة. [المؤلف]. من حديث ابن عباس [1595].
(3)
رسمها في الأصل: "هرشا".
(4)
صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء. [المؤلف]. من حديث ابن عباس [269].
شبَّه مرور موسى ويونس عليهما السلام بذلك الوادي في الماضي، بمرور يقع منهما في الحال بجامع التحقُّق، وكنى عن ذلك بقوله: "كأني أنظر
…
"، لأنه إنما ينظر في الحال إليهما مارَّين، إذا كان مرورهما واقعًا في الحال.
فأما ما يُروى فيمن قال: "أصبحت مؤمنًا حقًّا، فقيل له: ما حقيقة إيمانك؟ فقال: كأني أنظر إلى عرش ربِّي بارزًا"
(1)
يُريد: يوم القيامة؛ فليس فيه كناية، [ص 29] وإنما شبَّه حاله في تصديقه بأمور القيامة بحاله على فرض أنه ينظر إليها. فأمور القيامة ثابتة عند السائل، وإنما مقصود المسؤول إثبات إيمانه بها.
وأما مرور موسى ويونس عليهما السلام حاجَّين، فلم يكن ثابتًا عند المخاطبين، فمقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت المرور، لا تثبيت تصديقه بالمرور. فلهذا كان ما يظهر من الكلام من إثبات التصديق بالمرور كناية، على ما سمعت، والله أعلم.
فأما العبارة المشهورة: "كأنك بالدنيا لم تكن"، ففيها تشبيه مع الكناية ومجاز.
والأصل تشبيه ما يتوقع من زوال الدنيا بزوال واقع في الحال بجامع القرب والتحقُّق، وتشبيهها عند زوالها بها لو لم تُوجد أصلًا، بجامع عدم النفع. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فإنَّ الرجل إذا عاش مدة، ثم مات، ولم يبق بعد موته نفعٌ يتسبَّب عن حياته= قيل كأنه لم يُخْلَق، لأنه لما خُلِق، وعاش
(1)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(3367) من حديث الحارث بن مالك الأنصاري. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 221): "وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه".
مدَّةً ولم يتسبَّب عن حياته نفعٌ= كان من هذه الجهة كأنه لم يُخْلَق، فإنه لو لم يُخْلَق يكون الحال كذلك، أي أنه لا يوجد نفعٌ يُنسَب إلى خلقه وعيشه.
فحلُّ العبارة هكذا: كأنَّ الدنيا زائلة، أي: الآن، وكأنها إذا زالت لم تكن. ثم طُوي التشبيه الثاني، واستعيرت الصفة للدنيا، فقيل:"لم تكن" وجُعل هذا اللفظ بدل حقيقته في التشبيه الأول، فصار:"كأن الدنيا لم تكن" ــ أي: الآن، ثم كُني عنه على ما سمعت أولًا. وقس عليه بقية العبارة، وهي "وبالآخرة لم تَزُل".
واعلم أنك إذا قلت ــ وزيد غائب ــ: "كأنك بزيد قادم". فقد تمَّ الكلام بقولك: كأنك بزيد، لأن التقدير: كأنك متلبِّس بزيد في الحال، فقولك:"قادم" خبر لمبتدأ محذوف.
وإذا قلت ــ وزيد حاضر ــ: "كأنك بزيد مسافرًا" فلا يتم الكلام إلا بقولك: مسافرًا، فـ"مسافرًا" حال، فتدبَّرْ.
هذا تحقيق هذا التركيب، وقد أطالوا فيه بما في بعضه تخليط
(1)
.
وتردد التقي السبكي في صحته قال: " [وقد استعملتُ في كلامي هذا: "وكأني بك" لأن الناس يستعملونه، ولا أدري هل جاء في كلام العرب أم لا، إلا أن في الحديث: "كأنِّي به"، فإنْ صحَّ فهو دليل الجواز. وفي كلام بعض النحاة ما يقتضي منعه
…
"]
(2)
.
(1)
راجع "المغني مع حواشي الدسوقي"(1/ [280])، و"الأشباه والنظائر النحوية" للسيوطي (4 /). [المؤلف] طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق (4/ 20 - 31).
(2)
بيَّض المؤلف هنا نحو أربعة أسطر لنقل كلام السبكي ووضع في أولها علامة التنصيص، فأوردناه من "الأشباه والنظائر" للسيوطي (4/ 188 - 189).
[ص 30] هذا، والغالب في تشبيه غير الواقع في الحال بالواقع فيه طيُّ التشبيه واختيارُ المجاز على سبيل الاستعارة. والغالب أنه ينضاف إلى التقريب والتحقيق أو أحدهما فائدة أخرى قد تكون هي المقصود بالذات، وهي حملُ السامع على إنعام النظر في الواقعة، ورسمُ صورتها في ذهنه، لأن صورة الكلام تُصوِّرها له كأنها حاضرة تجري أمام عينيه، فيدعوه إلى أن يتصوَّرها بحسب ذلك، وكأنه يتخيلها تجري أمام عينيه، فيكون ذلك أوقع لها عنده، وأبلغ في تربية الأثر المقصود من حكايتها في نفسه.
وهذا هو المعروف عند أهل العلم بحكاية الحال.
قال الرضي: ـ "قال جار الله ــ ونعم ما قال ــ: معنى حكاية الحال أن يُقَدَّر أنَّ ذلك الفعل الماضي واقع في حال التكلم كما في قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91]، وإنَّما يُفعل هذا في الفعل الماضي المستغرب، كأنك تُحضِره للمخاطب وتُصوِّره له ليتعجب منه. تقول: رأيت الأسد، فآخذُ السيفَ، فأقتلُه"
(1)
.
وقال السكاكي بعد ذكر أمثلة: "كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
…
} [فاطر: 9] إذ قال: "فتثير" استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدَّالة على القدرة الربانية، من إثارة السحاب مسخَّرًا بين السماء والأرض، متكوِّنًا في المرأى تارةً عن قزع وكأنها قطعُ قطن مندوف، ثم تتضامُّ متقلِّبةً بين أطوار حتى يَعُدْن ركامًا. وإنّه طريق للبلغاء
…
وأمثال هذه
(1)
شرح الكافية (2/ 20). [المؤلف] طبعة جامعة الإمام (2/ 728).
اللطائف لا تتغلغل فيها إلا أذهان الرَّاضَة من علماء المعاني"
(1)
.
وقال ابن هشام "القاعدة السادسة: "أنهم يُعبِّرون عن الماضي والآتي كما يعبِّرون عن الشيء الحاضر قصدًا لإحضاره في الذهن، حتى كأنه مُشاهَد حالةَ الإخبار
…
"
(2)
.
[ص 31] فمن أمثلتهم المشهورة في هذا قول تأبط شرًّا:
فإنّي قد لقيتُ الغُولَ تهوي
…
بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ
فأضربُها بلا دَهَشٍ فخرَّتْ
…
صريعًا لِليدين وللجِران
فتقرير الاستعارة ــ على ما حققه السيد الشريف
(3)
وغيره ــ أن يقال: شبّه الضرب منه للغول في الماضي بضرب يقع منه لها في الحال بجامع التحقّق في كلّ في نفسه، ثم استعار اللفظ الدالّ على المشبّه به للمشبّه، واشتقّ منه "أضرب".
ونظيره ــ والواقعة مستقبلة ــ قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 126]. قال في "المغني": "لأن لام الابتداء للحال"
(4)
. فتقدير الاستعارة أن يقال: شبّه الحكم الذي سيقع يوم القيامة بحكم يقع في الحال بجامع التحقق إلخ.
(1)
مفتاح العلوم (ص 107 ــ 108). [المؤلف].
(2)
تمت القطعة المضافة.
(3)
تقرير الشريفين على هوامش عبد الحكيم على المطول (4/ 171). [المؤلف].
(4)
المغني مع حواشي الأمير (2/ 196). [المؤلف].
وكثيرًا ما تبنى الاستعارة على التشبيه مع الكناية، فتكون الاستعارة بالكناية. فمنه ــ والواقعة ماضية ــ قوله عز وجل في قصة أصحاب الكهف:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف: 17]. شبه التزاور الواقع في الماضي بتزاور يقع في الحال، واستعير اللفظ الدّال على المشبّه للمشبّه به، وطوي ذلك، ورمز إليه بأن أثبت للمشبه شيء من لوازمه وهو رؤية واقعة في الحال، فإنه يلزم من رؤيته في الحال أن يكون واقعًا في الحال. [ص 32] وإثبات الرؤية في الحال تخييل، كما يقوله البيانيون في بحث الاستعارة بالكناية.
ومنه ــ والواقعة مستقبلة ــ قوله تعالى في صفة يوم القيامة: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. شبّه حفوف الملائكة بالعرش يوم القيامة بحفوف واقع منهم في الحال، واستعير لفظ المشبه به للمشبه في النفس، ورمز إليه بأن أثبت للمشبه شيء من لوازمه، وهي الرؤية في الحال، وإثبات الرؤية في الحال تخييل.
ومنه ــ والواقعة متكررة في الماضي والمستقبل ــ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43]. وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ
سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48].
الأفعال في هاتين الآيتين إما للاستمرار وإما للحال، والأولى في قوله:{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} أنه للحال، شبه خروج الودق من خلال السحاب فيما يتكرر في الماضي والمستقبل بخروج منه يقع في الحال إلخ، وإثبات الرؤية في الحال تخييل.
[ص 33] وفي القرآن أسلوب آخر قريب من هذا، وهو التعبير بقوله:{وَلَوْ تَرَى} ، كقوله عز وجل:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآيات [سبأ: 31].
قد يتراءى أن هذا الأسلوب دون الأول في البلاغة، ولكنه عوّض بأن حذف جواب لو، وذلك يعطي أن الجواب يُفهَم مما ذكر في سياق الشرط، وهذا يحمل السامع على أن يكرر النظر والتدبر فيما ذكر حرصًا على أن يفهم الجواب. وبهذا يحصل المقصود، فتدبَّرْ.
وهناك فائدة أخرى للتعبير بما هو للحال عما ليس في الحال، وهو إيهام المتكلم أن يعتقد الحصول في الحال، وأكثر ما يقع ذلك في المراثي. وتوجيهه أن المحبّ لشدّة حرصه على بقاء حبيبه، وإشفاقه من موته، يبادر إلى ردِّ خبر الموت، كما وقع لعمر رضي الله عنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
. فإذا تحقق الخبر بقي عنده شبه تردُّد قد يغلبه بعض
(1)
كما في حديث عائشة، أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم :"لو كنت متخذًا خليلًا"(3667).
الأوقات حتى يتخيل أن حبيبه لا يزال حيًّا، وربما يتخيّله معه. وقد يسلك هذا المجاز في كلمة، ويصرّح بالموت في أخرى، لإيهام أنه لشدة جزعه كأنه قد خولط في عقله. قالت الخنساء في تكذيب الخبر بقتل أخيها:
كذَّبتُ بالحقِّ وقد راعني
…
حتى عَلَتْ أبياتَنا الواعيَهْ
(1)
وقال أعشى باهلة يرثي المنتشر الباهلي
(2)
[ص 34]:
إنّي أتتْني لسانٌ ما أُسَرُّ بها
…
مِنْ عَلْوَ لا عَجَبٌ فيها ولا سَخَرُ
جاءت مُرَجَّمةً قد كنتُ أحذرها
…
لو كان ينفعني الإشفاق والحذَرُ
تأتي على الناس لا تَلْوي على أحدٍ
…
حتى أتتنا وكانت دوننا مُضَرُ
إذا يُعادُ لها ذِكرٌ أكذّبُه
…
حتى أتتني بها الأنباءُ والخَبَرُ
وشرحه المتنبي، فقال
(3)
:
طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ
…
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقُه أملًا
…
شرِقتُ بالدمع حتى كاد يشرَقُ بي
ولذلك تراهم في مراثيهم يكثرون من مخاطبة الميّت، ويقولون له:"لا تبعد". وآخر مرثية أعشى باهلة السابق ذكرها:
(1)
ديوان الخنساء (402). وفيه: "وقد رابني".
(2)
القصيدة في جمهرة أشعار العرب ص 270 وما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (714). وانظر: الأصمعيات (88)، والكامل (1431)، والخزانة (1/ 191).
(3)
ديوانه مع شرح العكبري (1/ 58). [المؤلف]. الشرح المذكور لزكي الدين الأنصاري المتوفى سنة 639، انظر بحث عبد الرحمن بن إبراهيم الهليل في مجلة الدراسات اللغوية (3: 2) عدد ربيع الآخر 1422.
فإن سلكتَ سبيلًا كنتَ سالكها
…
فاذهَبْ فلا يُبْعِدَنْكَ اللهُ منتشرُ
وفي قصيدة مالك بن الريب
(1)
التي يرثي بها نفسه، وهو يجود بها، يذكر ما يقال بعده، ويتعجب من قولهم:"لا تبعد":
يقولون لا تبعَدْ وهم يدفنوني
…
وأين مكانُ البعد إلّا مكانيا
وفي مرثية أعشى باهلة مما استعمل فيه ما يدل على الحال لما مضى وانقضى:
إنّ الذي جئتَ من تثليثَ تندُبُه
…
منه السَّماحُ ومنه الجودُ والغِيَرُ
تنعى امرًا لا تُغِبُّ الحيَّ جفنتُه
…
إذا الكواكبُ خوَّى نوءَها المطرُ
وفيها:
لا تأمنُ البازلُ الكوماءُ ضربتَه
…
بالمشْرَفيِّ إذا ما اخروَّطَ السَفَرُ
قد تكظِمُ البُزْلُ منه حين يَفْجؤُها
…
حتى تقطَّعَ في أعناقها الجِرَرُ
[ص 35] أخو رغائبَ يُعطِيها ويُسْألُها
…
يأبَى الظُّلامةَ منه النَّوفَلُ الزُّفَرُ
ومنها:
يَمشي ببَيْداءَ لا يمشي بها أحدٌ
…
ولا يُحَسُّ خلا الخافي بها أثَرُ
ومنها:
أخو حُروبٍ ومِكسابٌ إذا عَدِموا
…
وفي المخافةِ منه الجِدُّ والحذَرُ
(1)
القصيدة في الجمهرة ص 285، وما بعدها، وخزانة الأدب (1/ 317 - ). [المؤلف]. انظر: الجمهرة طبعة الهاشمي (759 - 767) والخزانة طبعة هارون (2/ 203).
مِرْدى حُروبٍ شهابٌ يُستضاءُ به
…
كما أضاءَ سوادَ الطِّخيةِ القمرُ
مُهَفْهَفٌ أهضَمُ الكَشْحَينِ مُنْخرِقٌ
…
عنه القميصُ لسير الليل محتقِرُ
ضخمُ الدَّسيعةِ مِتْلافٌ أخو ثقةٍ
…
حامي الحقيقةِ منه الجودُ والفخَرُ
طاوي المصيرِ على العَزَّاءِ منجردٌ
…
بالقوم ليلةَ لاماءٌ ولا شجَرُ
لا يتأرّى لِما في القِدْر يرقُبُه
…
ولا يعَضُّ على شُرْسُوفِه الصَّفَرُ
تكفيه فِلْذَةُ لحمٍ إنْ ألَمَّ بها
…
من الشِّواء ويُروي شُرْبَه الغُمَرُ
وأفعال الاستمرار داخلة في المجاز، كأنه شبَّه ما كان فيما مضى مستمرًّا من الماضي إلى المستقبل بما هو مستمرّ في الحال بجامع ملابسة الحال والتحقق، وانضمَّ إلى ذلك حكاية الحال والإيهام، وقِسْ على ذلك.
وهكذا الصفات في هذه الأبيات، فإنّ حقّها أن تطلَق للحال كما تقدم في الفائدة التاسعة، ووقوعها مرفوعةً يردّ ما قد توهم أن الأفعال على تقدير كان، فتدبَّرْ.
ومن مراثيهم التي كثُر فيها التجوّز المذكور مرثية زياد الأعجم للمغيرة بن المهلَّب
(1)
:
قل للقوافل والغُزاة إذا غزَوا
…
لِلباكرِينَ ولِلمُجِدِّ الرائحِ
[ص 36] إن الشجاعةَ والمروءةَ ضُمِّنا
…
قبرًا بمروَ على الطريقِ الواضحِ
(1)
القصيدة في ذيل الأمالي للقالي ص 8 - 11. وبعضها في تاريخ ابن خلكان (2/ 147) في ترجمة المهلّب [طبعة إحسان عباس (5/ 354 - 355)]، وفي أمالي الشريف المرتضى (4/ 107 - 108) [طبعة أبي الفضل (2/ 199)]، والأغاني (14/ 99)، وخزانة الأدب (4/ 152) [طبعة هارون (10/ 4)]. وفي بعض الأبيات اختلاف بين الروايات. [المؤلف].
فإذا مررتَ بقبرِه فاعقِرْ به
…
كُومَ الجِلادِ وكلَّ طِرْف سابحِ فلقد يكون أخا دَمٍ وذبَائحِ
وانْضَحْ جوانب قبرِه بدمائها
ومنها:
لله درُّ منيَّةٍ فاتَتْ به
…
فلقد أراه يرُدُّ غربَ الجامِحِ
ولقد أراه مُجَفِّفًا أفراسَه
…
يغشى الأسنَّةَ فوقَ نَهْدٍ قارح
ومنها:
ولقد أراه مقدِّمًا أفراسَه
…
يُدْني مَرَاجِحَ في الوغى لِمَراجح
ويقرب من المراثي ما يقع في تحسّر الشيوخ على ماضي أعمارهم. فمنه قول الأعشى
(1)
:
ولقد أسْتَبي الفتاةَ فتعصي
…
كلَّ واشٍ يريدُ صَرْمَ حبالي
لم تكن قبلَ ذاك تلهو بغيري
…
لا ولا لهوُها حديثُ الرّجالِ
ثم أذهلتُ عقلَها ربّما يذ
…
هل عقلُ الفتاة شبهِ الهلالِ
ولقد أغتدي إذا صقع الدّيـ
…
ـكُ بمُهْرٍ مشذَّبٍ جَوّال
ثم نعت المهر إلى أن قال:
فعَدَونا بمُهْرنا إذ غَدَونا
…
قارِنِيه ببازلٍ ذَيّال
(1)
القصيدة عدّها صاحب جمهرة أشعار العرب في المعلّقات (122) فما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (321 - 344). وصاحب الجمهرة لم يسمّها "معلقات" وإنّما سمّاها "سموطًا". هذا، والأبيات المذكورة مما ألحق بقصيدة الأعشى وليست له، كما سبق في تعليقنا في (ص 152). ولم ترد الأبيات في ديوان الأعشى.
وفي آخرها:
ذاك عيشٌ شهدتُه ثم ولَّى
…
كلُّ عيشٍ مصيرُه لِلزَّوال
وقال النَّمِر بن تَوْلَب
(1)
:
لَعمري لقد أنكرتُ نفسي ورابني
…
مع الشَّيبِ أبدالي التي أتبدّلُ
[ص 37] فضولٌ أراها في أديميَ بعد ما
…
يكون كفافَ اللَّحم أو هو أفضلُ
(2)
الشاهد في قوله: "يكون".
وقال هُبَل بن عبد الله بن كنانة يذكر نفرًا قعدوا يضحكون منه بعد ما هرِمَ
(3)
:
ربَّ يومٍ قد يُرى فيه هُبَلْ
…
ذا سَوامٍ ونَوَالٍ وجَذَلْ
لا يُناجيه ولا يخلو بِهِلْ
…
عبدُ ودٍّ وجبيلٌ وحَجَلْ
وقال عبّاد بن شدّاد اليربوعي لما هرم
(4)
:
يا بؤسَ للشيخ عبّاد بن شدّادِ
…
أضحى رهينةَ بيتٍ بينَ عُوّادِ
وتهزأ العِرْسُ منّي أن رأت جسدي
…
أحدبَ لم يبق منه غيرُ أجلادِ
فإن تراني ضعيفًا قاصرًا عنقي
…
فقد أُكعكِعُ منه عَدوةَ العادي
(1)
من قصيدة في الجمهرة ص 216 فما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (531 - 542).
(2)
قوله: "أو هو أفضل" أي أو اللحم أفضل من الجلد. والبيت في المعمّرين للسجستاني (55). وفيه "أو هو أجمل".
(3)
المعمرين (26). وفيه قول أبي حاتم: "بهل" يريد: به، واللام زائدة.
(4)
المعمرين (55).
وقد أفيء بأثواب الرئيس وقد
…
أغدو على سَلْهَبٍ للوحش صيّاد
ويقع نحوه لمن فارق ما يهواه وإن لم ييأس من عوده. وقد يكون منه قول النابغة في معلقته
(1)
:
عُوجُوا فَحَيُّوا لِنُعْمٍ دمنةَ الدارِ
…
ماذا تحيُّون من نُؤْيٍ وأحجار
يقول فيها:
وقد أراني ونُعْمًا لاهيَين بِها
…
والدهرُ والعيشُ لم يَهْمُمْ بإمرار
وقد يُعطف على المضارع الاستمراري فعل ماضٍ بالفاء أو ثمّ، فيحتمل وجهين: الأول أن يكون المعنى على استمرار ماضٍ منقطع، وأطلق المضارع بدون تقييد بالماضي حكاية للحال. الثاني: أن يكون الاستمرار مطلقًا، والفعل الماضي أصله مضارع استمراري مطلق عبّر عنه [ص 38] تفنّنًا في إفادة التحقق.
فمن ذلك: البيت الذي أنشده سيبويه كما تقدم في الفائدة السابعة:
ولقد أمُرُّ على اللئيم يسُبُّني
…
فمضيتُ ثمّتَ قلتُ لا يعنيني
قال البغدادي: "وعبّر بالمضارع حكايةً للحال الماضية كما في الخصائص لابن جنّي، أو للاستمرار التجدّدي. و"مضيتُ" معطوف على
(1)
انظر: جمهرة أشعار العرب (304) فهذه القصيدة فيها من "السموط". ولكن النحاس والتبريزي أثبتا مكانها قصيدة أخرى للنابغة، وهي التي مطلعها:
يا دارَ ميّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ
…
أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وانظر: ديوان النابغة (202).
"أمرُّ" بمعنى "أمضي"، وعبّر به للدلالة على تحقّق إعراضه عنه"
(1)
.
وقوله: "حكاية للحال الماضية كما في الخصائص لابن جنّي" هو الوجه الأول على أن ذلك استمرار قد انقطع. وقوله: "أو للاستمرار
…
" هو الوجه الثاني على أن الاستمرار باقٍ، وما عطف عليه من المضي والقولِ مثله في بقاء الاستمرار، وإنما عدل إلى الماضي لأن الاستمرار يتناول المستقبل وهو محتاج إلى التحقيق، فحققه بالتعبير بالفعل الماضي، فتدبّر.
هذا، والصواب في هذا البيت هو الوجه الثاني، لأن انقطاع الاستمرار مع بقاء القائل حيًّا إنما يكون بتبدّل خلقه من الحلم إلى ضدّه، وهذا ينافي غرضه.
وقال امرؤ القيس في معلقته
(2)
:
وقد أغتدي والطيرُ في وُكناتها
…
بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكل
ثم أفاض في نعت الفرس إلى أن قال:
فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنّ نِعاجَه
…
عذارى دُوارٍ في مُلاءٍ مذيَّل
وقال قَطَريّ بن الفجاءة
(3)
:
(1)
خزانة الأدب (1/ 173). [المؤلف]. طبعة هارون (1/ 358)، وانظر قول ابن جنّي في الخصائص (3/ 332).
(2)
من معلقته في الجمهرة ص 87 فما بعدها، وهي أشهر من ذلك. [المؤلف].
(3)
القطعة في حماسة أبي تمام بشرح التبريزي. [المؤلف]. (68)، وشرح المرزوقي (1/ 136 - 138).
لايركَنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ
…
يومَ الوغى متخوِّفًا لحِمامِ
[ص 39] فلقد أراني لِلرّماح دَريئةً
…
مِن عَن يميني مرّةً وأمامي
حتى خضبتُ بما تحدَّر من دمي
…
أكنافَ سَرْجي أو عِنانَ لجامي
ثم انصرفتُ وقد أصَبتُ ولم أُصَبْ
…
جَذَعَ البصيرةِ قارحَ الإقدام
[ص 40](15) الجملة الواقعة بعد أخرى تنقسم عند النحاة إلى مستأنفة وغيرها. ومعنى استئنافها عندهم هو انقطاعها عن الأولى بالنظر إلى التركيب النحوي، هذا هو الاستئناف النحوي. قال ابن هشام:"ويخصّ البيانيّون الاستئناف بما كان جواب سؤال مقدّر"
(1)
. وهذا يقال له الاستئناف البياني، وإيضاحه كما قال السكّاكي: "أن يكون الكلام السابق بفحواه كالمورد للسؤال، فينزل ذلك منزلة الواقع، ويطلب بهذا الثاني وقوعه جوابًا له، فينقطع عن الكلام السابق لذلك. وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة: إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه عن أن يسأل، أو لئلا يسمع منه شيء، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه
…
"
(2)
.
قال عبد الرحمن: هذا وغيره من عباراتهم مع تدبر مواقع هذا الاستئناف في الكلام البليغ يوضح أنه إنما يصلح حيث يكون اقتضاءُ الجملة الأولى للسؤال الذي تكون الثانية جوابًا له اقتضاءً ظاهرًا بحيث يغلب أن من سمع الجملة الأولى متفهّمًا يعرض له في نفسه ذلك السؤال. ولهذا يكثر في القرآن أن تختم الجملة الأولى برأس آية، لأن من شأنها أن
(1)
المغني وعليه حواشي الأمير (2/ 46). [المؤلف].
(2)
مفتاح العلوم ص 110. [المؤلف].
يوقف عندها، فيستقرّ في نفس السامع ذلك السؤال ويلذعه الشوق إلى جوابه، فيقع الجواب موقعه، ويصير الكلام شبه محاورة. وللمحاورة من اللذة وموافقة النفس ما ليس في السماع المجرّد، فإنّ أحدنا إذا سمع خطبة أو محاضرة لا يجد من اللذة ما يجده للمحاورة مع الفاضل بأن تسمعه، فيعرض لك السؤال، فتسأله، فيجيبك، وهكذا. ولهذا ــ والله أعلم ــ كثر هذا الاستئناف في القرآن، لأن المحاورة الحقيقية لا تمكن فيه.
[ص 41] فمن ادعى في جملة أنها استئناف بياني احتاج أن يثبت أن الجملة التي قبلها يغلب فيمن سمعها متفهمًا أن يقع له السؤال الذي تكون الثانية جوابًا له.
ومع هذا فإنه إذا كانت الثانية بحيث يصحّ صحّةً ظاهرةً ربطُها بالأولى على معنى آخر، فالربط أولى من الاستئناف، لأن الربط هو الأصل الغالب.
16 ــ خبر المبتدأ قد يتعدّد صورةً مثل "هذا حلو حامض" أي مُزٌّ، و"زيد أعسَرُ يَسَرٌ" أي أضبَطُ. وقد يتعدد حقيقةً مثل "زيد شاعر كاتب"، ويجوز في هذا العطف "زيد شاعر وكاتب". وقد يكون الخبر جملة "ولابد لها من رابط بالمبتدأ، والغالب أن يكون ضميرًا فيها يعود عليه" مثل "زيد سافر أخوه". وقد يُكتفى بضمير في جملة أخرى مربوطةٍ بالأولى بالفاء كقولهم: "زيدٌ يَطير الذبابُ فيَغضب"، وقول الشاعر
(1)
:
(1)
هو ذو الرمّة، انظر ديوانه (460). قال ابن هشام: والبيت محتمل لأن يكون أصله: "يحسر الماء عنه"، أي "ينكشف عنه" المغني (651). وقيل: الرابط (ال) في الماء، لنيابتها عن الضمير، والأصل: ماؤه. انظر الخزانة (2/ 192).
وإنسانُ عيني يحسِرُ الماءُ تارةً
…
فيبدو وتاراتٍ يجُمُّ فيَغْرَقُ
وحقّق ابن هشام
(1)
أن هذه الفاء لمحض السببية، ليست بعاطفة، وأنها صيّرت الجملتين جملة واحدة هي الخبر.
قال عبد الرحمن: إذا قلت: "زيد يغضب إذ يطير الذباب" فجملة "يغضب" هي الخبر النحوي، لكنها لا تتمّ إلا بما بعدها؛ إذ ليس المقصود الإخبار عنه بأنه يغضب مطلقًا، فإذا عكستَ وقدّمتَ لغرض "يطير الذباب" فإنها تحتاج إلى رابط يربطها بقولك:"يغضب"، و (إذ) لا تأتي ههنا، لأنّ من شأنها أن يكون قبلها المسبب وبعدها السبب، فلهذا جعل مكانها الفاء لأنها تفيد السببية كـ (إذ)، وهي عكسها في الترتيب: يكون قبلها السبب وبعدها المسبب، فقيل:"زيد يطير الذباب فيغضب".فلا يحسن أن يقال: إن جملة "يطير الذباب"[ص 42] هي الخبر النحوي، لأنها أجنبية، ولا يمكن أن يقال: إن جملة "يغضب" هي الخبر كما لا يخفى. فتعيَّن أن يقال: إن جملة "يطير الذباب فيغضب" هي الخبر كأنه قيل: "زيدٌ طيرانُ الذباب يُغْضِبُه". ونستطيع أن نقول: إن "يطير الذباب" دخلت في الخبرية بشفاعة الفاء.
هذا، وكما يتعدد الخبر المفرد، كذلك يتعدد الخبر الجملة. وتكون تارة من باب "حلو حامض" و"أعسر يسر"، كقولك:"هذا الرمان في طعمه حلاوة، وفيه حموضة"، و"زيد يعمل بيمينه، ويعمل بيساره". وتارةً من باب "شاعر وكاتب"، كما تقول:"زيد يشعر ويكتب"، و"زيد أبوه مسافر، وعمه مقيم".
والعطف هنا هو الجادَّة في النوعين، وكل جملة من الجمل المتعاطفة
(1)
مغني اللبيب مع حواشي الأمير (2/ 700). [المؤلف]. طبعة دار الفكر (555).
تحتاج إلى رابط. وقد يجيء بعضها مثل "يطير الذباب فيغضب"، كما تقول:"زيد يؤذي الجليس، ويسيء إلى العشير، ويطير الذباب فيغضب".ولما دخلت هنا "يطير الذباب" في الخبرية بشفاعة الفاء استحقّت العطف.
هذا، وقد عرفت بدل البعض وأنه يحتاج إلى ضمير يربطه بالمبدل منه، وإنما أنبّهك على أنه قد يتعاطف بعضان فأكثر، فيكون ذلك شبيهًا بالخبر في قولك:"هذا حلو حامض"، وذلك كقولك:"أعطيته الدار ربعها وثمنها" كأنك قلت: ثلاثة أثمانها.
واعلم أن الجملة المفسّرة قد تشبه بدل البعض، فإذا قلت:"أحسنت إلى زيد: علّمته"، فجملة "علّمته" مفسرة لقولك:"أحسنت إلى زيد". وتحتاج المفسّرة هنا إلى ثلاثة أمور: الأول أن يكون فيها معنى الإحسان. الثاني كونها من فعل المتكلم. الثالث علاقتها بزيد.
وقد تتعدد الجمل فتكون شبيهة بتعدد بدل البعض أو بتعدد الجمل الخبرية [ص 43] التي هي من باب "حلو حامض". وذلك كقولك: "أحسنت إلى زيد كثيرًا: ربيّته، وأدّبته، وعلّمته، وموّلته"، فتتعاطف وتكون كل منها بحيث تصلح وحدها للتفسير كما ترى.
وقد تجيء جملة لا تصلح للتفسير، ولكنها تدخل فيه بشفاعة الفاء الرابطة لها بجملة أخرى صالحة له، على حدّ ما تقدم في الجملة الخبرية. تقول:"أحسنت إلى زيد كثيرًا: ربيّته، وعلّمته، وخاصم أقوى منه فنصرته". ونظيره: "قد علمت كيف فعل الملك ببني فلان: حبسهم، وأخافهم، وشكوتهم فعاقبهم". فقولك: "شكوتهم" لا تصلح للتفسير، ولكنها دخلت فيه بشفاعة الفاء، فعطفت بالواو كما رأيت.