المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإفراط والتقريظ قرأت في الجزء الثاني من المجلد الثالث من مجلتكم - مجلة الحقائق - جـ ٢٦

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌الإفراط والتقريظ قرأت في الجزء الثاني من المجلد الثالث من مجلتكم

‌الإفراط والتقريظ

قرأت في الجزء الثاني من المجلد الثالث من مجلتكم الغراء مقالة تحت عنوان الطلبة والتعيش لصاحب الإمضاء الشيخ صلاح الدين أفندي الزعيم فحمدت غيرته وشكرت سعيه وعن لي أن أكتب في هذا الموضوع ما دار في خلدي وسنح ببالي وطالما كنت أترقب كتابة ترتاح إليها النفوس وتنشرح لها الصدور تشرح ما آل إليه أمر طلبة العلم الشريف من الذل والهوان وما يعاملون به من الخسف والضيم حتى أنهم أصبحوا كالقذى في أعين جهال هذه الأمة لاسيما في أعين شرذمة رعناء طبع الله على قلوبها وأصم آذانها عن اتباع الحق فخاضت غمار الجهل وجالت في ميادين التهور حتى ضلت وأضلت، تنصلت من الدين ومرقت من الأخلاق مروق السهم من الرمية تجردت من المدنية الحقة، تمادت في غيها، وفقدت الشعور والعلم والأخلاق نعم درست مبادئ الفنون فحفظت جملة خالية من الحقائق وألفاظاً عارية من المعاني اكتفت بالقشور عن اللباب وقامت تموه على أمتها بمقالات تنشرها على صفحات الجرائد تلك شرذمة طرأ على مسامعها ذكر أوروبا فلم تلبث حتى تعشقتها ولهجت باسمها ونهجت مناهجها القولية السافلة ودأبت على تقليدها بالبذخ والإسراف واقتفت أثرها باستباحة الأعراض ودناءة الأخلاق والتجاهر بما يغضب الخالق ويسيء المخلوق وتعمدت اقتراف الرذائل باسم الحرية والحرية الحقة بريئة مما تنسبه لها يفكرون بسياسة خرقاء لا جدوى بها ولا فائدة منها سوى الشقاق والنفار وإلقاء بذور التباغض والتدابر والتحزب والتفرق بما توحيه إليهم شياطينهم شياطين الفساد. جنوا على الملة والوطن جنايات لا تغتفر لأنهم لقنوا الناشئة محبة أوروبا ولقحوا أذهانها من أفكارهم الخبيثة فأصبحت بعد ذلك لا ترى أعظم وأجل من أوروبا وأخذت تنظر إلى الدولة والوطن نظر العدو لعدوه لا يهدأ لها بال ولا يقر لها قرار حتى تيمم بلاد أوروبا من صباهم فشبوا عليها وشابوا بهواها ولأجلها تبرؤا من أمتهم ومقتوا أوطانهم وبغضوا أهلهم حتى أن أحدهم يسب والده الذي ألقى نطفته في الشرق ولم يجعلها في الغرب. نظروا إلى علمائهم نظر الخصم الألد فجعلوا يصمونهم تارة بالحشوية وحيناً بالجامدين وطوراً بالخاملين وإلى غير ذلك فهم لم يعملوا بما تعمل به أوروبا ليعدوا من ابنائها ولم ينهجوا مناهج أبناء وطنهم لينتظموا في سلكهم فأمسوا مذبذين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

هم المفرطون بمساعيهم والمتغالون بمذاهبهم ومشاربهم فلو أنهم اتخذوا العدل مذهباً

ص: 27

والإنصاف مركباً لسلموا إلى علماء دينهم وانخرطوا بسلك آبائهم وأجدادهم وأصبحوا متلفين متحالفين يستعينون ببعضهم على من سواهم كما كانت أسلافهم العاقلون المفكرون أهل الحزم والعزم والدراية.

وأنا لا أنحي باللوم عليهم وحدهم بل أوجه اللوم أيضاً على علماء ديننا الذين هم روح الشعب وحياة الأمة والقطب الذي تدور عليه أمور الخلافة الإسلامية والأس الذي ترتكز عليه قواعد الدولة العثمانية نظن لجهلنا أن وظائف العلماء الإسلاميين في هذا الكون جزئية والحق أنها لأعظم وأجل وأهم وأكبر من سائر الوظائف.

فهم المفرطون بطلب مالهم من الحقوق وأداء ما عليهم من الواجبات أما حقوقهم فهي تكفل الدولة لهم بتأمين مستقبلهم وتعيين رواتب لهم وللطلبة في مقابلة انقطاعهم لخدمة الملة والوطن أما من الأوقاف وإما من الخزينة ومساعدتهم على نشر العلم وبث المعارف وتشييد المدارس العلمية والمعاهد الدينية ووضع برنامج يتضمن التدريس بجميع الفنون من النحو والصرف والفقه والحديث والتفسير والمعاني والبيان البديع والمنطق والجغرافيا والحساب والتاريخ والهندسة والعلوم المدنية والفنية وغير ذلك وتتشكل لجنة مخصوصة من أرباب الفكر والاقتدار تعين كتباً مخصوصة تقرأ رسماً في جميع المدارس وتضرب مدة محدودة من السنين لدراسة الكتب التي تعينها وتخصص لكل سنة كتباً معينة وتجعل الامتحان في السنة مرتين وكل من يتمم المدة المحدودة ويؤدي الامتحان ويحوز الشهادة بأهليته يعين له راتب مخصوص ويرسل إلى بلده أو على بلد آخر يرشد أهله ويعلمهم مما علمه الله فإذا دخلت هذه الفنون في المدارس العلمية حاز طلابها الفضيلتين وامتزجوا باجتماعاتهم مع أبناء المكاتب بخلاف ما هم عليه الآن فإن بينهم تنافراً ووحشة لما بين علومهم من المباينة والمخالفة ولهم حقوق على الشعب منها النظر إليها بعين الاعتبار والتعظيم ومساعدتهم في حاجياتهم لأن ما من أمة حقرت علماء دينها إلا ابتليت بالمصائب وسلط الله عليها عدوها لينتقم منها وهذه حالتنا اليوم.

قال تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) كفى العلماء شرفاً أنهم ورثة الأنبياء ولا يرضى بتحقير العلماء إلا كل أحمق جاهل سفيه طائش العقل.

وأما الواجبات التي يفرض على العلماء القيام بها فهي هدي الأمة وإرشادها إلى النهج

ص: 28

القويم والصراط المستقيم وبث روح الدعوة الدينية في جسم ميتها لتتحرك النفوس الهامدة وتحيي الأرواح الخامدة كما كانت أسلافهم الكرام كان يقطعون مسافة الشهر والشهرين لسماع حديث واحد من أمور دينهم ودنياهم في سبيل نفع الأمة كانوا يستميتون في بذل النصائح ويتفانون في نفع العباد وعمران البلاد ولذلك كان الشعب في حوزتهم وقبضة يدهم يتودد إليهم ويتوسل لإرضائهم كانوا هم الحكام في الحقيقة وكانت الأمة لهم أطوع من ظلهم كانت طواياهم سليمة ونياتهم صافية يعملون بما يعلمون بسري وعظهم وإرشادهم في العقول والأفكار سريان الماء في العود والروح في الجسد والدليل على ذلك كثرة وجود المعاهد العلمية والمعابد الدينية الناطقة بفضلهم وإخلاصهم للوطن العزيز

هذه آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

بم يهبهم الله الفضائل الجليلة والمزايا الشريفة لمجرد وضع العمامة على الرأس وارتداء الجبب الثمينة وتقبيل الأيدي والمجاورة في المساجد والمعاهد ليقال هؤلاء الذين يجب على الأمة تبجيلهم وتعظيمهم حاشا ثم حاشا إنما خلقهم الله ليعملوا بما علموا وليس العمل هو الصوم والصلاة ودراسة الكتب فذلك ممكن من كل فرد بل العمل اللازم اللازب الذي لا ينفك عنهم ويجب عليهم القيام به هو مبارحة الأوطان ومفارقة الخلان في سبيل الوعظ والإرشاد ونصح الأمة لم يجعل الله صدورهم قبوراً للعلم فلا يبعث منها حتى يبعث من في القبور، هم ورثة الأنبياء فالأنبياء كانت تدعو إلى الحق وتحث على التعاون والتعاضد والتناصر والتخلق بمكارم الأخلاق وجمع الكلمة وتأليف القلوب وتوحيد الآراء.

فالسلطان الأعظم في الحقيقة هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يطلب منه القيام بهذه الأمور وحيث أن السلطان حالت بينه وبين القيام بتلك المذكورات مهام السياسة فقد ألقى مقاليدها إلى علماء الأمة وإلى هذا أشرت بقولي يجب على الحكومة مساعدة العلماء بنشر الدين لأنهم هم الواسطة بين الحكومة والشعب في استجلاب القلوب واستمالة النفوس وتقوية الرابطة واستدرار الخير بما يعود نفعه على الوطن أجمع.

كما سمعناه عن أسلافنا وقرأناه في التواريخ المسجلة التي هي أصدق شاهد مخبر.

وكما تفعله اليوم ملوك أوروبا من إرسالهم الوفود من علماء دينهم إلى بلادنا وفتحهم المدارس بأوطاننا نشاهد القسس والرهبان بأعيننا يجوبون الأقطار ويركبون البحار

ص: 29

ويقتحمون الأخطار والمخاوف باسم المبشرين حتى أنهم ليتفانون في تجديد مدرسة أو تعليق ناقوس، فما بال علمائنا لا يجيبون داعي الله وينتشرون في الأرض ينقذون أبناء القرى والأمصار من داء الجهل القتال.

صدرت الأوامر بامتحان طلبة العلم الشريف فهرعوا إلى دراسة الفنون التي هجروها أيام فترة الامتحان وعينت لهم الحكومة مميزين من أبناء سلكهم فما زال أولئك المميزون عفا الله عنهم وسامحهم يدققون في الأسئلة ويضيقون عليهم كأنهم يريدون من الطالب أن يؤدي وظيفة العلماء.

وكان من الواجب يومئد أن يجتمع علماء كل ولاية في مجلس مخصوص تحت رئاسة النائب والمفتي يتذاكرون بشؤون هذا الأمر الخطير ويطلبون من الحكومة أولاً إمهال الطلبة سنة كاملة لدراسة كتب الامتحان وثانياً تعيين معاشات لهم يستعينون بها على الطلب والتحصيل وثالثاً إلغاء التفتيش والمراقبة من طرف ضباط الرديف ولو فعلوا لنجحوا وكان حسناً.

وخلاصة القول أنه يجب على علماء الإسلام أن ينهضوا من رقدتهم وينقذوا أبناء أمتهم ويجمعوا كلمتهم ويوحدوا آرائهم ويخرجوا الوهن من قلوبهم ويؤلفوا جمعية عمومية بإحدى الولايات يجعلون أعضاءها من سائر الممالك لها فروع وشعب في سائر أمصار الإسلام تدعو العالم الإسلامي بأجمعه إلى تعاون الدولة العثمانية بما عز وهان ومفاداتها بكل مرتخص وغال تفكر بالأسباب التي تفيض المال وتنور عقول الرجال بإحداث معامل وصنائع وشركات يعود نفعها على أبناء الوطن وأن يفتشوا المكاتب الرسمية والخصوصية ويسألوا عن معلميها فإذا سبر غورهم ووجدوهم غير متدينين بالدين وعاملين بأحكام الشريعة الغراء كما نسمع عن آحادهم أنهم لا يحضرون الدروس إلا بعد كرع الكؤوس واقتراف الكبائر من اللواط والزنا وغيرها فيحتجون على الحكومة ويطالبونها باسم الشعب بإزالة أولئك المعلمين الأشرار ويتذرعون بجميع الوسائل والأسباب لإزالة سوء التفاهم بينهم وبين العصريين حتى يكون الجميع ممن يؤلفون ويؤلفون وما ذلك على لا تأخذهم في الله لومة لائم بعزيز

أحمد الباشا

ص: 30