الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الرابع والثلاثين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى:
1-
3) أحمده وأصلي وأسلم على محمد رسوله المصطفى، وخاتم أنبيائه المجتبى،
وعلى آله الطيبين، وخلفائه الراشدين، وسائر أصحابه الهادين المهديين، وأوليائه
الأئمة الوارثين، الذين استخلفهم في الأرض لإقامة أمر الدنيا والدين، ومن
اتبعهم إلى يوم الدين {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:
165) .
أما بعد فإنني أُذَكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الرابع والثلاثين بفاتحة المجلد
الذي قبله إذ عرضت عليهم فيها حال شعوب الإسلام كلها بعد حرب الأمم الكبرى،
ليجعلوا نُصْب أعينهم ما وقع على بعضها من الغبن والخسار، وما أصاب بعضها
من الربح والانتعاش، وما هي عرضة له من الأمرين تجاه دول الاستعمار، إذا
وقعت الواقعة، وجاءت الطامة الكبرى بالحرب الثانية المتوقعة، وما يجب عليهم
في دينهم ودنياهم، وما لكل منهما من الصلة والتأثير في الآخر؛ فإن أكثر
المسلمين عن هذا غافلون {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10)، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) .
لقد عرفوا من تلك الفاتحة أن وطأة دولتي الاستعمار الكبيرتين على الشعوب
العربية التي نصرتهما في الحرب، وجاهدت معهما بأموالها وأنفسها، كانت أشد
وطأة منها على الشعوب الأعجمية التي قاتلتهما والتي سالمتهما، وكذلك تكون في
الحرب الآتية المتوقعة؛ لأن هذه الدول مادية، قد فقدت جميع الفضائل الإنسانية.
وقد انقضى العام وحال الشعوب الإفريقية معهما على شر ما كانت عليه من
مصر إلى مراكش، ولهي في آسية أشر، وأدهى وأمر.
إن إنكلترة لا تزال ممعنة في إرهاق عرب فلسطين، وانتزاع وطنهم منهم
وإعطائه لليهود الصهيونيين، لتجدد لهؤلاء ملكًا في قلب البلاد العربية، حاجزًا بين
مصر وبين الحجاز وفلسطين، وإن فرنسة لا تزال جادة في جعل عرب سورية
مللاً متعادية في الدين، وشعوبًا متفرقة في الدنيا، ومصرة على إبقاء الأكثرين من
مسلميهم محصورين في سجون المدائن الأربع داخل البلاد لا منفذ لهم إلى البحر،
ولا متسع أمامهم في طلب الرزق، ولا حرية لهم في عمل ولا علم ولا حكم.
ولم تكن إنكلترة في وقت، ولا في مكان شرًّا من فرنسة وأظلم مما هي الآن
في فلسطين، فقد لانت فرنسة في إرهاقها للمغرب الأقصى بعض اللين، إلا قتالها
لقبائل السوس التي لم تخضع لها باسم حماية المخزن، ولا تزال (إنكلترة) بارزة
أمام الأمة العربية بروز الفاتح الظافر، المستعمر القاهر، تنازعها حقها القومي
والديني في جزيرتها المقدسة، بأساليب دسائسها وكيدها المعروفة، فهي قد ربحت
في العام المنقضي أن خدعت الإمام يحيى حميد الدين حتى غلبته على طبعه في شدة
الحذر من الأجانب، وفي صلابته في السياسة السلبية، فأمضى لها معاهدة أقرها
فيها على حمايتها للمقاطعات اليمانية التسع، إلى مدة جيل اجتماعي كامل هو
أربعون سنة كاملة كمدة تيه بني إسرائيل يمكنها أن تنشئ جيلاً جديدًا في هذه
المقاطعة بجميع وسائل التمكين، يكون بينه وبين سائر إخوانه في المقاطعة اليمانية
الأمامية بُعد الشرق والمغرب: عقيدة ورأيًا وذوقًا
…
إلخ.
هذا ما فعلته في الجنوب، وإنها لتفعل في الشمال ما هو أشد خطرًا على
الأمة العربية في دينها ودنياها: إنها لتمكن لنفسها النفوذ في منطقة شرق الأردن
بحيلة الانتداب، وفي العقبة الحجازية التي سُلبت من الحجاز بعد عقد صك
الانتداب، وهي حبل الوريد للجزيرة العربية، ومجرى دمها، ودهليز حياتها
الحربية والسياسية والمدنية، لكيلا تتجدد لهذه الأمة حياة مستقلة؛ فتعجز الدولة
البريطانية عن خنقها متى شاءت. وقد تواترت الروايات من فلسطين وشرق الأردن
أنها افترضت الشقاق بين ملك السعودية العربية، وإمام اليمن فعادت إلى ما كانت
بدأت به في أثناء فتنة ابن رفادة من تحصين خليج العقبة المنيع وامتلاك رقبة
أرضه؛ لأن صاحب الحجاز أيضًا لا يستطيع أن يعارضها في ذلك (وقد بينا هذا في
الجزء الماضي من المنار) .
إن إنكلترة لا تجهل أن عجز صاحب الحجاز عن معارضتها اليوم أو غدًا لا
يُسقط حق الحجاز، وحق الأمة الإسلامية، وحق الدين الإسلامي نفسه في هذا
الحصن الحصين من سياج الحرمين الشريفين، بل لو فرضنا أن ملك العربية أجاز
- لا سمح الله - هبة علي بن حسين هذا المُوَقِّع لأخيه عبد الله بن حسين إجازة
رسمية لما كانت إجازته لهذه الهبة إلا مثل بدء إنشائها أو أضعف منها، فالإنكليز
يعلمون أنها هبة باطلة في الشرع الإسلامي، وفي أصول القوانين الدولية، فهي لا
تفيدهم إلا فرصة عجز الحجاز المؤقت عن منع ما يعملون فيه، وأنه متى سنحت
الفرصة لأية حكومة حجازية إلى استعادته فلا يمكنها أن تضيعها، ولا سيما إذا قام
الشعب العربي بتأييد العالم الإسلامي لمطالبتها به، وإن ذلك لقريب واقع، ما له من
دافع.
هذه الجرأة من الدولة البريطانية على عداوة العرب والإسلام، ستكون من
أكبر أسباب زوال سلطانها من الشرق الأدنى والشرق الأوسط أيضًا، وإن خليج
العقبة لهو أكبر هذه الأسباب، كما بيناه في الجزء الماضي وغيره، وماذا تفعل
الأمة العربية والشعوب في طغيان هذه الدولة القوية؟
الأمة العربية في طور يقظة وسعي حثيث للوحدة والاستقلال، والشعوب
الإسلامية كلها على استعداد نفسي وعملي لتأييدها، وناهيك بمحافظتها على مهد
دينها، وتنفيذ وصية نبيها مصلح البشر الأعظم صلى الله عليه وسلم في مرض
موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وهذا التفرق بين البلاد العربية
والشعوب الإسلامية لا يدوم، وبشائر الفوز والفلاح تبتسم له بجميع الثغور في
جميع النواحي، فعلى الأمة الإنكليزية إن كان فيها بقية من تلك العقول الناضجة
والأخلاق الحكيمة الماضية، لم تسلبها منها الأفكار المادية كما قال حكيمها الأكبر
(هربرت سبنسر) أن تفكر في هذا الخطر عليها قبل وقوعه وتَعَذُّر تداركه.
ماذا تجدد في العام الماضي من وسائل النجاح للعرب وللإسلام، ويجب عليهم
أن يوجهوا إليه أفكارهم وأفعالهم في هذا العام؟
أما في جزيرة العرب فقد تبين أن التنازع بين إمامي الجنوب والشمال الذي
خشينا أن يكون هادمًا أو مضعفًا لما كان فيها من بقايا القوة القديمة، قد أثبت لنا
دلالته على قوة عصرية جديدة، وأن القتال الذي نشب بين جيوشهما سيكون فصدًا
يخرج به ما في عروق الأمة من الدم الفاسد الذي ولدته الجهالة والتقاليد المذهبية
والموضعية، التي فرقت الأمة وجعلت أقوامها شيعًا متعادية، فمن الجهل أن نحزن
لخروج هذا الدم وإن كرهنا سببه، وأن نبرم الصلح قبل خروجه فيكون صلحًا على
دخن، لا يعقبه إلا عدوان شر منه، ربما يتجدد في وقت يكون فيه الطامعون في
الأمة العربية أقدر على الاستفادة منه مما هم الآن، فلقد كان أخوف ما خفنا من العاقبة
أن يتذرع به الأجانب لإضعافنا والدخول فيما بيننا، فظهر أن هذا الوقت غير
مواتٍ لهم ولله الحمد، وأمنا هذا الخطر الآن فيجب أن نقطع عليه الطريق فيما بعده.
وظهر لنا من خلال هذه الفتنة أن القوة العربية السعودية حية صحيحة المزاج،
سليمة من الأمراض والآفات، وأنها على درجة من النظام العسكري والمدني فوق
ما كان يتصوره الأقارب والأجانب، وإن كانت لا تزال دون الواجب، كما ظهر
من قبل ذلك قدرة إمامها ومجددها على حفظ الأمن في الحجاز كنجد على أكمل
وجه، وعلى إيجاد أسباب الحضارة العصرية وأنواع المواصلات والصحة بأعظم
ما تخوله إياه الموارد المالية والرجال العاملين، فثبت بهذا وذاك أن الأمة العربية
مستعدة أتم الاستعداد لتجديد دولة إسلامية مدنية في مهد الإسلام ومنبت أرومة
العرب، فهل طلاب الوحدة العربية والتجديد الإسلامي الذي يعيد الحياة الإسلامية
المادية والمعنوية سيرتها الأولى من حيث أشرق نورها، وأتم الله ظهورها، أن
يؤيدوا هذا التجديد ويمدوه ويعلموا أنه مصداق قول رسول الله خاتم النبيين، الذي
فضلهم الله باتباعه ما صدقوا فيه على جميع العالمين، (إن الإسلام ليأرز إلى
جزيرة العرب، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأرويَّة من رأس الجبل) .
وأما القوة اليمانية العربية فإنها على قدم تأسيسها، وكثرة عَددَها وعُددها
وسعة ثروة إمامها وقائدها، وكثرة ما نوه به العرب والإفرنج من وصفها، قد ظهر
أنها ملتاثة بعلل من التربية الإدارية والسياسية في بلادها، واختلاف التقاليد
المذهبية بين شيعة الزيدية الحاكمة، والسنة الشافعية المحكومة فيها، وتجلت للأمة
العربية الحقيقة التي يجب أن تعرفها من هذا القسم المهم من قومها ووطنها؛ لتكون
على بصيرة من علاجه، وإعداده للاتحاد بغيره، بدلاً من وقوعه موقف العداء له
وتربص الدوائر به، كما عُني الدعاة المفسدون بتصويره، بل لم يستح بعضهم أن
ينشر في الصحف بعد هزيمة جيشه أن يذيع أن الإمام ينظم جيشًا لجبًا يقوده بنفسه
لفتح نجد واحتلال الرياض، كما أذاعوا في أول الفتنة أن سيفتح الحجاز! ! ولعلنا
ننشئ مقالاً خاصًا نبين فيه حقيقة حال الزيدية، وما ينبغي أن يكونوا عليه لإصلاح
شأنهم، وتأمينهم والأمن منهم، مع النظر في شروط إمامتهم، وحكم قتال البغاة
عندهم، وكنا منذ سنين قد كتبنا تقريرًا أرسلناه إلى مولانا الإمام الهمام مع وفد
خاص فيما يجب عليه من الإصلاح والإدارة، فشكر ذلك لنا، ولم ينفذ منه شيئًا.
هذا وإن من بشائر الاستعداد للوحدة العربية القريبة أن لاح لنا من جانب
حكومة العراق بارقة أخرى صغيرة في صورتها كبيرة في معناها، هي قصة
تمثيلية في بث الدعوة إلى الوحدة العربية، أطلق عليها اسم (مثلنا الأعلى) كانت
وضعت في آخر مدة المرحوم الملك فيصل وحضر تمثيلها أول مرة معجبًا به، ثم
طبعت منذ شهر أو شهرين في مطبعة الحكومة العراقية بإيعاز وزارة معارفها،
وتوجت بإهدائها إلى (روح فيصل بن الحسين) ونشرت في هذا الشهر (المحرم
سنة 1353 هـ 1934 م) فكانت بهذا وذاك دعاية رسمية أو شبه رسمية للوحدة
العربية، عرفنا بها ما كنا نجهل من رأي هذه الحكومة في الوحدة من بعد فيصل
رحمه الله تعالى.
فهذه خلاصة ما تجدد في سبيل الوحدة العربية وحياتها الجديدة في العام
الماضي نستقبله في هذا العام راجين مستبشرين.
وقد حدث فيه من الأحداث المؤسفة أن كلاًّ من دولتي العراق والأفغان قد
خسرت ملكها المحبوب المحنك، بيد أنه حل محل كل منه نجله الشاب المثقف،
فسارت الدولتان معهما سيرتها الأولى مع والديهما بحنكة رجالهما واستقرار النظام
فيهما.
ومن الأنباء السارة أن حكومة الجمهورية اللادينية التركية قد رجعها الاختبار
عن بعض الأعمال التي خالفت بها شريعة الإسلام وهدايته، وأن رئيسها مصطفى
كمال حضر صلاة العيد مع رجال دولته الرسميين في المسجد، وإنها لفاتحة خير
تدل على ما يرجوه كثير من عقلاء الترك وغيرهم من رجوع هذه الحكومة إلى كل
ما هو قطعي من هداية الإسلام.
وحدث في أحد الشعوب الإسلامية التي كانت مستعبدة للأجنبي أن استقلت في
إثر ثورة حامية الوطيس، ألا وهو شعب تركستان الصينية، وإنها لقوة إسلامية
حربية، تدل على أن المسلمين لم يفقدوا هذه المزية القديمة، وأنهم لا ينقصهم في
هذا العصر إلا السلك الجامع ينتظمون فيه كما قال حكيمهم السيد جمال الدين قدس
الله روحه، ولن تعيده لهم إلا هداية القرآن، ولتأطرنهم عليه موقظات الزمان أطرًا،
بدعاية المصلحين المجددين، وبالرغم من أنوف الملحدين والجامدين.
رب رجل مستشرق من رجال الدول القاهرة لألوف الأنوف من المسلمين،
ورب رجل شرقي متفرنج يائس من حياة الشرق والشرقيين، يقرآن هذه الجوائب
التي تبتسم للعرب والأعاجم من المسلمين، وتبشرهم بوحدتهم وجامعتهم فيضحكان
من غرور كاتبها وتغريره بقومه وأهل ملته (التغرير والتغرَّة بالشخص أو الشيء
تعريضه للهلاك) بزعمهما أنه يخيل إليهم إمكان تأسيس الوحدة العربية، والجامعة
الملية بالرغم من الدولة البريطانية التي تقطع جميع سبل الحياة في وجوههم بل
بالرغم من أنوف الدول الثلاث الكبرى المتعاونة على استعبادهم مستعينات بجميع
وسائل القوة الحربية والعلمية والمدنية والسياسية التي عندهن، وجميع وسائل
الضعف الموروثة التي ما زالت تفرق بين المسلمين، من المذاهب والأوطان
والزعامات والآراء الإلحادية، والشهوات الحيوانية، فلئن قضى ابن السعود السني
الحنبلي على قوة ابن حميد الدين الشيعي الزيدي، فليزيدن قضاؤه هذا سعير
الشقاق بين السنة والشيعة ضرامًا، ولتكونن رواية (المثل الأعلى) للوحدة العربية
في العراق مهزلة من المهازل المضحكة لأهل الآفاق، ولتجدن من حزب الشرفاء
آل الرسول صلى الله عليه وسلم من يزداد إيمانًا بفضل السيطرة الإنكليزية على
هذه الوحدة العربية الإسلامية، ويستعين بالوطن اليهودي، على الوطن السعودي
فلا تكون هذه الوثبة السعودية التي تجددت بها آمال العرب والمسلمين في نجد
والحجاز، وخفقت لها القلوب وشخصت إليها الأبصار في مصر والشام، إلا حافزة
للهمم، ومغرية للدول، وصنائعهم من العرب باليد لها، والإسراع إلى القضاء عليها.
مهلاً أيها الإفرنجي المستشرق، والشرقي المتفرنج، ما أنا بجاهل لقوى
الدول المعادية للعرب وللإسلام، وما أنا بمغرور بما نوَّهت به من المبشرات
الجديدة لقومي وأمتي، ولا بغافل عن مساويهما الراسخة بطول العمر فيهما؛
ولكنني أنظر إلى الشرق والغرب نظرًا جديدًا، فأرى أن الشرق كان مريضًا،
فدخل في طور الشفاء فأرجو له سرعة الإبلال، وإنه ضعيف نفخت فيه روح
القوة الصورية والمعنوية، فأتمنى بلوغها أوج الكمال، وأرى أن الغرب كان
صحيحًا سليم المزاج فدبت في بنيته سموم الانحلال، وبلغت قواه ما قُدِّر لها من
وسائل الكمال، ثم عرض لها من ضعف القوى الروحية والهرم ما ينذرها الزوال
من حيث تتجدد قوى الشرق المادية والروحية، وتدخل في سن الشباب.
أما القوة المادية من حربية ومالية فقد نبغت في الشرق الأقصى دولة سبقت
بها دول الغرب كلها، ووقفت في وجهها وقفة المضارع المنازع لها، فوجل منه
قديمها وجديدها، وصفعت عصبة أممهم المنافقة صفعة على وجهها أضحكت منها
أمم الأرض كلها، وإنما ينقص هذه الأمة (اليابان) أن تعزز قوتها المادية التامة
من جانبيها الحربي والمالي بالقوة المعنوية من طرفيها السياسي والروحي، في هذا
العهد الذي فقدتهما فيه أوربة بشدة تعاديها، وتربص دوائر السوء بينها، وانفصام
عرى الدين والفضيلة التي كانت تستمسك بها، وإن اليابان لفاعلةٌ ذلك إن شاء الله
تعالى.
وأما القوة المعنوية فحسبنا من آيات تجددها في الشرق شعور شعوبه كلها
بالآلام وما يزيلها، وبالآمال وما يقيلها، ألا وإن في الشرق قوة هي فوق جميع
قوى العالم الجامعة لكل ما تحيا به الأمم الحياة المعنوية والمادية من جميع جوانبهما
وأرجائهما، ألا وإنها روح الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين من السماء،
فألقاها إلى محمد الأمي في غار حراء، فأحيا به الأمة العربية الأمية، فأحيت به
جميع الأمم الأعجمية، وفتحت به نصف العالم في النصف الأول من القرن الأول
من ظهوره، ثم شمل نوره العالم كله،، حتى حجبه المسلمون عن أنفسهم وعن
سائر الناس، ووضعوا مصباحه المضيء بنور الله تحت المكيال - كما قال المسيح
عليه السلام ولكن قد سخر الله المصلحين في هذا العهد لكشف المكيال عنه،
وتوجيه أبصار العقلاء إلى اقتباس النور منه، وسيرى جميع المسلمين بأشعته أن
الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا إخوانًا متعاونين على نشر هذا الدين، وأن أئمة أهل
البيت النبوي كزيد بن علي وجعفر بن محمد بن علي عليهم السلام، وأئمة السنة
من حفاظ الحديث ومستنبطي الفقه الأعلام، ما كانوا إلا إخوانًا متحابين، وأن
المفرقين بين المسلمين لأجل الملك، والمتفرقين في الدين تعصبًا لبعضهم على
بعض، هم أعداؤهم وأعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب
عليهم أن يقطعوا على دعاة التعصب المذهبي ما يحملهم عليه من المنافع، ويتفقوا
على ما أجمعت عليه الأمة، ويعذر بعضهم بعضًا فيما اختلف فيه الأئمة.
ألا وإن هذا القرآن شمس الله المشرقة لهداية جميع الأمم، ومأدبته المنصوبة
لتغذية جميع البشر، وإن بعض علماء الإفرنج المستقلين في العقل والرأي ليقولون
في هدايته ما يدعون به قومهم إليه، وإن دولة اليابان الشرقية كانت آخر من فطن
له، وستكون العاقبة في سيادة الأرض لمن سبق إلى الاهتداء به، كما بيَّنا ذلك
مفصلاً بالبرهان في كتاب (الوحي المحمدي) وإنا بهذا لموقنون، وقد سبقنا إليه
حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني وشيخنا الأستاذ الإمام، وصرح به برناردشو
الكاتب الإنكليزي وغيره من الأعلام، وقد تطلع الشمس من مغربها، وإنما العاقبة
للإسلام {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ
اهْتَدَى} (طه: 135)، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى} (طه: 47) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتمان القرآن عن أهل الكتاب
وسورة يوسف عن النساء
(س1 - 3) من صاحب جريدة الوطنية بمصر نُشر في العدد 427 منها
وتاريخه 28 ذي الحجة سنة 1352 هـ، و12 أبريل سنة 1934 م ووجه إلى
علماء الإسلام كافة، وقد أرسله صاحبه مع كتاب بخطه يخصني به بالسؤال، وقد
ذكر في مقدمته أن أستاذًا من الشيوخ المعلمين في المدارس الأميرية، وخطباء
بعض الجمعيات الإسلامية، قال له (وقد سأله عما بلغه من إنكاره لقراءة القرآن
لتبليغه بالمذياع - أي: آلة الراديو - ما يأتي بنص الجريدة وهو:
(إن في القرآن آيات ضد أهل الكتاب كان لها وقت نزولها ما يبررها، أما
وقد أصبحوا بعد ذلك ذوي ذمتنا فلا يجوز أن يسمعوا تلك الآيات) .
ثم تجاوز هذا وقال: إنني أمقت قراءة سورة يوسف في البيوت حتى لا
تسمع النساء حديث يوسف مع زليخة فيفهمنها بما يثير الريبة في عفاف النبي
الكريم سيدنا يوسف (وزاد على هذا قوله) إنني لا أسمح أن يُقرأ القرآن في حفل
عام من رجل لا يفهم معانيه
…
إلخ.
(فأنكرت عليه رأيه في هذا كله؛ ولكني جئت أستفتي علماء الدين في رأيه
هذا فماذا يقولون؟) اهـ. بحروفه بدون مقدمته، وذيله الذي رد به صاحب
الجريدة على الأستاذ.
(جواب المنار)
إن هذا الذي عُزي إلى هذا الأستاذ رأي باطل، لا يوافقه عليه مسلم عالم ولا
جاهل، بل هو بدع من الرأي الأفين، لم يبلغنا عن أحد من الأولين ولا من
الآخرين، وما علل به إنكار إسماع أهل الكتاب للآيات التي سماها ضدهم،
وإسماع النساء سورة يوسف باطل مثله، وكل تعليل يراد به الاحتجاج على كتمان
شيء من القرآن فهو باطل، فالقرآن كلام الله الحق، وحجته الكبرى على جميع
الخلق، وكل ما فيه هداية صالحة لكل زمان وكل مكان، وتبليغه واجب، وكتمانه
فسق، واستحلاله كفر {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160)
فعسى أن يكون ما عُزي إلى الأستاذ الفاضل قد نقل على غير وجهه الذي
ذكره السائل في جريدته، وبيَّنه في كتابه، وعسى أن يتوب ويصلح ويبيِّن إن كان
قد نقل بنصه أو بمعناه، وقد كتمنا اسمه تكريمًا له، وانتظارًا لما نرجو من تأويل
أو تفصيل له فيه مخرج؛ ولكن في الكلام ثلاث شبهات تعلق بأذهان القراء، فيجب
أن نكشف عنها الحجاب على كل حال؛ لأنها طُبعت وانتشرت بين الناس:
(1)
منع قراءة القرآن في المحافل بشرطه:
أما منع من لا يفهم معانيه من قراءته في المحافل فهو باطل محرم، وهو
يقتضي منع أكثر المسلمين الحفاظ له وغيرهم من تلاوته فيها، وتخصيص
تجويزها بالعلماء الذين يفهمون معانيه وقليل ما هم، ولا ندري ما الفرق بين
المحافل وغيرها إذا كانت علة المنع عدم الفهم للمعاني، فإن كانت العلة إسماعه
للجمهور كتعليل منعه لقراءته في المذياع فما الفرق بين من يفهم المعاني، ومن لا
يفهمها؟
(2)
ما نزل في شأن أهل الكتاب:
وأما ما نزل في شأن أهل الكتاب فكله حق وعدل محكم يجب إظهاره في كل
وقت، حتى ما نزل في الأعداء المحاربين منهم، دع ما هو خاص بالذميين
والمعاهدين، وقد قال تعالى فيهم:{لَيْسُوا سَوَاءً} (آل عمران: 113) وأثنى
على بعضهم بالحق وذم أكثرهم بحق، ولا يزال فيهم من هم أشد عداوة للمسلمين
من سلفهم في عصر التنزيل وما يليه، وكان أهل الذمة في الصدر الأول أشد
محافظة على شروطها من أهل زماننا، وقد قال تعالى فينا وفيهم: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119)
…
إلخ بل
قال في المشركين الذين كانوا أشد عداوة للإسلام من أهل الكتاب، ولا سيما
النصارى الذي كان فيهم من هم أقرب مودة للذين آمنوا {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)
…
إلخ، فما الذي يريد هذا الأستاذ كتمانه من
القرآن أن يسمعه أو يقرأه أهل الكتاب وغيرهم؟ وهو يعلم ما يقولون ويكتبون من
الطعن بالكذب والبهتان على الله ورسوله وكتابه ودينه، وما يكيدون لرد أطفال
المسلمين عنه إلى دينهم، وإن من يسميهم الذميين كالمعاهدين في هذا، ولا يراعي
شروط الذمة والعهد أحد منهم، فهل يجد في سفهاء قومه من لا يفضل أعلم قسوسهم
وكتابهم في التنزه عن مثل هذا، أم يريد أن يقول: إنه يشرع لنا نسخ بعض القرآن
حتى في التلاوة لإرضائهم وهو يعلم ما قال الله تعالى في الغاية التي لا يرضيهم
دونها شيء؟ والله أعلم منه بهم والقرآن لا يُنسخ بالرأي، ولا يصح إطلاق
القول بكتمانه لمصلحة راجحة فكيف يكتم بمثل هذا الوهم؟ على أن هذا الكتمان
متعذر في هذا الزمان، ولله الحمد.
(3)
سورة يوسف وسماع النساء لها:
وأما سورة يوسف عليه السلام، فهي منقبة عظيمة له، وآيات بينة في إثبات
عصمته، وأفضل مثل عملي يقتدى به في العفة والصيانة يجب أن يهذب به النساء
والرجال، فكل منهما يعلم بشعوره الطبيعي قوة سلطان الشهوة الجنسية على نفسه،
ويسمع ويقرأ من أخبار الناس ولا سيما أهل هذا العصر في مثل هذا المصر ما في
طغيانها على غيره، من الفضائح والخيانات والجنايات وتخريب للبيوت، وإضاعة
المال والعيال والدماء والشرف، أفلا يكون أفضل مثل للعفة والصيانة، وأحسن
أسوة في الإيمان والأمانة، أن يتلى على النساء المؤمنات والرجال المؤمنين،
وعلى غيرهم من الملحدين، قصة شاب كان أجمل الرجال صورة، وأكملهم بنية،
يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان، هي سيدة له وهو عبد لها، فيحملها الافتتان
بجماله وكماله على أن تذل له نفسها، وتخون بعلها، وتدوس شرفها، وتراوده عن
نفسه، والمعهود في أدنى النساء وأسفلهن تربية ومنزلة أن يكن مطلوبات لا طالبات،
فيسمعها من حكمته، ويريها من كماله وعصمته، ما هو أفضل قدوة في الإيمان
بالله والاعتصام به، وفي حفظ أمانة السيد الذي أحسن مثواه وائتمنه على عرضه
وشرفه، فيقول لها:{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23) فتشعر بالذل والمهانة، والتفريط بالشرف والصيانة، وتحقير مقام
السيادة والكرامة، فتهم بضربه أو قتله، ويهم هو بالدفاع عن نفسه، ويكاد يبطش
بها لولا أن رأى برهان ربه، وعصمه من فحشاء الشهوة الطبيعية المضعفة للإرادة،
ومن سوء ثورة القوة الغضبية التي تذهل صاحبها عن عاقبة الجناية، ففر منها
وهو الشجاع فرار الجبان، فكان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا
أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) وهو المتبادر من التعبير اللغوي في هم
الشخص، وبيَّناه بالشواهد في الرد على من أنكره، وقلنا: إنه المعهود بين البشر
في مثل هذه المخالفة المذلة ولما نقرؤه في القصص والصحف في هذا العصر،
والمناسب لقوله تعالى بعده: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
المُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) .
وإنني ما اخترت هذا المعنى لتبرئته عليه السلام مما ينافي العصمة؛ فإن الهم
من حديث النفس الذي لا يؤاخذ الله الناس به، وإن الهم بإيقاع السوء كالهم
بالمواقعة كلاهما هم بمعصية، إلا أنه في الأول دفاع عن النفس، وقد عصمه الله
منه، وإن عصيان النفس فيما اشتدت الداعية الجنسية له أدل على العصمة، وأحق
بحسن الأسوة.
ولما انهتك - والعياذ بالله - الستر، وعرف ذلك الإصر، خاض نساء
المدينة في أمرها، ولجوا في عذلها، لعلها تفضي إليهن بعذرها، فتريهن طلعة هذا
المملوك الذي استعبد مالكه، وسلب منه عقله وكرامته وشرفه، ولم يجزه على هذا
كله بنظرة عطف، ولا بلمسة كف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ
لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي
فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ
الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 31-32) فلما هددته بالسجن، وهو يعلم أن بيدها الأمر
والنهي {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ} (يوسف: 33) أي: أكن من سفهاء الأحلام،
الذين يتبعون شهواتهم الحيوانية كالأنعام، ولا يستطاع الهرب من كيد النساء وهو
عظيم، ولا ما يغري به وهو دونه من كيد الشيطان الرجيم، إلا بالاستعاذة بالله
السميع العليم، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 200) وكل من استعاذ به تعالى مؤمنًا مخلصًا أعاذه، فكيف إذا كان
من رسله لهداية عباده، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ} (يوسف: 34)
…
إلخ.
وهكذا امتحن الله يوسف، وفتنه بجماله فتونًا، فلبث في السجن سبع سنين
وخرج منها كما يخرج الذهب من بوتقة الصائغ إبريزًا خالصًا، وجزاه الله في
الدنيا قبل الآخرة على صبره: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ *
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} (يوسف: 50-51) .
طلبه ملك مصر ليستعين بعلمه ورأيه على الخروج من المخمصة التي أنذرته
إياها رؤياه، وكان يظن أنه مسجون بجريمة؛ ولكنه احتاج إليه، فاشترط لإجابته
أن يسأل النسوة اللائي تواطأن مع مولاته على الكيد له ليعيش في وسطهن عيشة
اللهو والخلاعة: هل آنسن منه صبوة إليهن، فجرأتهن على ما كان من مراودتهن؟
فاستعذن بالله أن يلمزنه أو يغمزنه دفاعًا عن أنفسهن، وشهدن بأنهن ما علمن عليه
من سوء، أي: أدنى شيء وأقل نقص يسوءه، ولم يبق إلا شهادة مولاته امرأة
العزيز، فبم شهدت؟ {قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن
نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) أي: قالت: (الآن حصحص الحق)
أي: ظهر أجرد أمرد، لا تستره شبهة ولا تهمة كما يحص ويسقط الشعر أو
ريش الطائر، وثبت واستقر من قولهم: حصحص البعير؛ إذا ألقى مبازكه للإناخة،
فالكلمة بمعنييها أبلغ ما يعبر به عن المعنى المراد في هذا المقام، وإنما كانت
هذه الحصحصة بما ظهر من وقائع القصة الثانية، وهي فرار يوسف منها (أولاً) ،
ومن كيد جماعة النسوة (ثانيًا) ، ومن إيثاره عيشة السجن البائسة في خشونتها
ومهانتها على عيشة القصور العالية في نعمتها وزينتها (ثالثًا) ، ومن شهادة النسوة
اللاتي تصبينه (رابعًا) ، وقد علم من ذلك كله أن يوسف كان فوق أفق البشر في
حسنه وجماله، ولا يقل عن الملائكة الكرام في عصمته وكماله وجلاله فكأنها تقول:
{أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} (يوسف: 51) مغلوبة على نفسي، فاقدة لعقلي وشرفي
وحسي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن
نَّفْسِي} (يوسف: 26) .
ثم ذكر يوسف عليه السلام سبب امتناعه عن الخروج من السجن إلى أن تبين
لملك مصر وملئه براءته مما اتهم به، فقال: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ
رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 52-53) أي: ذلك الذي اشترطته للخروج
من السجن ليعلم عزيز مصر أنني لم أخنه في حال الغيبة عنه؛ إذ غلَّقت امرأته
الأبواب، وقالت ما قالت، وقلت ما قلت {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ} (يوسف: 52) فيما يكيدون به للأمناء الصادقين، بل يجعل العاقبة للمتقين، وما
أبرئ نفسي مما هممت به من دفع صيال السيدة عليّ بمثله، لولا أن رأيت ما
صرفني عنه من عصمة ربي، ولا من الميل الطبيعي إلى الجمال، وأمرها
الفطري بالاستمتاع، إلا ما رحم ربي من الأنفس؛ فصرف عنها السوء والفحشاء
بهداية الإيمان، إن ربي غفور رحيم، فأسأله أن يغفر لي ما لا أملكه من نزغات
النفس، وغرائز الطبع.
هذه خلاصة مختصرة من قصة يوسف عليه السلام، هي ما يتبادر إلى
الأفهام من بلاغة القرآن، دون ما شيبت من دسائس الروايات الإسرائيلية المخالفة
لذوق اللغة، ومقام الأنبياء عليهم السلام.
فهل هي إلا أفضل هداية من الله تعالى تمثل للنساء والرجال أكمل المُثل العليا
لفضيلة العفة والصيانة التي لا تتم لبشر إلا بصدق الإيمان بالله تعالى ومراقبته في
الخلوات والجلوات، فليوازن قارئها بينها وبين ما تقرؤه النساء في القصص
الغرامية، وفي صحف الأخبار اليومية، من الحوادث المناسبة لموضوعها، ومما
يجب تدبره وتذكره من العبرة بها، ومنها أن خلوة الرجل بالمرأة مهما تكن صفتهما
من أقوى ذرائع الفتنة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها في عدة وصايا
حتى من أقارب الزوجين فقد قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من
الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت) رواه الشيخان في الصحيحين،
ولنمسك عنان القلم فقد جمح في الموضوع بما زاد على عزمنا عليه عند البدء في
الجواب، والحمد لملهم الصواب، ومؤتي الحكمة وفصل الخطاب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
جزيرة العرب والوحدة العربية
وسعينا لعقد الاتفاق بين الإمامين، وفقهما الله تعالى
قد اضطررنا في السنة الماضية أن نصرح ببعض ما كنا نخفيه تارة، ونشير
إليه تارة، أو نجمجم به آونة بعد آونة، من أنباء سعينا إلى وحدة الأمة العربية
وجعل جزيرتها مركز القوة وأساس الدولة، وما يليها من الأرض المقدسة والمباركة
موطن الحضارة ومورد الثروة، وهو ما بدأت بوضع النظام له، وتأسيس جمعية
(الجامعة العربية) التي كانت خاصة بالأمراء والزعماء، وكنت المتولي لجميع
الأعمال فيها، ومكاتبة أمراء الجزيرة وزعماء الأمصار في سورية والعراق بإمضاء
(الناموس) ، ويرى المطلعون على مذكرات جمال باشا سفاح الترك كتابًا منها وجده
في أوراق أحد شهداء الظلم بسيفه محمد المحمصاني (رحمه الله تعالى) . وأما إمام
اليمن وملك العربية السعودية فهما أعلم الناس بهذه الجمعية وناموسها منذ 23 سنة
كاملة، وقد نشرنا يمينها في ترجمة الملك فيصل رحمه الله في المجلد 33 من
المنار.
كان أساس النظام الأول لهذه الجامعة عقد معاهدة حلفية بين أمراء الجزيرة
كما بيناه في العام الماضي، وقد انحصر هذا الحلف بعد استيلاء ابن السعود على
الحجاز في جلالته وجلالة إمام اليمن المستقلين، وأخرنا ضم سلطنة مسقط،
وعمان إليهما، لما كان بين سلطانها وبين إمام الإباضية هنالك من الخلاف، الذي
سعيت إلى تلافيه، واستقلال البلاد بما عرضته على السلطان فيصل بن تركي رحمه
الله في مسقط عند زيارتي له فيها أثناء منصرفي من الهند سنة 1330 هـ
(الموافق سنة 1912 م) فتعذر عليه تنفيذه، ثم وقع بعد ذلك بسنة واحدة من الحرب
الأهلية ما توقعته بالفكر والفراسة، وأنذرت ذلك السلطان وقوعه، كما يعلم ذلك
شقيقه السيد نادر وبطانته في ذلك الوقت.
وكان الملك فيصل الهاشمي رحمه الله آخر من بلغته إياه وأقنعته بتوقفه على
الاتفاق مع ابن السعود صاحب نجد، فوافقني على ذلك كما تقدم في ترجمته، وستأتي
تتمتها.
ولقد كان الإمام يحيى أول من كاتبته وعرضت عليه مشروع الجامعة العربية
وكان ذلك قبل تأسيس جمعيتها التي أشرت إليها بالفعل، ثم تكررت الكتابة إليه
بعدها، ومن بعده كتبت إلى السيد محمد الإدريسي في عسير وإلى الأمير فالسلطان
عبد العزيز السعودي إمام نجد بالأمس، وملك العربية اليوم، وقد كان الإمام يحيى
أول من أجابني مستحسنًا ما اقترحت معتذرًا عن تنفيذه بالشكوى من السيد الادريسي
الذي عبر عنه بالجار بالجنب، ولمزه بالغدر ونقض العهد، ورفض دعوة الود،
وبأنه (حالف أعداء الله الطاليان) - بهذا اللفظ - ولكنه هو عاد بعده فحالفهم محالفة
رسمية مكتوبة، والإدريسي لم يفعل هذا، فأدع الكلام في التاريخ الماضي في مسألة
الجزيرة والوحدة العربية بالحلف وغيره، وأقول كلمة في سعيي للاتفاق بين إماميها
المستقلين بعد استيلاء ابن السعود على الحجاز.
سعينا الجديد للاتفاق بين الإمامين:
لما تم للإمام عبد العزيز الاستيلاء على الحجاز أظهر رغبته في عقد مؤتمر
إسلامي في مكة المكرمة في أثناء موسم الحج، وأرسل إليّ مكتوباته إلى ملوك
المسلمين وأمرائهم وكبار زعمائهم في الدعوة، لأرسلها من مصر، وكان منهم إمام
اليمن بالطبع، ففعلت إلا جلالة ملك مصر فأرسلها هو إليه مباشرة، وظهرت في
إثر ذلك بوادر الجفاء بينه وبين دولة مصر، فبادرت إلى السفر إلى مكة في شوال
لأجل السعي لدى الملك عبد العزيز في تلافي هذا الجفاء، وتمهيد سبيل المودة
والإخاء، لما لي من لسان الصدق والإخلاص الإسلامي في اعتقاد جلالته، وكان
من ذلك ما كان، وبسطته بوقته في المنار كما وقع، لا كما يحرفه الآن بعض
الكتاب.
ولما انتهى المؤتمر الإسلامي بعد أداء المناسك كلها رغب إليّ الملك أن أرجئ
سفري إلى مصر مدة للمحادثة معه فيما أراه من وسائل الإصلاح، فأجبت بل
امتثلت، وكان أهم ما اقترحته مرارًا، وأوسعته إلحاحًا وإلحافًا وجوب عقد المعاهدة
الحلفية بينه، وبين الإمام يحيى، وهو ما كان تكرر مني اقتراحه عليهما، فكان
يظهر لي قبول الاستحسان بشيء من الفتور وقلة الاهتمام، أتأوله بضيق الوقت
وسعة النطاق في موضوعات الكلام، حتى إذا ما سنحت فرصة سمر لنا على سطح
قصره - حيث كنا نسهر - عدت إلى إلحاحي لقرب موعد سفري؛ فأجابني بما هو
ملخص ما تقدم من الكلام متفرقًا.
وقال: إنني والله وبالله وتالله لا أنوي التعدي على بلاد الإمام يحيى، وإنني
أرغب أصدق الرغبة في مودته ومحالفته، وإذا قَبِل اليوم أن نعقد محالفة هجومية
دفاعية بيننا فلا أُرجئ عقدها إلى غد. وأذن لي أن أبلغ وكيله في المؤتمر السيد
محمد عبد القادر هذا عنه، وقال إنه مستعد للتصريح له إذا اقتضت الحال.
ثم قال ما فحواه: وأما إذا كنت تخاف أن يعتدي الإمام يحيى علينا فكن
مطمئنًا بأن وبال ذلك يكون عليه، فنحن بفضل الله وعنايته أقوى منه. بل قال إنه
يستطيع أن يطارده في بلاده من جهتين أو ثلاث، وإنه إن شاء وجد من أهل البلاد
التابعة له من يخرجون معه عليه؛ لأن أكثرهم ساخطون لا راضون منه.
وإنني قد بلغت الشق الأول من هذا الحديث لوكيل الإمام السيد محمد عبد
القادر الذي كان عامله على الحُديدة، وكتبت إلى الإمام به كتابًا أعطيته لوكيله هذا
بيده.
ثم تركت ذلك إلى الإمامين حتى إذا ما خاب الوفد الأخير الذي أرسله الملك
إلى صنعاء في العام الماضي، وتجدد الشقاق، ورأيت من خلل الرماد وميض نار
ما خشيت أن يكون له ضرام، عدت إلى السعي للاتفاق من أوله، بما يعلم تفصيله
من المكتوبات الآتية (ومنها تعلم قيمة ما يدعيه محبو الشهرة من السبق إليه بإرسال
البرقيات، ومحاولة تأليف الوفد بعد فوات الوقت) .
أقتصر من هذه المكتوبات على أكثر ما دار بيني وبين جلالة الإمام يحيى
الذي كنت أشك في إقناعه؛ لما أعلم من طباعه وسياسته السلبية، ومن كون الخطر
عليه من الحرب أقوى؛ ولأن المكاتبة بيني وبين الملك عبد العزيز فيها من الحرية
والصراحة التامة في جميع المسائل ما لا يجوز نشره، إلا أن يكون بإذنه بعد العلم
بالمصلحة فيه؛ ولأنني أعتقد أن إقناعه سهل إذا قنع الآخر بالوفاق، لتصريحه لي
بعد إعلامي بتجهيز الجيوش وزحفها في شهر رمضان؛ بأنه لا يبغي بذلك إلا إقناع
يحيى بقوته، وإنها الوسيلة الأخيرة لإقناعه بعقد المحالفة إذا كان مثله يكره الحرب
كما يظن به، حتى إذا ما يئس من إجابته، وأعلن له الحرب بقطع مفاوضة أبها،
علمت أن قد بطل قول الألسنة والأقلام، وأعطى القول الفصل للحسام، فلن يقبل
الملك لأحد قولاً إلا من بعد حكمه، هذا هو الرأي كما بيَّناه في الجزء الماضي،
وسيعلم الإمام وأنصاره بما يضر ولا ينفع من الكلام، من نصح له عن إخلاص
وعلم، ومن غشه بالدهان وقول الإثم.
***
المكتوبات بين صاحب المنار وجلالة الإمام يحيى
في
التنازع الأخير بينه وبين جلالة الملك
عبد العزيز آل سعود
المكتوب الأول في 24 ربيع الأول سنة 1352
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سليل
الأئمة الأعلام، عليهم السلام.
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد
أزعجنا وأمضنا نبأ مرضكم، وما كدنا نبتهج بنبأ نقاهتكم، إلا وتلاه النبأ الصادع
بوقوع الشقاق بين حكومتكم والحكومة السعودية، المنذر بقرب وقوع الحرب،
وبخيبة الأمل الذي كان ينتظره كان عربي مخلص لأمته وكل مسلم لملته،
وحريص على سلامة مهد دينه، من عقد الحلف بينكم وبين الدولة العربية السعودية
بمساعي الوفد السعودي الذي كان في رحابكم منذ أشهر؛ إذ تجاوبت الأنباء بأن
الوفد كان في صنعاء كالمحجور عليه، وأنكم أذنتم له بالرجوع أدراجه بعد
إلحاح ملكه بالطلب؛ فانقلب خائبًا مخذولاً، إلى ما أنتم أعلم به، ولا يعنينا تفصيل
جزئياته، ولا تحقيق مقدماته، وإنما تعنينا النتيجة، وهي تسوء كل عربي وكل
مسلم، إلا الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولو علمتم بسوء تأثيرها في
مصر، وسورية، وفلسطين لهالكم، ولتجافى بجنبكم عن مضجعكم، ولعلمتم أنه
لولا عذر الناس لسيادتكم بمرضكم لخسرتم بهذه الحادثة ما لكم في القلوب من السيرة
الحميدة في العقل والرأي والتقوى، والحرص على حفظ سلطان الإسلام وحكمه،
واستقلال الجزيرة العربية، وسد ذرائع تسرب النفوذ الأجنبي إليها، وخطره على
بلادكم أشد، ولا شك أن حرم الله تعالى ورسوله عليكم أعز، ولكن الأمل فيكم لم
ينقطع، ولن ينقطع إن شاء الله تعالى، وقد تضاعف الإعجاب بأخيكم الملك
السعودي: دينه وعقله وحكمته؛ إذ علموا بما أبرق إليكم في الخطب المدلهم.
أيها الإمام الحكيم، التقي الحليم: لقد علم الرأي العام الإسلامي، ولا سيما
العربي، أنه لو فُجعت الأمة بكم في هذا المرض، لقضى ولي عهدكم الشاب على
جزيرة العرب، فهو - أي: الرأي العام - يرجو أن تبادروا قبل كل عمل إلى
الاتفاق مع أخيكم الملك الحكيم، على التحالف والتعاون على حفظ هذه الجزيرة
المقدسة من دسائس الأجانب والمفسدين، وعلى عمران المملكتين اللتين وكل الله
أمرهما إليكما، وتعزيز قوتهما في حياتكما الشريفة العزيزة قبل أن يؤول أمرها إلى
أنجالكما، الذين لا تضمن أمتكما وملتكما أن يكون لهما من الحكمة والخبرة والروية
مثل ما آتاكما الله تعالى، إلا أن يتربوا في كنفكما، وظل ما تضعان من النظام، وما
تنفذانه منه لإعزاز الإسلام بعز العرب في جزيرتهم ومنبت أرومتهم ومهد دينهم
و (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) كما قال الصادق المصدوق عليه وعلى آله السلام،
ولا ذل للعرب إلا إذا ذلوا في جزيرتهم، وحصن دينهم، ومأرزه الوحيد
في هذا العهد - عهد تداعي الأمم عليهم - كما نطقت به الأحاديث النبوية الصحيحة
الصريحة وسيادتكم أعلم بها.
أيها الإمام العليم، الحكيم الحليم
مهما يكن عليه أمر الحدود بين اليمن السعيدة والمملكة السعودية من حق
سياسي أو جغرافي، فلا قيمة له تجاه الاتفاق والتحالف بين المملكتين، فكل منهما
واسع الأطراف، قابل لأضعاف ما هو عليه من العمران، فلا يعذر أحد منكما
بتعريضه للخراب؛ لأجل توسيع حدوده بحق أو باطل، وأما إذا اتفقتما وتحالفتما
تحالفًا صريحًا، وعاهدتم الله تعالى والأمة على الإخلاص في الولاء والتعاون، فإن
كلاًّ منكما يأمن على حدوده، ويخلو له الجو لعمران بلاده، وجعل استعداده الحربي
موجهًا إلى أعداء الله وأعداء قومه، وذلك ربح لا يعلوه ربح، وهو ما يطالبكم به
الدين وأهله أجمعون.
أيها الإمام: إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول الله، وخاتم النبيين،
للإسلام والمسلمين، لا لعبد العزيز الفيصل السعودي ولا ليحيى حميد الدين،
فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له
قائمة في غيرها، فجميع المسلمين تحت سلطان الأجانب، إلا قليلاً من الأعاجم،
أنتم تعلمون حالهم، وما ينتظر من مآلهم، فيجب أن تتذكرا هذه التبعة، وتتقيا الله،
وتحرصا على حسن الخاتمة والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
(حاشية) قد كتبت إلى الإمام عبد العزيز ملك العربية السعودية بهذا المعنى
أيضًا.
* * *
جواب الإمام يحيى عن المكتوب الأول
(ختم إمارة المؤمنين)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
السيد العلامة الأستاذ محمد رشيد رضا حفظه الله، وأدام عليه نعمه، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد تناولنا كتابكم الكريم، وشكرنا ما أظهرتموه من الغيرة المحمودة بإزاء ما نفخ
به الشيطان في مناخر من لا خلاق لهم، ولقد عجبنا واستغربنا جدًّا ما يشيعه خدمة
الدرهم والدينار، وما يشوهون به وجه الحقيقة الذي هو أجلى من شمس النهار من
توتر العلاقات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن حرسه الله،
وحصول مقدمات الحرب، والتأهب من الطرفين لاقتحام مجال الطعن والضرب مع
ما ينسبونه إلينا من إرادة ذلك، وما ينسبونه إلى ولدنا العلامة سيف الإسلام أحمد
ابن أمير المؤمنين حفظه الله من التشوق لإضرام نار الحرب، وكل ذلك محض
الافتراء، وقد خاب من افترى، فإنه ولله الحمد لم يحدث ولم يتجدد الآن بيننا وبين
حضرة الملك عبد العزيز ما يقدح زند العدوان، فما حدث إلا الجميل وحسن
الرعاية من الطرفين، وحتى الآن المراجعات الودية بيننا مستمرة، والأحوال كما
هي عليه مستقرة، وكيف يكون من مثلنا سعي يخالف صالح المسلمين، وإقامة
شريعة سيد المرسلين؟ وهل يقبل العقل السديد أن يكون منا الآن إثارة فتنة تخالف
صالح الإسلام والمسلمين؟
والحال أنا ما زلنا ولا نزال نسمع من شعبنا السعيد ما يثير الحفيظة مما كان
بتنومة من قتل نحو ثلاثة آلاف مسلم آمين بيت الله الحرام، لأداء فريضة الإسلام،
ويرفعون بذلك عقائرهم، ولم نزل نصبرهم بحسن العبارات، وألوان الاعتذارات،
ولم يمكن لنا أن نصدع حضرة الملك بذلك، مع أنا حكمناه في ذلك عقيب الواقعة
وأجاب بكل إنصاف، أفهذا السكون يكون من مريد لتأجج جحيم الهيجا، يا ذوي
الحجى؟ كلا.
ولقد علم من تحت أديم السماء ما كان من فصل قطعة من اليمن الميمون عن
أمها اليمن الخضراء مع علم كل ذوي العقول أن قطعتي عسير وما إليها، وجازان
وما إليه، هما من اليمن جغرافية ونسبًا، ومع ذلك فلم يصدر منا غير الجميل، بل
كان منا السعي الكامل للإصلاح في الفتنة الناشئة بين السيد حسن الإدريسي وبين
حضرة الملك عبد العزيز ولم نقل جآن لما عندي مزاجًا، أفيكون هذا من مريد لبذر
البوس، واقتباس نار أحر من نار حرب البسوس؟ كلا ولكنها الأهواء عمت
فأعمت.
وأما ولدنا سيف الإسلام أحمد ابن أمير المؤمنين فلم يكن من أعلاج الأغتام،
وإنما هو بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء العاملين، وإنه
لأشد الناس رعاية للصداقة بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإنا نعلم يقينًا
ردوده على المحرشين بأعظم رد، فليكف المفترون عن أقوالهم المزورة،
وليستحيوا من العالم بأكمله لافتضاح لهجاتهم الكاذبة مرة بعد مرة، إن كانت لهم
ديانة ورعاية لمكارم الأخلاق، فقد أوضحنا لكم الحقيقة برمتها حيث شاهدنا في
كتابكم، وفي غيره ما يوحي إلى اعتقاد أن المنشور في الجرائد من قبيل الحقائق،
وما كنا نؤمل أن تخفى عليكم مصادرها، ومن هو الملوم فيها، وثقوا بأنه لا يكون
أي اندفاع إلى خصام، ولا امتشاق حسام، مهما استمرت الحالة على ما كانت من
قبل، سواء كان إسعافنا بإنصاف، أو بقيت الحالة على ما هي عليه لم ترع لنا فيها
الحقوق، والحامل على هذه الطريفة هو رعاية ما فيه صالح الإسلام والمسلمين،
هذا والدعاء مستمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، 22 جمادى الأولى سنة
1352 هـ.
* * *
المكتوب الثاني إلى الإمام
في 6 جمادى الآخرة سنة 1352
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سلالة
الأئمة الأعلام، عليه وعلى آله السلام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد
فقد تشرفت أمس بكتابكم الجوابي، فسررت جد السرور ببشارتكم إياي بما شرح
الصدر في مسألة العلاقة بينكم وبين أخيكم في الدين، وصنوكم في حراسة جزيرة
العرب، وتنفيذ وصية جدكم خاتم النبيين، وكون الخلاف من الهيئة العارضة، لن
يكون ذريعة لسفك الدماء، الذي يتمناه أعداؤنا الأجانب، وسفهاؤنا الغوغاء، وهذا
ما كنت أعتقد في دينكم وعلمكم وعقلكم وحلمكم وتجاربكم، ولكنني لا أنكر أنني
كدت أصدق ما يقوله الكثيرون في مشرب نجلكم سيف الإسلام أحمد عليه السلام،
على أنني كنت أقول لهم: إنه إن صح ما يقال في رأيه ومشربه، فلن يصح أن
يخالف أمر أبيه وإمامه، وطاعته واجبة عليه لوصفيه كليهما، وانحصر طوقي في
المستقبل، كما أشرت إليه في كتابي الأول. وأقول الآن: إنني مستعد كالأول أو أشد
لإعادة السعي لما سبقت جميع الناس إليه من شد أواخي الإخاء، وإتمام مقدمات
الحلف بينكما، وأتمنى أن تجدوا لي طريقًا وسطًا في تعديل الحدود بين المملكتين
أدنى إلى العقل والشرع مما صرحتم به في كتابكم من عد قطعتي العسير وجازان
وما إليهما من عقر دار اليمن الميمون جغرافية ونسبًا وأمًّا وأبًا؛ فإن في هذا القول
مقالاً، ولعل التساهل فيه والحال كما تعلم خير مآلاً، ولو قلتم هذا أولاً لكان عذركم
أظهر عند الأكثر، أما وقد أقررتم ما كان، فقد قامت عليكم الحجة والبرهان، ولا
يزال الوقوف في الوسط مع التواد في حيز الإمكان، فإذا عهدتم إلى هذا الداعي
بالسعي إليه، بذل جهده في الحصول عليه.
وأما مسألة التعويض على أهل القتلى من الحجاج فلكم فيها كل الحق [1]
وتعلمون أنني كنت أول الساعين إليه، ولما تم التواصل بينكم وبين الملك عبد
العزيز تركت ذلك إليكما، وقد بدأت اليوم بالتذكير به بما كتبت إليه قبل هذا، فإن
كنت أعلم أن تنفيذ الطلب في هذه الأيام متعذر، فإنني لا أشك في أنه يكون بعد
زوال الغمة أول متيسر، وإني منتظر أمركم، وقد جربتم كتماني لما يجب كتمانه
ولما لا يجب، لا كالذين يتبجحون بنشر كل ما تكتبون إليهم، وما يكتبه إليه كل
عظيم وإن كان دونكم.
هذا وإنني قد سررت من الوجهة العلمية الدينية أشد مما سررت من الوجهة
السياسية بما تفضلتم به عليّ من البشارة باستحسانكم لكتابي (الوحي المحمدي)
واحتمال توجه عزمكم إلى إعادة طبعه، وأبشر جلالتكم بأنه قد نال استحسان
العلماء والعقلاء في جميع الأقطار الإسلامية، ولا تزال تأتينا المكتوبات منها
بتفضيله على كل ما كتب في إثبات النبوة المحمدية وإعجاز القرآن والدعوة إلى
الإسلام من الوجوه اللغوية والعقلية، والاجتماعية السياسية، وقد شرعوا بترجمته
بعدة من اللغات الشرقية والغربية
…
إلخ [2] .
والسلام عليكم، وعلى نجلكم، وولي عهدكم سيف الإسلام، وسائر أنجالكم
الكرام عليهم السلام
…
...
…
...
…
...
…
...
…
منشئ المنار
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
***
جواب الإمام عن المكتوب الثاني
(الختم الإمامي المعروف)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة السيد العالم الفاضل، والجهبذ الفذ الكامل، صاحب المنار محمد رشيد
رضا المحترم حفظه الله، وشريف السلام عليه ورحمة الله وبركاته.
وصل كتابكم الكريم، وأحسنتم بما أفدتم، واعلموا - عافاكم الله - أنا صرحنا
لحضرة الملك عبد العزيز أن يكون ربط الأواصر، مع إبقاء الحالة في عسير على
ما هي عليه، فإنا نكره تجزئة اليمن، وفصل قطعة منها عن أمها الطبيعية، وأن
مثل هذه المسألة هي التي أخرت المعاهدة بيننا وبين إنكلترا، وآخر الكلام كان
البناء مع إنكلترا على تأخير البت في شأن الأراضي التي يدعونها تحت الحماية إلى
المستقبل وتكون المذاكرة عنها، ثم إن كراهيتنا لعدم الخوض في الأراضي
العسيرية بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإبقائها كما هي عليه الآن، ليس
المراد به أنا سنهاجم، كلا، بل صرحنا لحضرة الملك عبد العزيز في جملة برقيات،
أن من المحال أن يحصل منا عدوان قطعًا حتى الممات، ولا نعلم بعقد كلام في
شأن تلك الأراضي.
وفي شأن السيد الحسن الإدريسي. كتبنا لحضرة الملك أنا حاملون بوجهنا
وذمتنا أنا لا نساعده على عدوان، ولا نرضى له، وهو عدونا ليس بيننا وبينه
صداقة، وإنما حملنا على الخوض في مسألته محبة صلاح الشأن بينه وبين حضرة
الملك، وتسكين الثورة الشيطانية التي حدثت بتلك الجهة، ثم تعويل الحسن علينا،
وأشار إلينا حضرة الملك أن بعض الناس من الذين يريدون بذر الشقاق في البلاد
العسيرية يترددون بين مصوع وبعض مراسينا فأمرنا بمنعهم من الدخول إلى بلادنا،
وطرد من كان منهم في بلادنا [3] وأشار حضرة الملك إلى أن قرب السيد الحسن
الإدريسي من تلك الجهات ربما يكون مصدر شر، فكان منا إقناع السيد الحسن
بحسن انتقاله إلى جهة في بلادنا تبعد عن تلك الجهات بمسافة ثلاثة أيام، وعلى
الجملة فاعلموا يقينًا أنه لا يكون منا أدنى عدوان ما دمنا على الحياة.
وولدنا سيف الإسلام حفظه الله هو من أحرص الناس على حفظ الصداقة بيننا
وبين حضرة الملك، وإذا بلغكم ما يخالف هذا فكذبوه، ثم كذبوه.
وإنا لنعجب لما تنشره بعض الجرائد مما نظنه كذبًا كما هي عادة الجرائد من
التجنيد والتجيش والتجهيز من جهة حضرة الملك عبد العزيز؛ إذ ليس لذلك من جهتنا
ما يحمل على ذلك غير ما عرفناكم ههنا من الكتابة الودية، وكامل التأمينات
لحضرته بعضها مؤكد بالأيمان، على أنا نعلم أن بالشقاق بيننا وبين حضرته كل
بؤس وضرر على العرب عمومًا، بل وعلى المسلمين، وإنا نستعيذ بالله من ذلك،
ومن أن يكون لنا سبب لما هنالك، هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
... حرر في 21 جمادى الآخرة سنة 1352هـ.
***
المكتوب الثالث أو الرابع إلى الإمام في 25 رجب
من محمد رشيد رضا إلى حضرة الإمام الهمام، سليل الأئمة الغر الميامين،
جلالة الإمام يحيى حميد الدين، عليه وعلى آله السلام.
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد
حظيت بكتابكم الكريم المؤرخ في 4 رجب، وبتقريظكم الشريف لكتاب الوحي
المحمدي فسررت بهما، ولكن ساءني أنني لم أجد في الكتاب ما يفتح لي باب
الخدمة لما عرضته من رغبتي في السعي للصلح بينكم وبين أخيكم الملك عبد
العزيز آل سعود، على أساس تعديل ما بين المملكتين من الحدود، لعقد المحالفة
التي تحول دون الخلاف في الحال والمآل، وتكون بها قوة كل منكما يدًا واحدة على
من عداكما، إذا عاداكما أو عادى واحدًا منكما.
ولكنني رأيتكم تعدون العسير برمتها كنجران من عقر دار اليمن، وأن بقاء
حكمه في أي جزء منها مانعًا عن عقد حلف بينكما، وأن قصارى الأمر أنكم لا
تقصدون الآن نزعها بالقوة الحربية.
وهو لا يعترف لكم بهذه الدعوى، وتعلمون ما يتهمكم به [4] ، وبقاء هذا الحال
غير ممكن، لهذا ساق جيوشه إلى الحدود؛ ولأنه يعتقد أن سبب رفضكم لإمضاء
العهد، وما عاملتم به الوفد، وبقاء قواتكم على الحدود، إنما سببه كله اعتقادكم أنه
ضعيف، وأن ضعف قوته سيلجئه إلى الاعتراف لكم بالبلاد العسيرية كلها جبالها
وسواحلها، وكتب إلي أنه يرجو بإرساله قواته إلى الحدود ومواجهتها لقواتكم أن
تجنحوا للسلم، وتفضلوها كما يفضلها على الحرب، وتجيبوه إلى ما يدعوكم إليه
من عقد العهد، واشتداد الود، ولكن فاجأتنا البرقيات اليوم من رومية باشتعال نار
الحرب، فوجلت القلوب، واضطربت الأفكار، وبتنا لا نهتدي إلى الوساطة سبيلاً،
إلا أن تهدونا إليها مما تجدونه معقولاً، وما هو في رأينا إلا الاعتراف بالحال
الحاضرة في عسير، مع تحديد عادل في نجران، يبقى فيها حد نجد كما كان،
ويعترف لكم بما كان مستقلاًّ منها قبل الحوادث الأخيرة، إن لم يكن مرتبطًا فيها
بعهد سابق يحتاج إلى المفاوضة. هذا ما خطر ببالي اليوم أنه لا يزال ممكنًا، كتبت
به إلى جلالتكم، ولم أكتب إليه شيئًا جديدًا، وإني منتظر لأمركم بالبرق والبريد؛
لأنهض بما أقدر عليه من خدمة للإسلام، ولميراث محمد صلى الله عليه وسلم
لقومه وأمته، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
جواب الإمام عنه وهو الأخير
(الختم)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة السيد العلامة المحقق، بحر العلوم المتدفق، محمد رشيد رضا
الحسيني منشئ مجلة المنار الغراء، حفظه الله من بين يديه ومن خلفه، وأتحفه في
جميع مواقفه بالمعين من لطفه، وشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد تناولنا كتابكم الكريم على الحقيقة، لما يحويه من البيان الجميل والإشفاق
بتلك الحمية على مُثْلَى الطريقة، فشكرنا لكم ذلك النصح وذاك التطوع، ودعونا
لكم بدوام التوفيق وحسن التشيع، وقد عرفنا من كتابكم أن مصدر ما استحوذ به
القلق ليس إلا تلك المنابع المعلومة، وهي عن التحري فيما تنقل بمعزل، ولا يوجد
ما يحملها على تحري الصدق في النقل، بل دواعيها محصورة في ترويج بضاعة
الكذب، وربما كان الكذب مقصودًا لذاته، وإذا عرفتم أن الحالة السابقة هي الآن
كما كانت لم تتغير، والمراجعات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز مستمرة،
والاتجاه فيها إلى السلم أوضح مما سواه، وأنه لولا وجود شرذمة من شذاذ الأقطار
يلقون فيما نظن إلى الملك عبد العزيز ما يثير الحفيظة لما تغير من الوضعية التي
استمرت طوال السنين شيء يذكر، اتضح لديكم مقدار ما في الأخبار المفتعلة من
الكذب والتقول بما لا أصل له، وقد أوضحتم ما لأجله كان حشد الجنود، من الملك
عبد العزيز بن سعود.
وكان يكفي لدفع تلك التوهمات، ونفي اتخاذ الحالة الراهنة فرصة تذكر
الحالات الماضية، وهي كثيرة الصور دالة على أنا لا نتحين فرصة، ولا نبغي له
غصة، وإلا فما الحامل على ترك إعانة ابن عايض ومخالبه ناشبة فيها من أقصاها
إلى أدناها، ولم تطأها قدم نجدي إذ ذاك، وعلى ترك إعانة الأشراف في الحجاز
بعد التوسل إلينا في كلتا الحالتين بما هو فوق المرغوب.
وكذلك رأينا فيما جرى بعدها من الأطوار، وحتى الآن لم يتجدد شيء سوى
التأديب لقبائل يام، الذين ضررهم على المنتمين إلى الملك عبد العزيز من القبائل
الذين وراءهم، أكثر من الضرر على من ثبتت أقدامهم على طاعتنا من القبائل
المجاورة لهم من جهة الجنوب، وقبائل يام يمنية، ولم يكن التعرض لهم إلا بعد أن
كتبنا إلى حضرة الملك عبد العزيز أنهم يمنيون، بل هم مصاصة قبائل اليمن، وإنا
لم نتركهم إلا خشية أن تتشوش الأفكار، فرجع منه الجواب بأنه لا كلام له منهم،
وغاية الأمر أن بينه وبين أهل وادي نجران الذين هم بعض قبائل يام بعض تملقات،
ثم بعد هذا وصل منه ما هو أصرح، والبرقيات لدينا محفوظة، وليت أنكم
تصلون إلينا لعرض كل المكاتبات عليكم؛ فسيظهر لكم منها ما لم يكن في حسبانكم
من إنصافاتنا.
أما المعاهدة فإننا أفدنا الوفد أنه لا بأس بها غير أنه لا يمكن لنا أن نقرر
انفصال جزء من اليمن عنه؛ لكنها تكون المعاهدة مبنية على إبقاء بلاد عسير وما
إليها على حالتها التي هي عليها الآن، وإذا كان من الوفد كلام بأنه كان منا أدنى
جفاء فسنرجع أمره إلى الله؛ فإنه لم يعزم إلا على غاية من الرضا والشكران
ومحرراته لدينا محفوظة، غاية الأمر أنها طالت مدة لبثه ههنا، فهل في المرض
الذي كاد أن يقضي علينا عذر يوجب تأخر تسريحه؟ إنا لا نظن أيًّا كان لا يعذر
في مثل ذلك المرض، وإنا لنظن أن الذي غير نهج حضرة الملك عبد العزيز، إنما
هم خَدَمَةُ الإفرنج الذين يتلذذون بإهراق دماء المسلمين، وهدم عزهم، وانحطاط
علو شأوهم تقربًا بذلك إلى أعداء الإسلام، مع فرار داعي الباطنية المكرمي
ومنصوبه من بدر إلى أبها عسير لدى أمير حضرة الملك عبد العزيز بأبها.
ولا يخفى عليكم ما عليه الباطنية، وارتباط باطنية الهند بهذا الداعي،
وإمدادهم إياه، ولو كان الإمعان بإنصاف، لكان العلم بأنه لا حق لأحد غيرنا في
الكلام عن بلاد يام؛ لأنه لا راية فيها منصوبة، ولا هي من غير بلاد اليمن
محسوبة، وقد رأينا في منشورات الجرائد عن المصادر المعلومة والمجهولة كذبًا
صراحًا، بأن المصادمات بين الجيش اليمني والنجدي قد وقعت، وأن الجيش
اليمني زحف إلى بلاد الدواسر وبلاد نجد، والحقيقة أنه لا شيء من ذلك أصلاً، لا
صدام ولا التحام ولا زحف، بل الواقع أن الولد سيف الإسلام بعد أن بلغ إليه قرب
الجيش النجدي من الحدود أمر الجيش اليمني بتخلية بعض المواقع التي كان يحتلها،
بعدًا عن التحاك الموجب للاشتباك، وهو بصفته تقهقر اختياري أريد به ما أوضحناه
من التباعد عن موجبات تحقق أحلام المفسدين، والمتوسم عند تحرير هذا
أنه لا يكون شيء من التشاجر إن شاء الله، فلا يوجد لذلك من الدواعي والأسباب
ما يقتضي تبرير وقوعه، وبالله المستعان، والدعاء مستمد، والسلام لتاريخه
18 شعبان سنة 1352.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أعني الحق في تطييب القلوب، بما يوضع في الجيوب، ولكن تكرير الإمام للتذكير بهذه
المسألة كان محركًا للأضغان، مثيرًا للأشجان، مانعًا من الأداء بالإحسان.
(2)
بقية هذا الكتاب خاصة بكتاب الوحي، وقد رجوت من جلالة الإمام أن يبين لي ما يراه فيه
منتقدًا، فقرظه بما نشرته بنصه في أول التقاريظ من الطبعة الثانية مستقلاًّ، ولم ينتقد منه شيئًا.
(3)
المنار: المراد بهؤلاء المفسدين دعاة حزب الشرفاء المسمى بالحزب الوطني الحجازي، وكان لهم تأثير في ثورة عسير الماضية في زمن فتنة ابن رفادة، وقد تبين أن مولانا الإمام لم يطردهم في هذه المرة كما قال أو أن أمره بطردهم لم ينفذ فقد نشرت لهم رسائل في بعض الجرائد جاءت من
بلاده، كما أن إبعاده للسيد حسن الإدريسي لم يتحقق للملك السعودي.
(4)
أعني أنه يتهمه بالمراوغة، وبما هو شر منها، ويقول إنه كالشريف الحسين.
الكاتب: عبد الحميد السائح النابلسي
تقريظ الأستاذ الشيخ
عبد الحميد السائح النابلسي [*]
منذ مدة وأنا أفكر في كتاب يصلح أن يكون هاديًا وبشيرًا للأمم غير الإسلامية
بأسلوب مألوف لديهم، وعلى نمط يكون في متناول جمهرتهم، حتى يُنَادى في
الأوساط الأوربية والأميركية بالدعوة إلى دين الإسلام بالحجة والبرهان وامتلاء
النفس قناعة وطمأنينة، ومع هذا يتيسر لنشئنا المثقف ونابتتنا الزاهية، أن تتصفحه
وتطالعه، ويزيل ما يترددها من شبهات، ويزيح ما يعتورها من اعتراضات، فلم
أعثر على ذلك الكتاب إلى أن اهتديت إلى كتاب (الوحي المحمدي) للعلامة المحقق
السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، ذي الآراء الإسلامية الناضجة، والأبحاث
الدينية الموفقة، فوجدت فيه الضالة وتحققت فيه الرغبة.
إني قانع كل القناعة أن القرآن كفيل بحاجة مطالعه، قمين بأن يملأ نفس قارئه
إيمانًا وحكمة وعلمًا وأدبًا وسياسة وخبرة، ولكن هذا يتوقف على أن يكون القارئ
خبيرًا باللغة العربية، ملمًّا بعلومها، متضلعًا من بلاغتها وفصاحتها، ولا ريب أن
هذا غير متيسر لكثير من أبناء العربية وعلماء المسلمين، فكيف بغير العرب وغير
المسلمين؟ خصوصًا وأن المسلمين أعرضوا عن الاستفادة من هذا الكتاب المقدس
الاستفادة اللائقة به، وأصبحوا لا يعتنون إلا بمظاهر ختمه فقط ومراسمه الشكلية.
من أجل هذا كانت حاجة المسلمين إلى كتاب يبشر بدينهم - على الوجه الذي
بينا - ماسة وشديدة.
وليس من شك في أن هذا العمل يتطلب تفكيرًا عميقًا، وخبرة واسعة، ووقتًا
غير قصير، حتى يخرج إلى الملأ مستكمل النواقص وافيًا بالحاجة، وإن الأستاذ
السيد محمد رشيد هو أجدر من يقوم بهذا العمل، وأحق من يتحمل هذا العبء،
وإن مبادرته إلى إخراج هذا المؤلف مسارعة إلى أداء فرض محتم عليه، وقيام
بواجب لا مناص منه، لكفاءته النادرة، وشهرته في العالم الإسلامي بشهرة فائقة،
والاعتماد على آرائه، والاستفادة من نتائج قريحته، والوثوق من خبرته وسعة
اطلاعه.
بدأ المؤلف كتابه في البحث بموضوع الوحي، والاستفاضة فيه، ومناقشة
القائلين بإثباته من أهل الأديان السماوية، وبحث آراء نفاته من الماديين، وأفاض
في نفيها، وإقامة الحجة على إبطالها، ثم قفى على ما ذكر بمقاصد القرآن، في
ترقية نوع الإنسان، شارحًا أركان الدين، وأنواع الإصلاح التي يحتاج إليها
الإنسان في حياته، وتخلل ذلك بحث مسألة المعجزات، وخوارق العادات التي هي
مدار اشتباه الكثير من المثقفين والمتعلمين، وقد صور الدين بصورته الحقيقية،
فأطلع القارئ على كثير من قواعد الدين الإصلاحية الاجتماعية والمالية والسياسية،
مستندًا في ذلك كله على آي القرآن ونصوص الإسلام، ثم ختم المؤلف كتابه في
بحث تحرير الرقاب ومنعه، وأزاح ما يخفى على كثير من المتعلمين من الشبهات
في هذا الموضع وغيره.
وبالجملة فإن الكتاب بالنسبة لأبحاثه الاجتماعية والمالية والسياسية لا ريب أنه
وافٍ بالمقصود من هذه النواحي على شكل يسر كل مسلم، ويحفز كل غيور على
دينه أن يُقْبِل على مطالعته وتصفحه.
وليس من شبهة في أن المقصود الأول من هذا الكتاب جعله في متناول العلماء
غير الإسلاميين، وخصوصًا غير العرب كما ذكر المؤلف نفسه (النتيجة المقصودة
بالذات دعوة شعوب المدنية: أوربة، وأمريكة، واليابان، بلسان علمائها إلى
الإسلام، لإصلاح فساد البشر المادي وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنساني العام)
ولا يتيسر هذا إلا إذا ترجم للغات الأجنبية من قبل متضلعين بتلكم اللغات
عارفين بأسرارها، فينبغي - والحالة هذه - على الهيئات الإسلامية أن تقوم بهذا
الواجب، ونرجو أن يسارع مكتب المؤتمر الإسلامي العام بالقدس وغيره من
الهيئات الإسلامية إلى هذا؛ فإنه عمل منتج، ويُرْجَى أن يكون له أثر خطير في
العالم، وإن هذا العصر عصر طغت فيه المادية، واعتز المبشرون فيه بتشكيلاتهم
وأموالهم، فعلى الأقل يجب على علماء المسلمين وهيئاتهم أن يقوموا بنشر مبادئهم
الدينية الحقة، وإذاعتها في الملأ؛ لتكون سلاحًا يوجه إلى كل من أراد هذا الدين
بسوء وقصد تشويه تعاليمه ومبادئه.
وإن هذا الكتاب رغمًا عما يؤخذ عليه يفيد مطالعه فائدة جليلة جدًّا، ويعود
على قارئيه بنتائج لا يتيسر الوقوف عليها من غيره، ويعطي صورة عظيمة القدر
لتعاليم الإسلام خالية من تلك الأغشية التي وضعها عليها بعض العلماء، ويوصل
إلى معرفة حقائق إسلامية بشكل ينثلج له الصدر، وعلى وجه تطمئن له النفس،
وإني أدعو بني قومي وإخواني إلى المسارعة لمطالعته واقتنائه، والاستفادة من
أبحاثه ومحتوياته.
وإن ما يؤخذ على الأستاذ المؤلف قد شعر هو به فيما قال: على أنني لم
أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض (وضع مصنف في إثبات الوحي المحمدي)
وإنما بدأت منه بفصل استطرادي لتفسير آية: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى
رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2)
…
إلخ، ثم قال: ولو إنني قصدت هذا منذ بدأت
بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار،
…
إلخ، فأكثر ما يؤخذ عليه يرجع إلى استطراد في البحث يكاد أن يكون مملاًّ
وخصوصًا في فصل إقامة الحجة على مثبتي الوحي ونفاته [1] .
وقد أبدى معذرته في قوله: ولكني كتبته في أوقات متفرقة، وحالات بؤس
وعسرة، لا أراجع عند موضوع منه ما قبله
…
إلخ، وبيان المأخذ وذكر المعذرة
لا يعني التقليل من أهمية هذا الكتاب وشخصية مؤلفه، بل على العكس يجعلنا
نرجوه أن يوالي تصنيفاته في تلكم المواضيع باذلاً الجهد في مجانبة ما لاحظه على
نفسه، جزاه الله عن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وضاعف له الأجر على
مجهوداته التي لا تنكر والله ولي التوفيق.
نابلس
…
...
…
...
…
... عبد الحميد السائح
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشره في جريدة الجامعة الإسلامية في 15 جمادى الآخرة سنة 1352 15 أكتوبر.
(1)
من الغريب أنني عنيت بالاستطراد بحث الخوارق، كما قال هذا الأستاذ الذكي حتى إنني استشرت بعض كبار العلماء أولي الرأي في اختصاره في الطبعة الثانية، فلم يوافقني أحد، بل قال الأستاذ العلامة الشيخ المراغي: إنه من أهم المباحث فلا ينبغي حذف كلمة منه.
الكاتب: شكيب أرسلان
تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان
إن المسلمين على بينة من أمرهم، لا يحتاجون إلى دعاية، ولا إلى التماس
الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور
هذا الكون بدونه، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه، والذي ما زال
ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة
حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين؛
لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه، ويرون جميع
براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى
دليل، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند
الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل
لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ
نشأة أوربية؛ أي: خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها
مبادئ الإسلام مع لبن أمه، فيقال: إنها رسخت فيه من الصغر. ولما كان جميع من
يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية
الحاضرة، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا، كان هذا
الكتاب موجهًا أيضًا إليهم؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية،
أو على ما يقرب من ذلك.
فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين
أيضًا، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع
الأوربي؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة، والمغلوب مولع
بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون. فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين
الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه
السلام يقول:
إن محمدًا كان أميًّا، لم يقرأ سفرًا، ولم يكتب سطرًا، وهذا القرآن العظيم
بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة، وأوجز عبارة،
لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل
علمًا من قبل، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع
إخوته في الرضاع، ثم إنه نشأ يتيمًا، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية،
واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين، ولم يكن أحد يماري في استقامته، وكانوا
لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم، فيستحيل أن يكون رجلاً
موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين،
ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها،
ويقول: إنه سمع صوتًا، ولو لم يسمع صوتًا، وشاهد ملكًا، ولو لم يشاهد ملكًا،
إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من
الدعوة لنقول: إنه كذب على الناس؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا، فكل أحد يعلم
أنه لم يكن ينشد ملكًا، ولا مالاً، ولا ثروة، ولا جاهًا. فلأي شيء يقوم بدعاية
غير صحيحة، ويضع أشياء من عند نفسه، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية، ثم
البغضاء والشنآن، ثم الاضطهاد والانتقام، ويتعرض لخطر القتل، وهو لا يريد
رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة
هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد
مبدع هذا الكون لا إله إلا هو.
قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم،
ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى، وكان من
مزاياه أنه لا يقول الشعر، ولا يخطب في الأندية، ولا يتصدى لشيء من مظاهر
الرياسة ولا الشهرة، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى
التوحيد وإلى مكارم الأخلاق، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا، ويتجشم من العذاب ما
يتجشم، ويتعرض لآلام أمر من العلقم، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له
على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها.
يقول السيد رشيد: إنه من المقرر عند علماء النفس، وعلماء الاجتماع أن من
بلغ سن الخامسة والثلاثين، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد
ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا (بضمتين) أي: جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع
بينهما، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد
العرب مثله وذلك بعد الأربعين، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء، ولا
وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل.
قلت: وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو
لم يتعمد الكذب تعمدًا، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات، ويرى
تلك الخيالات، فيظن ما سمعه وحيًا، وما رآه ملكًا، والجواب على ذلك أن هذا
الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على
نفسه، وطالما خاف [1] أن يكون به جنون، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه
لم يتعمد النبوة تعمدًا، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء، وأنه قد فاجأه الوحي
مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية
كما يقول السيد رشيد، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية
والمدنية والاجتماعية، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ.
ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد [2] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه
الناس له، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة، وتكلم بعد البعثة، ولا شك أنه
كان من أفصح البشر وأبلغهم، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول؛ ولكنه
لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد، فلا كلامه الخاص
ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل، وكل من تأمل في
القرآن العظيم، وكان بصيرًا بالبلاغة، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير.
لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه، وشدة تأثيره علوًّا
كبيرًا عن جميع كلام العالمين، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا؟
فقول بعض الناس: إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه
يوحى إليه. ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام
الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها
ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام
إنسان واحد.
ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا
عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي، وكونه قولاً ثقيلاً؟ ولماذا يأبون
إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من
أمراض الجسم، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل؟ فأي استحالة في كون
بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة
عصبية يضطرب لها، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام،
وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء
الصرع، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات، والحال أن النبي عليه
السلام كان سليم الجسم، ولم يكن مريضًا، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من
أعدائه، ولا من أصحابه: إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن،
والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل، وإنما هي افتراضات مبنية على
غير أساس، وتخرصات بغير الواقع، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من
الأوربيين، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند
نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي، لم تكن لتحدث لولا ذلك، ولكن
محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا؛ إذ قد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق
الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد
كان موزونًا لا شائبة فيه، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له
مجال إلا التعنت.
وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال: إن أعداء الرسول من الإفرنج
وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية،
وتشنجات هيستيرية، وما أبعد الفرق بين حالته تلك، وحالة أولي الأمراض
العصبية في المزاج، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً، ولعله إلى
الدموي العضلي أقرب، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف
والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت، وأما صاحب تلك الحالة
الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من
القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي
…
إلخ.
قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد
اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء
النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا، وإنه إنما
أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق، فهذا أمر
قد اتفقوا عليه تقريبًا؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه،
ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن،
وأنها حالة لم يكن يتعمدها، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ
بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية، وذهب آخرون أنه من قبيل
الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد، وعلى كل حال قد اجتاز
الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد، فقد لبثوا طوال
القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا، فرجعوا الآن
عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا، وإن هذا القرآن كان
ينزل عليه، وكان يعتقد هو أنه من عند الله، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه، ولكن
هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم، أو التخيل بقول الآخرين، فادِّعاء الكذب
على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية، وقد اجتيزت المرحلة الأولى
فبقيت المرحلة الثانية، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له
الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى، لا بمجرد التخيل ولا
من قبل المرض، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب
عليهم الاعتقاد بالغيب، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس؛ ولكنهم لو تأملوا
لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً، إلا
وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة
خارقة للعادة، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات
الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية، ويلجئهم الأمر في
أكثر الأحيان إلى تلمس الافتراضات المبنية على غير أساس.
إن كتاب الوحي المحمدي الذي جاء به الأستاذ السيد رشيد رضا في هذه الأيام
قد أتى عصره على قَدَر؛ لأنه زمن صار يجب فيه التعليل حتى في الأمور التي
هي معدودة إلى اليوم من البديهيات، وما دمنا نقفو الأوربيين صاعدًا، ونازلاً، ولا
مناص لنا من هذا الاقتداء، كان لابد لعلماء المسلمين من إعداد الأسلحة العقلية
اللازمة لمكافحة الشبهات التي هي من أصل أوربي، فكتاب الأستاذ وافٍ بهذا الغرض
لا يخطر في البال معنى من المعاني التي يقتنع بها القارئ بعلو مزايا الإسلام، إلا وقد
أشار إليه.
نعم قد فات هذا الكتاب موضوع جليل، ربما كان أدل على إعجاز القرآن
وعلى صحة الوحي به، وكونه من عند الله حقًّا من سائر الموضوعات، وهذا هو
ما في القرآن من الآيات المطابقة للقواعد العلمية التي انتهى إليها تحقيق الأوربيين
في هذا العصر من جهة التحولات الكونية، فمن المعلوم أن محمدًا عليه السلام
فضلاً عن أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في مكة حيث لم تكن علوم، ولا
معارف، ولا جامعات، ولا مدارس، وكذلك لم يكن في المدينة، وإن قلنا: إنه كانت
علوم، ومعارف، ومدارس تقرأ فيها العلوم الكونية، وذلك في غير جزيرة العرب
كالشام أو كالإسكندرية أو كأثينة أو كرومية مثلاً؛ فإن محمدًا كان بعيدًا عن ذلك
المحيط العلمي كله، لا صلة له به، ثم إن العلوم الكونية التي كانت في ذلك العصر
لم تكن فيها هذه النظريات الحديثة كالرأي السديمي مثلاً، الذي يقتضي أن تكون
الأجرام السماوية كلها في الأصل دخانًا، ثم تتجمد كتلة واحدة، ثم ينفصل بعضها
عن بعض أجرامًا متفرقة، وإنك لتجد هذا في القرآن صريحًا {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) فلو لم يكن القرآن وحيًا، ما كان يمكن محمدًا أن ينطق بحقيقة
علمية لم تتقرر فعلاً إلا في هذا العصر، وكذلك كون مبدأ الحياة في الماء، قيل: إنه
قال به بعض فلاسفة اليونان، ولكنه لم يكن قاعدة علمية كما هي اليوم، وكذلك
كون الزوجية منبثة في الممالك الثلاث الكونية، الحيوان، والنبات، والجماد، لم
يكن ذلك معروفًا في عصر محمد عليه السلام، وإنما كانوا يعرفونه في المملكة
الحيوانية، وشيء من المملكة النباتية المشابهة للحيوانية، والحال أن القرآن جعل
هذا المبدأ عامًّا {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 49) وغير ذلك من
الآيات التي جاء فيها مثل {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5) ، و {مِن كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ} (الشعراء: 7) ، وكذلك حركة الأجرام الفلكية، فقد كان الفلكيون
في القديم يعتقدون بوجود سيارات وثوابت، ولم يتغير هذا الاعتقاد إلا بحسب علم
الهيئة الجديد، والحال أن في القرآن ما يدل على أنه ليس من جرم غير متحرك
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) وغير ذلك مما أحصاه المرحوم الغازي أحمد
مختار باشا نحوًا من تسعين آية فيما أتذكر، وفسره تفسيرًا علميًّا، أثبت ما فيه من
المطابقة للنظريات العلمية الحديثة، وكان مختار باشا من أفذاذ الدهر في علم الهيئة
والرياضيات والطبيعيات، فلا يقدر أحد أن ينكر ضلاعته في هذه العلوم، ولقد
أشرت على الأستاذ الحجة السيد رشيد بأن يلحق بكتابه هذا ليكون مستوفيًا جميع
شروط الإفادة خلاصة كتاب مختار باشا الغازي المسمى (سرائر القرآن) ؛ لأن
الذي يؤثر في عقول الأوربيين، وعقول النشء الجديد في الشرق من مطابقة
القرآن للنظريات العلمية الحديثة، هو أعظم مما تؤثره البراهين العقلية والأدبية
والاجتماعية.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... شكيب أرسلان
(المنار)
كتب أمير البيان هذا التقريظ بعد قراءته لكتاب الوحي المحمدي ببضعة أشهر
وكان قد نسي - على ما يظهر - أن الموضوع الذي قال هنا: إنه قد فاتنا - لم يفتنا؛
فإننا قد أشرنا إليه في مواضع، كان آخرها ما يراه القارئ في آخر صفحة من
خاتمة الكتاب، وفيها ذكر هذه المسائل التي مثل بها، لما في القرآن من المسائل
العلمية التي في القرآن وزيادة عليها، وقد وعدنا في هذه الخاتمة، كما وعدنا في
تصدير هذه الطبعة بأننا سنعقد لها فصولاً في ملحقات الكتاب التي ستكون في الجزء
الثاني منه، مع أمثال لها في سنن الكون الاجتماعية، والأخبار الغيبية، والوصايا
الصحية.
وفات الأمير - حفظه الله تعالى - ما كنا اقترحناه عليه عندما كتب إلينا أنه
سيكتب تقريظًا للكتاب بأن يجعله استدراكًا على كلام له في كتاب (حاضر العالم
الإسلامي) النفيس مضمونه أنه لم يوجد في هذا العصر كتاب يصلح لدعوة الإفرنج
إلى الإسلام.
وأما ما ذكره في أول التقريظ من استغناء المسلمين الصادقين عن هذا الكتاب
أو كونه غير موجه إليهم؛ فغرضه خاص بصحة عقيدتهم في أصل الإسلام؛ ولكن
السواد الأعظم منهم عرضة للتشكيك بالشبهات العلمية العصرية، أو دعاة التنصير:
لأنهم أسرى التقليد، وأشرنا إلى حاجتهم إلى براهينه على إعجاز القرآن، والنبوة
في مقدمة التصدير لهذه الطبعة.
وقد وصل هذا التقريظ إلينا في 2 من ذي الحجة سنة 1352 بعد طبع ما
اخترناه من التقاريظ، فجعلناه مسك الختام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الصواب أن يقال: وربما خاف أولاً إلخ فإن الخوف على نفسه إنما عرض له صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي.
(2)
الرُّوع بالضم: الخاطر والخلد، والنفث فيه عبارة عن إلهام يلقى فيه، وهو دون وحي القرآن.
الكاتب: حسين الهراوي
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن [*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي
عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد، وأخذ ورد، ويكشفون عن محاسن الكتاب، وعن المآخذ التي
يرونها فيه.
وهذه الطريقة قديمة، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين:
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب، وإما تنفيرًا منه، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا.
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين، أو أخدع القارئين، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة.
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب.
ولعلي لا أجامل إذا قلت: إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي، إن لم يكن في العالم أجمع.
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام.
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم.
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي.
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن، فأسلوب القرآن البياني، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} (فصلت: 53) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن [1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3-4) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع.
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة، وتعتمدها المحاكم، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية.
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة [2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان.
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام، وذم
التقليد، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث.
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو، لا كما صوره الواهمون المغرضون،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام، وعدَّدها واحدًا واحدًا، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول: إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم.
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان.
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام، وتقدس الإنسان.
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة (جان دارك) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي.
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع.
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي.
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين.
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي.
(1)
المنار: قد بينا هذا في كتاب الوحي، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته.
(2)
إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث.
(3)
إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح.
الكاتب: محمد رشيد رضا
العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(6)
(إعلان استقلال سورية)
كان جل اشتغالنا في دمشق وأهمه في الأسبوع الأول من جمادى الآخرة، أو
الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) سنة 1920 محصورًا في الاستعداد لإعلان
استقلال سورية المتحدة، فلم يدر بيني وبين فيصل أحاديث خاصة في غير هذا،
فأكتبها بعد إرسال وفده إلى مصر فالحجاز.
ولقد كنت على ما أعلم أول من اقترح على الإخوان في دمشق، ثم على
المرحوم يوسف بك العظمة في بيروت أن تعلن سورية استقلالها التام المطلق،
وتجعل دول الحلفاء معها أمام أمر واقع - كما يقال - ولما عاد الأمير فيصل من
أوربة ليقيم أسبوعًا واحدًا يأخذ فيه تفويض البلاد إياه أو توكيلها له في المسألة
السورية، وأبى عليه الزعماء وجمهور الإخوان هذا التوكيل رأوا أن خير ما يشغله
أو يصرفه عن العودة إلى أوربة للاتفاق مع فرنسة وإنكلترة على شكل الانتداب الذي
رضيه أن يقنعوه بإعلان الاستقلال، ونصبه ملكًا على البلاد، فاقتنع ظانًّا أن ما
يرون أنه هو الصارف له عن ذلك هو أقوى ما يمكنه منه، وهو يرى أنه لا مندوحة
عنه.
وكان أول عمل لحزب الاستقلال بالاتفاق مع الأمير دعوة أعضاء المؤتمر
العام إلى دمشق، ثم وضع الأساس الذي يبنى عليه الاستقلال، فعقدوا لهذا جلسات
في دار علي رضا باشا الركابي، ودار رفيق بك التميمي وغيرها كنت أحضرها
إلى أن قرروا بموافقة الأمير أن أذهب إلى بيروت لإقناع زعمائها، والمجيء بهم
إلى دمشق؛ لأنهم كانوا قد امتنعوا عن إجابة الدعوة، فسافرت إلى بيروت في أول
مارس، ولم أتمكن من جمع كلمتهم المتفرقة إلا في مدة أسبوع كامل، كانت آخر
ليلة منه آخر جلسة لنا معهم في دار الاعتماد التي يشغلها باسم حكومة الشام يوسف
بك العظمة، وقد كتبت عنها في مذكرتي ما يلي:
يوم الأحد 7 مارس (16 جمادى الآخرة)
اجتمع مندوبو بيروت البارحة بدار الاعتماد، وتذاكروا في مسألة السفر
فاختلفوا، وكان رأي الأكثرين عدم السفر حتى يجيء من الشام نبأ رسمي بتحديد
جلسة المؤتمر المنتظرة، ورأي أبي علي سلام السفر، فوافقته، وأصررنا فاقتنعوا
وسافرنا صباح اليوم.
وصلنا إلى الشام الساعة 4 و35 ق مساء، فوجدنا المؤتمر مجتمعًا، فصليت
الظهر والعصر جمع تأخير، وحضرت الجلسة فوجدت البحث دائرًا على خطاب
المؤتمر إلى الأمير فيصل، فطلبت أن يقرأ علينا كتابه إلى المؤتمر - وكان قد
قرئ - فأعيدت قراءته، واقترحت شيئًا من التعديل والإصلاح في جواب المؤتمر
له فقبل.
ثم قرئ في الجلسة قرار المؤتمر (ونوقش فيه) وعُهِدَ إليّ أخيرًا تصحيح
عبارته. اهـ ما كتبته بعد الجلسة من تلك الليلة لأجل الذكرى، وهذا القرار حُرر
في أثناء غيبتي في بيروت بعد تلك الجلسات التي عُقِدَت للبحث في موضوعه،
وأشرت إليها آنفًا.
وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص
في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لا دينية (لاييك) ووافقه بعض
المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة
إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أر مخرجًا من هذه
الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم
منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن
لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها، ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها
عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء
باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك.
وإنني بهذه المناسبة أذكر ما كتبته في مذكرتي عن الجلسات الأخيرة التي
حضرتها قبل سفري إلى بيروت، لما فيها من تفصيل هذه المسألة، والعبرة بل
العبر الكثيرة فيما يسمونه الحالة الروحية في ذلك المؤتمر، بل في سورية كلها،
وهذا نصها:
(يوم السبت 8 جمادى الآخرة 28 فبراير)
دعاني الإخوان إلى جلسة بدار رفيق التميمي للمذاكرة فيما يبنى عليه إعلان
الاستقلال فقرأ عزت أفندي دروزة كاتب المؤتمر شيئًا كتبه في معنى ما كنا بيناه في
جلسة عند توفيق بك الناطور؛ ولكنه ترك فيها أهم ما اقترحته عليهم في تلك
الجلسة، وهو بناء التقرير على قاعدة كون الاستقلال السياسي حقًّا طبيعيًّا للشعوب،
كما أن الحرية الشخصية حق طبيعي للأفراد، وقاعدة قيام العرب من السوريين
وغيرهم بثورة على حكومتهم التركية ونجاحهم فيها، وذكر النص المؤيد لذلك من
القانون الدولي، وقاعدة اعتراف مؤتمر الصلح العام لبلادنا بالاستقلال، وإيداعه في
المادة 22 من عهد عصبة الأمم
…
إلخ، نعم إنه ذكر فيما كتبه اسم الثورة، ولكن
بغير هذه الصورة والقوة، فقال رفيق التميمي: إن هذه الصورة حسنة؛ ولكنها تشبه
المقالة. (قلت: المراد الموضوع لا الأسلوب)
وسألت عوني بك عبد الهادي عما كلفته إياه وأمره الأمير به بناء على اقتراحي
من استخراج الشهادات الرسمية (من قبل الدولة البريطانية) للجيش العربي، فإذا
هو لم يأت إلا بعبارة اللورد كرزون منها.
يوم الأحد 9 جمادى الآخرة 29 فبراير (شباط)
اجتمعنا البارحة بالإخوان في دار الركابي باشا، وتناقشنا في عدة مسائل مما
يتعلق بقرار إعلان الاستقلال، وتأليف حكومة جديدة ملكها فيصل، ودينها الإسلام،
منها مسألة العلم السوري، ومن يعلن الاستقلال؟ الأمير أم المؤتمر؟ وغير ذلك
مما سبق البحث في جلستين سابقتين، وكان ترجح أن يكون لسورية علم مستقل
غير علم الحجاز المرفوع الآن في الشام وملحقاتها، وتقرر هذا ولكن لم يتقرر شكل
العلم، ثم إن بعضهم قال في هذه الجلسة: إن الأمير فيصلاً لم يقل ذلك بحال،
وقال: إنه يسوء والده الملك جدًّا؛ ولكنه يقبل أن يوضع في العلم الحجازي علامة
إجبارية كصورة نجم في المثلث الأحمر، أو في غيره، واختلف الرأي في تبديله،
أو إبقائه مع علامة فيه. فتقرر الثاني بأغلبية ضعيفة هي واحد أو اثنين. اهـ.
(يوم الإثنين أول مارس قبل سفري إلى بيروت)
اجتمعنا بالإخوان ليلة الإثنين البارحة بدار الركابي (باشا) للمذاكرة في
المسائل التي تتعلق بالاستقلال أيضًا، وكان أهم ما ألقي فيها من البحث: هل يكون
للحكومة (شيخ إسلام) أو وزير للأمور الشرعية أم لا؟ وعلى الأول؛ هل يكون من
أعضاء مجلس الوكلاء أو الوزراء أم لا؟ فقال بعضهم بالسلب (أي: لا حاجة إلى
وزير ديني أو إسلامي) ! وبعضهم بالحاجة إلى رئيس ترجع إليه أمور المحاكم
الشرعية والأوقاف، ثم طلبوا مني بيان رأيي في الموضوع، فتكلمت من وجوه:
(1)
مكان العرب من الإسلام، وإمامة المسلمين الذين يقتبسون دينهم
ويعبدون ربهم بلغتنا، ويحجون إلى بلادنا ناسكين وزائرين.
(2)
كون هذا الأمر قوة أدبية وسياسية واقتصادية لنا لا يمكننا الاستفادة منه
إلا إذا كان لحكومتنا صفة إسلامية.
(3)
ما استفاده الترك من انتحالهم لمنصب الخلافة، وجعل دين حكومتهم
الإسلام من عطف مئات الملايين من مسلمي الأقطار عليهم، وانتصارهم لهم إلى
الآن، وكون هذا من أسباب بقاء ملكهم على اختلاله إلى اليوم [*] .
(4)
كون العرب في الجزيرة لا يمكن جمع كلمتهم، وتكوين وحدتهم إلا
بدعوة دينية - كما حققه ابن خلدون من قبل - ولا يمكن لسورية أن تبقى مملكة
مستقلة، إلا باتحادها مع غيرها من البلاد العربية المتصلة بها.
(5)
كون السواد الأعظم من العرب مسلمين يغارون على الإسلام اعتقادًا
وإيمانًا، فإذا جعلنا حكومة سورية مجردة من الصفة الإسلامية يوشك أن يقلبوها
بدعوة دينية في أول فرصة.
(6)
ما تقرر في علم أصول القوانين من كون القانون لا يكون صالحًا
للأمة، إلا إذا كان مراعى فيه عقائدها وعاداتها وتاريخها، وعلى هذا يجب أن
تكون الشريعة هي المستمد الأعظم للقوانين التي تحتاج إليها على فرض عدم تدين
حكومتنا بالإسلام، وعدها أئمة الفقه كعلماء القوانين، فإذن لا بد لنا من وزير
شرعي، ومن رجال آخرين من علماء الشرع لهذه الحكومة.
(7)
كون شريعتنا صالحة لهذه الزمان كغيره، وليس فيها ما ينافي المدنية
إذا لم تتقيد بمذهب الحنفية أو غيره، وذكرت أمثلة في ذلك وقواعد شرعية،
فاعتمدوا رأيي وقرروه. اهـ.
هذا ما كتبته من خلاصة تلك الجلسة الطويلة في ذلك الوقت القصير، وقت
السفر، ولكن ما تقرر بعد سفري لم يُبن عليه، ولم يمنع أن يقترح بعضهم أن
يكتب في نص قرار الاستقلال جعل الحكومة السورية لا دينية.
وقد ظهر بعد ذلك من العبر في المؤتمر نفسه ما قد نبينه عند سنوح الفرصة
له، وأغربه ما نجم من رؤوس الإلحاد والإباحة في أثناء المناقشة في القانون
الأساسي للدولة السورية.
هذا وإن ما كان من الجلسات الخاصة بيني وبين الملك فيصل بعد إعلان
الاستقلال قد انحصر في صباح يومي الجمعة والأحد؛ إذ لا تُعْقَد فيهما جلسات
المؤتمر، وقد نفذ ما كنا قررناه من إرسال وفد إلى ابن السعود بكتاب منه، وكتاب
مني، ثم تجددت أمور اختلف فيها رأيي مع رأيه، وسألخص ما أراه مفيدًا من ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) هذه المسألة يمكن كغيرها بسطها بمقال طويل يفند فيه خطأ متأخري الترك الذين ألغوا منصب الخلافة تقربًا إلى أوربة، وزعمهم أن الإسلام وخلافته لم تفدهم بل أضرتهم، وأن الحجة البالغة على هذا عدم ثورة العالم الإسلامي على الخلفاء في الحرب الأخيرة، فهذا جهل طالما بيناه في المنار ويمكن الزيادة فيه.
الكاتب: عن جريدة المقطم
حركة النازي اللادينية
وشجاعة الفاتيكان وصراحته
منقولة عن المقطم
الذي صدر بتاريخ 21 ذي القعدة سنة 1352 - 7 مارس 1934
لما شجر الخلاف في الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا، وكثر التحدث عندهم
بالكنيسة الألمانية الرسمية، أو النازية، وبالطائفة التي تُسمي نفسها بالألمانيين
المسيحيين، لم يدر الناس في الشرق كثيرًا ولا قليلاً عن هذا الخلاف في الكنيسة
البروتستانتية الألمانية، وظنوه خلافًا وطنيًّا عارضًا لا يلبث أن يسوى بينهم، وأنه
لا يمس جوهر المسيحية بشيء.
ولكننا ما لبثنا أن سمعنا باشتداد الخلاف، وبأنه خلاف على جوهر حتى
ذهبت الأكثرية المعارضة إلى مدى القول أن النازي يريدون أن يمزجوا جوهر
المسيحية بشوائب الوثنية. ولم نفهم المراد بالوثنية حتى أفهمنا إياه النازي أنفسهم؛ إذ
وكلوا إلى اثنين من أساطين كُتابهم - فيما يظهر - فكتبوا كتابين في جوهر هذا
التغيير الذي يُقَرِّب المسيحية من الوثنية، وأحد هذين الكاتبين اسمه روزنبرج،
واسم كتابه (خرافة القرن العشرين)
ونحن لم نر الكتاب، ولكن نقلت إلينا الأنباء نبذًا منه، وقيل لنا: إن النازي
سيتخذون هذين الكتابين قانونًا لإيمانهم الجديد، ينشرونه فيما بينهم ويُحَفِّظونه
أولادهم في المدارس، ويعلقون آياته على أبواب عملهم، وفي منازلهم، ويعصبون
بها رؤوسهم لو كانوا يلبسون عصابات.
وفي تلك النبذ التي قرأناها ما فهمنا منه أن النازي ينكرون المسيح قاعدة
المسيحية، ويحسبونه معلمًا دينيًّا إن كان إنجيله ملائمًا لعصره، فهو لا يلائم هذا
العصر؛ ذلك لأنه بَشَّر في ذلك الزمان بالسلام، والسلام لا يلائم فطرة الخلق، وقد
جرب كل التجارب في مدة ألفي السنة التي مرت، فما احتمل تلك التجارب؛ لأن
الناس المسالمين الودعاء لا يرضى الواحد منهم إذا لُطم على خده أن يحول الآخر
لضاربه، وإذا سئل ثوبه أن يعطي رداءه فوقه، وإذا سُخِّرَ ميلاً أن يمشي مع
مُسَخِّرِه ميلين.
لا يرضى الرجل الوديع المسالم ذلك، فما بالك بالألماني الشديد المراس في
معاملة الغريب السلس القياد في أيدي حكامه مهما يكن مبلغ استبدادهم به، وبنظام
الحكم والدستور والبرلمان في بلاده.
ألا ترى أن الألماني لا يغفر لأجنبي أقل هفوة يهفوها، ويعدها إيذاء لشعوره
القومي، وهو قد اغتفر للنازي حل البرلمان، وإلغاء الدستور، وإنشاء دكتاتورية
مطلقة، وليس الفرنسوي ولا الإنكليزي مثل ذلك؛ إذ لا يتصور أحد من الذين
يعرفون أخلاقهما وتربتيهما الدستورية أنهما يرضيان بانقلاب دستوري مثل الذي
رضيه الألماني.
إن الذين قالوا: إن النازي يريدون مزج المسيحية بالوثنية. قالوا شيئًا كثيرًا؛
فإن إنكار قاعدة المسيحية يعيد القوم إلى العصور السابقة لانتحالهم المسيحية، وقد
كانوا فيها يعبدون - مثلما كان العرب يعبدون في عصور الجاهلية - اللات والعزى
ومناة الأولى، فلينعموا بأصنامهم وأوثانهم.
وهذا الحنين إلى عهود الوثنية يبعد النازي عن أديان التوحيد الثلاثة، وهو
شذوذ لهم يختلف عن شذوذ إمبراطور ألمانيا السابق، فقد كان يعتقد أن الشعب
الألماني شعب الله الخاص، وأنه هو ملك هذا الشعب المختار بحق إلهي، ولعل
هذه الفكرة ورثها النازي عنه، وهي التي تجعلهم ينقمون من اليهود ما ينقمون.
وكاتب هذه السطور ليس كاثوليكيًّا؛ ولكنه يرى من العدل والإنصاف ألا
يترك هذه العجالة من غير أن ينوه بفضل الفاتيكان ويده على المسيحية في رد هذا
الكيد لها، فقد أبدى في هذا الحادث ما اشتهر عنه من الغيرة والسهر على الوزنات
الخمس التي عهد إليه فيها، فكان بينه وبين النازي مفاوضات على عقد
(كونكرداتو) يتقرر به موقف الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، فلما درى بحركة
النازي هذه، والتي هي في جوهرها لا دينية قطع المفاوضة، ولم يمنعه من ذلك
كون رئيس الوزراء ووكيلها كاثوليكيين؛ لأنه إن كان لا حياء في الدين، فهنا موضع
إبداء الشجاعة والجرأة، وعدم الحياء في المجاهرة بالضمير، وإن كانت المجادلة
والمداورة والمناورة تصلح أساسًا للسياسة؛ فإنها لا تصلح أساسًا للديانة، وكل من
يبني عليها فهو (يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل، فنزل المطر، وجاءت
الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت؛ فسقط وكان سقوطه عظيمًا)
وعندنا أن هذه الحركة النازية شقيقة البلشفية من الوجهة الدينية، وأنه إن
كانت ألمانيا قد سلمت من البلشفية السياسية، لم تَسْلَم من البلشفية الدينية، والفرق
بين البلاشفة والنازي، أن الأولين صريحون في مروقهم من الدين، وأن الثانين
يعملون من وراء ستار.
ومما يدل على أن النازي يريدون أن ينفوا عن الأذهان فكرة الله والألوهية
قولهم في القسم الذي أقسموه لزعيمهم منذ أيام: (أقسم لأدولف هتلر وللحق الأبدي)
فما هو هذا الحق الأبدي؟
وجاء في التلغرافات التي نشرت في الأسبوع الماضي أن قداسة البابا خطب
في جمع من كبار رجال الدين أمس بمناسبة العزم على تطويب ثلاثة من القديسين
فحمل على (العقائد الوثنية) الحديثة في ألمانيا، وقال: (إن حياة أولئك القديسين
كانت مثالاً باهرًا من المحبة المسيحية، وإنذارًا من مثل الحركة التي تريد العالم
على العود إلى الوثنية، والشعب الألماني النبيل هو الآن في مأزق من تاريخه،
والآراء والأعمال السائدة بينه ليست مسيحية ولا إنسانية، فإن الزهو القومي لا
ينتج إلا زهوًا بالحياة، وهو بعيد عن روح المسيحية والإنسانية معًا) .
…
...
…
...
…
...
…
... (ن. ش)
_________
الكاتب: عن مجلة الطان الفرنسية
المعارك الدينية في ألمانيا
بين طوائف البروتستانت
ترجمة كوكب الشرق عن الطان الفرنسية في 12 إبريل سنة 1934
لا تزال المعارك الدينية تزداد خطورة بين الطوائف التابعة للكنيسة الإنجيلية
في ألمانية.
وقد اجتمع السينودس الإنجيلي الحر، وهو مؤلف من رجال الدين، ومن
التابعين قبلاً لثلاثين سنودس من ثلاثة وثلاثين سنودسيًّا، أعني من المصلحين
واللوثريين وأعضاء الكنيسة المتحدة، وهم من اللوثريين والمصلحين الذين انضموا
معًا في عهد حكم فردريك الأول، ووافق السنودس المشار إليه على إصدار منشور
جاء فيه ما يلي:
إن الأسباب التي أحدثت الاضطراب الشديد في الكنيسة الإنجيلية الألمانية
ترجع إلى الحملات التي أثيرت ضد معتقدات هذه الكنيسة، ويقع القائمون بالأمر
فيها في أغلاط تنافي ما جاء في الإنجيل المقدس.
ولم تعد لمجالس القساوسة ورجال الدين والسنودس الوطني سلطة روحية منذ
انتخابها في صيف 1933، والروح التي تسيطر على هذه الهيئات الدينية وإرادتها
هي روح التدمير والهدم، حتى إن الأوامر التي صدرت في 4 يناير و 26 يناير
و3 فبراير سنة 1934 هي أوامر لا تتفق والعدالة ودستور رجال الدين.
ونحن نهيب إذًا بإخواننا وزملائنا من القساوسة ألا ينفذوا هذه الأوامر، ولا
يعملوا بها؛ لأنها ضد تعاليم الإنجيل المقدس، ونهيب بأبنائنا التابعين لنا
وبقساوستهم الذين عُزلوا من مناصبهم ظلمًا وعدوانًا ألا يأبهوا لهذه الأوامر، وأن
يحتفظوا بقساوستهم؛ لأن عصيان حكومة دينية تحكم بما يخالف كلام الله سبحانه
وتعالى يعد طاعة له جل جلاله.
وإذا علمنا أن الطاعة من القواعد الأساسية التي تتمسك بها الكنيسة البروسية
أدركنا أن هذه العبارات التي جاءت في المنشور هي عبارات تدل على الثورة
والعصيان والتمرد، ويُحْتَمَل أن الذين كتبوها يعتقدون بأنهم لا يشتغلون بالأمور
السياسية، ولا دخل لهم فيها، ولكن من المحال أن الحكومة الحالية في ألمانيا لا
تتهمهم بالوقوع في الخطأ، وتقف مكتوفة اليدين فلا تعمل بشدة ضد هذا القرار.
وقد وافق السنودس الحر على هذا المنشور، وكان مؤلفًا من 320 قسيسًا من
المصلحين ينتمون إلى 127 أبروشية، ووافق اتحاد كنائس المصلحين في ألمانيا
بإجماع الآراء على هذا المنشور في 5 يناير سنة 1934، وصرح الاتحاد في
الوقت ذاته بأن الذين ينضمون إلى جماعة المسيحيين الألمانيين يعدون خارجين
على اتحاد كنائس المصلحين وغير تابعين له.
وفي 21 فبراير أنشأت الحكومة مكتبًا لرجال الدين للنظر في الشئون
الخارجية، وعينت الأسقف تيودور هيكل لإدارته، ومن أعمال هذا المكتب توثيق
العلاقات مع البروتستانت في البلاد الأجنبية، ومع الكنائس التي تصادقهم، وكذلك
توثيق العلاقات بين كنيسة بلاد الريخ، ودعاة الحركة المسكونية.
ومما لا ريب فيه أن جميع هاته القرارات كانت سببًا للنزاع الذي قَسَم الكنيسة
الإنجيلية في ألمانيا على نفسها، وجعلها شطرين.
ولم تمض ستة أيام على إصدار ذلك المنشور الذي أشرنا إليه حتى فاه الأسقف
هيكل بتصريح قال فيه: (إن منشور السنودس الحر عمل رجعي لا يتفق مع مبادئ
حكومة الرخ الثالثة، بل ينافي النظام ويتحدى سلطة الكنيسة الألمانية، وإن
المسيحيين الألمانيين لم ينفصلوا عن اتحاد الكنائس في ألمانيا، إلا لموقفه ضد
المذهب الوطني الاشتراكي لا لاختلاف في العقائد، ولا يغرب عن الأذهان أن
القساوسة ورجال الدين قد أكدوا ولاءهم وإخلاصهم للحكومة الحالية، وأنهم لا دخل
لهم في الشئون السياسية، فكان منشورهم هذا الذي أصدروه موضع دهشة في
الدوائر الدينية) .
وفي أول مارس الماضي عين أسقف حكومة الرخ رجال دين لم يشتركوا في
المعارك الدينية الأخيرة، وفي 2 مارس تجددت الوسائل التي تقرر اتخاذها ضد
عمل البروتستانت، وإغرائهم الشبيبة الألمانية، فازدادت الحالة خطورة.
فانضمت إدارة كنيسة بروسيا وهي التي تعد أكبر إدارة كنسية في ألمانيا؛ إذ
يتبعها 18 مليونًا من الأنفس إلى كنيسة الرخ، وفي 25 يناير استدعى المستشار
هتلر، يعاونه الهر جويرنج، والهر فريك وزير الداخلية مندوبي الكنائس، وبعد
اجتماع المستشار بهم صدر تصريح بعد يومين جاء فيه أن جميع زعماء الكنيسة قد
تضمنوا وانضموا إلى الأسقف ملر ووعدوه بتأييد سلطته.
وفي 2 فبراير صرحت لجنة اتحاد المصلحين بأن التصريح الذي نشره
رؤساء الكنيسة بتضامنهم وانضمامهم إلى الأسقف ملر، ووعدهم بتأييد سلطته
يناقض ذلك التصريح الذي أذاعوه من قبل، وأرسلت اللجنة إلى زعماء الكنيسة
رسالة في 31 يناير قالت فيها:
(لقد اشتد تأثرنا، وحارت عقولنا في ذلك التصريح الذي أقدمتم على إذاعته
ولا يسعنا غير القول إنه يناقض أقوال الإنجيل المقدس، ولا يتفق مع تعاليم
الكنيسة) .
وبعد شهور قدم أسقف هامبورج استقالته من منصبه، واقتفى أثره جميع
رجال الدين في كنيسة هامبورج، وفازت حكومة الرخ ببغيتها وأصدر الأسقف ملر
أوامر بتعيين قساوسة آخرين، وعزل الذين لم يريدوا الخضوع له دون محاكمة أو
سؤال، وألغى استقلال كنيسة بروسيا وجعلها تابعة لكنيسة الرخ، وعدل دستور
الكنائس المتحدة ، وأبطل حق السنودس العام في التشريع، وسن القوانين لمجامع
السنودس الفرعية في الأقاليم، وقد أصبحت حكومة الرخ قابضة على ناصية الحالة
الآن، أما المستقل ففي يد الله وحده) اهـ
(المنار) نشرنا هذه المقالة وما قبلها لأجل الرجوع إليها من أطوار هذا
الانقلاب الديني في هذا الشعب الجرماني، الذي هو أرقى شعوب أوربة، بل العالم
البشري كله في جميع العلوم الكونية وفنون الحضارة، فحكومته تحاول التفلت
والتفصي من هذه الديانة الملفقة المخالفة حقائق العلوم، وبدائه العقول على إحكام
عقلها، وشدة قيودها، ونظم كنائسها، وسعة ثروتها، وعصبية أساقفتها وقسوسها،
ونفوذهم المعنوي في الشعب، ولكن نفوذ حكومته النازية الجديدة أقوى وأعظم،
وقد سبقه مصطفى كمال فأطلق حكومته التركية دون الشعب من قيود الإسلام في
مرحلتين أو ثلاث، ولم يلق معارضة شديدة، والترك أعرق في التدين من الألمان؛
ولكنه ليس لهم نظام ديني إلا عند الخرافيين من رجال طرق المولوية وأمثالهم،
وسبقهما الشيوعيون فهدموا جميع الأديان من روسية كلها حكومتها وشعوبها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نتيجة حرب الجزيرة
وما تجب مراعاته في الصلح
لقد تجلت نتيجة الحرب بسرعة لم يكن أحد ينتظرها، على اختلاف الآراء
فيها فقد انهزمت الجيوش اليمانية أمام الجيش النجدي السعودي في كل من الميدانين
الذي يقوده فيهما نجلا الملك: الأمير سعود ولي العهد في جهة نجران التي احتلها
كلها، والأمير فيصل في تهامة فاحتل الحُدَيْدَة وما حولها، ودان له بقية أهلها،
وأمسى الأميران يهددان عاصمة اليمن (صنعاء) من طرفيها.
ثبت عندنا في هذه الحرب أمور متعارضة، أظهرها أن ضلع الرأي العام
الإسلامي العام مع الملك السعودي، وأنه لم تبث له دعاية رسمية، ولا غير رسمية
لا بتكبير قوته، ولا بإطراء فوزه، ولا بالدفاع عنه؛ ولكن أحد محرري الصحف
زعم أن حكومته هي التي أتقنت هذه الدعاية بجميع وسائلها دون خصمه، وما زال
يكرر هذا حتى صدقه غيره وهو لم يصدق نفسه، وصار من القضايا المسلمات.
وأما الإمام يحيى فقد بثت له دعاية واسعة بدون سعيه، منها أن قوته الحربية
أعظم عددًا وعدة، وبأسًا ونظامًا، وقوادًا ومالاً، وأن قبائل الحجاز وقبائل شمر في
نجد والعراق وقبائل شرق الأردن ستثور على خصمه الملك ابن سعود بله قبائل
عسير الثائرة بالفعل، حتى إذا ما دارت المعارك، وانهزم الجيش اليماني في كل
ميدان صاروا يكذبون أنباءها، ويعدونها من الدعاية التي صارت مسلمة عندهم
وعند غيرهم، وما زالوا بالإمام على جلالة قدره حتى أنزلوه إلى ميدان تكذيب
الحسيات المجمع عليها، وأخيرًا فسروها بما فسرها هو به، وهو حب السلم
وكراهة الحرب، فإذا سلمنا هذا وجب أن يبنى عليه الصلح الدائم، فتجعل قوة
الدفاع عن الجزيرة إلى المملكة السعودية القوية الحربية، فهل يقبل الاعتراف بهذه
النتيجة لتلك المقدمات المنطقية؟
حقًّا إن الإمام يحيى قد جنح للسلم، وإنه قد آن له أن يقبل ما طالما دعي إليه
من إبرام العهد، وإن أدنى الدرجات لذلك ألا يعقد الصلح على دخن، ولا تتخذ
المعاهدة دخلاً بين الفريقين، فتكون هدنة يستعد بها كل منهما لإعادة الكرة والأخذ
بالثأر، في وقت ربما تكون الحرب وبالاً عليهما وعلى الأمة كلها، بل يجب
استئصال جذور العداوة من أعماقها، ويجب أن يتدبر وفد الصلح الآيات الآتية،
ويقيموا بناء الصلح وحصن المعاهدة على أساسها.
وهي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى
مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ * وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا
صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 91-94)
بل أصرح بأن شر ما تنتهي به هذه الحرب أن يكون كل من الفريقين كفؤًا
للآخر، قادرًا على استئنافها عند سنوح الفرصة، ففي هذه الحالة تجعل الدسائس
الأجنبية كلاًّ منهما خصمًا للآخر تهدده بإمداده وتأليبه بالمساعدة عليه عند الحاجة،
وإن من شرار المسلمين لَمَنْ هم شر من الأجانب، وقد كان كل البلاء في هذه الفتنة
منهم، فكل من أظهر الميل والانتصار للإمام يحيى فيها سرًّا أو جهرًا كان شرًّا له
من كل من ظن أنهم عدو له، ولم يكن أحد منهم مخلصًا له، وإنما كانوا يتبعون
أهواءهم.
وأما الدرجة العليا للملة الإسلامية والأمة العربية، فهي أن تكون لجزيرة
العرب حكومة واحدة، بل للأمة العربية كلها إذا أمكن، فهذه سياسة الشرع
ومقتضى العقل وتجارب الأمم، فإن لم يمكن خضوعها أو إخضاعها لحكومة واحدة
من غير فتنة ترجح فيها المفسدة على المصلحة، فالواجب أن يكون التعدد في
الصورة والشكل مع الوحدة في السياسة والقصد، كالمعروف في الوحدات الغربية
كلها، وسويسرة والولايات المتحدة في شمال أمريكة.
وأما اختلاف الحكومات في تكافؤ القوى، ومحاولة منع العدوان بينها
بالتوازن، فهو مثار كل شقاق وشقاء كما نراه في دول أوربة، فعسى أن يوفق وفد
الصلح بين الإمامين لسد ذرائع الفساد، وإحكام بناء الصلاح والاتحاد، هداهم الله
سبيل الرشاد.
_________