الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صدى حجاب المرأة شهادة مسيحي بمضار التبذل
الاجتماعية
لما أظلتنا أوروبا بمدنيتها الحديثة وبمعارفها وعلومها ومستحدثاتها ومخترعاتها اغتر بزخرف تلك المدنية الساحرة فريق من عشاق المظاهر وعبدة الأوهام ظنوا أن كل ما تأتي به أوروبا حسن لذاته ومفيد للهيئة الاجتماعية وواجب على جميع الأمم والشعوب أن تقفوا أثرهم به لتصل إلى أوج السعادة والكمال.
تمكن منهم هذا الغرور تمكناً ملك عليهم مشاعرهم حتى صار الأمر المحمود في الشرع الذي يدينون به مذموماً في عرفهم واعتقادهم لأن أوروبا رأت أنه غير نافع لها في مدنيتها الحديثة.
من ذلك حجاب المرأة. ولا يمتري ذو مسكة من العقل بما لحجاب المرأة من الفوائد التي من أهمها حفظ الأنساب وقد جاءت مشروعيته في كتاب الله وسنة رسوله على أبلغ وجه ومضت الأيام والسنون والاتفاق على استحسانه سائد ومطابقة العقل للنقل فيه محكمة وثيقة لذلك لا نعلم أن أحداً من علماء الإسلام وأئمتهم على مدة ثلاثة عشر قرناً ارتأى أن الحجاب الشرعي مضر بالنساء وأن ابتذال المرأة وخروجها من صيانة الحجاب نافع لها ومرق لأخلاقها إلى أن داهمتنا تلك المدنية التي زحزحت كثيراً ممن لم تتمكن عقائد الدين من نفوسهم عن جادة الحق والشرع فكان من جملة ما منينا به من نوائب هذه الشرذمة الجاهلة أن قام من يقول بضرر الحجاب بل وعدم مشروعيته وبوجوب تقليد أوروبا بهذه المسألة الخطيرة وتحرير المرأة من قيودها الثقيلة ومزاحمتها للرجل في ميادين الأعمال.
لا حجة لهم في استحسان ما ذكر والاعتقاد بوجوبه سوى أن أوروبا عالمة به وهي مترقية والغريب في ذلك أن بعضاً من متطرفة المغرورين يرى أن كل رقي نالته أوروبا كان بسبب ابتذال المرأة وأن رقينا موقوف على ذلك لا محالة.
وقد كنا كتبنا في السنة الأولى من الحقائق رداً ضافياً على الزهاوي في هذه المسألة وملحقاتها وأثرنا عن حضرة العالم الاجتماعي الكبير محمد فريد بك وجدي ما يتوقعه فلاسفة العمران في أوروبا من انهدام عظمة أوروبا بيد المرأة إن لم يمكن إيقافها عند حدها ونقلنا ما ذكره حفظه الله من كلام المسيو (جان فينول) مدير مجلة المجلات وغيره بهذا
الصدد ولا بأس أن نعيد نقل بعضه ها هنا إتماماً للفائدة قال جان فينول (نقول بغاية الأسف أن المرأة التي بواسطتها تهذيب أوروبا ستكون هي نفسها هادمة تلك المدنية الزاهرة بيديها بإزاء هذه النزعات فإن عقلاء القوم لا يدرون كيف يوقفون سير هذا التيار الشديد الاندفاع الذي ابتدأ يجرف أمامه كل الكمالات الأخلاقية التي بنيت على أساسها عظمة العالم المتمدن أه.
فعلماء أوروبا وفلاسفتها تسعى لتلافي أضرار التبذل ومساواة والمرأة للرجل في كل شؤونه وجهلاؤنا المغرورون يريدون تقليدها فيما أدرك عقلاؤها ضرره وسوء مغبته وقد قرأنا في مجلة (الهلال) الغراء فصلاً من رحلة صاحبها جرجي زيدان لبلاد أوروبا وصف لبلاد أوروبا وصف به حال المرأة الفرنساوية وما جناه عليها وعلى المجتمع الفرنسوي تبذلها وتبرجها وحريتها المتطرفة فأردنا نقل محل الشاهد من كلامه هنا قال:
كنا نشكو من جهل الفتاة الشرقية وحجابها ونحسد الفتاة الافرنجية على تعلمها وحريتها فلما رأينا حالها في باريس انقلبت شكوانا وكدنا نرضى بالحجاب والجهل. أنهم أساؤوا إلى ذلك المخلوق اللطيف بتلك الحرية المتطرفة أرسلوا المرأة إلى الأسواق تخالط الشبان وتبايعهم وتساومهم وتعاشرهم وهي ضعيفة حساسة فتعرضت لمفاسد كثيرة وأغراها الشبان بالمال فخدعوها فلما خرجت من صف الحرائر خدعتهم ثم آل أمرها إلى ضياع العمر في الشوارع والأزقة لا تجد رزقاً إلا باستهواء الشبان وفي القاهرة مثال صغير من تلك الطبقة يعرفن ببنات الرصيف أما هناك فإنهن ألوف ولا تكاد تخلو منهن حديقة أو متنزه أو شارع لاسيما أثناء الليل ولا حرج عليهن بحجة الحرية الشخصية والحكومة الفرنساوية تبيح الفحشاء على شروط وضعتها وقوانين سنتها فأباحت للمتجرين بالأعراض أن يبتوا المنازل والقصور ويحشدون فيها الغواني أصنافاً وألواناً يعرضونهن عرض السلع والأثاث بلا عيب ولا حياء ولهم سماسرة في أيديهم شهادات من الحكومة تخول لهم معاطاة تلك المهنة ولهذه الطبقة من المتهتكين مجالس وأندية وجرائد وكتب لترويج تلك البضاعة وليس ذلك جائزاً في إنكلترا ولكن مصر اقتدت فيه بالفرنساويين كما اقتدت بسواه من أسباب تمدنهم وما كان أجدرنا أن نأخذ الحسن النافع من أسبابه ونعرض عن القبيح الضار.
ومن قبيح هذه الحرية في باريس أن من تلك الشباك الجهنيمة كثيراً في حي يعرف بالحي
اللاتيني فيه أكثر المدارس العالية التي ترسل مصر شبانها ليتلقوا فيها الحقوق والطب أو غيرهما ولا مندوحة لهم عن الإقامة هناك والتعرض لتلك الأخطار في المراقص والملاعب حيث يختلط الشبان بالشابات فلا ينجو من ذلك الخطر إلا قوي الإرادة ثابت العزيمة ولكن الإنسان ضعيف ولاسيما الشاب القادم من بلاد لا يرى فيها المرأة إلا محتجبة وهو في بلده بين أهله ومعارفه يمنعه الخجل من مخالطة غير المحتجبات أما في باريس وكل شيء فيها مباح فإنه يرى الشبان والشابات في الطرق أزواجاً (غير مطهرة) ذكراً وأنثى بلا حرج ولا خجل يتداعبون ويتغازلون ويجد من رفاقه من يغريه على الرذيلة ويحببها إليه باسم الحرية فإذا أحجم عيره بالضعف فهل يلام أولئك الشبان على السقوط وإنما على اللوم على الذين يرسلونهم إلى تلك المدارس وإذا كان لا بد للحكومة المصرية أو الآباء من إرسال أبنائهم إلى مدارس فرنسا فمن الخطأ إرسالهم إلى باريس وتعريضهم لتلك الأخطار على أن الطبقة من النساء ليست كلها من أهل تلك العاصمة فإن فيهن كثيرات من أهل الأرياف الفرنساوية أو من خارج فرنسا وبعضهن من روسيا وألمانيا وغيرهما ويندر بينهن القادمة إلى باريس بقصد العهارة.
وإنما يفد أكثرهن إليها للارتزاق ببعض المهن فيتعرضن للوقوع في تلك الفخاخ ويعينهن الفقر على الوقوع فيها لأن البائعة في مخزن وأجرتها فرنكان أو ثلاثة في اليوم تنفقها على الطعام واللباس والمنام يقع نظرها كل يوم على عشرات من شبيهاتها في الخلقة أو أقل منها جمالاً وكل منهن قد تأبط زندها شاب كساها أحسن الأقمشة وزينها بأجمل الحلي فإذا قويت هذه البائعة المسكينة على محاربة الحسد فإنها لا تقوى على مدافعة من يتعرض لها من أولئك الشبان الذين يغرونها بالمواعيد العريضة ويتحببون إليها بإطراء جمالها وشكوى الغرام وغير ذلك فتقع في الشراك ولا يعاشرها ذلك المغرم إلا مدة ثم ينتقل إلى سواها.
فتصبح غير قادرة على العمل في مهنتها الأولى ويهون عليها الارتزاق من أمثال ذلك الشاب واعتبر كيف تكون حالها متى ذهب شبابها وذوي جمالها فالعلة الأصلية في شيوع التهتك بباريس إنما هو إطلاق سراح الفتاة ومساواتها للرجل وتكليفها الإرتزاق مثله وإباحة الحكومة للفحشاء رسمياً وزد على ذلك أن الفتور الديني شائع في فرنسا حتى أصبح شبانها يعدون العهارة ضرباً من التجارة ولا فرق عندهم بين الفحشاء والتمتع بسائر ملاذ الحياة
كالطعام والشراب والسماع ونحوها فيغرون المرأة على ذلك فتطيعهم وليس أقبح من فتور المرأة في الدين لأنها أقرب إلى التقوى من الرجل وأكثر تعففها من طريق الدين خوف العقاب وهي دقيقة الإحساس سريعة التأثر فإذا لم يشتغل قلبها بالتقوى والرهبة من العقاب خيف عليها السقوط إذ ليس لها ما للرجل من قوة الإرادة ومع ذلك فإنه أكثر سقوطاً منها لكن الناس لا يعيبون سقوطه كما يعيبون سقوطها وذلك من جملة مظالم نظام الاجتماع.
في شوارع باريس ألوف من الفتيات لولا هذه الأسباب لكن أمهات وربات عائلات يربين أبناءهن رجال المستقبل على الفضيلة بدلاً من ضياع شبابهن في الرذيلة ويضيع معهن ألوف من الشباب بلا عقب. لأن هذه الإباحة من أكبر أسباب العقم في فرنسا إذ يمسك الشبان عن الزواج تخلصاً من متاعبه وهمومه واكتفاء بملاذه الوقتية بثمن قليل لا مسئولية بعدها ولا تعب فلا نبالغ إذا قلنا أن فرنسا بين يدي خطر اجتماعي يهددها ولا تخرج منه إلا بعد انقلاب عظيم.
بلغ عدد اللقطاء في باريس للعام الماضي ثمانية عشر ألفاً لا يعرف آباؤهم فهم من نتاج هذه الرذيلة من نتاج الإفراط في الحرية والفتور في الدين. إن الجهل والحجاب يضران بالمرأة ويؤخران الهيئة الاجتماعية عن أسباب المدنية لكن الحرية الزائدة مع العلم أو بدونه تفسد المجتمع الإنساني وتضر بالعائلة وحال فرنسا الاجتماعي أكبر شاهد على ذلك لأن إحصاءها يكاد يكون الآن كما كان منذ أربعين سنة ولم تبق أمة إلا تضاعف إحصاؤها في أثناء هذه المدة.
خلقت المرأة أماً تدبر العائلة وتربي الأولاد وتعليمها ضروري للقيام بمهمتها الطبيعية في الشؤون العائلية وأما تكليفها بأعمال الرجال فإنه خارج عما خلقت له إلا إذا اضطرت إليه لأسباب قهرية ولكننا نرى بعض كبار العلماء يجيزون لها كل عمل يعمله الرجل وأن تتعاطى كل صناعة أو مهنة لأنها مساوية لها. وبعضهم ألف كتباًَ في هذا الموضوع خلاصتها أن المرأة يجب أن تعمل كل أعمال الرجال من صناعة أو علم أو تجارة أو زراعة بحجة تضاعف الثروة بتكاثر الأيدي في العمل وهو رأي نظري لا ينطبق على حاجة المجتمع الإنساني إذا نزل الرجل والمرأة إلى السوق من يربي الأطفال ويدربهم ويعنى بأحوالهم؟ فإن قيل أن المراضع والخدم يفعلون ذلك قلنا أن الطفل لا تربيه إلا أمه
وإذا فرضنا قيام الخدم مقامها فالنفقات التي يستلزمها استخدامهم تستغرق ما تكتسبه المرأة بالعمل خارج بيتها ومهما بلغ ارتقاء الجنس البشري في الاكتشاف والاختراع فإنه لا يقوى على قلب نظام الاجتماع وهذا النظام يقضي على الأم أن تربي طفلها بحيث لا يخرج من دائرة عنايتها وأن يكون هو أهم مشاغلها مع تدبير بيتها وليس ذلك بالشيء اليسير إن القيام بشؤون العائلة لا يقل أهمية عن أعظم عمل من أعمال الرجال في التجارة أو السياسة أو الصناعة أو غيرها.
هذه شهادة رجل مسيحي لا يرى الحجاب ديناً ولا يقول أنه مأمور به في الشرائع السماوية ولكن يقول به لما رأى من مفاسد رفعه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب وكثرة اللقطاء وقلة النسل مما شاهده بنفسه وسمعه بأذنه من غير تأثر بعقيدة سالفة أو دين التزم أحكامه وهي شهادة ينبغي أن تكون مجناً أمام أولئك الحمقى الذين يدعون أن حرية المرأة وتبرجها هو هو مفتاح الرقي ومنهاج السعادة إلى آخر ما يهزؤن به.
بصرنا الله بأسرار دينه وعصمنا من نزعات المفسدين وكيد المتفرنجين إنه سميع الدعاء جزيل العطاء.