المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جوابنا عن التمثيل - مجلة الحقائق - جـ ١٨

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌جوابنا عن التمثيل

‌جوابنا عن التمثيل

كنا نود أن لا نزيد على ما نشرناه من قبل في الأجزاء 3 و 4 و 5 و 6 بأقلام علماء الدين، وأفاضل المحققين لولا أن سبق منا في الجزء 2 ص 70 وعد اضطرنا الوفاء به إلى كتابة ما يأتي، ونحن على علم بأن جميع ما كتب في هذا الموضوع على نضجه ومتانة أدلته، وتوافق علماء الشريعة عليه قد لا يجدي بعض المتعنتين من عشاق التمثيل الذين يظهر لهم الحق بأجلى مظاهره فيعرضون عنه. ويلوون رؤوسهم دون اتباعه ذلك لما نشئوا عليه من حب التفرنج والجهل بالدين، والميل إلى كل جديد، وإن أضر بالأدب وقضى على الشرف والأخلاق، ولولا هذه البدعة المنكرة التمثيل بين العامة وميلهم إليها بعد أن كانوا ينفرون منها ويبتذلونها أيام كانت خاصة في أمكنة الفسوق، ومحال اللهو والخلاعة لكان الأجدر بنا إرتاج باب هذا الموضوع وعدم الخوض فيه. ولكن دعت الحاجة إلى الكتابة فيه لما انتقل إلى بيوت العلم المدارس وأخذ أنصاره يغررون بالعامة ويوهمونهم أنه من مثقفات العقول، ومهذبات الأخلاق. التمثيل المبحوث عنه هو عبارة عن تشبيه أشخاص بآخرين بالحركات والهيئات والأقوال والأفعال والألبسة والأزياء والكنى والأسماء والرتب والوظائف والأوصاف فيشمل ذلك المسلم والكافر والذكر والأنثى بالصدق والكذب، والقصد الحسن والسيء. التمثيل إذا اشتمل على لعن أو سباب أو منابزة أو سخرية أو تبختر أو عتو أو تكسر أو تلو أو تخنث بالحركة أو الصوت أو إسراف في الأموال أو تضييع لبعض الصلوات أو هيئة الشربة أو الظلمة أو مرد لا يؤمن من النظر إليهم أو نساء مطلقاً أو تشبه بهن أو آلات طرب محرمة أو لبس لزنار أو قبعة الكفرة أو ركوع أو سجود أو إشهار سيف على مسلم أو تهديده به أو لبس نحو حرير أو إضرار بأحد معين. فلا خلاف حتى عند القائلين بجواز الأدبي منه في منعه والقول بوجوب إزالته على كل قادر لوجود المنكرات المتقدمة كلها أو بعضها فيه مما هو ظاهر المخالفة للشرع وتعاليمه.

نعم إنما الخلاف بين علماء الدين وبين مخالفيهم من أنصار التمثيل فيما إذا تجرد من جميع ذلك وهو ما يسمونه التمثيل الأدبي بزعمهم وليت شعري هل يتصور عاقل خلو التمثيل عن المنكرات وهو هو الأمر البدعي الذي لا يحكم بجودته إلا إذا امتلأ غيبة وكذباً ومنكرات ومفاسد وبولغ فيه بمدح أو قدح من لا يعرف من أمره غير ما يتقوله عليه مخترعوا الروايات وبعض المؤرخين.

ص: 21

إن البراهين التي تؤيد بها الباحثون أبحاثهم ويثبت بها العلماء حججهم كثيرة جداً وأعلاها وأقومها بالاتفاق المشاهدة. فهل شوهد أن تمثيلاً خلال عن منكرات حظرها الشرع، وحكم بفسادها العقل السليم؟ سؤال نطلب الجواب عليه من أنصار التمثيل وحماته، بل من كل من شاهد تمثيلاً في حياته، يكفينا أيها الناس ماحل بنا من التقاليد الأوروبية ألم يقنعكم أن تفرنج الناس في الألبسة والأطعمة والكلام والقيام والمسكن والمنزل والتجارة والتربية والأخلاق والعادات واللغات حتى جئتم اليوم تحببون إليهم هذه البدعة المنكرة التمثيل لتقضوا بذلك على ما بقي بأيديهم من النذر اليسير من الأخلاق والعادات. إن كان قصدكم بهذا إصلاح الأمة فاعلموا أن الأمة لا تصلح بتقليد الإفرنجة واتباع عاداتهم إذ فرق بين إلحادي وديني ومتشرع ودهري. ولا صلاح لمن يعتقد أن وراء هذه الحياة حياة أبدية باقية إلا باتباع دينه والوقوف أمام حدوده وليس للغربيين أخلاق وعادات يجب أن نحسدهم عليها ونوافقهم على الأخذ بها. وفيما جاء به الشرع والدين هداية وكفاية للمستبصرين. على أنا لو سلمنا بخلو التمثيل عما تقدم من المنكرات السالفة هل يتصور خلوه عن الغيبة والكذب وتغيير الخلق؟.

يقول أنصار التمثيل نعم فيما إذا كان أدبياً محضاً لا يقصد منه غير تهذيب الأخلاق وتنمية العقول وما يحصل فيه من الكذب والغيبة مغتفر للحاجة ونحن نقول في الجواب أن هذا قول من لم يضرب بالعلم بسهم ولم يأخذ منه بنصيب. ويشبه أن يكون قول متعنت غلب عليه حب البدعة، وخامر عقله الانتصار للشهوة. ذلك لأن الغيبة والكذب من الكبائر الحرمة التي جاء نص الكتاب المجيد بتحريمها أبدياً، وتوافق على ذلك المسلمون خلفاً عن سلف فلا يباحان لمطلق أمر، ولا يحلان لشبهة حاجة، ولذا قال العلماء رضي الله عنهم المرخص في ذكر مساوئ الغير لا بد وأن يكون غرضاً صحيحاً في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به. فهل لا يمكن التوصل لما يقصده أنصار التمثيل من (الإصلاح) إلا به؟ سؤال يجب على كل ذي نصفة تدبيره وتأمله ثم الجواب عنه بما يوحيه إليه الحق وصفاء القلب الخالي عن شوائب التعنت والإغراض: اللهم إنك تشهد أن زمن الجاهلية زمن المؤُودة زمن السلب والنهب كان مجمع الشر والفساد وأن رسولك محمداً صلى الله عليه وسلم تمكن من هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وجعلهم أرقى أمم

ص: 22

الأرض حضارة ومدنية وأدباً وأخلاقاً وتقدماً ورقياً بغير تمثيل رواية ولا تشخيص كوميدة (تياترو) وتشهد أن خليفته الأول سيدنا أبا بكر رضي الله عنه سار بالناس سيرة حسنة وشيد لهذا الدين صرحاً لا تزعزعه الأيام من غير أن يشخص رضي الله عنه رواية أو ينزل في مسرح من مسارحها وأن خليفته عمر ومن بعده من الصحابة رضي الله عنهم نهجوا هذا المنهج السديد واقتفوا هذا الأثر الحميد من غير تشخيص روايات ولا تمثيل حكايات وأن من بعدهم من أمراء المؤمنين والملوك العادلين والعلماء العارفين عمروا الأرض وفتحوا البلاد ولم ينصبوا مسرحاً ولم يمثلوا رواية مع أنه كان موجوداً مخترعاً حتى قبل زمنهم بكذا كذا مئات السنين. وإذا ثبت أنه يمكن التوصل إلى إصلاح الأمة بغير التمثيل فيجب منعه ويتحتم القول بتركه وما يقال كما سبق من أنه يمكن أن يوجد تمثيل بلا غيبة ولا كذب مردود بأن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء في نسبه أو بدنه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه وسواء التصريح بذلك باللسان أو التعريض به بالإشارة أو الإيماء أو الغمز أو اللمز أو الكتابة أو الحركة أو كل ما يفهم المقصود. وسواء غيبة الميت والحي والواحد والجماعة المذكورين بأوصافهم وأسمائهم وأزمنتهم وأمكنتهم وعلى هذا لا يخلو الممثل من أن يكون حياً أو ميتاً واحداً معلوماً أو جماعة موصوفين بما تقدم وغيبة الكل محرمة يجب اجتنابها فالتمثيل المؤدي إليها يجب اجتنابه. ودعوى أن ذلك يعد غيبة حيث ذكر الممثلون بما فيهم الغير نقصانهم بخلاف ما إذا ذكروا على وجه يفصح عن مدحهم ليقتدي بهم غيرهم وذكر طائفة من الحريين بما لهم من القبائح السيئة والأعمال الفادحة لتجتنب فلا يعد ذلك غيبة مردودة بأن الأحكام الشرعية عامة وليست إلى ذاته تطلب أن يكون ذلك عاماً وحكم به على جميع الناس. إن كراهة الإنسان تمثيل هيئته وحركته ولباسه وكلامه وأمره ونهيه وعمله كله أمر ظاهر ما نظن أن له منكراً اللهم إلا إذا كان من أنصار التمثيل وأشياعه. بقى ما إذا كان الممثلون غربيين فقط فيمتنع التمثيل والتشبه بهم أيضاً من حيث الكذب إذ أن الممثل يدعي أن اسمه نلسن أو بلوشر وأنه قام قومته، وفعل فعلته، و. و. و. الخ وذلك كله كما لا يخفى كذب صراح، والكذب كما يكون بالقول يكون أيضاً بالفعل، وليس هذا من الكذب المباح فقد نص العلماء رضي الله عنهم على أن الكذب لا يباح إلا لضرورة داعية بحيث لو صدق لتولد عنه محذور وينبغي حينئذ

ص: 23

أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب. وإن كان ذلك المقصود هو مقصود الصدق فيجب الصدق قالوا رضي الله عنهم. وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب يباح لضرورة دعت أو حاجة مهمة آلمت فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه. قالوا ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ويتطرق إلى ذلك غرور كبير فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه وإنما يتعلل ظاهراً بالإصلاح فلهذا يكتب عليه. وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا وذلك غامض جداً والحزم تركه إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه كما إذا كان الصدق يؤدي إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كبيرة يتسبب منها الانحلال عن ربقة الدين. والحاصل أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح. فهل التمثيل من هذا القبيل؟ وهل لا يمكن التوصل إلى تهذيب الأخلاق إلا به؟ اللهم علمنا ما ينفعنا، وباعد بيننا وبين شهواتنا. ربما يقول بعضهم ما هو الفرق بين كذب مقامات الحريري وبين الكذب في التمثيل وبين الغيبة فيه والغيبة في كتب التاريخ ولم حرمتم ذلك في التمثيل دون المقامات وكتب التاريخ. والجواب عن ذلك أن قياس التمثيل على مقامات الحريري قياس مع الفارق إذ أن كذب ما في المقامات على خلاف فيه بين العلماء كذب قولي مجرد بخلاف كذب التمثيل فإنه اقترن فيه تشبيه وأعمال وهيئات وحركات وأيضاً كذب ما في المقامات مضى عليه أكثر من 700 سنة ولم ينشأ عنه مفسدة أو مضرة لا في الدين ولا في الآداب بخلاف كذب التمثيل فإنه نشأ عنه مفاسد ومضار أودت بخراب كثير من بيوتات الشرف والمجد. ويكفي أن الشاب والشابة في بعض البلدان إذا أرادا الاقتران لا يجدان مجمعاً غير مسارح التمثيل. وأيضاً ما في المقامات أقره كثير من علماء الدين وأنى لنا بأمثالهم اليوم وقد وردت فتاوي العلماء من كل صوب وحدب في منع التمثيل. وكون الغيبة التي جاء نص الكتاب العزيز بتحريمها وأجمع على ذلك المسلمون حلالاً المؤرخين مما لم يسمع نظيره ولا يصح. وما الموجب لاستثناء

ص: 24

المؤرخين من حرمة الغيبة وأي ضرورة تدعو إلى ذلك؟ نعم أباح العلماء رضي الله عنهم ذلك للمحدثين لمعرفة صحيح الأحاديث وفاسدها المتوقف عليهما أمر الدين وماذا يتوقف على عدم الغيبة في كتب التاريخ؟ والذي نعتقده أن المؤرخ إذا لم تدعو لذكره بعض الناس بسوء ضرورة مبيحة فكلامه داخل في الغيبة كما قال ذلك حجة الإسلام الغزالي ونص عبارته وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين. وذكر المصنف شخصاً معيناً وتهجين كلامه في الكتاب غيبة إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره أهـ.

فثبت بهذا التمثيل إذا فرض خلوه عن جميع ما قدمناه من المنكرات لا يتصور خلوه عن الكذب والغيبة وهما محظوران فالتمثيل محظور على أنه لو لم يظهر وجه لحظر التمثيل لا يمكن أن يظهر وجه لحله فيجب أن يرجع بالأمر إلى التوقف ومعلوم حال المتوقف فيه شرعاً. هذا ولو لم يكن في التمثيل إلا أنه خوض في الباطل لكفى ذلك في وجوب منعه قال في الإحياء (الآفة الثالثة الخوض في الباطل) وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام أهـ كلام حجة الإسلام الغزالي وهو كما يرى المنصف منطبق تمام الانطباق على التمثيل والروايات فهل يرضى به ويعده حجة المعارضون وهل بعد هذا تردد لمتردد أو ريبة لمرتاب؟

نسأل الله أن يجنبنا الغرور، ويبعدنا من الشرور، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والحمد لله وكفى. وصلى الله وسلم على كل عبد مصطفى.

ص: 25