المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العلم قلما يجد الإنسان صحيفة سياسية أو مجلة أدبية أو كتاباً - مجلة الحقائق - جـ ٢٦

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌العلم قلما يجد الإنسان صحيفة سياسية أو مجلة أدبية أو كتاباً

‌العلم

قلما يجد الإنسان صحيفة سياسية أو مجلة أدبية أو كتاباً لأديب أو مقالة لا ريب إلا ويرى أنه يدعو إلى العلم ويحض عليه ويحث على التعليم وينادي إليه ولقد تفنن الكتاب وحملة الأقلام في سبيل الدعوة إلى العلم تفنناً غريباً وتأنقوا تأنقاً عجيباً فمنهم من جعل سبيل الدعوة إليه ذم الجهل وبيان مضاره ومنهم من جعلها في بيان ثمرة العلم وما ينشأ عنه من الفوائد وماله من المزايا وما يترتب على تحصيله من النتائج ومنهم من أبدع في تصوير الجاهل لينفر عن جهله ويحذر الناس من عاقبة أمرة.

كم أنشئت جمعيات للدعوة إلى العلم؟ زكم أقيمت حفلات للحض عليه وكم ألف مؤلفات لإحيائه وليت شعري بعد ذلك التعب والنصب والألفاظ الفخمة والجمل الضخمة التي يسردها الكاتبون ليدلوا بها على اقتدارهم ومتانة بيانهم هل علمنا ما هو هذا الرمز الذي يشيرون إليه والأمر الذي يريدوننا عليه؟ كلا لعمر الحق لم نفقه من العلم إلا حروف_ع. م. ل_ولم نستفد من هذه الضجة القائمة سوى أننا رمينا بأولادنا إلى تلك المدارس المختلفة التي يسعى كل منها إلى غاية مخصوصة يجد في تحصيلها ويجتهد في سبيل الموصول إليها ليس مرادنا الآن الانتقاد على المدارس وبيان خطأها في سيرها وإن كل واحدة منها تدعي سلامة منهجها وجودة طريقتها وإنما مرادنا أن نبين أنا بعد كل ما تقدم أمتنا العلم وسرنا في طريق غير طريقه وهذا ما قضى علينا بأن نحرم من الرجال الأكفاء الصادقين الذين يحبون الفضيلة لذاتها ويكرهون الرذيلة لنفسها.

قسم العلماء رضي الله عنهم العلم إلى ثلاثة أقسام مأمور به، ومنهي عنه ومندوب إليه والأول إلى قسمين فرض عين وفرض كفاية.

ففرض العين هو ما لو علمه البعض لا يسقط الحرج عن الباقين وهو علم الحال ونعني به الأمر الذي يتقلب فيه المكلف ليلاً نهاراً من القوال والأعمال والاعتقادات فهل علمنا ما يجب علينا من هذا العلم وهل سرنا في طريقه واجتهدنا في تفهمه وتفهيمه؟

إن الله تعالى افترض الفرائض وأوجب الواجبات على كل بالغ عاقل من بني آدم ولم يميز في ذلك بين الحاكم والمحكوم والغني والفقير والتاجر والزارع والذكر والأنثى ففرض على الجميع معرفة ما يجب له سبحانه وما يستحيل وما يجوز ومثل ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام وفرض تصديق كل ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهل جميع أغنيائنا

ص: 14

وأمرائنا وتجارنا وقرائنا أدوا ما عليهم من هذا الفرض وهل برأت ذمتهم من فرضية تعلمه؟ وما نظن أن أحد يرتاب في الجواب السلبي الذي ينشأ عنه ثبوت المعصية والإثم لا محالة.

إن معرفة ما يقع للإنسان في صلاته بقدر ما يؤدي به فرض الصلاة من الطهارة وأحكامها والمياه وسائر شروط الصلاة وأركانها فرض عين على كل مسلم ومسلمة ولا عذر في ذلك لأحد فهل قمنا بأداء هذا الواجب وهل كل من قام وقعد وفعل أفعال المصلين تصح صلاته ويكون مؤدياً فريضة ربه؟

كلا بل لا بد للعمل من العلم فمن من مصل ليس له من صلاته إلا التعب؟ وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع؟ وكم من ملب يقول لبيك لبيك والملك لا يقول له لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك وما ذلك إلا لبطلان هذا العمل وعدم موافقته للشريعة الغراء. ألهي الأغنياء أموالهم والموظفين وظائفهم والمحترفين حرفهم والمنهمكين بالدنيا دنياهم عن تعلم ما جاء به شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يصلون ويصومون بحسب العادة لا علم ولا تعليم ولا فهم لشيء من أسرار الدين.

كل منا يعامل الناي بالبيع والابتياع بل لا يمكن أن ينفك الإنسان عن أن يستأجر أو يستأجر أو يودع أو يودع عنده أو يعير أو يستعير أو يحيل أو يحال عليه أو يزوج أو يزوج أو يوكل أو يكل أو يقرض أو يستقرض أو يطلق أو يشارك أو يشهد أو غير ذلك وفي كل هذا يفترض عليه العلم للتحرز عن تناول الحرام في كل ما يأتي به ويعمله حتى لا يعقد عقداً فاسداً ولا يقدم على أمر غير مشروع افترى أن التاجر عرف البيع الفاسد والصحيح وعرف الربا وأنواعه التي لا يكاد يسلم منها أثناء بيعه وشرائه أم ترى أن الزارع عرف شروط المزارعة والمساقاة والمحيل عرف شريط الحوالة وأرباب الشركات أسسوا شركاتهم على منهاج سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اللهم أكثر ذلك لم يكن إذا فما هذا العلم الذي يدعون إليه.

قد يقولون إنما ندعوكم إلى العلم الذي يرقي أوطانكم ويحسن صناعتكم ويعلي شأن تجارتكم ألا وهو العلم العصري المفيد كالجغرافيا والطبيعية والكيمياء والفلك وسائر الفنون المستحدثة التي فاق بها الغربيون وتقدموا بسببها أشواطاً عديدة فعلت كلمتهم وتقدمت

ص: 15

تجارتهم وصال لهم المحل الأرفع في التقدم والارتقاء التام في كل علاء قلنا إن كان الذي تدعون إليه هو هذه الفنون الحديثة مجردة عما قدمناه من العلم الديني فلا خير في ذلك ولا نتيجة مفيدة له بل ذلك مضر بالوطن موجب له الخزي والفشل أي خير يتأمل من رجل أتى على هذه الفنون بتمامها ثم لا يبالي بفرائض الله تعالى ولا يقف عند حدوده التي حدها؟ أي فائدة ترجى ممن صلاته وزكاته وحجة وصيامه ويبعه وشراؤه وسائر أعماله على خلاف ما جاء به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع شرع هواه، ويقبل على ما تسوله إليه نفسه نحن لا نقول بحرمة تتعلم جميع العلوم العصرية ولا بمنع الناس من دراستها باعتبار ذاتها لأن العلم من حيث هو علم لا يذم منه إلا ما كان مخالفاً للدين مضاداً لساسه وهذه العلوم التي تدرس اليوم لولا ما انتابها واختلف عليها من أوهام أولئك الطبيعيين وضلالاتهم لقلنا بالتضلع منها لبعض الناس وبتعلم مبادئها للناشئة منهم.

كم أسست معاهد للعلم العصري في بلادنا؟ وكم شيدت مدارس لإحيائه؟ وكم أنفق من الأموال ابتغاء تقويته؟ فماذا نتج عن كل ذلك؟ وما هي الفائدة التي حصلت للوطن بعد تجشم هذه الصعاب وتحمل هذه المشاق.

إن تقويتنا للعلم لا يقصد منها إحياء العلم ولا رفع شأنه بل يقصد منها تقليد أوروبا ومن شأن الضعيف أن يستميت في تقليد القوي ليصل إلى ما وصل إليه. إن الدعوة إلى العلوم العصرية مضرة إذا لم تقترن بالدعوة إلى علوم الدين بل في رأينا أن أكثر هذه العلوم الجديدة فضلاً عن أن بعضها لا يخلو من مخالفة للدين ومبادئه مستغنى عنه غير محتاج إليه لعدم فائدة حقيقة منه للوطن بين ظهرانينا ألوف من الشبان بأيديهم شهادات عالية تؤذن بدراستهم هذه العلوم وتمكنهم منها لم نر منهم ما يفيد الوطن أو يرفع مقامه أو يغنيه بشيء قليل عن أوروبا ولو ضموا إلى علومهم دراسة الآداب الإسلامية، وتحققوا بالأخلاق المحمدية لظهر منهم خير كثير ولو ظلوا على سذاجتهم الأولى من الأخلاق والعادات لنمى ضررهم ولكانوا بالنسبة للوطن لا له ولا عليه إن علماء الإسلام لم يحرموا تعلم النافع من العلوم الحديثة بل قالوا بلزوم تعلم كل ما لا يستغنى عنه في قوام الدنيا وعدوا ترك ذلك من الذنوب والجناية على الدين لأن التساهل في ذلك أقل ما ينشأ عنه عدم إعدادنا القوة لأعدائنا فتنحط بذلك كلمتنا ويخفض شأننا وتذهب بلادنا ونحن في نص الكتاب المجيد

ص: 16

مأمورون بإعداد القوة لهم ما استطعنا فتعلم ما يؤول بنا إلى إعداد القوة بل كل مال غنية لنا عنه في قوام أمر دنيانا فرض كفاية لا محالة وإليك ما قاله الإمام الغزالي تأييداً لهذا. قال: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم والعلوم بالإضافة إلى الفرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية وأعني بالشرعية ما أستفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامة ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع مثل اللغة فالعلوم التي ليست شرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح فالمحمود ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين فلا يتعجب من قولنا أن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل والحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك فإن الذي أنزل الداء نزل الدواء ، ارشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله الخ ما كتبه الإمام رحمه الله تعالى.

أبعدها يصح قول من يقول أن تعلم المفيد من العلوم العصرية ممنوع عند علماء المسلمين؟ فلم يبق في المسألة إلا أن الدعوة إلى العلم إذا أريد بها العلوم العصرية فقط لا تصح بل نكون فيها كمن يبحث عن حتفه بظلفه، ويجدع مارن أنفه بكفه فمن الواجب علينا العناية التامة بتعلم ما يجب علينا من العلم الديني لننتفع به في ديننا وتصحيح عباداتنا ومعاملاتنا وتعلم ما يفيدنا ويؤول بنا إلى إعداد القوة لعدونا والاشتغال بما يرفع شأن البلاد.

حببت إلينا الدنيا وزينت إلينا شهواتها وأصبحت هي الغاية والمقصود، والمبتغى والمأمول فأقبلنا على كل ما ظننا أنه يوصلنا إليها، وسارعنا إلى ما توهمنا أنه يقربنا منها، ورغبنا عن المقصود الأعظم والمطلوب الأول وهو متابعته صلى الله عليه وسلم والوقوف عند حدوده التي حدها، والسعي وراء ما يعود علينا بالمصلحة العامة.

ص: 17

كل إنسان سواء في ذلك الرجل والمرأة يفترض عليه علم أحوال القلب وما يعتوره من الأخلاق حسنها وسيئها وذلك كالجود والبخل والجبن والجرأة والتكبر والتواضع والعفة والشح والإسراف والتقتير والسماحة والحرص والمحبة والبغض ونحوها فإن ذلك مما يجب على كل مسلم معرفته إذ الكبر والبخل والجبن والإسراف حرام بالاتفاق ولا يمكن التحرز عنها إلا بمعرفتها ومعرفة ما يضادها فهل علمنا بشيء من هذا؟ وهل أحكمنا الاتصاف بجميع ما تقدم من الصفات الحسنة؟ أفنحن بغنية عن الصدق والشكر والحلم والتوبة وحسن الأخلاق ومحبة الدين والتواضع والصبر وحفظ آداب الصحبة والتقوى والخوف والرجاء وغض الطرف والقناعة بالحلال من المال والقرض وإنظار المعسر والاهتمام بأمر المسلمين وصلة الأرحام وخدمة الأمة ونصيحتها ونصيحة حكامها وغير ذلك من محاسن الأخلاق؟ هل جاهد أميرنا وحقيرنا وغنينا وفقيرنا وكل واحد منا نفسه على الابتعاد عن مساوي الأخلاق؟ هل برئنا من الكبائر؟ هل تركنا الكلام فيما لا يعنينا؟ والله لو تركنا ذلك لما تشغل الكبير والصغير والعالم والسياسي والصانع والتاجر بالغيبة المحرمة وأكل لحوم البرياء من الناس هل انتهينا عن الفحش والسب وبذاءة اللسان؟ والله لو انتهينا عنه لما قام للجرائد السافلة قائمة ولما تمكن البذيء من هتك عرض المستور هل بعدنا عن التكلف في الكلام؟ والله لو بعدنا منه لما احتجنا إلى التصنع لدى كبرائنا والخضوع بين يدي حكامنا بالحق وغير الحق. هل تركنا عن خلف الوعد؟ والله لو تركناه لأنجزنا الوعود، ووفينا العهود هل اجتنبنا الكذب؟ والله لو اجتنبناه لما احتجنا إلى هذه القوانين وتلك المحاكم لما احتجنا إلى تأخير الدعاوي لما احتجنا إلى تكرر الجلسات لما احتجنا إلى إثبات الوكالات لعمت الراحة الحاكم والمحكوم هل تباعدنا عن حب المال والشهرة والميل إلى الرتب؟ والله لو تباعدنا عنه لما تفرقت الأمة فرقاً وأحزاباً لما قتلنا أنفسنا بأيدينا وأيدي أعدائنا لما ذهبت بلادنا لما ضاعت حقوقنا هل أعرضنا عن الحسد؟ والله لو أعرضنا عنه لما حصل العداء بيننا ولاتفقت كلمة علمائنا وأمرائنا وتجارنا وسوقتنا على ما فيه نفعنا. هل تجردنا عن الكبر؟ والله لو تجردنا عنه لخدمنا فقراءنا وعملنا على مساعدة ضعفائنا ورحم كبيرنا صغيرنا ودامت علين نعم ربنا. هل تنزهنا عن الزنا؟ والله لو تنزهنا عنه لقطع دابر هذه الكبيرة من بلادنا ولارتفع الذل عنا وحفظ أمر العفاف

ص: 18

والشرف فينا. هل برئنا؟ هل برئنا؟ إلى آخر ما هناك من المعائب والرذائل التي لو تخلينا عنها لكنا أول الأمم وفي مقدمة العالم.

فما بالنا إذاً نعرض عن جميع هذا ولا نتعلم ما يجب علينا تعلمه منها، أفيصح شيء من العلم لمن يقرأ الجبر والهندسة ويدرس بعض اللغات الأجنبية عارياً عن محاسن الأخلاق ومقصراً في تعلم ما تصح به صلاته وصيامه وسائر أعماله؟ ايلام بعد هذا إن كانت في يده شهادة (بكالوريا) إن مالت نفسه إلى الزنا أو شرب المسكرات؟ أيلام إذا حببت إليه الوظيفة فوشى بفلان وكتب بشأن فلان؟ أيلام إذا طمحت نفسه إلى المال وجمعه فباع في سبيل الحصول عليه بلاده بل وطنه وأمته؟ أيلام إذا غدر؟ أيلام إذا فجر؟ الخ الخ نحن بأشد الحاجة إلى درس علم الأخلاق والاختبار فيه علمياً وعملياً حتى نأمن شرور نفوسنا ولا نقع في سيئات أعمالنا إلى علم الدين والأخلاق فليدعوا الداعون وإلى ما يهذب النفوس فينزع منها شهواتها فلينادي المنادون وإلى تعلم ما يدفع عنا الذل والإهانة وكيد الأعداء فليستصرخ المستصرخون وعسى أن تقع كلمتنا هذه موقع القبول، وتحل محل الإجابة ولله في عباده شؤون.

ص: 19