المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة في فساد الأخلاق - مجلة الحقائق - جـ ٢١

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌كلمة في فساد الأخلاق

‌كلمة في فساد الأخلاق

فساد الأخلاق هو ينبوع كل فتنة، ومورد كل بلية، ما سود التاريخ صحيفة قوم ولا تدهورت أمة في هوة المهالك، ولا تزلزلت عروش، ولا تنكست أعلام إلا لو دققت النظر لوجدت السبب الأعظم في ذلك كلهِ هو فساد الأخلاق لا غير (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

إن فساد الأخلاق لو أطلقت أعنة الأقلام في ميدانه لضاق عنها نطاق الصحف ولعجزت الكتاب عن إيفائه حق بيانه. وكلما أسرجت جواد الفكر واعتقلت أسمر اليراع وعولت على خوض هذا المضمار يصدني يعد الشقة وطول المشقة لأن فساد الأخلاق أصبح داء عزيز الدواء جداً لكونه نما في سائر أعضاء جسم محيطنا الشرقي ممتزجاً بدمائه غالباً عليه فهيهات هيهات إصلاح ما امتزج به الفساد هذا الامتزاج.

ولولا يكون اليأس جبا وخيبة

يأست من الإصلاح في الشرق سرمدا

أعلل نفسي في لعل وفي عسى

ولم يجديا نفعاً ولم يجليا صدا

ولكن أعزيها وإني أعيذها

من الجبن لا راح الجبان ولا غدا

أفكر في فساد أخلاق صغار النشء الجديد الذين هم رجال الوطن في المستقبل وحماة حوزته وأساس صرح مجده إن صلحوا وبهم يكون جرفاً هائراً إن ظلوا على ما أراهم عليه من سوء التربية وضياع الأوقات. في لهو يجرهم تياره إلى عميق بحار الجهالة وما يجري على ألسنتهم من ألفاظ السفالة التي يتلقونها عن أوليائهم ومربيهم فيؤلمني ذلك جداً وأقول اللهم ألهم حكومتنا أن تجعل التعليم إجبارياً ووفق لهذه الجواهر النقية أساتذة مهذبين.

ثم أفكر في أخلاق النساء اللواتي هن أول مدرسة لبني الإنسان في زمن الطفولية زمن قابلية دماغ الطفل إلى كل ما يطبع بهِ من خير أو شر فيؤلمني ماهن عليهِ من فساد أخلاق كاد أن يقضي على حياتنا الأدبية أراهن غارقات في بحار الجهل تائهات في ظلمات اللهو لا يفكرن بغير الزينة والتبرج ولبس الثياب الفاخرة وذلك غاية ما تطمح إليه أنظارهن ولا يهمهن ذهبت ثروة رجالهن في هذا السبيل أم لا عدا قرينات السوء والفاجرات وما لا يليق ذكرهن في هذا المقام فأقول اللهم وفقنا لافتتاح مدارس إناثية تعلم بناتنا الأخلاق الدينية والحوائج البيتية وتربية الأبناء الحقيقية.

وأما الشبان فهم على ثلاثة أقسام

ص: 5

القسم الأول من الشبان من تعقد الآمال بأحلامهم يفتخرون بدينهم فيحرصون على مبانيه الأساسية كالصوم ويتجنبون مناهيه الأصلية كالميسر والمسكرات لا يقصرون في بناء قصور الفخر ولا يرضون أن يكونوا حلقة ساقطة بين الأسلاف والأخلاف يعلمون أنهم خلقوا أحراراً فيأبون الذل والصغار يودون أن يموتوا كراماً ولا يحيون لئاماً، يجهدون أن يعيشوا عيشة راضية غير أنهم أندر من الكبريت الأحمر الذي نسمع به ولا نراه وإن وجد فرد منهم فهو منبوذ نبذ النواة.

والقسم الثاني رعاع أوباش آدابهم التوحش وأخلاقهم الهمجية يفتخرون بقطع الطريق وخيانة الصديق لا ينطبق حالهم على ناموس وليس لهم من أنفسهم وزع وهم أكثر شبان القرى وسكان البادية وأطراف المدن.

والثالث هو القسم_التمدن أي المتفرنج أولئك الذين يتسابقون إلى المنكرات تسابق خيل الرهان يقصدونها من بلد إلى أخرى يفتخرون بالتخنث وتقليد النساء في الزينة والملابس الرقيقة والتكسر ولين الكلام إلى غير ذلك مما تأباه المروءة الإسلامية. وما سرى علينا ذلك إلا لتقليدنا أسافل الإفرنجة تقليداً أعمى لا عن تبصر وروية ذلك لنرتقي إلى أوج المدنية التي نهض بهم إليها رجال ما كانوا يأتون هذه الأعمال السافلة ولو أتوها لحالت بينهم وبين الرقي كما حالت بيننا وبينه الآن بل فتحت لنا هوة تنتابنا فيها الأهوال نهوي بها ونحن نظن أنه بعدت خطوتنا في سبيل التقدم (لا بل عن سبيل التقدم).

وأما العامة فقلت بينهم الأمانة وكثرت فيهم الخيانة يطففون المكيال ويخسرون الميزان ويخلفون الميعاد وينجزون الايعاد لا يهم أحدهم أن يضر أخاه ضرراً عظيماً في سبيل نفعه الذاتي ولو كان يسيراً وربما ضرَّ نفسهُ ليضر أخاه إذا كان ما يصيب أخاه من الضر أعظم مما يصيبه والحاصل إن كل فرد منهم شاهر حسامه ينتظر فرصة من أخيه ليطيح هامه. مثلهم كمثل أعداء في سفينة كل منهم يجهد نفسه ليرقها فيغرق من فيها من أعدائه فخرقوها فأُغرقوا جميعاً. وأما الخاصة أي الذين ترمقهم أعين الضعفاء من بعد ينتظرون نتيجة أعمالهم فهم ساهون عن المصالح العامة لاهون بمصالحهم الخاصة كل منهم يفكر في تمكين سلطته وقوة نفوذه يسكب الشخصيات في قالب عمومي يموه على الناس بسفسطات خيالية زاعماً أنهم لا يعقلون والأخزى من ذلك أن كل واحد منا قد أحس بهذا العبء الثقيل وهو

ص: 6

يئن متذمراً منه ولا يلقيه عن عاتقه وذلك أن كل إنسان ينظر إلى عيوب غيره متعامياً عن عيوب نفسه التي يمكن أن تكون أقبح من غيرها ويعجبني هنا قول الشاعر:

لكل امرئ خرج من العيب ممتلٍ

على كتفه منه ومن أهل دهره

فعين عيوب الناس نصب عيونه

وعين عيوب الناس من خلف ظهره

وهذا من أعظم أسباب انحطاطنا الآن اللهم انصرنا بعيوبنا وألهمنا رشدنا ووفقنا لما فيه نجاحنا في الدارين إنك على كل شيء قدير ولا يحسب القارئ أني ذكرت شيئاً من فساد الأخلاق إنما هذه غطة قلم في بحره سودت هذه الصحيفة.

حماه

فارس النجار

ص: 7