المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين الإسلامي والتوحيد - مجلة الحقائق - جـ ٢٩

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الدين الإسلامي والتوحيد

‌الدين الإسلامي والتوحيد

السمعيات

هذا هو القسم الثالث من مباحث علم التوحيد ونعني به المسائل التي لا يهتدى إلى معرفتها إلا من طريق السمع ولا يعتمد في اعتقادها إلا على الأدلة النقلية وإن كانت على وجه يستلزم محالاً في العقل كأحوال البرزخ وما يقع في اليوم الآخر من بعث وحشر ونعيم وعذاب وجنة ونار إلى غير ذلك مما نأتي على ذكر تفاصيله وشرح بيانه إن شاء الله تعالى.

من المقرر أنه ليس في وسع العقل الإنساني وحده أن يستقل في معرفة كثير من الأمور مثل المعاد الجسماني وأكثر أحوال الآخرة وبعض صفات الله تعالى ووظائف العبادات كما يرى في أعداد الركعات وبعض الأعمال في الحج وتقرر الجزاء لكل نوع من الأعمال في الدار الآخرة إلى غير ذلك مما لا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة وجه فائدته ولا يخفى أن درجات العقول متفاوتة يعلو بعضها بعضاً لا سيما إذا لاحظنا أن لكل قوم مشهورات مخصوصة بهم مسلمة عندهم بل تكون لديهم بمنزلة البديهيات والحال أن غيرهم لا يسلمونها بل يردونها وكذا إذا لاحظنا أن النفس مسخرة للوهم وله استيلاء عظيم عليها حتى أننا نرى أن أكثر الناس يكونون منهمكين في أوهام باطلة مدة عمرهم فتشتبه على العقل المشهورات والوهميات بالأوليات وكذا نرى بعض الناس يستحسنون استعمال المسكرات لاجتلابها للسرور ويشتبه عليهم وما يلحقها من المفاسد والشرور من زوال الصحة الجسمانية وجلب الفقر والعار المهين بين الناس فالتفويض في كل الأمور إلى العقل مظنة التنازع والتقاتل واختلاف النظام وتقويض دعائم العمران.

لهذا كان العقل الإنساني محتاجاًُ إلى نبي يهديه إلى معرفة ما ينبغي أن يعرف من أحوال الآخرة ويرشده إلى ما لا يستقل بمعرفته من تحديد أحكام الأعمال ويكشف له عن وجوه الشياء التي لا يدرك حسنها وقبحها ويكون بذلك مبرهناً على أنه يتكلم عن ربه عز وجل والذي يعلم مصالح العباد على ما هي عليه والحياة الآخرة وما أعد فيها مما هو مناط سعادتهم وشقائهم.

نعم لا بد من نبي يحدث عن الله تعالى بما خفي على العقول ويبين للناس ما لا بد لهم من

ص: 1

علمه من أحوال البرزخ والمعاد الجسماني معبراً عن ذلك بما تحتمله عقولهم ولا يبعد عن متناول إفهامهم وقد اشبعنا الكلام في مقالاتنا السابقة وبينا شدة حاجة البشر إلى الرسل بما لا يدع حاجة في النفس إلى المزيد.

إذا تمهد هذا فنقول ثبتت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل القاطعة والبرهين الناصعة وأنه صادق فيما يخبر عنه عن ربه فلا مرية في أنه يجب تصديق خبره والإيمان بما جاء به عليه الصلاة والسلام فمما أخبر به صلى الله عليه وسلم سؤال القبر وعذابه ونعيمه وقد وردت الأحاديث ناطقة بذلك ومصرحة بوقوعه وتعددت طرقها تعداداً أفاد به مجموعها التواتر المعنوي.

أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا دفن الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له قبره سبعون زراعاً في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال له نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقاً قال سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يوزال فيها معذباً حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ذلك وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه الخ الحديث وقد ورد في ذلك جملة من الأخبار التي صحت أخرجها أصحاب السنن والمسانيد ما بين مطول ومختصثر في رواية غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.

ثم أن سؤال القبر عام لكل مؤمن وكافر كما عليه جمهور العلماء وهو أمر ممكن من مجوزات العقل وكل ما جوزه العقل يستدعي عادة الحياة إلى البدن لفهم الخطاب ورد الجواب وإدراك اللذة والألم وهو منتف بالمشاهدة لأنا نقول أن ذلك لا يستدعي إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب ورد الجواب ولا يدفع ذلك ما يشاهد من سكون أجزاء الميت وعدم سماعنا للسؤال له فإن هذا مجرد استبعاد خلاف المعتاد وهو لا ينافي

ص: 2

الإمكان فإن النائم ساكن بظاهره وهو مع ذلك يدرك بباطنه من الآلام واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه كألم ضرب رآه بعد استيقاظه وخروج مني من جماع رآه في منامه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع كلام جبريل ويشاهده والصحابة حوله والحال لا يسمعون كلاماً ولا يرون شخصاً فالإدراك والإسماع بخلق الله تعالى وإرادته قال عز وجل (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) أما عذاب القبر ونعيمه فقد ورد الشرع به قرآناً وسنة وأجمع عليه علماء الأمة قبل ظهور البدع واختلاف الأهواء قال تعالى في حق آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) وقال جل وعلا: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون).

وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله وأخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذه الأمة تبتلي في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله تعالى أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه ثم أقبل بوجهه علينا فقال تعوذوا بالله من عذاب القبر.

وكذلك ورد في نعيم القبر جملة تؤيد ثبوته وتؤكد وقوعه منها ما أخرجه الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن يفسح له في قبره ويرى مقعده في الجنة وأخرج الترمذي عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إلى غير ذلك من الأحاديث الوافرة والأخبار الصحيحة.

وكل ما ورد من عذاب القبر ونعيمه فهو محمول عند علماء الدين على الحقيقة لأنه أمر ممكن كما تقدم فيجب التصديق لبه ولا يمنع من التصديق به تفرق أجزاء الميت في بطون السباع وأجواف السمك وحواصل الطيور وأقاصي التخوم فإن المدرك لألم العذاب أجزاء مخصوصة فالقادر المنفرد بالإيجاد والإعدام لا يعسر عليه إعادة الإدراك إليها بعد تفرقها ومن سلم اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم برؤية الملك دون أصحابه الموجودين بحضرته وتعاقب الملائكة فينا وآمن بقوله تعالى في الشيطان (إنه يراكم هو وقبيله من

ص: 3

حيث لا ترونهم) وجب عليه التصديق بذلك كيف والإنسان النائم يدرك أحوالاً من السرور والنعيم من نفسه في حالة نومه حتى يعرق جبينه ونحن لا نشاهد ذلك منه مع وجودنا حوله والحاصل أن العبد بعد الموت لا يخلو في قبره من عذاب أليم أو نعيم مقيم وهذا الذي نعتقده وندين الله تعالى به ومن ارتاب ذلك فلضيق حوصلته وظلمة قلبه وجهله باتساع قدرة الله تعالى وتصرفه في خلقه على حسب ما يشاء سبحانه.

ص: 4