الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرب الحاضرة
فوائدها ونتائجها والعبرة بها
ليس في العالم من لا يستهجن تعدي دولة إيطاليا الغاشمة على جزء عظيم من أملاكنا بعيد عن عاصمة السلطنة ومركز القوة ووسائل الدفاع المستوفاة أتت تلك الدولة الجائرة لتستولي على هذا الجزء بدون أدنى مسوغ شرعي دولي فهب العثمانيون للدفاع عن حوزتهم وصيانة ممالكهم فقيض الله لهم من النصر والظفر ما يسطره لهم التاريخ بمداد الفخر وسيظلون مدافعين عن حقوقهم حتى يتسنى لهم تمام الظفر ويعود عدوهم صفر اليدين إلا من الخيبة والفشل والفقر وسوء الأحدوثة إن شاء الله تعالى.
وليس من غرضنا أن نذكر تفضيل تلك المواقع والانتصارات التي صارت معلومة لدى أكثر القراء إنما نريد أن نذكر شيئاً من فوائد هذه الحرب ونتائجها ومن العظة والاعتبار بها لأن الحوادث العظيمة وإن كانت مؤلمة قد يكون لها من الأثر الحسن ما يهون المصاب بها ومن العظة والاعتبار ما يكون درساً أخلاقياً مفيداً تستصغر معه خسارة الأموال وفقد الأرواح.
علمتنا هذه الحرب أنه ينبغي أن لا نعتمد إلا على قواتنا وأن الاعتماد على عهود الدول ومواثيقها ضرب من الأوهام فها هي الدول كلما أرادت اكتساح جزء من أملاكنا تضمن لدولتنا العلية أنها تحافظ على بقية أملاكنا وآخر حادث من هذا القبيل هو تعهد النمسا لما ضمت إليها ولايتي البوسنة والهرسك وما هذه العهود إلا تقييد للضعيف حتى تهدأ ثائرته ويطمئن جانبه أما القوي فمتى رأى الفرصة سانحة ينقض واجباً ولا يمنعه عن اعتدائه وتهوره إلا أسطول أضخم من أسطوله أو جيش أعظم من جيشه وإلا فما بالها بعد ما ضمنت سلامة أملاكنا في مؤتمراتها تسمح لإيطاليا أن تغير على ولاية آمنة مطمئنة تستبيح حماها وتنتهك حرمتها وتطمع أن تحصر أهلها وتقطع عنهم مورد الحياة، وهم في ذلك واقفون وقفة المتفرج كأنه لا يعنيهم وما بالهم وهم زعماء المدنية ومحبوا الإنسانية على زعمهم يسمعون قتل الشيوخ والعجزة والنساء والأطفال مما هو ممنوع في سائر الشرائع السماوية والوضعية ولم تحلم بعمله أعرق الأمم في التوحش في عصور الهمجية الأولى تسمع ذلك فلا ينبض لها عرق ولا تتحرك لها فكرة لمنع هذا العمل الفظيع إلا ما
كان من بعض أفراد يحبون الفضيلة لنفسها ويكرهون الرذيلة كذلك ويستقبحون الفظائع أنى أتت إلا أنه لا شأن لهؤلاء الأفراد في عمل الحكومات. حافظت تلك الدول على الحياد في وقت كان الظن فيه أن يكون النصر في جانب إيطاليا فلما خاب هذا الظن وفسد هذا الأمل وأظهر العثمانيون من البسالة ما لم يدع مجالاً للريب في فشل إيطاليا أخذ بعض الدول بنقض حياده وتشبث في عاصمة السلطنة لعقد الصلح على مالا يرضى الحق والعثمانيين ويساعد إيطاليا سراً على بعض تعدياتها ويتظاهر بالاستعداد للحرب إلى غير ذلك مما يناقض الحياد على خط مستقيم.
تعهدت إيطاليا للدول العظمى في بدء الحرب بأنها تحصر حركاتها الحربية في طرابلس الغرب ظناً منها بأنها قادرة على تدويخ العثمانيين في تلك البقعة وإرغامهم على الرضوخ لمطالبهم والرضاء بجورها.
فلما أراد الله أن لا يصرع الباطل الحق وأن يجعل نصيب المعتدي الفشل والخيبة أخذت تعتدي على سواحلنا فضربت العقبة وسواحل غزة ثم بيروت ثم قلاع الدردنيل ثم احتلت جزر الأرخبيل والدول صامتة لا تطالبها بشيء. مما تعهدت به لها وما تعهدت هي به للدولة العلية.
علمتنا هذه الحرب أن الحق للقوة وأنه لو كان لنا أسطول توازي قوته نصف قوة أسطول إيطاليا لأذقنا تلك الدولة الظالمة أنواع الهوان لأن شجاعة العثمانيين وبسالتهم وكون الحق في جانبهم قوة عظيمة تسد ذلك النقص أما لما كان أسطولنا دون الحاجة نظراً لاتساع مملكتنا وكثرة ثغورنا اضطر أن يبقى ملازماً مكانه وأن لا تنتفع به في الحرب الحاضرة بشيء وأن تبقى ثغورنا خالية من وسائل الدفاع الكافية. ألا يكون في ذلك عبرة لنا يحرك منا الهمم لمد يد المساعدة لإعانة الأسطول فقد تألفت هذه الجمعية منذ أعلن الدستور بسائق الحاجة التامة لإنشاء أسطول ضخم تحمي به تلك المملكة الواسعة الأطراف والثغور العظيمة من هجمات الأعداء وأطماع المستعمرين فلم تصادف من الإقبال على مؤازرتها ما تستحقه.
فكانت هذه الكارثة موقظة لشعورهم محركة لعواطفهم فلا يبعدان يهبوا من هذا السبات ويعلموا أن خير المال ما انفق في هذا السيل وينهضوا لهذا العمل نهضة من يعلم أنه
يساعد على عمل يكون فيه حفظ شرفه واستقلاله ودينه لا من يساعد مشروعاً خيرياً عادياً ولو كان لنا اليوم أسطول تحمي به جزر الأرخبيل لما تجاسرت إيطاليا الباغية على احتلالها بل ولما حدثت نفسها بذلك ولكانت حصرت بطرابلس الغرب كما تعهدت وهي فيه أحقر من أن تظفر بشيء من النصر.
علمتنا هذه الحرب أن العثمانيين على اختلاف عناصرهم ولغاتهم سواء في حب العثمانية والتفاني في الذود عن حياضها وساء فأل أرباب المقاصد السافلة ودعاة الفساد الذين كانوا يصورون العنصرين الكريمين التركي والعربي بصورة العدوين الألدين ولا يفتئون يتحينون الفرص لإلقاء بذور التفرقة فجاءت هذه الحرب مخيبة ظنونهم قاضية على مآربهم فقد رأينا فيها العرب والترك في ساحة الحرب كأنهم عضو واحد يدافعون يداً واحدة عن حكومتهم وبلادهم وشرفهم بلا تفرقة.
فالضباط الأتراك في طرابلس الغرب يعاملون العرب المجاهدين معاملة الأب الرحيم والمجاهدون يحترمون ضباطهم وأمراءهم احترام الابن البار للأب الشفيق وبهذا الاتحاد والاتفاق غلبوا عدوهم وحفظوا شرف دولتهم ودينهم وبرهنوا للعالم أجمع أن ليس بين هذين العنصرين شيء مما يرجف به المرجفون ويتخرص به المفسدون وأن هذين العنصرين للعثمانية كالهيولى والصورة للجسم لا يتصور وجوده إلا بهما.
علمتنا هذه الحرب ما يجب علينا من إحكام الرابطة الجامعة الإسلامية وشد أواصرها بظل صاحب الخلافة العظمى أيده الله فقد رأينا من فوائدها أن قامت مسلمو الهند تطلب من حكومة إنكلترا كف يد إيطاليا عن اعتدائها وقام مجتهدوا إيران وأفتوا بوجوب الجهاد وقام مسلمو تونس نحو حكومة فرنسا بمثل ما قامت به مسلمو الهند نحو إنكلترا وهكذا دوى ذكر هذا الاعتداء الفظيع في جميع أقطار الأرض من أقصاها إلى أقصاها وتجلت عاطفة الدين بأجلى مظاهرها مما اضطر دول أوروبا أن تحجم عن مساعدة الطليانيين حتى وصل الحال إلى أن صرح ناظر خارجية إنكلترا في مجلس نوابها بأنه يجب على إنكلترا مساعدة العثمانيين لما لإنكلترا من المصلحة مع المسلمين ولولا ظهور هذا الارتباط بهذا المظهر الواضح وتأثر المسلمين في جميع الأقطار والأمصار من تعدي الطليان على أملاك خليفتهم لما كان يستبعد أن يتواطأ قسم من دول أوروبا على تضحية هذا القسم العظيم من بلادنا في
سبيل مطامع دولة إيطاليا.
وما زالت دول أوروبا توجس خيفة من الجامعة الإسلامية وتعمل في السر والعلن على كل ما تراه صاداً عنها أو مبعداً عن الوصول إليها بينما كان المسلمون غافلين عن إحكام روابطها وتوثيق عراها فجاءت هذه الكارثة أعظم مذكر لهم بما يجب عليهم من الالتفاف حول عرش الخلافة العظمى وحفظ مركزه وتشييد دعائمه ولا غرو فمن الشدائد تتولد الفوائد فإن تكن هذه الحرب أفقدتنا بعضاً من الرجال في سبيل الدفاع عن الدين والوطن فقد أفادتنا ما يستصغر معه فقد الأموال وضياع الأرواح.
ومن نتائج هذه الحرب وفوائدها أنها خاتمة للمصائب الخارجية على دولة الخلافة إن شاء الله تعالى فقد استضعفتها دول أوروبا خصوصاً على أثر تساهلها بمسألة البوسنة والهرسك والبلغار ذلك التساهل الذي كانت مدفوعة إليه بحكم الضرورة لأنها في مبدأ انقلاب لم تتوطد أركانه ولم تكن قد أخذت أهبتها واستعدادها لطوارئ الحدثان فظنت أوروبا أن هذا التساهل طبيعي في هذه المملكة وأنها لا يكلف نفسها عناء كبيراً في احتلال أي جزء من أجزائها أو يكفيها أن تعلن ضم هذا الجزء إلى أملاكها لذلك أعلنت إيطاليا ضم طرابلس الغرب إليها قبل أن تضع قدماً في سواحلها أو تملك شبر من أرضها.
بمعونة الله على صد غارة أعدائهم وحفظ استقلالهم وشرفهم ويكفيهم أن ولاية واحدة بعيدة عن مركز السلطنة ومقر الخلافة وعن الاتصال بباقي الولايات العثمانية حاربت على غير أهبة واستعداد دولة تعد في مصاف الدول الكبرى ثمانية أشهر وهي تزداد كل يوم قوة ونشاطاً ومراناً على الطعن والضرب والذود عن بيضة الدين وحمى الخلافة. أخذ الله بيد المسلمين ووفقهم إلى الاجتماع والاتحاد وإحكام الروابط المتينة في ظل صاحب الخلافة أيده الله.