الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: حسين الهراوي
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن [*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي
عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد، وأخذ ورد، ويكشفون عن محاسن الكتاب، وعن المآخذ التي
يرونها فيه.
وهذه الطريقة قديمة، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين:
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب، وإما تنفيرًا منه، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا.
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين، أو أخدع القارئين، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة.
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب.
ولعلي لا أجامل إذا قلت: إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي، إن لم يكن في العالم أجمع.
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام.
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم.
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي.
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن، فأسلوب القرآن البياني، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} (فصلت: 53) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن [1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3-4) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع.
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة، وتعتمدها المحاكم، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية.
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة [2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان.
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام، وذم
التقليد، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث.
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو، لا كما صوره الواهمون المغرضون،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام، وعدَّدها واحدًا واحدًا، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول: إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم.
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان.
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام، وتقدس الإنسان.
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة (جان دارك) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي.
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع.
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي.
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين.
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي.
(1)
المنار: قد بينا هذا في كتاب الوحي، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته.
(2)
إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث.
(3)
إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح.
الكاتب: محمد رشيد رضا
العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(6)
(إعلان استقلال سورية)
كان جل اشتغالنا في دمشق وأهمه في الأسبوع الأول من جمادى الآخرة، أو
الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) سنة 1920 محصورًا في الاستعداد لإعلان
استقلال سورية المتحدة، فلم يدر بيني وبين فيصل أحاديث خاصة في غير هذا،
فأكتبها بعد إرسال وفده إلى مصر فالحجاز.
ولقد كنت على ما أعلم أول من اقترح على الإخوان في دمشق، ثم على
المرحوم يوسف بك العظمة في بيروت أن تعلن سورية استقلالها التام المطلق،
وتجعل دول الحلفاء معها أمام أمر واقع - كما يقال - ولما عاد الأمير فيصل من
أوربة ليقيم أسبوعًا واحدًا يأخذ فيه تفويض البلاد إياه أو توكيلها له في المسألة
السورية، وأبى عليه الزعماء وجمهور الإخوان هذا التوكيل رأوا أن خير ما يشغله
أو يصرفه عن العودة إلى أوربة للاتفاق مع فرنسة وإنكلترة على شكل الانتداب الذي
رضيه أن يقنعوه بإعلان الاستقلال، ونصبه ملكًا على البلاد، فاقتنع ظانًّا أن ما
يرون أنه هو الصارف له عن ذلك هو أقوى ما يمكنه منه، وهو يرى أنه لا مندوحة
عنه.
وكان أول عمل لحزب الاستقلال بالاتفاق مع الأمير دعوة أعضاء المؤتمر
العام إلى دمشق، ثم وضع الأساس الذي يبنى عليه الاستقلال، فعقدوا لهذا جلسات
في دار علي رضا باشا الركابي، ودار رفيق بك التميمي وغيرها كنت أحضرها
إلى أن قرروا بموافقة الأمير أن أذهب إلى بيروت لإقناع زعمائها، والمجيء بهم
إلى دمشق؛ لأنهم كانوا قد امتنعوا عن إجابة الدعوة، فسافرت إلى بيروت في أول
مارس، ولم أتمكن من جمع كلمتهم المتفرقة إلا في مدة أسبوع كامل، كانت آخر
ليلة منه آخر جلسة لنا معهم في دار الاعتماد التي يشغلها باسم حكومة الشام يوسف
بك العظمة، وقد كتبت عنها في مذكرتي ما يلي:
يوم الأحد 7 مارس (16 جمادى الآخرة)
اجتمع مندوبو بيروت البارحة بدار الاعتماد، وتذاكروا في مسألة السفر
فاختلفوا، وكان رأي الأكثرين عدم السفر حتى يجيء من الشام نبأ رسمي بتحديد
جلسة المؤتمر المنتظرة، ورأي أبي علي سلام السفر، فوافقته، وأصررنا فاقتنعوا
وسافرنا صباح اليوم.
وصلنا إلى الشام الساعة 4 و35 ق مساء، فوجدنا المؤتمر مجتمعًا، فصليت
الظهر والعصر جمع تأخير، وحضرت الجلسة فوجدت البحث دائرًا على خطاب
المؤتمر إلى الأمير فيصل، فطلبت أن يقرأ علينا كتابه إلى المؤتمر - وكان قد
قرئ - فأعيدت قراءته، واقترحت شيئًا من التعديل والإصلاح في جواب المؤتمر
له فقبل.
ثم قرئ في الجلسة قرار المؤتمر (ونوقش فيه) وعُهِدَ إليّ أخيرًا تصحيح
عبارته. اهـ ما كتبته بعد الجلسة من تلك الليلة لأجل الذكرى، وهذا القرار حُرر
في أثناء غيبتي في بيروت بعد تلك الجلسات التي عُقِدَت للبحث في موضوعه،
وأشرت إليها آنفًا.
وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص
في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لا دينية (لاييك) ووافقه بعض
المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة
إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أر مخرجًا من هذه
الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم
منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن
لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها، ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها
عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء
باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك.
وإنني بهذه المناسبة أذكر ما كتبته في مذكرتي عن الجلسات الأخيرة التي
حضرتها قبل سفري إلى بيروت، لما فيها من تفصيل هذه المسألة، والعبرة بل
العبر الكثيرة فيما يسمونه الحالة الروحية في ذلك المؤتمر، بل في سورية كلها،
وهذا نصها:
(يوم السبت 8 جمادى الآخرة 28 فبراير)
دعاني الإخوان إلى جلسة بدار رفيق التميمي للمذاكرة فيما يبنى عليه إعلان
الاستقلال فقرأ عزت أفندي دروزة كاتب المؤتمر شيئًا كتبه في معنى ما كنا بيناه في
جلسة عند توفيق بك الناطور؛ ولكنه ترك فيها أهم ما اقترحته عليهم في تلك
الجلسة، وهو بناء التقرير على قاعدة كون الاستقلال السياسي حقًّا طبيعيًّا للشعوب،
كما أن الحرية الشخصية حق طبيعي للأفراد، وقاعدة قيام العرب من السوريين
وغيرهم بثورة على حكومتهم التركية ونجاحهم فيها، وذكر النص المؤيد لذلك من
القانون الدولي، وقاعدة اعتراف مؤتمر الصلح العام لبلادنا بالاستقلال، وإيداعه في
المادة 22 من عهد عصبة الأمم
…
إلخ، نعم إنه ذكر فيما كتبه اسم الثورة، ولكن
بغير هذه الصورة والقوة، فقال رفيق التميمي: إن هذه الصورة حسنة؛ ولكنها تشبه
المقالة. (قلت: المراد الموضوع لا الأسلوب)
وسألت عوني بك عبد الهادي عما كلفته إياه وأمره الأمير به بناء على اقتراحي
من استخراج الشهادات الرسمية (من قبل الدولة البريطانية) للجيش العربي، فإذا
هو لم يأت إلا بعبارة اللورد كرزون منها.
يوم الأحد 9 جمادى الآخرة 29 فبراير (شباط)
اجتمعنا البارحة بالإخوان في دار الركابي باشا، وتناقشنا في عدة مسائل مما
يتعلق بقرار إعلان الاستقلال، وتأليف حكومة جديدة ملكها فيصل، ودينها الإسلام،
منها مسألة العلم السوري، ومن يعلن الاستقلال؟ الأمير أم المؤتمر؟ وغير ذلك
مما سبق البحث في جلستين سابقتين، وكان ترجح أن يكون لسورية علم مستقل
غير علم الحجاز المرفوع الآن في الشام وملحقاتها، وتقرر هذا ولكن لم يتقرر شكل
العلم، ثم إن بعضهم قال في هذه الجلسة: إن الأمير فيصلاً لم يقل ذلك بحال،
وقال: إنه يسوء والده الملك جدًّا؛ ولكنه يقبل أن يوضع في العلم الحجازي علامة
إجبارية كصورة نجم في المثلث الأحمر، أو في غيره، واختلف الرأي في تبديله،
أو إبقائه مع علامة فيه. فتقرر الثاني بأغلبية ضعيفة هي واحد أو اثنين. اهـ.
(يوم الإثنين أول مارس قبل سفري إلى بيروت)
اجتمعنا بالإخوان ليلة الإثنين البارحة بدار الركابي (باشا) للمذاكرة في
المسائل التي تتعلق بالاستقلال أيضًا، وكان أهم ما ألقي فيها من البحث: هل يكون
للحكومة (شيخ إسلام) أو وزير للأمور الشرعية أم لا؟ وعلى الأول؛ هل يكون من
أعضاء مجلس الوكلاء أو الوزراء أم لا؟ فقال بعضهم بالسلب (أي: لا حاجة إلى
وزير ديني أو إسلامي) ! وبعضهم بالحاجة إلى رئيس ترجع إليه أمور المحاكم
الشرعية والأوقاف، ثم طلبوا مني بيان رأيي في الموضوع، فتكلمت من وجوه:
(1)
مكان العرب من الإسلام، وإمامة المسلمين الذين يقتبسون دينهم
ويعبدون ربهم بلغتنا، ويحجون إلى بلادنا ناسكين وزائرين.
(2)
كون هذا الأمر قوة أدبية وسياسية واقتصادية لنا لا يمكننا الاستفادة منه
إلا إذا كان لحكومتنا صفة إسلامية.
(3)
ما استفاده الترك من انتحالهم لمنصب الخلافة، وجعل دين حكومتهم
الإسلام من عطف مئات الملايين من مسلمي الأقطار عليهم، وانتصارهم لهم إلى
الآن، وكون هذا من أسباب بقاء ملكهم على اختلاله إلى اليوم [*] .
(4)
كون العرب في الجزيرة لا يمكن جمع كلمتهم، وتكوين وحدتهم إلا
بدعوة دينية - كما حققه ابن خلدون من قبل - ولا يمكن لسورية أن تبقى مملكة
مستقلة، إلا باتحادها مع غيرها من البلاد العربية المتصلة بها.
(5)
كون السواد الأعظم من العرب مسلمين يغارون على الإسلام اعتقادًا
وإيمانًا، فإذا جعلنا حكومة سورية مجردة من الصفة الإسلامية يوشك أن يقلبوها
بدعوة دينية في أول فرصة.
(6)
ما تقرر في علم أصول القوانين من كون القانون لا يكون صالحًا
للأمة، إلا إذا كان مراعى فيه عقائدها وعاداتها وتاريخها، وعلى هذا يجب أن
تكون الشريعة هي المستمد الأعظم للقوانين التي تحتاج إليها على فرض عدم تدين
حكومتنا بالإسلام، وعدها أئمة الفقه كعلماء القوانين، فإذن لا بد لنا من وزير
شرعي، ومن رجال آخرين من علماء الشرع لهذه الحكومة.
(7)
كون شريعتنا صالحة لهذه الزمان كغيره، وليس فيها ما ينافي المدنية
إذا لم تتقيد بمذهب الحنفية أو غيره، وذكرت أمثلة في ذلك وقواعد شرعية،
فاعتمدوا رأيي وقرروه. اهـ.
هذا ما كتبته من خلاصة تلك الجلسة الطويلة في ذلك الوقت القصير، وقت
السفر، ولكن ما تقرر بعد سفري لم يُبن عليه، ولم يمنع أن يقترح بعضهم أن
يكتب في نص قرار الاستقلال جعل الحكومة السورية لا دينية.
وقد ظهر بعد ذلك من العبر في المؤتمر نفسه ما قد نبينه عند سنوح الفرصة
له، وأغربه ما نجم من رؤوس الإلحاد والإباحة في أثناء المناقشة في القانون
الأساسي للدولة السورية.
هذا وإن ما كان من الجلسات الخاصة بيني وبين الملك فيصل بعد إعلان
الاستقلال قد انحصر في صباح يومي الجمعة والأحد؛ إذ لا تُعْقَد فيهما جلسات
المؤتمر، وقد نفذ ما كنا قررناه من إرسال وفد إلى ابن السعود بكتاب منه، وكتاب
مني، ثم تجددت أمور اختلف فيها رأيي مع رأيه، وسألخص ما أراه مفيدًا من ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) هذه المسألة يمكن كغيرها بسطها بمقال طويل يفند فيه خطأ متأخري الترك الذين ألغوا منصب الخلافة تقربًا إلى أوربة، وزعمهم أن الإسلام وخلافته لم تفدهم بل أضرتهم، وأن الحجة البالغة على هذا عدم ثورة العالم الإسلامي على الخلفاء في الحرب الأخيرة، فهذا جهل طالما بيناه في المنار ويمكن الزيادة فيه.