الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حادثة بيروت
إلى متى ونحن غافلون؟
تحل بنا المصائب، وتنتابنا النوائب، وتتقاذفنا البلايا من كل جانب، تعبث بنا الأيدي الأجنبية، وتتداخل في شؤوننا، وتستعمر أكثر بلادنا، وترمي العداء فيما بيننا، وتجعلنا شيعاً وأحزاباً وتخدعنا بزخرف أقوالها، وكاذب وعودها، حتى تحصل على مبتغاها منا تدفع بعضنا ليسحق البعض الآخر فنقتتل ونتطاحن بالسيوف فتهلك الرجال وتخرب البلاد، تستنزف ثروتنا، وتقبض على زمام تجارتنا، وتزيف صناعتنا، وتفسد أخلاقنا، وتنتهك حرمات آدابنا، وتميت عاطفة أولادنا، ووطنية شبابنا، وتجتهد في إضعاف شوكتنا، والحط من كرامتنا، ومحو تعاليم ديننا تحاربنا بجميع أنواع الحرب، وتقتل شيوخنا وصبياننا، وتقذفنا بقذائفها وترسل علينا من نار بوارجها ونحن غافلون. فإلى متى يدوم هذا الحال؟ هذه إيطاليا على ما يعلمها العالم أجمع من الخسة والدناءة والهمجية ناصبتنا العداء، وأعلنت الحرب علينا لتضم إليها ما بقي بأيدينا من البلاد الإفريقية التي فتحها بأجمعها أسلافنا الكرام فسلبت وقتلت وفعلت ما تسيل الدموع لمجرد وصفه. كل هذا ونحن ساهون نناصب بعضنا العداء، ونسعى في تفريق كلمتنا، وتشتيت شملنا. ما هذا الاختلاف أيها القوم؟ ما هذا التباغض أيها الناس؟ إلى متى ينتهي أمر هذه المناوآت؟ إلى متى ينتهي حبكم لطلب الوظائف والمرتبات؟ ماهذا التنافر والتخاصم؟ ألم يكفكم ما حل بنا؟ ألم يكفكم ما وصلنا إليه؟ ألم يبلغكم أن العدو ليس على أبوابنا بل دخل دورنا وحلَّ بأرضنا؟ ألم تسمع آذانكم ما حل بإخواننا البيروتين؟ ألم تنفطر قلوبكم أسى عليهم؟ قتل بعض شبانهم، وهدمت بعض أبنيتهم، وملأ الرعب قلوبهم وسالت الدموع من آماق أطفالهم ونسائهم. إن حادثة بيروت أكبر مؤدب وأعظم باعث لنا على الاتفاق ونبذ الشقاق. إننا بدموع الآسف نذكر تلك الحادثة المؤلمة (حادثة بيروت) وقلوبنا تنفطر حزناً على ما حل بأهلها. إن أهل دمشق لما بلغهم هذا الخبر المؤلم هلعت قلوبهم، ووجفت نفوسهم، وظهر على وجه كبيرهم وصغيرهم علامة الكآبة والحزن، وفي مساء اليوم الذي وصل به الخبر وما بعده كنت ترى الناس على اختلاف طبقاتهم ألوفاً مؤلفة يؤمون محطة القطار (البرامكة) ينتظرون مجيئه من بيروت ليستطلعوا طلع الخبر. حدث مشاهد للواقعة في بيروت أن الناس أصبحوا صباح
يوم السبت لسبع خلت من شهر ربيع الأول والحال مطمئن والبحر هادئ والناس سائرون في أشغالهم فما شعروا إلا وتغير الحال واضطرب وجه البحر وعصفت عليه عواصف شرور همجية الغرب المتمدن ونظر القوم من وراء الأفق في الساعة الثالثة من صباح هذا اليوم بارجتين تقتربان إلى مرفأ بيروت وعندما وصلتا إلى ما يبعد عن الشاطئ نحو نصف ميل أطلقتا ضرباً نارياً تهديداً وتنبيهاً لمجيئهما قال: ألا إن الناس لم يعرفوا لأول وهلة أي نوع من أنواع البوارج هما ولا القصد من مجيئهما. قال ووقفنا ننظر إليهما بعين الدهشة والاستغراب وخصوصاً عندما عرفنا أنهما بارجتان إيطاليتان ثم حضر زورق من طرف قائد المدفعية العثمانية إلى الأسطول الإيطالي ليستعلم منه عما يريده الأسطول بقدومه فأعلمه على (ماشاع بعد) بأنه يريد المدفعية العثمانية (عون الله) والنسافة (أنقرة) وأنه في الساعة 9 إفرنجي إن لم يسلما أنفسهما يضطر إلى ضربهما داخل المرفأ وآنئذ تقول الناس الأقاويل فمنهم من قال مرادهم ضرب الثغر ومنهم من قال مرادهم أخذ النسافة والمدفعية ولا يمكنهم ضرب البلد قطعياً ومنهم من قال غير ذلك.
ثم سمعنا صوت المدافع في الفضاء الواحد تلو الآخر وشعرنا أن الأرض تهتز من عظم تلك الطلقات وكانت إحدى البارجتين راسية أمام المرفأ (البور) ترمي القنابل وكان الدخان يتصاعد وأصوات النساء والأولاد من البيوت تتصاعد معه. منظر مؤثر ومشهد رهيب استولى الرعب فيه على القلوب وغلب الروع على الأفئدة. ودامت الطلقات متواصلة على البارجة (عون الله) والطراد (أنقرة) حتى غرقت الأولى واضمحل أمر الثانية وبقيت على وجه الماء وهدمت من تلك القذائف الجهنمية بعض الأبنية وقسماً من المصرف العثماني والجمرك ومصرف سلانيك وقتا نحو مائة رجل خلا الجرحى. قال ثم بعد أن تمت تلك البارجة مقاصدها السيئة رجعت تمخر عباب البحر والمياه تشب أمامها كأنها تطالبها بما أتته من الضرر والفعل الذميم. ولما اقتربت من رفيقتها التي كانت في انتظارها وبعبارة ثانية كانت تحمي ظهرها سارتا معاً وأوغلتا في البحر إلى ما وراء الأفق وهنا ظن الناس الظنون. ظن بعضهم أنهما ذهبتا إلى طرابلس شام والبعض الآخر ظن أنهما قصدتا إسكندرونة لضرب المدفعية العثمانية الراسية هناك لكن مع الآسف لم يطل أمد هذا التخرص إذ عادت البارجتان الطليانيتان واقتربت إحداهما من البور ببطء ودخلته غير
خائفة ولا وجلة وهناك أطلقت عدة قذائف على الطراد الذي بقي بعضه ظاهراً على وجه الماء فأغرقته ورجعتا لا رافقتهما السلامة. وقد وقع الناس حين رجوعهما بأشد الخوف حيث اعتقدوا أنهما سيقذفان شظايا نارهما على البلدة وبالأخص الثكنة العسكرية ودار الحكومة وفي برهة قليلة أخليت الدائرتان المذكورتان ولم يبق فيهما غير الجدران وقد استعدت بعض الدوائر أيضاً لنقل مراكزها إلى خارج البلدة وأقفلت جميع المحلات ولم يبق في الشوارع إلا بعض الأهالي الذين دفعهم الإفراط في الوطنية إلى مهاجمة مستودع أسلحة الحكومة فأخذوا كثيراً من البنادق والأسلحة أما العقلاء من أهل بيروت فكان خوفهم من حصول ما يخل بالأمن يقارب خوفهم من الأسطول الطلياني إذ خطر لبعض الرعاع أن يتجمهروا أمام دار الحكومة ففعلوا وجعلوا يطلبون إخراج المسجونين وبعضهم طمع في اشتغال الحكومة بهذا الحادث فعمد لثأر ماله من الآثار وقسم عد الأمر فوضى فنهب وسلب وهذا ما دعا الحكومة المحلية إلى إعلان الإدارة العرفية ونشر هذا المنشور تحت بيان رسمي الحكم العرفي في بيروت وإليك خلاصته: أعلنت الإدارة العرفية في بيروت وحدودها براً جبل لبنان وبحراً ساحل بيروت وأحيل أمر محافظة الأمن للحكومة العسكرية ومن تجاسر على الإخلال بالأمن داخلاً وخارجاً تجري محاكمته بديوان الحرب مهما كانت صفته والحكومة العسكرية مأذونة بتحري منازل من تريد من الأشخاص ليلاً ونهاراً وبنفي المشتبه بهم وبجمع الأسلحة من الأهلين وبتعطيل الجرائد المشوشة للأذهان وبمنع جميع الجمعيات وبمحاكمة من كانوا السبب في إعلان الإدارة العرفية ولو كانت إقامتهم في غير بيروت والحاصل جميع أحكام قرار الإدارة العرفية والمواد المذيلة به سيجرى تطبيقها حرفياً اعتباراً من تاريخه. وقد أذيع هذا ليحيط الجميع به علماً في 12 شباط سنة 1327.
ونعم ما فعلته الحكومة فقد استتب الأمن وتوطدت أركان الراحة بهمة والي الولاية ورجال الضبط والجند الشاهاني الذين لم يألوا جهداً في العناية بأمر التدقيق والتطواف وقد أرسلت ولاية سوريا قطارين مشحونين بالعساكر والزاد وأرسلت طرابلس شام أيضاً الأي السواري لمعاضدة حكومة بيروت في توفير أسباب الأمن. وبذلك انتهت الأزمة وعاد القوم إلى أعمالهم.
تبرم بعض الناس من إعلان الإدارة العرفية في بيروت ونقم على الحكومة ونحن مع حبنا
الصميم لراحة أهالي بيروت ورجائنا بضراعة منه سبحانه أن لا يطيل أمد الأحكام العرفية عليهم نقول أن السخط على الحكومة في غير محله وربما أدى إلى التشويش عليها وهو بلا شك جهل محض. إذ باعتقادنا أن ما تعمله الحكومة الآن يتحتم عمله، ولولاه لانقلب لون الأزمة إلى شكل آخر، ولوصل أرباب الأغراض والدسائس الأجنبية إلى غاياتهم، فهل بعد هذه الحادثة المشؤومة أدركت الأمة أن الواجب عليها أن تعمل يداً واحدة على ترك التنابذ والشقاق ومؤازرة الحكومة لصدمات الأعداء وتعلم أنها بتطاعنها تطعن قلبها، وترمي فؤادها. هل علمت أن العقلاء من أعمالها في استياء عظيم يبكون الليل والنهار ويرجون الله لرفع هذه الأحقاد خشية أن يبتلعنا من فغر فاه من الأجانب؟ هل علمت بأن رمي بعضها البعض بخيانة الوطن، وسوء النية هو عين خيانة الوطن والإضرار به؟ هلا لانت قلوب هؤلاء المختلفين فعطفوا على هذه الأمة البائسة؟ هلا لانت قلوبهم فرحموا هذه الأمة المسكينة؟ هلا لنت قلوبهم لما أصاب الدولة والأمة؟ هلا علموا بأنهم محاسبون؟ هلا فقهوا بأنهم مسؤولون؟ هلا دروا بأنهم على ربهم يعرضون؟ فإلى متى وهم غافلون وفي أنفسهم متشاغلون. ما مصيبة الأمة بطرابلس الغرب بأعظم من مصيبتها بتفرقهم واختلافهم. فإلى الوفاق أيها الناس إلى التعاضد أيها القوم. وفي الختام نجأر إلى الله تعالى أن يوفق الأمة إلى ما فيه صلاحها ونجاحها، وأن يصرف عنها كيد الأعداء، إنه سميع الدعاء.