المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌داء الأمة ودواؤها - مجلة الحقائق - جـ ١٨

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌داء الأمة ودواؤها

‌داء الأمة ودواؤها

لا تجد إنساناً تمتع بمواهب الإدراك في مجال حياته، وتحلى بخصائص الشعور في ميدان وجوده إلا وقد أحس بما طرأ على المسلمين من الحوادث الكبرى والكوارث المجتاحة التي انقضت عليهم من أفق المحن وعالم الرزايا فأحاطت بهم إحاطة السوار بالمعصم، والربقة بالعنق، وأخذت تطوح بهم في متاهات التقهقر ومهامه الانحطاط وترشقهم بسهام الشدائد وقذائف الأهوال. تدك صروح مجدهم التي شيدها أسلافهم وتهدم عروش عزهم التي أقامها آباؤهم وتقوض دعائم سؤددهم التي أسسها رجال دينهم حتى أصبحوا وقد تبدلت شجاعتهم جبناً وصلابتهم خوراً وقوتهم ضعفاً وشوكتهم مهانة وجرأتهم خوفاً فكأنهم خلق جديد لا قبل لهم بالذود عن حياضهم ولا الدفع عن حوزتهم ولا يستطيعون مكافحة ما يكنفهم من مكايد العدو ودسائسه ولا يقدرون على مصادمة ما يعتورهم من عوامل التأخر ومهلكاته.

طرأ عليهم داء أوقفهم عن سيرهم الطبيعي وأقعدهم عما تندفع إليه الرغبة من السعي وراء تقدمهم باستعمال الوسائل في إعزاز كلمتهم وتوسيع نطاق سلطنتهم والهيمنة على كل من قام يجاريهم في معترك هذه الحياة.

داء طالما كانت عقلاء الأمة ونصحاؤها تحذر من وقوعه وتنبه الأمة للتيقظ من مباغتته على حين غفلة من الأخذ بأسباب مدافعته حتى ألمَّ بها وهي في مراقد سباتها (ولا ينفع حذر من قدر).

شعرت النفوس كلها على اختلاف إحساسها بهذا الداء الذي سرى إلى سائر طبقاتها سرياناً عجيباً فأحدث فيها أموراً عديدة ضعفاً في قوتها الحيوية، وهناً في هيئتها الاجتماعية، خوراً في عزائمها الأدبية، ارتخاءً في روابطها الدينية، انحلالاً في عرى وحدتها المالية، إلى غير ذلك مما يدمي العيون أسىً ويمزق الأفئدة أسفاً واليوم خرجت من دور الغفوة إلى دور اليقظة فجعلت تتألم ولم تعرف من أين تسرب إليها الداء وتئن ولم تهتد إلى الدواء وتشكو ولكن إلى غير طبيب وتسير ولكن على غير هدى وتتحرك ولكن بغير نظام.

نعم كل ذلك كائن وليس من الصعب وصف عوارض العلة والإشارة لجهات الألم ومراكز السقم وإنما الصعب البحث عن تعيين العلة التي نشأ عنها هذا الألم وعن أسبابها وتحديد عواملها فإذا تعينت العلة وتحددت العوامل أمكن مكافحتها بأسلحة العلاج وحصر نفوذها في دوائرها وأخذ المسارب عليها من كل جهة حتى لا تتعدى حدودها وتبلغ نهاية استشرائها.

ص: 30

يظهر للباحث الخبير بأحوال الأمم في صعودها وهبوطها أن داءنا العام الشامل لجميع أفراد الأمة هو الجهل بأحكام الدين والتساهل في نشر تعاليمه وسببه ما نحن فيه الآن من الافتتان بمدنية أوروبا وعلومها وإلحادها وليس بهذا الافتتان معنى إلا ما حل بنا من تحلل عناصرنا وتفرق كلمتنا وتخاذلنا وتخالفنا عمّا يأمرنا به الدين.

أثرت عوامل المدنية على العواطف فحولتها وعلى المشاعر فثلمتها وعلى المدارك فضللتها حتى إلتاثت أكثر العقول بأقذارها وتسممت بسمومها فلذلك ترى غوائلها آخذذة كل يوم في الانتشار ضاربة أطنابها باسطة قبابها والناس يموجون في دياجيرها ويسبحون في زخارفها.

ساورتنا هذه الفتنة من كل مكان من جهة العقائد ببث الشبه المستعصية والإشكالات الواهية التي تبعث سفهاء الأحلام على نبذ المعتقدات ظهرياً وجعلها نسياً منسياً.

ساورتنا من جهة الدين فنفثت في روع الشبيبة أن الدين باعثه الجهل ومادته العماية عن حقائق الكون وأن الأمم الأوروبية قامت وحدتها بمنابذة الدين وأشياعه وتشتيت شمل أتباعه حتى دخل في فكر بعضهم أن الأديان الموجودة هي عبارة عن حوادث تاريخية استلزمتها أدوار خاصة وقد أدت وظيفتها وأخذت في الانحلال.

ساورتنا من جهة العلم فأكسبت عقول الشبان ما حال بينهم وبين أنوار الحق من العلوم الإلحادية التي كانت نتيجتها الجري وراء مناصبة الدين وأهله العداء ومصاولة علماء المسلمين والحط من كرامتهم (وكفى بأمة خزياً أن يكون دينها وعلماؤها عرضة لطعن الطاعنين وهدفاً لسهام الملحدين).

ساورتنا من جهة الأخلاق والعادات فنشرت بين الأمة أخلاقها السافلة وعاداتها السيئة بصورة روجتها على بعض الأذهان وطلتها على خفاف الأفئدة فانخدعوا بها وهاموا بتقليدها ومحاكاتها وغالوا في التحكك والالتصاق بما تهواه الأنفس من البذخ والترف والهرع إلى معاهد اللهو والطرب ومجامع الرقص والخلاعة تمتعاً بقانون الحرية وتمسكاً بالعادات الأوروبية.

ساورتنا من جهة الزي بمموهات زينتها وزخارف مخترعاتها بما يأخذ بالألباب من تلوين الأواني وتزويق الألبسة والتفنن في صنوف الزينة.

ص: 31

ساورتنا من جهة اللغات بفتح المدارس الأجنبية في بلادنا وتكبد النفقات الطائلة عليها وما ذلك إلا لنشر اللغات والعادات الأجنبية بيننا تسهيلاً لتحليل عناصرنا وروماً لتغيير آدابنا الإسلامية وخصائصنا القومية لما تقرر أن اللغة تؤثر في الآداب والأخلاق والعادات وهي العامل القوي في استمالة القلوب وجذب النفوس.

من هنا يرى المفكر البصير أن جميع ما اعترى المسلمين من الأدواء مثاره مداهمة الفتنة الغربية المنصبة علينا من سائر الجهات وهذه الأدواء كلها ليست في الحقيقة إلا إعراضاً تترآى للناظر في صورة الأمراض والعلل وهي ناتجة من داء واحد متأصل وهو داء جهل بإحكام دينها وأصول العقائد الحقة وعدم تمسكها بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثر سلفها الصالح وما دامت الأمة متلبسة بالجهل متساهلة عما يأمر به الدين الإسلامي فلا ينجع في معالجتها طب طبيب ولا يفيد في انتشالها من هاوية التأخر ترغيب ولا ترهيب فلا دواء لها إلا جمعها على العقائد الصحيحة وردها إلى الكتاب والسنة الذين في اتباعهما قوام حياتها وانتظام شؤونها وشفاء أسقامها ودواء أدرائها وجمع كلمتها المتفرقة ولم شتاتها.

روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم إني قد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه.

في هذا الحديث دلالة ظاهرة على أننا ما دمنا متمسكين بالكتاب والسنة فلن يتطرق إلينا ما يهوي بنا إلى حضيض الخيبة والخسران ويدهورنا في متاهات التقهقر والخذلان.

وصفوة القول أننا أمة قامت بالدين واعتزت بالإيمان واليقين وفازت بما وعدها الله تعالى في كتابه من الاستخلاف في الأرض والعز والنصر والسعادة والنجاح. ومهما نبتغي العز والنهوض والفلاح بغير الوجهة التي أرشدنا الله إليها والطريقة التي أمرنا الله ورسوله باتباعها فيكون مجهودنا ضائعاً سدى وذاهباً عبثاً. وكل طبيب أراد أن يعالجنا من غير الوجهة الدينية التي هي رابطتنا الأصلية فلا يصادف دواؤه المرض الحقيقي ولا أعراضه الحقيقية فردنا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم دواء لاستئصال جراثيم

ص: 32

دائنا وأكبر علاج لاجتثاث شأفة علتنا.

ص: 33