المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين الإسلامي والتوحيد - مجلة الحقائق - جـ ١٩

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الدين الإسلامي والتوحيد

‌الدين الإسلامي والتوحيد

12

بعثة محمد عليه الصلاة والسلام

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

دلت الآيات وشهدت الآثار أن الأمة العربية كانت قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الدين والعلم وطرق الوصول إليهما في جاهلية جهلاء، وغواية عمياء، لا دين يهذب طباعهم، ولا رابطة تجمع كلمتهم دأبهم الحروب وشن الغارات، وديدنهم التعدي والبغي وسفك الدماء، إن شارفتهم مكن جهة الاجتماع رأيتهم على غاية من الهمجية لا عهد لهم بنظام ولا استعداد لهم لؤآم وإن لحظتهم من وجهة العلم وجدتهم على نهاية من الجهالة والضلالة، وقد انقسموا إلى قبائل شتى، وشعوب عديدة، كلها متوارثة الأحقاد متأصلة الضغائن، والسبب في ذلك أنه لما طال بهم الأمد وبعدوا عن زمن النبوة خيم عليهم الجهل، وعصفت عليهم عواصف الغواية وأعاصير الأهواء وجروا على شهوات أنفسهم، واتبعوا كل ناعق، وفسدت أخلاقهم حتى كانوا يقتلون بناتهم تخلصاً من وصمة العار أو خشية الإملاق. ومنهم من بلغ به الحمق وسخافة العقل فصنع صنماً من الحلوى ثم عبده فلما اشتد به الجوع أكله.

وبالجملة كان جو العالم الأرضي متلبداً بسحب الاضطرابات والأباطيل فكان من رحمة الله وكمال لطفه بأولئك الأقوام أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم أزكاهم محتداً وأرجحهم عقلاً وأوفرهم علماً وأقواهم يقيناً وعزماً وأشدهم رأفة ورحمة. اصطفاه لحمل أمانته والقيام بتبليغ أمره ونهيه يردهم عن غوايتهم ويوقظهم من غفلتهم ويبين لهم ما اختلفت عليه عقولهم. يجمع شتاتهم ويرأب صدعهم، يصلح خللهم ويقيميهم على الصراط الأعدل والمنهج الأقوم.

أرسل الله خاتم أنبيائه إلى الناس كافة في الحين الذي بلغ فيه جوهر الإنساني نموه وتبينت أشخاص الفضائل والكمالات وذلك عند ما بلغ من العمر أربعين سنة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان ولم يكن في عصره من قاربه في فضله، ولا من داناه في كماله

ص: 1

خلقاً وخُلقاً وقولاً وفعلاً وكرماً وشرفاً وحسباً ونسباً بل كان عليه الصلاة والسلام المثال الكامل الجامع لأشتات الفضائل والسجايا، الشامل لمتفرقات المواهب والمزايا.

قال العالم الاجتماعي فريد بك وجدي إن تخيلت الملوك في عروشها والقياصر في أبهتها رأيت أنه عليه الصلاة والسلام أعلاهم في السيادة كعباً وأعطفهم على رعيته وأشدهم على أعدائه صولة وأقواهم عليهم شوكة وإن تخيلت القواد وسط كتائبها وغطاريف الحرب بين صفوفها رأيته صلى الله عليه وسلم أشدهم لها مراساً وأقواهم في هيجائها بأساً وأسرعهم في إدارة رحاها يداً وأرحمهم في إصلاء لظاها أسلوباً وإن تخيلت الفرسان في ثبات جأشها والشجعان في جلد أفئدتها رأيته صلى الله عليه وسلم أصبرهم في غمراتها وأجلدهم في هياجها وأطعنهم بالرمح في صفوفها وأضربهم بالسيف في نحور فرسانها وإن تخيلت الفلاسفة في حكمتها والمتشرعين في دقة نظرها في أدواء الأمم وعلاجها رأيته صلة الله عليه وسلم أحكم العالم قولاً وعملاً وأنفذ في علل الأمم وطبها نظراتً وإن تخيلت الشعراء في سعة خيالها وسبحها في بحار الابتكار وغوصها رأيته صلى الله عليه وسلم أبعد منهم في مجال وصف الحقائق مرمى وأكثر منهم لشوارد المعاني المبتكرة إصابة وإن تخيلت الخطباء في منابرها وهي تخلب الأفئدة بسحرها وتأسر الألباب ببيانها رأيته صلى الله عليه وسلم أحسنهم بضروب الكلام علماً وأكثرهم لأفئدة سامعيه أسراً وإن تخيلت الزهاد في صوامعها والعباد في محاريبها رأيته صلى الله عليه وسلم في الزهد صاحب العلم الأرفع والمقام الأول والعبادة النموذج الأكمل والمثال الأجمل.

من أي جهة نظرت إلى سيد العالمين رأيته فيها نسيج وحده ووحيد عالمه فاق كل فائق في صفته وبز كل سابق في خاصيته وفات كل ذي كمال في كماله الخ ما قاله ذلك الكاتب الكبير وهو قليل من كثير مما منحه الله تعالى لهذا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فقد أوتي من الحكم البالغة والعلوم الباهرة والسياسة العادلة ما بهر العقول وأخذ بالألباب وهو مع هذا أمي لا يقرأ كتاباً ولا يخطه بيمينه وقد نشأ في قوم أميين في بلد ليس فيها عالم يعرف أخبار الماضيين وسير الأوليين. ما هذا إلا موهبة إلهية ووحي سماوي (وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً).

كم فتح الله ببعثته أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً ونجى به نفوساً هلكى وأرواحاً غرقى

ص: 2

وهدى به بعد الضلالة وعلم به بعد الجهالة ورفع به بعد الخمول وألف به بين قلوب مختلفة وأمم مفترقة.

قام صلى الله عليه وسلم وحيداً في أمته فريداً في أسرته لا مرشد له ولا نصير ولا عضد ولا ظهير حاملاً إلى الناس تعاليم ربه (قرآناً عربياً غير ذي عوج) داعياً إلى دين الله الأقوم وناموسه الأعظم آمراً بما يتكفل بنجاحهم في الدارين ويأخذ بهم إلى مصاعد السعادة ومعارج العز والرفعة ناهياً لهم عما يسوقهم إلى الخيبة والخسران ويقودهم إلى الذل والهوان ملزماً لهم بالاعتراف بمعبود واحد والاستكانة لسلطانه والرضوخ لأحكامه.

عز على عبدة الأوثان وضعاف الأحلام ما يدعوهم إليه من عبادة الله تعالى ونبذ المعتقدات الفاسدة والعادات السيئة وكبر عليهم تسفيه أحلامهم وتضليل آرائهم فنابذوه وجادلوه وحاربوه وكافحوه ولم يتركوا أسلوباً من أساليب المقاومة إلَاّ أتوا به لإحباط سعيه وإبطال دعوته كما هو مبين في كتب التواريخ والسيرة النبوية فقال له ربه سبحانه وهو أعلم به (قل يا آيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين).

ثم جرهم منهج المجادلة إلى طلب الحجة والبرهان على صدق دعواه فكان عليه الصلاة والسلام ينصب لهم الدلائل ويجيب في المقترحات كل سائل ويقيم الحجج والبراهين ويأتي بالمعجزات الباهرة الدالة على صدق دعواه كما وصل إلينا ذلك بطريق التواتر. ومن أعظم المعجزات التي استند إليها في إثبات دعواه القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كتاب أحكمت آياته، وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول وظهرت فصاحته على كل مقول فلم يستطع أحد معارضته ولم يهتدوا إلى مثله في جزلته ومتانة ألفاظه وحسن نظمه وإيجازه مع جهدهم واستنفاذ ما عندهم في إخفاء ظهوره وإطفاء نوره (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

فما كان في وسع عظمائهم وفصحائهم إلا أن انقادوا إليه واجتمعوا عليه وهجروا لأجله بلادهم وأوطانهم وجفوا في محبته قومهم وعشائرهم وبذلوا في نصرته مهجهم وأرواحهم

ص: 3

ونصبوا وجوههم لوقع السيوف في إعزاز كلمته بلا دنيا بسطها لهم ولا أموال أفاضها عليهم ولا غرض في العاجل أطمعهم في نيله يرجونه فهل تتم هذه الأمور لغير نبي؟ أو تتصور لمن ليس له عون رباني ومدد إلهي؟.

كيف يعلل الملحد هذا التأثير الهائل الذي لم يسبق مثله ولم يحفظ نظيره والتاريخ أكبر شاهد وحوادث الكون أعدل ناطق.

ألا يخجل المكذب برسالته صلى الله عليه وسلم من أن يتهم نواميس الحكمة الوجودية وقوانين الحياة الإنسانية بهذه التهمة الباطلة.

هل عهد الناس أن الحكمة الإلهية تؤيد المبطلين وتقر المتقولين وتعلو برؤوسهم فوق الرؤوس أجمعين؟.

هل عهد الناس أم العدالة الإلهية تنصر المدعين للرسالة وترفعه من شأنهم حتى يسود دينهم على سائر الأديان ويبقى حجة قائمة إلى الآن؟.

الله أكبر إذا تشكك الإنسان في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فبأي رسالة بعدها يصدق؟ وبأي رسول غيره يؤمن؟ رسول أيدته الحوادث وشهدت له الوقائع وأقام الوجود له من دلائل الشهود مالا يسع العقل إنكاره ولا يسوغ للبصيرة جحوده فبأي حيلة يجحده الجاحد؟ وبأي جسارة يكذبه المكابر؟ من ينكر أنه عليه الصلاة والسلام أقرب الأنبياء إلينا عهداً؟ وأقواله وأفعاله وأحواله وسيرته محفوظة في الصدور والسطور تناقلتها الأمم عن الأمم من عهد مبعثه إلى اليوم ومن شاء التفضيل فليراجع كتب الشمائل والسيرة.

وفي الأحياء للغزالي بعد ذكر من شمائله وأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم فأعظم بغباوة من ينظر في أحواله صلى الله عليه وسلم ثم في أقواله ثم في أفعاله ثم في أخلاقه ثم في معجزاته ثم في استمرار شرعه إلى الآن ثم في انتشاره في أقطار العالم ثم في إذعان ملوك الأرض له في عصره وبعد عصره مع ضعفه ويتمه ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه وما أعظم توفيق من آمن به وصدقه واتبعه في كل ما ورد وصدر أهـ فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للاقتداء به بمنه وسعة جوده. يتبع

ص: 4