المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المصاب الأليم أو حريق دمشق الهائل له مّلّك ينادي كل يوم … لدوا - مجلة الحقائق - جـ ٢١

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌المصاب الأليم أو حريق دمشق الهائل له مّلّك ينادي كل يوم … لدوا

‌المصاب الأليم

أو

حريق دمشق الهائل

له مّلّك ينادي كل يوم

لدوا لليوم وأبنوا للخراب

تفنن الإنسان وبرع في العلوم والمعارف واتسعت دائرة فكره في الاكتشاف والاختراع، ووصل إلى حالة لولا الغلو لقلنا هذا منتهى الأمر، وهذه نهاية والإبداع، ذلل كما قال السيد المنفلوطي (كل عقبة في هذا العالم فاتخذ نفقاً في الأرض وصعد بسلم إلى السماء وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب من حديد وخيوط من نحاس. انتقل بعقله إلى العالم العلوي فعاش في كواكبه وعرف أغوارها وأنجادها وسهولها وبطاحها وعامرها وغامرها ورطبها ويابسها. وضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة والموازين لوزن كرة الأرض مجموعة ومتفرقة. غاص في البحار وفحص تربتها وأزعج سكانها ونبش دفائنها وسلبها كنوزها وغلبها على لآلئها وجواهرها. نفذ من بين الأحجار والآكام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها وعرف كيف يعيشون وأين يسكنون وماذا يأكلون ويشربون. تسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة فعرف النفوس وطبائعها والعقول ومذاهبها والمدارك ومراكزها حتى كاد يسمع حديث النفس ودبيب المنى اخترق بذكائه: كل حجاب وفتح كل باب) كل هذا فعله الإنسان ولكنه وقف بين يدي القضاء والقدر وقفة العبد الضعيف بين يدي القادر القاهر. ضؤلت قوته أما هذه القوة العظيمة وخمدت نار بطشه، وخانته أفكاره وتدابيره وأصبح ذليلاً خاشعاً، حزيناً كئيباً. يجهد نفسه في ابتناء الأبنية وزخرفتها ويعنى بتحصينها فيوسع نطاقها ويعلي شرفاتها، ويعظم أعمدتها حتى كأنه يود أن يجعلها في مأمن من الحوادث وأمان الكوارث ماهي إلا لمحة البصر حتى يأتيك أمر ربك فيجعل عاليها سافلها ويدمر ما ضخم من بنائها، ويذهب بعظيم سلطانها، ويجعلها كامس الدابر.

في مساء ليلة السبت الموافق لعشرة خلت من جمادى الأولى في الساعة الخامسة ليلاً بينما الناس ساهون لاهون. لا يدرون ما خبأته لهم يد القضاء والقدر إذ شاع في الحاضرة خبر شبوب النار (في سوق الحميدية) فارتاع القوم لذلك وهرعوا إلى مطلع النار وأجفى

ص: 15

القلوب، باكي العيون فما كنت ترى إلا عويلاً شديداً، وصراخاً متتابعاً، وأشباحاً متفرقة تتراكض، ودخاناً متصاعداً يكاد يعلو قمة السحاب، والناس بين باك وحزين، ومستغيث ومغيث، ومرجع ومحوقل وراكض ومهرول ثم اندلع لسان النار وزاد لهيبها. وكان قد حضر دولة ملاذ الولاية، وقائد الفيلق الثامن وكثير من الأمراء والجنود النظامية ورجال البلدية والشرطة وآخرون معهم المطافئ العديدة، وبالرغم عن كل ذلك امتدت النار امتداداً عظيماً وساعد على ذلك كون الهواء زعزعاً. وعبثاً كان محاولة حصر الحريق دون أن يتجاوز محله. دام الحريق كل الليل وهو في امتداد وازدياد والناس حيارى باكين شاكين. وماذا يغني البكاء؟ وما عسى تنفع الشكوى؟ والقضاء حتم (والله غالب على أمره) ما طلع صبح يوم السبت إلا وقد التهمت النار معظم الأماكن والمحال.

ومجمل ما ذهب سوق الحميدية وسوق العصرونية بتمامهما وقسم من سوق باب القلعة وباب البريد وسوق الجديد ونحو ثلاثين داراً من زقاق البوس وكانت شظايا النار تعلو في الجو على أجنحة الهواء ثم تقع فتصيب بعض البيوت حتى خيف على الجامع الأموي الشريف فأجريت الاحتياطات اللازمة وهدم لهذه الغاية سقف سوق المسكية الذي ينتهي إلى الجامع المذكور.

مساكين أصحاب الحوانيت، مساكين أصحاب الأرزاق، مساكين شيوخهم وشبانهم حاضروهم ومسافروهم نائموهم ومستيقظوهم، أطفالهم ونساؤهم أحبابهم وأصحابهم. مساكين أهل الحمية والغيرة، مساكين رجال الحكومة مساكين أهل الحل والعقد فيها عملوا ولكن ماذا يفيد العمل؟ والقدر لا يغني عنه الحذر (والله يحكم لا معقب لحكمه) سوق الحميدية عروس دمشق وأجل أسواقها وسوق العصرونية سوق عظيم والدور التي حرقت من أعظم دور البلدة وأكبرها والمطابع التي انقرضت من أمهات مطابع البلدة والمدارس التي هدمت يعز على كل عاقل تهدمها. وقد قدر العارفون الخسارة بما يقارب مليون ليرة. والوطأة شديدة حتى على الأغنياء. سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد ولك الشكر قضاؤك حكم وقدرك حتم لاراد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ولا حول ولا قوة إلا بك. مئات من الحوانيت وعشرات من المخازن الكبيرة وقريب منها من البيوت العظيمة كانت مساء يوم الجمعة كعروس ترفل في ثيابها زينتها فما أصبح عليها صباح يوم السبت إلا

ص: 16

وهي في خبر كان. عفت آثارها وتهدمت شرفاتها وتعطلت طرقها وأصبحت عبرة للمعتبر. وعظة للمتعظ تفرقت أهلوها شذر مذر وأمسى أكثرهم لا مورد له للارتزاق بل أصبح غنيهم فقيراً وفقيرهم لا مأوى له.

من لنا بعيون تسح دمعاً وقلوب تسبل دماً. وصدور تزفر زفير الشكلى تبكي معنا هؤلاء الأغنياء الفقراء الأقوياء الضعفاء التجار الصعاليك تبكي تلك البيوت الفخيمة والمنازل العظيمة التي كانت آهلة بأهلها. عامرة بسكانها فقد أصبحت أثراً بعد عين وخبراً بعد حقيقة. أيها المصابون لا تحزنوا فالصبر أولى بكم والتأسي أجمل بقدركم أنتم بالشهامة معروفون فاصبروا وتجملوا فالله مع الصابرين. الدنيا دار محن وبلاء دار مصائب وعناء دار اختبار وابتلاء كرروا قول الله تعالى (ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) وتأملوا حديث عمر بن أبي سلمة عند ابن ماجة عن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عنك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني خيراً منها إلا آجره الله عليها وعاضه خيراً منها فلما توفي أبو سلمة ذكرت الذي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه فأجرني عليها فإذا أردت أن أقول وعضني خيراً منها قلت في نفسي أعاض خيراً من أبي سلمة ثم قلتها فعاضني الله (محمداً) صلى الله عليه وسلم وآجرني في مصيبتي. أيها المصابون تصبروا واصبروا فالصبر خير كله (وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كُفرّ به من سيئاته. وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما أصاب رجلاً من المسلمين نكبة فما فوقها حتى ذكر الشوكة إلا لإحدى خصلتين إما ليغفر الله له من الذنوب ذنباً لم يكن ليغفره له إلا بمثل ذلك لو يبلغ به من الكرامة لم يكن ليبلغها إلا بمثل ذلك. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله كيف الصلاح بعد

ص: 17

هذه الآية (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوأ يجزيه) الآية وكل شيء عملناه جزينا به فقال غفر الله يا أبا بكر ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواه قلت بلى قال هو ما تجزون به. وعن أبي عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصيب بمصيبة بماله أو نفسه فكتمها ولم يشكها إلى الناس كان حقاً على الله أن يغفر له. إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة الدالة على فضيلة الصبر وما لصاحبه من المثوبة والأجر.

هذا ونرى من الواجب تنبيه عقلاء دمشق على وجوب مطالبة الحكومة مطالبة مشروعة باستجلاب (بلوك) إطفائية يتألف من رجال غيورين هذبتهم التجارب. وثقفهم التعليم. ولا يخفى ما في ذلك من الفوائد العامة لمستقبل البلاد. وفي عقيدتنا أن الحكومة بإجابتها هذا الطلب تحسن إلى البلدة إحساناً عظيماً وإذا أضافت إليه مسألة الماء فانتفعت من ماء عين الفيجة بوضع منافذ في جهات البلدة تسد فلا تفتح إلا عند حدوث حريق (لا قدر الله) في تلك الجهة كما هو الحال في البلاد المصرية تزيد الإحسان إحساناً وتستحق الشكر الأبدي والثناء السرمدي. ونختم كلمتنا هذه بشكران الحكومة المحلية راجين منها أن تحل اقتراحنا المار محله وأن تعنى عناية خصوصية بتعجيل الأذن في عمارة ما هدم من الحوانيت رحمة بأولئك المنكوبين الذين أضحوا لا مأوى لهم ولا مورد ولا شك أن هذا أعظم إعانة يرضى الله تعالى بها ونحن بكل ارتياح نشكر كل من قام ويقوم بمساعدة هؤلاء المساكين وجمع الإعانات بالطرق المشروعة لهم سائلين الله تعالى أن يقيلنا وإياهم نوائب الدهر ويحفظنا جميعاً من غوائل الأيام.

ص: 18