المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المسلمون والأخلاق خلق الله الإنسان ذا فكر وتمييز ومنحه من القوى - مجلة الحقائق - جـ ١٨

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌المسلمون والأخلاق خلق الله الإنسان ذا فكر وتمييز ومنحه من القوى

‌المسلمون والأخلاق

خلق الله الإنسان ذا فكر وتمييز ومنحه من القوى والملكات ما يهيئه للتدرج في مدارج الكمال ويسوقه للتربع على منصات السعادة.

فهو أبداً يحب من الأمور أفضلها، ومن المراتب أشرفها، إن لم يعدل عن التمييز في اختياره، ولم يغلبه هواه في اتباع شهواته.

أولى ما اختاره الإنسان لنفسه، السعي وراء كماله وسعادته ولا يتأتى له ذلك إلا أن يكون مرتاضاً بالأخلاق الفاضلة متجافياً عن السفاسف الساقطة آخذاً في جميع أحواله بأسباب الفضائل عادلاً في كل أعماله عن طرق الرذائل ولا شبهة في أن الإنسان لا يعدم في سائر أحواله خاصة التمييز بين الفضيلة والرذيلة ولا يفقد صفة الانجذاب إلى الكمال حيث يراه، والنفوس وإن كانت تتفاوت مراتبها في هذه الخاصية وتتفاضل احساساتها في تلك الصفة إلا أن الكمال في ذاته قوة جذابة تؤثر في الفؤاد الإنساني تأثيراً يدفعه إلى اكتساب كل شيمة وفضيلة واجتناب كل خصلة رذيلة حتى يبلغ بتهذيب أخلاقه ودماثة شمائله شأواً سامياً يجعل له في سجل الكمال أثراً عظيماً، وفي حديقة المعالي صرحاً مشيداً.

نعم قد يوجد في بعض أفراد الناس من لا يقبل طبعه الأخلاق الفاضلة والشمائل السامية لسوء تربيته وعدم تهذيبه وتغلب الصفات البهيمية والشهوات الوحشية عليه فلا تهمه الفضائل ولا يبالي بما صدر عنه من ضروب الدناءة وأصناف الرذائل فتراه متسماً بالأخلاق المذمومة كالكذب والغش والخداع واللؤم والنفاق والغدر والاحتيال والخيانة والظلم وغير ذلك مما يطفئ نور الإنسانية ويشوش نظام الاجتماع البشري فمثل هذا يقضي حياته في تعاسة وشقاء وخسر وخذلان فهو ككتلة مادية ذات صورة إنسانية فلندعه وشأنه فإنه يصعب نجاحه ويعسر إصلاحه.

ولنوجه كلامنا إلى من يحس بمكارم الأخلاق ويتلهف للوصول إلى غايتها ويشعر بمحاسن الآداب فإنك تراه يدرك أن الفضائل عماد طيب حياته، ورغد عيشه وإن الرذائل أسباب شقائه وسوء حاله فهو مدفوع إلى قانون أخلاقي يميز به الرذيلة من الفضيلة ليتجلى عن الأولى ويتحلى بالثانية.

إن الأخلاق الفاضلة مناط سعادة الإنسان وهي أقوى عامل على تهذيب النفوس وتطهيرها من دنس الرذائل وأكبر دافع إلى التسابق لغايات المجد ومستوى الشرف، ثمراتها إعراض

ص: 12

عن اللغو، عفة في النفس، أداء للأمانة، رعاية للعهد، نطق بحكمة، صمت عن فضول، اصطبار على مكروه، رفق بالضعيف، حلم عند الغضب.

هذه صفحات التاريخ تشهد أن ما من أمة تدرجت في مدارج المدنية وترقت في أوج السعادة فنشرت جناح سلطانها على الأرض واستخضعت لمنافعها قوى الطبيعة إلا بالأخلاق الفاضلة كالعدل والصدق والأمانة والشجاعة وغيرها كما تشهد أن ما من أمة انحدرت من شاهق مجدها وانحلت عروة مجتمعها إلا بتطرق الفساد إلى أخلاقها وفشو الرذائل بين طبقاتها كالظلم والخيانة واللؤم والنفاق إلى غير ذلك من الأخلاق السافلة.

هذه قاعدة أصبحت بحكم القواعد الطبيعية في هذا الوجود البشري فكلما ترقت أمة فإنما تترقى بترقي الأخلاق وكلما تدنت أمة فإنها تتدنى بتدني الأخلاق كما ثبت ذلك باستقراء علماء العمران وإليه يشير القرآن العظيم بقوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فحق عليها القول فدمرناها تدميراً).

انظر إلى دولة الرومان كيف بلغت ما بلغت من العظمة والرفعة أيام كانت الأخلاق الفاضلة منتشرة فيها، عزيزة عليها، محبوبة لديها، فلما منيت ببعض الفجرة من فلاسفتها الذين أخذوا يهدمون أركان الأخلاق الفاضلة ويدكون صروح الآداب السامية لم يمر عليها (وهي دولة العلم والمجد في زمانها) بضع عشرات من السنين حتى انهدم بناؤها وتداعى عمرانها وتغلغل في أحشائها أقوام كانوا السبب في تلاشيها واستيلاء الأغيار عليها. وانظر إلى الدولة الإسلامية كيف كانت في إبان ظهورها لما اتخذت الأخلاق الفاضلة مرجعاً لفخارها وأصلاً لمجدها وسؤددها ودرأ لأدوائها ووزنت الأمور بقسطاس دينهم (وهو قسطاس العدل المستقيم) استقامت على الصراط الأعدل والمنهاج الأقوم.

ثم لم يلبث المسلمون ثمانين سنة (وهم على هذا السير المستقيم) حتى صاروا خلفاء الله في أرضه، كلمتهم العليا، وصراطهم الأبلج، ترتعد الملوك عند ذكر سلطانهم، وتهتز العروش خوفاً من نفوذهم، يقيمون حدود الله تعالى، قد ملئت بأنوار الحق قلوبهم، وتشبعت من روح الفضائل جوانحهم، ولم يلفتهم عن خطتهم ما عاينوه من المظاهر الفاتنة والأخلاق الفاسدة في مدينتي الفرس والرومان بل ترفعوا عما فيها من الجراثيم المفسدة للفضائل، القاتلة للعواطف وقابلوها بأفئدة ملئت ديناً وحكمة، وعرفت معنى الحياة الصالحة، واطمأنت إلى

ص: 13

ما وعدها الله به في كتابه العزيز من السعادة الحقة والكمال الخالص حيث قالب (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) الآية ثم لم يزل المسلمون في ترق وصعود كما دلت على ذلك آثارهم العظيمة، وأعمالهم الجليلة، حتى احتك الغربيون بالشرقيين فحدثت أمور أفضت بالمسلمين إلى ما هم عليه من الانحطاط والتأخر.

تسرب داء التفرنج الذي حمل إلينا من أوربا باسم المدنية الغربية وأخذ يعشش في قلوب الشبيبة الإسلامية ويتلون لأعين العوام بما يؤثر عليها ألا ترى إلى كثير من العامة اليوم بعد أن كانوا يلتفون في حلقات الذكر ويصطفون في مجالس العلم ويهرعون إلى المساجد زمراً زمراً لأداء الصلوات وإقامة شعائر الدين صاروا يتحلقون في الحانات حول الصهباء ويحتفون في المنتديات بالراقصات ومسارح الخلاعة أكثر الليل ويتسارعون لاستماع آلات اللهو والطرب وحضور مواطن الفسق.

أليس هذا من آثار ذاك الداء الفتاك الذي سرى إلى كثير من شبيبتنا الإسلامية ودار على محاور عقولها وجرى على مخالج أفكارها فتلوثت بأقذاره وتسممت بسمومه فاستبدلت الرذائل بالفضائل والوقاحة بالحياء والدناءة بالشهامة والذل بالعز والشقاوة بالسعادة.

ومن عظيم ما أثر على الأمة الإسلامية أنها بليت بكتَّاب فقدوا رشدهم من سحر هذه المدنية الغربية وزاغت قلوبهم من مموهات زخارفها فنفثوا في روع الأمة اليأس والقنوط من استرجاع عزها واسترداد مجدها وقتلوا كل عاطفة شريفة وفضيلة كريمة.

تالله أن كتاباً هذا شأنهم وذلك دأبهم لا يتصور أن يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حلّ بأمتهم ولا ضيقاً مما ينتابها لبعدهم عن أخلاق دينهم وانسلاخهم عم وطنيتهم.

فيا عقلاء الأمة اصرفوا عنان همتكم وواصلوا الدأب والجد والاجتهاد في إنقاذ أمتكم من هذه الأوضار وبينوا لها الأسباب التي أوصلتها إلى هذه الحالة التعيسة ومهدوا لها سبل الارتقاء عن دركات الانحطاط إلى ذرى السعادة الأبدية واسعوا في تهذيب أخلاقها وتثقيف عقولها وارتفاع مجدها بنشر الفضائل والكمالات فإن أمتكم هي الأمة التي قامت بمدنية العالم بأسره وامتدت سطوتها وسلطتها إلى ما شاء الله من أنحاء المعمور فإن الله تعالى يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين).

ص: 14