المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (34)

- ‌المحرم - 1353ه

- ‌فاتحة المجلد الرابع والثلاثين من المنار

- ‌كتمان القرآن عن أهل الكتابوسورة يوسف عن النساء

- ‌جزيرة العرب والوحدة العربية

- ‌تقريظ الأستاذ الشيخعبد الحميد السائح النابلسي [*]

- ‌تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان

- ‌كتاب الوحي المحمدينقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن [*]

- ‌حركة النازي اللادينيةوشجاعة الفاتيكان وصراحته

- ‌المعارك الدينية في ألمانيابين طوائف البروتستانت

- ‌نتيجة حرب الجزيرةوما تجب مراعاته في الصلح

- ‌صفر - 1353ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحرب في جزيرة العرب

- ‌تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده

- ‌انتقاد مسألة الرق والجواب عنها(1)

- ‌التنازع والتخاصم

- ‌ربيع الأول - 1353ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌معاهدة الطائفبينالمملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية [*]

- ‌الإصلاح والتجديد الإسلاميفي المعاهدة الإسلامية العربية بين الدولتينالسعودية واليمانية

- ‌كلمة خالصة لوجه الله

- ‌كشف بقية شبهات العَالِم النجديفي كلمات من كتاب الوحي المحمدي

- ‌جوامع كلم في شؤون الدول والأمم

- ‌وفد الصلح والسلام

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌أحمد زكي باشا شيخ العروبة

- ‌تحسين الأغاني والأناشيد العربيةلترقية الشعور القومي والخلقي

- ‌ربيع الآخر - 1353ه

- ‌اتهام ابن تيميةبأنه قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي

- ‌تفسير المنار لعلامة الدهر ومصلح العصر

- ‌مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة

- ‌جوامع كلم في شؤون الدول والأمم

- ‌التعريف بكتاب مسائل الإمام أحمد

- ‌عهد التحكيمبين المملكة العربية السعودية وبين مملكة اليمن

- ‌جمادى الآخرة - 1353ه

- ‌من صاحب الإمضاء في بيروت

- ‌مباحث الربا والأحكام المالية

- ‌كتاب الوحي المحمدي

- ‌الرد على من أفتى بكتمان بعض القرآنثم حرَّف بعضه استدلالاً على فتواه

- ‌دائرة المعارف الإسلامية ومفاسدها

- ‌المطبوعات الحديثة

- ‌شعبان - 1353ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌تصدير طبع كتاب المنار والأزهر

- ‌مباحث الربا والأحكام المالية

- ‌شهر رمضانموسم العبادة الروحية البدنية الاجتماعية

- ‌الرزيئة القومية الوطنيةبالشيخ محمد الجسر

- ‌غاية مصطفى كمال من مراحله

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌رمضان - 1353ه

- ‌التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي

- ‌المولد النبوي

- ‌ترجمة الشيخ محمد الجسر

- ‌كلمات في الوحي المحمدي

- ‌الحج في طوره المدني المترف

- ‌ذو القعدة - 1353ه

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروتفي الجن

- ‌محاضرتي في جمعية الشبان المسلمين

- ‌فتوى واقتراح على قارئي هذا الإنذار

- ‌قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث

- ‌كتاب الإمام ورأيه في تفسير المنار

- ‌ذو الحجة - 1353ه

- ‌أسئلة من بيروتبعد مقدمة في الإصلاح

- ‌خطبة الإمام الملك ابن السعود الموسميةفي وفود الحاج سنة 1353

- ‌الخطب الأكبر بانتهاك حرمات الله

- ‌محاريب المساجد ومذابح الكنائس

- ‌تأبين أحمد زكي باشا

- ‌ثورة الأزهر ومنتهى علاجها

- ‌كُريم أميركاني ينشر الوحي المحمدي في الشرقوكريم مصري نشره في الغرب

- ‌مقدمة التفسير المختصر المفيد

- ‌الكلمة الأخيرة لمشتركي المنار المطل

- ‌المحرم - 1354ه

- ‌أسئلة من صاحب الإمضاء ببيروت

- ‌الأزهر الأزهرالانقلاب الأكبر

- ‌تأثير تولية المراغي لرياسة الأزهر

- ‌خليج العقبة الحجازي وطمع الإنكليز فيه

- ‌الشقاق بين العرب المسلمينشر ما آل إليه في فلسطين

- ‌منار المجلد الخامس والثلاثين

الفصل: ‌رمضان - 1353ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة المجلد الرابع والثلاثين من المنار

بسم الله الرحمن الرحيم

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى:

1-

3) أحمده وأصلي وأسلم على محمد رسوله المصطفى، وخاتم أنبيائه المجتبى،

وعلى آله الطيبين، وخلفائه الراشدين، وسائر أصحابه الهادين المهديين، وأوليائه

الأئمة الوارثين، الذين استخلفهم في الأرض لإقامة أمر الدنيا والدين، ومن

اتبعهم إلى يوم الدين {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ

دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:

165) .

أما بعد فإنني أُذَكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الرابع والثلاثين بفاتحة المجلد

الذي قبله إذ عرضت عليهم فيها حال شعوب الإسلام كلها بعد حرب الأمم الكبرى،

ليجعلوا نُصْب أعينهم ما وقع على بعضها من الغبن والخسار، وما أصاب بعضها

من الربح والانتعاش، وما هي عرضة له من الأمرين تجاه دول الاستعمار، إذا

وقعت الواقعة، وجاءت الطامة الكبرى بالحرب الثانية المتوقعة، وما يجب عليهم

في دينهم ودنياهم، وما لكل منهما من الصلة والتأثير في الآخر؛ فإن أكثر

المسلمين عن هذا غافلون {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10)، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) .

لقد عرفوا من تلك الفاتحة أن وطأة دولتي الاستعمار الكبيرتين على الشعوب

العربية التي نصرتهما في الحرب، وجاهدت معهما بأموالها وأنفسها، كانت أشد

وطأة منها على الشعوب الأعجمية التي قاتلتهما والتي سالمتهما، وكذلك تكون في

الحرب الآتية المتوقعة؛ لأن هذه الدول مادية، قد فقدت جميع الفضائل الإنسانية.

وقد انقضى العام وحال الشعوب الإفريقية معهما على شر ما كانت عليه من

مصر إلى مراكش، ولهي في آسية أشر، وأدهى وأمر.

إن إنكلترة لا تزال ممعنة في إرهاق عرب فلسطين، وانتزاع وطنهم منهم

وإعطائه لليهود الصهيونيين، لتجدد لهؤلاء ملكًا في قلب البلاد العربية، حاجزًا بين

مصر وبين الحجاز وفلسطين، وإن فرنسة لا تزال جادة في جعل عرب سورية

مللاً متعادية في الدين، وشعوبًا متفرقة في الدنيا، ومصرة على إبقاء الأكثرين من

مسلميهم محصورين في سجون المدائن الأربع داخل البلاد لا منفذ لهم إلى البحر،

ولا متسع أمامهم في طلب الرزق، ولا حرية لهم في عمل ولا علم ولا حكم.

ولم تكن إنكلترة في وقت، ولا في مكان شرًّا من فرنسة وأظلم مما هي الآن

في فلسطين، فقد لانت فرنسة في إرهاقها للمغرب الأقصى بعض اللين، إلا قتالها

لقبائل السوس التي لم تخضع لها باسم حماية المخزن، ولا تزال (إنكلترة) بارزة

أمام الأمة العربية بروز الفاتح الظافر، المستعمر القاهر، تنازعها حقها القومي

والديني في جزيرتها المقدسة، بأساليب دسائسها وكيدها المعروفة، فهي قد ربحت

في العام المنقضي أن خدعت الإمام يحيى حميد الدين حتى غلبته على طبعه في شدة

الحذر من الأجانب، وفي صلابته في السياسة السلبية، فأمضى لها معاهدة أقرها

فيها على حمايتها للمقاطعات اليمانية التسع، إلى مدة جيل اجتماعي كامل هو

أربعون سنة كاملة كمدة تيه بني إسرائيل يمكنها أن تنشئ جيلاً جديدًا في هذه

المقاطعة بجميع وسائل التمكين، يكون بينه وبين سائر إخوانه في المقاطعة اليمانية

الأمامية بُعد الشرق والمغرب: عقيدة ورأيًا وذوقًا

إلخ.

هذا ما فعلته في الجنوب، وإنها لتفعل في الشمال ما هو أشد خطرًا على

الأمة العربية في دينها ودنياها: إنها لتمكن لنفسها النفوذ في منطقة شرق الأردن

بحيلة الانتداب، وفي العقبة الحجازية التي سُلبت من الحجاز بعد عقد صك

الانتداب، وهي حبل الوريد للجزيرة العربية، ومجرى دمها، ودهليز حياتها

الحربية والسياسية والمدنية، لكيلا تتجدد لهذه الأمة حياة مستقلة؛ فتعجز الدولة

البريطانية عن خنقها متى شاءت. وقد تواترت الروايات من فلسطين وشرق الأردن

أنها افترضت الشقاق بين ملك السعودية العربية، وإمام اليمن فعادت إلى ما كانت

بدأت به في أثناء فتنة ابن رفادة من تحصين خليج العقبة المنيع وامتلاك رقبة

أرضه؛ لأن صاحب الحجاز أيضًا لا يستطيع أن يعارضها في ذلك (وقد بينا هذا في

الجزء الماضي من المنار) .

إن إنكلترة لا تجهل أن عجز صاحب الحجاز عن معارضتها اليوم أو غدًا لا

يُسقط حق الحجاز، وحق الأمة الإسلامية، وحق الدين الإسلامي نفسه في هذا

الحصن الحصين من سياج الحرمين الشريفين، بل لو فرضنا أن ملك العربية أجاز

- لا سمح الله - هبة علي بن حسين هذا المُوَقِّع لأخيه عبد الله بن حسين إجازة

رسمية لما كانت إجازته لهذه الهبة إلا مثل بدء إنشائها أو أضعف منها، فالإنكليز

يعلمون أنها هبة باطلة في الشرع الإسلامي، وفي أصول القوانين الدولية، فهي لا

تفيدهم إلا فرصة عجز الحجاز المؤقت عن منع ما يعملون فيه، وأنه متى سنحت

الفرصة لأية حكومة حجازية إلى استعادته فلا يمكنها أن تضيعها، ولا سيما إذا قام

الشعب العربي بتأييد العالم الإسلامي لمطالبتها به، وإن ذلك لقريب واقع، ما له من

دافع.

هذه الجرأة من الدولة البريطانية على عداوة العرب والإسلام، ستكون من

أكبر أسباب زوال سلطانها من الشرق الأدنى والشرق الأوسط أيضًا، وإن خليج

العقبة لهو أكبر هذه الأسباب، كما بيناه في الجزء الماضي وغيره، وماذا تفعل

الأمة العربية والشعوب في طغيان هذه الدولة القوية؟

الأمة العربية في طور يقظة وسعي حثيث للوحدة والاستقلال، والشعوب

الإسلامية كلها على استعداد نفسي وعملي لتأييدها، وناهيك بمحافظتها على مهد

دينها، وتنفيذ وصية نبيها مصلح البشر الأعظم صلى الله عليه وسلم في مرض

موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وهذا التفرق بين البلاد العربية

والشعوب الإسلامية لا يدوم، وبشائر الفوز والفلاح تبتسم له بجميع الثغور في

جميع النواحي، فعلى الأمة الإنكليزية إن كان فيها بقية من تلك العقول الناضجة

والأخلاق الحكيمة الماضية، لم تسلبها منها الأفكار المادية كما قال حكيمها الأكبر

(هربرت سبنسر) أن تفكر في هذا الخطر عليها قبل وقوعه وتَعَذُّر تداركه.

ماذا تجدد في العام الماضي من وسائل النجاح للعرب وللإسلام، ويجب عليهم

أن يوجهوا إليه أفكارهم وأفعالهم في هذا العام؟

أما في جزيرة العرب فقد تبين أن التنازع بين إمامي الجنوب والشمال الذي

خشينا أن يكون هادمًا أو مضعفًا لما كان فيها من بقايا القوة القديمة، قد أثبت لنا

دلالته على قوة عصرية جديدة، وأن القتال الذي نشب بين جيوشهما سيكون فصدًا

يخرج به ما في عروق الأمة من الدم الفاسد الذي ولدته الجهالة والتقاليد المذهبية

والموضعية، التي فرقت الأمة وجعلت أقوامها شيعًا متعادية، فمن الجهل أن نحزن

لخروج هذا الدم وإن كرهنا سببه، وأن نبرم الصلح قبل خروجه فيكون صلحًا على

دخن، لا يعقبه إلا عدوان شر منه، ربما يتجدد في وقت يكون فيه الطامعون في

الأمة العربية أقدر على الاستفادة منه مما هم الآن، فلقد كان أخوف ما خفنا من العاقبة

أن يتذرع به الأجانب لإضعافنا والدخول فيما بيننا، فظهر أن هذا الوقت غير

مواتٍ لهم ولله الحمد، وأمنا هذا الخطر الآن فيجب أن نقطع عليه الطريق فيما بعده.

وظهر لنا من خلال هذه الفتنة أن القوة العربية السعودية حية صحيحة المزاج،

سليمة من الأمراض والآفات، وأنها على درجة من النظام العسكري والمدني فوق

ما كان يتصوره الأقارب والأجانب، وإن كانت لا تزال دون الواجب، كما ظهر

من قبل ذلك قدرة إمامها ومجددها على حفظ الأمن في الحجاز كنجد على أكمل

وجه، وعلى إيجاد أسباب الحضارة العصرية وأنواع المواصلات والصحة بأعظم

ما تخوله إياه الموارد المالية والرجال العاملين، فثبت بهذا وذاك أن الأمة العربية

مستعدة أتم الاستعداد لتجديد دولة إسلامية مدنية في مهد الإسلام ومنبت أرومة

العرب، فهل طلاب الوحدة العربية والتجديد الإسلامي الذي يعيد الحياة الإسلامية

المادية والمعنوية سيرتها الأولى من حيث أشرق نورها، وأتم الله ظهورها، أن

يؤيدوا هذا التجديد ويمدوه ويعلموا أنه مصداق قول رسول الله خاتم النبيين، الذي

فضلهم الله باتباعه ما صدقوا فيه على جميع العالمين، (إن الإسلام ليأرز إلى

جزيرة العرب، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأرويَّة من رأس الجبل) .

وأما القوة اليمانية العربية فإنها على قدم تأسيسها، وكثرة عَددَها وعُددها

وسعة ثروة إمامها وقائدها، وكثرة ما نوه به العرب والإفرنج من وصفها، قد ظهر

أنها ملتاثة بعلل من التربية الإدارية والسياسية في بلادها، واختلاف التقاليد

المذهبية بين شيعة الزيدية الحاكمة، والسنة الشافعية المحكومة فيها، وتجلت للأمة

العربية الحقيقة التي يجب أن تعرفها من هذا القسم المهم من قومها ووطنها؛ لتكون

على بصيرة من علاجه، وإعداده للاتحاد بغيره، بدلاً من وقوعه موقف العداء له

وتربص الدوائر به، كما عُني الدعاة المفسدون بتصويره، بل لم يستح بعضهم أن

ينشر في الصحف بعد هزيمة جيشه أن يذيع أن الإمام ينظم جيشًا لجبًا يقوده بنفسه

لفتح نجد واحتلال الرياض، كما أذاعوا في أول الفتنة أن سيفتح الحجاز! ! ولعلنا

ننشئ مقالاً خاصًا نبين فيه حقيقة حال الزيدية، وما ينبغي أن يكونوا عليه لإصلاح

شأنهم، وتأمينهم والأمن منهم، مع النظر في شروط إمامتهم، وحكم قتال البغاة

عندهم، وكنا منذ سنين قد كتبنا تقريرًا أرسلناه إلى مولانا الإمام الهمام مع وفد

خاص فيما يجب عليه من الإصلاح والإدارة، فشكر ذلك لنا، ولم ينفذ منه شيئًا.

هذا وإن من بشائر الاستعداد للوحدة العربية القريبة أن لاح لنا من جانب

حكومة العراق بارقة أخرى صغيرة في صورتها كبيرة في معناها، هي قصة

تمثيلية في بث الدعوة إلى الوحدة العربية، أطلق عليها اسم (مثلنا الأعلى) كانت

وضعت في آخر مدة المرحوم الملك فيصل وحضر تمثيلها أول مرة معجبًا به، ثم

طبعت منذ شهر أو شهرين في مطبعة الحكومة العراقية بإيعاز وزارة معارفها،

وتوجت بإهدائها إلى (روح فيصل بن الحسين) ونشرت في هذا الشهر (المحرم

سنة 1353 هـ 1934 م) فكانت بهذا وذاك دعاية رسمية أو شبه رسمية للوحدة

العربية، عرفنا بها ما كنا نجهل من رأي هذه الحكومة في الوحدة من بعد فيصل

رحمه الله تعالى.

فهذه خلاصة ما تجدد في سبيل الوحدة العربية وحياتها الجديدة في العام

الماضي نستقبله في هذا العام راجين مستبشرين.

وقد حدث فيه من الأحداث المؤسفة أن كلاًّ من دولتي العراق والأفغان قد

خسرت ملكها المحبوب المحنك، بيد أنه حل محل كل منه نجله الشاب المثقف،

فسارت الدولتان معهما سيرتها الأولى مع والديهما بحنكة رجالهما واستقرار النظام

فيهما.

ومن الأنباء السارة أن حكومة الجمهورية اللادينية التركية قد رجعها الاختبار

عن بعض الأعمال التي خالفت بها شريعة الإسلام وهدايته، وأن رئيسها مصطفى

كمال حضر صلاة العيد مع رجال دولته الرسميين في المسجد، وإنها لفاتحة خير

تدل على ما يرجوه كثير من عقلاء الترك وغيرهم من رجوع هذه الحكومة إلى كل

ما هو قطعي من هداية الإسلام.

وحدث في أحد الشعوب الإسلامية التي كانت مستعبدة للأجنبي أن استقلت في

إثر ثورة حامية الوطيس، ألا وهو شعب تركستان الصينية، وإنها لقوة إسلامية

حربية، تدل على أن المسلمين لم يفقدوا هذه المزية القديمة، وأنهم لا ينقصهم في

هذا العصر إلا السلك الجامع ينتظمون فيه كما قال حكيمهم السيد جمال الدين قدس

الله روحه، ولن تعيده لهم إلا هداية القرآن، ولتأطرنهم عليه موقظات الزمان أطرًا،

بدعاية المصلحين المجددين، وبالرغم من أنوف الملحدين والجامدين.

رب رجل مستشرق من رجال الدول القاهرة لألوف الأنوف من المسلمين،

ورب رجل شرقي متفرنج يائس من حياة الشرق والشرقيين، يقرآن هذه الجوائب

التي تبتسم للعرب والأعاجم من المسلمين، وتبشرهم بوحدتهم وجامعتهم فيضحكان

من غرور كاتبها وتغريره بقومه وأهل ملته (التغرير والتغرَّة بالشخص أو الشيء

تعريضه للهلاك) بزعمهما أنه يخيل إليهم إمكان تأسيس الوحدة العربية، والجامعة

الملية بالرغم من الدولة البريطانية التي تقطع جميع سبل الحياة في وجوههم بل

بالرغم من أنوف الدول الثلاث الكبرى المتعاونة على استعبادهم مستعينات بجميع

وسائل القوة الحربية والعلمية والمدنية والسياسية التي عندهن، وجميع وسائل

الضعف الموروثة التي ما زالت تفرق بين المسلمين، من المذاهب والأوطان

والزعامات والآراء الإلحادية، والشهوات الحيوانية، فلئن قضى ابن السعود السني

الحنبلي على قوة ابن حميد الدين الشيعي الزيدي، فليزيدن قضاؤه هذا سعير

الشقاق بين السنة والشيعة ضرامًا، ولتكونن رواية (المثل الأعلى) للوحدة العربية

في العراق مهزلة من المهازل المضحكة لأهل الآفاق، ولتجدن من حزب الشرفاء

آل الرسول صلى الله عليه وسلم من يزداد إيمانًا بفضل السيطرة الإنكليزية على

هذه الوحدة العربية الإسلامية، ويستعين بالوطن اليهودي، على الوطن السعودي

فلا تكون هذه الوثبة السعودية التي تجددت بها آمال العرب والمسلمين في نجد

والحجاز، وخفقت لها القلوب وشخصت إليها الأبصار في مصر والشام، إلا حافزة

للهمم، ومغرية للدول، وصنائعهم من العرب باليد لها، والإسراع إلى القضاء عليها.

مهلاً أيها الإفرنجي المستشرق، والشرقي المتفرنج، ما أنا بجاهل لقوى

الدول المعادية للعرب وللإسلام، وما أنا بمغرور بما نوَّهت به من المبشرات

الجديدة لقومي وأمتي، ولا بغافل عن مساويهما الراسخة بطول العمر فيهما؛

ولكنني أنظر إلى الشرق والغرب نظرًا جديدًا، فأرى أن الشرق كان مريضًا،

فدخل في طور الشفاء فأرجو له سرعة الإبلال، وإنه ضعيف نفخت فيه روح

القوة الصورية والمعنوية، فأتمنى بلوغها أوج الكمال، وأرى أن الغرب كان

صحيحًا سليم المزاج فدبت في بنيته سموم الانحلال، وبلغت قواه ما قُدِّر لها من

وسائل الكمال، ثم عرض لها من ضعف القوى الروحية والهرم ما ينذرها الزوال

من حيث تتجدد قوى الشرق المادية والروحية، وتدخل في سن الشباب.

أما القوة المادية من حربية ومالية فقد نبغت في الشرق الأقصى دولة سبقت

بها دول الغرب كلها، ووقفت في وجهها وقفة المضارع المنازع لها، فوجل منه

قديمها وجديدها، وصفعت عصبة أممهم المنافقة صفعة على وجهها أضحكت منها

أمم الأرض كلها، وإنما ينقص هذه الأمة (اليابان) أن تعزز قوتها المادية التامة

من جانبيها الحربي والمالي بالقوة المعنوية من طرفيها السياسي والروحي، في هذا

العهد الذي فقدتهما فيه أوربة بشدة تعاديها، وتربص دوائر السوء بينها، وانفصام

عرى الدين والفضيلة التي كانت تستمسك بها، وإن اليابان لفاعلةٌ ذلك إن شاء الله

تعالى.

وأما القوة المعنوية فحسبنا من آيات تجددها في الشرق شعور شعوبه كلها

بالآلام وما يزيلها، وبالآمال وما يقيلها، ألا وإن في الشرق قوة هي فوق جميع

قوى العالم الجامعة لكل ما تحيا به الأمم الحياة المعنوية والمادية من جميع جوانبهما

وأرجائهما، ألا وإنها روح الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين من السماء،

فألقاها إلى محمد الأمي في غار حراء، فأحيا به الأمة العربية الأمية، فأحيت به

جميع الأمم الأعجمية، وفتحت به نصف العالم في النصف الأول من القرن الأول

من ظهوره، ثم شمل نوره العالم كله،، حتى حجبه المسلمون عن أنفسهم وعن

سائر الناس، ووضعوا مصباحه المضيء بنور الله تحت المكيال - كما قال المسيح

عليه السلام ولكن قد سخر الله المصلحين في هذا العهد لكشف المكيال عنه،

وتوجيه أبصار العقلاء إلى اقتباس النور منه، وسيرى جميع المسلمين بأشعته أن

الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا إخوانًا متعاونين على نشر هذا الدين، وأن أئمة أهل

البيت النبوي كزيد بن علي وجعفر بن محمد بن علي عليهم السلام، وأئمة السنة

من حفاظ الحديث ومستنبطي الفقه الأعلام، ما كانوا إلا إخوانًا متحابين، وأن

المفرقين بين المسلمين لأجل الملك، والمتفرقين في الدين تعصبًا لبعضهم على

بعض، هم أعداؤهم وأعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب

عليهم أن يقطعوا على دعاة التعصب المذهبي ما يحملهم عليه من المنافع، ويتفقوا

على ما أجمعت عليه الأمة، ويعذر بعضهم بعضًا فيما اختلف فيه الأئمة.

ألا وإن هذا القرآن شمس الله المشرقة لهداية جميع الأمم، ومأدبته المنصوبة

لتغذية جميع البشر، وإن بعض علماء الإفرنج المستقلين في العقل والرأي ليقولون

في هدايته ما يدعون به قومهم إليه، وإن دولة اليابان الشرقية كانت آخر من فطن

له، وستكون العاقبة في سيادة الأرض لمن سبق إلى الاهتداء به، كما بيَّنا ذلك

مفصلاً بالبرهان في كتاب (الوحي المحمدي) وإنا بهذا لموقنون، وقد سبقنا إليه

حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني وشيخنا الأستاذ الإمام، وصرح به برناردشو

الكاتب الإنكليزي وغيره من الأعلام، وقد تطلع الشمس من مغربها، وإنما العاقبة

للإسلام {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ

اهْتَدَى} (طه: 135)، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى} (طه: 47) .

_________

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتمان القرآن عن أهل الكتاب

وسورة يوسف عن النساء

(س1 - 3) من صاحب جريدة الوطنية بمصر نُشر في العدد 427 منها

وتاريخه 28 ذي الحجة سنة 1352 هـ، و12 أبريل سنة 1934 م ووجه إلى

علماء الإسلام كافة، وقد أرسله صاحبه مع كتاب بخطه يخصني به بالسؤال، وقد

ذكر في مقدمته أن أستاذًا من الشيوخ المعلمين في المدارس الأميرية، وخطباء

بعض الجمعيات الإسلامية، قال له (وقد سأله عما بلغه من إنكاره لقراءة القرآن

لتبليغه بالمذياع - أي: آلة الراديو - ما يأتي بنص الجريدة وهو:

(إن في القرآن آيات ضد أهل الكتاب كان لها وقت نزولها ما يبررها، أما

وقد أصبحوا بعد ذلك ذوي ذمتنا فلا يجوز أن يسمعوا تلك الآيات) .

ثم تجاوز هذا وقال: إنني أمقت قراءة سورة يوسف في البيوت حتى لا

تسمع النساء حديث يوسف مع زليخة فيفهمنها بما يثير الريبة في عفاف النبي

الكريم سيدنا يوسف (وزاد على هذا قوله) إنني لا أسمح أن يُقرأ القرآن في حفل

عام من رجل لا يفهم معانيه

إلخ.

(فأنكرت عليه رأيه في هذا كله؛ ولكني جئت أستفتي علماء الدين في رأيه

هذا فماذا يقولون؟) اهـ. بحروفه بدون مقدمته، وذيله الذي رد به صاحب

الجريدة على الأستاذ.

(جواب المنار)

إن هذا الذي عُزي إلى هذا الأستاذ رأي باطل، لا يوافقه عليه مسلم عالم ولا

جاهل، بل هو بدع من الرأي الأفين، لم يبلغنا عن أحد من الأولين ولا من

الآخرين، وما علل به إنكار إسماع أهل الكتاب للآيات التي سماها ضدهم،

وإسماع النساء سورة يوسف باطل مثله، وكل تعليل يراد به الاحتجاج على كتمان

شيء من القرآن فهو باطل، فالقرآن كلام الله الحق، وحجته الكبرى على جميع

الخلق، وكل ما فيه هداية صالحة لكل زمان وكل مكان، وتبليغه واجب، وكتمانه

فسق، واستحلاله كفر {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا

بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا

وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160)

فعسى أن يكون ما عُزي إلى الأستاذ الفاضل قد نقل على غير وجهه الذي

ذكره السائل في جريدته، وبيَّنه في كتابه، وعسى أن يتوب ويصلح ويبيِّن إن كان

قد نقل بنصه أو بمعناه، وقد كتمنا اسمه تكريمًا له، وانتظارًا لما نرجو من تأويل

أو تفصيل له فيه مخرج؛ ولكن في الكلام ثلاث شبهات تعلق بأذهان القراء، فيجب

أن نكشف عنها الحجاب على كل حال؛ لأنها طُبعت وانتشرت بين الناس:

(1)

منع قراءة القرآن في المحافل بشرطه:

أما منع من لا يفهم معانيه من قراءته في المحافل فهو باطل محرم، وهو

يقتضي منع أكثر المسلمين الحفاظ له وغيرهم من تلاوته فيها، وتخصيص

تجويزها بالعلماء الذين يفهمون معانيه وقليل ما هم، ولا ندري ما الفرق بين

المحافل وغيرها إذا كانت علة المنع عدم الفهم للمعاني، فإن كانت العلة إسماعه

للجمهور كتعليل منعه لقراءته في المذياع فما الفرق بين من يفهم المعاني، ومن لا

يفهمها؟

(2)

ما نزل في شأن أهل الكتاب:

وأما ما نزل في شأن أهل الكتاب فكله حق وعدل محكم يجب إظهاره في كل

وقت، حتى ما نزل في الأعداء المحاربين منهم، دع ما هو خاص بالذميين

والمعاهدين، وقد قال تعالى فيهم:{لَيْسُوا سَوَاءً} (آل عمران: 113) وأثنى

على بعضهم بالحق وذم أكثرهم بحق، ولا يزال فيهم من هم أشد عداوة للمسلمين

من سلفهم في عصر التنزيل وما يليه، وكان أهل الذمة في الصدر الأول أشد

محافظة على شروطها من أهل زماننا، وقد قال تعالى فينا وفيهم: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ

تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119)

إلخ بل

قال في المشركين الذين كانوا أشد عداوة للإسلام من أهل الكتاب، ولا سيما

النصارى الذي كان فيهم من هم أقرب مودة للذين آمنوا {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ

لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ

يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)

إلخ، فما الذي يريد هذا الأستاذ كتمانه من

القرآن أن يسمعه أو يقرأه أهل الكتاب وغيرهم؟ وهو يعلم ما يقولون ويكتبون من

الطعن بالكذب والبهتان على الله ورسوله وكتابه ودينه، وما يكيدون لرد أطفال

المسلمين عنه إلى دينهم، وإن من يسميهم الذميين كالمعاهدين في هذا، ولا يراعي

شروط الذمة والعهد أحد منهم، فهل يجد في سفهاء قومه من لا يفضل أعلم قسوسهم

وكتابهم في التنزه عن مثل هذا، أم يريد أن يقول: إنه يشرع لنا نسخ بعض القرآن

حتى في التلاوة لإرضائهم وهو يعلم ما قال الله تعالى في الغاية التي لا يرضيهم

دونها شيء؟ والله أعلم منه بهم والقرآن لا يُنسخ بالرأي، ولا يصح إطلاق

القول بكتمانه لمصلحة راجحة فكيف يكتم بمثل هذا الوهم؟ على أن هذا الكتمان

متعذر في هذا الزمان، ولله الحمد.

(3)

سورة يوسف وسماع النساء لها:

وأما سورة يوسف عليه السلام، فهي منقبة عظيمة له، وآيات بينة في إثبات

عصمته، وأفضل مثل عملي يقتدى به في العفة والصيانة يجب أن يهذب به النساء

والرجال، فكل منهما يعلم بشعوره الطبيعي قوة سلطان الشهوة الجنسية على نفسه،

ويسمع ويقرأ من أخبار الناس ولا سيما أهل هذا العصر في مثل هذا المصر ما في

طغيانها على غيره، من الفضائح والخيانات والجنايات وتخريب للبيوت، وإضاعة

المال والعيال والدماء والشرف، أفلا يكون أفضل مثل للعفة والصيانة، وأحسن

أسوة في الإيمان والأمانة، أن يتلى على النساء المؤمنات والرجال المؤمنين،

وعلى غيرهم من الملحدين، قصة شاب كان أجمل الرجال صورة، وأكملهم بنية،

يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان، هي سيدة له وهو عبد لها، فيحملها الافتتان

بجماله وكماله على أن تذل له نفسها، وتخون بعلها، وتدوس شرفها، وتراوده عن

نفسه، والمعهود في أدنى النساء وأسفلهن تربية ومنزلة أن يكن مطلوبات لا طالبات،

فيسمعها من حكمته، ويريها من كماله وعصمته، ما هو أفضل قدوة في الإيمان

بالله والاعتصام به، وفي حفظ أمانة السيد الذي أحسن مثواه وائتمنه على عرضه

وشرفه، فيقول لها:{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23) فتشعر بالذل والمهانة، والتفريط بالشرف والصيانة، وتحقير مقام

السيادة والكرامة، فتهم بضربه أو قتله، ويهم هو بالدفاع عن نفسه، ويكاد يبطش

بها لولا أن رأى برهان ربه، وعصمه من فحشاء الشهوة الطبيعية المضعفة للإرادة،

ومن سوء ثورة القوة الغضبية التي تذهل صاحبها عن عاقبة الجناية، ففر منها

وهو الشجاع فرار الجبان، فكان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا

أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) وهو المتبادر من التعبير اللغوي في هم

الشخص، وبيَّناه بالشواهد في الرد على من أنكره، وقلنا: إنه المعهود بين البشر

في مثل هذه المخالفة المذلة ولما نقرؤه في القصص والصحف في هذا العصر،

والمناسب لقوله تعالى بعده: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا

المُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) .

وإنني ما اخترت هذا المعنى لتبرئته عليه السلام مما ينافي العصمة؛ فإن الهم

من حديث النفس الذي لا يؤاخذ الله الناس به، وإن الهم بإيقاع السوء كالهم

بالمواقعة كلاهما هم بمعصية، إلا أنه في الأول دفاع عن النفس، وقد عصمه الله

منه، وإن عصيان النفس فيما اشتدت الداعية الجنسية له أدل على العصمة، وأحق

بحسن الأسوة.

ولما انهتك - والعياذ بالله - الستر، وعرف ذلك الإصر، خاض نساء

المدينة في أمرها، ولجوا في عذلها، لعلها تفضي إليهن بعذرها، فتريهن طلعة هذا

المملوك الذي استعبد مالكه، وسلب منه عقله وكرامته وشرفه، ولم يجزه على هذا

كله بنظرة عطف، ولا بلمسة كف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ

لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ

أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي

فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ

الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 31-32) فلما هددته بالسجن، وهو يعلم أن بيدها الأمر

والنهي {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ

أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ} (يوسف: 33) أي: أكن من سفهاء الأحلام،

الذين يتبعون شهواتهم الحيوانية كالأنعام، ولا يستطاع الهرب من كيد النساء وهو

عظيم، ولا ما يغري به وهو دونه من كيد الشيطان الرجيم، إلا بالاستعاذة بالله

السميع العليم، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 200) وكل من استعاذ به تعالى مؤمنًا مخلصًا أعاذه، فكيف إذا كان

من رسله لهداية عباده، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ

العَلِيمُ} (يوسف: 34)

إلخ.

وهكذا امتحن الله يوسف، وفتنه بجماله فتونًا، فلبث في السجن سبع سنين

وخرج منها كما يخرج الذهب من بوتقة الصائغ إبريزًا خالصًا، وجزاه الله في

الدنيا قبل الآخرة على صبره: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ

ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ *

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} (يوسف: 50-51) .

طلبه ملك مصر ليستعين بعلمه ورأيه على الخروج من المخمصة التي أنذرته

إياها رؤياه، وكان يظن أنه مسجون بجريمة؛ ولكنه احتاج إليه، فاشترط لإجابته

أن يسأل النسوة اللائي تواطأن مع مولاته على الكيد له ليعيش في وسطهن عيشة

اللهو والخلاعة: هل آنسن منه صبوة إليهن، فجرأتهن على ما كان من مراودتهن؟

فاستعذن بالله أن يلمزنه أو يغمزنه دفاعًا عن أنفسهن، وشهدن بأنهن ما علمن عليه

من سوء، أي: أدنى شيء وأقل نقص يسوءه، ولم يبق إلا شهادة مولاته امرأة

العزيز، فبم شهدت؟ {قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن

نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) أي: قالت: (الآن حصحص الحق)

أي: ظهر أجرد أمرد، لا تستره شبهة ولا تهمة كما يحص ويسقط الشعر أو

ريش الطائر، وثبت واستقر من قولهم: حصحص البعير؛ إذا ألقى مبازكه للإناخة،

فالكلمة بمعنييها أبلغ ما يعبر به عن المعنى المراد في هذا المقام، وإنما كانت

هذه الحصحصة بما ظهر من وقائع القصة الثانية، وهي فرار يوسف منها (أولاً) ،

ومن كيد جماعة النسوة (ثانيًا) ، ومن إيثاره عيشة السجن البائسة في خشونتها

ومهانتها على عيشة القصور العالية في نعمتها وزينتها (ثالثًا) ، ومن شهادة النسوة

اللاتي تصبينه (رابعًا) ، وقد علم من ذلك كله أن يوسف كان فوق أفق البشر في

حسنه وجماله، ولا يقل عن الملائكة الكرام في عصمته وكماله وجلاله فكأنها تقول:

{أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} (يوسف: 51) مغلوبة على نفسي، فاقدة لعقلي وشرفي

وحسي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن

نَّفْسِي} (يوسف: 26) .

ثم ذكر يوسف عليه السلام سبب امتناعه عن الخروج من السجن إلى أن تبين

لملك مصر وملئه براءته مما اتهم به، فقال: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ

اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ

رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 52-53) أي: ذلك الذي اشترطته للخروج

من السجن ليعلم عزيز مصر أنني لم أخنه في حال الغيبة عنه؛ إذ غلَّقت امرأته

الأبواب، وقالت ما قالت، وقلت ما قلت {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ} (يوسف: 52) فيما يكيدون به للأمناء الصادقين، بل يجعل العاقبة للمتقين، وما

أبرئ نفسي مما هممت به من دفع صيال السيدة عليّ بمثله، لولا أن رأيت ما

صرفني عنه من عصمة ربي، ولا من الميل الطبيعي إلى الجمال، وأمرها

الفطري بالاستمتاع، إلا ما رحم ربي من الأنفس؛ فصرف عنها السوء والفحشاء

بهداية الإيمان، إن ربي غفور رحيم، فأسأله أن يغفر لي ما لا أملكه من نزغات

النفس، وغرائز الطبع.

هذه خلاصة مختصرة من قصة يوسف عليه السلام، هي ما يتبادر إلى

الأفهام من بلاغة القرآن، دون ما شيبت من دسائس الروايات الإسرائيلية المخالفة

لذوق اللغة، ومقام الأنبياء عليهم السلام.

فهل هي إلا أفضل هداية من الله تعالى تمثل للنساء والرجال أكمل المُثل العليا

لفضيلة العفة والصيانة التي لا تتم لبشر إلا بصدق الإيمان بالله تعالى ومراقبته في

الخلوات والجلوات، فليوازن قارئها بينها وبين ما تقرؤه النساء في القصص

الغرامية، وفي صحف الأخبار اليومية، من الحوادث المناسبة لموضوعها، ومما

يجب تدبره وتذكره من العبرة بها، ومنها أن خلوة الرجل بالمرأة مهما تكن صفتهما

من أقوى ذرائع الفتنة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها في عدة وصايا

حتى من أقارب الزوجين فقد قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من

الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت) رواه الشيخان في الصحيحين،

ولنمسك عنان القلم فقد جمح في الموضوع بما زاد على عزمنا عليه عند البدء في

الجواب، والحمد لملهم الصواب، ومؤتي الحكمة وفصل الخطاب.

_________

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جزيرة العرب والوحدة العربية

وسعينا لعقد الاتفاق بين الإمامين، وفقهما الله تعالى

قد اضطررنا في السنة الماضية أن نصرح ببعض ما كنا نخفيه تارة، ونشير

إليه تارة، أو نجمجم به آونة بعد آونة، من أنباء سعينا إلى وحدة الأمة العربية

وجعل جزيرتها مركز القوة وأساس الدولة، وما يليها من الأرض المقدسة والمباركة

موطن الحضارة ومورد الثروة، وهو ما بدأت بوضع النظام له، وتأسيس جمعية

(الجامعة العربية) التي كانت خاصة بالأمراء والزعماء، وكنت المتولي لجميع

الأعمال فيها، ومكاتبة أمراء الجزيرة وزعماء الأمصار في سورية والعراق بإمضاء

(الناموس) ، ويرى المطلعون على مذكرات جمال باشا سفاح الترك كتابًا منها وجده

في أوراق أحد شهداء الظلم بسيفه محمد المحمصاني (رحمه الله تعالى) . وأما إمام

اليمن وملك العربية السعودية فهما أعلم الناس بهذه الجمعية وناموسها منذ 23 سنة

كاملة، وقد نشرنا يمينها في ترجمة الملك فيصل رحمه الله في المجلد 33 من

المنار.

كان أساس النظام الأول لهذه الجامعة عقد معاهدة حلفية بين أمراء الجزيرة

كما بيناه في العام الماضي، وقد انحصر هذا الحلف بعد استيلاء ابن السعود على

الحجاز في جلالته وجلالة إمام اليمن المستقلين، وأخرنا ضم سلطنة مسقط،

وعمان إليهما، لما كان بين سلطانها وبين إمام الإباضية هنالك من الخلاف، الذي

سعيت إلى تلافيه، واستقلال البلاد بما عرضته على السلطان فيصل بن تركي رحمه

الله في مسقط عند زيارتي له فيها أثناء منصرفي من الهند سنة 1330 هـ

(الموافق سنة 1912 م) فتعذر عليه تنفيذه، ثم وقع بعد ذلك بسنة واحدة من الحرب

الأهلية ما توقعته بالفكر والفراسة، وأنذرت ذلك السلطان وقوعه، كما يعلم ذلك

شقيقه السيد نادر وبطانته في ذلك الوقت.

وكان الملك فيصل الهاشمي رحمه الله آخر من بلغته إياه وأقنعته بتوقفه على

الاتفاق مع ابن السعود صاحب نجد، فوافقني على ذلك كما تقدم في ترجمته، وستأتي

تتمتها.

ولقد كان الإمام يحيى أول من كاتبته وعرضت عليه مشروع الجامعة العربية

وكان ذلك قبل تأسيس جمعيتها التي أشرت إليها بالفعل، ثم تكررت الكتابة إليه

بعدها، ومن بعده كتبت إلى السيد محمد الإدريسي في عسير وإلى الأمير فالسلطان

عبد العزيز السعودي إمام نجد بالأمس، وملك العربية اليوم، وقد كان الإمام يحيى

أول من أجابني مستحسنًا ما اقترحت معتذرًا عن تنفيذه بالشكوى من السيد الادريسي

الذي عبر عنه بالجار بالجنب، ولمزه بالغدر ونقض العهد، ورفض دعوة الود،

وبأنه (حالف أعداء الله الطاليان) - بهذا اللفظ - ولكنه هو عاد بعده فحالفهم محالفة

رسمية مكتوبة، والإدريسي لم يفعل هذا، فأدع الكلام في التاريخ الماضي في مسألة

الجزيرة والوحدة العربية بالحلف وغيره، وأقول كلمة في سعيي للاتفاق بين إماميها

المستقلين بعد استيلاء ابن السعود على الحجاز.

سعينا الجديد للاتفاق بين الإمامين:

لما تم للإمام عبد العزيز الاستيلاء على الحجاز أظهر رغبته في عقد مؤتمر

إسلامي في مكة المكرمة في أثناء موسم الحج، وأرسل إليّ مكتوباته إلى ملوك

المسلمين وأمرائهم وكبار زعمائهم في الدعوة، لأرسلها من مصر، وكان منهم إمام

اليمن بالطبع، ففعلت إلا جلالة ملك مصر فأرسلها هو إليه مباشرة، وظهرت في

إثر ذلك بوادر الجفاء بينه وبين دولة مصر، فبادرت إلى السفر إلى مكة في شوال

لأجل السعي لدى الملك عبد العزيز في تلافي هذا الجفاء، وتمهيد سبيل المودة

والإخاء، لما لي من لسان الصدق والإخلاص الإسلامي في اعتقاد جلالته، وكان

من ذلك ما كان، وبسطته بوقته في المنار كما وقع، لا كما يحرفه الآن بعض

الكتاب.

ولما انتهى المؤتمر الإسلامي بعد أداء المناسك كلها رغب إليّ الملك أن أرجئ

سفري إلى مصر مدة للمحادثة معه فيما أراه من وسائل الإصلاح، فأجبت بل

امتثلت، وكان أهم ما اقترحته مرارًا، وأوسعته إلحاحًا وإلحافًا وجوب عقد المعاهدة

الحلفية بينه، وبين الإمام يحيى، وهو ما كان تكرر مني اقتراحه عليهما، فكان

يظهر لي قبول الاستحسان بشيء من الفتور وقلة الاهتمام، أتأوله بضيق الوقت

وسعة النطاق في موضوعات الكلام، حتى إذا ما سنحت فرصة سمر لنا على سطح

قصره - حيث كنا نسهر - عدت إلى إلحاحي لقرب موعد سفري؛ فأجابني بما هو

ملخص ما تقدم من الكلام متفرقًا.

وقال: إنني والله وبالله وتالله لا أنوي التعدي على بلاد الإمام يحيى، وإنني

أرغب أصدق الرغبة في مودته ومحالفته، وإذا قَبِل اليوم أن نعقد محالفة هجومية

دفاعية بيننا فلا أُرجئ عقدها إلى غد. وأذن لي أن أبلغ وكيله في المؤتمر السيد

محمد عبد القادر هذا عنه، وقال إنه مستعد للتصريح له إذا اقتضت الحال.

ثم قال ما فحواه: وأما إذا كنت تخاف أن يعتدي الإمام يحيى علينا فكن

مطمئنًا بأن وبال ذلك يكون عليه، فنحن بفضل الله وعنايته أقوى منه. بل قال إنه

يستطيع أن يطارده في بلاده من جهتين أو ثلاث، وإنه إن شاء وجد من أهل البلاد

التابعة له من يخرجون معه عليه؛ لأن أكثرهم ساخطون لا راضون منه.

وإنني قد بلغت الشق الأول من هذا الحديث لوكيل الإمام السيد محمد عبد

القادر الذي كان عامله على الحُديدة، وكتبت إلى الإمام به كتابًا أعطيته لوكيله هذا

بيده.

ثم تركت ذلك إلى الإمامين حتى إذا ما خاب الوفد الأخير الذي أرسله الملك

إلى صنعاء في العام الماضي، وتجدد الشقاق، ورأيت من خلل الرماد وميض نار

ما خشيت أن يكون له ضرام، عدت إلى السعي للاتفاق من أوله، بما يعلم تفصيله

من المكتوبات الآتية (ومنها تعلم قيمة ما يدعيه محبو الشهرة من السبق إليه بإرسال

البرقيات، ومحاولة تأليف الوفد بعد فوات الوقت) .

أقتصر من هذه المكتوبات على أكثر ما دار بيني وبين جلالة الإمام يحيى

الذي كنت أشك في إقناعه؛ لما أعلم من طباعه وسياسته السلبية، ومن كون الخطر

عليه من الحرب أقوى؛ ولأن المكاتبة بيني وبين الملك عبد العزيز فيها من الحرية

والصراحة التامة في جميع المسائل ما لا يجوز نشره، إلا أن يكون بإذنه بعد العلم

بالمصلحة فيه؛ ولأنني أعتقد أن إقناعه سهل إذا قنع الآخر بالوفاق، لتصريحه لي

بعد إعلامي بتجهيز الجيوش وزحفها في شهر رمضان؛ بأنه لا يبغي بذلك إلا إقناع

يحيى بقوته، وإنها الوسيلة الأخيرة لإقناعه بعقد المحالفة إذا كان مثله يكره الحرب

كما يظن به، حتى إذا ما يئس من إجابته، وأعلن له الحرب بقطع مفاوضة أبها،

علمت أن قد بطل قول الألسنة والأقلام، وأعطى القول الفصل للحسام، فلن يقبل

الملك لأحد قولاً إلا من بعد حكمه، هذا هو الرأي كما بيَّناه في الجزء الماضي،

وسيعلم الإمام وأنصاره بما يضر ولا ينفع من الكلام، من نصح له عن إخلاص

وعلم، ومن غشه بالدهان وقول الإثم.

***

المكتوبات بين صاحب المنار وجلالة الإمام يحيى

في

التنازع الأخير بينه وبين جلالة الملك

عبد العزيز آل سعود

المكتوب الأول في 24 ربيع الأول سنة 1352

(بسم الله الرحمن الرحيم)

من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سليل

الأئمة الأعلام، عليهم السلام.

السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد

أزعجنا وأمضنا نبأ مرضكم، وما كدنا نبتهج بنبأ نقاهتكم، إلا وتلاه النبأ الصادع

بوقوع الشقاق بين حكومتكم والحكومة السعودية، المنذر بقرب وقوع الحرب،

وبخيبة الأمل الذي كان ينتظره كان عربي مخلص لأمته وكل مسلم لملته،

وحريص على سلامة مهد دينه، من عقد الحلف بينكم وبين الدولة العربية السعودية

بمساعي الوفد السعودي الذي كان في رحابكم منذ أشهر؛ إذ تجاوبت الأنباء بأن

الوفد كان في صنعاء كالمحجور عليه، وأنكم أذنتم له بالرجوع أدراجه بعد

إلحاح ملكه بالطلب؛ فانقلب خائبًا مخذولاً، إلى ما أنتم أعلم به، ولا يعنينا تفصيل

جزئياته، ولا تحقيق مقدماته، وإنما تعنينا النتيجة، وهي تسوء كل عربي وكل

مسلم، إلا الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولو علمتم بسوء تأثيرها في

مصر، وسورية، وفلسطين لهالكم، ولتجافى بجنبكم عن مضجعكم، ولعلمتم أنه

لولا عذر الناس لسيادتكم بمرضكم لخسرتم بهذه الحادثة ما لكم في القلوب من السيرة

الحميدة في العقل والرأي والتقوى، والحرص على حفظ سلطان الإسلام وحكمه،

واستقلال الجزيرة العربية، وسد ذرائع تسرب النفوذ الأجنبي إليها، وخطره على

بلادكم أشد، ولا شك أن حرم الله تعالى ورسوله عليكم أعز، ولكن الأمل فيكم لم

ينقطع، ولن ينقطع إن شاء الله تعالى، وقد تضاعف الإعجاب بأخيكم الملك

السعودي: دينه وعقله وحكمته؛ إذ علموا بما أبرق إليكم في الخطب المدلهم.

أيها الإمام الحكيم، التقي الحليم: لقد علم الرأي العام الإسلامي، ولا سيما

العربي، أنه لو فُجعت الأمة بكم في هذا المرض، لقضى ولي عهدكم الشاب على

جزيرة العرب، فهو - أي: الرأي العام - يرجو أن تبادروا قبل كل عمل إلى

الاتفاق مع أخيكم الملك الحكيم، على التحالف والتعاون على حفظ هذه الجزيرة

المقدسة من دسائس الأجانب والمفسدين، وعلى عمران المملكتين اللتين وكل الله

أمرهما إليكما، وتعزيز قوتهما في حياتكما الشريفة العزيزة قبل أن يؤول أمرها إلى

أنجالكما، الذين لا تضمن أمتكما وملتكما أن يكون لهما من الحكمة والخبرة والروية

مثل ما آتاكما الله تعالى، إلا أن يتربوا في كنفكما، وظل ما تضعان من النظام، وما

تنفذانه منه لإعزاز الإسلام بعز العرب في جزيرتهم ومنبت أرومتهم ومهد دينهم

و (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) كما قال الصادق المصدوق عليه وعلى آله السلام،

ولا ذل للعرب إلا إذا ذلوا في جزيرتهم، وحصن دينهم، ومأرزه الوحيد

في هذا العهد - عهد تداعي الأمم عليهم - كما نطقت به الأحاديث النبوية الصحيحة

الصريحة وسيادتكم أعلم بها.

أيها الإمام العليم، الحكيم الحليم

مهما يكن عليه أمر الحدود بين اليمن السعيدة والمملكة السعودية من حق

سياسي أو جغرافي، فلا قيمة له تجاه الاتفاق والتحالف بين المملكتين، فكل منهما

واسع الأطراف، قابل لأضعاف ما هو عليه من العمران، فلا يعذر أحد منكما

بتعريضه للخراب؛ لأجل توسيع حدوده بحق أو باطل، وأما إذا اتفقتما وتحالفتما

تحالفًا صريحًا، وعاهدتم الله تعالى والأمة على الإخلاص في الولاء والتعاون، فإن

كلاًّ منكما يأمن على حدوده، ويخلو له الجو لعمران بلاده، وجعل استعداده الحربي

موجهًا إلى أعداء الله وأعداء قومه، وذلك ربح لا يعلوه ربح، وهو ما يطالبكم به

الدين وأهله أجمعون.

أيها الإمام: إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول الله، وخاتم النبيين،

للإسلام والمسلمين، لا لعبد العزيز الفيصل السعودي ولا ليحيى حميد الدين،

فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له

قائمة في غيرها، فجميع المسلمين تحت سلطان الأجانب، إلا قليلاً من الأعاجم،

أنتم تعلمون حالهم، وما ينتظر من مآلهم، فيجب أن تتذكرا هذه التبعة، وتتقيا الله،

وتحرصا على حسن الخاتمة والسلام.

...

...

...

...

... منشئ المنار

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

(حاشية) قد كتبت إلى الإمام عبد العزيز ملك العربية السعودية بهذا المعنى

أيضًا.

* * *

جواب الإمام يحيى عن المكتوب الأول

(ختم إمارة المؤمنين)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

السيد العلامة الأستاذ محمد رشيد رضا حفظه الله، وأدام عليه نعمه، والسلام

عليكم ورحمة الله وبركاته.

قد تناولنا كتابكم الكريم، وشكرنا ما أظهرتموه من الغيرة المحمودة بإزاء ما نفخ

به الشيطان في مناخر من لا خلاق لهم، ولقد عجبنا واستغربنا جدًّا ما يشيعه خدمة

الدرهم والدينار، وما يشوهون به وجه الحقيقة الذي هو أجلى من شمس النهار من

توتر العلاقات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن حرسه الله،

وحصول مقدمات الحرب، والتأهب من الطرفين لاقتحام مجال الطعن والضرب مع

ما ينسبونه إلينا من إرادة ذلك، وما ينسبونه إلى ولدنا العلامة سيف الإسلام أحمد

ابن أمير المؤمنين حفظه الله من التشوق لإضرام نار الحرب، وكل ذلك محض

الافتراء، وقد خاب من افترى، فإنه ولله الحمد لم يحدث ولم يتجدد الآن بيننا وبين

حضرة الملك عبد العزيز ما يقدح زند العدوان، فما حدث إلا الجميل وحسن

الرعاية من الطرفين، وحتى الآن المراجعات الودية بيننا مستمرة، والأحوال كما

هي عليه مستقرة، وكيف يكون من مثلنا سعي يخالف صالح المسلمين، وإقامة

شريعة سيد المرسلين؟ وهل يقبل العقل السديد أن يكون منا الآن إثارة فتنة تخالف

صالح الإسلام والمسلمين؟

والحال أنا ما زلنا ولا نزال نسمع من شعبنا السعيد ما يثير الحفيظة مما كان

بتنومة من قتل نحو ثلاثة آلاف مسلم آمين بيت الله الحرام، لأداء فريضة الإسلام،

ويرفعون بذلك عقائرهم، ولم نزل نصبرهم بحسن العبارات، وألوان الاعتذارات،

ولم يمكن لنا أن نصدع حضرة الملك بذلك، مع أنا حكمناه في ذلك عقيب الواقعة

وأجاب بكل إنصاف، أفهذا السكون يكون من مريد لتأجج جحيم الهيجا، يا ذوي

الحجى؟ كلا.

ولقد علم من تحت أديم السماء ما كان من فصل قطعة من اليمن الميمون عن

أمها اليمن الخضراء مع علم كل ذوي العقول أن قطعتي عسير وما إليها، وجازان

وما إليه، هما من اليمن جغرافية ونسبًا، ومع ذلك فلم يصدر منا غير الجميل، بل

كان منا السعي الكامل للإصلاح في الفتنة الناشئة بين السيد حسن الإدريسي وبين

حضرة الملك عبد العزيز ولم نقل جآن لما عندي مزاجًا، أفيكون هذا من مريد لبذر

البوس، واقتباس نار أحر من نار حرب البسوس؟ كلا ولكنها الأهواء عمت

فأعمت.

وأما ولدنا سيف الإسلام أحمد ابن أمير المؤمنين فلم يكن من أعلاج الأغتام،

وإنما هو بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء العاملين، وإنه

لأشد الناس رعاية للصداقة بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإنا نعلم يقينًا

ردوده على المحرشين بأعظم رد، فليكف المفترون عن أقوالهم المزورة،

وليستحيوا من العالم بأكمله لافتضاح لهجاتهم الكاذبة مرة بعد مرة، إن كانت لهم

ديانة ورعاية لمكارم الأخلاق، فقد أوضحنا لكم الحقيقة برمتها حيث شاهدنا في

كتابكم، وفي غيره ما يوحي إلى اعتقاد أن المنشور في الجرائد من قبيل الحقائق،

وما كنا نؤمل أن تخفى عليكم مصادرها، ومن هو الملوم فيها، وثقوا بأنه لا يكون

أي اندفاع إلى خصام، ولا امتشاق حسام، مهما استمرت الحالة على ما كانت من

قبل، سواء كان إسعافنا بإنصاف، أو بقيت الحالة على ما هي عليه لم ترع لنا فيها

الحقوق، والحامل على هذه الطريفة هو رعاية ما فيه صالح الإسلام والمسلمين،

هذا والدعاء مستمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، 22 جمادى الأولى سنة

1352 هـ.

* * *

المكتوب الثاني إلى الإمام

في 6 جمادى الآخرة سنة 1352

(بسم الله الرحمن الرحيم)

من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سلالة

الأئمة الأعلام، عليه وعلى آله السلام.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد

فقد تشرفت أمس بكتابكم الجوابي، فسررت جد السرور ببشارتكم إياي بما شرح

الصدر في مسألة العلاقة بينكم وبين أخيكم في الدين، وصنوكم في حراسة جزيرة

العرب، وتنفيذ وصية جدكم خاتم النبيين، وكون الخلاف من الهيئة العارضة، لن

يكون ذريعة لسفك الدماء، الذي يتمناه أعداؤنا الأجانب، وسفهاؤنا الغوغاء، وهذا

ما كنت أعتقد في دينكم وعلمكم وعقلكم وحلمكم وتجاربكم، ولكنني لا أنكر أنني

كدت أصدق ما يقوله الكثيرون في مشرب نجلكم سيف الإسلام أحمد عليه السلام،

على أنني كنت أقول لهم: إنه إن صح ما يقال في رأيه ومشربه، فلن يصح أن

يخالف أمر أبيه وإمامه، وطاعته واجبة عليه لوصفيه كليهما، وانحصر طوقي في

المستقبل، كما أشرت إليه في كتابي الأول. وأقول الآن: إنني مستعد كالأول أو أشد

لإعادة السعي لما سبقت جميع الناس إليه من شد أواخي الإخاء، وإتمام مقدمات

الحلف بينكما، وأتمنى أن تجدوا لي طريقًا وسطًا في تعديل الحدود بين المملكتين

أدنى إلى العقل والشرع مما صرحتم به في كتابكم من عد قطعتي العسير وجازان

وما إليهما من عقر دار اليمن الميمون جغرافية ونسبًا وأمًّا وأبًا؛ فإن في هذا القول

مقالاً، ولعل التساهل فيه والحال كما تعلم خير مآلاً، ولو قلتم هذا أولاً لكان عذركم

أظهر عند الأكثر، أما وقد أقررتم ما كان، فقد قامت عليكم الحجة والبرهان، ولا

يزال الوقوف في الوسط مع التواد في حيز الإمكان، فإذا عهدتم إلى هذا الداعي

بالسعي إليه، بذل جهده في الحصول عليه.

وأما مسألة التعويض على أهل القتلى من الحجاج فلكم فيها كل الحق [1]

وتعلمون أنني كنت أول الساعين إليه، ولما تم التواصل بينكم وبين الملك عبد

العزيز تركت ذلك إليكما، وقد بدأت اليوم بالتذكير به بما كتبت إليه قبل هذا، فإن

كنت أعلم أن تنفيذ الطلب في هذه الأيام متعذر، فإنني لا أشك في أنه يكون بعد

زوال الغمة أول متيسر، وإني منتظر أمركم، وقد جربتم كتماني لما يجب كتمانه

ولما لا يجب، لا كالذين يتبجحون بنشر كل ما تكتبون إليهم، وما يكتبه إليه كل

عظيم وإن كان دونكم.

هذا وإنني قد سررت من الوجهة العلمية الدينية أشد مما سررت من الوجهة

السياسية بما تفضلتم به عليّ من البشارة باستحسانكم لكتابي (الوحي المحمدي)

واحتمال توجه عزمكم إلى إعادة طبعه، وأبشر جلالتكم بأنه قد نال استحسان

العلماء والعقلاء في جميع الأقطار الإسلامية، ولا تزال تأتينا المكتوبات منها

بتفضيله على كل ما كتب في إثبات النبوة المحمدية وإعجاز القرآن والدعوة إلى

الإسلام من الوجوه اللغوية والعقلية، والاجتماعية السياسية، وقد شرعوا بترجمته

بعدة من اللغات الشرقية والغربية

إلخ [2] .

والسلام عليكم، وعلى نجلكم، وولي عهدكم سيف الإسلام، وسائر أنجالكم

الكرام عليهم السلام

...

...

...

...

منشئ المنار

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

***

جواب الإمام عن المكتوب الثاني

(الختم الإمامي المعروف)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

حضرة السيد العالم الفاضل، والجهبذ الفذ الكامل، صاحب المنار محمد رشيد

رضا المحترم حفظه الله، وشريف السلام عليه ورحمة الله وبركاته.

وصل كتابكم الكريم، وأحسنتم بما أفدتم، واعلموا - عافاكم الله - أنا صرحنا

لحضرة الملك عبد العزيز أن يكون ربط الأواصر، مع إبقاء الحالة في عسير على

ما هي عليه، فإنا نكره تجزئة اليمن، وفصل قطعة منها عن أمها الطبيعية، وأن

مثل هذه المسألة هي التي أخرت المعاهدة بيننا وبين إنكلترا، وآخر الكلام كان

البناء مع إنكلترا على تأخير البت في شأن الأراضي التي يدعونها تحت الحماية إلى

المستقبل وتكون المذاكرة عنها، ثم إن كراهيتنا لعدم الخوض في الأراضي

العسيرية بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإبقائها كما هي عليه الآن، ليس

المراد به أنا سنهاجم، كلا، بل صرحنا لحضرة الملك عبد العزيز في جملة برقيات،

أن من المحال أن يحصل منا عدوان قطعًا حتى الممات، ولا نعلم بعقد كلام في

شأن تلك الأراضي.

وفي شأن السيد الحسن الإدريسي. كتبنا لحضرة الملك أنا حاملون بوجهنا

وذمتنا أنا لا نساعده على عدوان، ولا نرضى له، وهو عدونا ليس بيننا وبينه

صداقة، وإنما حملنا على الخوض في مسألته محبة صلاح الشأن بينه وبين حضرة

الملك، وتسكين الثورة الشيطانية التي حدثت بتلك الجهة، ثم تعويل الحسن علينا،

وأشار إلينا حضرة الملك أن بعض الناس من الذين يريدون بذر الشقاق في البلاد

العسيرية يترددون بين مصوع وبعض مراسينا فأمرنا بمنعهم من الدخول إلى بلادنا،

وطرد من كان منهم في بلادنا [3] وأشار حضرة الملك إلى أن قرب السيد الحسن

الإدريسي من تلك الجهات ربما يكون مصدر شر، فكان منا إقناع السيد الحسن

بحسن انتقاله إلى جهة في بلادنا تبعد عن تلك الجهات بمسافة ثلاثة أيام، وعلى

الجملة فاعلموا يقينًا أنه لا يكون منا أدنى عدوان ما دمنا على الحياة.

وولدنا سيف الإسلام حفظه الله هو من أحرص الناس على حفظ الصداقة بيننا

وبين حضرة الملك، وإذا بلغكم ما يخالف هذا فكذبوه، ثم كذبوه.

وإنا لنعجب لما تنشره بعض الجرائد مما نظنه كذبًا كما هي عادة الجرائد من

التجنيد والتجيش والتجهيز من جهة حضرة الملك عبد العزيز؛ إذ ليس لذلك من جهتنا

ما يحمل على ذلك غير ما عرفناكم ههنا من الكتابة الودية، وكامل التأمينات

لحضرته بعضها مؤكد بالأيمان، على أنا نعلم أن بالشقاق بيننا وبين حضرته كل

بؤس وضرر على العرب عمومًا، بل وعلى المسلمين، وإنا نستعيذ بالله من ذلك،

ومن أن يكون لنا سبب لما هنالك، هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

... حرر في 21 جمادى الآخرة سنة 1352هـ.

***

المكتوب الثالث أو الرابع إلى الإمام في 25 رجب

من محمد رشيد رضا إلى حضرة الإمام الهمام، سليل الأئمة الغر الميامين،

جلالة الإمام يحيى حميد الدين، عليه وعلى آله السلام.

السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد

حظيت بكتابكم الكريم المؤرخ في 4 رجب، وبتقريظكم الشريف لكتاب الوحي

المحمدي فسررت بهما، ولكن ساءني أنني لم أجد في الكتاب ما يفتح لي باب

الخدمة لما عرضته من رغبتي في السعي للصلح بينكم وبين أخيكم الملك عبد

العزيز آل سعود، على أساس تعديل ما بين المملكتين من الحدود، لعقد المحالفة

التي تحول دون الخلاف في الحال والمآل، وتكون بها قوة كل منكما يدًا واحدة على

من عداكما، إذا عاداكما أو عادى واحدًا منكما.

ولكنني رأيتكم تعدون العسير برمتها كنجران من عقر دار اليمن، وأن بقاء

حكمه في أي جزء منها مانعًا عن عقد حلف بينكما، وأن قصارى الأمر أنكم لا

تقصدون الآن نزعها بالقوة الحربية.

وهو لا يعترف لكم بهذه الدعوى، وتعلمون ما يتهمكم به [4] ، وبقاء هذا الحال

غير ممكن، لهذا ساق جيوشه إلى الحدود؛ ولأنه يعتقد أن سبب رفضكم لإمضاء

العهد، وما عاملتم به الوفد، وبقاء قواتكم على الحدود، إنما سببه كله اعتقادكم أنه

ضعيف، وأن ضعف قوته سيلجئه إلى الاعتراف لكم بالبلاد العسيرية كلها جبالها

وسواحلها، وكتب إلي أنه يرجو بإرساله قواته إلى الحدود ومواجهتها لقواتكم أن

تجنحوا للسلم، وتفضلوها كما يفضلها على الحرب، وتجيبوه إلى ما يدعوكم إليه

من عقد العهد، واشتداد الود، ولكن فاجأتنا البرقيات اليوم من رومية باشتعال نار

الحرب، فوجلت القلوب، واضطربت الأفكار، وبتنا لا نهتدي إلى الوساطة سبيلاً،

إلا أن تهدونا إليها مما تجدونه معقولاً، وما هو في رأينا إلا الاعتراف بالحال

الحاضرة في عسير، مع تحديد عادل في نجران، يبقى فيها حد نجد كما كان،

ويعترف لكم بما كان مستقلاًّ منها قبل الحوادث الأخيرة، إن لم يكن مرتبطًا فيها

بعهد سابق يحتاج إلى المفاوضة. هذا ما خطر ببالي اليوم أنه لا يزال ممكنًا، كتبت

به إلى جلالتكم، ولم أكتب إليه شيئًا جديدًا، وإني منتظر لأمركم بالبرق والبريد؛

لأنهض بما أقدر عليه من خدمة للإسلام، ولميراث محمد صلى الله عليه وسلم

لقومه وأمته، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

***

جواب الإمام عنه وهو الأخير

(الختم)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

حضرة السيد العلامة المحقق، بحر العلوم المتدفق، محمد رشيد رضا

الحسيني منشئ مجلة المنار الغراء، حفظه الله من بين يديه ومن خلفه، وأتحفه في

جميع مواقفه بالمعين من لطفه، وشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قد تناولنا كتابكم الكريم على الحقيقة، لما يحويه من البيان الجميل والإشفاق

بتلك الحمية على مُثْلَى الطريقة، فشكرنا لكم ذلك النصح وذاك التطوع، ودعونا

لكم بدوام التوفيق وحسن التشيع، وقد عرفنا من كتابكم أن مصدر ما استحوذ به

القلق ليس إلا تلك المنابع المعلومة، وهي عن التحري فيما تنقل بمعزل، ولا يوجد

ما يحملها على تحري الصدق في النقل، بل دواعيها محصورة في ترويج بضاعة

الكذب، وربما كان الكذب مقصودًا لذاته، وإذا عرفتم أن الحالة السابقة هي الآن

كما كانت لم تتغير، والمراجعات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز مستمرة،

والاتجاه فيها إلى السلم أوضح مما سواه، وأنه لولا وجود شرذمة من شذاذ الأقطار

يلقون فيما نظن إلى الملك عبد العزيز ما يثير الحفيظة لما تغير من الوضعية التي

استمرت طوال السنين شيء يذكر، اتضح لديكم مقدار ما في الأخبار المفتعلة من

الكذب والتقول بما لا أصل له، وقد أوضحتم ما لأجله كان حشد الجنود، من الملك

عبد العزيز بن سعود.

وكان يكفي لدفع تلك التوهمات، ونفي اتخاذ الحالة الراهنة فرصة تذكر

الحالات الماضية، وهي كثيرة الصور دالة على أنا لا نتحين فرصة، ولا نبغي له

غصة، وإلا فما الحامل على ترك إعانة ابن عايض ومخالبه ناشبة فيها من أقصاها

إلى أدناها، ولم تطأها قدم نجدي إذ ذاك، وعلى ترك إعانة الأشراف في الحجاز

بعد التوسل إلينا في كلتا الحالتين بما هو فوق المرغوب.

وكذلك رأينا فيما جرى بعدها من الأطوار، وحتى الآن لم يتجدد شيء سوى

التأديب لقبائل يام، الذين ضررهم على المنتمين إلى الملك عبد العزيز من القبائل

الذين وراءهم، أكثر من الضرر على من ثبتت أقدامهم على طاعتنا من القبائل

المجاورة لهم من جهة الجنوب، وقبائل يام يمنية، ولم يكن التعرض لهم إلا بعد أن

كتبنا إلى حضرة الملك عبد العزيز أنهم يمنيون، بل هم مصاصة قبائل اليمن، وإنا

لم نتركهم إلا خشية أن تتشوش الأفكار، فرجع منه الجواب بأنه لا كلام له منهم،

وغاية الأمر أن بينه وبين أهل وادي نجران الذين هم بعض قبائل يام بعض تملقات،

ثم بعد هذا وصل منه ما هو أصرح، والبرقيات لدينا محفوظة، وليت أنكم

تصلون إلينا لعرض كل المكاتبات عليكم؛ فسيظهر لكم منها ما لم يكن في حسبانكم

من إنصافاتنا.

أما المعاهدة فإننا أفدنا الوفد أنه لا بأس بها غير أنه لا يمكن لنا أن نقرر

انفصال جزء من اليمن عنه؛ لكنها تكون المعاهدة مبنية على إبقاء بلاد عسير وما

إليها على حالتها التي هي عليها الآن، وإذا كان من الوفد كلام بأنه كان منا أدنى

جفاء فسنرجع أمره إلى الله؛ فإنه لم يعزم إلا على غاية من الرضا والشكران

ومحرراته لدينا محفوظة، غاية الأمر أنها طالت مدة لبثه ههنا، فهل في المرض

الذي كاد أن يقضي علينا عذر يوجب تأخر تسريحه؟ إنا لا نظن أيًّا كان لا يعذر

في مثل ذلك المرض، وإنا لنظن أن الذي غير نهج حضرة الملك عبد العزيز، إنما

هم خَدَمَةُ الإفرنج الذين يتلذذون بإهراق دماء المسلمين، وهدم عزهم، وانحطاط

علو شأوهم تقربًا بذلك إلى أعداء الإسلام، مع فرار داعي الباطنية المكرمي

ومنصوبه من بدر إلى أبها عسير لدى أمير حضرة الملك عبد العزيز بأبها.

ولا يخفى عليكم ما عليه الباطنية، وارتباط باطنية الهند بهذا الداعي،

وإمدادهم إياه، ولو كان الإمعان بإنصاف، لكان العلم بأنه لا حق لأحد غيرنا في

الكلام عن بلاد يام؛ لأنه لا راية فيها منصوبة، ولا هي من غير بلاد اليمن

محسوبة، وقد رأينا في منشورات الجرائد عن المصادر المعلومة والمجهولة كذبًا

صراحًا، بأن المصادمات بين الجيش اليمني والنجدي قد وقعت، وأن الجيش

اليمني زحف إلى بلاد الدواسر وبلاد نجد، والحقيقة أنه لا شيء من ذلك أصلاً، لا

صدام ولا التحام ولا زحف، بل الواقع أن الولد سيف الإسلام بعد أن بلغ إليه قرب

الجيش النجدي من الحدود أمر الجيش اليمني بتخلية بعض المواقع التي كان يحتلها،

بعدًا عن التحاك الموجب للاشتباك، وهو بصفته تقهقر اختياري أريد به ما أوضحناه

من التباعد عن موجبات تحقق أحلام المفسدين، والمتوسم عند تحرير هذا

أنه لا يكون شيء من التشاجر إن شاء الله، فلا يوجد لذلك من الدواعي والأسباب

ما يقتضي تبرير وقوعه، وبالله المستعان، والدعاء مستمد، والسلام لتاريخه

18 شعبان سنة 1352.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أعني الحق في تطييب القلوب، بما يوضع في الجيوب، ولكن تكرير الإمام للتذكير بهذه

المسألة كان محركًا للأضغان، مثيرًا للأشجان، مانعًا من الأداء بالإحسان.

(2)

بقية هذا الكتاب خاصة بكتاب الوحي، وقد رجوت من جلالة الإمام أن يبين لي ما يراه فيه

منتقدًا، فقرظه بما نشرته بنصه في أول التقاريظ من الطبعة الثانية مستقلاًّ، ولم ينتقد منه شيئًا.

(3)

المنار: المراد بهؤلاء المفسدين دعاة حزب الشرفاء المسمى بالحزب الوطني الحجازي، وكان لهم تأثير في ثورة عسير الماضية في زمن فتنة ابن رفادة، وقد تبين أن مولانا الإمام لم يطردهم في هذه المرة كما قال أو أن أمره بطردهم لم ينفذ فقد نشرت لهم رسائل في بعض الجرائد جاءت من

بلاده، كما أن إبعاده للسيد حسن الإدريسي لم يتحقق للملك السعودي.

(4)

أعني أنه يتهمه بالمراوغة، وبما هو شر منها، ويقول إنه كالشريف الحسين.

ص: 39

الكاتب: عبد الحميد السائح النابلسي

‌تقريظ الأستاذ الشيخ

عبد الحميد السائح النابلسي [*]

منذ مدة وأنا أفكر في كتاب يصلح أن يكون هاديًا وبشيرًا للأمم غير الإسلامية

بأسلوب مألوف لديهم، وعلى نمط يكون في متناول جمهرتهم، حتى يُنَادى في

الأوساط الأوربية والأميركية بالدعوة إلى دين الإسلام بالحجة والبرهان وامتلاء

النفس قناعة وطمأنينة، ومع هذا يتيسر لنشئنا المثقف ونابتتنا الزاهية، أن تتصفحه

وتطالعه، ويزيل ما يترددها من شبهات، ويزيح ما يعتورها من اعتراضات، فلم

أعثر على ذلك الكتاب إلى أن اهتديت إلى كتاب (الوحي المحمدي) للعلامة المحقق

السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، ذي الآراء الإسلامية الناضجة، والأبحاث

الدينية الموفقة، فوجدت فيه الضالة وتحققت فيه الرغبة.

إني قانع كل القناعة أن القرآن كفيل بحاجة مطالعه، قمين بأن يملأ نفس قارئه

إيمانًا وحكمة وعلمًا وأدبًا وسياسة وخبرة، ولكن هذا يتوقف على أن يكون القارئ

خبيرًا باللغة العربية، ملمًّا بعلومها، متضلعًا من بلاغتها وفصاحتها، ولا ريب أن

هذا غير متيسر لكثير من أبناء العربية وعلماء المسلمين، فكيف بغير العرب وغير

المسلمين؟ خصوصًا وأن المسلمين أعرضوا عن الاستفادة من هذا الكتاب المقدس

الاستفادة اللائقة به، وأصبحوا لا يعتنون إلا بمظاهر ختمه فقط ومراسمه الشكلية.

من أجل هذا كانت حاجة المسلمين إلى كتاب يبشر بدينهم - على الوجه الذي

بينا - ماسة وشديدة.

وليس من شك في أن هذا العمل يتطلب تفكيرًا عميقًا، وخبرة واسعة، ووقتًا

غير قصير، حتى يخرج إلى الملأ مستكمل النواقص وافيًا بالحاجة، وإن الأستاذ

السيد محمد رشيد هو أجدر من يقوم بهذا العمل، وأحق من يتحمل هذا العبء،

وإن مبادرته إلى إخراج هذا المؤلف مسارعة إلى أداء فرض محتم عليه، وقيام

بواجب لا مناص منه، لكفاءته النادرة، وشهرته في العالم الإسلامي بشهرة فائقة،

والاعتماد على آرائه، والاستفادة من نتائج قريحته، والوثوق من خبرته وسعة

اطلاعه.

بدأ المؤلف كتابه في البحث بموضوع الوحي، والاستفاضة فيه، ومناقشة

القائلين بإثباته من أهل الأديان السماوية، وبحث آراء نفاته من الماديين، وأفاض

في نفيها، وإقامة الحجة على إبطالها، ثم قفى على ما ذكر بمقاصد القرآن، في

ترقية نوع الإنسان، شارحًا أركان الدين، وأنواع الإصلاح التي يحتاج إليها

الإنسان في حياته، وتخلل ذلك بحث مسألة المعجزات، وخوارق العادات التي هي

مدار اشتباه الكثير من المثقفين والمتعلمين، وقد صور الدين بصورته الحقيقية،

فأطلع القارئ على كثير من قواعد الدين الإصلاحية الاجتماعية والمالية والسياسية،

مستندًا في ذلك كله على آي القرآن ونصوص الإسلام، ثم ختم المؤلف كتابه في

بحث تحرير الرقاب ومنعه، وأزاح ما يخفى على كثير من المتعلمين من الشبهات

في هذا الموضع وغيره.

وبالجملة فإن الكتاب بالنسبة لأبحاثه الاجتماعية والمالية والسياسية لا ريب أنه

وافٍ بالمقصود من هذه النواحي على شكل يسر كل مسلم، ويحفز كل غيور على

دينه أن يُقْبِل على مطالعته وتصفحه.

وليس من شبهة في أن المقصود الأول من هذا الكتاب جعله في متناول العلماء

غير الإسلاميين، وخصوصًا غير العرب كما ذكر المؤلف نفسه (النتيجة المقصودة

بالذات دعوة شعوب المدنية: أوربة، وأمريكة، واليابان، بلسان علمائها إلى

الإسلام، لإصلاح فساد البشر المادي وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنساني العام)

ولا يتيسر هذا إلا إذا ترجم للغات الأجنبية من قبل متضلعين بتلكم اللغات

عارفين بأسرارها، فينبغي - والحالة هذه - على الهيئات الإسلامية أن تقوم بهذا

الواجب، ونرجو أن يسارع مكتب المؤتمر الإسلامي العام بالقدس وغيره من

الهيئات الإسلامية إلى هذا؛ فإنه عمل منتج، ويُرْجَى أن يكون له أثر خطير في

العالم، وإن هذا العصر عصر طغت فيه المادية، واعتز المبشرون فيه بتشكيلاتهم

وأموالهم، فعلى الأقل يجب على علماء المسلمين وهيئاتهم أن يقوموا بنشر مبادئهم

الدينية الحقة، وإذاعتها في الملأ؛ لتكون سلاحًا يوجه إلى كل من أراد هذا الدين

بسوء وقصد تشويه تعاليمه ومبادئه.

وإن هذا الكتاب رغمًا عما يؤخذ عليه يفيد مطالعه فائدة جليلة جدًّا، ويعود

على قارئيه بنتائج لا يتيسر الوقوف عليها من غيره، ويعطي صورة عظيمة القدر

لتعاليم الإسلام خالية من تلك الأغشية التي وضعها عليها بعض العلماء، ويوصل

إلى معرفة حقائق إسلامية بشكل ينثلج له الصدر، وعلى وجه تطمئن له النفس،

وإني أدعو بني قومي وإخواني إلى المسارعة لمطالعته واقتنائه، والاستفادة من

أبحاثه ومحتوياته.

وإن ما يؤخذ على الأستاذ المؤلف قد شعر هو به فيما قال: على أنني لم

أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض (وضع مصنف في إثبات الوحي المحمدي)

وإنما بدأت منه بفصل استطرادي لتفسير آية: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى

رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2)

إلخ، ثم قال: ولو إنني قصدت هذا منذ بدأت

بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار،

إلخ، فأكثر ما يؤخذ عليه يرجع إلى استطراد في البحث يكاد أن يكون مملاًّ

وخصوصًا في فصل إقامة الحجة على مثبتي الوحي ونفاته [1] .

وقد أبدى معذرته في قوله: ولكني كتبته في أوقات متفرقة، وحالات بؤس

وعسرة، لا أراجع عند موضوع منه ما قبله

إلخ، وبيان المأخذ وذكر المعذرة

لا يعني التقليل من أهمية هذا الكتاب وشخصية مؤلفه، بل على العكس يجعلنا

نرجوه أن يوالي تصنيفاته في تلكم المواضيع باذلاً الجهد في مجانبة ما لاحظه على

نفسه، جزاه الله عن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وضاعف له الأجر على

مجهوداته التي لا تنكر والله ولي التوفيق.

نابلس

...

...

... عبد الحميد السائح

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نشره في جريدة الجامعة الإسلامية في 15 جمادى الآخرة سنة 1352 15 أكتوبر.

(1)

من الغريب أنني عنيت بالاستطراد بحث الخوارق، كما قال هذا الأستاذ الذكي حتى إنني استشرت بعض كبار العلماء أولي الرأي في اختصاره في الطبعة الثانية، فلم يوافقني أحد، بل قال الأستاذ العلامة الشيخ المراغي: إنه من أهم المباحث فلا ينبغي حذف كلمة منه.

ص: 53

الكاتب: شكيب أرسلان

‌تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان

إن المسلمين على بينة من أمرهم، لا يحتاجون إلى دعاية، ولا إلى التماس

الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور

هذا الكون بدونه، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله

عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه، والذي ما زال

ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة

حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين؛

لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه، ويرون جميع

براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى

دليل، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند

الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل

لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ

نشأة أوربية؛ أي: خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها

مبادئ الإسلام مع لبن أمه، فيقال: إنها رسخت فيه من الصغر. ولما كان جميع من

يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية

الحاضرة، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا، كان هذا

الكتاب موجهًا أيضًا إليهم؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية،

أو على ما يقرب من ذلك.

فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين

أيضًا، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع

الأوربي؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة، والمغلوب مولع

بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون. فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين

الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه

السلام يقول:

إن محمدًا كان أميًّا، لم يقرأ سفرًا، ولم يكتب سطرًا، وهذا القرآن العظيم

بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة، وأوجز عبارة،

لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل

علمًا من قبل، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع

إخوته في الرضاع، ثم إنه نشأ يتيمًا، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية،

واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين، ولم يكن أحد يماري في استقامته، وكانوا

لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم، فيستحيل أن يكون رجلاً

موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين،

ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها،

ويقول: إنه سمع صوتًا، ولو لم يسمع صوتًا، وشاهد ملكًا، ولو لم يشاهد ملكًا،

إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من

الدعوة لنقول: إنه كذب على الناس؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا، فكل أحد يعلم

أنه لم يكن ينشد ملكًا، ولا مالاً، ولا ثروة، ولا جاهًا. فلأي شيء يقوم بدعاية

غير صحيحة، ويضع أشياء من عند نفسه، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية، ثم

البغضاء والشنآن، ثم الاضطهاد والانتقام، ويتعرض لخطر القتل، وهو لا يريد

رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة

هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد

مبدع هذا الكون لا إله إلا هو.

قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم،

ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى، وكان من

مزاياه أنه لا يقول الشعر، ولا يخطب في الأندية، ولا يتصدى لشيء من مظاهر

الرياسة ولا الشهرة، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى

التوحيد وإلى مكارم الأخلاق، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا، ويتجشم من العذاب ما

يتجشم، ويتعرض لآلام أمر من العلقم، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له

على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها.

يقول السيد رشيد: إنه من المقرر عند علماء النفس، وعلماء الاجتماع أن من

بلغ سن الخامسة والثلاثين، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد

ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا (بضمتين) أي: جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع

بينهما، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد

العرب مثله وذلك بعد الأربعين، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء، ولا

وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل.

قلت: وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو

لم يتعمد الكذب تعمدًا، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات، ويرى

تلك الخيالات، فيظن ما سمعه وحيًا، وما رآه ملكًا، والجواب على ذلك أن هذا

الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على

نفسه، وطالما خاف [1] أن يكون به جنون، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه

لم يتعمد النبوة تعمدًا، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء، وأنه قد فاجأه الوحي

مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية

كما يقول السيد رشيد، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية

والمدنية والاجتماعية، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ.

ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد [2] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه

الناس له، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة، وتكلم بعد البعثة، ولا شك أنه

كان من أفصح البشر وأبلغهم، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول؛ ولكنه

لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد، فلا كلامه الخاص

ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل، وكل من تأمل في

القرآن العظيم، وكان بصيرًا بالبلاغة، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير.

لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه، وشدة تأثيره علوًّا

كبيرًا عن جميع كلام العالمين، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا؟

فقول بعض الناس: إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه

يوحى إليه. ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام

الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها

ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام

إنسان واحد.

ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا

عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي، وكونه قولاً ثقيلاً؟ ولماذا يأبون

إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من

أمراض الجسم، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل؟ فأي استحالة في كون

بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة

عصبية يضطرب لها، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام،

وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء

الصرع، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات، والحال أن النبي عليه

السلام كان سليم الجسم، ولم يكن مريضًا، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من

أعدائه، ولا من أصحابه: إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن،

والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل، وإنما هي افتراضات مبنية على

غير أساس، وتخرصات بغير الواقع، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من

الأوربيين، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند

نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي، لم تكن لتحدث لولا ذلك، ولكن

محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا؛ إذ قد ثبت أن النبي

صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق

الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد

كان موزونًا لا شائبة فيه، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له

مجال إلا التعنت.

وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال: إن أعداء الرسول من الإفرنج

وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية،

وتشنجات هيستيرية، وما أبعد الفرق بين حالته تلك، وحالة أولي الأمراض

العصبية في المزاج، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً، ولعله إلى

الدموي العضلي أقرب، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف

والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت، وأما صاحب تلك الحالة

الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من

القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي

إلخ.

قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد

اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء

النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا، وإنه إنما

أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق، فهذا أمر

قد اتفقوا عليه تقريبًا؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه،

ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن،

وأنها حالة لم يكن يتعمدها، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ

بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية، وذهب آخرون أنه من قبيل

الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد، وعلى كل حال قد اجتاز

الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد، فقد لبثوا طوال

القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا، فرجعوا الآن

عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا، وإن هذا القرآن كان

ينزل عليه، وكان يعتقد هو أنه من عند الله، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه، ولكن

هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم، أو التخيل بقول الآخرين، فادِّعاء الكذب

على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية، وقد اجتيزت المرحلة الأولى

فبقيت المرحلة الثانية، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له

الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى، لا بمجرد التخيل ولا

من قبل المرض، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب

عليهم الاعتقاد بالغيب، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس؛ ولكنهم لو تأملوا

لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً، إلا

وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة

خارقة للعادة، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات

الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية، ويلجئهم الأمر في

أكثر الأحيان إلى تلمس الافتراضات المبنية على غير أساس.

إن كتاب الوحي المحمدي الذي جاء به الأستاذ السيد رشيد رضا في هذه الأيام

قد أتى عصره على قَدَر؛ لأنه زمن صار يجب فيه التعليل حتى في الأمور التي

هي معدودة إلى اليوم من البديهيات، وما دمنا نقفو الأوربيين صاعدًا، ونازلاً، ولا

مناص لنا من هذا الاقتداء، كان لابد لعلماء المسلمين من إعداد الأسلحة العقلية

اللازمة لمكافحة الشبهات التي هي من أصل أوربي، فكتاب الأستاذ وافٍ بهذا الغرض

لا يخطر في البال معنى من المعاني التي يقتنع بها القارئ بعلو مزايا الإسلام، إلا وقد

أشار إليه.

نعم قد فات هذا الكتاب موضوع جليل، ربما كان أدل على إعجاز القرآن

وعلى صحة الوحي به، وكونه من عند الله حقًّا من سائر الموضوعات، وهذا هو

ما في القرآن من الآيات المطابقة للقواعد العلمية التي انتهى إليها تحقيق الأوربيين

في هذا العصر من جهة التحولات الكونية، فمن المعلوم أن محمدًا عليه السلام

فضلاً عن أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في مكة حيث لم تكن علوم، ولا

معارف، ولا جامعات، ولا مدارس، وكذلك لم يكن في المدينة، وإن قلنا: إنه كانت

علوم، ومعارف، ومدارس تقرأ فيها العلوم الكونية، وذلك في غير جزيرة العرب

كالشام أو كالإسكندرية أو كأثينة أو كرومية مثلاً؛ فإن محمدًا كان بعيدًا عن ذلك

المحيط العلمي كله، لا صلة له به، ثم إن العلوم الكونية التي كانت في ذلك العصر

لم تكن فيها هذه النظريات الحديثة كالرأي السديمي مثلاً، الذي يقتضي أن تكون

الأجرام السماوية كلها في الأصل دخانًا، ثم تتجمد كتلة واحدة، ثم ينفصل بعضها

عن بعض أجرامًا متفرقة، وإنك لتجد هذا في القرآن صريحًا {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ

كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) فلو لم يكن القرآن وحيًا، ما كان يمكن محمدًا أن ينطق بحقيقة

علمية لم تتقرر فعلاً إلا في هذا العصر، وكذلك كون مبدأ الحياة في الماء، قيل: إنه

قال به بعض فلاسفة اليونان، ولكنه لم يكن قاعدة علمية كما هي اليوم، وكذلك

كون الزوجية منبثة في الممالك الثلاث الكونية، الحيوان، والنبات، والجماد، لم

يكن ذلك معروفًا في عصر محمد عليه السلام، وإنما كانوا يعرفونه في المملكة

الحيوانية، وشيء من المملكة النباتية المشابهة للحيوانية، والحال أن القرآن جعل

هذا المبدأ عامًّا {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 49) وغير ذلك من

الآيات التي جاء فيها مثل {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5) ، و {مِن كُلِّ

زَوْجٍ كَرِيمٍ} (الشعراء: 7) ، وكذلك حركة الأجرام الفلكية، فقد كان الفلكيون

في القديم يعتقدون بوجود سيارات وثوابت، ولم يتغير هذا الاعتقاد إلا بحسب علم

الهيئة الجديد، والحال أن في القرآن ما يدل على أنه ليس من جرم غير متحرك

{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) وغير ذلك مما أحصاه المرحوم الغازي أحمد

مختار باشا نحوًا من تسعين آية فيما أتذكر، وفسره تفسيرًا علميًّا، أثبت ما فيه من

المطابقة للنظريات العلمية الحديثة، وكان مختار باشا من أفذاذ الدهر في علم الهيئة

والرياضيات والطبيعيات، فلا يقدر أحد أن ينكر ضلاعته في هذه العلوم، ولقد

أشرت على الأستاذ الحجة السيد رشيد بأن يلحق بكتابه هذا ليكون مستوفيًا جميع

شروط الإفادة خلاصة كتاب مختار باشا الغازي المسمى (سرائر القرآن) ؛ لأن

الذي يؤثر في عقول الأوربيين، وعقول النشء الجديد في الشرق من مطابقة

القرآن للنظريات العلمية الحديثة، هو أعظم مما تؤثره البراهين العقلية والأدبية

والاجتماعية.

...

...

...

...

... شكيب أرسلان

(المنار)

كتب أمير البيان هذا التقريظ بعد قراءته لكتاب الوحي المحمدي ببضعة أشهر

وكان قد نسي - على ما يظهر - أن الموضوع الذي قال هنا: إنه قد فاتنا - لم يفتنا؛

فإننا قد أشرنا إليه في مواضع، كان آخرها ما يراه القارئ في آخر صفحة من

خاتمة الكتاب، وفيها ذكر هذه المسائل التي مثل بها، لما في القرآن من المسائل

العلمية التي في القرآن وزيادة عليها، وقد وعدنا في هذه الخاتمة، كما وعدنا في

تصدير هذه الطبعة بأننا سنعقد لها فصولاً في ملحقات الكتاب التي ستكون في الجزء

الثاني منه، مع أمثال لها في سنن الكون الاجتماعية، والأخبار الغيبية، والوصايا

الصحية.

وفات الأمير - حفظه الله تعالى - ما كنا اقترحناه عليه عندما كتب إلينا أنه

سيكتب تقريظًا للكتاب بأن يجعله استدراكًا على كلام له في كتاب (حاضر العالم

الإسلامي) النفيس مضمونه أنه لم يوجد في هذا العصر كتاب يصلح لدعوة الإفرنج

إلى الإسلام.

وأما ما ذكره في أول التقريظ من استغناء المسلمين الصادقين عن هذا الكتاب

أو كونه غير موجه إليهم؛ فغرضه خاص بصحة عقيدتهم في أصل الإسلام؛ ولكن

السواد الأعظم منهم عرضة للتشكيك بالشبهات العلمية العصرية، أو دعاة التنصير:

لأنهم أسرى التقليد، وأشرنا إلى حاجتهم إلى براهينه على إعجاز القرآن، والنبوة

في مقدمة التصدير لهذه الطبعة.

وقد وصل هذا التقريظ إلينا في 2 من ذي الحجة سنة 1352 بعد طبع ما

اخترناه من التقاريظ، فجعلناه مسك الختام.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الصواب أن يقال: وربما خاف أولاً إلخ فإن الخوف على نفسه إنما عرض له صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي.

(2)

الرُّوع بالضم: الخاطر والخلد، والنفث فيه عبارة عن إلهام يلقى فيه، وهو دون وحي القرآن.

ص: 56

الكاتب: حسين الهراوي

‌كتاب الوحي المحمدي

نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن [*]

سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي

عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد، فيشيرون إلى مباحثه بين

تقريظ وانتقاد، وأخذ ورد، ويكشفون عن محاسن الكتاب، وعن المآخذ التي

يرونها فيه.

وهذه الطريقة قديمة، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين:

إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب، وإما تنفيرًا منه، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ

مظلومًا.

وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ، فليس من شأني أن أجامل

المؤلفين، أو أخدع القارئين، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي

يحدثه في نفسي ذلك المؤلف، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة.

ولعل أصوب طريق للنقد في نظري، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له

موضوعًا لتبدي رأيك، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب.

ولعلي لا أجامل إذا قلت: إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد

محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً

للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي، إن لم يكن في العالم أجمع.

فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي، وبحث علمي في المعجزات

والدعوة إلى الإسلام.

أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة

فيها نظر؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته،

ولكن المسألة ليست مسألة إثبات، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة

من المستشرقين والمبشرين، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة

بالحجة، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق، وكبله حتى تلاشت تلك

العواصف التي أثارها هذا المستشرق، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين

واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة

إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم.

ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات

التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي.

غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا

آية الإعجاز في القرآن، فأسلوب القرآن البياني، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل

هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين، إلا

أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن

القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} (فصلت: 53) فأشار إلى العلم وأنه

سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن [1] .

فالذي يقرأ مثلاً الآية {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ

عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3-4) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي،

إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع.

ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي

تحدد شخصيته، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية

وأنه تقام لها الإدارات الخاصة، وتعتمدها المحاكم، كل هذا يجعلك تدهش لسر

إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا، ويكون تفسير الآية أنه

سيجمع عظام الإنسان، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية.

هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن، وما زال محتاجًا إلى

الدراسة والتفسير؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر

ودراسة القرآن من هذه الوجهة [2] .

وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن، فلا يصير ذلك كتاب

الأستاذ رشيد؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم

والعلم للطعن في الإسلام؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ

رشيد للمقارنة بين الأديان.

أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام، وذم

التقليد، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل، تلك الفصول التي دمجها

الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث.

والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين، ولقد أتى على المسلمين

حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون

المذاهب لأغراض سياسية، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية، ولا زلنا

نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم، ويفرضون على أتباعهم زنات من

الذهب كل عام؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا

مشرفًا، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع

ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو، لا كما صوره الواهمون المغرضون،

وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم، فالناس في البلاد

الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب

الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام، وعدَّدها واحدًا واحدًا، ولكنه لم يذكر

المستشرقين في فصل خاص، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام، ولم يفرد في

كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده، وإن كان

لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .

ونحن لا زلنا نقول: إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير

حقيقته، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق، ومهما

تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه

أحلامهم.

أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين

باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من

الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق، والإسلام الصميم الذي

لا يُستغل لمآرب دنيوية، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك

المسألة الجوهرية، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى

الأمة في عهد النور والعرفان.

والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة

للعادة موضوع بحث، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا، ولكن على أي حال لا

صلة بين هذه الأعمال وبين الدين؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان

المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن، وحتى في الأديان

التي لا زالت تعبد الأصنام، وتقدس الإنسان.

على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة (جان دارك) وكتب عنها بما وسعه

علمه الواسع؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو

سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية، وأن شاراتها كانت

تمتاز بالشعار الملكي.

والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث،

وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع.

وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن

نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين، واستنتجت

من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده، ولعل الأستاذ السيد

رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه

المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير

الإسلامي.

وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى

ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ

ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور

الكتاب، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين.

اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي.

(1)

المنار: قد بينا هذا في كتاب الوحي، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته.

(2)

إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث.

(3)

إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح.

ص: 64

الكاتب: محمد رشيد رضا

العبرة بسيرة الملك فيصل

رحمه الله تعالى

(6)

(إعلان استقلال سورية)

كان جل اشتغالنا في دمشق وأهمه في الأسبوع الأول من جمادى الآخرة، أو

الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) سنة 1920 محصورًا في الاستعداد لإعلان

استقلال سورية المتحدة، فلم يدر بيني وبين فيصل أحاديث خاصة في غير هذا،

فأكتبها بعد إرسال وفده إلى مصر فالحجاز.

ولقد كنت على ما أعلم أول من اقترح على الإخوان في دمشق، ثم على

المرحوم يوسف بك العظمة في بيروت أن تعلن سورية استقلالها التام المطلق،

وتجعل دول الحلفاء معها أمام أمر واقع - كما يقال - ولما عاد الأمير فيصل من

أوربة ليقيم أسبوعًا واحدًا يأخذ فيه تفويض البلاد إياه أو توكيلها له في المسألة

السورية، وأبى عليه الزعماء وجمهور الإخوان هذا التوكيل رأوا أن خير ما يشغله

أو يصرفه عن العودة إلى أوربة للاتفاق مع فرنسة وإنكلترة على شكل الانتداب الذي

رضيه أن يقنعوه بإعلان الاستقلال، ونصبه ملكًا على البلاد، فاقتنع ظانًّا أن ما

يرون أنه هو الصارف له عن ذلك هو أقوى ما يمكنه منه، وهو يرى أنه لا مندوحة

عنه.

وكان أول عمل لحزب الاستقلال بالاتفاق مع الأمير دعوة أعضاء المؤتمر

العام إلى دمشق، ثم وضع الأساس الذي يبنى عليه الاستقلال، فعقدوا لهذا جلسات

في دار علي رضا باشا الركابي، ودار رفيق بك التميمي وغيرها كنت أحضرها

إلى أن قرروا بموافقة الأمير أن أذهب إلى بيروت لإقناع زعمائها، والمجيء بهم

إلى دمشق؛ لأنهم كانوا قد امتنعوا عن إجابة الدعوة، فسافرت إلى بيروت في أول

مارس، ولم أتمكن من جمع كلمتهم المتفرقة إلا في مدة أسبوع كامل، كانت آخر

ليلة منه آخر جلسة لنا معهم في دار الاعتماد التي يشغلها باسم حكومة الشام يوسف

بك العظمة، وقد كتبت عنها في مذكرتي ما يلي:

يوم الأحد 7 مارس (16 جمادى الآخرة)

اجتمع مندوبو بيروت البارحة بدار الاعتماد، وتذاكروا في مسألة السفر

فاختلفوا، وكان رأي الأكثرين عدم السفر حتى يجيء من الشام نبأ رسمي بتحديد

جلسة المؤتمر المنتظرة، ورأي أبي علي سلام السفر، فوافقته، وأصررنا فاقتنعوا

وسافرنا صباح اليوم.

وصلنا إلى الشام الساعة 4 و35 ق مساء، فوجدنا المؤتمر مجتمعًا، فصليت

الظهر والعصر جمع تأخير، وحضرت الجلسة فوجدت البحث دائرًا على خطاب

المؤتمر إلى الأمير فيصل، فطلبت أن يقرأ علينا كتابه إلى المؤتمر - وكان قد

قرئ - فأعيدت قراءته، واقترحت شيئًا من التعديل والإصلاح في جواب المؤتمر

له فقبل.

ثم قرئ في الجلسة قرار المؤتمر (ونوقش فيه) وعُهِدَ إليّ أخيرًا تصحيح

عبارته. اهـ ما كتبته بعد الجلسة من تلك الليلة لأجل الذكرى، وهذا القرار حُرر

في أثناء غيبتي في بيروت بعد تلك الجلسات التي عُقِدَت للبحث في موضوعه،

وأشرت إليها آنفًا.

وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص

في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لا دينية (لاييك) ووافقه بعض

المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة

إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أر مخرجًا من هذه

الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم

منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن

لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها، ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها

عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء

باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك.

وإنني بهذه المناسبة أذكر ما كتبته في مذكرتي عن الجلسات الأخيرة التي

حضرتها قبل سفري إلى بيروت، لما فيها من تفصيل هذه المسألة، والعبرة بل

العبر الكثيرة فيما يسمونه الحالة الروحية في ذلك المؤتمر، بل في سورية كلها،

وهذا نصها:

(يوم السبت 8 جمادى الآخرة 28 فبراير)

دعاني الإخوان إلى جلسة بدار رفيق التميمي للمذاكرة فيما يبنى عليه إعلان

الاستقلال فقرأ عزت أفندي دروزة كاتب المؤتمر شيئًا كتبه في معنى ما كنا بيناه في

جلسة عند توفيق بك الناطور؛ ولكنه ترك فيها أهم ما اقترحته عليهم في تلك

الجلسة، وهو بناء التقرير على قاعدة كون الاستقلال السياسي حقًّا طبيعيًّا للشعوب،

كما أن الحرية الشخصية حق طبيعي للأفراد، وقاعدة قيام العرب من السوريين

وغيرهم بثورة على حكومتهم التركية ونجاحهم فيها، وذكر النص المؤيد لذلك من

القانون الدولي، وقاعدة اعتراف مؤتمر الصلح العام لبلادنا بالاستقلال، وإيداعه في

المادة 22 من عهد عصبة الأمم

إلخ، نعم إنه ذكر فيما كتبه اسم الثورة، ولكن

بغير هذه الصورة والقوة، فقال رفيق التميمي: إن هذه الصورة حسنة؛ ولكنها تشبه

المقالة. (قلت: المراد الموضوع لا الأسلوب)

وسألت عوني بك عبد الهادي عما كلفته إياه وأمره الأمير به بناء على اقتراحي

من استخراج الشهادات الرسمية (من قبل الدولة البريطانية) للجيش العربي، فإذا

هو لم يأت إلا بعبارة اللورد كرزون منها.

يوم الأحد 9 جمادى الآخرة 29 فبراير (شباط)

اجتمعنا البارحة بالإخوان في دار الركابي باشا، وتناقشنا في عدة مسائل مما

يتعلق بقرار إعلان الاستقلال، وتأليف حكومة جديدة ملكها فيصل، ودينها الإسلام،

منها مسألة العلم السوري، ومن يعلن الاستقلال؟ الأمير أم المؤتمر؟ وغير ذلك

مما سبق البحث في جلستين سابقتين، وكان ترجح أن يكون لسورية علم مستقل

غير علم الحجاز المرفوع الآن في الشام وملحقاتها، وتقرر هذا ولكن لم يتقرر شكل

العلم، ثم إن بعضهم قال في هذه الجلسة: إن الأمير فيصلاً لم يقل ذلك بحال،

وقال: إنه يسوء والده الملك جدًّا؛ ولكنه يقبل أن يوضع في العلم الحجازي علامة

إجبارية كصورة نجم في المثلث الأحمر، أو في غيره، واختلف الرأي في تبديله،

أو إبقائه مع علامة فيه. فتقرر الثاني بأغلبية ضعيفة هي واحد أو اثنين. اهـ.

(يوم الإثنين أول مارس قبل سفري إلى بيروت)

اجتمعنا بالإخوان ليلة الإثنين البارحة بدار الركابي (باشا) للمذاكرة في

المسائل التي تتعلق بالاستقلال أيضًا، وكان أهم ما ألقي فيها من البحث: هل يكون

للحكومة (شيخ إسلام) أو وزير للأمور الشرعية أم لا؟ وعلى الأول؛ هل يكون من

أعضاء مجلس الوكلاء أو الوزراء أم لا؟ فقال بعضهم بالسلب (أي: لا حاجة إلى

وزير ديني أو إسلامي) ! وبعضهم بالحاجة إلى رئيس ترجع إليه أمور المحاكم

الشرعية والأوقاف، ثم طلبوا مني بيان رأيي في الموضوع، فتكلمت من وجوه:

(1)

مكان العرب من الإسلام، وإمامة المسلمين الذين يقتبسون دينهم

ويعبدون ربهم بلغتنا، ويحجون إلى بلادنا ناسكين وزائرين.

(2)

كون هذا الأمر قوة أدبية وسياسية واقتصادية لنا لا يمكننا الاستفادة منه

إلا إذا كان لحكومتنا صفة إسلامية.

(3)

ما استفاده الترك من انتحالهم لمنصب الخلافة، وجعل دين حكومتهم

الإسلام من عطف مئات الملايين من مسلمي الأقطار عليهم، وانتصارهم لهم إلى

الآن، وكون هذا من أسباب بقاء ملكهم على اختلاله إلى اليوم [*] .

(4)

كون العرب في الجزيرة لا يمكن جمع كلمتهم، وتكوين وحدتهم إلا

بدعوة دينية - كما حققه ابن خلدون من قبل - ولا يمكن لسورية أن تبقى مملكة

مستقلة، إلا باتحادها مع غيرها من البلاد العربية المتصلة بها.

(5)

كون السواد الأعظم من العرب مسلمين يغارون على الإسلام اعتقادًا

وإيمانًا، فإذا جعلنا حكومة سورية مجردة من الصفة الإسلامية يوشك أن يقلبوها

بدعوة دينية في أول فرصة.

(6)

ما تقرر في علم أصول القوانين من كون القانون لا يكون صالحًا

للأمة، إلا إذا كان مراعى فيه عقائدها وعاداتها وتاريخها، وعلى هذا يجب أن

تكون الشريعة هي المستمد الأعظم للقوانين التي تحتاج إليها على فرض عدم تدين

حكومتنا بالإسلام، وعدها أئمة الفقه كعلماء القوانين، فإذن لا بد لنا من وزير

شرعي، ومن رجال آخرين من علماء الشرع لهذه الحكومة.

(7)

كون شريعتنا صالحة لهذه الزمان كغيره، وليس فيها ما ينافي المدنية

إذا لم تتقيد بمذهب الحنفية أو غيره، وذكرت أمثلة في ذلك وقواعد شرعية،

فاعتمدوا رأيي وقرروه. اهـ.

هذا ما كتبته من خلاصة تلك الجلسة الطويلة في ذلك الوقت القصير، وقت

السفر، ولكن ما تقرر بعد سفري لم يُبن عليه، ولم يمنع أن يقترح بعضهم أن

يكتب في نص قرار الاستقلال جعل الحكومة السورية لا دينية.

وقد ظهر بعد ذلك من العبر في المؤتمر نفسه ما قد نبينه عند سنوح الفرصة

له، وأغربه ما نجم من رؤوس الإلحاد والإباحة في أثناء المناقشة في القانون

الأساسي للدولة السورية.

هذا وإن ما كان من الجلسات الخاصة بيني وبين الملك فيصل بعد إعلان

الاستقلال قد انحصر في صباح يومي الجمعة والأحد؛ إذ لا تُعْقَد فيهما جلسات

المؤتمر، وقد نفذ ما كنا قررناه من إرسال وفد إلى ابن السعود بكتاب منه، وكتاب

مني، ثم تجددت أمور اختلف فيها رأيي مع رأيه، وسألخص ما أراه مفيدًا من ذلك.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) هذه المسألة يمكن كغيرها بسطها بمقال طويل يفند فيه خطأ متأخري الترك الذين ألغوا منصب الخلافة تقربًا إلى أوربة، وزعمهم أن الإسلام وخلافته لم تفدهم بل أضرتهم، وأن الحجة البالغة على هذا عدم ثورة العالم الإسلامي على الخلفاء في الحرب الأخيرة، فهذا جهل طالما بيناه في المنار ويمكن الزيادة فيه.

ص: 68

الكاتب: عن جريدة المقطم

‌حركة النازي اللادينية

وشجاعة الفاتيكان وصراحته

منقولة عن المقطم

الذي صدر بتاريخ 21 ذي القعدة سنة 1352 - 7 مارس 1934

لما شجر الخلاف في الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا، وكثر التحدث عندهم

بالكنيسة الألمانية الرسمية، أو النازية، وبالطائفة التي تُسمي نفسها بالألمانيين

المسيحيين، لم يدر الناس في الشرق كثيرًا ولا قليلاً عن هذا الخلاف في الكنيسة

البروتستانتية الألمانية، وظنوه خلافًا وطنيًّا عارضًا لا يلبث أن يسوى بينهم، وأنه

لا يمس جوهر المسيحية بشيء.

ولكننا ما لبثنا أن سمعنا باشتداد الخلاف، وبأنه خلاف على جوهر حتى

ذهبت الأكثرية المعارضة إلى مدى القول أن النازي يريدون أن يمزجوا جوهر

المسيحية بشوائب الوثنية. ولم نفهم المراد بالوثنية حتى أفهمنا إياه النازي أنفسهم؛ إذ

وكلوا إلى اثنين من أساطين كُتابهم - فيما يظهر - فكتبوا كتابين في جوهر هذا

التغيير الذي يُقَرِّب المسيحية من الوثنية، وأحد هذين الكاتبين اسمه روزنبرج،

واسم كتابه (خرافة القرن العشرين)

ونحن لم نر الكتاب، ولكن نقلت إلينا الأنباء نبذًا منه، وقيل لنا: إن النازي

سيتخذون هذين الكتابين قانونًا لإيمانهم الجديد، ينشرونه فيما بينهم ويُحَفِّظونه

أولادهم في المدارس، ويعلقون آياته على أبواب عملهم، وفي منازلهم، ويعصبون

بها رؤوسهم لو كانوا يلبسون عصابات.

وفي تلك النبذ التي قرأناها ما فهمنا منه أن النازي ينكرون المسيح قاعدة

المسيحية، ويحسبونه معلمًا دينيًّا إن كان إنجيله ملائمًا لعصره، فهو لا يلائم هذا

العصر؛ ذلك لأنه بَشَّر في ذلك الزمان بالسلام، والسلام لا يلائم فطرة الخلق، وقد

جرب كل التجارب في مدة ألفي السنة التي مرت، فما احتمل تلك التجارب؛ لأن

الناس المسالمين الودعاء لا يرضى الواحد منهم إذا لُطم على خده أن يحول الآخر

لضاربه، وإذا سئل ثوبه أن يعطي رداءه فوقه، وإذا سُخِّرَ ميلاً أن يمشي مع

مُسَخِّرِه ميلين.

لا يرضى الرجل الوديع المسالم ذلك، فما بالك بالألماني الشديد المراس في

معاملة الغريب السلس القياد في أيدي حكامه مهما يكن مبلغ استبدادهم به، وبنظام

الحكم والدستور والبرلمان في بلاده.

ألا ترى أن الألماني لا يغفر لأجنبي أقل هفوة يهفوها، ويعدها إيذاء لشعوره

القومي، وهو قد اغتفر للنازي حل البرلمان، وإلغاء الدستور، وإنشاء دكتاتورية

مطلقة، وليس الفرنسوي ولا الإنكليزي مثل ذلك؛ إذ لا يتصور أحد من الذين

يعرفون أخلاقهما وتربتيهما الدستورية أنهما يرضيان بانقلاب دستوري مثل الذي

رضيه الألماني.

إن الذين قالوا: إن النازي يريدون مزج المسيحية بالوثنية. قالوا شيئًا كثيرًا؛

فإن إنكار قاعدة المسيحية يعيد القوم إلى العصور السابقة لانتحالهم المسيحية، وقد

كانوا فيها يعبدون - مثلما كان العرب يعبدون في عصور الجاهلية - اللات والعزى

ومناة الأولى، فلينعموا بأصنامهم وأوثانهم.

وهذا الحنين إلى عهود الوثنية يبعد النازي عن أديان التوحيد الثلاثة، وهو

شذوذ لهم يختلف عن شذوذ إمبراطور ألمانيا السابق، فقد كان يعتقد أن الشعب

الألماني شعب الله الخاص، وأنه هو ملك هذا الشعب المختار بحق إلهي، ولعل

هذه الفكرة ورثها النازي عنه، وهي التي تجعلهم ينقمون من اليهود ما ينقمون.

وكاتب هذه السطور ليس كاثوليكيًّا؛ ولكنه يرى من العدل والإنصاف ألا

يترك هذه العجالة من غير أن ينوه بفضل الفاتيكان ويده على المسيحية في رد هذا

الكيد لها، فقد أبدى في هذا الحادث ما اشتهر عنه من الغيرة والسهر على الوزنات

الخمس التي عهد إليه فيها، فكان بينه وبين النازي مفاوضات على عقد

(كونكرداتو) يتقرر به موقف الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، فلما درى بحركة

النازي هذه، والتي هي في جوهرها لا دينية قطع المفاوضة، ولم يمنعه من ذلك

كون رئيس الوزراء ووكيلها كاثوليكيين؛ لأنه إن كان لا حياء في الدين، فهنا موضع

إبداء الشجاعة والجرأة، وعدم الحياء في المجاهرة بالضمير، وإن كانت المجادلة

والمداورة والمناورة تصلح أساسًا للسياسة؛ فإنها لا تصلح أساسًا للديانة، وكل من

يبني عليها فهو (يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل، فنزل المطر، وجاءت

الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت؛ فسقط وكان سقوطه عظيمًا)

وعندنا أن هذه الحركة النازية شقيقة البلشفية من الوجهة الدينية، وأنه إن

كانت ألمانيا قد سلمت من البلشفية السياسية، لم تَسْلَم من البلشفية الدينية، والفرق

بين البلاشفة والنازي، أن الأولين صريحون في مروقهم من الدين، وأن الثانين

يعملون من وراء ستار.

ومما يدل على أن النازي يريدون أن ينفوا عن الأذهان فكرة الله والألوهية

قولهم في القسم الذي أقسموه لزعيمهم منذ أيام: (أقسم لأدولف هتلر وللحق الأبدي)

فما هو هذا الحق الأبدي؟

وجاء في التلغرافات التي نشرت في الأسبوع الماضي أن قداسة البابا خطب

في جمع من كبار رجال الدين أمس بمناسبة العزم على تطويب ثلاثة من القديسين

فحمل على (العقائد الوثنية) الحديثة في ألمانيا، وقال: (إن حياة أولئك القديسين

كانت مثالاً باهرًا من المحبة المسيحية، وإنذارًا من مثل الحركة التي تريد العالم

على العود إلى الوثنية، والشعب الألماني النبيل هو الآن في مأزق من تاريخه،

والآراء والأعمال السائدة بينه ليست مسيحية ولا إنسانية، فإن الزهو القومي لا

ينتج إلا زهوًا بالحياة، وهو بعيد عن روح المسيحية والإنسانية معًا) .

...

...

...

... (ن. ش)

_________

ص: 73

الكاتب: عن مجلة الطان الفرنسية

‌المعارك الدينية في ألمانيا

بين طوائف البروتستانت

ترجمة كوكب الشرق عن الطان الفرنسية في 12 إبريل سنة 1934

لا تزال المعارك الدينية تزداد خطورة بين الطوائف التابعة للكنيسة الإنجيلية

في ألمانية.

وقد اجتمع السينودس الإنجيلي الحر، وهو مؤلف من رجال الدين، ومن

التابعين قبلاً لثلاثين سنودس من ثلاثة وثلاثين سنودسيًّا، أعني من المصلحين

واللوثريين وأعضاء الكنيسة المتحدة، وهم من اللوثريين والمصلحين الذين انضموا

معًا في عهد حكم فردريك الأول، ووافق السنودس المشار إليه على إصدار منشور

جاء فيه ما يلي:

إن الأسباب التي أحدثت الاضطراب الشديد في الكنيسة الإنجيلية الألمانية

ترجع إلى الحملات التي أثيرت ضد معتقدات هذه الكنيسة، ويقع القائمون بالأمر

فيها في أغلاط تنافي ما جاء في الإنجيل المقدس.

ولم تعد لمجالس القساوسة ورجال الدين والسنودس الوطني سلطة روحية منذ

انتخابها في صيف 1933، والروح التي تسيطر على هذه الهيئات الدينية وإرادتها

هي روح التدمير والهدم، حتى إن الأوامر التي صدرت في 4 يناير و 26 يناير

و3 فبراير سنة 1934 هي أوامر لا تتفق والعدالة ودستور رجال الدين.

ونحن نهيب إذًا بإخواننا وزملائنا من القساوسة ألا ينفذوا هذه الأوامر، ولا

يعملوا بها؛ لأنها ضد تعاليم الإنجيل المقدس، ونهيب بأبنائنا التابعين لنا

وبقساوستهم الذين عُزلوا من مناصبهم ظلمًا وعدوانًا ألا يأبهوا لهذه الأوامر، وأن

يحتفظوا بقساوستهم؛ لأن عصيان حكومة دينية تحكم بما يخالف كلام الله سبحانه

وتعالى يعد طاعة له جل جلاله.

وإذا علمنا أن الطاعة من القواعد الأساسية التي تتمسك بها الكنيسة البروسية

أدركنا أن هذه العبارات التي جاءت في المنشور هي عبارات تدل على الثورة

والعصيان والتمرد، ويُحْتَمَل أن الذين كتبوها يعتقدون بأنهم لا يشتغلون بالأمور

السياسية، ولا دخل لهم فيها، ولكن من المحال أن الحكومة الحالية في ألمانيا لا

تتهمهم بالوقوع في الخطأ، وتقف مكتوفة اليدين فلا تعمل بشدة ضد هذا القرار.

وقد وافق السنودس الحر على هذا المنشور، وكان مؤلفًا من 320 قسيسًا من

المصلحين ينتمون إلى 127 أبروشية، ووافق اتحاد كنائس المصلحين في ألمانيا

بإجماع الآراء على هذا المنشور في 5 يناير سنة 1934، وصرح الاتحاد في

الوقت ذاته بأن الذين ينضمون إلى جماعة المسيحيين الألمانيين يعدون خارجين

على اتحاد كنائس المصلحين وغير تابعين له.

وفي 21 فبراير أنشأت الحكومة مكتبًا لرجال الدين للنظر في الشئون

الخارجية، وعينت الأسقف تيودور هيكل لإدارته، ومن أعمال هذا المكتب توثيق

العلاقات مع البروتستانت في البلاد الأجنبية، ومع الكنائس التي تصادقهم، وكذلك

توثيق العلاقات بين كنيسة بلاد الريخ، ودعاة الحركة المسكونية.

ومما لا ريب فيه أن جميع هاته القرارات كانت سببًا للنزاع الذي قَسَم الكنيسة

الإنجيلية في ألمانيا على نفسها، وجعلها شطرين.

ولم تمض ستة أيام على إصدار ذلك المنشور الذي أشرنا إليه حتى فاه الأسقف

هيكل بتصريح قال فيه: (إن منشور السنودس الحر عمل رجعي لا يتفق مع مبادئ

حكومة الرخ الثالثة، بل ينافي النظام ويتحدى سلطة الكنيسة الألمانية، وإن

المسيحيين الألمانيين لم ينفصلوا عن اتحاد الكنائس في ألمانيا، إلا لموقفه ضد

المذهب الوطني الاشتراكي لا لاختلاف في العقائد، ولا يغرب عن الأذهان أن

القساوسة ورجال الدين قد أكدوا ولاءهم وإخلاصهم للحكومة الحالية، وأنهم لا دخل

لهم في الشئون السياسية، فكان منشورهم هذا الذي أصدروه موضع دهشة في

الدوائر الدينية) .

وفي أول مارس الماضي عين أسقف حكومة الرخ رجال دين لم يشتركوا في

المعارك الدينية الأخيرة، وفي 2 مارس تجددت الوسائل التي تقرر اتخاذها ضد

عمل البروتستانت، وإغرائهم الشبيبة الألمانية، فازدادت الحالة خطورة.

فانضمت إدارة كنيسة بروسيا وهي التي تعد أكبر إدارة كنسية في ألمانيا؛ إذ

يتبعها 18 مليونًا من الأنفس إلى كنيسة الرخ، وفي 25 يناير استدعى المستشار

هتلر، يعاونه الهر جويرنج، والهر فريك وزير الداخلية مندوبي الكنائس، وبعد

اجتماع المستشار بهم صدر تصريح بعد يومين جاء فيه أن جميع زعماء الكنيسة قد

تضمنوا وانضموا إلى الأسقف ملر ووعدوه بتأييد سلطته.

وفي 2 فبراير صرحت لجنة اتحاد المصلحين بأن التصريح الذي نشره

رؤساء الكنيسة بتضامنهم وانضمامهم إلى الأسقف ملر، ووعدهم بتأييد سلطته

يناقض ذلك التصريح الذي أذاعوه من قبل، وأرسلت اللجنة إلى زعماء الكنيسة

رسالة في 31 يناير قالت فيها:

(لقد اشتد تأثرنا، وحارت عقولنا في ذلك التصريح الذي أقدمتم على إذاعته

ولا يسعنا غير القول إنه يناقض أقوال الإنجيل المقدس، ولا يتفق مع تعاليم

الكنيسة) .

وبعد شهور قدم أسقف هامبورج استقالته من منصبه، واقتفى أثره جميع

رجال الدين في كنيسة هامبورج، وفازت حكومة الرخ ببغيتها وأصدر الأسقف ملر

أوامر بتعيين قساوسة آخرين، وعزل الذين لم يريدوا الخضوع له دون محاكمة أو

سؤال، وألغى استقلال كنيسة بروسيا وجعلها تابعة لكنيسة الرخ، وعدل دستور

الكنائس المتحدة ، وأبطل حق السنودس العام في التشريع، وسن القوانين لمجامع

السنودس الفرعية في الأقاليم، وقد أصبحت حكومة الرخ قابضة على ناصية الحالة

الآن، أما المستقل ففي يد الله وحده) اهـ

(المنار) نشرنا هذه المقالة وما قبلها لأجل الرجوع إليها من أطوار هذا

الانقلاب الديني في هذا الشعب الجرماني، الذي هو أرقى شعوب أوربة، بل العالم

البشري كله في جميع العلوم الكونية وفنون الحضارة، فحكومته تحاول التفلت

والتفصي من هذه الديانة الملفقة المخالفة حقائق العلوم، وبدائه العقول على إحكام

عقلها، وشدة قيودها، ونظم كنائسها، وسعة ثروتها، وعصبية أساقفتها وقسوسها،

ونفوذهم المعنوي في الشعب، ولكن نفوذ حكومته النازية الجديدة أقوى وأعظم،

وقد سبقه مصطفى كمال فأطلق حكومته التركية دون الشعب من قيود الإسلام في

مرحلتين أو ثلاث، ولم يلق معارضة شديدة، والترك أعرق في التدين من الألمان؛

ولكنه ليس لهم نظام ديني إلا عند الخرافيين من رجال طرق المولوية وأمثالهم،

وسبقهما الشيوعيون فهدموا جميع الأديان من روسية كلها حكومتها وشعوبها.

_________

ص: 76

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نتيجة حرب الجزيرة

وما تجب مراعاته في الصلح

لقد تجلت نتيجة الحرب بسرعة لم يكن أحد ينتظرها، على اختلاف الآراء

فيها فقد انهزمت الجيوش اليمانية أمام الجيش النجدي السعودي في كل من الميدانين

الذي يقوده فيهما نجلا الملك: الأمير سعود ولي العهد في جهة نجران التي احتلها

كلها، والأمير فيصل في تهامة فاحتل الحُدَيْدَة وما حولها، ودان له بقية أهلها،

وأمسى الأميران يهددان عاصمة اليمن (صنعاء) من طرفيها.

ثبت عندنا في هذه الحرب أمور متعارضة، أظهرها أن ضلع الرأي العام

الإسلامي العام مع الملك السعودي، وأنه لم تبث له دعاية رسمية، ولا غير رسمية

لا بتكبير قوته، ولا بإطراء فوزه، ولا بالدفاع عنه؛ ولكن أحد محرري الصحف

زعم أن حكومته هي التي أتقنت هذه الدعاية بجميع وسائلها دون خصمه، وما زال

يكرر هذا حتى صدقه غيره وهو لم يصدق نفسه، وصار من القضايا المسلمات.

وأما الإمام يحيى فقد بثت له دعاية واسعة بدون سعيه، منها أن قوته الحربية

أعظم عددًا وعدة، وبأسًا ونظامًا، وقوادًا ومالاً، وأن قبائل الحجاز وقبائل شمر في

نجد والعراق وقبائل شرق الأردن ستثور على خصمه الملك ابن سعود بله قبائل

عسير الثائرة بالفعل، حتى إذا ما دارت المعارك، وانهزم الجيش اليماني في كل

ميدان صاروا يكذبون أنباءها، ويعدونها من الدعاية التي صارت مسلمة عندهم

وعند غيرهم، وما زالوا بالإمام على جلالة قدره حتى أنزلوه إلى ميدان تكذيب

الحسيات المجمع عليها، وأخيرًا فسروها بما فسرها هو به، وهو حب السلم

وكراهة الحرب، فإذا سلمنا هذا وجب أن يبنى عليه الصلح الدائم، فتجعل قوة

الدفاع عن الجزيرة إلى المملكة السعودية القوية الحربية، فهل يقبل الاعتراف بهذه

النتيجة لتلك المقدمات المنطقية؟

حقًّا إن الإمام يحيى قد جنح للسلم، وإنه قد آن له أن يقبل ما طالما دعي إليه

من إبرام العهد، وإن أدنى الدرجات لذلك ألا يعقد الصلح على دخن، ولا تتخذ

المعاهدة دخلاً بين الفريقين، فتكون هدنة يستعد بها كل منهما لإعادة الكرة والأخذ

بالثأر، في وقت ربما تكون الحرب وبالاً عليهما وعلى الأمة كلها، بل يجب

استئصال جذور العداوة من أعماقها، ويجب أن يتدبر وفد الصلح الآيات الآتية،

ويقيموا بناء الصلح وحصن المعاهدة على أساسها.

وهي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ

تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي

نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى

مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَاءَ

اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ

تَعْمَلُونَ * وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا

صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 91-94)

بل أصرح بأن شر ما تنتهي به هذه الحرب أن يكون كل من الفريقين كفؤًا

للآخر، قادرًا على استئنافها عند سنوح الفرصة، ففي هذه الحالة تجعل الدسائس

الأجنبية كلاًّ منهما خصمًا للآخر تهدده بإمداده وتأليبه بالمساعدة عليه عند الحاجة،

وإن من شرار المسلمين لَمَنْ هم شر من الأجانب، وقد كان كل البلاء في هذه الفتنة

منهم، فكل من أظهر الميل والانتصار للإمام يحيى فيها سرًّا أو جهرًا كان شرًّا له

من كل من ظن أنهم عدو له، ولم يكن أحد منهم مخلصًا له، وإنما كانوا يتبعون

أهواءهم.

وأما الدرجة العليا للملة الإسلامية والأمة العربية، فهي أن تكون لجزيرة

العرب حكومة واحدة، بل للأمة العربية كلها إذا أمكن، فهذه سياسة الشرع

ومقتضى العقل وتجارب الأمم، فإن لم يمكن خضوعها أو إخضاعها لحكومة واحدة

من غير فتنة ترجح فيها المفسدة على المصلحة، فالواجب أن يكون التعدد في

الصورة والشكل مع الوحدة في السياسة والقصد، كالمعروف في الوحدات الغربية

كلها، وسويسرة والولايات المتحدة في شمال أمريكة.

وأما اختلاف الحكومات في تكافؤ القوى، ومحاولة منع العدوان بينها

بالتوازن، فهو مثار كل شقاق وشقاء كما نراه في دول أوربة، فعسى أن يوفق وفد

الصلح بين الإمامين لسد ذرائع الفساد، وإحكام بناء الصلاح والاتحاد، هداهم الله

سبيل الرشاد.

_________

ص: 79

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

أسئلة في طبع مصحف شريف بالرسم العرفي والترقيم الحديث

(س4) من صاحب الإمضاء في الزقازيق

حضرة صاحب الفضيلة صاحب مجلة المنار الغراء، الأمل إفادتنا عن رأيكم

فيما يأتي: هل هناك مانع شرعًا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية:

(1)

أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف، وفروعه، وجميع

معاهد العلم بالديار المصرية، وبغيرها من البلاد العربية، وغير العربية.

(2)

أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات، بدلاً من وضعها فوق

الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته،

وكثير ما هم.

(3)

أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد بمعرفة

لجنة من كبار العلماء، وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من

عامة الناس وخاصتهم، ومنعهم من الخطأ في التلاوة بسبب تعقيد الكتابة طبقًا

لقواعد مضى عليها كثير القرون، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال

ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم، وذلك تنفيذًا

لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) .

هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة.

ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة، ولكم الشكر من المخلص.

...

...

...

...

محمود عفيفي

...

...

...

...

المحامي بالزقازيق

(ج) من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف

الشريف (أي: رسمه) سماعي توقيفي يجب فيه اتباع الكِتبة الأولى (بالكسر: أي

هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم، ونشروها بالمصاحف

الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ولهذا الاتباع فوائد ودلائل

مبسوطة في محلها، أولها: أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته

ولهجاته ورسم خطه، وإنه بهذا كله حُفِظَ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان

حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم، ودوّن عددها في الكتب، ومن فروع ذلك أن

لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابًا تتعلق بقراءته، ويدخل في هذا ترك

نقطه، وشرح ذلك كله يطول.

وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية والحفظ

من الألواح التي يكتبونها، ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها ليكتبوا غيره فيها، ثم رأوا

أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ؛ فاستحدثوا

النقط لمنع ذلك، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط، ثم وضعوا

علامات الوقف للحاجة إليها، وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطًا بالفهم،

وما كل قارئ يفهم، وجعلوا لهذه العلامات أشكالاً بحسب درجاتها، ثم وضعوا

لضبط التلاوة وتجويدها فنًّا، وللوقف والابتداء فنًّا، أفردوا كلاًّ منهما بالتدوين،

وجروا عليهما في التلقين، وفي كتابة المصاحف، فالغرض من كل هذه

المستحدثات ضبط تلاوة القرآن، واتقاء الخطأ فيها.

ولكن لا يزال فيه كلم كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة

حروف ونقص أخرى، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد

وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين، فكثر الخطأ في القراءة، وفي الوقف

والابتداء، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف

وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة إلى التلقين، فاستغني بها عن علامات

الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم

فهم الجمهور لها، ولاستغناء الحفاظ عنها؛ ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون

بالقرآن أنها منه ككلمتي صلي وقلي، فإنني أستنكر وضعها في المصاحف أشد

الاستنكار.

ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بتفسير

المنار على التزام رسم المصحف الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع

علامات الترقيم العصرية، ثم رسم الآيات في أثناء تفسيرها بالرسم العرفي الذي

يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها، وأخالف الطريقة المتبعة في

وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة، فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما

كانت ألفًا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في

بنائه للمعلوم والمجهول.

فعُلم بهذا أنني لا أرى مانعًا شرعًا يمنع مما سأل عنه السائل، بل أرى أنه

واجب؛ ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن، فإن الخط والطبع

صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداءً صحيحًا، وتصحيح أداء القرآن واجب شرعًا،

وتحريفه بالنطق محرم شرعًا، وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم

على كتابة القرآن بالرسم العرفي، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه

به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخلفاء الراشدين لكثرة المصاحف فيه،

بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها

الجمهور منذ قرون لم أقف على تاريخها، وهذا ليس بحجة؛ وإنما الحجة وجوب

صيانة القرآن من الخطأ في قراءته، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر

الجمع بينهما، ولا تعذر.

وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة، مناسب لحاجة العصر

فهو واجب لا معارض له، وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي

المصحف، وهو تفسير دقيق وجيز وُضِع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر

التفاسير، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخلٍ قلما يستفيد منه الدهماء، وقد

تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات الفنية والعلمية في تفسير المنار، ولكنه

مطول، وقد كثر اقتراح الناس عليَّ أن أختصره أو أكتب تفسيرًا مختصرًا،

فشرعت وعلى الله توكلت.

***

أسئلة في أهل السنة

(س5-8) من صاحب الإمضاء من علماء الشيعة في جبل عامل (سورية)

حضرة الأستاذ العلامة الجليل السيد رشيد رضا وفقه الله لما يرضيه آمين.

سلام عليك ورحمة الله وبركاته، إنني أرجو من واسع فضلك، وزخار علمك

أن تذكر لنا في مجلتك الغراء رأيك في الجواب عن هذه المسائل مع ذكر الدليل.

1-

ما تعريف الحديث الصحيح الذي تثبت به الحجة، وينقطع العذر عند

علماء السنة؟

2-

ما تعريف الصحابي؟

3-

هل الصحابة كلهم عدول أم لا؟

4-

ما العدالة عند علماء السنة؟

وبالختام أسأل الله سبحانه لك حسن الختام، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

...

صاحب الكلمات

...

...

...

...

... عبد الحسين نور الدين

(جواب المنار)

(5)

الحديث الصحيح:

الحديث الصحيح عندهم ما كان متصل الإسناد من أوله إلى آخره بنقل العدل

الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة.

(6)

العدالة في الرواية والشهادة:

العدالة مَلَكَة تحمل صاحبها على التقوى بأداء الواجبات، واجتناب كبائر

المعاصي، وصغائر الخسة، وزاد بعضهم الرذائل المخلة بالمروءة.

(7)

الصحابي في عرف المحدثين:

الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، واشترط بعضهم

طول الاجتماع به، والرواية عنه، وبعضهم أحدهما، وقال بعضهم: هم كغيرهم من

الناس.

(8)

عدالة الصحابة عندهم:

أكثر أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول في الرواية، وقال بعضهم:

إنما كانت العدالة عامة قبل حدوث الفتن من قتل عثمان رضي الله عنه وما بعده،

واستثنى بعضهم من قاتل عليًّا كرم الله وجهه.

والذي أراه أن القول بعدالة جميع الصحابة على اصطلاح من لا يشترط في

الصحبة طول العشرة، وتلقي العلم والتربية النبوية إفراط يقابله في الطرف المقابل

له تفريط الشيعة في تعديل نفر قليل منهم ولا سيما السائل، وطعنه على السواد

الأعظم من جماعة نزل فيهم قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل

عمران: 110) الآية، وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ

وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة:

100) وغير ذلك من الآيات، وورد من الأحاديث النبوية في تعديلهم والثناء

عليهم، والنهي عن سبهم، وحظر بعضهم ما لا محل لذكر شيء منه في هذا

الجواب الوجيز

ثم كان من سيرتهم المتواترة في نشر الإسلام في العالم، وإصلاح البشر به ما

هو أكبر حجة علمية تاريخية على تفضيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على

جميع أصحاب الأنبياء والمرسلين، وتفضيل أمته على جميع الأمم، وهذا لا يمنع

ارتكاب أفراد منهم لبعض الكبائر أو الإصرار على بعض الصغائر، الذي يسلب

صاحبه وصف العدالة، ولا يقول منصف أن مثل بشر بن أرطاة الذي رأى النبي

طفلاً عدل أو مجتهد متأول فيما فعله من استباحة دماء من كانوا خيرًا منه، وهذا لا

يبيح هتك حرمة أولئك الأخيار في جملتهم، كما فعل الأستاذ السائل في كتابه

الكلمات الذي يُعَرِّف به نفسه حتى في إمضائه، والظاهر أنه يريد فتح باب هذه

الفتنة بهذه الأسئلة الآن، كما طرقه منذ سنتين باقتراح المناظرة التي لم ينسها قراء

المنار، وأنه بناها على زعمه أن كلاًّ من أهل السنة والشيعة يعتقد في الآخر أنه

غير متبع سبيل المؤمنين! !

فأقسم عليك يا عبد الحسين بالله عز وجل، وبحق رسوله الأعظم صلى الله

عليه وسلم وآله عليهم السلام عليك من الاتباع والأسوة الحسنة، أن تكف عن إثارة

الشقاق بين عباد الله من هذه الأمة، فكفاها ما هي مبتلاة به من مهاجمة المستعمرين

والملحدين لها في دينها ودنياها، وأسال الله تعالى لي ولك التوفيق لجمع الكلمة على

ما أجمع عليه سلفها في خير عصورها، وجعل مسائل الخلاف مما يعذر فيه العلماء

بعضهم بعضًا بالاجتهاد، وأن يجعل خير أعمالنا كلها خواتيمها، وخير أيامنا يوم

لقائه، وما كان ينبغي لك أن تدعو لي وحدي بحسن الخاتمة، كأنك مستغنٍ عن

الدعاء بها لنفسك، والسلام على من اتبع الهدى.

***

أسئلة عن بدع طالما كُرِّرت

بسم الله الرحمن الرحيم

(س 9 - 13) من محمد محمد فاضل إلى السيد محمد رشيد رضا،

حفظه الله للإسلام والمسلمين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد)

فنعرض على فضيلتكم ما يأتي لتفتونا فيه بالحق الذي تودون أن يدين الله به

المسلمون.

(1)

ما حكم صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة إذا تعددت المساجد؟ وهل هي

واجبة أو سنة أو مستحبة؟ وهل قولهم (الجمعة لمن سبق) حديث صحيح يجب

على المسلمين العمل به؟

(2)

ما حكم صلاة ركعتين بنية سنة الجمعة القبلية؟ وهل فعلها النبي

صلى الله عليه وسلم أو أمر بها؟ وهل يقال في فعل لم يفعله النبي صلى الله عليه

وسلم ولا أمر به أنه سنة؟ وعلام يعتمد من يقول ذلك؟

(3)

ما حكم الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان

جهرًا بالكيفية المعروفة؟ وهل هي سنة أم بدعة؟ ومن أول مَنْ أحدثها من المسلمين؟

(4)

ما حكم الذكر برفع الصوت في تشييع الجنازة؟ وهل هو سنة أم بدعة؟

(5)

ما حكم قراءة سورة الكهف برفع الصوت في المساجد يوم الجمعة

بالكيفية المعروفة؟

وأملنا في فضيلة السيد أن يبين لنا الحق في هذه المسائل بما آتاه الله من العلم

النافع، والاطلاع الواسع، هدى الله بكم المسلمين للحق آمين.

...

...

...

...

محمد محمد فاضل

(المنار)

سبق لنا بيان هذه المسائل مرارًا تارة بالتطويل، وتارة بالاختصار، والسائل

يعلم هذا، وإنما أعاد السؤال؛ لأنه يريد إقناع بعض المخالفين في هذه الأيام، فنعيد

الجواب عن كل منها.

(9)

صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة:

الذي أعتقده أن ما يفعله من يسمون أنفسهم شافعية من صلاة الجمعة في

مساجد الأمصار، وإتباعها فيها بصلاة الظهر يقيمونها جماعة بعدها زاعمين أن الله

أوجب عليهم في هذا اليوم فريضتين في وقت واحد - هو بدعة - وقولهم: الجمعة

لمن سبق. ليس بحديث نبوي يجب العمل به؛ وإنما هو عبارة اجتهادية من فقه

الشافعية مبنية على عدم جواز تعدد الجمعة إذا أمكن التجميع في مسجد واحد، فإن

خالفوا وعددوا صحت جمعة من سبق منهم، وكانت جمعة الآخرين باطلة، فإن

جهل السابق وجب على جميع المسلمين صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، وهذا ما

يفعلونه الآن في جميع مساجد مصر وغيرها، معتقدين أن هذا مذهب الإمام الشافعي

رحمه الله، وأن الواجب على كل من يوصف بأنه شافعي أن يفعله، وإلا كان

عاصيًا لله تعالى، وإن هذا لحواب كبير لو كان الشافعي حيًّا لأنكره وتبرأ منه،

وإن كان يعتقد أن التجميع في مسجد واحد واجب، فهذا الاعتقاد لا يستلزم ما ذُكِرَ.

وفي هذه المسألة مباحث اجتهادية (منها) أنه لا يقوم دليل شرعي على أن

التجميع في مسجد واحد شرط لصحة الجمعة، قل الناس أو كثروا، وإن عسر ذلك

عليهم بأن كانوا في مدينة كالقاهرة يزيد أهلها على ألف ألف نسمة ومساحتها عدة

أميال، وأما تجميع المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم معه فقد كان

واجبًا قطعًا، بحيث تعد جمعة من خالفه باطلة من أصلها لا يجوز الشروع فيها

مطلقًا، فقد كانت جمعته صلى الله عليه وسلم بمن معه هي الصحيحة وحدها، وإن

فرضنا أنها تأخرت، وكذلك حكم التجميع مع خلفائه وغيرهم من أئمة المسلمين،

فإذا جمع الإمام بالمسلمين في مسجد واحد لإمكان ذلك بدون عسر ولا مشقة شديدة،

وجب اتباعه والتجميع معه، وحرم مخالفته بالتجميع في مسجد آخر بدون إذنه؛

لأنه شقاق بين المسلمين ومعصية للإمام الواجب اتباعه في الطاعة.

وأما إذا كبرت الأمصار، وأذن الأئمة بتعدد المساجد، وتعدد التجميع فيها فلا

يُعَدّ المعددون مشاقين، ولا مفرقين بين المسلمين، ولا عاصين لأئمتهم، بل متبعين

لهم في مسألة اجتهادية تجب طاعتهم فيها؛ إذ لا دليل قطعيًّا على أن التجميع في

مسجد واحد فرض مطلوب لذاته، وأنه شرط لانعقاد صلاة الجمعة، والشرط أخص

من الواجب المطلق، فلا يثبت إلا بدليل خاص.

(ومنها) أن اليسر في الدين ورفع الحرج منه قاعدتان أساسيتان من قواعده

ثابتتان بنص القرآن القطعي، فلا مجال فيها لاجتهاد أحد، وهي تقتضي وجوب

تعدد الجمعة لا جوازه فقط، ومن المأثور عن الإمام الشافعي قوله بناء على هذه

القاعدة: (إذا ضاق الأمر اتسع)

(ومنها) أن من شروط صحة الصلاة صحة النية، ومن شروطها الجزم

بالمنوي، فمن كان يشك في صحة جمعته لا تنعقد بإحرامه بها، ويكون عاصيًا لله

تعالى بشروعه فيها؛ لأنها عبادة فاسدة، فإن قيل: إن الأصل عند أهل كل مسجد من

مساجد الجمعة أن جمعتهم صحيحة لعدم علمهم بسبق أحد لهم في جمعتهم؛ وإنما

تجب صلاة الظهر بعدها احتياطًا لاحتمال سبق غيرهم لهم. قلنا: إن احتمال سبق

غيرهم كافٍ في حصول الشك المبطل لصحة النية، وقد يرتقي في بعض المساجد

إلى الظن الراجح لأهلها بسبق غيرهم، فقد علم بالاختبار والتجارب أن بعض أئمة

الجمعة يطيلون الخطبة، وبعضهم يقصرونها حتى إن أهل هذه ينصرفون من

صلاتهم، ويمرون بالأخرى؛ فيرون أنهم لم يشرعوا فيها بالصلاة أو لم ينتهوا منها،

ومن المصلين من يتحرى هذه، ومنهم من يتحرى تلك.

(ومنها) أن من علم أنه يمكنه السبق والحال ما ذكر وجب عليه، وذلك بأن

يؤذن المؤذن عند الزوال بدون تطويل، ويلقي الإمام خطبة مختصرة يقتصر فيها

على الأركان الواجبة من حمد الله تعالى، والشهادتين، والأمر بالتقوى وقراءة آية

أو آيتين كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (الأحزاب: 70) وما بعدها، والدعاء للمؤمنين في الثانية بالمغفرة، ثم يصلي

فيقرأ في الركعة الأولى سورة العصر أو الكوثر، وفي الثانية الإخلاص، ولم يقل

أحد بوجوب مثل هذا ولا فعله أحد.

(ومنها) أن الاحتياط في مسألة اجتهادية كهذه لا يصح أن يكون بإيجاب

الجمع بين فريضتين من شعائر الإسلام جهرًا في المساجد بصفة دائمة، فإن مثل

هذا لا يثبت في الدين إلا بنص قطعي الرواية والدلالة لا يصح فيه الخلاف

بالاجتهاد، والمعروف عن جمهور من يسمون أنفسهم شافعية أنهم يعتقدون أن الله

تعالى فرض عليهم يوم الجمعة في هذه الأمصار المتعددة المساجد أن يصلوا فيها

فريضتين كل منهما صحيحة؛ لأنهم شافعية، أخشى أن يكون هذا من الافتراء على

الله والقول عليه بغير علم؛ فإن المسائل الاجتهادية لا تسمى علمًا بإجماع المجتهدين.

(ومنها) أن هؤلاء الذين يدعون التعبد بمذهب الإمام الشافعي قلما يوجد في

دارسي كتب هذا المذهب منهم من يعرفه، وإنما هم عوام، والعامي لا مذهب له،

وهم كغيرهم قلما يحفظون من فروع المذاهب إلا ما فيه الخلاف بينهم وتفريق

كلمتهم، ولا شيء أضر على المسلمين بعد الكفر من الشقاق والتفرق، ولو كانت

لهم دولة إسلامية لأزالت هذا الشقاق بما يجمع الكلمة، ولو في الشعائر الظاهرة فقط،

وأرى أن إزالة هذا التفرق ممكن بسرعة إذا اقتنع به جمهور علماء الشافعية،

على أنه سيزول بانتشار أنصار السنة والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة،

وهم فاعلون إن شاء الله تعالى.

(10)

دعوى سنة جمعة قبلية:

لم يرو أحد من المحدثين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين

قبل الجمعة، ولا أنه أمر بذلك بهذه الصفة؛ وإنما صح أنه أمر من دخل المسجد

وجلس وهو يخطب أن يقوم فيصلي ركعتين، وهما تحية المسجد المستحبة لكل من

يدخله قبل أن يجلس فيه، وقد بينا من قبل أنه لا يقوم دليل على سنية راتبة قبل

صلاة الجمعة وبعد الأذان لها، وأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان

يخرج من بيته إلى صلاة الجمعة، فيبتدر المنبر، فيؤذن المؤذن، فيقوم صلى الله

عليه وسلم، فيخطب خطبتيه، فينزل، فيصلي.

وحكم صلاة الركعتين المسئول عنهما أنها صحيحة؛ وإنما الغلط فيها تسمتيها

سنة راتبة مأثورة، وهذا يزول بالعلم، فمن علم معنى السنة حتى في عُرف

المذاهب التي يقول مقلدوها بهذه الراتبة، وعلم أنه لم يصح فيهما ما يسوغ لهم أن

يسموها سنة ترك ذلك، إلا إن يقول له علماء المذاهب المقلدون عنه: إنه ثبت عند

أئمتنا أنها سنة، وصدقهم بغير استبانة.

(11)

زيادة بعض المؤذنين في بعض الأمصار:

هذه الصلاة والسلام في آخر الآذان بدعة في شعيرة من شعائر الإسلام بيَّنا

تاريخ حدوثها، واسم الجاهل الفاسق الذي أحدثها، وجهل من استحسنها من أنصار

البدعة، وأعداء السنة في الفتاوى، ثم في مقال طويل فندنا فيه شبهات الشيخ

يوسف الدجوي فيها؛ لأنه نشرها في مجلة الأزهر الرسمية، وقد نشر مقالنا في

الرد عليها في بعض الجرائد اليومية، واقتنع به الناس، وفيه أن أول من ابتدعها

محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي بعد سنة 760.

(12)

قراءة سورة الكهف يوم الجمعة في المسجد:

أهل بلدنا (القلمون) كلهم شافعية، وقلما يوجد في الدنيا بلد يقام مذهب

الشافعي في مسجده كبلدنا، ولعلي لا أذكر أنني صليت فجر الجمعة فيه إلا والإمام

يقرأ فيه سورتي: الم السجدة والإنسان، ولما اشتغلت بطلب العلم في مدينتنا

(طرابلس الشام) رأيت الحنفية يقولون: إن المواظبة على قراءة هاتين السورتين في

فجر الجمعة مكروهة، وعللوا هذا بأن فيه هجرًا للقرآن، فرأيته من أنكر ما يردون

فيه السنة الصحيحة بالرأي، وبعد عشرات السنين طبعت كتاب الاعتصام للإمام

الشاطبي فرأيت فيه أن بعض السلف كانوا يتركون بعض السنن أحيانًا؛ لئلا يعتقد

العوام فرضيتها إذا التزمت، وإن بعض العوام في الأندلس وقعوا في هذا حتى قال

بعضهم: إن فرض الصبح في يوم الجمعة ثلاث ركعات، فظهر لي أن للحنفية وجهًا

في الجملة، ولكن لا ينبغي أن يدخلوا السنة الصحيحة في حكم المكروه شرعًا،

وإنما يقال: يحسن أن يُقرأ في فجر الجمعة في بعض الأيام غير هاتين السورتين،

لئلا يظن بعض العامة فرضيتهما.

ثم رأيت هذا المحقق قسم البدعة إلى حقيقية وإضافية، وعرَّف الإضافية بأنها

الإتيان بعمل مشروع في أصله بصورة غير مشروعة من التزام زمان أو مكان أو

صفة أو اجتماع، بحيث يعتقد العوام أن هذا القيد الملتزم مطلوب شرعًا، قال: ومنه

اجتماع المصلين عقب الصلاة، وقراءتهم للأذكار المشروعة برفع الصوت

إلخ

وقراءة الكهف في يوم الجمعة في المسجد من هذا القبيل، هو في أصله قراءة

مشروعة؛ ولكن التزام قراءته في المسجد برفع الصوت قبل صلاة الجمعة غير

مشروع، وورد حديث ضعيف في قراءتها يوم الجمعة رواه الحاكم، والبيهقي عن

ابن مسعود بلفظ (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين

السماء والأرض) وله عند الثاني لفظ آخر بقراءتها ليلة الجمعة، وبإضاءة النور له

ما بينه وبين البيت العتيق وحسَّنه السيوطي.

دع ما في قراءتها في المسجد برفع الصوت، والناس يصلون تحية المسجد

وغيرها من فائتة ونافلة من التشويش المنهي عنه، وقد فصلت هذا من قبل تفصيلاً

***

نصيحة لدعاة السنة

وإنني أوصي نفسي وإخواني محبي السنة، ومنكري البدع أن يسلكوا طريق

اللين واللطف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أمثال هذه المسائل التي

يقلد فيها الجمهور علماءهم ظانين أنها من بقايا الدين، واتباع السلف الصالحين،

ومذاهب الأئمة المجتهدين؛ فإن الغلظة في الأمر والنهي تزيد المقلد جمودًا على

التقليد، فلا يصغي سمعه إلى قول محمد فاضل، ولا قول مفتيه محمد رشيد، ولا

يغرنهم أنهم على حق، وأنهم يأمرون وينهون على علم، وليذكروا قول الله تعالى

لمن شهد له بالخلق العظيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ

القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) الآية،

وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (يسروا ولا تعسروا) متفق عليه.

بهذه الآداب الإلهية تنتصرون أيها الإخوان على أعداء السنة وأنصار البدع

من بقايا المتفقهة الجامدين، وشيوخ الطرائق المرتزقين، وسدنة الأضرحة

الخرافيين، ولا يفوتكم أن تُذَكِّروا العامة بأنهم لا يفتونهم بالبدع، ويتأولونها لهم إلا

لأجل أكل أموالهم بالباطل، وأنكم تدعونهم إلى الكتاب والسنة لوجه الله وابتغاء

مرضاته، وأن حجتكم اتباع خير القرون بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم

وإجماع المسلمين، وهي الحجة العملية التي لا تحتمل التحريف والتأويل {وَاللَّهُ

يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

_________

ص: 114

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحرب في جزيرة العرب

إطفاء نارها، وفوائدها وغايتها

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ

وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) .

ظهرت أمارات الحرب بين الدولتين الإسلاميتين العربيتين، فساور العالم

الإسلامي الروع مما يخشاه من سوء عاقبتها، وكتبنا في ذلك مقالنا الأول الذي

عنوانه الحديث النبوي (ويل للعرب، من شر قد اقترب، أفلح مَن كف يده)

ونشرناه في بعض الصحف اليومية بغير إمضائنا، ثم في المنار، واتصلت المكاتبة

في موضوع شر الحرب المقترب بين الكاتب والإمامين فكان جواب كل منهما أنه لا

يريد الحرب، ولن يكون هو المضرم لنارها باختياره، وكان كل منهما يكتب واثقًا

من نفسه بما يقول عنها راجيًا أن يكون أخوه مثله، بيد أنه كان من المشكوك فيه

أن يكون أمر الإمام يحيى بيده، كما أن أمر الإمام عبد العزيز بيده؛ إذ كان يُقال

ويُكتب ويُنشر أن قوة اليمن الحربية بيد ولي عهد الإمام وقائدها العام، الأمير أحمد

سيف الإسلام، وأنه مخالف لوالده في الرأي، وأنه حربي بالطبع، وأنه كان هو

المعتدي على جبل العرو من قبل وعلى نجران من بعد، وأنه هو المحرض لآل

الإدريسي على الانتقاض على الملك عبد العزيز في الثورتين السابقة واللاحقة،

وأنه هو المؤوي للمفسدين من أعضاء الحزب الحجازي، ومحل الرجاء للمفسدين

في القطر المصري، وأنه هو المتصل بالدساسين من أصحاب الطمع الأجنبي،

ولولا ذلك لم يُسَيِّر صاحب المملكة العربية السعودية الجيش في إثر الجيش إلى

حدود المملكة الشرقية والغربية.

أما والجيوش قد حُشرت، والمفاوضات البرقية بين الإمامين قد عُطلت،

والنُذر قد تواترت، والقسي قد أوترت، وأعصاب الأوتار (الثارات) قد وترت،

فالحرب قد وقعت، وكان وقوعها أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. وكان سببه الباطن دم

فاسد في بنية الأمة العربية هو علة مرضها، والمانع من اتفاقها واتحادها، ولا

شقاء لها إلا بخروجه منها، وإنما كان يُخشى أن يخرج معه دم حياتها، باعتداء

الأجانب على استقلالها، ونقص أرضها من أطرافها.

كنت أخشى من شر اشتعال الحرب خطرًا واحدًا، هو التدخل الأوربي

باحتلال جيش إيطالية لثغور تهامة اليمن، وإحداث إنكلترة لحدث شر منه لحفظ

الموازنة، وهو الاستيلاء النهائي باسم شرق الأردن على خليج العقبة، فلما أعلن

كل من الدولتين الحياد اعتقدت أن ما كنا نكرهه من هذا القتال، هو مصداق لقول

الله تعالى الذي جعلته عنوانًا لهذا المقال، وأنه لا خير في منعه إلا بعد خروج الدم

الفاسد الذي هاج فأحدثه، وإمكان جعل جزيرة العرب في حالة استقرار ثابتة، كما

أشرت إلى هذا في مقالاتي السابقة.

الإمامان مسلمان تقيان شديدا الحذر من الطمع الأجنبي؛ ولكن بين شعبيهما

خلافًا في المذاهب: هؤلاء سنية سلفية، وهؤلاء شيعة زيدية اعتزالية، بل يقال

إن أكثرهم جارودية غالية، لا كما نعرف في الكتب عن الزيدية المعتدلة، وبين

حكومتيهما خلافًا في السياسة والحدود الدولية في العسير، ونجران. هؤلاء

يقولون: إن كلاًّ منهما يمانية لحمًا ودمًا، ويؤيدهم الإمام نفسه، وما كان يماطل

ويماحل في عقد المحالفة إلا لأجله، وهؤلاء يقولون: إنها سعودية في الحق الواقع

والتاريخ الحديث، وزد على ذلك أن الإمام يحيى يقول ويكتب وينشر أن كل بيت

في اليمن يحمل ثأرًا دمويًّا على الدولة السعودية يطالبه بالإذن له بأخذه بالقوة

الحربية، وقد بدأ اليمانيون بالاعتداء المرة بعد المرة، وكل من الفريقين يعتقد أنه

أقوى من الآخر، وقد أعقب ذلك كله أن زحفت الزحوف، وتقابلت الصفوف،

وبدأت المعارك بالفعل، والمفسدون ينفثون فيها؛ فيزيدونها ضرامًا، أفيعقل كفها

بدعوة محبي الصلح، وأن يكون عقده على دخل ودغل، وعلم بما هنالك من غل

وسخيمة، خيرًا للعرب، ولجزيرتهم، ولجامعتهم الإسلامية والعربية؟ لا لا.

كلا، إن صلحًا كهذا إن أمكن، ووقع كان هدنة مؤقتة يخشى أن ينقض في

وقت يكون فيه خطر الحرب أكبر، وأن تكون معاهدته مما نهى الله عنه بقوله:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} (النحل: 92) الآية كما

بيناه في الجزء الماضي.

فالواجب إذًا أن تكون هذه الحرب شفاء من مرض الأمة بالفعل، أو بالإعداد

والتهيئة على الأقل، وأن ينبني الصلح على أساس قوي، ولن يكون إلا بعد ظهور

تفوق قوة على أخرى، وأن يكون الأقوى حكيمًا حليمًا لا يبغي عظمة ولا إرهاقًا

للآخر، وهذا عين ما وقع، وقد عرض ملك العربية السعودية إلى إمام اليمن

شروطه التي لا يغمد السيف بدونها فقبلها، وأرسل مندوبه إلى الحجاز لوضع

المعاهدة المطلوبة؛ فوُضعت في هذا الشهر، وعسى أن تكون كافلة لما أشرنا إليه

مما يغسل أدران الماضي، ويضع الأساس للوفاق والإخاء الدائم في المستقبل.

ذكرنا في الجزء الماضي ما يراه ويصرح به بعض أولي الرأي من توحيد

الحكم والدولة في الجزيرة، وقلنا: إنه منتهى الكمال الشرعي والسياسي إن أمكن.

وكان يجب توخيه إذا أراد الفريقان السير بالحرب إلى آخر طاقتها كالحرب

الأوربية الكبرى، وهو ما كان يُظن بالملك عبد العزيز السعودي بالقياس على

حروبه السابقة، وصرح به أحد الكتاب العارفين بشؤون البلاد وزعمائها في جريدة

يومية مشهورة؛ ولكنني قلت لهذا الكاتب ولغيره مشافهة في مكتبي إن الذي أعلمه

من اختباري الشخصي لعبد العزيز أعزه الله أنه لا يريد الاستيلاء على اليمن، ولا

إزالة حكم إمامها، ولو كان يريد ذلك لكان كما قيل لا يصده عنه صد، ولا يقف

دونه عند حد، وقد فتح له بابه، وتمهدت له أسبابه بالوصول إليه (كما فعل في

الحجاز) أو بالعجز النهائي عنه.

أما كونه قد تمهد له سبيل هذا، ويسرت له أسبابه، فهو ما عرفه الشرق

والغرب.

وأما كونه لا يريده، وإن اعتقد أنه قادر عليه، فله سبب معقول هو عين

السبب الذي صرفه عن محاولة الاستيلاء على قطر آخر مهد له طريقه من قبل،

وهو أن أعباء ملكه تثقل عليه، فتنوء به أن يحملها، ويقوم بما يجب لها من حفظ

الأمن وتعميم العدل، وإقامة العمران ونشر العلم، وما يقتضيه ذلك من كثرة

الرجال والمال، وهو يصرح بهذا على مسامع الناس.

ومن المعلوم أنه أقام الركن الأول من هذه الأركان في جميع مملكته على أكمل

وجه، وهو حفظ الأمن الذي يتوقف عليه غيره، وأن الرجال الذين يعتمد عليهم فيه

هم أهل نجد وحدهم، وليس فيهم من أهل الكفاية العلمية والمرانة العملية من يقوم

بسائر مصالح الدولة، فقلة الرجال هي العائقة عما يعوز البلاد من ضروب

الإصلاح، وحسب أهل نجد الآن حفظ الأمن، وإطفاء الفتن في داخلها، وحمايتها

من الاعتداء على حدودها، وأهل نجد لا يَفْضُلون غيرهم من عرب الحجاز،

وعسير، والشام إلا بعقيدتهم السلفية، واعتصامهم بما يعلمون من أحكام الإسلام

الشرعية إيمانًا وإذعانًا، وطاعة لربهم، ثم لإمامهم سرًّا وجهرًا، فشجاعتهم وثباتهم

مستمدان من عقيدة التوحيد الخالص من شوائب النفاق والوثنية والمنافع الشخصية.

ومن أركان سياسة هذا الإمام فيهم المحافظة على عقيدتهم وأخلاقهم وآدابهم في

محيط بيئتهم، وليس من المصلحة تفريقهم في مملكة واسعة الأطراف، مختلفة

المذاهب والآداب والآراء، وهم في حاجة إلى تعليم جديد يرشحهم لما اشتدت حاجة

بلادهم إليه في هذا العصر من تنظيم القوى الحربية الفنية التي لا ينفع في رد

العدوان الخارجي عن البلاد غيرها، ومن تنظيم القضاء والإدارة، وتفجير ينابيع

الثروة، مع هذه المحافظة على عقائدهم وأخلاقهم التي يفسد بدونها كل شيء.

قد استولى الجيش النجدي على تهامة اليمن بدون عناء كبير؛ لأن أهلها

ساخطون على حكومة الزيدية، فكانوا إلبًا واحدًا معه عليها، ويمكنه أن يحفظها

بقوتهم ومالهم من اعتداء جيش الإمام عليها، وأن يهاجم صنعاء بها؛ ولكن ذلك

يعقب ازدياد التعصب المذهبي بين السنة والزيدية، والمصلحة الإسلامية العربية

تقتضي إزالته، أو تخفيفه تمهيدًا لإزالته، وتحقيق الوحدة الإسلامية العربية في

موضعه، فمراعاة هذا في الصلح أدنى إليها من طلبها بالغلب والقهر، وهذا هو

الذي يريده الملك عبد العزيز الفيصل ويحاول إقناع الإمام يحيى به، فإذا كان قد

اقتنع به كما يظهر لنا، وزالت ضغائن الخلاف التي صرحنا بها آنفًا، فستبنى

قواعد الصلح على أساسه، ويكون وسيلة إلى ما كنا نسعى إليه ونمهد له منذ ثلث

قرن ونيف، وقد أشرت إلى قوة الرجاء فيه، والله هو المسؤول وحده في إتمامه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 125

الكاتب: محمد رشيد رضا

ذكرى المولد النبوي

أحمد الله أن وفق المسلمين منذ سنين معدودة لإحياء ذكرى منة الله تعالى على

البشر ببعثة محمد رسول الله وخاتم النبيين، وإرساله رحمة للعالمين، ونشر بعض

المطوي في الصحف، والمحفوظ في ألواح القلوب من مناقبه الكثيرة، وسنته

المنيرة، وآياته البينات، من مرويات ومرئيات، في مثل يوم مولده على المشهور

في التاريخ، والتذكير بها في الجرائد والمجلات، والتنويه بها في الخطب التي

تلقى في المساجد والمحاضرات التي يحتفل لها في الجمعيات، والرسائل المترجمة

بأشهر اللغات، بعد أن كان مبدأ هذا التاريخ المجيد - الذي غير نظام الاجتماع

البشري فدخل به العالم في طور جديد - لا يكاد يُذكر إلا في قصص مؤلفة من

الروايات المعروفة والمنكرة، والحكايات المكررة في عجائب الحمل به، وصفة

ولادته، وعجائب طفولته وشبيبته، وصفات خلقه ومعيشته، وما فيها من

إرهاصات نبوته، مما يقل فيه الحديث الصحيح المرفوع، ويكثر فيه المنكر

والموضوع، ولا يخلو من مثار الشبهات، ولا يسلم من توليد الاعتراضات، بل

يكثر في بعضها الأخيلة الشعرية، والأناشيد الغرامية، التي تشغل سامعها بتصور

الجمال الخَلْقي الجسدي، عن تمثل الجمال الخُلُقي الروحاني، والجلال الملكي في

الكمال الإنساني، والمثل الأعلى للتجلي الإلهي، والمظهر الأكمل لكلام الله ووحيه،

والوسيلة العظمى بين الرب تعالى وخلقه.

طالما أنكرت في مجلة المنار احتفال المولد الرسمي الذي تتولى تنظيمه في

القاهرة مشيخة الطرق الصوفية كل عام، ووصفت ما يجرى فيه من المعاصي

والبدع، ولشد ما انتقدت قصة المولد التي تقرأ في محفله على مسمع من ولي أمر

البلاد ووزرائه وخواص دولته من رجال الدين والدنيا، وسفراء الدول الأجنبية فيها،

وقد أفاد الإنكار والانتقاد فمنع من الاحتفال بعض المنكرات والبدع، وفي سنة 1334

أُلغيت قراءة قصة المولد المنكرة، واستبدل بها قصة كتبتها لأجلها، إذ وعدني رئيس

الاحتفال (السيد البكري) أن يجعلها هي الرسمية، فتحل محلها فوفى، فكان لها ما

كان من حسن القبول والتأثير اللائق بالموضوع والزمان والمكان والسلطان.

اختصرت هذه القصة من رسالة في أنفع ما يقال في هذه الذكرى من السيرة

المحمدية، مبتدئًا فيها بأصح ما روي في قومه صلى الله عليه وسلم ونسبه وحكمة

ظهوره في العرب، وما اصفطاهم الله به على الأمم، ما اصطفى به قبيلته

وعشيرته وأهل بيته عليهم، وهو خلاصة من تاريخهم والتاريخ العام - وأعقبتها ما

صح من نسبه، ومن خبر زواجه، والحمل به، وولادته، ورضاعته، وحضانته

وكفالته، ومعيشته وكسبه، ثم ارتقيت من ذلك إلى خبر بعثته وجملة سيرته قبلها،

وتبليغ الدعوة وخلاصتها، وفيها ما امتاز به دينه على جميع الأديان، ثم إلى الكلام

في آية الله الكبرى على نبوته وهي القرآن الحكيم، وما اختص به من الإعجاز في

لغته وعلومه وتأثيره في العالم، وقفيت عليه ببيان مناهضة قومه ووطنه للدعوة،

وإلجائه إلى الهجرة، وذكر خلاصة من أخلاقه وسيرته بعد الهجرة مع المؤمنين،

وحاله مع أهل الكتاب والمشركين، وجعلت خاتمتها في إكمال الدين، وأثر نبوته

صلى الله عليه وسلم في العالمين، وما أسسه من تشريع وأمة ودولة، وما بشر به

أمته من فتح قريب، وملك كبير، وما تركه فيها لحفظ دينها ودنياها من كتاب الله،

وهو الروح المحيي للأمم، والنور الأعظم المضيء للعالم، وسنته في بيان هدايته

وتنفيذ شريعته، وعترته آل بيته، الذين هم الذكرى لشخصه الكريم، وهديه القويم.

انتشرت رسالة ذكرى المولد النبوي ومختصرها في العالم الإسلامي انتشارًا

بطيئًا، فكان تأثيرها في إصلاح العادات السابقة ضعيفًا، حتى نهض إخواننا مسلمو

الهند منذ خمس سنين بجعل ذكرى المولد النبوي موسمًا إنسانيًّا عامًّا، يعنون فيه

بتعريف جميع الأمم بما كان لذلك المولود العظيم من التأثير بتغيير التاريخ البشري

كله، وتبرع الحاج فاروق (لورد هدلي) بمبلغ من المال لنشر بعض رسائل في

المناقب والمآثر المحمدية النافعة لجميع الناس باللغات الكبرى للأمم؛ فنُشرت مئات

الألوف من أول رسالة بعدة لغات في أول مرة.

وقد اقترحت عليّ اللجنة العامة أن أكتب لها رسالة في ذلك لنشرها في مولد

سنة 1350؛ فأرسلت إليها (خلاصة السيرة المحمدية) ؛ فترجمتها، ونشرت

مئات الألوف من نسخها بعشر لغات هي أشهر اللغات الشرقية والغربية، منها لغتها

العربية الأصلية، وكانت اقترحت عليّ كتابة رسالة أخرى في حقوق النساء في

الإصلاح المحمدي؛ لتنشر في ذلك العام؛ فكتبت الرسالة، بل الكتاب الذي سميته

(نداء للجنس اللطيف، في يوم المولد النبوي الشريف، أو حقوق النساء في

الإسلام، وحظهن من الإصلاح المحمدي العام) وأذنت للجنة باختصاره - إن

شاءت - ونشرته في يوم محمد صلى الله عليه وسلم، أي 12 من ربيع الأول سنة

1315 فكان له تأثير كبير في العالم الإسلامي، وقرَّظه كثير من العلماء والأدباء

وأصحاب الصحف بما شهدوا له به أنه لم يُؤلَّف مثله في موضوعه.

ثم إنني نشرت في مثل هذا اليوم العظيم من العام الماضي (1352) كتاب

(الوحي المحمدي: ثبوت النبوة بالقرآن، ودعوة شعوب المدنية إلى الإسلام، دين

الأخوة الإنسانية والسلام) الذي لم يحظ مصنف في حقيقة الإسلام ببعض ما حظي

به من حسن التأثير، وحسن التقريظ والترجمة باللغات المختلفة، وسرعة انتشاره

وإعادة طبعه مزيدًا فيه، وصدروه قبل انتهاء سنته الأولى.

ولا يزال إخواننا من مسلمي الهند وغيرها، وأصحاب المجلات والجرائد في

مصر، والعراق، وفلسطين يقترحون علينا في كل عام أن نكتب لهم رسائل

خاصة لتُنشر في يوم ذكرى المولد النبوي الشريف، وإنما يطلبون شيئًا جديدًا لم

يُنشر بعد، وأنى لي أن أستجيب لكل طالب، فإذا كانت المناقب المحمدية لا تنفد

دررها، ولا تبخل على الغائص عليها بفرائدها، فأنى يتاح لمثلي على ضيق وقته،

وضعفه وكثرة أعماله، أن يكرر الغوص عليها في وقت واحد لأجل طلاب

كثيرين (من الرأسماليين لا الاشتراكيين) وإذ كان هذا غير مستطاع، ولا مرجح

لتفضيل بعضهم على بعض، وكان رد الجميع يسوء الجميع، فما عليّ إلا أن

أرجح جمهور قراء صحفهم عليهم، فأرسل ما أكتبه إلى كل منهم، وهذا مقام تقديم

المصلحة العامة على الخاصة، وقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة

بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:

107) وهذا ما كتبته لذكرى يوم محمد سنة 1353.

* * *

يوم محمد صلى الله عليه وسلم

أو ذكرى مولده سنة 1353

ماذا فعل محمد؟

ماذا فعل محمد؟ كلمة قالها شاب حجازي في مكة المكرمة لأستاذ مصري

مشهور، فلم يره أهلاً للرد عليه، ولا للصفع بنعل الإحرام الخاصة بتربة تلك

الأرض المقدسة، ولا بالحذاء المعد لدوس الأرض المدنسة، فظل مغمولاً لا يعرفه

أحد بوصفه، كما لا يعرفه أحد بشخصه، وما يدريك لعله يقول كلمة مثلها أمام

بعض النجديين الذين لم تألف أسماعهم ما ألفه سمع الأستاذ المصري من الجهر

بالكفر والتعطيل؛ فتكون عاقبته شهرة، وعقوبة شرًّا من عاقبة الذي كسر قطعة من

الحجر الأسود فيما كان من تشهيره وعقابه؛ لأنه شر منه.

وأما أنا فرأيته أهلاً لأن أذكره في فاتحة هذه الذكرى لمحمد، وما فعل محمد

في يوم محمد صلى الله عليه وسلم لعلل ثلاث، (إحداها) ما كان لرواية هذه الكلمة

الجاهلة الغبية عن شاب مكي من لذعة الألم، وعميق الأسى في قلبي، لما لمكة

عندي من الحسب والكرامة، ولما أحبه لأهلها من العلم بعظمة الإسلام، وإفاضتهم

ذلك على حجاج بيت الله الحرام، فعسى أن يعتبر ويزدجر ويتوب، ولا نسمع مثل

هذا من أحد يقيم في البلد الأمين.

(الثانية) تنبيه أذهان قارئيها بدهشة هذا القول وغرابته إلى ما في البشر

من التفاوت البعيد في الجهل والغباوة، والعلم والفطنة، وأعتقد أنه لم يكن أحد منهم

يظن ولا يتوهم أنه يوجد في البشر نصراني ولا يهودي ولا وثني ولا معطل مادي

يسفه نفسه، ويطوع له تعصبه أن يقول: ماذا فعل محمد؟

و (الثالثة) وهي العليا المقصودة بذاتها الجواب عن هذا السؤال ببعض ما

فعل محمد، وما عُللت به أعمال محمد، أو فُسرت به معجزاتها من أجانب يعلم

أجهلهم وأضلهم من أعمال محمد العظيمة التي لم يعمل مثلها أحد من عظماء خلق

الله ما لا يعلم بعضه هذا الشاب الذي يُنسب إلى أمة محمد، ويعيش في بلد محمد،

ويرى بعينيه عشرات الألوف ومئات الألوف يفدون في كل عام على بلد محمد، من

جميع أمم الأرض في جميع أقطارها، شعثًا غبرًا، ناسكين، طائفين ساعين،

راكعين ساجدين يتقربون إلى الله تعالى باتباع ملة محمد، ويسمعهم بأذنيه يهتفون

بالصلاة والسلام على محمد، والدعاء لمحمد بالوسيلة والدرجة الرفيعة والمقام

المحمود الذي يغبطه به، ويحمده عليه الأولون والآخرون، ومنهم النبيون

والمرسلون، صلى الله عليه وآله، كلما ذكرته، وكلما ذكره الذاكرون.

أيها الحجازي الجهول!

لا أعجب لك إن كنت لا تؤمن بنبوة محمد ورسالته، وأنت في هذا الدرك

الأسفل من الجهل بما جاء به، ولا أعجب لك إن كنت تجهل تاريخ محمد الذي غيَّر

تاريخ العالم الإنساني بما نقله من ضعة وفساد، إلى رفعة وصلاح في أموره الدينية

والمدنية والاجتماعية، وإنما أعجب لك أنك ترى نفسك أهلاً لمخاطبة أستاذ مصري

متعلم، بل مؤلف ومعلم، بتلك الكلمة الجاهلة الغبية التي كان خيرًا لك من النطق

بها أن تخطفك الطير، أو تهوي بك الريح في مكان سحيق، وتيهور عميق.

أيها الحيران المسكين، الذي استهوته شياطين الملحدين، إن كان محمد لم

يعمل شيئًا تذكره، وتفخر به بأنك من قومه ووطنه، فأخبرنا أي عظماء البشر

الذين يفخر بهم أقوامهم عمل عُشر ما عمله محمد لقومه، وما عمله بنفسه وبقومه

للبشر كافة؟

هل يُذكر عمل بسمارك الذي تفتخر به ألمانية في السعي للوحدة الجرمانية،

وكافور وغاريبالدي اللذين تباهي بهما إيطالية للوحدة الطليانية، ما يقرب من عمل

محمد صلى الله عليه وسلم للوحدة العربية؟ مع التفاوت البعيد بين الأمم الثلاث في

الاستعداد لها وعدمه، مما كانت عليه كل منهن من جاهلية أو علم وفن ونظام.

ارفع رأسك إلى من فوق هؤلاء، ارفعه إلى الأنبياء المرسلين، فإنك لا تجد

أحدًا منهم عمل لقومه أكبر مما عمله موسى عليه السلام لبني إسرائيل في دينهم

ودنياهم، ويعلم جميع مؤرخي الأمم أن ما عمله محمد صلى الله عليه وسلم أعظم

في كل منها، أما الدين فأمره ظاهر، ولعلك لا تعنيه من العمل الذي تسأل عنه،

وأما الدنيا فقد مهد السبيل لقومه أن يملكوا فلسطين من بعده؛ ولكن قوم محمد صلى

الله عليه وسلم ملكوا فلسطين وما حولها من مشارق الأرض ومغاربها، وإذا كنت

فاقدًا للشعور بعظمة الجامعة الدينية التي يكرمك لأجلها الملايين من الأمم، فإنني

أضرب لك مثلاً من كرامة الجامعة القومية.

نظم أديب سوري نصراني النشأة قصيدة مدح بها محمدًا صلى الله عليه وسلم

بمناسبة ذكرى مولده، وأنشدها أصدقاءه من أمثاله، فعذله بعضهم فأجابهم قائلاً:

إن جميع الشعوب الراقية تفتخر بالنابغين والعظماء من طبقات أقوامهم، وإن

الأنبياء في عرف جميع الأمم أعلى طبقات البشر في أممهم، وإني وإياكم من

العرب نفتخر بالمتنبي والبحتري والمعري من شعرائنا، أفلسنا أجدر بأن نفتخر

بنبينا، وهو أعظم قدرًا ومقامًا وعملاً من شعرائنا الذين كانوا يفتخرون به، ومن

أنبياء غيرنا أيضًا؟ ولماذا نفتخر بالمسيح وهو من أنبياء اليهود، ولا نفتخر بمحمد

وهو نبي قومنا العرب، وما منا أحد يؤمن بألوهية المسيح فنجعلها هي المانعة من

مدح نبينا العربي العظيم؟ (وأما نبوته وآياته، فالقرآن يثبتها، فهي مما تقتضي

مدح نبينا، لا مما تمنع منه) .

لقد كان أدنى ما يُنتظر من ذلك المارق الحجازي، أن يعرف من قدر نبي

قومه، ووجوب الفخر به ما عرفه هذا الأديب السوري؛ ولكن المسألة مسألة علم

وتاريخ ومفاخر قومية، وهذا الحجازي لا يعقل من ذلك ما يعقل السوري، وإني

لأعرف من هؤلاء السوريين الأحياء والميتين من يؤمنون بنبوة محمد؛ ولكنهم

كانوا يكتمونها عن أهلهم والمتعصبين من أهل الدين الذي نشؤوا فيه، ومنهم من

كان يصلي الصلوات الخمس، وقد قال لي أحد المؤرخين المشهورين منهم: اكتب

عقيدتك التي أعرفها منك؛ لأضع عليها إمضائي بأني أؤمن بها.

وإن منهم ومن غيرهم ممن لم يؤمن به لمن يعتقد أنه أفضل البشر على

الإطلاق، وإنه عمل لترقية البشر بالعلم والعقل والحكمة والأخلاق والإنسانية

الكاملة ما لم يعمله أحد من الأنبياء ولا الحكماء ولا الأدباء، ولا يُرجى أن يعمل مثله

أحد، وقد نقلت شهادة الدكتور شبلي شميل المشهور في هذا نظمًا ونثرًا، وما في

معناها من شهادة الأستاذ وليم موير العالم الإنكليزي في الطبعة الثانية من كتاب

الوحي المحمدي.

تساءل الناس من قبل هذا المكي سؤال الاستفهام عما سأل هو عنه سؤال:

الإنكار ماذا فعل محمد؟

أجابهم التاريخ العام: إن محمدًا أسس دينًا وأمة ودولة.

جواب مختصر مفيد، ثلاث كلمات، صغيرات كبيرات، يملأن الأرض

والسموات، لم يختلف فيهن اثنان، ولم ينتطح في النزاع فيهن عنزان؛ ولكن وجد

تيس في شكل إنسان، ينطح جبل أبي قبيس من أدناه؛ لأنه يجهل ما حدث منذ

1366 عامًا في أعلاه من نزول الناموس الأعظم جبريل عليه السلام على محمد

ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام، من الوحي الإلهي الذي أسس به هذه المنشآت

الثلاث.

ليس من المعقول أن يكون هذا المكي يجهل ما نزل في غار حراء من ذلك

الجبل، وإنما المعقول أنه يعوزه العلم التفصيلي بما كان بعد ذلك وما حصل،

وكيف بدَّل هذا النبي البشر غير البشر، حتى إن أربعمائة مليون منهم يتسقبلون

بلده من مشارق الأرض ومغاربها في كل يوم خمس مرات تعبدًا لله تعالى ويشيدون

برفع اسمه مع اسم الله في جميع أنحاء العالم حتى لندن وباريس في يومه هذا من

عامنا هذا.

ألا وإنني أعلم والأسى يفيض من قلبي، فيكاد يقتلني أن أكثر المسلمين أمسوا

بين جاهل كنه هذه الأعلام الثلاثة، وغافل عن عظمتها، ولو علَّمت الجاهل لعلم،

ولو نبَّهت الذاهل لفطن، ولأقر بأحقية الكلمات الثلاث ومدلولاتها بالإجمال؛ ولكن

يبقى عليك العلم التفصيلي الدال على صفة تأسيسها، ووضع قواعدها، وإقامة

أركانها، ورفع سمكها، وتسوية سقفها، وسرعة إتمامها، ومن أوى إليها من

الشعوب والقبائل، ودرجة عظمة كل منها في نفسها، وبالإضافة إلى ما يشاركها

باسمها من الأديان والأمم والدول، وهل اتفق ذلك أو ما يقرب منه لأحد من البشر

قبل محمد صلى الله عليه وسلم؟

العلم الإجمالي أول خطوة بين الجهل المطلق والعلم المفصل الذي يثمر

العبرة والحكمة والعمل، فهو علم ناقص قابل للشك، عاجز عن دفع الشبهات.

من مقدمات هذا العلم التفصيلي في مسألتنا، على المنهج المعروف بالنقد

التحليلي في عصرنا، تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم بالتواتر

القطعي أنه كان أميًّا نشأ بين قوم أميين ليس عندهم شيء من العلوم الدينية ولا

الدنيوية، ولا الفنون المدونة عند شعوب العالم التي تلقى بالتعليم والتلقين، وأنه لم

يزاول شيئًا من معارف قومه الوراثية، ولا آداب لسانهم من الشعر والخطابة

والمفاخرة والمماتنة التي ارتقت بها لغتهم، وبلغت شأوًا عاليًا في البلاغة والتأثير،

وأنه لم يشاركهم في شيء من تقاليدهم الدينية، ولا عاداتهم الاجتماعية والحربية ولا

الخرافية، وأنه ظل كذلك حتى بلغ سن الأربعين.

ومن المقدمات التي تقرن بهذا أنه قد ثبت عند علماء النفس والاجتماع

والتاريخ في عصرنا هذا أن ما تنطوي عليه غرائز الإنسان الشخصية والوراثية

من استعداد للعلم والعمل إنما تظهر كلها في نشأته البدنية والعقلية، وتكمل في سن

الشباب فتنتهي إلى سن الثلاثين حتى الخامسة والثلاثين، وأنه لم يوجد في تاريخ

البشر أحد ظهر منه بعد هذه السن علم جديد، ولا النهوض بعمل اجتماعي عظيم،

وإنما قد يكون بعدها الإتمام والتكميل.

ومن العلم التفصيلي في مسألتنا أو موضوعنا أن المباني الثلاثة التي أسسها

محمد كما يقول المؤرخون - وهي أعظم مقومات حياة البشر - هي أعلى وأكمل مما

كان من قبلها، ولم يتجدد بعدها مثلها، وأنه لم يتفق لنبي ولا ملك ولا حكيم

الاضطلاع بواحدة مثل واحدة منها، وأنها قد تمت كلها في مدة قريبة لم يقع في

التاريخ نظير لها، فهي مجموعة معجزات في كتابها، وفي كمال تشريعها

وإصلاحها وفلسفتها، وفي إدماج أمتها لجميع أمم البشر في عقائدها وآدابها

وتشريعها ولغتها، وفي بناء دولتها ووحدتها الإنسانية على أساس العدل والمساواة

والشورى والمصالح العامة، وغير ذلك من أصولها وفروعها العلمية والعملية التي

بسطناها بالتفصيل مُؤَيَّدة بالبرهان والدليل في كتاب الوحي المحمدي، الذي صدرت

الطبعة الأولى منه في مثل هذا اليوم: يوم محمد صلى الله عليه وسلم من العام

الماضي.

لا موضع في هذه الذكرى الوجيزة للإشارة إلى ما يمتاز به كل من دين محمد

وأمته على ما يقابلهما من الأديان والأمم، وقد فصلناه في كتاب الوحي المحمدي

بالشواهد من القرآن والأكوان تفصيلاً مقنعًا بالأسلوب التي تتقاضاه من الإسلام

حاجة هذا العصر في علمه وأفكاره وأسلوب تأليفه من جميع النواحي والجوانب

الدينية والمدنية والعقلية والسياسية، ولا سيما إعجاز القرآن وهو مشرق النور

الأعظم، وينبوع الحياة العليا، ومصدر الإصلاح العام.

وإننا نختمها بالإشارة إلى تعليل علماء الإفرنج لبعض هذه المعجزات بعد أن

عرفوها، واضطر المنصفون منهم إلى الاعتراف بها، والإقرار بأن تعاليم محمد قد

أصلحت تعاليم الأديان القديمة حتى المسيحية، وأحيت علوم الحضارة القديمة بعد

موتها، وأن حضارة أوربة الحديثة مستمدة منها، كما صرح بهذا غوستاف لوبون

ودرابر وغيرهما من علمائهم الأعلام.

فأما علوم القرآن، وما فيه من بينات الهدى والفرقان، فقد قال منصفوهم: لا

شك أن محمدًا كان أميًّا لم يتعلم شيئًا، وأنه كان مطبوعًا على الصدق والإخلاص

ومكارم الأخلاق، وأن ما ثبت في تاريخه قبل الإسلام وبعده يفيد اليقين بأن مثله لا

يكذب على الله، ولا على الناس، وأنه صادق في تعبيره عن اعتقاده بأن هذا

القرآن وحي من الله (قالوا) ولكنه وحي كان يفيض من استعداده النفسي العالي

وعقله الباطن على قلبه وخياله ولسانه وحواسه. وقد فندت هذا التعليل بالبراهين

العقلية والنقلية الهادمة لشبهاته التي ذكروها، وأثبتُّ أنه وحي من الله تعالى، بما لا

يدع للشك مجالاً.

وأما استعلاء دينه على جميع الأديان، ودخول الملايين من النصارى واليهود

فيه، بَلْه المشركين والوثنيين، فقد عللوه بأن تلك الأديان كلها كان قد دب فيها الفساد

من قبل الملوك والأساقفة؛ حتى غلبت على أهلها الوثنية وعبادة الشهوات والمال،

فأمكن دين التوحيد والفطرة السليمة والعقل والفكر ومكارم الأخلاق أن يظهر عليها

في معاهد قوتها، وشوكتها من البلاد المقدسة وغيرها. اهـ.

قلنا: نعم، ولكن كيف جاء هذا الدين النقي الكامل من قِبَل رجل أمي بعد

استكماله سن الأربعين، وقد ثبت بالاستقراء وعلم قوى النفس أن هذا من المحالات،

وخوارق العادات؟ فلم يبق إلا أنه من الله عز وجل كما شرحناه في كتاب الوحي

المحمدي.

وأما توحيد قوى القبائل العربية المتفرقة، وجعلها أمة واحدة في سنين معدودة

فعللوه بأن العرب كانوا أذكياء الأذهان، بلغاء اللسان، أقوياه الجنان، فجاءهم

زعيم حكيم يدعوهم إلى توحيد العقيدة وأخوة الإيمان، ويعدهم عن الله تعالى بالغنى

والقوة والسلطان في الدنيا، والخلود في جنات النعيم في الآخرة، فآمنوا به،

واتبعوه.

وقلنا في الرد عليهم: إن هذا صحيح في ظاهره؛ ولكنه مخالف للطبع والوراثة

وسنة الإجماع في أقوام وقبائل رسخ فيها الشقاق منذ ألوف السنين، فكيف يزول

بمجرد الدعوة في سنين معدودة؟ كلا إنهم ما اتبعوه إلا بما ثبت عندهم من إعجاز

هذا القرآن لهم في لغتهم بنظمه وأسلوبه وبلاغته وسلطانه الروحي على عقولهم

وإرادتهم، وإيقانهم أنه من وحي الله تعالى، لا من كلامه، وبما أيد هذا من سيرته

وأخلاقه وأعماله وآيات الله الأخرى له، قال تعالى له: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ

وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ

وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62-63) وما كان من حكمته

صلى الله عليه وسلم في سياستهم فهو من توفيقه تعالى له وآياته في تربيته قال:

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل

عمران: 159) .

على أن تربية الأمم النفسية والاجتماعية لا تتم إلا بطول الزمن والانتقال من

جيل إلى جيل، وقد ضربت لهم المثل في كتاب الوحي المحمدي ببني إسرائيل،

وما شاهدوا من آيات الله لموسى في مصر، ثم في التيه، ولم يؤثر فيهم ذلك بما

جعلهم أمة واحدة خاضعة لشريعة التوراة، إلا بعد انقراض الجيل الأول في التيه

وهو أربعون سنة، وأما قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقد تربوا في كنفه في

عشرين سنة، صاروا فيها خلقًا جديدًا، وكان الجيل الأول أفضل الأجيال وأكملها

في الدين والأدب والأخلاق والسياسة وحكم الأمم، وتفضيل دينهم على أديانهم،

ولغتهم العربية على لغاتهم طوعًا واختيارًا؟

وعللوا فتح الصحابة رضي الله عنهم للممالك الكثيرة، وإسقاطهم لدولة الفرس

العظيمة في مهد قوتها، وتدويخ دولة الرومان العظمى، وإجلاءها عن ممالكها في

آسية وأفريقية في سنين معدودة، وامتداد ملك الإسلام في العصر الأول من شاطئ

بحر الظلمات (المحيط الأتلانتي) إلى حدود الصين - بأن حكومات هذه الدول

كانت قد هرمت وضعفت بالظلم والفسق والفساد في الأرض، وعبادة المال

والشهوات، واتباع الباطل، فجاء هؤلاء العرب بدينهم الجديد معتصمين بالحق

والعدل والعفة وسائر الفضائل على ما أوتوه من الشجاعة والقناعة، ففضلتهم

الشعوب والأمم على حكوماتها الفاسدة فكانت ظهيرًا لهم على أنفسها.

قلنا: نعم، ولكن تلك الدول وشعوبها لم كانت لا تزال أقوى من العرب، وأكثر

استعدادًا للحرب، ولا سيما الغنية بأسلحتها الخاصة بها، وحصونها وخنادقها وكثرة

عددها، وما يقتضيه غزوها في عقر دارها، ودفاعها عن حياتها القومية والدولية

من الاستبسال، ولم يغن عنها كل ذلك شيئًا؟ أفلم يكن انتصار العرب عليها بالحق

والعدل والفضائل آية من الآيات، ومعجزة من خوارق العادات، ومصداقًا لوعد الله

لهم في كتابه بنصره، وإعلاء دينهم على الدين كله، ووعد نبيهم لهم بملك كسرى

وقيصر؟

صرح بهذه المعاني كثير من علماء الإفرنج المستقلين، حتى المتحمسين في

النصرانية كالدكتور ألفرد. ج بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) الذي جمع فيه

بين الإنصاف التاريخي المضطرب، والحماس الديني الإنكليزي الملتهب.

هذه إشارة وجيزة إلى ما فعل محمد بن عبد الله، بل محمد رسول الله وخاتم

النبيين، ولم يفعل مثله، ولا ما يقرب منه أحد من النبيين ولا الفاتحين، ولا

الحكماء المصلحين، ولا الساسة المشترعين، والعجب العجاب أن يجهل تفصيله

أكثر المسلمين، وأن يعلمه الأجانب؛ فيعترف به المنصفون، ويؤمن به منهم

الموفقون، ويعلله غيرهم بما يزيده قوة وتأييدًا، فمتى يثوب المسلمون إلى رشدهم،

ويرجعون إلى هداية دينهم؛ فيعود به إليهم مجدهم.

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا

رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) عودوا إلى كتابكم، وهدي نبيكم،

وسيرة سلفكم أيها المسلمون، فلن يصلح هذه الأمة إلا ما صلح بها أولها، كما قال

الإمام مالك رحمه الله تعالى والسلام.

...

...

...

... (محمد رشيد رضا)

_________

ص: 129

الكاتب: عبد الله بن علي بن يابس

‌تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده

(لمّا صدر كتاب الوحي المحمدي أهديته إلى كثير من العلماء والأدباء

وغيرهم، وسألت من ألقى منهم هنا أن ينتقدوه، ومنهم أكبر علماء مصر الأستاذ

الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار

المصرية، وكتبت إلى بعض من في الأقطار البعيدة بذلك، ومنهم إمام اليمن وإمام

عمان فلم ينتقد أحد منهم شيئًا من مسائله، ولكن جاءنا الكتاب الآتي من الأستاذ

صاحب الإمضاء وهو من علماء نجد ومقيم في القاهرة قبيل الفراغ من طبعة الكتاب

الثانية؛ فسررنا به، وإننا ننشره ونقفي عليه ببيان رأينا فيه، وهذا نصه:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

إلى حضرة الأخ المحترم والعلامة الفاضل محمد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني قرأت كتاب الوحي الذي

ألفتموه فألفيته أولاً في بابه، بديعًا في خطابه، أبان بأن الدين ضرورة لازمة،

وحجة قائمة، أقام الحجة على صحة الإسلام، عند مثبت النبوة ومصدق الرسالة.

بأوضح برهان وأجلى تبيان، وأظهر زيف الاعتراضات الصليبية، والتشكيكات.

الإلحادية، والمغالطات الإيهامية، التي أرصدها دعاة الفتنة، وأعدها رؤوس

الضلالة حرابًا للدين، وغوثًا للشياطين، وإنه لكتاب جلي من دقائق الحكم، وأسرار

التشريع ما سطر التنزيل بيانه، وأجمل تبيانه، ومع ذلك فهو سهل المتناول، قريب

إلى الفهم، يشوق قراءه إلى تفهم كتاب الله، ويوقف المنصفين على الإيمان بالله.

وبما أن مسائل العلم معترك العلماء، ومجال الأذكياء، وساحة الميدان،

وحلبة الرهان، والجواد قد يكبو، والسيف قد ينبو، والخطأ لم يعصم منه إلا

الشارع، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؛ فإن لي في كتابكم

ملاحظات سأبديها، ومواضع سأتكلم فيها، لمعرفتي أنكم ممن ينشد الحق ويتحراه،

ويُغَلِّب مرضاة خالقه على اتباع هواه، والشاهد لي على ذلك أنكم الذين تنازلتم

لمنازلة الانتقاد، وتواضعتم لهذا المراد، وتلك خلة العلماء السابقين، وطريقة القادة

المهديين.

(1)

قلتم في صفحة 163: قد شرع الله لإبطال الرق طريقين: عدم تجديد

الاسترقاق في المستقبل. وإني أرى أن هذا القول مُعَارَض بالكتاب والسنة

والإجماع، أما الكتاب فإن فيه كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة

الاسترقاق، والكتاب كتاب لكل زمان ومكان، فلا يصح أن يبني شرائعه على شيء

قد أبطل أساسه، وحرم تجديد أصله، وقد ندب الكتاب إلى العتق في مواضع كثيرة،

وجعل العتق الذي لا يوجد إلا بالرق عملاً من أعمال الخير التي توصل إلى الجنة،

فهل تقولون: إن تلك الآيات المذكورة في الكتاب إنما محل العمل بها في عهد النبي

صلى الله عليه وسلم أما بعده فلا يصح؛ لأن تجديد الرق قد مُنع؟ فإن قلتم بهذا فما

رأيكم في الدليل الثاني، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بالفعل، وجوَّز

بالقول والتقرير، وما أرى أنكم تنكرون هذا؛ لأن كل من يعرف النبي صلى الله

عليه وسلم وسيرته يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أنه لم يغز طوائف العرب إلا واسترق

من استولى عليهم من نسائهم وأولادهم.

وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ما استولوا على

شيء من نساء الكفار وأولادهم إلا استرقوه، حتى إنه ليوجد عند بعضهم المئون،

بل آلاف من الرقيق، وكان عثمان بن عفان والعباس من أكثرهم رقيقًا، ولعمر

رقيق، ولأبي بكر رقيق، وهذا ما لا ينكره أحد، وإذا كان القتال ماضيًا إلى قيام

الساعة والكفار موجودين في كل زمن، فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا

عليه بطريق الحرب.

(2)

قلتم في صفحة 149 على قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ

يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) : إن حروب النبي

للكفار كانت كلها دفاعًا، ومعنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز

إلا إذا قاتلونا، والكلام عليه من وجوه:

(أولاً) : إنا لا نُسَلِّم أن قتال المسلمين في سبيل الله للكفار الذين لم يقاتلوهم

اعتداءً؛ إذ الاعتداء تجاوز بغير حق، وقتال المسلمين للكفار إنما هو بحق وهو

إدخال الإصلاح عليهم، وحملهم على الطريق القويم، وإنقاذهم من نار الجحيم.

(ثانيًا) : غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف

عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء إذا لم يخالف؛ فكيف

إذا عارض منطوقًا صريحًا؟

(ثالثًا) : إن الآية {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193)، وآية {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: 5) ،

والآية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 29) وما

يشابههن، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا

إله إلا الله) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، كل ذلك عام شامل لمن قاتل ومن

لم يقاتل.

(رابعًا) إن آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 190) ، {وَجَاهِدُوا

فِي سَبِيلِهِ} (المائدة: 35) ومعنى كلمة القتال في سبيل الله لا يفهم من ذلك الدفاع

عن النفس فحسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له: الرجل يقاتل

شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل

لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فبين أن المراد من القتال في سبيل الله

القتال لعلو الإسلام ورضوخ الكفر له.

(خامسًا) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه من الإغارة على قوم

إلا سماع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار.

(سادسًا) إنه قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم أنه لم يثبت أن كل

من قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم من

أئمة المسلمين، قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم مقام دفاع عن النفس،

وإن كان ذلك حصل من بعضهم في بعض الأحيان فلا يسلم حصوله في الكل.

(سابعًا) إن سنته في بعثه للسرايا والجيوش أن يقول لهم: اغزوا في سبيل

الله، قاتلوا من كفر بالله، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال.

وهو معلوم من حديث بريدة الطويل عند مسلم، وأما آية الإكراه في الدين فلا تمنع

من قتالهم حتى يكون الدين عاليًا عليهم، وآية الجزية مبينة للإكراه، وأما تعليل

الإذن بالقتال بظلم الكفار إياهم، فغايته أنه ذكر علة ولم ينف سواها، وأما {َ وَمَا

أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وما في معناها، فتلك آيات مكيات أتت بعدهن

المدنيات.

(3)

قلتم في صفحة 162: على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط

جعل عصمتها بيدها؛ فتطلق نفسها إذا شاءت. قول الشريعة هي الكتاب والسنة

والإجماع، فإن رأيتم هذا القول فيها فهاتوا دليله مأجورين، والمنار معروف أنه

يدلل على ما يذهب إليه، والذي أعرفه أنه رأي لأبي حنيفة، وأنا لا أعتقد أنكم

تقلدونه، وأبو حنيفة الذي رأى هذا الرأي هو الذي رأى لو أن رجلاً في المشرق

تزوج بامرأة في المغرب؛ فولدت أن الولد يلحق به، وإن لم يثبت عنده اجتماعهما.

فهل تقولون: إن الشرع ألحق الولد به. وأنتم وفقنا الله وإياكم ذكرتم هذا القول في

الوحي المحمدي، فلا يفهم إلا أنكم وجدتم ذلك في القرآن أو الحديث، فإن لم يكن

إلا في رأي أبي حنيفة، فهو شرط ليس في كتاب الله، ومن اشترط شرطًا ليس في

كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وهو قول ليس عليه أمر الشارع، ومن

عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، مع أنه رأي يجعل للمرأة الناقصة عقلاً ودينًا

ولاية على أمر الرجل (ولن يُفْلِح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) فيكف تُوَلَّى تفكيك روابط

الأسر وتفريق الجماعات، وهي التي تغضب للكلمة، وتطيش للصدة، وتتميز

للإعراضة.

(4)

قلتم في صفحة 187: فكلام الله عندنا شأن من شؤونه، وصفة من

صفات كماله كعلمه، إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات له بدون سبق خفاء

ووظيفة الكلام كشفه ما شاء من المعلومات لمن شاء بما شاء. هذا التعريف لا

يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار كمالك، والسفيانين، وأحمد، وإسحاق،

ويحيى بن معين، والبخاري ولا كالزهري، وأيوب، وابن سيرين ولا عن

أحد من الصحابة، فإن كان معروفًا لديكم فأزيلوا عنا اللبس، وما رأيكم لو كشف

الله لعبد بإزالة الحجب، فهل يقال: إنه كلمه؛ فإن تعريفكم صادق على هذا؟ وهلا

يجوز عندكم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب؟ وهل

تعريفكم هذا لكلام الله الذي هو القرآن فحسب، أو لما هو أعم؟ وهل أنتم تعتقدون

أن القرآن كلام الله أم هو عبارة عنه؟

(5)

وقلتم في صفحة 8: وحررت هذه المقدمة في ليلة المولد؟ فهل عندكم

خبر صحيح يعين ليلة المولد، مع أن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تُعْرَف،

وفيها أقوال متعارضة متضاربة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، ولا أظن

أنكم تتابعون الناس على ما درجوا عليه من الباطل، على أني اختصرت خوف

الإطالة والملل، وتركت مواضع بغير تعليق لباعث العجل، والله يوفقنا جميعًا إلى

سبيل الرشاد.

...

...

...

... عبد الله بن علي بن يابس

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌انتقاد مسألة الرق والجواب عنها

(1)

انتقد الأستاذ هذه المسألة من سبعة وجوه نتكلم على عباراتها بالإيجاز، ثم نرد

على تلك الوجوه بالترتيب فنقول:

إن إطلاق إبطال الرق في عبارة الطبعة الأولى قد استثني منه بعد سطرين

قولنا: (إلا استرقاق الأسرى والسبايا)

إلخ.

ونُقِّحت في الطبعة الثانية بقولنا في الصفحة 271: قد شرع الله تعالى لإبطال

الرق طريقتين: تحديد تجديد الاسترقاق في المستقبل أو تقييده

إلخ.

وقد قال المنتقد: قوله: (إنه مُعَارَض بالكتاب والسنة والإجماع) .

استدل على الأول بأن في الكتاب كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي

هو نتيجة الاسترقاق (ولا يصح أن يبني شرائعه على شيء قد أبطل أساسه،

وحرم تجديد أصله) ، وبأنه ندب إلى العتق وهو لا يوجد إلا بوجود الرق وجوابه

من وجوه

إلخ.

(أولها) أننا لم نقل: إن الله تعالى أبطل أساس الرق، وحرم تجديد أصله،

بل بينا أنه قيد تجديده بالحرب الشرعية المعروفة، وهذا القيد لا يمنع وجود الرقيق

منعًا باتًّا، بل يجوز أن يوجد بوجود قيده وشرطه.

(ثانيها) أنه يجوز بالإرث والتناسل؛ فإن ولد الرقيق مثله.

(ثالثها) إن ثبت أن تجديد الرقيق محرم شرعًا تحريمًا مطلقًا، أو مقيدًا

فليس للمنتقد أن يعارضه بقاعدته التي اخترعها، وهي أن الله تعالى لا يصح أن

يبني شرائعه على كذا، وإن لم يثبت فلا حاجة إلى هذه القاعدة لإبطاله.

(رابعها) أن كلمة: إن الله لا يصح أن يفعل أو أن يُشَرِّع كذا. لكلمة جريئة

جدًّا أستغفر الله من حكايتها مهما تكن صفة قائلها ونيته، وأدع للأستاذ المنتقد بعد

هذه الذكرى رأيه فيها.

(خامسها) أن هذه الكلمة لا تنطبق على مسألتنا؛ فإن الله تعالى لم يبن

شرع العتق لعباده على أساس الاسترقاق لأجل أن يوجدوا الرقيق ثم يعتقوه، فيكون

كل من الاسترقاق والعتق قربة مطلوبة؛ وإنما بنى طلب العتق على وجود الرقيق

بالفعل، وشرعية عتقه تدل على قبحه؛ لأن العتق إبطال للرق ولا يتقرب إلى الله

تعالى بإبطال الخير وإزالته، فهي كشرعية التوبة من الذنب لقبحه، ولا يقال: إن

تحريم المعاصي ممنوع؛ لأنها الأساس لوجوب التوبة، وهي أشد وجوبًا من العتق

الواجب فضلاً عن المندوب.

(سادسها) إن قوله: فهل تقولون إن العمل بتلك الآيات إنما محله العمل بها

في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح بعده - سؤال لا محل له، وغفلة ما كان

يظن بمثله الوقوع فيها.

(سابعها) المعلوم بالإجماع أن العتق مشروع ومثاب عليه في كل زمان

ومكان يوجد فيه الرقيق إلى يوم القيامة، وسببه أن الرق قبيح يتقرب إلى الله تعالى

بتحريره إلى أن يُزَال الرقيق، فإن زال من مكان لم يجب على أهله إيجاده، لأجل

عتقه، ولا يجب لذاته، ولكنه قد يشرع بوجود سببه الشرعي وهو ما بيناه، ولو

صحت دعواه لكان تحرير المسلمين جميع ما يملكون من الرقيق محظورًا لاقتضائه

عدم تجديدهم للعتق بعده، فهو بهذا الاقتضاء بمعنى عدم تجديدهم للاسترقاق.

(استدلاله على معارضته بالسنة والإجماع)

واستدل على الثاني، وهو معارضة ما قلناه بالسنة بأن النبي صلى الله عليه

وسلم قد استرق بالفعل، وجوَّز الاسترقاق بالقول والتقرير، وعلى الثالث وهو

معارضته بالإجماع بأن الصحابة والتابعين وتابعيهم قد استرقوا بالفعل أيضًا، وهذا

على ما فيه لا يرد على ما قلته، فإنني قد صرحت فيه بأن لإمام المسلمين في كل

حرب شرعية أن يسترق الأسرى والسبايا إذا كانت المصلحة في الاسترقاق، وأما

زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومن بعدهم لم يستولوا على أحد

من نساء العرب وأولادهم إلا استرقوهم، وإن هذا معلوم من سيرته وغزواته صلى

الله عليه وسلم باليقين - فهذا غير صحيح على إطلاقه ومراده، ولو صح لم يكن

ناقضًا لما قلناه، والتحقيق أن عرف العرب في الحرب أن يكون الأسرى والسبايا

مِلْكًا للغالب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذه ذريعة للعتق وجذب الناس

إلى الإسلام برحمته لا لبقاء الرق، كما فعل بتزوجه جويرية بنت الحارث سيد

قومه فأعتق أصحابه جميع أسرى بني المصطلق وسباياهم وهم على كفرهم، فكان

هذا سببًا لإسلامهم، وكما أعتق جميع قريش رجالهم ونساءهم يوم فتح مكة بقوله:

(اذهبوا فأنتم الطلقاء) ، وكما أعتقوا بعد ذلك سبايا هوازن.

فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد استرقوا جميع نساء العرب

وأولادهم الذين استولوا عليهم تقربًا إلى الله بالسبي كما يوهم كلامه، فأين كان

أولئك السبايا والعبيد؟

إننا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتق ما ملك من الرقيق، ولا نعرف

من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده أحد من سبايا العرب، ولكن روي

عنه أنه كان عنده من سبايا يهود قريظة ريحانة بنت شمعون وأنها امتنعت أولاً عن

الإسلام، ثم أسلمت وأنه خيرها صلى الله عليه وسلم بين عتقها والتزوج بها كصفية

أم المؤمنين، واختلفت الروايات عنها، والراجح فيما أذكر أنها اختارت بقاءها على

الرق.

وروي أن زينب أم المؤمنين أهدت إليه جارية، ولا أدري هل كانت موروثة

من رق الجاهلية، أم هي من سبايا الإسلام، ولا من أي جنس كانت.

ثم ختم المنتقد كلامه في هذه المسالة بقوله (فسنة الإسلام جواز الاسترقاق

لمن استولوا عليه بطريق الحرب) وأنا لم أنف جوازه؛ وإنما قيدت فعله أو تركه

بالمصلحة، وقوله هذا يجيز تركه مطلقًا، وهو يعارض قاعدته الغريبة، واستطالته

العجيبة.

وأما ما قررته من نوط الاسترقاق بالمصلحة التي ينفذها إمام المسلمين فهو

مروي عن الإمام أحمد ومنصوص في كتب فقه الحنابلة وهو مذهب المعترض،

ففي كتاب الفروع: ويختار الإمام الأصلح لنا - لزومًا كما في ولي اليتيم، وفي

الروضة ندبًا - في أسرى مقاتلة أحرار بين قتل ورق ومن وفداء نص عليه. اهـ

(ص 569 جزء 3) .

وقال في بحث وجوب الجهاد إذا وقع النفير العام ولو بدون إمام ما نصه:

وسأله (يعني الإمام أحمد) أبو داود عن بلاد غلب عليها رجل فغزا معه قوم: يغزو

معهم؟ قال: نعم. قال: يشتري من سبيه؟ قال: دعنا من هذه المسألة؟ الغزو ليس

مثل شراء السبي، الغزو فيه دفع عن المسلمين، لا يترك ذلك لشيء. اهـ) ص

576 منه، ومثله في (مسائل الإمام أحمد) وقال في المسألة: فيتوجه أن يقال في

سببه كمن غزا بلا إذن. اهـ، والمراد أن الإمام أحمد امتنع من الفتوى بشراء

سبي السلطان المتغلب؛ ولكن المعترض يبيح السبي لكل مسلم حتى قُطَّاع الطرق

النخاسين كما سمعنا منه، ولعله رجع عنه عند كتابة هذا البحث.

(البقية للجزء الآتي)

_________

ص: 144

الكاتب: محمد رشيد رضا

تفنيد اعتراض كاتب جزويتي

على كتاب الوحي المحمدي

(نشره في مجلة المشرق الكاثوليكية في بيروت

فألخص مسائله فيما يأتي وأرد عليها)

(1)

تعريفه الموهم بالمؤلف صاحب المنار:

افتتح الكاتب كلامه بأنه (لا حاجة إلى تعريف القراء بالسيد محمد رضا [1]

منشئ مجلة المنار الإسلامية ومحررها المجاهد) ولكنه عرفه أو وصفه بقوله

(والشيخ محمد عَلَم من أعلام الأدب الديني الإسلامي المحافظ في مصر، وصديق

ابن سعود الوهابي، وأحد دعاة المسلمين إلى التمسك بالقديم، ونبذ ما يستحدثه

المحدثون، مخالفًا لتقاليد السلف) .

فهذا التعريف بمن هو غني بشهرته عنه باعترافه يفهم منه قراء المشرق

خلاف الحقيقة يفهمون من كلمة (المحافظ) ، وكلمة (نبذ ما يستحدثه المحدثون)

إلخ ما يشمل الأمور الدينية والعلمية والفنية والصناعات، وإنما أنا محافظ على

القرآن والسنة النبوية وإجماع السلف وسيرتهم الصالحة في هداية الدين فقط، وداعٍ

للمسلمين إلى الأخذ بكل نافع من مستحدثات العلم والفنون والنظم المدنية والعسكرية

التي لا تخالف تلك الأصول، ولا الهداية الدينية التي أكمل الله بها الدين، وأتم

نعمته على العالمين، وإن خالفت بعض تقاليد المتقدمين، التي مناطها اجتهاد

المجتهدين، ولينظر ماذا يعني بصداقة ابن سعود الوهابي في التعريف بعالم مؤلف؟

(2)

وصفه للكتاب كما رآه:

قال: (إنه ليس كتاب الوحي المحمدي ما يزيدهم معرفة بالمشاكل الجوهرية

التي يدور الجدال حولها بين المسيحيين والمسلمين) وإنه (ليس مستنفد المواد

متناسب الأجزاء، متسلسل القضايا، فيغور فيه فكر المفكرين، بل هو مجموعة

عجالات ظهرت أولاً في المنار، ثم برزت بكتاب مستقل، على أن سهولة مطالعتها

لما فيها من العناوين والفهارس، ووقع المواضيع التي عالجها ردًّا على مسائل

تجددت، ومسها الدين المسيحي تحول دون الإغضاء عنها، من غير إعادة النظر

فيها) . اهـ.

(أقول) إن كتاب الوحي المحمدي لم يوضع للجدال بين المسلمين

والنصارى؛ فتجعل مواده مناسبة لما بينهما من الخلاف، متسلسل القضايا فيها،

وإنما ذكر فيه بعض هذه المسائل بالقصد الثانوي، والمناسبات الاستطرادية، ولو

وُضع للرد على النصارى كالكتب التي ذكر بعضها لرآه في نسقه وترتيبه وتسلسله

ونظامه بحيث يغور فيه فكره، فيقع في غور أو تيهور لا يجد له منه مخرجًا إلى

بقاع يرى فيه النور إلا أن يهتدي به إلى الإسلام، وإنما وُضع الكتاب لإثبات

الوحي المحمدي بالقرآن فشهد له نقاد الكتاب بأنه خير ما كتب فيه حجة ونظامًا،

بل اضطر هو على نظره إليه بعين السخط من وراء زجاجة يسوعية سوداء أن

يصفه أخيرًا بما وصفه من السهولة وحسن التقسيم، والرد على المسائل التي

تجددت في هذا العصر، وهو الذي حمله على الرد عليه.

* * *

(3)

فساد الأخلاق والآداب الروحية على نسبة ارتقاء العلوم والأفكار

المادية:

خالفنا الكاتب الكاثوليكي الجزويتي في هذه الحقيقة التي بيناها في مقدمة كتاب

الوحي، فذهب إلى أن كفة ميزان الفضائل والآداب والخير في هذا العصر أرجح

مما كانت عليه في جميع العصور السابقة في الشرق والغرب، بفضل التمدن

الأوربي! ! !

يا سبحان الله! أكاتب ينتمي إلى الديانة المسيحية يقول هذا؟ نعم وإنه قد كتبه

ونشره في مجلة المشرق اليسوعية، وما كان هذا ليخطر في قلب بشر.

إن هذه الحقيقة التي بينتها بالإجمال ليست رأيًا افتحرته افتحارًا من تلقاء

نفسي، وإنما سبقني إليه حكماء أوربة وكُتَّاب الغرب والشرق فنقلته مقتنعًا به.

وقول المنتقد: إنني أحكم به حكمًا عامًّا على جميع الشعوب. هو صحيح في

الجملة لا التفصيل، فأنا أحكم به على شعوب الإفرنج أولاً وبالذات، وعلى

المفتونين بمدنيتهم المادية الإباحية من سائر شعوب العالم، وإني لأنعي على

الإفرنج انسلاخهم من بقايا ما حفظه نظام التربية فيهم من الفضائل المسيحية، لا

جهلهم بالفضائل الإسلامية فقط.

وإن أول حكم سجلته على أوربة في هذا الموضوع، هو ما رواه لنا شيخنا

الأستاذ الإمام عن شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر الإنكليزي من حكمه على قومه،

وعلى أوربة كلها، ومثله من ينظر إلى لُبَاب الحقائق الواقعة، ويتخذ منها القياس

المنطقي على نتائجها المستقبلة.

وإنني أنقل من الصفحة 868 من تاريخ الأستاذ الإمام نص ما رواه لنا من

حديثه مع الفيلسوف في مصطافه في (برايتون) من جنوب إنكلترة في 10

أغسطس سنة 1903، أي: منذ ثلث قرن مشيرًا إلى الفيلسوف بحرف (ف) وإلى

الأستاذ الإمام بحرف (م) وهو:

(ف) هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة؟ (م) نعم زرتها منذ عشرين سنة.

(ف) كيف وجدت الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة؟

(م) إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص، وهو

البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني،

وأقمت أيامًا قليلة لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله، وقد ألممت بها الآن منذ أيام،

فلم أدرس حالة الناس، إنما يجب أن آخذ عنكم ذلك.

(ف) إن الإنكليز يرجعون القهقرى، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ

عشرين سنة.

(م) فيم هذه القهقرى؟ وما سببها؟

(ف) يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدم الأفكار المادية

التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق

قومنا، وهكذا سائر شعوب أوربة.

(م) الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء، واجتهادهم أن ينصروا الحق

والفضيلة على الأفكار المادية.

(ف) إنه لا أمل لي في ذلك؛ لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مده غاية

حده في أوربة، إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة.

(م) هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على

تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها.

(ف) مُحِيَ الحق من عقول أهل أوربة بالمرة، وسترى الأمم يختبط

بعضها ببعض (ولعله ذكر الحرب) ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم، أو فيكون

سلطان العالم. اهـ.

وقد كتب الأستاذ في مذكرته تعليقًا على هذا الحديث، ونشرناه في ص 751

من مجلد المنار 18، ثم في ص 869 من تاريخه وهو:

(ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف (الحق للقوة)

إلخ؟ جاءت منه

مصحوبة بشعاع الدليل، فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، ولو جاءت من ثرثار

غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد، فكانت (تكون) جيفة تعافها النفس فلا تحرك

إلا اشمئزازًا وغثيانًا

هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان

وتوفير راحته، وتعزيز نعمته أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها

على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها، هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من

الحديد (المظلم) اللامعُ المضيءُ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي

الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟ حار

الفيلسوف في حال أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء؟ الرجوع إلى

الدين

إلخ، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل

زمان لكنهم يعودون فيجهلونها) . اهـ.

ولقد رأى أهل البصيرة بعد الحرب الأوربية الكبرى ما رآه شيخ الفلاسفة

قبلها، كما سمعنا بآذاننا فيها، ثم ما صرنا نقرؤه عنها، إلى أن بلغ في هاتين

السنتين درجة الخطر عليها من استعداد جميع دولها للحرب الآتية الحالقة الساحقة

الماحقة، ومن انغماس شعوبها في حمأة الإباحة، وانحلال عرى الزوجية المقدسة

فيها، ولا أقول وعبادة المال، فإن الجزويت أشد إسرافًا وغلوًّا في عبادة المال من

اليهود وغيرهم من الرأسماليين، وعندي قانونهم السرى في ذلك، فهو مما يخالفون

فيه وصايا الإنجيل بقاعدتهم (الغاية تبرر الواسطة) ، وأما إباحة أعراض النساء

بالسفاح واتخاذ الأخدان وما سمي الرقيق الأبيض، وإباحة هذه الضراوة بالحرب

بهذه الدركة من الغلو المنذر للشعوب بالهلاك الذريع الذي تنقله البرقيات عن أوربة

كل يوم، فما كنت أظن أنه ما يدخل في عموم تلك القاعدة عندهم.

أين الدين في أوربة، وهذه أكبر دولة فيها (الروسية) تبذل كل قواها في

محوه من بلادها الواسعة، بل من جميع الأرض، ودعايتها قد تغلغلت في سائر

شعوبها الغربية، ولولا النظام العسكري الخاضع لحكوماتها المالية خضوع العبيد،

بل المستعمل بأيديها كاستعمال آلات الحديد، لقضي عليها كلها، وها هي ذي

فرنسة تتفق معها لأجل التعاون على الحرب القاضية التي تستعد لها؟

أين الدين في أوربة، وهذه الدولة الجرمانية التي تلي الروسية في كبرها

وعظمتها، وتفوقها في علومها وفنونها، تبتدع في مسيحيتها على علاتها فيها ما

تراه الكنيسة الكاثوليكية وثنية محضة، وهي لا تزال في أول حجلها في مرقصها

هذا؟

بل أين النصرانية في أوربة، وقد صرح بعض أساقفة إنكلترة بأن المسيح

ليس أبًا ولا إلهًا، واستفتى الشعب في اعتقاده بعصمة الكتب المقدسة، فأفتى

الألوف بعدم عصمتها، كما نشرنا ذلك في المنار.

ظن الكاتب أنني أشكو من ضعف الدين الإسلامي فأجعل الشكوى عامة! كلا،

إن الدين الإسلامي يجدد هدايته وعلمه ونوره في كل قطر من أقطار الأرض،

وإنما يعارضه فساد أوربة الإباحي المادي، وظلمها الاستعماري، ولكنهما سيزيدانه

حياة وقوة، ونورًا وظهورًا، كما يزيدان الإباحيين الظالمين خزيًا وضعفًا.

حتى إذا ما بلغ فسادها غايته في شعوبها علمت هذه الشعوب أنه لا منقذ لها

غير الاهتداء به؛ لأنه هو الدين الوحيد الوسط بين أطراف الغلو من إفراط وتفريط

في العقل والوجدان ومصالح الروح والجسد، وأنه الحلال لمشاكل الاجتماع المالية

والحربية والنسائية الموصل لسعادة الدنيا والآخرة، كما بيناه في (كتاب الوحي

المحمدي)

(للرد بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذا الكاتب يسميني تارة السيد محمد رضا، وتارة الشيخ محمد، أو الشيخ رضا، وتارة السيد رشيد رضا إلخ، والأمر سهل.

ص: 147

الكاتب: محمد رشيد رضا

العبرة بسيرة الملك فيصل

رحمه الله تعالى

(7)

(المؤتمر والملك والحكومة)

إن الرأي الذي كان مستقرًّا في ذهن الملك فيصل أن ينفض المؤتمر السوري

بعد إعلانه للاستقلال، وأن تؤلف لجنة تضع مشروع القانون الأساسي، وقانون

انتخاب المجلس النيابي، وبعد إتمامهما تشرع البلاد في انتخاب النواب؛ ولكن

إخواننا أعضاء حزب الاستقلال العاملين لم يوافقوه على هذا الرأي، بل أجمعوا

على بقاء المؤتمر وقيامه بعمله إلى أن يتمه، وينتخب المجلس النيابي ويجتمع،

وما كان فيصل ليخالفهم فيما يتفقون عليه، بل كان يواتي أفراد الأذكياء منهم الذين

يكثرون لقاءه في أمور يتعارضون فيها كالعصابات.

فكان من ذلك وقوع ما ساء صديقته إنكلترة في فلسطين فوق ما يسوء فرنسة

في سورية ولبنان، وعلى كونه متفقًا مع حكومة فرنسة على قواعد علاقته معها

في سورية، وما عاد من باريس إلى سورية إلا ليحمل منها التفويض الذي يخوله حق

إمضائها كما تقدم، وقد قبل إعلان الاستقلال والمبايعة معتقدًا أنه يكون أقدر على

الاتفاق معها - وهو ملك - فكان مصرًّا على رأيه في العودة إلى فرنسة بعد إرضاء

أهل الرأي بذلك، وكان رأيي ورأي الشيخ كامل قصاب تقييده في ذلك بما لا

يرضيه، وسأعود إلى الكلام في هذه المسألة.

تقرر بقاء المؤتمر، وأن يتولى وضع القانون الأساسي للدولة السورية، وكان

أول اختلاف في الرأي حدث بيني وبين الملك فيصل وحكومته أن المؤتمر قرر أن

تقدم له الوزارة بيانًا بالسياسة التي تجري عليها، وتطلب منه اعتمادها، فعرض

رئيسها علي رضا باشا الركابي الأمر على جلالته فغضب، وقال: إنه ليس للمؤتمر

حق في هذا الطلب، وإنه لا يأذن للحكومة أن تكون تحت سيطرة مؤتمر أكثر

أعضائه شبان أغرار لا رأي لهم ولا شأن.

ورأيت أن المؤتمر مُصِرّ على تنفيذه قراره، وأن الملك مُصِرّ على رفضه،

وأن هذا أول شقاق في حكومتنا الجديدة يجب تلافيه، لما يُخشى من قبح أحدوثته،

وسوء عاقبته، فزرت جلالته زيارة خاصة لأجل إقناعه بذلك، فكان أول ما حدثني

به: ما رأيك فيما قرره المؤتمر في مسألة الوزارة؟

قلت: فوجئنا بهذا الاقتراح في الجلسة مفاجأة فكرهته؛ لأن مثله يجب التمهيد

له بالبحث وإجالة قداح الرأي فيه فإنه ذو وجهين: إما جعل الوزارة مستبدة، لا

يحاسبها على عملها محاسب في حكومة جديدة ليس لها تقاليد راسخة، وإما سيطرة

مجلس كمؤتمرنا أكثر أعضائه من الشبان الأغرار الذين تغلب عليهم الحماسة وحكم

الشعور، وكنت أميل إلى تأجيل الاقتراح لأجل تمحيص حزبنا له، فلم أوفق لذلك؛

لأن الأكثرين قبلوه بمنتهى الارتياح، وحسبوه من الضروريات، وامتنعت من

التصويت له بدون بحث سابق حتى إن بعضهم أمسكوا بيدي عند أخذ الرأي لأجل

رفعها فأبيت.

قال: وما رأيك فيه الآن؟

قلت: رأيي إنه لا يمكن الرجوع عنه بعد وقوعه فلا بد من تنفيذه.

قال: أنا لا أقبل أن أعطي هذه السلطة لهذا المؤتمر، إنه ليس بمجلس نيابي

قلت: بل هو أكبر من مجلس نيابي (وفي هذه الأثناء كان قد حضر إحسان

بك الجابري رئيس الأمناء له فقال وهو واقف: إن هذا المؤتمر يا مولاي جمعية

تأسيسية) .

قال الملك: إنه لا شأن له، وأنا الذي أوجدته.

قلت حينئذ: بل هو الذي أوجدك، إنك كنت قبله قائد جيش الشرق التابع

للورد اللنبي القائد العام للجيش الإنكليزي، فجعلك هذا المؤتمر ملكًا لسورية، وإننا

لا ننكر أن لك فضلاً عظيمًا بمساعدة حزب الاستقلال العربي على جمع المؤتمر؛

ولكن المؤتمر قد اجتمع، وأثبت أنه ممثل للشعب السوري وموضع ثقته، وأيده

زعماء البلاد من علماء الدين والرؤساء الروحيين والزعماء والوجهاء، ونيط به

إعلان استقلال سورية الطبيعية التام المطلق، وجعلها حكومة ملكية نيابية، وشرع

في وضع قانون أساسي لها بموجبه يكون لها مجلس نيابي منتخب.

فهو الآن مجلس تأسيسي تشريعي يجب أن يكون له الإشراف على هذه

الحكومة إلى أن يتم عمله، ويكون للبلاد مجلس نيابي يحل محله، فهل يصح أن

يغمط حقه، وأن يقع الشقاق بينه وبين الحكومة من أول وهلة، فنكون مضغة في

الأفواه، وحجة للأجانب على أنفسنا بأننا لا نصلح للاستقلال؟ هذا ما لا ترضاه يا

مولاي.

بعد هذا قنع جلالته، وأذن لرئيس الوزارة علي رضا باشا الركابي بكتابة

البيان المطلوب، وإلقائه في المؤتمر ففعل.

(تنظيم قوى العشائر والقبائل السورية)

ذكرت في النبذة السادسة من هذه الترجمة أنني اقترحت على الإخوان وجوب

إعلان استقلال سورية؛ ليكون الحلفاء أو الإنكليز والفرنسيس فيها أمام ما يسمونه

(بالأمر الواقع) في وقت كانوا لا يزالون فيه مختلفين في تقسيم البلاد العربية

وتحديد نصيب كل منهم فيها.

وكنت أعتقد أنه إذا لم يكن للبلاد قوة دفاع تعتمد عليها في حفظ الاستقلال؛

فإنه لا يكون لهذا الأمر الواقع قيمة عندهم، ولا يحسبون لأهلها أدنى حساب في

أمرهم، وأن من المتعذر أن تؤسس البلاد قوة عسكرية يؤبه لها في الدفاع عنها،

وإنما غاية الممكن من هذه الناحية أن تكون لها قوة تكفي لحفظ الأمن الداخلي،

وتنفيذ النظام فيها، وتكميل مظهر الدولة، وأبهة الملك في نظر دهماء الأمة.

وأما الدفاع الممكن للاعتداء الخارجي الذي يعتد به، فهو ما يسمى الوطني أو

الأهلي، وهو يتوقف على تنظيم جميع قوى القبائل والعشائر المنتشرة فيها من

الصحراء إلى ساحل البحر.

فأما قبائل أعراب البادية من هؤلاء فكلهم مسلحون؛ ولكن بأسهم بينهم شديد

فهم لا يفتؤون يتقاتلون لأدنى الأسباب، وليس لهم مرجع وحدة، ولا وازع قوة في

وردهم وصدرهم، وكان من الممكن أن يفيؤوا إلى وازع الحكومة السورية المستقلة

ويدينوا لملكها، وقد رأينا شيوخهم قبل الاستقلال وبعده يكثرون الاختلاف إلى باب

الأمير، فالملك فيصل، ولا سيما الشيخ نوري الشعلان وهو شيخ قبائل الرولة

أقوى قبائل صحراء الشام وأعزهم نفرًا.

وأما العشائر المقيمون في داخل البلاد وأكثرهم متحضرة فلا تجمعهم عقيدة

ولا نسب، ولا رابطة تربية ولا مصلحة، ولكنهم أدنى إلى النظام وطاعة الحكومة

الوطنية من أعراب البادية، ومنهم الدروز والنصيرية من باطنية الشيعة، والدنادشة

والجراكسة من مذاهب السنة، ويمكن توجيههم كلهم إلى دفع العدوان الأجنبي

عن وطنهم المشترك، ويكون سائر الأهالي عونًا ومددًا لهم.

اقترحت على جلالة الملك فيصل وضع نظام لقوة كل قبيلة، وكل عشيرة في

موضعها يقرر فيه ما يحتاج كل منها من السلاح والذخيرة والنفقة لتشكيل

العصابات عند الحاجة إلى الدفاع، وجعلها تابعة لهيئة من الضباط السوريين أركان

الحرب، وتخصيص مبلغ من المال لذلك، وما كان هذا المبلغ ليزيد في أول الأمر

عما كان يبذله في سبيل العصابات السرية التي كان ضرها أكبر من نفعها،

فاستحسن المشروع كما كان يستحسن غيره مما يعرض عليه؛ ولكنه لم يعطه حقه

من الإكبار والاهتمام، والسبب الخفي لهذا أنه كان يعتقد أن مستقبل سورية رهين

بالاتفاق مع فرنسة على الوجه الذي تقرر بينه وبين وزيرها كلمنصو، وأحالني فيه

على رئيس الوزارة صديقي علي رضا باشا الركابي، فكان رجائي في إكباره له

أكبر من رجائي في الملك الذي كنت راضيًا منه بقبوله، فأظهر الوزير لي من

الاستحسان ما كنت أحب؛ ولكنه كان يُسَوِّف في تنفيذه بكثرة الشواغل بتأسيس

الحكومة والخلاف بينها وبين المؤتمر حتى انتهى ذلك.

كنت أكلم كلاًّ من جلالة الملك ودولة الوزير في ذلك منفردًا فيعد، حتى إذا

التقيت بهما مجتمعين رجوت الملك أن يصدر أمره الرسمي للوزير بتنفيذه فأمر،

فسألت الوزير بعد أيام عما فعل، فقال إنه قرر تخصيص مبلغ شهري قدره خمسة

وعشرون جنيهًا ليكون راتبًا لمدير المكتب الذي ينظر في تنفيذ المشروع.

فساءنى هذا الجواب، وقلت له: إن الأمر أكبر من هذا المكتب، ومديره

وراتب مديره، وإنه يجب أولاً أن تؤلف له لجنة من أعلى الضباط الوطنيين معرفة

وهمة لينظروا في المشروع مع بعض أهل الرأي، ويجب عليهم أن يدرسوا كل ما

كتب في اللغة التركية واللغات الأجنبية في نظام العصابات البلقانية وعشائر الأفغان

التي نظمها الأمير عبد الرحمن خان وغيرها، ليضعوا نظامهم في ضوء ساطع،

ويقدروا له الميزانية الموقتة للتنظيم، والمال الاحتياطي الذي يتوقف عليه العمل إذا

هوجمت البلاد، واقتضت الحال إضرام نار الدفاع في جميع الأغوار والأنجاد، ولا

أعتقد أن المشروع سيُنَفَّذ إلا إذا أُلِّفَتْ هذه اللجنة وحضرت جلساتها بنفسي، فوعد

بالنظر في ذلك؛ ولكنه لم ينظر، فعلمت أنه يرضيني بالكلام، ويجعل راتب

الإدارة الجديدة معاشًا لأحد صنائعه، فزال ما كان عندي من الأمل فيه، وهو كل ما

كنت أرجوه منه.

والظاهر أنه لم يكن يعتقد بضرورته أو بفائدته؛ ولكن الثورة السورية التي

حدثت بعد قد أثبتت لنا أن هذا المشروع لو تم لنلنا به ما نريد.

(إسقاط وزارة علي رضا باشا الركابي)

ثم كان من سيرة الركابي باشا أن سخط الملك فيصل عليه من ناحية، وسخط

عليه أكثر رجال حزب الاستقلال العربي من ناحية أخرى، وعزم الملك على

إسقاط وزارته، وقد كتبت في مذكرتي يوم الأحد 6 شعبان 25 أبريل (نيسان) ما

نصه:

اشتد سخط الملك فيصل من هذا الوزير لسوء تصرفه، ولما أحدثه من الشقاق

في حزب الاستقلال العربي وجمعيته، وعزم على إسقاط وزارته لإخراجه وبعض

وزرائها الضعاف الرأي والعزيمة، فأمر بتأليف لجنة سرية للنظر في تأليف وزارة

جديدة، والركابي لا يزال يجلني ويبالغ في احترامي، وأسوأ ما ساءني منه

مراوغته في مشروعي الأهم، وهو تأليف إدارة للعشائر والقبائل، وليس لي

غرض شخصي أرجوه منه. اهـ.

وكتبت في يوم الإثنين 7 شعبان 26 أبريل في هذا الموضوع:

سمرنا البارحة عند إحسان بك الجابري مع الملك فيصل سمرًا مفيدًا لا ينسى،

السمار: القَيْلُ (أعني الملك) ، وساطع (بك الحصري) ، وهاشم (بك الأتاسي) ،

وعزت (دروزة) ، وعثمان (سلطان) ، وسعد الله (الجابري) ، وصاحب الدار

(إحسان بك) ، وقد تحقق زوال ثقة الملك بوزارة الركابي. اهـ.

وأقول الآن: كان موضوع ذلك السمر بيان حال وزارة الركابي، وما يشكى

منها، وما يجب من استبدال غيرها بها، وما تجب مراعاته في ذلك، وإذ كانت

الجلسة سرية لم أكتب شيئًا عما دار فيها ولا فيما بعدها لئلا تسقط مذكرتي مني أو

تُسْرَق كما سُرِقَ دفتر مذاكرات الملك؛ فيطلع أحد عليها؛ وإنما كنت أذكر أسماء

السامرين، وأعبر عن الملك بالقَيْل (بفتح فسكون) .

وقد سمرنا الليلة التي بعدها في دار ساطع بك الحصري، وكان في السمار

زيادة عمن ذكرت من حاضري ما قبلها، عبد الرحمن بك اليوسف، ويوسف بك

العظمة، ويحيى بك حياتي الضابط المشهور، ولم يحضرها جلالة الملك، وقد

اقترحت في جلسة بعدها عند إحسان بك أن يدخل في الوزارة الجديدة، الدكتور

عبد الرحمن شهبندر، واستحسنت أن يكون يوسف بك رئيسًا لها، إذا كنا نريد أن

تكون وزارة دفاع قوية، وكان قد رشح بالاتفاق، فقال الملك إنه يحب يوسف بك

ويثق به؛ ولكنه لا يرى أن يكون رئيسًا للوزارة في سنه هذه، فيكفي أن يكون وزيرًا

للحربية.

(تشكيل هاشم بك للوزارة وانتخابي لرياسة المؤتمر)

ولم يبد الملك لنا رأيه في الرئيس، حتى إذا ما انتهينا من رأينا في الأعضاء

فاجأنا بإصدار أمره الرسمي لصديقنا هاشم بك الأتاسي بتشكيل الوزارة ففعل،

واعتقدنا أن المرجح له عنده رويته وأناته تجاه حماسة العظمة وشهبندر، وما يرجو

من مواتاته له، وعين الدكتور عبد الرحمن شهبندر وزيرًا للخارجية، ويوسف بك

العظمة وزيرًا للحربية، فكان كل منهما أشد مواتاة لجلالته من هاشم بك.

كان رضا بك الصلح وزير الداخلية في وزارة الركابي أقدم أصدقائي فيها،

توثقت عرى الصداقة بيني وبينه في الآستانة سنة 1312 (1909) فلهذا ولما له

من المكانة في بيروت ساءني أن يظن أن خروجه كان برأيي، فالحق إنني لم

أقترح إخراجه، وما يمكنني أن أدافع عنه، ولا عن علي رضا باشا الركابي.

وقد ترتب على تشكيل هاشم بك الأتاسي للوزارة أن انتخبني المؤتمر السوري

رئيسًا له في 16 شعبان 5 مايو.

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 152

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التنازع والتخاصم

بين علماء الدين المجددين

والجامدين الرسميين

الأستاذ الشيخ ناجي أديب، عالم كاتب أديب خطيب، نشأ في مدينة اللاذقية

من سورية، وتخرج في الجامع الأزهر، وتأدب فيه بأدب الأستاذ الإمام المصلح

الأكبر، وغُذِّي بأفكاره، واقتبس من أنواره، ثم كان أستاذًا في بعض مدارس

التجهيز ومعهد الحقوق في دمشق، ولما عُقد المؤتمر السوري العام الذي أعلن

استقلال سورية (سنة 1339 و1920) كان عضوًا منتخبًا فيه عن بلده، وهو لا

يزال يدعو إلى الإصلاح الديني والاجتماعي بلسانه وقلمه.

وقد كتب في رمضان (سنة 1351) مقالات عظيمة نشرها في جريدة (ألف

باء) الدمشقية المشهورة، فاقترح عليه بعض الذين انتفعوا بها أن يطبعها في كتاب

مستقل لتعميم نفعها، فاستجاب لهم، وزاد على تلك المقالات فصولاً من كتاب له

مخطوط سماه (التهذيب الإسلامي) نال قصب السبق في مباراة كتب أخرى في

موضوعه في المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس، ثم صدر الكتاب الجديد في جمادى

الأولى سنة 1352 باسم (حديث رمضان، دين وأدب، وأخلاق ونقد، وأصول

واجتماع) .

تقبله الناس بقبول حسن، فرفع ذكره، وطاب نشره، فهاج ذلك حسد علماء

بلده الرسميين؛ فتصدوا لمعارضته والصد عنه بالطعن بأصلات ألسنتهم، وأسنة

أقلامهم، لابسين لقتاله لبوس ألقابهم الرسمية: مدرس جامع كذا، مدرس جامع كذا،

فقد جاءتنا نشرة مطبوعة أحصوا فيها ما أنكروه عليه، وأجازه لهم وأقره لهم

مثنيًا عليهم (مفتي اللاذقية: مصطفى أديب محمودي) .

كان الكتاب قد أهدي إليّ فلم أفرغ للنظر فيه لكثرة الشواغل العائقة عن

مطالعة كتب الهدايا الكثيرة، وقد عرفت صاحبه في الجامع الأزهر، ثم في دمشق،

وأنه من خيار علماء سورية المجددين في هذا العصر، فلما رأيت ما نبزوه

واتهموه به علمت أنه من باب التنازع بين المجددين والجامدين، وعهدي بمن هم

أشهر منهم بالعلم من أمثالهم في مصر أنهم لا يوثق بعلمهم، ولا بصدقهم في

روايتهم ونقلهم؛ وإنما يعتزون بتصديق العوام لهم، وثقتهم بهم، ويغترون

بمحافظتهم على أزيائهم القديمة التي تجذب هؤلاء العوام إلى تقبيل أيديهم.

وإنني وايم الله ليحزنني أن يجنوا على أنفسهم بما يضع كرامتهم، وهم لا

يشعرون بما هم صائرون إليه، وأتمنى لو يتفقون والمجددين، ويتناصحون فيما

بينهم، ويردون ما يختلفون فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه

وسلم عملاً بقوله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن

كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) .

وإنني على علمي بما ذكرت لم أستبح لنفسي أن أكتب هذا إلا وكتاب حديث

رمضان أمامي، ونشرة إنكارهم في يدي، أراجع ما اتهموه به مستبعدًا صدوره عنه،

عالمًا أنه غير معصوم من مثله، فإذا بي أرى في إنكارهم كذبًا مفترى، وتحريفًا

معيبًا، وحقًّا جَمَّل باطلاً، وكلامًا محتملاً فُسِّر بالرأي والهوى، وسأفصل ما أجملت

في جزء آخر، إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 158

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

من صاحب الإمضاء في بيروت

(س11 - 13) أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت

(قال بعد الدبياجة) :

(1و 2) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز

العمل بهما أم لا؟ وما معناهما؟ وهما:

(1)

(من غشنا فليس منا) وفي رواية أخرى (من غش فليس منا) .

(2)

(دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب) وهل هذا الحديث الأخير

يؤخذ منه وصول إهداء ثواب قراءة القرآن الكريم إلى الأموات باعتبار أن قراءة

القرآن الكريم عبادة ودعاء أم لا؟

(3)

هل يجوز للرجال والنساء أن يذهبوا إلى المسارح العمومية، أو غيرها

لأجل أن يسمعوا ويروا الصور المتحركة (السينما) الناطقة، أو غيرها، وهي لا

تخلو من الصور العارية والغناء والرقص والتقبيل والضم وغيره أم لا؟

...

...

...

عدنان البربير

...

...

... ناظر مدرسة عثمان ذي النورين

...

... لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت

(جواب المنار)

(11)

حديث (من غشنا فليس منا) و (من غش فليس منا) صحيح رواه

مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفيه زيادة، وله ألفاظ أخرى

عنده وعند غيره، ومعناه ظاهر، والغش بأنواعه المادية والمعنوية من المحرمات

التي لا تقبل النسخ.

(12)

حديث (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة) صحيح

رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنهم، وله تتمة (عند

رأسه مَلَك موكل به كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك: آمين، ولك بمثل ذلك)

وهذا خبر عن أمر غيبي، والأخبار لا تنسخ، وهو لا يدل على أن إهداء ثواب

قراءة القرآن إلى الأموات أو غيرهم مشروعة، ولا أنها تصل إليهم، وإنما ثواب

القراءة للقارئ إذا كان مخلصًا، وكذا الدعاء، ولكن الدعاء للغير مشروع ونافع،

وإن كان ثوابه للداعي كما بيَّناه من قبل في التفسير، وفي الفتاوى.

(13)

لا يجوز للمؤمن أن يتعمد مشاهدة المنكرات الشرعية ولا سماعها في

المسارح ولا في غيرها، ورؤية الصور العارية غير محرمة لذاتها كرؤية الناس

العراة؛ ولكن تصوير الشخوص والأعمال التي تمثل المعاصي، وتجرئ عليها

منكر، ورؤيتها منكرة كرؤية العورات، والخلوة بالأجنبيات من باب سد ذرائع

الفساد.

_________

ص: 192

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌معاهدة الطائف

بين

المملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية [*]

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

نحن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية

السعودية:

بما أنه قد عُقِدَتْ بيننا وبين حضرة صاحب الجلالة الملك الإمام يحيى بن

محمد حميد الدين ملك المملكة اليمانية معاهدة صداقة إسلامية، وأخوة عربية لإنهاء

حالة الحرب الواقعة لسوء الحظ بيننا وبين جلالته، ولتأسيس علاقات الصداقة

الإسلامية بين بلادنا، ووقعها مندوب مفوض من قبلنا ومندوب مفوض من قبل

جلالته، وكلاهما حائزان للصلاحية التامة المتقابلة، وذلك في مدينة جدة في اليوم

السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد الثلاثمائة والألف، وهي مدرجة مع

عهد التحكيم والكتب الملحقة بها فيما يلي: -

معاهدة صداقة إسلامية وأخوة عربية

بين المملكة العربية السعودية

وبين المملكة اليمانية

حضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود

ملك المملكة العربية السعودية من جهة.

وحضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى بن حميد الدين ملك اليمن من جهة

أخرى.

رغبة منهما في إنهاء حالة الحرب التي كانت قائمة لسوء الحظ فيما بينهما

وبين حكومتيهما وشعبيهما، ورغبة في جمع كلمة الأمة الإسلامية العربية، ورفع

شأنها، وحفظ كرامتها واستقلالها.

ونظرًا لضرورة تأسيس علاقات عهدية ثابتة بينهما وبين حكومتيهما وبلاديهما

على أساس المنافع المشتركة والمصالح المتبادلة.

وحبًّا في تثبيت الحدود بين بلاديهما، وإنشاء علاقات حسن الجوار وروابط

الصداقة الإسلامية فيما بينهما، وتقوية دعائم السلم والسكينة بين بلاديهما وشعبيهما.

ورغبة في أن يكونا عضدًا واحدًا أمام الملمات المفاجئة، وبنيانًا متراصًّا

للمحافظة على سلامة الجزيرة العربية قررا عقد معاهدة صداقة إسلامية، وأخوة

عربية فيما بينهما، وانتدبا لذلك الغرض مندوبين مفوضين عنهما وهما:

عن حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية حضرة صاحب

السمو الملكي الأمير خالد بن عبد العزيز نجل جلالته، ونائب رئيس مجلس الوكلاء.

وعن حضرة صاحب الجلالة ملك اليمن حضرة صاحب السيادة السيد عبد الله

ابن أحمد الوزير.

وقد منح جلالة الملكين لمندوبيهما الآنفي الذكر الصلاحية التامة والتفويض

المطلق، وبعد أن اطلع المندوبان المذكوران على أوراق التفويض التي بيد كل

منهما؛ فوجداها موافقة للأصول قررا باسم ملكيهما الاتفاق على المواد الآتية:

(المادة الأولى)

تنتهي حالة الحرب القائمة بين المملكة العربية السعودية ومملكة اليمن بمجرد

التوقيع على هذه المعاهدة، وتنشأ فورًا بين جلالة الملكين وبلاديهما وشعبيهما حالة

سلم دائم، وصداقة وطيدة، وأخوة إسلامية عربية دائمة، لا يمكن الإخلال بها

جميعها أو بعضها، ويتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بأن يحلا بروح الود

والصداقة جميع المنازعات والاختلافات التي قد تقع بينهما، وبأن يسود علاقتهما

روح الإخاء الإسلامي العربي في سائر المواقف والحالات، ويشهدان الله على

حسن نواياهما، ورغبتهما الصادقة في الوفاق والاتفاق سرًّا وعلنًا، ويرجوان منه

سبحانه وتعالى أن يوفقهما وخلفاءهما، وورثاءهما وحكومتيهما إلى السير على هذه

الخطة القويمة، التي فيها رضاء الخالق، وعز قومهما ودينهما.

(المادة الثانية)

يعترف كل من الفريقين الساميين المتعاقدين للآخر باستقلال كل من المملكتين

استقلالاً تامًّا مطلقًا، وبملكيته عليها، فيعترف حضرة صاحب الجلالة الإمام

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية لحضرة

صاحب الجلالة الإمام يحيى، ولخلفائه الشرعيين باستقلال مملكة اليمن استقلالاً تامًّا

مطلقًا وبالملكية على مملكة اليمن، ويعترف حضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى بن

محمد حميد الدين ملك اليمن لحضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز، ولخلفائه

الشرعيين باستقلال المملكة العربية السعودية استقلالاً تامًّا مطلقًا وبالملكية على

المملكة العربية السعودية، ويسقط كل منهما أي حق يدعيه في قسم أو أقسام من بلاد

الآخر خارج الحدود القطعية المبينة في صلب هذه المعاهدة.

إن جلالة الإمام الملك عبد العزيز يتنازل بهذه المعاهدة عن أي حق يدعيه من

حماية أو احتلال أو غيرهما في البلاد التي هي بموجب هذه المعاهدة تابعة لليمن من

البلاد التي كانت بيد الأدارسة وغيرها، كما أن جلالة الإمام الملك يحيى يتنازل

بهذه المعاهدة عن أي حق يدعيه باسم الوحدة اليمانية أو غيرها في البلاد التي هي

بموجب هذه المعاهدة تابعة للمملكة العربية السعودية من البلاد التي كانت بيد

الأدارسة أو آل عائض أو في نجران وبلاد يام.

(المادة الثالثة)

يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على الطريقة التي تكون بها الصلات

والمراجعات، بما فيه حفظ مصالح الطرفين، وبما لا ضرر فيه على أيهما على أن

لا يكون ما يمنحه أحد الفريقين الساميين المتعاقدين للآخر أقل مما يمنحه لفريق

ثالث، ولا يوجب هذا على الفريقين أن يمنح الآخر أكثر مما يقابله بمثله.

(المادة الرابعة)

خط الحدود الذي يفصل بين بلاد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين موضح

بالتفصيل الكافي فيما يلي، ويعتبر هذا الخط حدًّا فاصلاً قطعيًّا بين البلاد التي

تخضع لكل منهما:

يبدأ خط الحدود بين المملكتين اعتبارًا من النقطة الفاصلة بين ميدي والموسم

على ساحل البحر الأحمر إلى جبال تهامة في الجهة الشرقية، ثم يرجع شمالاً إلى

أن ينتهي إلى الحدود الغربية الشمالية التي بين بني جماعة، ومن يقابلهم من جهة

الغرب والشمال، ثم ينحرف إلى جهة الشرق إلى أن ينتهي إلى ما بين حدود نقعة

ووعار التابعتين لقبيلة وائلة وبين حدود يام، ثم ينحرف إلى أن يبلغ مضيق

مروان وعقبة رفادة، ثم ينحرف إلى جهة الشرق حتى ينتهي من جهة الشرق إلى

أطراف الحدود بين من عدايام من همدان بن زيد وائلي وغيره وبين يام: فكل ما

عن يمين الخط المذكور الصاعد من النقطة المذكورة التي على ساحل البحر إلى

منتهى الحدود في جميع جهات الجبال المذكورة فهو من المملكة اليمانية، وكل ما

هو عن يسار الخط المذكور فهو من المملكة العربية السعودية، فما هو في جهة

اليمين المذكورة هي ميدي وحرض وبعض قبيلة الحرث والمير وجبال الظاهر وشذا

والضيعة وبعض العبادل وجميع بلاد وجبال رازح ومنبه مع عرو آل أمشيخ

وجميع بلاد وجبال بني جماعة وسحار الشام يباد وما يليها ومحل مريصغة من

سحار الشام وعموم سحار ونقعة ووعار وعموم وائلة وكذا الفرع مع عقبة نهوقة

وعموم من عدايام ووادعة ظهران من همدان بن زيد، هؤلاء المذكورون وبلادهم

بحدودها المعلومة وكل ما هو بين الجهات المذكورة وما يليها مما لم يذكر اسمه مما

كان مرتبطًا ارتباطًا فعليًّا أو تحت ثبوت يد المملكة اليمانية قبل سنة 1352، كل

ذلك هو في جهة اليمين فهو من المملكة اليمانية، وما هو في جهة اليسار المذكورة

وهو الموسم ووعلان وأكثر الحرث والخوبة والجابري وأكثر العبادل وجميع فيفا

وبني مالك وبني حريص وآل تليد وقحطان وظهران وادعة وجميع وادعة

ظهران مع مضيق مروان رفادة وما خلفهما من جهة الشرق والشمال من يام

ونجران والحضن وزور وادعة وسائر من هو في نجران من وائلة وكل ما هو

تحت عقبة نهوقة إلى أطراف نجران ويام من جهة الشرق هؤلاء المذكورون

وبلادهم بحدودها المعلومة، وكل ما هو بين الجهات المذكورة، وما يليها مما لم

يذكر اسمه مما كان مرتبطًا ارتباطًا فعليًّا، أو تحت ثبوت يد المملكة العربية

السعودية قبل سنة 1352 كل ذلك هو في جهة يسار الخط المذكور، فهو من

المملكة العربية السعودية، وما ذكر من يام ونجران والحضن وزور وادعة وسائر

من هو في نجران من وائلة، فهو بناء على ما كان من تحكيم جلالة الإمام يحيى

لجلالة الملك عبد العزيز في يام، والحكم من جلالة الملك عبد العزيز بأن جميعها

تتبع المملكة العربية السعودية، وحيث إن الحضن وزور وادعة ومن هو من وائلة

في نجران من وائلة، ولم يكن دخولهم في المملكة العربية السعودية إلا لما ذكر

فذلك لا يمنعهم ولا يمنع إخوانهم وائلة من التمتع بالصلات والمواصلات والتعاون

المعتاد والمتعارف به، ثم يمتد هذا الخط من نهاية الحدود المذكورة آنفًا بين أطراف

قبائل المملكة العربية السعودية، وأطراف من عدايام من همدان بن زيد وسائر

قبائل اليمن، فللمملكة اليمانية كل الأطراف والبلاد اليمانية إلى منتهى حدود اليمن

من جميع الجهات، وللملكة العربية السعودية كل الأطراف والبلاد إلى منتهى

حدودها من جميع الجهات، وكل ما ذكر في هذه المادة من نقط شمال وجنوب

وشرق وغرب فهو باعتبار كثرة اتجاه ميل خط الحدود في اتجاه الجهات المذكورة،

وكثيرًا ما يميل لتداخل ما إلى كل من المملكتين، أما تعيين وتثبيت الخط المذكور،

وتمييز القبائل، وتحديد ديارها على أكمل الوجوه، فيكون إجراؤه بواسطة هيئة

مؤلفة من عدد متساوٍ من الفريقين بصورة ودية أخوية بدون حيف بحسب العرف

والعادة الثابتة عند القبائل.

(المادة الخامسة)

نظرًا لرغبة كل من الفريقين الساميين المتعاقدين في دوام السلم والطمأنينة

والسكون، وعدم إيجاد أي شيء يشوش الأفكار بين المملكتين؛ فإنهما يتعهدان

تعهدًا متقابلاً بعدم إحداث أي بناء محصن في مسافة خمسة كيلو مترات في كل

جانب من جانبي الحدود في كل المواقع والجهات على طول الحدود.

(المادة السادسة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بسحب جنده فورًا عن البلاد التي

أصبحت بموجب هذه المعاهدة تابعة للفريق الآخر، مع صون الأهلين والجند عن

كل ضرر.

(المادة السابعة)

يتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بأن يمنع كل منهما أهالي مملكته عن كل

ضرر وعدوان على أهالي المملكة الأخرى في كل جهة وطريق، وبأن يمنع الغزو

بين أهل البوادي من الطرفين، وبرد كل ما ثبت أخذه بالتحقيق الشرعي من بعد

إبرام هذه المعاهدة، وضمان ما تلف وبما يلزم بالشرع فيما وقع من جناية قتل أو

جرح وبالعقوبة الحاسمة على من ثبت منهم العدوان، ويظل العمل بهذه المادة ساريًا

إلى أن يوضع بين الفريقين اتفاق آخر لكيفية التحقيق وتقدير الضرر والخسائر.

(المادة الثامنة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين تعهدًا متقابلاً بأن يمتنعا عن

الرجوع للقوة لحل المشكلات بينهما، وبأن يعملا جهدهما لحل ما يمكن أن ينشأ

بينهما من الاختلاف، سواء كان سببه ومنشؤه هذه المعاهدة، أو تفسير كل أو

بعض موادها، أم كان ناشئًا عن أي سبب آخر بالمراجعات الودية، وفي حالة عدم

إمكان التوفيق بهذه الطريقة يتعهد كل منهما بأن يلجأ إلى التحكيم الذي توضح

شروطه وكيفية طلبه وحصوله في ملحق مرفق بهذه المعاهدة، ولهذا الملحق نفس

القوة والنفوذ اللذين لهذه المعاهدة، ويحسب جزءًا منها، وبعضًا متممًا للكل فيها.

(المادة التاسعة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن يمنع بكل ما لديه من الوسائل

المادية والمعنوية استعمال بلاده قاعدة ومركزًا لأي عمل عدواني أو شروع فيه أو

استعداد له ضد بلاد الفريق الآخر، كما أنه يتعهد باتخاذ التدابير الآتية بمجرد

وصول طلب خطي من حكومة الفريق الآخر وهي:

1-

إن كان الساعي في عمل الفساد من رعايا الحكومة المطلوب منها اتخاذ

التدابير، فبعد التحقيق الشرعي وثبوت ذلك يؤدب فورًا من قبل حكومته بالأدب

الرادع الذي يقضي على فعله ويمنع وقوع أمثاله.

2-

وإن كان الساعي في عمل الفساد من رعايا الحكومة الطالبة اتخاذ التدابير؛

فإنه يلقى القبض عليه فورًا من قبل الحكومة المطلوب منها، ويسلم إلى حكومته

الطالبة، وليس للحكومة المطلوب منها التسليم عذر عن إنفاذ الطلب، وعليها اتخاذ

كافة الإجراءات لمنع فرار الشخص المطلوب، أو تمكينه من الهرب، وفي

الأحوال التي يتمكن فيها الشخص المطلوب من الفرار؛ فإن الحكومة التي فر من

أراضيها تتعهد بعدم السماح له بالعودة إلى أراضيها مرة أخرى، وإن تمكن من

العودة إليها يلقى القبض عليه ويسلم إلى حكومته.

3-

وإن كان الساعي في عمل الفساد من رعايا حكومة ثالثة؛ فإن الحكومة

المطلوب منها والتي يوجد الشخص على أراضيها تقوم فورًا وبمجرد تلقيها الطلب

من الحكومة الأخرى بطرده من بلادها، وعده شخصًا غير مرغوب فيه، ويُمنع

من العودة إليها في المستقبل.

(المادة العاشرة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بعدم قبول من يفر عن طاعة دولته

كبيرًا كان أم صغيرًا، موظفًا كان أم غير موظف، فردًا كان أم جماعة، ويتخذ كل

من الفريقين الساميين المتعاقدين كافة التدابير الفعالة من إدارية وعسكرية وغيرها

لمنع دخول هؤلاء الفارين إلى حدود بلاده، فإن تمكن أحدهم أو كلهم من اجتياز

خط الحدود بالدخول في أراضيه، فيكون عليه واجب نزع السلاح من الملتجئ

وإلقاء القبض عليه، وتسليمه إلى حكومة بلاده الفار منها، وفي حالة عدم إمكان

القبض عليه تتخذ كافة الوسائل لطرده من البلاد التي لجأ إلى بلاد الحكومة التي

يتبعها.

(المادة الحادية عشرة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بمنع الأمراء والعمال والموظفين

التابعين له من المداخلة بأي وجه كان مع رعايا الفريق الآخر بالذات أو بالواسطة،

ويتعهد باتخاذ كامل التدابير التي تمنع حدوث القلق أو تُوقِع سوء التفاهم بسبب

الأعمال المذكورة.

(المادة الثانية عشرة)

يعترف كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن أهل كل جهة من الجهات

الصائرة إلى الفريق الآخر بموجب هذه المعاهدة رعية لذلك الفريق.

ويتعهد كل منهما بعدم قبول أي شخص أو أشخاص من رعايا الفريق الآخر

رعية له إلا بموافقة ذلك الفريق، وبأن تكون معاملة رعايا كل من الفريقين في بلاد

الفريق الآخر طبقًا للأحكام الشرعية المحلية.

(المادة الثالثة عشرة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بإعلان العفو الشامل الكامل عن

سائر الأجرام والأعمال العدائية التي يكون قد ارتكبها فرد، أو أفراد من رعايا

الفريق الآخر المقيمين في بلاده (أي: في بلاد الفريق الذي منه إصدار العفو) ، كما

أنه يتعهد بإصدار عفو عام شامل كامل عن أفراد رعاياه الذين لجؤوا أو انحازوا أو

بأي شكل من الأشكال انضموا إلى الفريق الآخر عن كل جناية ومال أخذوا منذ

لجؤوا إلى الفريق بالآخر إلى عودهم كائنًا ما كان، وبالغًا ما بلغ، وبعدم السماح

بإجراء أي نوع من الإيذاء أو التعقيب، أو التضييق بسبب ذلك الالتجاء أو الانحياز

أو الشكل الذي انضموا بموجبه، وإذا حصل ريب عند أي الفريقين بوقوع شيء

مخالف لهذا العهد، كان لمن حصل عنده الريب أو الشك من الفريقين مراجعة

الفريق الآخر لأجل اجتماع المندوبين الموقعين على هذه المعاهدة، وإن تعذر على

أحدهما الحضور فينيب عنه آخر له كامل الصلاحية والاطلاع على تلك النواحي

ممن له كامل الرغبة والعناية بصلاح ذات البين والوفاء بحقوق الطرفين بالحضور

لتحقيق الأمر حتى لا يحصل أي حيف ولا نزاع وما يقرره المندوبان يكون نافذًا.

(المادة الرابعة عشرة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين برد وتسليم أملاك رعاياه الذين

يعفى عنهم إليهم، أو إلى ورثتهم عند رجوعهم إلى وطنهم خاضعين لأحكام مملكتهم،

وكذلك يتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بعدم حجز أي شيء من الحقوق

والأملاك التي تكون لرعايا الفريق الآخر في بلاده، ولا يعرقل استثمارها، أو أي

نوع من أنواع التصرفات الشرعية فيها.

(المادة الخامسة عشرة)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بعدم المداخلة مع فريق ثالث سواء

كان فردًا أم هيئة أم حكومة، أو الاتفاق معه على أي أمر يخل بمصلحة الفريق

الآخر، أو يضر ببلاده، أو يكون من ورائه إحداث المشكلات والصعوبات له، أو

يعرض منافعها ومصالحها وكيانها للأخطار.

(المادة السادسة عشرة)

يعلن الفريقان الساميان المتعاقدان اللذان تجمعهما روابط الأخوة الإسلامية

والعنصرية العربية أن أمتهما أمة واحدة، وأنهما لا يريدان بأحد شرًّا، وأنهما

يعملان جهدهما لأجل ترقية شؤون أمتهما في ظل الطمأنينة والسكون، وأن يبذلا

وسعهما في سائر المواقف لما فيه الخير لبلاديهما وأمتهما غير قاصدين بهذا أي

عدوان على أية أمة.

(المادة السابعة عشرة)

في حالة حصول اعتداء خارجي على بلاد أحد الفريقين الساميين المتعاقدين

يتحتم على الفريق الآخر أن ينفذ التعهدات الآتية:

أولاً: الوقوف على الحياد التام سرًّا وعلنًا.

ثانيًا: المعاونة الأدبية والمعنوية الممكنة.

ثالثًا: الشروع في المذاكرة مع الفريق الآخر لمعرفة أنجح الطرق لضمان

سلامة بلاد ذلك الفريق، ومنع الضرر عنها، والوقوف في موقف لا يمكن تأويله

بأنه تعضيد للمعتدي الخارجي.

(المادة الثامنة عشرة)

في حالة حصول فتن أو اعتداءات داخلية في بلاد أحد الفريقين الساميين

المتعاقدين يتعهد كل منهما تعهدًا متقابلاً بما يأتي:

(أولاً) اتخاذ التدابير الفعالة اللازمة لعدم تمكين المعتدين أو الثائرين من

الاستفادة من أراضيه.

(ثانيًا) منع التجاء اللاجئين إلى بلاده، وتسليمهم أو طردهم إذا لجؤوا إليها،

كما هو موضح في المادة (التاسعة والعاشرة) أعلاه.

(ثالثًا) منع رعاياه من الاشتراك من المعتدين أو الثائرين وعدم تشجيعهم

أو تموينهم.

(رابعًا) منع الإمدادات والأرزاق والمؤن والذخائر عن المعتدين أو الثائرين.

(المادة التاسعة عشرة)

يعلن الفريقان الساميان المتعاقدان رغبتهما في عمل كل ممكن لتسهيل

المواصلات البريدية والبرقية وتزييد الاتصال بين بلاديهما، وتسهيل تبادل السلع

والحاصلات الزراعية والتجارية بينهما، وفي إجراء مفاوضات تفصيلية من أجل

عقد اتفاق جمركي يصون مصالح بلاديهما الاقتصادية بتوحيد الرسوم الجمركية في

عموم البلدين، أو بنظام خاص بصورة كافلة لمصالح الطرفين، وليس في هذه

المادة ما يقيد حرية أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في أي شيء، حتى يتم عقد

الاتفاق المشار إليه.

(المادة العشرون)

يعلن كل من الفريقين الساميين المتعاقدين استعداده لأن يأذن لممثليه ومندوبيه

في الخارج إن وجدوا بالنيابة عن الفريق الآخر متى أراد الفريق الآخر ذلك في أي

شيء وفي أي وقت، ومن المفهوم أنه حينما يوجد في ذلك العمل شخص من كل

من الفريقين في مكان واحد؛ فإنهما يتراجعان فيما بينهما لتوحيد خطتهما للعمل

العائد لمصلحة البلدين التي هي كأمة واحدة، ومن المفهوم أن هذه المادة لا تقيد

حرية أحد الجانبين بأي صورة كانت في أي حق له، كما أنه لا يمكن أن تفسر

بحجز حرية أحدهما أو اضطراره لسلوك هذه الطريقة.

(المادة الحادية والعشرون)

يلغى ما تضمنته الاتفاقية الموقع عليها في 5 شعبان 1350 على كل حال

اعتبارًا من تاريخ إبرام هذه المعاهدة.

(المادة الثانية والعشرون)

تبرم هذه المعاهدة وتصدق من قبل حضرة صاحبي الجلالة الملكين في أقرب

مدة ممكنة نظرًا لمصلحة الطرفين في ذلك، وتصبح نافذة المفعول من تاريخ تبادل

قرارات إبرامها، مع استثناء ما نص عليه في المادة الأولى من إنهاء حالة الحرب

بمجرد التوقيع، وتظل سارية المفعول مدة عشرين سنة قمرية تامة، ويمكن

تجديدها، أو تعديلها خلال الستة الأشهر التي تسبق تاريخ انتهاء مفعولها، فإن لم

تُجدد أو تُعدل في ذلك التاريخ تظل سارية المفعول إلى ما بعد ستة أشهر من إعلان

أحد الفريقين المتعاقدين للفريق الآخر رغبته في التعديل.

(المادة الثالثة والعشرون)

تسمى هذه المعاهدة بمعاهدة الطائف، وقد حررت من نسختين باللغة العربية

الشريفة بيد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين نسخة وإشهادًا بالواقع وضع كل من

المندوبين المفوضين توقيعه.

وكُتب في مدينة جدة في اليوم السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد

الثلاثمائة والألف.

...

...

(التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود

...

...

(التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) ننشر هذه المعاهدة العظيمة الشأن بنصها، وننشر في هذا الجزء مقالاً خاصًّا في عظمة شأنها في هذا العهد، وفيما يأتي بعده من تاريخ الإسلام والعرب.

ص: 193

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإصلاح والتجديد الإسلامي

في المعاهدة الإسلامية العربية بين الدولتين

السعودية واليمانية

وإقرار الإفرنج بفضل العرب عليهم

] الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [[*]

لقد كنا في خوف ووجل في بداية هذه الحرب أن تفتح بابًا للتدخل الأجنبي في

جزيرة العرب فمنّ الله علينا ووقانا هذا الشر، ولقد كنا في خوف ووجل من نهايتها

أن تضرم سعير الأضغان المذهبية، وتؤرث أحقاد الآثار العربية، فيتغلغل الفساد،

ويتسلسل البغي والعدوان، فمنّ الله علينا وبدلنا بالخوف أمنًا، وأعاضنا من الحرب

سلمًا، ومن العداوة ودًّا، ومن الاختلاف ائتلافًا، ومن التقاطع والتدابر، أفضل

وسائل التواصل والتناصر، والتعاون على البر والتقوى، فقد عقد الإمامان المؤمنان

المسلمان العربيان العاقلان الحكيمان معاهدة أخوة إسلامية وصداقة عربية، ترضي

الله عز وجل من فوق عرشه، وتسر روح رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم

في الرفيق الأعلى من جوار ربه، وتغتبط بها أمته في مشارق الأرض ومغاربها،

وتفاخر بها دولتا قومه العرب الدول الغربية وأمم الحضارة كلها، فيما تزعم من

تفوقها في آداب دينها وحكمتها، وعلومها وسياستها.

نعم إن قوم محمد، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتفاخر بهذه المعاهدة

السعودية اليمانية دول الأرض وأممها، فتفخرهن وتفضلهن وتبزهن وتعلوهن علوًّا

كبيرًا، فقد أراهن إماما المسلمين من أخوة الإسلام وآدابه وأخلاقه وفضائله

وفواضله ما أنطق أفصح صحفهن المتكلمة بألسنة أرقى شعوبهن، وقائدًا عسكريًّا

من أكبر قوادهن، بهذا الفضل الكبير لهداية الإسلام في أشد شعوبه اعتصامًا بحبله،

وأقوم دوله بإقامة شرعه، وأصدق ملوكه في تنفيذ حكمه، من قوم نبيه ورسوله،

في مهد ظهوره، ومشرق نوره، على الدول المسيحية، وشعوب المدنية، على بعد

التفاوت بين الفريقين (فريق المسلم العربي، وفريق المدني الغربي، وكذا الشرقي

كاليابان والصين) في الوسائل المادية وفنون الحضارة، وسعة الثروة، وحقائق

العلوم، ودقائق الفلسفة.

(رأي جريدة التيمس، بل الأمة الإنكليزية في المعاهدة)

عقدت جريدة التيمس فصلاً افتتاحيًّا بمناسبة عقد الصلح في بلاد العرب قالت

فيه: إن على إمام اليمن أن يشرح لأفراد أسرته الذين أكثروا من انتقاده، ولرعاياه

الذين تملكهم السخط والغضب الأسباب التي دعت إلى انكساره، على أن الإمام كان

سعيد الحظ من وجهة واحدة هي أن خصمه عقد معه صلحًا ينطوي على السخاء

والكرم، فلم يضم إلى ملكه بلادًا تستطيع اليمن أن تدعي فيها حقًّا صحيحًا، ولم

يفرض عليه تعويضًا حربيًّا كما يفعل الغالب مع عدوه المغلوب، وإنما قيده كما قيد

نفسه بعهود تتضمن صداقة الجوار.

(إن في معاهدة الصلح لَمثلاً، بل عدة أمثال، تشهد بالتعقل والاعتدال، أما

ما تضمنته من رابطة الإخاء المشتركة بين جميع العرب، وهي الرابطة التي

ستكون من الآن فصاعدًا هي العامل الوحيد في ضبط العلاقات بين المملكتين، فعلى

أعظم جانب من الأهمية وخطر الشأن، فالوهابيون يُعدَّون دائمًا من الطوائف

المتعصبة، كما أن المعروف عن الزيود أنهم ليسوا أكثر منهم تسامحًا، ولكن هذه

الاختلافات الدينية لم تمنع الغالب والمغلوب من توقيع معاهدة صداقة إسلامية ترمي

إلى تعزيز روابط الاتحاد، وإعلاء هيبة الأمة العربية المستقلة وصيانة كرامتها

واستقلالها، والواقع أن مواد المعاهدة تدل بصفة قاطعة على أن هذه الكلمات لها

أهمية أخرى تفوق أهميتها الرسمية.

بيد أن هذا التقدم في سبيل الوحدة العربية لا يمكن أن تهمله الدول الأوربية

ولا سيما بريطانية التي عقدت أخيرًا معاهدتها مع إمام اليمن) .

وقد نُشِرَت معاهدة الصلح في مكة، والقاهرة، ودمشق، وصنعاء في وقت

واحد ولهذا الأمر مغزى يستحق اهتمام المتطرفين من الصهيونيين الذين لا

يستطيعون أو لا يريدون أن يدركوا أن فلسطين لا تزال بلادًا عربية تحيط بها

أرض عربية.

وأما روح المعاهدة فيجدر برجال السياسة من المسيحيين أن يقارنوا بينها

وبين معاهدات الصلح الأوربية الأخيرة) . اهـ. ما لخصته البرقيات من مقالة

التيمس.

(كلمة لجنرال إنكليزي في عظمة الاتفاق الإسلامي العربي)

ونشرت الجرائد المصرية خلاصة خطاب (للجنرال هاملتون) الإنكليزي

ألقاه في مأدبة أدبت له في سيلان (الهند) تكلم فيه عن الحرب في جزيرة العرب،

وما أُطْفِئَت به نارُها قبل أن يشتد أوارها بالصلح الشريف، وأثنى به أحسن الثناء

على الملكين في تسامحهما وسرعة تصافيهما، وكون الغالب لم يجهز على المغلوب،

بل لم يحاول إرهاقه ولا إضعافه ولا النيل من كرامته وشرف مكانته بأدنى انتقام

يورثه وقومه حقدًا، أو يحملهم ضغنًا، بل أمضيا كلاهما اتفاقًا عسكريًّا عادلاً نشراه

على العالم الإسلامي في صورة معاهدة وصداقة إسلامية عربية شريفة بين أخوين

متساويين في جميع الحقوق، وثقت الروابط الودية القوية بين المملكتين ليقفا معًا

متعاونين تجاه كل عدوان خارجي يهدد جزيرة العرب.

وشبه هذا الاتفاق الذي احتقر فيه الانتقام الشرس السيئ العاقبة بما فعل

ولنجتون الإنكليزي مع فرنسة في خاتمة حروب نابليون (نقول: ولكن بعد ما كان

من أشد الانتقام) وبما فعل كتشنر في الاتفاق مع البوير (نقول: ولكن بعد ما كان

من التنكيل والتدمير) ثم قال الجنرال ما ترجمته: (إنني أقول هذا أيها السادة:

لأنني أرى الدول المسيحية في احتراب دائم، ونضال هائل، تجرد به حسامًا ثقيلاً

رهيبًا، ثم تعلقه بعد فتكه الذريع فوق رأس أوربة بخيط واهٍ (كخيط العنكبوت)

هذه حال الدول المسيحية الآن، وهي من سوء الخطر بالقدر الذي تبصرون) .

هاتان شهادتان من شهادات كثيرة من مصدرين من أعلى مصادر إنكلترة

السياسية والعسكرية التي لم تكن تعترف للإسلام ولا للعرب وللشرق بفضل كبير،

مثل هذا لولا الدهشة والروعة التي فجأتهما، وإرادة التنبيه لما تعقبه هذه المعاهدة

من حياة إسلامية عربية جديدة يجب أن يحسب لها أوربة كلها وإنكلترة وصهيونيتها

كل حساب.

فالحق الذي عرفته أوربة وعرفه العالم كله أن هذين الملكين العربيين،

والإمامين المسلمين، قد ضربا للعالم ما يُعبَّر عنه في لغة هذا العصر بالمثل الأعلى

للأخلاق الإسلامية، ولن تستطيع دول أوربة أن تقتدي بهما فيها، فالمسلمون بهداية

الإسلام أرقى الأمم أخلاقًا وعدلاً وإنصافًا، وإنما تنقصهم الفنون التي تنهض

بعمران بلادهم، وتجديد قوتهم في ظل هذين الإمامين العظيمين، وبهذا يعترف

العالم كله بفضل الإسلام وتوقف الكمال المدني على هدايته كما بيناه في كتاب

الوحي المحمدي.

وخلاصته أن جميع ما بلغته تلك الشعوب من العلم والفلسفة والعقل والحكمة

وفنون الحضارة، وغرائب الصناعة لا يغنيها عن هداية الإسلام فيما هو أعلى منه

من تزكية النفس البشرية، وتطهيرها من أرجاس الرذائل الشيطانية، كعبادة الهوى

والمال والشهوات والطمع والحسد والمكر والكذب والخداع، والظلم والبغي

والعدوان وتحليتها بأضدادها من الفضائل السامية بالإيمان بالقرآن، واتباع ملة

محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقد وقع بين دولتين نصرانيتين أمريكيتين مدنيتين (هما بوليفيا) وبارغواي

على بقعة من الأرض لا تساوي واديًا من أودية جبال عسير الخصبة، ولا جبلاً من

جباله المنيعة، فاستحرَّ القتال بينهما منذ سنتين، وعجزت جميع الدول والأمم

المشاركة لهما في الدين وغيره من الإصلاح بينهما، ووقعت قبل ذلك أرقى دول

أوربة في الحرب الكبرى، وجذبوا إليها دولة أمريكة العظمى، وكثيرًا من الدول

الصغرى، فكان من سفك الدماء، وتقويض دعائم العمران، بمنتهى ما وصل إليه

العلم والفنون المادية من وسائل التخريب والتدمير، ما لم يعهد له التاريخ نظيرًا ولا

خطر على قلب بشر أن يحدث مثله، حتى إذا عجز أحد الفريقين المتقاتلين عن

استمرار الحرب، وجنح إلى ما دعا إليه أقربهم إلى الإنسانية وفضيلة الدين

المسيحي من السلم، وهو الدكتور (ولسن) مصدقًا ما وضعه من شرائط الصلح،

وألقى هذا الفريق سلاحه، قلب له هذا الفريق المنتصر ظهر المجن، وأكرهوه

على إمضاء شر معاهدة وضعها الغالب لإرهاق المغلوب وإذلاله، كانت سببًا لما

تشكو شعوب أوربة كلها من سوء عاقبته، وهي ما نهى عنه الله تعالى بقوله:

{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} (النحل: 94)

إلخ

(الإصلاح الديني والسياسي في المعاهدة)

لقد جاء الإسلام بكل ما يحتاج إليه البشر من الإصلاح الديني والدنيوي،

ولولا ما نُفث فيه من سموم الشقاق السياسي الذي فرق الكلمة، وشق العصا، لساد

العالم كله، مغربه وشماله بعد شرقه وجنوبه، وقد وُضِعَ في هذه المعاهدة كلمتان

خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، لو رصعتا باللؤلؤ والمرجان في لوح من

خالص العقيان، لما وفى بقيمتهما، وما يجب من حق قدرهما، هما: الأخوة

الإسلامية والصداقة العربية، فإن وضعهما في معاهدة سياسية رسمية وقعها الملكان

العربيان، والإمامان الدينيان للفرقتين العظيمتين أهل السنة والجماعة من جهة،

والشيعة المعتدلة من الجهة الثانية لهو أكبر رجاءً وخير أملاً من كل ما كتب حكماء

المسلمين المصلحين في الدعوة إلى جمع كلمة المسلمين والتأليف بينهم، وإعادة مجد

الإسلام وهدايته من المقالات والرسائل المتفرقة في الرسائل الخاصة والصحف

العامة منذ خمسين سنة، وأجمعها ما بثثناه في مجلدات المنار من أولها إلى هذا،

وهو الرابع والثلاثون منها، وقد نشرت في سبع وثلاثين سنة.

وإنه لهو أكبر رجاءً وخير أملاً (أيضًا) من كل ما كتب المشتغلون بالسياسة

العربية، والمؤلفون لجمعياتها السياسية من الدعوة إلى وحدة هذه الأمة، وإحياء

حضارتها، وتجديد مجدها، وإعادة استقلالها، ومن أحكمها جمعية الجامعة العربية

التي كان صاحب المنار يراسل باسمها، ثم باسمه هذين الإمامين وغيرهما بالدعوة

إلى الحلف والاتفاق منذ سنة 1330 إلى هذه السنة التي وصل فيها الخوف من

الخيبة إلى أقصى حده، ولم يلبث أن زال وحل محله الرجاء بفضل الله وحمده،

وإنما كان ما فعله الإمامان أكبر من كل ما ذكر؛ لأنه تنفيذ عملي له.

إن جريدة التيمس قد صرحت بذكر ما كان يعد أكبر مانع من هذا الاتفاق من

حيث غفل عنه، أو جهله أكثر محرري الجرائد العربية، وهو التعصب الديني

المذهبي الذي اشتهر به أهل نجد وسكان جبال اليمن؛ فإن الأخصائيين من كتاب

الإنكليز في الأمور الإسلامية يعلمون من التعصب بين السنيين والشيعة في العراق

والهند ما لا يعلمه أحد في مصر التي لا يخطر لأهلها التعصب الديني ببال.

وأما صاحب المنار فقد درس هذا من جميع أنحائه، وأحاط في مطاويه

وأحنائه، وطالما دعا إلى تقويم أوده، وسعى لعلاج أدوائه، وكان من تمهيده الخفي

لهذا الاتفاق الإسلامي الجلي ما تراه في الرسالة الثالثة من رسائل كتاب (الهدية

السنية، والتحفة الوهابية النجدية) من رأي علماء الوهابية الأعلام في الزيدية

والشيعة، وما علقته عليه وهو ما قاله العلامة الشيخ عبد الله ابن الإمام المجدد

الشيخ محمد عبد الوهاب في مكة المكرمة مبينًا لأهلها خطتهم ورأيهم في المذاهب

وهو:

(ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على

من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية

والإمامية (1) ونحوهم لا نقرهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة (2) بل

نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة) . اهـ. (ص 44 طبعة أولى) .

وظاهر هذه العبارة أنهم لا يأذنون لأصحاب هذه المذاهب بالإقامة في الحجاز

إلا إذا تركوها، واتبعوا أحد مذاهب أهل السنة، وهذا من أشد التعصب الذي كانوا

يوصفون به، وهو يزيد الشقاق بين المسلمين، فالتمست لها تخريجًا مهدت به

للاتفاق بأن علقت على كلمته الأولى في حاشيتهما بما نصه:

(1)

إن كلمة الرافضة التي وُضعت لغلاة الشيعة تشمل الباطنية وآخرين

دون الزيدية ومعتدلي الإمامية، والظاهر أن صاحب هذه الرسالة ووالده لم يَطَّلِعوا

على كتب الزيدية في الفقه، ولو اطلعوا عليها لعلموا أن فقههم مدون، وكذلك

الإمامية، وأن الفرق بينه وبين فقه الأربعة قليل قلما قال أحد مجتهديه قولاً انفرد به،

وخالف الإجماع قبله، وكيف وهم يحتجون بالإجماع وبعمل السلف؟ وكذا

بأحاديث دواوين السنة المشهورة كالكتب الستة، وقد كان مشايخنا يقولون كما قال

مشايخ نجد: إن سبب حصر التقليد في فقه الأربعة دون سائر مجتهدي الأمة هو

تدوين مذاهبهم دون غيرها، وهذا غلط سببه عدم الاطلاع.

وعلقت على الثانية بما نصه:

(2)

أي لا نقر - بصفتنا حكام البلاد - أصحاب المذاهب غير المضبوطة

أن يظهروا شيئًا من مذاهبهم الفاسدة، كأقوال الباطنية بأن لأحكام العبادات معاني

غير الظاهر الذي عليه العمل، وبوجود إمام معصوم في كل عصر يجب اتباعه في

كل ما يقول، وكسبّ غلاة الرافضة للشيخين رضي الله عنهما، وبراءة الخوارج

من الصهرين رضي الله عنهما، ومقابل قوله (ظاهرًا) أنهم لا يحاسبون أحدًا على

ما يخفيه من أمثال هذه المسائل. اهـ.

وكنت جريئًا أي جريء في هذا التعليق، وفي حواشٍ أخرى من مطبوعات

جلالته للمصلحة الإسلامية، وأنا أعلم أنني لا أسلم من سخط علي قد يتبعه ضرر،

وقد حصل، وقد ظهر الآن صحة قولي وسداده في هذه القضية، وسيظهر غيره في

غيرها، ولكل أجل كتاب، على أن علماء نجد لم ينكروا عليّ هذه التعليقة.

وقد نشرنا ستة عشر ألف نسخة من هذا الكتاب مجانًا في الأقطار، فكان بعد

نشره وإقرار علماء نجد له من تعصب بعض علماء الشيعة في سورية والعراق أن

ألفوا الكتب والرسائل في تجديد الخصام، ومنها سفر كبير حاول ملفقه وهو من

سادة علماء جبل عامل، وسكان الشام، إخراج الوهابية من حظيرة الإسلام، ثم

كان ما أظهرته الشيعة في مؤتمر النجف طعنًا فيهم، وتكفيرًا لهم، وتحريضًا عليهم،

ثم ما حدث بعد ذلك في العراق من التنازع الوطني بين أهل المذهبين ما كاد

يفضي إلى حرب أهلية لولا الثورة الأشورية، كما قال لنا الملك فيصل رحمه الله

تعالى.

لقد كان هذا الشقاق من أول عهده شر الدواهي والمصائب التي أضعفت

الإسلام دينًا ودولة، ومنها أنه كان من أقوى الوسائل لإخضاع الإنكليز لممالك

الإسلام في الهند، حتى إنهم كانوا يلقبون بعض جيوشهم بألقاب سنية، وبعضها

بألقاب شيعية جعفرية، وكانوا يرجون أن ينالوا مآربهم من جزيرة العرب بمثل ذلك

الشقاق بين اليمن ونجد، فخيب هذا الاتفاق أملهم، وراعهم منها ما راعهم من اتفاق

شاهي الترك وإيران، وما يقال (ويا ليته يصح) من احتمال إشراك العراق فيه

والأفغان، ولولا سبق إمامي جزيرة العرب إلى هذا الاتفاق، لقيل: إن الجامع بين

الشاهين إنما هو نبذهما لعقائد الإسلام؛ لأنه هو المفرق بزعمهم. والحق أنه دين

التوحيد والتأليف، إنما فرقت بين أهله السياسة، فقد كان سببه التنازع في الإمامة

فمرق طوائف الشيعة الباطنية من الإسلام، ووقف الاثنى عشرية بها عند المهدي

المنتظر، قل فانتظروا إنا منتظرون، ولنتفق الآن فخير للإسلام أن يظهر ونحن

متفقون، على أن يكون كل أحد حرًّا في مذهبه ولا يتعرض لمذهب غيره بما

يسوءه وينفره ويشعره بأنه عدو له، من قول أو فعل، كتقسيمهم إلى أقلية وأكثرية،

وطلب جعل أعمال الدول مذهبية.

كان الترك يقاتلون إمام اليمن كما قاتلوا الفرس من قبله لاختلاف المذهب في

الظاهر، والمطمع السياسي في الباطن، ولما حل الملك السعودي في الحجاز محلهم

كان أول شيء هو الاتفاق مع الإمام الزيدي، وعقد الحلف معه، وما زال يخطب

وده ويطلب عهده بوسائل الرسائل وإرسال الوفود، حتى تم له ذلك في هذا العام،

فمن عاد بعد اليوم إلى إثارة النزاع والخصام فهو عدو الله ورسوله ودينه الإسلام،

فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام؛ لأنه إنما يبغي منفعة نفسه، والجر لقرصه،

وإن كان فيه الشقاء لأهل دينه وجنسه.

(التمهيد بالمعاهدة للوحدة العربية)

لقد وُضع بهذه المعاهدة أساس الوحدة العربية التي ينشدها العرب في كل مكان،

ولم يبق لإكمالها من هذا الجانب الدولي إلا إتمام ما بدأ به الملك فيصل (رحمه

الله تعالى) من الاتفاق مع الدولة العربية السعودية، وما نظن بجلالة نجله ووارث

سياسته الملك غازي ورجال دولته من رجال الدعوة العربية وثورتها إلا أنهم

متممون له، وإنا نكتفي من هذه المسألة الآن بنقل برقيتي التهنئة بين الملك غازي

والملك عبد العزيز أعزهما الله تعالى.

البرقية الأولى

جلالة الأخ الملك عبد العزيز آل سعود

لقد استبشرنا كثيرًا بمعاهدة الصداقة الإسلامية والأخوة العربية بين جلالتكم

وجلالة الإمام يحيى والتي نرجو أن تكون خطوة جديدة لتوثيق الأخوة والاتحاد بين

الأقطار العربية الشقيقة، وفقكم الله لما فيه خير الأمة العربية

...

...

...

...

... (غازي)

البرقية الثانية

جلالة الأخ الملك غازي

نشكر جلالتكم على ما تفضلتم به من السرور والاستبشار بمناسبة معاهدة

الصداقة الإسلامية والأخوة العربية التي عُقِدَت بيننا وبين أخي الجميع الملك الإمام

يحيى، وإن الأخوة الإسلامية والعربية التي حققتها تلك المعاهدة بيننا وبين أخينا

الإمام يحيى هي التي سعينا ونسعى إليها على الدوام مع العرب جميعًا، لجمع كلمة

العرب والتآخي بينهم لما فيه صلاح لهم في دينهم وعز لهم في دنياهم، وسترونني

على الدوام إن شاء الله عاملاً على كل ما يجمع الله به شمل المسلمين عامة،

والعرب خاصة، وثقتي بالله، ثم بجلالتكم، وبسائر رؤوساء العرب أن تتكاتف

جهودنا لجمع كلمتنا لما فيه حفظ كياننا، وسلامة أوطاننا، وعز شعبنا العربي،

ونسأل الله أن يوفقنا جميعًا للعمل لما فيه حياة الأمة الإسلامية، وتوطيد الأخوة

العربية.

...

...

...

...

(عبد العزيز)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*)(فاطر: 34) .

ص: 204

الكاتب: محمود أبو رية

‌كلمة خالصة لوجه الله

نشرها في المقطم الأستاذ العالم الإصلاحي المستقل، والكاتب العصري المستدل السيد الشيخ محمود أبو رية

كنت أتمنى من زمان بعيد أن أظفر بتفسير المنار، ظلت هذه الأمنية تعتلج

في نفسي حتى قيض الله لي في هذه الأيام أن أحصل على أجزائه التي صدرت منه،

وما إن قرأت بعض هذه الأجزاء حتى ألفيتني تلقاء شيء لا عهد لي به من قبل

في كل ما قرأته من التفاسير، واستبان لي أن هذا التفسير نسيج وحده فريد في

موضوعه.

لقد قرأت كثيرًا من التفاسير التي وُضعت لكتاب الله، ووقفت على طريقة كل

مفسر ممن قرأت، وعلى أنهم رضي الله عنهم قد أتوا بما استطاعوا أن يأتوا به مما

تَأَتَّوْا إليه بعلومهم وأزمانهم وأمكنتهم؛ فإنهم لم يصلوا في كثير مما فسروا إلى حقيقة

دين الله، وإظهار أحكامه وشرائعه كما أوصى الله بها، وإنك لتراهم في سيرهم،

كأنهم مقيدون بسلاسل من أقوال غيرهم، فلا يفسرون كتاب الله بما ينبعث من نوره،

وما يُستنبط من آياته، وبما تبينه سنة الله في عباده؛ ولكنهم يشحنون تفاسيرهم

بقبائل مختلفة من آراء من سبقهم من غير أن يمحصوا هذه الآراء ليعرفوا صحيحها

من باطلها، أو يحملوا أنفسهم على نصب البحث ليزنوا مقدار من قالها، وظل

كتاب الله - كما قال حكيم الإسلام السيد جمال الدين - بكرًا لم يُفسَّر.

أما تفسير المنار الذي أخرجه في هذا العصر حجة الإسلام الإمام الثقة الحافظ

السيد محمد رشيد رضا ليكون هداية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فإنه

يمتاز عن كل التفاسير التي سبقته بمزايا جليلة لو ذهبنا لنستقصيها لطال بنا سبيل

القول، ولاحتاج ذلك إلى مقالات مستفاضة، ذلك بأن هذه المزايا متعددة المناحي،

كثيرة النواحي، وبحسبنا اليوم أن نقول في صراحة وإخلاص بغير أن يتوهم أحد

أن نجنح إلى المغالاة: إن هذا التفسير خير ما وضع لبيان مقاصد كتاب الله،

وشرح أحكام دينه في عقائده وعباداته وفضائله وآدابه وحلاله وحرامه كما أراد الله

أن تكون، لا كما أراد الناس بآرائهم وأهوائهم، وإنه فيض إلهي أفاضه الله على

قلب وارث النبوة السيد محمد رشيد، فخرَّج آيات تكشف عن نور القرآن الكريم؛

ليبدو في هذا العصر كما بدا في زمن البعثة النبوية والصدر الأول زاهرًا باهرًا.

وإني يخيل لي وأنا أتلو هذا التفسير الجامع كأن رسول الله صلى الله عليه

وسلم هو الذي يملي على مفسرنا الإمام معاني آيات الكتاب العزيز، ويبين للمسلمين

أصول العقائد الإسلامية والمقاصد الدينية، كما أراد أن يبلغها عن ربه بريئة من

شوائب الشرك، وغواشي الوثنية.

ومما راعني في هذا التفسير ما آنسته متجليًا في كل مسألة من العلم الغَزِيرِ

بالمعقول والمنقول، والإحاطة الشاملة بالسنة المحمدية، والتمييز بين صحيحها

وضعيفها، وما ثبت منها وما لم يثبت، وسعة الإدراك للعلوم الشرعية، والاطلاع

على العلوم الاجتماعية والنفسية، ومناقشة الرواة والعلماء ورجال الجرح والتعديل

في بعض رواياتهم وآرائهم وأحكامهم، حتى يتبين الصالح منها والصحيح، دع ما

أوتيه إمامنا من بلاغة العبارة، ودقة الذوق البياني الذي ينفذ إلى أسرار الإعجاز؛

فيجليها في أحسن معرض.

أما المسائل العويصة، والأمور المستغلقة التي اختلف فيها المفسرون، فلم

يكشفوا عن وجه الصواب منها، ولم يهتدوا إلى مقطع الحق فيها، فإنك تجد مفسرنا

الإمام بعد أن يسوق كل ما قيل فيها من أقوال من سبقوه يتولاهم بالعلم والحكمة،

ويريغها [1] بنور البصيرة، وثاقب الذهن، ولا يزال بها حتى يخرجها نيرة كفلق

الصبح.

ويأبى عليه إنصافه وعلمه إلا أن يتقبل من آراء غيره ما يجد فيه الصواب،

ولا يدع من أصاب في رأيه من غير أن يزجي له الثناء والحمد.

وأما الآراء الفاسدة والتأويلات الباطلة فلا يني في دفعها والقضاء عليها، وله

حملات شديدة على الخرافيين، وعُبَّاد القبور فيضربهم بالحجج البالغة، ويخزهم

بسنان الحق وخزات موجعة، وذلك لكي يطهر العقيدة الإسلامية الصحيحة مما

أصابها من نزغات الشرك، وينفي عنها هذا الخبث الذي نالها من المتنطعين الذين

يحسبهم الناس من رجال الدين، وما هم منه في شيء.

وتراه لقوة حجته، ومتانة أدلته، ومبالغته في التحقيق والتمحيص لا يدع

لأحد مهما رسخت قدمه في العلم أن يتصفح [2] عليه، أو ينقض مما قاله كلمة، أو

رأيًا.

لقد كنا نرجو أن ينهض علماء عصرنا إلى كتاب الله العزيز؛ فيدرسوه

ويتدبروا آياته؛ لكي يثبتوا لأهل هذا العصر أن كتابهم صالح لكل زمان ومكان،

هادٍ لكل رقي وعمران، على أن يكون عملهم هذا بعيدًا عن (مباحث الإعراب

وقواعد النحو، ونكات المعاني ومصطلحات البيان، وجدل المتكلمين، وتخريجات

الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق

والمذاهب، وكثرة الروايات، مجانبًا ما سرى إلى أكثر التفاسير من زنادقة اليهود

والفرس، ومسلمة أهل الكتاب) .

كما نرجو منهم ذلك؛ ولكننا رأيناهم قد أخلدوا إلى مهاد الدعة، واكتفوا بأن

يقلدوا في دينهم مَن سبقهم من شيوخهم، أما هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى

الله عليه وسلم؛ ليكون هدى للناس ورحمة، فلا بأس من أن يحبس للتبرك به،

وأن يتلى في الطرق وعلى الموتى وفي الراديو، ثم لا ضير من أن نعيش مع

الناس بأجسامنا في هذا العصر، وندع عقولنا تحيا مع أهل القرون المظلمة.

وكان في النفس حسرة، وفي القلب لوعة من هذه الحال التي وصل إليها

المسلمون في هذا العصر المتحرك العامل؛ ولكن الله سبحانه الذي وعد بحفظ

(الذكر) الذي أنزله - وحفظه بالعمل به، ولا يأتي العمل به إلا بتبيينه، ولا يبينه

إلا وارث للنبوة - قيض له في هذا العصر الإمام الكبير الحافظ السيد محمد رشيد

رضا، ذلك الذي ورث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فأنشأ يفسره على

طريقته القويمة التي لا يفسر الكتاب العزيز بغيرها، والتي ما جاء الدين الإسلامي

إلا بها، ولا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عليها، تلك هي فهم الكتاب

العزيز من حيث هو (دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا

والآخرة) .

وإذا كانت الأصول الدينية قد جاء بها الكتاب وبينتها السنة الصحيحة؛ فإن

تفسير المنار الذي هو منار التفاسير قد أوفى على الغاية من بيان ذلك، ولا غرو

فهو التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي بين حكمة

التشريع، وسنن الله في الاجتماع البشري، وكون القرآن هداية عامة للبشر في كل

زمان ومكان، وحجة الله وآيته المعجزة) .

فتفسير هذه صفته وذلك أمره، يجب على كل مسلم يريد أن يعرف دين الله،

دين السلف الصالح، دين الفرقة الناجية أن يعكف عليه ويتدبره؛ ليصبح من

الناجين.

هذه كلمة خالصة أملاها عليّ وجداني، وأنا أستمتع بكنوز هذا التفسير،

أرسلها صادقة إلى جميع إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وآمل

منهم أن يضرعوا إلى الله معي أن يطيل في حياة هذا الإمام حتى يتم رسالته بإتمام

تفسير كتاب الله، وأن يزيده من فضله، ويبقيه ذخرًا للإسلام والمسلمين

...

...

...

...

(محمود أبو رية)

(المنار)

نشكر للأستاذ كاتب هذا التقريظ إخلاصه في ثنائه وإطرائه، وحسن بيانه

لما اعتقده وفاض من وجدانه، فقد صدر المقطم الذي نشر له في مساء الحادي عشر

من ربيع الأول، فقرأه في الليل جماعة من العلماء والأدباء الأزهريين وغيرهم كانوا

يسمرون عندنا بدار المنار في ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف؛ فاتفقوا على أنه

كلام عالم معتقد مخلص كتبه لوجه الله تعالى كما قال، فأما ما قاله في غرضي

وقصدي من هذا التفسير وطريقتي فيه فهو كما قال، ولله الفضل والشكر، وأما ما

أطراني به من سعة العلم والحفظ فهو مبالغة منحني بها ما هو أكثر مما عندي؛

فإن حفظي قليل ولا أقبل من كلام العلماء إلا ما أعتقد، وإنما بضاعتي التي أرجو

نفعها للناس وقبولها عند الله عز وجل فهي الإخلاص في تحري الحق الذي أنزل

الله به وله القرآن، وبيانه بما يفهمه أصناف القراء، ويرجى أنه يؤثر في قلوبهم

بقدر استعدادهم وحسن الإمكان وحال الزمان، ولا أزال طالبًا للعلم، آسفًا لضيق

الوقت عن تحصيل كل ما أحب من الاستزادة منه.

_________

(1)

المنار: هي من الإراغة، أي: يعالجها، ويحاول الظفر بها محاولة المراوغ.

(2)

المنار: تصفح الشيء أو الكتاب تأمله ونظر في صفحاته باحثًا، ولعله عداه بعلى لتضمينه معنى الاستدارك.

ص: 212

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كشف بقية شبهات العَالِم النجدي

في كلمات من كتاب الوحي المحمدي

(2)

انتقاده قولنا: إن حرب النبي صلى الله عليه وسلم

كانت دفاعًا والجواب عنه

قال: إن (معنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز، إلا إذا

قاتلونا، والكلام عليه من وجوه) وذكر سبعة وجوه.

أقول: إن هذا المعنى الذي فسر به المسألة غير صحيح، لا يدل عليه قولنا

باللفظ ولا بالفحوى، بل فيه ما يبطله، فقولنا: إن قتال النبي صلى الله عليه وسلم

للكفار كان دفاعًا وكانوا هم المعتدين فيه، قضية شخصية في واقعة حال فعلية، لا

تدل على القضية السالبة الكلية التي استنبطها منها، وكان له أن يأخذها من النهي

في الآية فحسب؛ ولكنه جمع بين الأمرين، وإنني أقول كلمة وجيزة في كل وجه

من الوجوه السبعة التي سردها أبطله بها، ثم أقول كلمة في أصل المسألة:

(الوجه الأول) :

قوله: (إن قتال المسلمين للكفار الذين لم يقاتلوهم لا يكون اعتداء؛ لأنه لا

يكون إلا بحق) لما علله به. ولو صح لا يكون ناقضًا أو معارضًا لكون حرب النبي

صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا؛ لأن الكفار كانوا هم المعتدين البادئين بها كلها كما

هو ثابت بالواقع ولقوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ

الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) ولكنه غير صحيح؛ فإن المسلمين

غير معصومين في جميع حروبهم من اتباع الهوى، ولا يكون مقاتلاً في سبيل الله

إلا من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، واتبع أحكامه تعالى فيها، ومنها أن لا يكون

ناقضًا لعهد مع الكفار كما هو معلوم بالإجماع.

وتفسيره الاعتداء بما فسره به مخالف لما جرى عليه المفسرون، فقد فسروا

النهي عن الاعتداء بعدم بدئهم بالقتال، اقتصر عليه بعضهم كالجلال وزاد عليه

بعضهم كالبيضاوي احتمال كونه نهيًا عن قتال المعاهدين، وهو بمعناه أي نهي عن

بدئهم بالقتال، لا بمعنى ما فسره به المعترض من زعمه أن قتال المسلمين لا يكون

اعتداء؛ لأنه يقصد به إنقاذهم من نار الجحيم، والمعاهدون منهم.

وهذا التعليل يشبه ما تأول به السير (إدوارد غراي) الوزير البريطاني ما

كانت قررته دولته وأحلافها في أول الحرب العالمية من وجوب حرية جميع

الشعوب، ومنع ضم الدول الغالبة لشيء منها إلى أملاكها، فلما كان الفوز لهؤلاء

الحلفاء، قال الوزير البريطاني: إنما يمتنع ضم الشعوب الضعيفة إلى الدولة

الظافرة، إذا كان يقصد به الظلم والكبرياء، وأما إذا كان يقصد به فائدتها والإحسان

إليها بالعدل والحضارة فهو جائز، وربما قال: إنه واجب. يريد أن دولته تستولي

على البلاد لخير أهلها، لا لمنفعة نفسها.

(الوجه الثاني) :

قوله: (غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف

عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء

إلخ) ، وهو

ممنوع، بل باطل، والحق أن الآية تدل على قتال من قاتلنا، وعدم قتال من لا

يقاتلنا بالمنطوق في كل منهما من أول وهلة، فقوله: غاية ما تدل عليه كذا خطأ،

وتعبيره بالكف في الثاني خطأ ثانٍ؛ فإن الكف إنما يعبر به عما كان بعد الشروع

في الشيء، وقوله بأن الدلالة على الكف بمفهوم المخالفة خطأ ثالث، وقوله بأن

هذا المفهوم معارض للمنطوق الصريح خطأ رابع، وقوله المفهوم ليس بحجة عند

أكثر العلماء، إذا لم يُخَالَف غير صحيح على إطلاقه؛ وإنما فيه تفصيل لا محل

لذكره هنا.

(الوجه الثالث) :

قوله: إن آية كذا وكذا، وحديث كذا وما في معناه: (كل ذلك عام شامل لمن

قاتل، ومن لم يقاتل) غير صحيح على إطلاقه، ولو صح لما كان واردًا علينا، أما

الأول فلأنه لو كان صحيحًا على إطلاقه لكان شاملاً لقتال المعاهدين، وهو باطل

بالإجماع، وأما الثاني فلأن عموم ما ذكر لا يدل على أن شيئًا من حرب النبي

صلى الله عليه وسلم كان ابتداءً، لا دفاعًا.

ونزيد ذلك تفصيلاً بأدنى ما يحتمله بحث كهذا البحث هنا، فنقول: إن قوله

تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (البقرة: 193) نزل بعد قوله:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: 190)

إلخ، فهو لبيان غاية

القتال لا لبدئه، ومعناه: وقاتلوهم إلى أن يزول هذا النوع من اعتدائهم الموجب

الأول لقتالهم وهو فتنة الناس عن دينهم بصدهم عن الإسلام، وإيذاء من يدخل فيه

بضروب الإيذاء، وقد بينا هذا في تفسير الآية من سورة البقرة، ثم في تفسير

أختها من سورة الأنفال (ص 556 ج 9 تفسير)

وأما قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة:

29) فهو آية الجزية التي نزلت في بيان انتهاء قتال الموصوفين فيها من أهل

الكتاب بإعطاء الجزية لا في بدء القتال وعمومه؛ فإن القتال كان مشروعًا قبل

نزولها، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسيرها من الجزء العاشر (ص280)

وكذلك حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) فهو في بيان

انتهاء قتال المشركين إذا نطقوا بهذه الكلمة التي هي عنوان ترك الشرك، وقبول

الإسلام، لا في بيان شرعية قتال كل أحد حتى يقولها؛ فإن اليهود كانوا يقولونها.

على أننا إن فهمنا كل ما ذكر كما فهمه لا نراه ناقضًا لقولنا: إن حرب النبي

صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا، فهذا بيان للواقع، وذاك بحث في أصل التشريع

ولا تنافي بينهما، هذا لون، وهذا لون، كما يقول ابن القيم في تعبيره عن الفروق.

(الوجه الرابع) :

قوله: إن وصف القتال والجهاد المشروع في الكتاب والحديث بأنه ما كان في

سبيل الله، لا يفهم منه الدفاع فحسب، وهذا لا محل له في بحثنا؛ وإنما هو تلذذ أو

إدلال بتكثير الوجوه، ذلك بأن موضوعه القصد والنية، وحاصله أن القتال والجهاد

لا يكون قربة إلا بالنية المذكورة في الحديث، وأن ما كان بنية إظهار الشجاعة

والحمية ومراءاة الناس فليس منه في شيء، فهو في وجوب الإخلاص في الجهاد

ككل عبادة لله تعالى، لا في عموم قتال الناس، وقد ورد في حديث الثلاثة الذين

يكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: الشهيد، والمتصدق والقارئ، ما هو

نص في قولنا، وهو في صحيح مسلم؛ ولكن هذه الأحاديث حجة على المعترض

في قوله الأسبق: إن قتال المسلمين لغيرهم لا يمكن، أن يكون اعتداء؛ لأنه كله

لأجل هدايتهم وإنقاذهم من النار.

(الوجه الخامس) :

لا يستحق أن يُبْحَث فيه بعد العلم بما تقدم وبما يأتي.

(الوجه السادس) :

ونصه دعوى باطلة بالبداهة، وهي أن قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين

وغيرهم (أنه لم يثبت أن كل من قاتلهم النبي والخلفاء الأربعة وغيرهم من أئمة

المسلمين قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم كان مقام دفاع عن النفس)

وهذا خطأ من وجوه كالتعبير بالعلم الاضطراري في موضوع سلبي، وجعله عامًّا

للمسلمين وغيرهم، فمتى كانت هذه القضية السليبة من القضايا الاضطرارية عند

المسلين وغيرهم؟ إن هذا إلا غفلة عن معنى الاضطرار.

ندع الخطأ في التعبير، ونحصر الكلام في الموضوع فنقول: إنه قد أدخل فيه

ما ليس منه، وهو حرب الخلفاء الثلاثة وغيرهم، وإنه لم يفهم مرادنا من حرب

الدفاع، فظن أنها عبارة عن كون الكفار هم الذين يبتدئون القتال في كل معركة،

وهذا مخالف للواقع في كل زمان ومكان من القرون الماضية إلى زماننا هذا،

ورأيت كثيرًا من الناس حتى المشتغلين بعلم الفقه وقراءة السير غافلين عن الحقيقة

في هذا الموضوع.

إنما المعتدي المبتدئ بالقتال هو الفريق الذي أوجد حالة الحرب بالفعل أو

بالقول، وإن لم يكن هو البادئ، بعد وجودها في كل هجوم، والمدافع هو المقابل

له في الاعتداء والقتال، ولا يخلو من ابتداء بعض المعارك والإغارات ففرنسة

وأحلافها يقولون: إن ألمانية كانت هي البادئة المعتدية في الحرب الدولية الأخيرة،

وإنهم كانوا هم المدافعين، ولم يقولوا هم ولا غيرهم إنها كانت هي البادئة في كل

معركة وكل تعدٍ.

ومن المعلوم بنصوص القرآن القطعية وبالإجماع أن المشركين كانوا هم

المعتدين على المؤمنين بالقتل وغيره مما تقتضيه حالة الحرب التي أوجدوها، وأن

هذه الحالة قد استمرت إلى أواخر سنة ست من الهجرة؛ إذ عقدت معاهدة صلح

الحديبية، وتساهل النبي صلى الله عليه وسلم فيها معهم حرصًا على إبطال الحرب

وتقرير حرية الدين، ومنع فتنة المشركين للمؤمنين، ثم إن المشركين نقضوا هذه

المعاهدة، فعادت حالة الحرب بطبيعتها؛ إذ لا تُبْطَل إلا بمعاهدة ملتزمة، فكان هذا

سبب فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وما وليها من حرب الطائف وحنين، فلا

فرق بين هذه الحرب التي بدأ بها النبي والمؤمنون بالزحف، وبين غزوة بدر وأحد

والأحزاب التي بدأ بها المشركون.

وأول الشواهد على هذا من نصوص القرآن قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ

بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: 39) إلى قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} (الحج: 40)

إلخ، وأوسطها قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ

فِي الدِينِ} (الممتحنة: 8) إلى آخر الآيتين.

وآخرها قوله عز وجل: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ

الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) .

أفتغفلون أيها الفقهاء والمؤرخون عن القرآن، وعن حقيقة الواقع بالفعل،

وتأتون بقضايا مخترعة تدعون أنها معلومة بالاضطرار عند المسلمين، وعند جميع

الناس؟

(الوجه السابع) :

ما ذكره في سنته صلى الله عليه وسلم في السرايا والجيوش، ولم تبق حاجة

إلى الكلام في أنه ليس من محل النزاع، فإنه كان يبعثهم لقتال أولئك المعتدين

المشركين ويعلمهم أحكام القتال وآدابه من النهي عن الغلول والغدر والتمثيل وقتل

الأولاد، والأمر بدعوتهم أولاً إلى الإسلام، وما يتبعه من الهجرة فإلى الجزية،

وكذلك ما ذكره بعد هذا من الإشارة إلى الآيات ليس من موضوع النزاع، وفيه

أخطاء لا حاجة إلى بسطها والرد عليها.

وجملة القول: إن كل ما أورده في الرد على قولنا لا يَرَد علينا منه شيء،

فجميع قتال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين وأهل الكتاب كان دفاعًا لا ابتداءً

حتى غزوة تبوك، وأما حكم الجهاد في نفسه، ومتى يكون واجبًا عينيًّا، ومتى يكون

واجبًا كفائيًّا، فقد بينته في تفسير سورة التوبة بالتفصيل، وبينت علله وأسبابه،

وأهمها بعد كف اعتداء المعتدين، ومنع الفتنة والاضطهاد في الدين، وجعله حرًّا

خالصًا لله رب العالمين، حماية الدعوة إلى الإسلام. ومن كان عارفًا بتاريخ الأمم

والأقوام يعلم أن العرف العام بينها كان كعرف العرب، وهو أن كل قومين ليس بينهما

عهد فهما في حال حرب؛ وإنما تقع الحرب بالفعل عند توفر أسبابها، ولا يزال كذلك

إلى يومنا هذا؛ فإن دول الإفرنج يستبيحون الاعتداء على كل شعب أو حكومة ليس

بينهم وبينها عهد، ويفعلونه عند الحاجة إلى أن يمنعهم منه العجز أو التنازع فيما

بينهم.

* * *

(3)

انتقاده إعفاء المرأة حق اشتراط عصمتها

والجواب عنه

إنني أشرت في عبارة الطبعة الثانية من كتاب الوحي إلى دليل من قال بهذه

المسألة، وهذه عبارتي فيها (من ص 268) : بل تجيز؛ أي: الشريعة للمرأة أن

تشترط في عقد نكاحها جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت بناءً على ما

ذهب إليه بعض أئمة الفقه من صحة كل شرط غير مخالف لنص قطعي من الكتاب

والسنة، ولا سيما شروط الزوجية عملاً بحديث (أحق الشروط أن توفوا به ما

استحللتم به الفروج) رواه البخاري في مواضع من صحيحه، وأصحاب السنن.

اهـ.

وقد كان ينبغي للأستاذ المنتقد أن يقتصر على السطرين الأولين من انتقاده،

ولا يزيد عليه ما لا محل له هنا من إنكاره على أبي حنيفة هذه المسألة وغيرها من

اجتهاده، ومطالبتي بالدليل على ما ينكره عليه، ولا غير ذلك من الإسراف في

الإنكار، والإدلال بما عنده من العلم أو الرأي في أدلة الكتاب والسنة وطباع المرأة،

ووصفها بما وصفها به من العبارات الشعرية التي لا تدخل في باب الحجة.

لأجل هذا أزيده بيانًا لصحة هذا الحكم في ذاته، بصرف النظر عن مقام قائله

(وهو الإمام أبو حنيفة) وكون الإجماع لا ينعقد عند فقهاء السنة في عصره مع

خلافه، وبيانًا لإسرافه فيما صور به المسألة من مخالفة الكتاب والسنة، وجعلها من

باب ولاية المرأة على الرجل في الأمور العامة، كإمارة المؤمنين من جهة، ومن

مفاسد الاجتماع البشري في نظام البيوت والأسر من جهة ثانية، ملتزمًا الإشارة

الوجيزة فأقول:

(1)

إن الأصل في العقود هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا

بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) فهذا نص عام في القرآن، وهو صريح في أن الأصل في

العقود الصحة حتى يقوم دليل مثله في القوة يخصصه فيؤخذ به في مورد تخصيصه،

والنساء كالرجال في صحة التعاقد معهن فيما لا يخالف نصًّا في الشريعة.

(2)

إن الأصل في الشروط العامة حديث (المسلمون على شروطهم) رواه

أبو داود، والحاكم مرفوعًا من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وهو مقيد بحديث

(المؤمنون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك) رواه الحاكم عن أنس، وعائشة

وهو صحيح أيضًا، وذكر الحافظ في معناه حديث (المسلمون عند شروطهم، إلا

شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالاً) ولم يعزه ولا تلك فيه.

ويفسر هذا حديث (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما

كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق،

وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) وهو حديث مشهور ومتفق عليه سببه

اشتراط بائعي بريرة أن يكون لهم الولاء، وحكم الله أن الولاء لمن أعتق، والمراد

مما ليس في كتاب الله ما خالف حكم كتابه كما قال المحققون.

(3)

الأصل في شروط النكاح خاصة الحديث الذي أوردته في الطبعة

الثانية من كتاب الوحي، وذكرته آنفًا، وفي مذاهب الفقهاء في هذه الشروط أقوال

فصلها الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري، منها التفرقة بين ما هو من مقتضى

العقد، وما ليس منه، وهو مذهب الشافعي، وقال منها قول أحمد وجماعة: يجب

الوفاء بالشروط مطلقًا. اهـ. فمذهب إمام المعترض أوسع في هذه المسألة من

مذهب أبي حنيفة.

(4)

إن فقهاء الحنابلة وغيرهم قد أجازوا توكيل الرجل المرأة بأن تطلق

نفسها، وهي بمعنى اشتراطها بأن تطلق بنفسها، فيُرَّد عليه ما ذكره فيه.

(5)

إن هذا الاشتراط والتوكيل ليس فيه شيء من ولاية المرأة على الرجل؛

وإنما هما نزول من الرجل للمرأة عن اختصاصه بالطلاق باختياره، وهي لا

تشترط هذا إلا إذا كانت تخاف أن يظلمها الرجل ظلمًا لا ترى لها مخرجًا منه إلا

بطلاقه وهو نادر، فهي تهدده به لتمنعه من الظلم لها في نفسها ومالها، فإن وقع

أوقعته، وكم من امرأة اشترطته ولم تنفذه، ومنهم الأميرة المصرية الشهيرة

(نازلي هانم) .

فمن يريد تحقيق مسألة كهذه ينبغي له أن ينظر في جميع ما ذكرناه، لا أن

يلقي تلك الكلمة المجملة على عواهنها.

* * *

(4)

انتقاد مسألة كلام الله تعالى وصفاته والرد عليه

قال: إن تعريفنا لكلام الله تعالى لا يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار

إلخ، وأقول: إنني لم أدع أنه رواية؛ فيضرني أنه لا يعرف هو ولا غيره لها

راويًا ممن ذكر، ولا من غيرهم، وأسأله: هل يعرف أن أحدًا من هؤلاء العلماء

والرواة قال أو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن علماء أصحبه أنه لا

يجوز لأحد أن يفسر أسماء الله تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعلاً من أفعاله إلا

بحديث مرفوع أو أثر عن الصحابة، أو قول من أقوال مالك أو أحمد أو السفيانين

وأضرابهم؟ بل أسأله: هل التزم أحد من المفسرين للقرآن أو شراح الأحاديث هذا؟

وإذ لم يشترط أحد منهم فيه الرواية التي يحتج بها في العقائد، وهي القطعية ولا ما

يحتج به في الأحكام العملية من الآحاد الصحيحة، فعدم اشتراط نقله عمن لا يحتج

بأقوالهم في ذلك كالذين ذكر أسماءهم أولى، ولو كان المعترض يروي لنا ما يدل

على بطلان هذا التعريف لكان حقيقًا بأن ينظر فيه

على أن قولي: إن كلام الله تعالى صفة من صفاته؛ مروي ومجمع عليه عند

أهل السنة سلفهم وخلفهم، وأما زيادة: شأن من شؤونه، وذكر متعلقه فلعله لو فهم

مرادي منها لحمده ورضيه؛ فإنما هو عبارة عن إيثار مذهب السلف على مذهب

المتكلمين الذين قالوا: إن كلام الله صفة قديمة أزلية قائمة بذاته تعالى لو كشف عنا

الحجاب لرأيناها، وإنه واحد ليس فيه تقديم ولا تأخير ولا تجديد خطاب لمن شاء

تعالى بما شاء متى شاء، وأما وحيه إلى رسله فهو من الكلام اللفظي المحدث الدال

على كلامه النفسي الأزلي، فهو قد خاطب موسى في الأزل، وأطلعه في الطور

وغير الطور على ذلك الخطاب الأزلي بكشف الحجاب عنه، وأما السلف فيقولون:

إنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء متى شاء، وإن خطابه لموسى في مصر في

شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور، فهذا مرادي من قولي: إنه شأن من

شؤونه تعالى الخاصة به، التي لا تُعلم إلا بوحي منه، أخذًا من قوله تعالى: {كُلَّ

يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29)

جملة ما قاله المتكلمون على اختلاف مذاهبهم في كلام الله تعالى من نفسي

ولفظي وحقيقي ومجازي وقديم وحادث ومخلوق نظريات فلسفية مبتدعة مخالفة

لظواهر القرآن، ولما ثبت في الأحاديث الصحاح، وجرى عليه جمهور السلف من

الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، كما فصلته في المنار وتفسيره وأجملته في

كتاب الوحي بعبارة وجيزة؛ لأنه كتاب لا يجوز فيه بسط هذه المباحث الجدلية،

وقد كُتِبَ للدعوة إلى الإسلام، وبيان حقائقه التي لا تضطرب فيها الأفهام، ولا

يحول دونها شيء كفلسفة علم الكلام، ولكن أخانا الناقد فهم منها خلاف ما أردناه

بل ضده، وإننا نشايع فيه المتكلمين، ولذلك رتب عليه الأسئلة التي رأيت.

على أنني بينت مرادي من تخطئة المتكلمين، وبيان الحق في معنى كلام الله

تعالى وتكليمه لرسله في الفصل الأول الذي زدته في أول الطبعة الثانية من كتاب

الوحي (ص 22 25) ونشر في المنار، وفيه التصريح بأن موسى عليه السلام

سمع نداء الله تعالى له من وراء الشجرة، وإثبات الكلام والتكليم والنداء لله تعالى،

وأما كون الغاية من هذا كشف ما شاء الله تعالى من علمه لمن شاء من رسله فهو

بيان لمتعلق الكلام، وغاية التكليم الذي يفهمه الرسول من الخطاب، وليس معناه أن

الكلام أو التكليم هو العلم، وهذا بديهي في نفسه؛ ولكنه اشتبه على المنتقد فتوهم

أنني أعني من كشف العلم ما يعنيه المتكلمون من قولهم في صفة الله تعالى: لو

كشف عنا الحجاب لرأيناها، فهذه عبارة مبتدعة لا يدل عليها نقل ولا عقل، وإنما

أخذوها من قاعدتهم: كل موجود يجوز أن يُرى.

وإنني بعد أن بينت في ذلك الفصل أن تلك النظريات في الكلام الإلهي مبتدعة

لم يرد بها كتاب ولا سنة، وأنها مثار للوسواس الشيطاني، صرحت بوجوب إثبات

كل ما ثبت في كلام الله وكلام رسوله من إثبات ونفي، من غير زيادة ولا نقص،

بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، ثم قلت: وليس عليك ولا لك أن تحكم عقلك ولا

رأيك في كنه ذاته ولا صفاته، ولا في كيفية مناداته وتكليمه لرسله، ولا في كنه ما

هو قائم به، وما يصدر عنه، على هذا كان أصحاب الرسول، وعلماء التابعين،

وأئمة الحديث والفقه قبل ظهور بدعة المتكلمين. اهـ.

وقد نُشِرَ هذا الفصل في المنار عند البدء بإعادة طبع كتاب الوحي المحمدي

الذي جاءنا انتقاد أخينا الأستاذ النجدي عند إتمامه، وما أراه إلا قد قرأه قبله، ولكن

إخواننا النجديين مصابون بنوع من الوسوسة على مذهب السلف، فإذا رأوا كلمة

واحدة في كلام أحد يحتمل أن تفسر بما يخالفه قامت قيامتهم على قائلها وإن لم

يفهموها، وإن كان له مع ذلك مئات من الجمل الواضحة التي تثبت أنه مثلهم أو

أعلم منهم بمذهب السلف، وأقدر على بيانه ونصره بالعبارات الفصيحة المختلفة

غير متقيد بألفاظ بعض المؤلفين السابقين تقيد المتعبد بها.

* * *

(5)

إنكاره قولي: حررت هذه المقدمة

في ليلة المولد والرد عليه

بنى إنكاره هذا على أنه لا يرجو أن يقال مثل هذا القول إلا إذا وجد حديث

صحيح يعين ليلة المولد، وأن المحققين قرروا أنها لا تُعْرَف، وأن فيها أقوالاً

متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، وأرد على هذا من وجوه:

(1)

أن هذه المسألة تاريخية لا من مسائل الاعتقاد، ولا من مسائل الأحكام

الشرعية فجواز حكايتها لا يتوقف على حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وقد

تساهل جمهور العلماء في المناقب والفضائل، فقبلوا فيها الأحاديث والآثار الضعيفة

والمنكرة غافلين عما يترتب عليها من وصفه صلى الله عليه وسلم بما لا يصح أن

يوصف به إلا بنقل صحيح، وغير ذلك مما بيناه في موضوعه، ومسألة تاريخ

ولادته صلى الله عليه وسلم وزواجه، وموت أولاده، وسفره إلى الشام تكلم فيها

العلماء، ولم يقل أحد منهم: إنه لا يجوز حكاية شيء من ذلك إلا بحديث صحيح؛

لأن هذا قول بغير علم بل اختلفوا فيما هو أهم من ذلك وهو تواريخ بعض حوادث

السيرة النبوية كتاريخ بدء الوحي، وفترته، والإسراء، وفرضيه الصلاة، ولم

يشترط أحد منهم في حكايتها مثل هذه الشروط.

(2)

قوله: (إن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تعرف) غير معروف

عندنا فمن هؤلاء المحققون؟ وما دليلهم على ما قالوا؟ وهل يجب على من لم

يظهر له دليلهم أن يتبعهم؟ هذا زعم لا يقول به مسلم ولا عاقل، وحكم لم يقل به

عالم ولم يقض به عادل.

(3)

قوله: إن فيها أقوالاً متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض،

يعني أنها متساوية فيه، مردود لأنه مخالف لنقل علماء الحديث والتاريخ وترجيح

بعضها على بعض.

فقد نقل صاحب السيرة الحلبية الأقوال فيه، وأولها أشهرها وهو أنه كان

بمضي ثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول (قال) وحكي الإجماع عليه، وعليه العمل

الآن من الأمصار خصوصًا أهل مكة

إلخ قال: وقيل: لعشر مضت من ربيع

وصحح. اهـ. (قال) أي: صححه الحافظ الدمياطي، وذكر طعن بعضهم في

الأول بأن ابن إسحاق ذكره مقطوعًا دون إسناد، وأنه لو أسنده لم يقبل لتجريح أهل

العلم له، وذكر أقوال بعضهم فيه؛ ولكن التحقيق عند بعضهم أنه ثقة إمام في

السِّيَر، وأما في الحديث فهو صدوق مدلس فلا تقبل عنعنته ومسألة المولد من

السيرة لا من السنة.

ثم قال: وقيل: لثمانٍ مضت منه، قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره،

وعليه أجمع أهل التاريخ، وقال القطب القسطلاني: هو اختيار أهل الحديث؛ أي:

كالحميدي وشيخه وابن حزم. اهـ.

وقال ملا علي القارئ في شرح الشمائل عند ذكر ترجيح وفاته صلى الله عليه

وسلم في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول: هذا وقد اتفقوا على أنه ولد يوم

الإثنين في شهر ربيع الأول؛ لكن اختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر، أم ثامنه، أم

عاشره بعد قدوم الفيل بشهر، أو أربعين يومًا، قال بعضهم: ولم يختلف أهل

السير في أنه عليه السلام توفي في شهر ربيع الأول، ولا أنه كان يوم الإثنين،

وإنما اختلفوا في أي يوم كان من الشهر (وذكر من رجحه من أهل السير

والمحدثين، ومنهم ابن سعد وابن حبان وابن الصلاح والنووي والذهبي) ،

أقول: وصرح به محمد مختار باشا 56 الفلكي في التوفيقات الإلهامية الذي وضعه

للتوفيق بين الحساب الهجري من أول سنة منها، والحسابين الإفرنجي والقبطي

الشمسيين، وقد يستأنس باتفاق حساب المولد والوفاة لتقوية كل منهما بالآخر من

حيث كمال السنين المناسب لكماله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وكنت أحفظ

أن الراجح عند المحدثين أنه صلى الله عليه وسلم ولد في صبيحة اليوم التاسع منه،

ولا أذكر الآن من نقله، ولعل عبارة علي القارئ في ثامن الشهر أصلها تاسعه.

وجملة القول: إنه لا يصح أن يقال فيما رجحه بعض حفاظ الحديث أنه كغيره

باطل، وأن مثل هذه المسألة التاريخية يكتفى في الخلاف فيها ترجيح هؤلاء، ومن

دونهم من العلماء لبعض الأقوال على بعض، ومن الغريب أن يشترط أستاذ حنبلي

فيها أنها لا تثبت إلا بحديث صحيح، وإمامه بل إمام السنة أحمد بن حنبل يقبل ما

دون الحديث الصحيح في الأحكام الشرعية.

هذا وإنني لم أطل هذه الإطالة في تفنيد انتقاد ضعيف كانتقاد صديقي الأستاذ

الفاضل الشيخ عبد الله بن يابس إلا حبًّا فيه وفي قومه، وحرصًا على أن يكون

باعثًا له على التدقيق والتحقيق في الاستدلال، وما يقتضيه الخروج من مضيق

التقليد إلى فضاء الاستقلال، وما اقترحت عليه كتابة هذا الانتقاد كله، والاستدلال

عليه إلا لأجل هذا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 216

الكاتب: محمد رشيد رضا

تفنيد اعتراض كاتب جزويتي في مجلة المشرق

على كتاب الوحي المحمدي

(تابع ما قبله)

(2)

- 4 -

صد الكنيسة أو الكنائس عن الإسلام

ألمَّ الكاتب بما بيناه في مقدمة الكتاب من الحجب الثلاثة التي حجبت حقيقة

الإسلام عن أوربة إلمامًا وجيزًا، وأجاب عن صد الكنيسة عنه وبغيه عوجًا بأنه

يترفع عن إعادته، وأن آداب المناظرة تحول بينه وبين (الرمي بقذائف الكلام) .

ونرد عليه بأننا نحن لم نقذف الكنيسة أو الكنائس في ذلك بتهمة من عند

أنفسنا، ولا نقلنا شيئًا من أقوالها وأعمالها عن أحد من علمائنا، وإنما أشرنا إشارة

وجيزة إلى بعض ما دونه بعض علماء الإفرنج في ذلك، ولا سيما أحرار الفرنسيس،

وأهل النصفة النسبية منهم كالكونت دي كاستري صاحب كتاب (الإسلام:

خواطر وسوانح) وغيره من الكتب الكثيرة التي توجد كلها أو جلها في خزانة كتب

الكلية اليسوعية، فمن الميسور لحضرة الكاتب الأديب أن يظل معتصمًا بما ادعاه

من الترفع وآداب المناظرة، ويكتفي من الدفاع عن الكنيسة بأن يقول: إن كل ما

أسنده إليها أولئك الكتاب الفرنسيون الكاثوليكيو النشأة والتربية، وآخرهم موسيو

درمنغام الفرنسي الكاثوليكي صاحب كتاب (حياة محمد) أكاذيب مفتراة على أولئك

الذين أسندوه إليهم من رجال الكنيسة وغيرهم.

ثم نقل كلمتي (الحق أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها ....)

ووصفها بالبساطة الصبيانية، ولو قلت: إن الإسلام صديق الكنيسة لكنت حقيقًا بهذه

البساطة؛ ولكن المسيحية في عقيدتي التي هي عقيدة الإسلام الثابتة بالبرهان هي

غير الكنيسة المسيحية هداية توحيد وفضائل متممة لهداية التوراة الإسرائيلية وفاقًا

لما ينقلونه عن المسيح عليه السلام أنه قال: ما جئت لأنقض الناموس؛ وإنما جئت

لأتمم. والكنيسة نقضت الناموس من أول أساس له وهو التوحيد المجرد، وإبطال

اتخاذ التماثيل والصور إلى سائر ما فيها من العبادات والطقوس والتشريع المدني.

والإسلام هداية متممة للمسيحية؛ لأنه لم يوجد بعد المسيح عليه السلام من

يصدق عليه قوله: (يعلمك كل شيء) أي: مما لا يستطيع أن يقوله لهم غير نبيه

وهو الفارقليط روح الحق كما بيناه في كتاب الوحي وغيره.

ومما نقصده بقولنا: إن الإسلام متمم ومكمل للمسيحية - الحق التقريب

والتأليف بين الطوائف في بلادنا، وهو خلاف سياسة الكنيسة، بل طالما تمنينا لو

نتعاون مع رجال الكنيسة على محاربة كفر التعطيل المادي أيضًا، ووجد من أصدقائنا

من عرض هذا الرأي على الفاتيكان، وبلغنا أنه قُبِل وسيظهر له أثره، ولكن خاب

الأمل.

- 5 -

عدوان السياسة الاستعمارية على الإسلام

قال الكاتب: إنني نسبت إلى رجال السياسة الأوربية (صفات مستقبحة) ،

وسألني ماذا أقول (لمن يصف رجالات الفتوح الإسلامية العظام كخالد بن الوليد،

وعمرو بن العاص وغيرهم) وصفي لرجال الاستعمار المحدثين؟

وأجيبه عن هذا السؤال: إنه لا يستطيع مؤرخ صادق منصف أن يقول الحق

في رجالات الإسلام إلا ويكون أكبر حجة لنا، فإن قال الباطل وافترى فإننا نرد

عليه بأقوال كتاب أحرار الإفرنج من المؤرخين المنصفين كغوستاف لوبون الفرنسي

في كتابه (حضارة العرب) وغيره وحسبنا قوله (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا

أرحم من العرب) ، وكذا الأستاذ سيديو الفرنسي في كتابه خلاصة تاريخ العرب.

ومثلهما الأستاذ المؤرخ الكبير جيون الإنكليزي فإنه أطنب في فضائل العرب

في فتوحهم وحضارتهم وإحيائهم للعلوم، والدكتور ألفرد. ج. بتلر الإنكليزي

صاحب كتاب (فتح العرب لمصر) ؛ فإنه على تحمسه في نصرانيته وشدة

امتعاضه من حكاية انتصار الإسلام على النصرانية، وفتح العرب به لبلادها قد

شهد بأن سبب هذا النجاح والفلاح للعرب هو إقامة العدل واتباع الحق، وشهد

لعمرو بن العاص بالقدح المعلى في هذا حتى فضله في بعض المواضع على مثال

العدل المطلق في التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أن عمرًا لم يكن في

الذروة العليا من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، بل كان من محبي الدنيا والملك

فيهم.

وههنا نقول: إن ما كان من بعض فاتحي العرب من بعض الهفوات التي لا

يسلم منها البشر لم تكن بتعاليم الإسلام، ولا من خطة الخلفاء؛ وإنما كانت هفوات

شخصية، وأما خطة المستعمرين فهي سلب أموال البلاد، واستذلال العباد، وإفساد

الأخلاق، ومنع الحرية الدينية والاجتماعية والكتابة والخطابة، وإطلاق حرية

الفسق والفجور وحدها، وما عسى أن يوجد في بعض رجالهم في المستعمرات من

شجنة رحمة أو مسكة عفة؛ فإنما هو شخصي، ولا يجهل الكاتب ولا غيره ما

يجري في إفريقية الشمالية في هذه الأيام.

-6-

تأويله لعبارة تاريخية في هضم أوربة للنساء

ذكر الكاتب الحجاب الثالث على الإسلام في مقدمة الوحي، وهو فساد

الحكومات والشعوب الإسلامية، واستحواذ الجهل عليها، وأنكر علينا قولنا: إن

سبب ذلك جهل هداية القرآن. وأشار إلى ما شرحناه في الكتاب من مقاصد القرآن

العشر في الإصلاح لأركان الدين الثلاث التي حرفها أهل الكتاب، وبيان حقيقة النبوة

التي جهلوها، وسائر أنواع الإصلاح السياسي والدولي والمالي والحربي والنسائي،

والفرق بين عجائب المسيح ومحمد عليهما السلام، وقال: (إن البعض من أقواله لا

يثبت لنقد) ولكنه اقتصر على نقد كلمة واحدة عرضية نقلناها من كتابنا (نداء للجنس

اللطيف) وهي أن مجمعًا مسيحيًّا وضع موضع الشك: هل للنساء نفوس بشرية أم

لا؟ ورد عليه بأن هذا الشك إنما هو مشكل لغوي حاصله أن كلمة إنسان باللاتينية

(Homo) تطلق على الرجل والمرأة معًا أم لا؟

إنني أشكر له قوله: إن بعض كلامي لا يثبت على النقد، فهو حق مجمل بين

أباطيل مفصلة، لا ينكره إلا من يدعي لنفسه العصمة؛ لأن بعض الشيء يصدق

بواحد منه، وأي إنسان لا يمكن انتقاد بعض كلامه ولو مسألة واحدة؟ ثم أحمد الله

أنه نظر في أصول كلامي في النساء الذي فضلت به تعاليم الإسلام على جميع ما

نقل عن الأنبياء والحكماء والساسة والأدباء في إنصاف النساء، وإعطائهن حقوقهن

الدينية والزوجية والاجتماعية والسياسية والمالية

إلخ، فلم يجد فيه إلا كلمة

واحدة مما نقلناه من الشواهد التاريخية، وهو هضم المجمع لحقوق النساء، وإلا ما

سماه متناقضًا في مسألة أخرى وهو:

-7-

زعمه أن ما وصفت به الإسلام من الحرية والإخاء متناقض

قال: إنه لا حاجة به إلى تبيان ما في مقاصد الشيخ رضا من التناقض في

قوله: إن الإسلام هو دين الحرية والتآخي، وأنه يضمن للناس أجمعين حقوقهم،

وقوله بعد ذلك: إن الإصلاح الاجتماعي والسياسي لا يتم إلا بوحدة الأمة والجنس

والدين والتشريع، والأخوة الروحية، والمساواة في التبعة، والجنسية السياسية،

والقضاء واللغة (قال)(أي بأن يصبح العالم كله مسلمًا عربيًّا، فتصور) !

أقول: من قرأ هذا البحث الطويل الذي أشار إليه المنتقد في كتاب (الوحي

المحمدي) وكان يعرف علم المنطق، وما اشترط فيه لصحة التناقض بين

القضيتين من تحقق الوحدات الثمان، لم ير فيه ما رآه كاتب المشرق، الذي يجهل

أو يتجاهل المنطق، وأكتفي في رد قوله بمثل الإشارة الوجيزة التي اكتفى هو بها،

بدون أن أنقل شيئًا من نصوص الكتاب غير ما قاله هو فأقول:

قلت: إن الإسلام دين الحرية بمعنى أنه منع الإكراه على الدين بنص كتابه

العزيز، حتى إن فقهاءنا صرحوا بأن إسلام المكره لا يصح، ولا يعتد به، ولا

تزال بعض دول النصرانية تُكْرِه الناس على دينها، وتغتصب أموال أوقاف

المسلمين فتنفقها في سبيل تنصيرهم، وأهل شمال أفريقية قد ملؤوا الدنيا صياحًا من

هذا الإكراه - في هذه السنين - المستمر إلى هذا اليوم.

وقلت: إن الإسلام دين التآخي بمعنى أنه يرشد الناس إليه، لا أنه يُكْرِهُهم

عليه، فإذا كان لا يُكْرِه الناس على الأصل، فلا يعقل أن يُكْرِهَهم على الفرع. وقد

ثبت في القرآن ما يسمى بالأخوة القومية في تسميته الأنبياء عليهم السلام إخوة

لأقوامهم المشركين، كما ثبت فيه ما هو أرقى منها، وهو الأخوة الدينية،

وهذا شيء طبيعي؛ فإن الاتحاد في الاعتقاد الذي تناط به سعادة الدارين أقوى من

كل اتحاد، فأخوته أكمل من كل أخوة.

وقلت: إنه الإسلام يعطي كل ذي حق حقه، وأعني به الحق الذي قرره وأثبته

له في محيطه الخاص به، لا ما يدعي كل أحد من الحق لنفسه، فهو في القضاء

والشهادة يساوي بين الخاضعين لشريعته في أحكامها، لا يميز بين مؤمن وكافر،

ولا بر وفاجر، ولا قوي وضعيف، ولا ملك وسوقة، ولا غني وفقير، ولا قريب

وبعيد، ولا محب وبغيض، وفيه من وراء ذلك حقوق لأولي القربى والأرحام،

وحقوق للأصدقاء والجيران، وحقوق لأخوة الإسلام، وحقوق للإنسانية العامة، ولا

تعارض فيه ولا تناقض بين هذه الأنواع.

مثال ذلك أن الصدقة بالعامة في الإسلام مشروعة لكل هذه الأنواع، فتجب

على المسلم لغير المسلم المضطر غير الحربي، وتُسْتَحب للمحتاج غير المضطر

أيضًا، وللمسلم منها نوع خاص وهو الذي عينه القرآن للأصناف الثمانية من

نصاب الزكاة، وللأقربين نوع خاص كالنفقة الواجبة للمحتاجين من أصول الإنسان

وفروعه، ولغيرهم كالإخوة والأخوات عند السعة، وتقديمهم على الغرباء، فهل

يعد هذا من التناقض؟ ؟

وأما معنى قولنا: إن الإصلاح الإنساني الكامل لا يتم إلا بالوحدات الكثيرة،

فهذه قضية معقولة في نفسها، سواء قررها الإسلام أم لم يقررها،، حتى لو لم يكن

في العالم أمة عربية ولا شريعة إسلامية؛ ولكن الثابت في الواقع أن هذا الكمال

الإنساني لم يبين إلا في الإسلام، وصحة الإسلام لا تتوقف على اتفاق البشر عليه،

فالبشر لا يتفقون على شيء، والكمال هو الغاية في الدعوة فلا تناقض! !

(للرد بقية موضوعها طعنه في إعجاز القرآن)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 227

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جوامع كلم في شؤون الدول والأمم

أعقد مشكلات هذا العصر مشكلة وطن اليهود القومي في فلسطين، وسياسة

الإنكليز في إيجاد شعب قوي غني في قلب البلاد العربية مُعَادٍ للشعب العربي؛

فتُخْضِع كلاًّ منهما بالآخر؛ ولكنها عاجزة عن حفظ الموازنة بينهما، فاليهود أقوى

منها اليوم، وسيكون العرب أقوى منهم غدًا بكثرتهم، وعصبيتهم، والجمع بين

الضب والنون محال.

_________

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وفد الصلح والسلام

إننا وقد وَفَّيْنَا حادث الحرب والسلم في جزيرة العرب حقه، وبيَّنا ما لنا فيه

من موعظة وعبرة، وشكرنا لكل من الإمامين عبد العزيز ويحيى فضله، فلا يفوتنا

أن نختم حديثه بشكر وفد السلام، وجهاده في سبيل الله بخدمة العرب والإسلام،

فهو الذي انْتُدِب لهذه الخدمة بالفعل من غير دعوى ولا إعلان في الصحف، ولا

تبجح بنشر المقالات وإلقاء الخطب، ولا دعوة إلى جمع المال كما فعل الذين

يقولون ما لا يفعلون، ويُسِرُّون غير ما يعلنون، بل قال وفعل، وجاهد بماله

ونفسه ولم يطلب مساعدة أحد.

أول من دعا إلى هذا زعيم فلسطين الأكبر ومفتيها ورئيس مجلسها الإسلامي

الأعلى، ومؤسس المؤتمر الإسلامي العام فيها: السيد محمد أمين الحسيني، دعا

نفرًا من أشهر رجالات الأقطار العربية الإسلامية ذات الجوار والصلة بجزيرة

العرب: سورية، والعراق، ومصر، فاستجاب له من سورية زعيمها السياسي

الأكبر هاشم بك الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية الممثلة لسورية كلها، واعتذر زعيم

العراق الأكبر ياسين باشا الهاشمي بمرض عرض له.

واستجاب له من مصر محمد علي باشا علوبة من وزرائها ونوابها السابقين،

ووكيل المؤتمر الإسلامي العام، وهو الذي سبق جميع الزعماء المصريين إلى

العناية بأمر المؤتمر الإسلامي، وسافر مع رئيسه إلى الأقطار الإسلامية لجمع

الإعانات له، وعني بخدمة المسألة العربية العامة عناية خاصة.

واستجاب له من أوربة أكبر كتاب الأمة العربية، وأمير البيان فيها، الداعي

إلى وحدتها، المحامي عن حقيقتها، المدافع عن ملتها، ورئيس الوفد السوري

الفلسطيني في جنيف مثابة سياسة الأمم كلها، الأمير شكيب أرسلان، ووافى

إخوانه الثلاثة طائرًا من أوربة إلى مصر، على ما في طيرانه من زيادة النفقة في

هذه العسرة المرهقة، وعلى ما قاساه من عنت الحكومة المصرية وإرهاقها إياه

العسر السياسي، الذي هو أشد على الأحرار من العسر المالي، في مروره بأرضها

من الإسكندرية إلى السويس، وقد رأيت هذا العنت بعيني، وذقت مرارته بنفسي،

إذ سافرت من القاهرة إلى بنها للقائه والذهاب معه إلى السويس، فلم يأذن لنا

الجلاوزة المسيطرون عليه من قبل حكومتنا المصرية - وهم من الإنكليز - بسلام

ولا كلام، ثم كان المصريون منهم أشد من هؤلاء الإنكليز وطأة في القطار بعد

القطار، ثم في السويس، ولم نر أحدًا فهم لهذا العنت معنى.

ركبت أنا ومحمد علي باشا علوبة في قطار بورسعيد والسويس الذي يخرج

من محطة مصر في نهاية الساعة السادسة مساء، وهو يلتقي في محطة بنها بالقطار

الجائي من الإسكندرية إلى مصر، وهنالك نزل الأمير شكيب من قطار الإسكندرية

وركب هو والجلاوزة المحافظون عليه في قطارنا، وأدخلوه في المخدع المجاور لنا،

وأردت أن أسلم عليه وهو يعلم أنه ممنوع من السلام علي وعلى غيري فحالوا بيننا.

ولما نزلنا في الإسماعيلية، ونزل فيها السيد أمين الحسيني وهاشم بك الأتاسي

القادمين من فلسطين، وانتقلنا جميعًا إلى القطار الذي يحملنا إلى السويس فرَّق

جلاوزة الأمن المصريون بين الأمير شكيب والجائين من فلسطين والجائين من

مصر جميعًا، فلم يسمحوا لأحد منهم في المحطة ولا في القطار أن يكلم الفريق

الآخر، ولا أن يسلم عليه، فكان هذا الحجر أبعد عن العقل والفهم والشرع والعرف

والقوانين من كل ما سبقه، إلا ما يكون من الحجر الصحي في أوقات الأوبئة،

والعسكري في وقت الحرب؛ وإنما يكون الأول لوقاية الأصحاء من المصابين

بالوباء، والثاني لحماية الوطن وأهله من فتك الأعداء، وكلنا أصحاء أصدقاء ولله

الحمد، جنسنا واحد، وديننا واحد وحكومتنا المصرية، موادة لحكومتي فلسطين

وسورية، والدولتين المسيطرتين عليهما، ولأجلهما تحجر على الأمير شكيب

وتُعَنِّته، ولا نعرف لنا وللآخرين ذنبًا.

بيد أننا لما وصلنا إلى السويس نزلنا كلنا في فندق واحد، فارتفع الحَجْر عن

كل منا إلا الأمير شكيب؛ فإن الحكومة أمرت بنقله إلى فندق آخر، حالت فيه بينه

وبين كل أحد منا ومن غيرنا، إلا السيد محمد أمين الحسيني فقد أذنوا له أن يكلمه

في مسألة السفر بأول باخرة أو بطيارة، ولما اجتمعا اتفقا على الإلحاح علي بالسفر

مع الوفد، فأدليت بما لدي من الموانع المالية وغيرها فقبلوا عذري، وكاشفتهم بما

عندي من رأي ورواية في موضوع الحرب والصلح، وحملتهم كتبًا إلى جلالة ملك

العرب السعودي وبعض رجال بطانته أظهرت فيه ما بيني وبينهم من التكافل والثقة

بهم، وعذري في التخلف عنهم، وكان في 27 ذي الحجة سنة 1352.

سافروا باسم الله إلى الحجاز فكان لهم عند جلالة الملك ما يليق بمكانتهم

الشخصية والقومية، وبسفارة وفدهم الإسلامية العربية، من حسن الضيافة وكرم

الوفادة، وقلما اجتمع في مجلسه وفد كوفدهم في سعة معارفهم، ودقة خبرتهم،

وصفاء نيتهم، واتفاق رأيهم، وحسن بيانهم، فبسطوا له خلاصة ما يعلمونه من

آراء العالم الإسلامي والشعور العربية في بلادهم وغيرها في مسألة الجزيرة العربية

المقدسة، وما يخشونه من المطامع الأجنبية، وما وقفوا عليه في بيئاتهم الأربع من

دسائسها ومطامعها، وطالت المحاورات والمسامرات بينه وبينهم فيها، فَسُرَّ بما

وقف عليه من معارفهم، وحسن بيانهم وشدة غيرتهم، وأعجبوا بما وقفوا عليه من

استقلال عقله، وبعد رأيه، وحسن نيته، وكمال صراحته، وحزمه وشجاعته،

وعدم مبالاته بدسائس المفسدين، وسعاية المفسدين المحالين.

وكان من توفيق الله أن نجحت المفاوضات البرقية بين جلالته وجلالة الإمام

يحيى حميد الدين بما يوافق رأيهم، فقبل الثاني ما اقترحه الأول لإعلان الهدنة

ووقف رحى الحرب، ووضع معاهدة الصلح، وتلاه إرسال مندوبه الزعيم الكبير،

والسياسي النحرير، الأستاذ العلامة السيد عبد الله بن الوزير، مفوضًا من مقام

الإمامة المتوكلية بذلك، فوجد الوفد الإسلامي من معارف سيادته، ودقة سياسته،

وصفاء طويته، وصدق صراحته، ما كان موضع العجب والإعجاب، والثقة بما

يرجون ويرجو العالم الإسلامي والعربي من الاتفاق والاتحاد.

ولما وُضعت المعاهدة الإسلامية العربية العظيمة الشأن بالاتفاق السري العلني

من الجانبين، التي كانت موضع إعجاب أهل الخافقين، وحضر أعضاء الوفد

توقيعها في الحجاز، ودعوا جلالة الملك الإمام عبد العزيز، وسافروا مع مندوب

جلالة الملك الإمام يحيى حميد الدين إلى صنعاء اليمن ليشهدوا توقيعها في صنعاء

ثم يحضروا مبادئ تنفيذها، وقد اعتذر محمد علي علوبة باشا العضو المصري عن

السفر مع إخوانه إلى اليمن لكثرة ما ينتظره من الشواغل في مصر، وقد تم الصلح

ولله الحمد، وحَمَّلَهم كتابًا إلى جلالة الإمام يعتذر به عما كان يرجوه من الشرف

بالمثول في حضرته.

سافر الوفد من جدة إلى الحُدَيْدَة فاستقبلهما فيها صاحب السمو الملكي الأمير

فيصل السعودي بالحفاوة والتكريم، وكان أبهج ما سرهم فيها ما رأوه من حسن

التلاقي بين سموه وسيادة عبد الله بن الوزير، فقد كان كتلاقي أخوين شقيقين طال

عليهما البعاد، فطفقا يُطْفِئان لوعته بالتقبيل والعناق، ثم ما رأوه من جيوش كل من

الإمامين على الحدود من منطقة تهامة المحتلة من قبل الدولة السعودية، ومنطقة

الجبال التي ترابط بها الجيوش المتوكلية، وكيف كان تلاقي جماعتهما تلاقي

الإخوان، ثم ما هو أعلى من ذلك وهو لقاء جلالة الإمام الهمام، وحفاوته بضيوفه

الكرام، وما سمعوه بآذانهم من ثنائه على أخيه الإمام الملك عبد العزيز كما كان هذا

يثني عليه، ويشهد كل منهم للآخر بحسن النية، ثم ما شاهدوه في الحُدَيْدَة من تنفيذ

المعاهدة بجلاء الجيوش السعودية عنها، وتبادل تسليم الرايات وتسلمها فيها بما

عليه اتفقا من التكريم العظيم العسكري والود الأخوي.

ثم سافروا من الحُدَيْدَة إلى مصوع وسافر منها إلى السويس السيد أمين

الحسيني، وهاشم بك الأتاسي فوصلا إليها في السابع من هذا الشهر الميمون

(ربيع الأول) واستقبلناهما فيها مع جماهير المستقبلين مهنئين داعين، وتخلف

الأمير شكيب ليسافر منها إلى أوربة.

كنا قد وقفنا على أطوار الحرب والصلح من أنبائها الرسمية وغير الرسمية،

العامة منها والخاصة بنا، وبقي علينا أن نعلم من الوفد ما كان للصلح والمعاهدة من

التأثير النفسي في قلوب الفريقين، مما لا يُعْلَم إلا من رؤية الوجوه المستبشرة أو

الباسرة، ومن سماع جرس الأصوات في الحديث والتفرقة بين نغماتها السارة

والقارة والحارة، ولا يعلم هذا وذاك إلا ممن رأى بعينيه، وسمع بأذنيه، وشعر

بقلبه، وأخبرنا بما روينا عنه.

هذا وإنه قد بلغنا قبل إصدار هذا الجزء أن جلالة الملك عبد العزيز، وجلالة

الإمام يحيى قد أبرقا إلى جلالة ملك الإنكليز يرجوانه بأن يوصي حكومته بالإذن

للأمير شكيب بدخول فلسطين للقاء والدته الجليلة فيها؛ إذ طالت غيبته عنها،

فتقبل شفاعتهما فيه، وأبرق إليه المندوب السامي من فلسطين بالإذن له بذلك فنهنئه

ونهنئ السيدة الفاضلة بهذا اللقاء الميمون، فبارك الله لهما وعليهما.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 232

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المطبوعات الحديثة

(المسوَّى من أحاديث الموطَّأ)

(طُبع الجزء الأول منه بالمطبعة السلفية بمكة سنة 1351 على نفقة ناشريه

الشيخ عبد الوهاب الدهلوي، والشيخ محمد صالح نصيف الحجازي، ونُشِرَ في

سنة 1352) .

هذا الكتاب من مصنفات الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي الهندي وطنًا، العمري

الفاروقي نسبًا، مجدد القرن الثاني عشر للهجرة في الهند بدعوته وإرشاده وتربيته

وتدريسه ومصنفاته، وبمن ترك من العلماء الأعلام من أبنائه وتلاميذه ومريديه،

فقد كان جامعًا بين العلوم النقلية والعقلية والفلسفة والتصوف كما يُعْلَم من كتابه

المشهور (حجة الله البالغة) الذي وضعه لبيان مقاصد الشريعة، وحكمها وأسرارها،

وإن أشهر علماء الهند من بعده إلى يومنا هذا يتصلون بسلسلته، ويجرون على

طريقته رحمه الله. سمعت هذا منهم في مدرسة ديوبند.

والمشهور أن كتابه (المسوَّى) هذا شرح لموطأ الإمام مالك بن أنس رحمه

الله، فهو بهذا يوصف ويعرف، وليس الأمر كذلك، فهو ليس بشرح للموطأ،

واسمه لا يدل على أنه شرح له، وإنما هو نوع جديد من أنواع الإصلاح والتجديد

لم ينسج بعده أحد على غراره، ولا قفَّى تلاميذه بمثله على آثاره، بل لم يفهموا

مراده منه لإجماله واختصاره، وقد وصفه هو بقوله في مقدمته:

(وقد شرح الله صدري - والحمد لله - أن أرتب أحاديثه ترتيبًا يسهل تناوله،

وأترجم على كل حديث بما استنبط منه جماهير العلماء، وأضم إلى ذلك من القرآن

العظيم ما لا بد للفقيه من حفظه، ومن تفسيره ما لا بد له من معرفته، وأذكر في

كل باب مذهب الشافعية والحنفية؛ إذ هم الفئتان العظيمتان اليوم، وهم أكثر الأمة،

وهم المصنفون في أكثر الفنون الدينية وهم القادة الأئمة) .

ثم قال: وفهمي الحق أن في ذلك فتحًا لأبواب الخير، وجمعًا لشمل الأمة

المرحومة، وهزًّا لطبائع جامدة طالما ركدت، وإرشادًا إلى طرق من العلم طالما

تُرِكَتْ.

وأرجو من فضل الله ورحمته أن يكون هذا الكتاب جامعًا لخمسة أنواع [1] من

الأحكام هي العمدة لمن أراد أن ينتهج مناهج الكرام: ما أُخِذَ من نصوص الكتاب،

وما أثبتته الأحاديث المستفيضة أو القوية المروية في الأصول في كل باب، وما

اتفق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وما استنبطه مالك وتابعه جماعات من

الفقهاء والمحدثين. اهـ.

(أقول) فكتاب (المسوَّى) ترتيب جديد لكتاب الموطأ بتصرف زيادة

ونقصان مع تعليق وجيز على مسائله، وذكر مذهب الشافعية فيها منقولاً بالاختصار

من شرح الجلال المحلي على منهاج النووي، ومذهب الحنفية منقولاً عن الفتاوى

العالمكيرية بالاختصار أيضًا، وهو يعزو إليهما في الغالب، وقد يذكر المذهبين

بغير عزو، وقد يعزو إلى غيرهما، وأما آيات القرآن التي زادها في بعض

الأبواب فمنها ما يفسرها تفسيرًا وجيزًا ولو ببيان معنى مفرداتها، ومنها ما يسكت

عنها، وهو يذكر أولاً رواية مالك للحديث أو الأثر، ويقفي عليه بقوله (قلت كذا)

يشير به إلى الوفاق والخلاف وما عسى أن يكون فيه من معارضة أو تعقب بحديث

آخر، ويقول في الاتفاق: وعليه أهل العلم، وأما الاختلاف فهو ما يحكيه عن

الحنفية والشافعية.

وليس فيما رأيته منه شرح لعبارات الروايات، ولا بحث في أسانيدها ولا في

متونها غير ما ذكرت، فالمسوَّى لا يصح أن يسمى شرحًا، وأما الشرح الحقيقي

للموطأ، فهو ما كتبه المصنف باللغة الفارسية، وقد طُبع في الهند، وقد أحسن

متولي طبع (المسوَّى) بترجمة مقدمته بالعربية، ونشرها هنا قبل الشروع في

طبع المسوَّى، وقد عُلِمَ منها أن مراده رحمه الله تعالى بذلك الشرح هداية السبيل

للخروج من ظلمات التقليد والاختلاف في الدين إلى نور الاستقلال والفهم الاجتهادي

المطلق الذي أجمعت الأمة على وجوبه في كل عصر؛ لتقوم به حجة الله على أهله

بما يقتضيه ما يتجدد لهم من العلم والشبهات والقضاء، وليس في كتاب المسوَّى

شيء من الإعداد لسلوك هذا السبيل، وإنما هو لطبقة دون هذه الطبقة في علم الدين

هي طبقة العامة، وتلك طبقة الخاصة.

فإذا أردنا أن تكون عامة المسلمين اليوم على منهاج عامة السلف الصالحين

في الاستنارة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه

جمهور الصحابة والتابعين فحسبهم أن يقرأ لهم هذا الكتاب، الذي هو الأساس الأول

لكتب الصحاح والسنن والينبوع الأول لكتب الفقه، لا يكادون يحتاجون إلى غيره،

فعسى أن يكون طبعه سببًا لما نعتقد أنه أُلِّف لأجله.

وهذه التعليقات للإمام الدهلوي عليه تُعَلِّمهُم بالجملة ما اتفق عليه جمهور أهل

الصدر الأول مما لا يسعهم مخالفتهم فيه، وما اختلف أشهر المجتهدين فيه، ولهم

السعة في تقليد أيهم شاؤوا من غير حجر ولا جرح، ولا التزام ولا تعصب، ولا

خلاف ولا شقاق في الدين، كالذي لا نزال نراه بين المسلمين بجهلهم وتعصبهم

لأهوائهم، وأشده في بلاد الهند، فقد حدث منذ أشهر شقاق بين أهل مسجد في

(بمباي) بتعيين إمام حنبلي له، ولولا تدخل شرطة الحكومة الإنكليزية وشحنتها بين

الفريقين المتعصبين له، والمتعصبين عليه لوقع في المسجد الجامع من سفك لدماء

المسلمين، ما لا يجوز أن يقع بين أهل القبلة المصلين، ووقع مثل ذلك في بنارس

زارها سائح مسلم؛ فأنزله إمام مسجد للحنفية فيه، فبلغ الأهالي أن هذا السائح

مالكي المذهب؛ فهجموا عليه لقتله فسافر منها ليلاً هاربًا بدمه المالكي من استباحة

أخيه الحنفي له، والله تعالى يقول في المشركين: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا

الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11) .

إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأئمة المذاهب كلهم رضي الله عنهم

بُرَآء من هؤلاء المسلمين الجاهلين، فكلهم متفقون على عدم تكفير أحد من أهل

القبلة، وعلى جواز الصلاة مع الفاسق والمبتدع غير الكافر، وإن إمحاء هذه

المذاهب التي يدعونها خير لهم من بقائها مع هذا الشقاق، ولو كانوا يلقنون في

مدارسهم ومساجدهم مثل كتاب المسوى، لعلموا أنه لا ينفرد مذهب من مذاهبهم

برأي اجتهادي هو واجب على أحد من المسلمين؛ فإن جميع الآراء تسقط حيث

يوجد نص للشارع في المسألة، وتتساوى بالنسبة إلى العامي العاجز عن الترجيح

بينها، فهل يجوز أن يتعادوا ويتقاتلوا لأجلها؟ والتعادي والتقاتل في هذا محرم

بالإجماع؟ وكذا ما دون ذلك من السباب والهجر:

ماذا التقاطع في الإسلام بينكم

وأنتم يا عباد الله إخوان

_________

(1)

وعد بخمسة، وذكر أربعة فينظر أين الخامس.

ص: 236

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحمد زكي باشا شيخ العروبة

رحمه الله تعالى

في يوم الجمعة لثلاث خلون من هذا الشهر (ربيع الأول) لبى دعوة ربه

صديقنا (أحمد زكي باشا) الكاتب المؤرخ المصنف الخطيب الأديب الطائر

الصيت، في إثر (ضربة هواء) كما يقول العوام أحدثت التهابًا شديدًا في رئته

أعيا علاجه أصدقاءه من نطس الأطباء، لم تمهله إلا أسبوعًا أو بعض أسبوع،

اختطفته المنية من حجر أمه مصر وهو ابنها البار، ومن ميدان أمته العربية وهو

فارسها المغوار، وشيخ العروبة الذي فاق في شيخوخته وناصع شيبته جميع الشبان

قوة وفتوة، ونضارة وبهجة، وهمة وسعيًا وحركة، وأملاً في طول الحياة، فلو

كانت الأعمار بقوة البنية وشدة العضل ومرونة العصب ويسر المعيشة وقلة الهموم

وكثرة السرور، لكان أحمد زكي باشا جديرًا بأن يبقى بعد المعمر التركي زارو أغا

الذي توفي بعده في هذا الشهر عن 135 سنة، حتى يبلغ سنه أو يزيد عليها، وما

أراه زاد على نصفها إلا قليلاً، ولعله لم يفته من أسبابها إلا عيشة القصد والاعتدال،

فقد كان في بلهنية من الترف دان له بها الأهيفان، وسبحان مقدر الآجال.

نَعَتْهُ الصحف التي كان يشغل أكثر المشهور منها بمقالاته ومناظراته التاريخية

والجغرافية والأدبية، فراع نعيه الفجائي العلماء العصريين من الشرقيين والغربيين

واختلفوا أفرادًا وجماعات على منزله (دار العروبة) في جيزة الفسطاط للتعزية

عنه، كما كانوا يختلفون إليها آنًا بعد آن لحضور المآدب والاحتفالات التي يدعوهم

إليها لتكريم من يفد على القاهرة من العلماء والأدباء والزعماء الشرقيين والغربيين.

وشُيعت جنازته منها، يحف بها الجم الغفير منهم، وقد أممت المصلين عليها

في أحد مساجد الجيزة فكان هذا آخر العهد بمودتنا الطويلة التي لم تشبها شائبة جفوة،

ولا فترة اختلاف ولا فرقة، ثم حُمِلَتْ إلى القبر المعد لها تحت منارة مسجده الفني

الصغير الذي بناؤه كان شغله الشاغل في سنيه الأخيرة، وأَبَّنَهُ هنالك المؤبنون،

وانصرفوا بعد دفنه فيه مسترجعين مسترحمين.

ومما انفرد به أنه كان كلف الفقيد رحمه الله الشيخ عبد الله الشيبي بمكة المكرمة

أن يأتيه بكناسة غار حراء سرًّا ففعل، فجاء بها ووضعها في القبر الذي أعده لنفسه

ولزوجه في هذا المسجد، وهو بدعة تدل على إيمان كإيمان العجائز، وتعارض ما

كان من فلتات اللسان في دعابته تسيء ظن بعض سامعيها في عقيدته، ويروي

بعضهم عنه ما يدل على تأوله فيه، والدعابة في الحوار كالنكتة في الشعر، لا

تترك، لا تصدر عن إيمان، ولا عن كفر.

رأيت أحمد زكي بك أول مرة في مكتب إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية

رحمه الله، وكان ذلك في سنة 1316 ثم قوي التعارف بيننا، وكنا نجتمع في أكثر

ليالي رمضان مع طائفة من الأدباء والمحبين للمباحث الدينية، والتوفيق بينها وبين

المعقولات والمعارف العصرية، منهم أحمد زكي بك مدير الأموال المقررة،

وعبد الله بك فائق (باشا بعد) ، ومحمود بك أنيس رحمهم الله وآخرون لم يبق أحد

منهم حيًّا إلا حمزة بك فهمي، وكان من رجال القصر الخديوي، وكانت تلك

المباحث جل ما يدور في سمرنا، وأكثر ما تبدأ به مشكلات تلقى على صاحب

المنار يُطلب منه حلها.

من أجل هذا استفتاني فقيدنا اليوم في عشرة أسئلة ألقاها عليه بعض علماء

الحقوق والشرائع في باريس في صيف 1904 ليترجمها لهم بلغتهم الفرنسية

(ليعلموا أن في السويداء رجالاً ، وأن الشرق لا يزال عامرًا بأصحاب العقول

الكبار) ، وموضوع هذه المسائل الاجتهاد، ومعنى إقفال بابه عند العامة وعند

أهل التحقيق، ومعنى القانون بوجه التدقيق العلمي، والفرق بينه وبين الشرع

وسلطة الحاكم وحدودها

إلخ.

وقد نشرت كتابه ومسائله مع أجوبتها في المجلد السابع من المنار في جمادى

الأولى سنة 1322 ويوليو سنة 1904، واستمرت المودة بيننا؛ ولكنه لم ينشر

شيئًا من مباحثه في المنار، وكان يعلل ذلك أو يعتذر عنه باستغناء المنار عنها.

كان المرحوم أحمد زكي منذ نشأته الأولى من عشاق العلم، وهذا العشق هو

الذي كان يحمله على إنفاق كل ما زاد عن حاجته من المال في اقتناء الكتب النفيسة

ولا سيما الخطية النادرة، وقد جمع خزانة منها ذات قيمة كبيرة وقفها على طلاب

العلوم وأمرها مشهور.

وعني في السنين الأخيرة من عمره بالسياسة العربية، ولقب نفسه بشيخ

العروبة فاشتهر به، بعد أن كنت أسميه في السنين الأولى: حلقة الاتصال بين

الشرق والغرب، وهو فلسطيني الأصل، وأول من جاء مصر جده الأدنى كما

صرح بذلك لبعض الأدباء السوريين، ويقل من يعلم هذا، فنسأل الله تعالى أن

يتغمدنا وإياه برحمته، ويعفو عنا وعنه.

_________

ص: 239

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تحسين الأغاني والأناشيد العربية

لترقية الشعور القومي والخلقي

دعت جمعية الشبان المسلمين من اختارت من (الشعراء والمطربين

والملحنين) في مصر، وطائفة أخرى من أهل العلم والأدب إلى حفلة شاي نصبت

موائدها لهم في مساء الجمعة 12 صفر (25 مايو) فلبى أكثرهم الدعوة، وبعد

شرب الشاي، وتناول ما يتصل فيه من الحلوى والفاكهة وقف صاحب السعادة

عثمان باشا مرتضى فرحب بالحاضرين، وشرح لهم ما تقترحه عليهم الجمعية من

تعاون الشعراء والمطربين (المغنين) والملحنين على خدمة الوطن المصري

والأدب العربي بما سمته (تحسين الأغاني والأناشيد)

إلخ (ووضع الخطة

العملية لتنفيذ هذه الفكرة في أقرب وقت) كما رأوا في رقاع الدعوة، فشكروا

للجمعية هذا المشروع، وتلقوه بالقبول، وتبارى خطباؤهم في بيان فوائده في ترقي

الأقوام، وضربوا لذلك الأمثال، فذكروا الإفرنج والعرب في جاهليتها وإسلامها

وحضارتها الزاهرة، وخطتها في هذه القرون الأخيرة التي هبطت فيها الآداب

والأخلاق إلى الدرك الأسفل، وانحصرت فيها الأغاني القومية المصرية في

الخلاعة والمجون، ولا سيما أغاني النساء فكانت من مفسدات الأخلاق والآداب.

وأبى أحد الخطباء إلا أن يعرض في شواهده لكتاب الله تعالى وسنة رسوله

صلى الله عليه وسلم، فذكر في فضل الأناشيد وشرعيتها احتفال الأنصار بقدوم

النبي صلى الله عليه وسلم عليهم يوم الهجرة بقولهم:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

إلخ

وقوله صلى الله عليه وسلم وهو الذي حماه الله من الشعر حين جرحت إصبعه

أو دميت من حجر في إحدى الغزوات:

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

فهذا البيت من الرجز أبلغ ما يقال في موضوعه وأعمقه تأثيرًا، وهو يصلح

أن يبنى عليه نشيد في التحريض على الجهاد، واستصغار الآلام في سبيل عظائم

الأعمال.

قال كلامًا في هذا المعني، ثم صعد مرتقيًا إلى ما هو فوق هذا، فذكر أن

القرآن نظم ذو فواصل كقوافي الشعر، قابل للتلحين والتغني لم يكن له ذلك التأثير

العظيم في قلوب العرب والانقلاب العظيم فيهم إلا بتلاوته بالتلحين الخاص به.

نقلت هذا الكلام بفحواه لا بلفظه، فأما البيت فقد نقل ابن هشام أنه للوليد بن

المغيرة، وصحح الحافظ ابن الجوزي أنه لعبد الله بن رواحة، وقد تمثل به صلى

الله عليه وسلم قولاً لا إنشادًا فسكن تاء قافيته، وأما القرآن فقد كان كلام الخطيب

أدنى إلى تشبيهه بالشعر مما صورته به آنفًا، والواجب في التفرقة بينهما أن يكون

أبعد شأوًا، وأسمى مرتقى مما قلت، وقد بينت معنى قابلية القرآن للترتيل الغنائي

في كتاب الوحي المحمدي بما لو رآه الخطيب الأديب لبين هذا المعنى مُنَزِّهًا للقرآن،

بما هو أدق مما نقلته عنه هنا، وكان خطر في بالي في الجلسة أن أتعقبه فأمسكت

لئلا أنطلق في الكلام بما يفسره هو بلازمه غير البيِّن، فيظن أنني أريد لمزه،

والنيل منه.

هذا وإنني أسررت إلى الأستاذ يحيى الدرديري أن يقترح على الشعراء أن

يبدؤوا بوضع أغاني وأناشيد لحفلات الأعراس وغيرها يضمنونها تعظيم أمر العفة،

وعزة النفس، والشرف، وكرامة الأمة، ويلقونها إلى الملحنين فيلقنونها إلى

المغنين، فينسخون بها تلك الأغاني (والطقاطيق) المجونية، فقال: الأولى أن

تقترح أنت هذا. فاعتذرت، فألقاها إلى رئيس الجلسة وانصرفت، وقد سبق لي مثل

هذا الاقتراح على عبده أفندي الحمولي أشهر مطربي عصره في مصر منذ 35 سنة.

_________

ص: 159

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اتهام ابن تيمية

بأنه قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي

إلخ

(س14) من صاحب الإمضاء في قنا مع كتاب خاص لوكيل المنار هذا

نصه:

سيدي المحترم

سلام عليك وتحية طيبة بمقدار ما للمنار من الفضل على المسلمين قاطبة

وبعد، فأرجو أن تطالع ما أرفقته بهذا - وتوافقني على تقديمه ورفعه إلى

حضرة المصلح العظيم العالم العامل صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا حفظه الله -

حتى ينظر فيه، ويرى ما يراه، وهو الموفق للصواب دائمًا.

وإذا حَسُن لدى فضيلته أن يذكر كلامًا فاصلاً في هذا الموضوع - في المنار

الأغر - كانت الفائدة عامة للناس أجمعين، ومن بينهم من وزع عليهم المهذب في

المدارس.

وأسأل الله أن يطيل عمر السيد؛ ليزداد المسلمون من الارتشاف من بحر

علمه إيمانًا ومعرفة، والسلام عليك ورحمة الله من المخلص

...

...

...

...

عبد القادر حلمي

في صحيفة 76 من مهذب رحلة ابن بطوطة - الجزء الأول - الذي طبعته

وزارة المعارف المصرية، ووزعته على تلاميذ المدارس الثانوية ما نصه:

وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في

الفنون إلا أن في عقله شيئًا

إلخ.

وفي الصحيفة 77 فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع

ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا

ونزل درجة من درج المنبر، فعارض فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء

إلخ.

فهل صح في تاريخ ابن تيمية أن يقول هذا؟ وهل هناك شك في أن قائل هذا

ينسب لله الجسمية، وأنه بذلك انسلخ من الإيمان والإسلام؟

(جواب المنار)

(14)

اتهام ابن تيمية بتشبيه نزول الله بنزوله في المنبر:

هذه التهمة باطلة قطعًا كما يعلم من كتب شيخ الإسلام وفتاويه الكثيرة في

مسألة الصفات وحديث النزول؛ ولكن يظهر أن لها شبهة أثارتها، فقد رأيت في

بعض الكتب (كتاب الرد الوافر) أو غيره أنه كان يتكلم في حديث النزول وهو

يخطب على المنبر ويقرر مذهب السلف في إثبات كل ما وصف الله نفسه أو وصفه

به رسوله صلى الله عليه وسلم (بغير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل) فقال ما معناه:

إننا نؤمن بنزوله بالمعنى الذي أراده اللائق به بلا تشبيه (لا كنزولي هذا) فزعم

بعض الناس أنه قال: (كنزولي هذا) ؛ لأنه لم يسمع كلمة (لا) وربما كان منهم

ابن بطوطة، ثم أذاع هذا خصومه المخالفون للسلف، ولو صح زعمهم لقامت عليه

قيامة أهل المسجد وأنزلوه عن المنبر مهينًا مذمومًا بكل لسان، إلا أن يقال: إنهم كانوا

موافقين له على رأيه إلا واحدًا منهم هو ابن الزهراء الذي ذكره ابن بطوطة، وكم في

رحلة ابن بطوطة من الأكاذيب والخرافات، ويحتمل أن يكون قال الكلمة في تفسير

المعنى اللغوي، وسننقل عنه تحقيقه لعدم اقتضائه التشبيه.

ولابن تيمية كتاب مستقل في حديث النزول، هو جواب سؤال رُفِعَ إليه

فأطال في الجواب عنه؛ لأن المسألة فرع من عقيدة إثبات الصفات التي أجمع

عليها سلف الأمة بالقاعدة التي ذكرناها آنفًا، وأما نفيها فقد ابتدعته الجهمية

والمعتزلة وغيرهم من المبتدعة، واختلف نظار المتكلمين في تأويل بعضها دون

بعض، وهذا الكتاب مطبوع في الهند وإنني أنقل منه بعض عباراته بحروفها مبتدئًا

بنص السؤال وهو:

نص الاستفتاء في حديث النزول

(ما يقول سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام، وقدوة الأنام، أيده الله ورضي عنه،

في رجلين تنازعا في حديث النزول: أحدهما مثبت والآخر نافٍ، فقال المثبت:

ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. فقال النافي: كيف؟

فقال المثبت: ينزل بلا كيف. فقال النافي: يخلو منه العرش أم لا يخلو؟ فقال

المثبت: هذا قول مبتدع، ورأي مخترع. فقال النافي: ليس هذا جوابي، بل هو

حيدة عن الجواب. فقال له المثبت: هذا جوابك، فقال النافي: إنما ينزل أمره

ورحمته - فقال المثبت: أمره ورحمته ينزلان كل ساعة، والنزول قد وقَّت له رسول

الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقال النافي: الليل لا يستوي وقته في البلاد

فقد يكون الليل في بعض البلاد خمس عشرة ساعة ونهارها تسع ساعات، ويكون

في بعض البلاد ست عشرة ساعة والنهار ثماني ساعات وبالعكس، فوقع الاختلاف

في طول الليل وقصره بحسب الأقاليم والبلاد، وقد يستوي الليل والنهار في بعض

البلاد، وقد يطول الليل في بعض البلاد حتى يستوعب أكثر الأربع وعشرين ساعة

ويبقى النهار عندهم وقتًا يسيرًا، فيلزم على هذا أن يكون ثلث الليل دائمًا ويكون

الرب دائمًا نازلاً إلى السماء، والمسؤول إزالة الشبه والإشكال، وبيان الهدى من

الضلال؟

جواب شيخ الإسلام أو جزء منه

(فأجاب رضي الله عنه فقال: الحمد لله رب العالمين، أما القائل الأول الذي

ذكر نص النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصاب فيما قال، فإن هذا القول الذي قال

قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق سلف الأمة وأئمتها

وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول، ومن قال ما قاله

الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله حق وصدق، وإن كان لا يعرف حقيقة ما

اشتمل عليه من المعاني، كمن قرأ القرآن ولم يفهم ما فيه من المعاني، فإن أصدق

الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله

عليه وسلم قال هذا الكلام وأمثاله علانية، وبَلَّغَه الأمة تبليغًا عامًّا لم يخص به أحدًا

دون أحد، ولا كتمه عن أحد، وكان الصحابة والتابعون تذكره وتأثره وتبلغه

وترويه في المجالس الخاصة والعامة، واشتملت عليه كتب الإسلام التي تقرأ في

المجالس الخاصة والعامة كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند الإمام

أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وأمثال ذلك من كتب المسلمين.

لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثله بصفات

المخلوقين، ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك، وإن

أظهر ذلك منع منه، وإن زعم أن الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ في ذلك،

فإن وصفه سبحانه وتعالى في هذا الحديث بالنزول هو كوصفه بسائر الصفات

كوصفه بالاستواء إلى السماء وهي دخان، ووصفه بأنه خلق السموات والأرض في

ستة أيام ثم استوى على العرش، ووصفه بالإتيان والمجيء هي مثل قوله: {هَلْ

يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: 210)، وقوله:

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: 158)، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وكذلك قوله

تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الفرقان: 59)، وقوله:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذاريات: 47)، وقوله:

{اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم

مِّن شَيْءٍ} (الروم: 40)، وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ

يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (السجدة: 5) وأمثال ذلك من الأفعال التي وصف الله تعالى بها نفسه

التي تسميها النحاة أفعالاً متعدية، وهي غالب ما ذكر في القرآن، أو يسمونها لازمة

لكونها لا تنصب المفعول به، بل لا تتعدى إليه إلا بحرف الجر كالاستواء إلى

السماء وعلى العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك فإن الله وصف نفسه

بهذه الأفعال.

ووصف نفسه بالأقوال اللازمة والمتعدية في مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ

لِلْمَلائِكَةِ} (البقرة: 30)، وقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء:

164) ، وقوله تعالى:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (الأعراف: 22)، وقوله تعالى:

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} (القصص: 65)، وقوله تعالى:

{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4)، وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا

إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} (النساء: 87)، وقوله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: 23) ،

وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف:

137) وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (الأنعام: 115)، وقوله:

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (آل عمران: 152) .

وكذلك وصفه نفسه بالعلم والقوة والرحمة ونحو ذلك كما في قوله: {وَلَا

يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255)، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ

الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} (الذاريات: 58)، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ

رَّحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: 7)، وقوله:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف:

156) ونحو ذلك مما وصف به نفسه في كتابه وما صح عن رسوله صلى الله

عليه وسلم.

فإن القول في جميع ذلك من جنس واحد، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم

يصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النفي

والإثبات، والله سبحانه وتعالى قد نفى عن نفسه مماثلة المخلوقين فقال الله تعالى:

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1-4) فبين أنه لم يكن أحد كفوًا له، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ

سَمِياًّ} (مريم: 65) فأنكر أن يكون له سمي، وقال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ

أَندَاداً} (البقرة: 22)، وقال تعالى:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} (النحل:

74) ، وقال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) ففيما أخبر به عن

نفسه من تنزيهه عن الكُفْوِ والسَمِيِّ والمثل والنِّدِّ وضرب الأمثال له - بيان أن لا

مثل له في صفاته ولا أفعاله؛ فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في

الذات؛ فإن الذاتين المختلفتين تمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما؛ إذ تماثل الصفات

والأفعال يستلزم تماثل الذوات؛ فإن الصفة تابعة للموصوف بها، والفعل أيضًا تابع

لفاعله، بل هو مما يوصف به الفاعل، فإذا كانت الصفتان متماثلتين كان الموصوفان

متماثلين، حتى إنه يكون بين الصفات من التشابه والاختلاف بحسب ما بين

الموصوفين كالإنسانين لمَّا كانا من نوع واحد؛ فتختلف مقاديرهما وصفاتهما بحسب

اختلاف ذاتيهما ويتشابه ذلك بحسب تشابه ذلك)

(فالقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته

ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لكن يُفْهَم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى

موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها، فعلم الله وكلامه ونزوله واستواؤه هو

كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما يناسب ذاته وتليق بها،

ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته، ولهذا قال بعضهم: إذا قال لك

السائل: كيف ينزل؟ أو كيف استوى؟ أو كيف يعلم؟ أو كيف يتكلم؟ ويقدر

ويخلق؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته. فقل له: وأنا

لا أعلم كيفية صفاته؛ فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف. فهذا إذا

استعملت هذه الأسماء والصفات على وجه التخصيص والتعيين، وهذا هو الوارد في

الكتاب والسنة) .

وقال في موضع آخر:

(ثم إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم

والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما

يشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست

مثل هذه حتى قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير

قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} (البقرة: 25) على أحد الأقوال، فبين هذه

الموجودات في الدنيا، وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من

بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد وأحببناه ورغبنا فيه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا

يُقَدَّر قَدْرَها في الدنيا، وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه الله تعالى،

لهذا كان قول من قال: إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله حقًّا، وقول من قال: إن

الراسخين في العلم يعلمون تأويله حقًّا، وكلا القولين مأثور عن السلف من الصحابة

والتابعين لهم بإحسان.

(فالذين قالوا: إنهم يعلمون تأويله؛ مرادهم بذلك أنهم يعلمون تفسيره ومعناه،

وإلا فهل يحل لمسلم أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف معنى ما

يقوله ويبلغه من الآيات والأحاديث، بل كان يتكلم بألفاظ لا يعرف معانيها؟ ومن

قال: إنهم لا يعرفون تأويله. أرادوا به الكيفية الثابتة التي اختص الله بعلمها، ولهذا

كان السلف كربيعة ومالك بن أنس وغيرهما يقولون: الاستواء معلوم، والكيف

مجهول. وهذا قول سائر السلف كابن الماجشون والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم،

وفي غير ذلك من الصفات، فمعنى الاستواء معلوم وهو التأويل والتفسير الذي

يعلمه الراسخون، والكيفية هي التأويل المجهول لبني آدم وغيرهم الذي لا يعلمه إلا

الله، وكذلك ما وعد به في الجنة، تعلم العباد تفسير ما أخبر الله به، وأما كيفيته

فقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يقول الله

تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر

على قلب بشر) فما أخبرنا الله به من صفات المخلوقين نعلم تفسيره ومعناه ونفهم

الكلام الذي خوطبنا به، ونعلم معنى العسل واللحم واللبن والحرير والذهب والفضة،

ونفرق بين مسميات هذه الأسماء، وأما حقائقها على ما هي عليه، فلا يمكن أن

نعلمه نحن ولا يُعْلَم حتى تكون الساعة، فتفصيل ما أعد الله عز وجل لعباده لا

يعلمه مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل، بل هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك

وتعالى) .

فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر في الخالق والمخلوق أعظم؛ فإن

مباينة الله لخلقه وعظمته وكبرياءه وفضله أعظم وأكثر مما بين مخلوق ومخلوق،

فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق بينهما من التفاضل

والتباين ما لا نعلمه في الدنيا ولا يمكن أن نعلمه، بل هو من التأويل الذي لا يعلمه

إلا الله تبارك وتعالى، فصفات الخالق عز وجل أولى أن يكون بينها وبين صفات

المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن يكون هذا من

التأويل الذي لا يعلمه أحد

إلخ

ثم تكلم في موضع آخر عن الوجود القديم الواجب، والوجود الحادث الممكن

وصفاتهما، والغلط في القول بالتلازم في النفي والإثبات وضرب له المثل فقال:

(ومثال ذلك أنه إذا قال: النزول والاستواء، ونحو ذلك من صفات الأجسام

فإنه لا يعقل النزول والاستواء إلا لجسم مركب، والله سبحانه منزه عن هذه اللوازم

فلزم تنزيهه عن الملزوم، أو قال: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب.

وكذلك إذا قال: الرضا والغضب، والفرح والمحبة، ونحو ذلك هو من صفات

الأجسام. فإنه يقال له: وكذلك الإرادة والسمع والبصر والعلم والقدرة من صفات

الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل وما يستوي ويغضب ويرضى إلا جسمًا، لم

نعقل ما يسمع ويبصر ويريد ويعلم ويقدر إلا جسمًا، فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا،

وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليس كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته، قيل له: وكذلك

رضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله

واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا) . اهـ.

وجملة القول أن شيخ الإسلام قد بسط في هذا الكتاب وغيره من الدلائل

على تنزيه الله عن مشابهة خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله ما لم يسبقه أحد إلى مثله

مع إثبات ما أثبته لنفسه منها، والمنع من تحكمنا بآرائنا فيها، فإنه مما حرمه علينا

بقوله: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) .

_________

ص: 241

الكاتب: مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

‌تفسير المنار لعلامة الدهر ومصلح العصر

بقلم الأستاذ الكاتب المستقل، والباحث المستدل

الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

يرحم الله مفسري القرآن السابقين من أئمة المسلمين، فقد بذلوا ما استطاعوه

من قوة لتبيان معاني كلام الله للناس، ووقفوا أنفسهم وحبسوها على إظهار ما فيه

من لغة وبيان، وفصاحة وبلاغة، وأدب واجتماع، وتاريخ وحكمة وسياسة

فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ووفاهم الله أجرهم موفورًا، وجعل عملهم الخالص

مشهورًا مذكورًا.

ولكن القرآن هو كتاب الزمان كله، ودستور الحياة إلى يوم القيامة، تنجلى

معانيه بتقدم العلم وبلوغه أشده، وتظهر أسراره بالاختراعات والاستكشافات،

وسلامة الفطر والعقول من الترهات والخرافات، وتشرق حقائقه بزوال العوائق

المغشية الأبصار والبصائر، والتفاسير السابقة فيها أخبار من التاريخ؛ ولكنها غير

ممحصة؛ لانعدام وسائل التحقيق والتمحيص، وفيها طرف من العلوم المختلفة؛

ولكنها محشوة بالغلط والشطط؛ لتعسر طرائق التصحيح والتدقيق، وفيها ذكر للتوراة

والإنجيل؛ ولكنه مبني على فهم غير واقع [1] وعلى ظَنٍّ تبين الآن أنه غير نافع،

وفيها فقه ولكنه مذهبي، وتوحيد ولكنه كلامي، واستطراد فلسفي، واستقراء غير

جلي.

وبهذا صار القرآن في حاجة إلى أن يُفَسَّر من جديد، وصارت التفاسير الأولى

معرضة للنقد السديد، فألف الآلوسي تفسيره؛ ولكنه جعله جامعًا لأقوال من سبق

مع تعليقات يسيرة، وتحقيقات غير وفيرة، وألقى الأستاذ طنطاوي جوهري دلوه

في الدِلاء، ولكنه صير تفسيره نباتيًّا طبيعيًا وجاء فيه برسوم [*] على الكونيات

وأحوال النجوم والنيرات والصخور والجلاميد والمعادن المدفونات، وجلاه برسوم

وصور لا تتسق مع جلال الذكر الحكيم ومكانة القرآن الكريم، ومع ذلك فهو مستحق

للشكران، قمين بأن ينشر ذكره في كل مكان؛ إذ حاول جهده أن يبرهن على عناية

القرآن بالعلوم الطبيعية والكيميائية والزراعية والصناعية وما إليها، ووُفق في كثير

مما أراد جزاه الله خيرًا.

وقد انتظرنا أن يوفق الله رجلاً إلى تفسير القرآن الكريم بشرط المحافظة على

جلاله وكماله والسمو به عما لا يليق بمكانته العليا، وإحاطته بسياج من الحرص

والأمانة يمنع الخطأ والإسرائيليات والأخبار الداحضة أن تتسرب إليه، ويحميه من

التعصب المذهبي، والتكلف الكلامي، وتحميل الآيات الكريمة ما لا يوافقها من

المعاني الرأيية، والتوضيحات النفسية.

وقد أراد الله أن يظهر هذا التفسير على يد السيد الكريم، والمجاهد العظيم،

والمصلح الشهير، والمسلم الكبير، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار

الأغر، وخليفة الأستاذ الإمام الأبر، وقد صدر من هذا التفسير أحد عشر جزءًا

ضخامًا، تقر بها عين كل مسلم، وينشرح لها صدر كل مؤمن، جاءت عند ما أملنا،

وفوق ما قصدنا، وأبانت عن أن الإسلام هو الدين الخالد، والواجب أن يعنو له

البشر طائعين، فرحين مستبشرين؛ إذ هو الذي يحل مشاكل العصر، ويُزيل ما

تعانيه الإنسانية المعذبة من الضيق والعسر، ويعالج الأدواء التي تشكو منها الأمم،

ويعيد للمسلمين ما فقدوه من العزة والسلطان وعلو الهمم.

وقد قرأنا هذه الأجزاء الأحد عشر كالكواكب، فشكرنا الله كثيرًا وانزاحت عن

نفوسنا غمم كنا نشعر بثقلها، وقلنا: قد آن للمسلمين أن يُسَرُّوا ويفرحوا، فقد أنعم

الله عليهم بتفسير طالما كانوا يتمنونه، وكثيرًا ما رأوه حلمًا بعيد المنال؛ ولكنه

الآن تحقق على أحسن مثال.

جمع هذا التفسير القيم محاسن التفاسير السالفة، ونجا من مزالقها، وخلص

من مشاكيها، وضم بين دفتيه أحسن التحقيقات، وأتم البيانات، وأوضح لمن له

عينان أن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي لا غنى للأمم عنه، ولا حياة لها بدونه،

ولا مفر لها من اتباعه، والاستفادة من هدايته، مذعنة مؤمنة، أو مسوقة بحاجتها

التي تلح عليها، فلا تجد لها ملجأ إلا إياه، ولا معاذًا سواه.

يقرأ المسلم هذا التفسير فيشرق في نفسه نور المعرفة، وتضيء روحه

بشمس التثبت واليقين، ويعود شخصًا مليئًا بالأمل الواسع، مغمورًا بالفرح الجامع،

شاكرًا لربه أن جعله مسلمًا مؤمنًا من خير أمة أخرجت للناس، ويقرؤه غيره من

ذوي البصيرة والمعرفة؛ فيثلج صدره، وترتاح نفسه، ويحس بالرغبة في

الاستزادة منه، معجبًا بالقرآن، وما فيه من علو وعظمة وجلال، ومبادئ تسعد بها

جميع الأجيال.

وقد سلط هذا التفسير على جميع الشبهات نورًا كشَّافًا قويًّا ساطعًا؛ فأزالها

وأحالها هباءً منثورًا، وحل بمهارة ولباقة وقوة وغيرة وشجاعة وصراحة جميع

المعضلات الدينية والاجتماعية والسياسية، وكان الحل مُشْبِعًا مُرْوِيًا، مزيلاً كل

شك وريبة ووهم وظن، ولا يدع لأحد مسلكًا يسلك منه طريق هذه المعضلات مرة

أخرى، وهذه ميزة جلية لا ترفع رأسها موفورًا إلا في هذا التفسير الجليل.

وإلى القراء ثبتًا موجزًا يدعم ما قلناه.

(1)

بيَّن إعجاز القرآن بيانًا شافيًا، وأظهر أسراره القدسية، وأزال

الخلافات المذهبية، وجلى الحكمة في الحروف التي تبدأ بها السور الكريمة،

وصعد بالقارئ إلى سماء العرفان الصحيح، والفهم الرائق، ووضع فهرسًا واسعًا

لوجوه إعجازه، فإذا هي لا تكاد تُحْصَر إذا وعينا مفرداتها وتفاصيلها، وألمس كل

فرد هذه الوجوه بما يجعله واثقًا منها، مؤمنًا بها إيمانًا موطدًا، لا تعلق به شية [2]

من الضعف أو الوهن أو الريبة، ، وأثبت أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه

ولا من خلفه، ولو تظاهر عليه جميع الملاحدة والمعطلين والمشركين والكافرين؛

لأنه بطبيعته الذاتية يغلب كل متظاهر، ويهزم كل مكابر، وأورد لذلك شهادات

كثيرة للفلاسفة والعلماء والباحثين والمفكرين.

(2)

ساق الدلائل العظيمة على خلود هذا القرآن وبقائه إلى يوم القيامة

واستقراره وثباته كلما تقدمت العلوم، وارتقت الفنون، وسارت الأمم في سبيل

المدنية الفاضلة، والحضارة الصحيحة، وأرى كل ذي بصيرة نافذة كيف أن الأمم

الغربية لا ينقذها من ويلاتها ومشاكلها المعقدة إلا كلام الله المحفوظ من التحريف

والتبديل والتغيير والنسيان، الذي يوافق الزمان والمكان، ويجد فيه طالب الحق ما

يشبع نهمته، ويزجي طلبته، وذكر نماذج شتى من القرآن لمسائل لم يعرفها العالم

إلا في السنوات العشر الأخيرة، وقال: إن ثمت مسائل كثيرة في القرآن يكشفها

الزمان تدريجًا للدلالة على أنه كتاب الله حقًّا.

(3)

شرح مبدأ الخلق والتكوين، وذكر أحوال الأمم وطبقاتها ودرجاتها

وعملها في هذه الحياة الدنيا، وساق أخبارها من أوثق مصادرها، وقفى على ذلك

في مواضعه بالبعث والنشور والحساب والعقاب والثواب وأحوال يوم الدين، وكان

في هذه الأمور محققًا دقيقًا يصل بالقارئ إلى أسمى غاية يطمع في الوصول إليها

أرقى عقل وأعظم فكر، بحيث يخرج منها فاهمًا جيدًا سر الخلق وحكمته، وتدرج

الأمم في مدارج الرقي حتى استكملت استعداها العقلي وقت نزول القرآن، وبعثة

سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، وعارفًا المعرفة كلها معنى البعث، وكيف

يكون بالجسد والروح معًا، وما الثواب وما العقاب، وما الجنة وما النار؟ ولماذا لا

تكون النجاة إلا بالإسلام الحنيف، الذي جاء به الرسول الشريف؟

(4)

تكلم عن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،

وذكر قصصهم وتعقب ما في كتب العهد العتيق المسماة بالتوراة من خروج عن

الجادة في سرد هذه القصص، وصحح الخطأ المنتشر فيها، وفي كتب التفاسير

التي نقلت عنها أو اعتمدت عليها من غير ما تمحيص ولا تدقيق، وصورهم عليهم

السلام بالصورة اللائقة بهم وبعملهم لهداية الأمم والشعوب، ونفى عنهم ما نسب

إليهم كذبًا وغلطًا وجهلاً، ونقاهم مما علق بسيرهم الشريفة الطاهرة بسبب العناد

والمكابرة والمغالطة والعماية، وبرهن على أن النبي أو الرسول يجب أن يكون

مثال الكمال الإنساني، والقدوة الصالحة في الأقوال والأفعال والأعمال والأسوة

الحسنة في الخير وعمل البر.

(5)

دافع عن الإسلام وتعاليمه دفاعًا مجيدًا منصورًا، وأزجى الأسباب

التي تضمن خلوده وبقاءه، ودفع في صدور اليهود والنصارى والملاحدة بما جعلهم

ينكمشون ويتركون سلاحهم المفلول، ويعترفون بضعف حجتهم وبوار بضاعتهم

وكساد سوقهم، ويقولون بملء أفواههم: اعترفنا بعجزنا وقصورنا وانهزامنا.

وأعطى المسلمين الحجج الدامغة التي يستطيعون بها الدفاع عن ذمارهم، والذود عن

دينهم، والنصر على مناوئيهم، وحقق بما لا مزيد عليه أن الإسلام لا مطعن فيه

لطاعن، ولا مغمز لغامز؛ وأن بيته من طود أثبت، وبيوت غيره من زجاج

أضعف؛ وأنه لا يليق لصاحب البيت الزجاجي أن يقذف البيت الحجري بالحجارة،

وقد أثنى الكثيرون من غير المسلمين على مسلكه الراجح، وأدبه الواضح.

(6)

شفى الغليل بمباحثه القيمة في الناسخ والمنسوخ، ورسم صورة رائعة

لهذه المشكلة الدقيقة التي اختلف فيها المفسرون، وتعددت أقوالهم، وتباينت آراؤهم،

وعرَّج على عقيدة النصارى في النسخ، فشرحها تشريحًا وافيًا جامعًا، وكشف

عن خطئهم الدامس فيها، ووضع أصابع الباحث على عوارها وزيغها، فأثلج بذلك

قلوب المؤمنين، وأدخل في صدورهم برد اليقين، ومن اطلع على مسألة النسخ

درى مدى التوفيق العجيب في هذا التفسير البديع الذي صار حجة هذا العصر،

وترجمان القرآن ولا فخر.

(7)

فصل الوحي الإلهي بما يقنع كل منكر، ويسلم له كل معاند، ويعنو

لحججه جميع الورى، ولما وصل إلى الوحي المحمدي كان التفصيل أوسع،

والشرح أمتع، والدلائل أنصع؛ إذ أثبت ببراهين لا تُدْفَع أن الوحي المحمدي ثابت

بالقرآن ثبوتًا لا تعلق به شية من الريب عند أي إنسان، وجلى النبوة المحمدية

بأوضح بيان، وبين أنها أصل إثبات النبوات السابقة، فهي دليلها ومُصَدِّقتها

والمزكية لها.

(8)

كشف فضل الإسلام على جميع الأنام، ونثر الدلائل الكثر من تاريخ

الأمم الشرقية والغربية، على ما استفادته من تعاليم الإسلام الخالد في الدين والأدب

والاجتماع والتشريع، وشهد به رجالها وفضلاؤها وعلماؤها وفلاسفتها ومفكروها،

وعبَّد السبل؛ ليفهم القارئ أن العالم كله سائر إلى الإسلام؛ إذ الإسلام هو الوسيلة

الكبرى لسعادة البشر، والطريقة المثلى لإزالة الخطر.

(9)

قارن بين ما في القرآن من التشريع والحكمة والآداب والمبادئ العليا،

وبين ما تتمدح به الأمم الحاضرة من قوانينها وحكمتها ومبادئها وآدابها، وخرج من

هذه المقارنة بما يُفْرِح المؤمنين، ويرفع رؤوس الموحدين، ويجعل القدح المعلي

للإسلام، الذي جاء به خير الأنام صلى الله عليه وسلم.

(10)

قضى على العنت الذي كان يعانيه القارئ من قراءة التفاسير السابقة،

وجعل له مصباحًا كشافًا وضاءً ينير له السبيل، وصوًى ومنارًا كمنار الطريق،

فخدم بذلك المفسرين أنفسهم، وقدم للناس حديقة غناء فيها ما تشتهيه نفوسهم الزاكية،

وقلوبهم الواعية.

هذا نموذج يسير مما حواه هذا التفسير الشهير الكبير، فواجب على كل مسلم

يحسن القراءة والكتابة في أنحاء الأرض أن يقتنيه كنزًا ثمينًا، وذخرًا عظيمًا،

ودائرة معارف إسلامية نادرة المثال، وليس لأحد يقصر في الحصول عليه عذر،

والسلام على من اتبع الهدى.

...

...

... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

(المنار)

نشكر لأخينا المقرظ إطراءه لشخصنا الضعيف المبني على حسن الظن،

ونعتذر للقراء عن نشره بحروفه أداءً للأمانة على ما فيه من انتقاد كتب التفسير

كلها بالإجمال، وتخصيص آخرها بالذكر وهو لصديقنا، وقد سبقنا من قبلنا إلى نشر

التقاريظ كما ترى في تفسير العلامة الآلوسي وتفسير الإمام السيد حسن صديق

وغيرهما من كتب المشارقة والمغاربة، على أن أكثر تقاريظ المعاصرين للكتب

شعرية يقرظون بها ما لا يقرؤون لا بيان لعقيدة الكاتب وتعبير عن شعوره كهذا

التقريظ وما قبله، وما كاتباهما بأول من فضل هذا التفسير على غيره، بل

سبقهما إلى ذلك غيرهما، ووافقهما عليه أناس بعدهما؛ ولكن الكتاب يختلفون

بدرجة الصراحة والإجمال والتفصيل.

_________

(1)

المنار: من هذا الفهم المخالف للواقع قول بعضهم: إن تحريف أهل الكتاب لكتبهم معنوي خاص بالتأويل لا لفظي؛ لأنه لا يعقل أن تتفق أمة على تغيير ما في كتاب ربها، وسبب هذا الفهم عدم اطلاع هؤلاء على تاريخ القوم، واتفاقهم فيه على أن توراة موسى فُقدت باحتراق هيكل سليمان، وأن عزرا كتبها بعد ذلك بالإلهام إلخ ما فصلناه في محله.

(*) هنا بياض بالأصل بقدار كلمة أو كلمتين.

(2)

كذا في الأصل ولعلها شبهة؛ فإن الشية بالكسر فعلة من الوشي، وقوله تعالى في البقرة:[لَاّ شِيَةَ فِيهَا](البقرة: 71) معناه ليس فيها لون غير لونها الأصفر الفاقع.

ص: 284

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة

بسم الله الرحمن الرحيم

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ *

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ

وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 1-2)

نحمده عز وجل ونصلي ونسلم على رسوله محمد خاتم النبيين، الذي بعثه الله

وهو أمي في سن الكهولة مربيًّا ومعلمًا لقومه العرب الأميين، ما جعلهم به قارئين

كاتبين، صالحين مصلحين، فكانوا أئمة حكماء حاكمين وعلماء معلمين لأهل

الكتاب ورثة الأنبياء، ولغيرهم من ورثة الفلاسفة والحكماء، وجعلهم به ملوكًا

عادلين، وآتاهم بكتابه وتعليم رسوله وتزكيته ما لم يؤت أحدًا من العالمين، فما

زال هذا الكتاب الإلهي، وما بينه من سنة هذا النبي الأمي يتدارسهما البشر في

مشارق الأرض ومغاربها من شاطئ المحيط الغربي إلى أحشاء الصين، ثم انتقل

تدارسهما من الجنوب إلى الشمال، فعني بهما طائفة من الأوربيين، الذين عُرِفُوا

بلقب المستشرقين، وقد مهدوا السبيل لهما، بما وضعوه من المفاتح لألفاظهما،

والفهارس المنوعة لكتب التفسير والحديث وغيرها من الكتب العربية لتسهيل

مراجعتها، حتى صار علماء المسلمين من العرب والأعاجم مضطرين لأخذها عنهم،

واقتفاء أثرهم فيها.

وهذا كتاب (مفتاح كنوز السنة) الذي نعرضه اليوم للعالم الإسلامي بلغة

الإسلام، أحد نفائس هذه الكتب التي وضعها أحد هؤلاء الأعلام؛ وإنما وضعه لهم

بإحدى لغاتهم، وإن عالمنا الإسلامي، لهو أحوج إليها من العالم الأوربي، فعسى

أن ينتفع به جميع شعوبه وتنهض بهم الحمية الدينية إلى خدمة السنة بما هو خير

منه في الضبط والجمع، وتعميم النفع.

أما بعد، فإن خير ما أُعَرِّف به هذا الكتاب لقراء العربية، أن أبين لهم وجه

الحاجة إليه، وطريق الانتفاع به، وعدم استغناء أعلم علماء الحديث عنه، بل هم

أشد حاجة إليه من غيرهم، ويتلوهم من دونهم من العلماء، فمن دونهم من دهماء

القراء الذين يقتنون شيئًا من كتب الحديث المشهورة وغيرها مما يراه القراء في

طرته، وإنني أستمد هذا البيان من تجربتي واختباري في السنين الطوال، لا أقوله

بادي الرأي، ولا أصطاده من سوانح الاستحسان.

إنني وُفقت لطلب العلم من طريق الدليل، ثم وُفقت لنشره بالدليل، ووُفقت

للمناظرة وللإفتاء بالدليل، واشتغلت بعلم الحديث أول العهد بالطلب وارتقيت فيه

بالتدريج، وتمرنت على مراجعة كتبه وكتب الجرح والتعديل؛ لتخريج الأحاديث

ونقدها، وسرعة الوصول إليها من أقرب طرقها، واشتهرت عند من يعرفني من

أهل العلم والذكاء، كان الأستاذ اللوذعي الشيخ محمد توفيق البكري يظن أن عندي

فهارس لأوائل الأحاديث كلها، ومعجمًا لمفرداتها كهذا الكتاب يبين عند كل كلمة

مواضع كل حديث وردت فيه من كتبها، ثم علم أنه ما ثم إلا مفتاح الصحيحين

المطبوع المشهور، وهو خاص بأوائل أحاديث الصحيحين القولية والمسندة وبيان

مواضعها من المتن وشروح الحافظ العسقلاني والقسطلاني والعيني لصحيح

البخاري (في طبعاتها الأولى) وشرح النووي لصحيح مسلم المطبوع على هامش

شرح القسطلاني للبخاري.

ولو وجد بين يدي مثل هذا المفتاح لسائر كتب الحديث لوفر عليّ أكثر من

نصف عمري الذي أنفقته في المراجعة؛ ولكنه لم يكن ليغنيني عن هذا الكتاب

(مفتاح كنوز السنة) فإن ذاك إنما يهديك إلى مواضع الأحاديث القولية التي تعرف

أوائلها، وهذا يهديك إلى جميع السنن القولية والعملية وما في معناها كالشمائل

والتقريرات والمناقب والمغازي وغيرها، فلو كان بيدي هو أو مثله من أول عهدي

بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها؛ ولمكنني من

الاستجابة لمن اقترحوا عليّ أن أضع كتابًا جامعًا للمعتمد منها، وكتابًا آخر للمُشْكِل

منها في نظر علوم هذا العصر وفلسفته، والجواب المقنع عنه.

إن حاجتنا إلى هذا الكتاب وما في معناه في هذا العصر لا يدل على تقصير

علماء السنة السابقين، أو تفريطهم في شيء من خدمتها؛ فإنهم - أحسن الله إليهم

ونَضَّرَ وجوههم - قد قاموا بكل ما يجب ويندب ويستحب من رواية الحديث وحفظه

وتدوينه في المسانيد والجوامع والسنن الجامعة والخاصة بالعقائد والأحكام، وإفراد

الصحاح منها وإتمامها بالمستخرجات والمستدركات عليها، ووضعوا المعاجم

لمفرداتها ولأوائلها لتسهيل المراجعة، دع ما سبقوا إليه جميع الأمم من وضع

التواريخ لرواتها، ثم لغيرهم من العلماء، ومن ترتيب بعضها على حروف المعجم

وبعضها على الطبقات، ومن نصب ميزان الجرح والتعديل المستقيم لهم لتمحيص

المقبول والمردود من مروياتهم، ومن وضع كتب الأطراف المبينة لروايات كل

صحابي في كل موضوع، وترتيبها على الحروف، وغير ذلك من الكماليات التي

لا محل لذكرها هنا، فقد تركوا لنا ثروة واسعة في ضبط سنن نبينا صلى الله عليه

وسلم وهديه وشمائله وسيرته لم يوفق لمثلها، ولا لما يقرب منها أحد من أتباع

الأنبياء والمرسلين، ولا غيرهم من الحكماء والمشترعين، يسرت لمن بعدهم سبيل

التفقه فيها والاستنباط منها في كل زمان بما يحتاج إليه أهله، ويكون به المتأخر

مكملاً لما سبقه إليه من قبله، ويكون الارتقاء في العلم متسلسلاً مطردًا، سواء منه

علم الدراية والرواية الذي جعلوه علمًا مستقلاًّ مدونًا وعلوم العقائد والفقه والأدب

والتصوف وغيرها.

كان أئمة الفقه في أمهات الأمصار قبل جمع الأحاديث والآثار في الأسفار

يأخذ كل منهم بما وصل إليه من علم الصحابة والتابعين بالسنة ومذاهبهم في العمل.

فاشتهر في الكوفة مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأصحابه وقضايا علي

أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وشريح قاضي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه

وفتاوى إبراهيم النخعي وأقرانه من التابعين، فكانت عمدة أبي حنيفة في اجتهاده

بالتخريج عليها قلما كان يخالفها، ولقلة المرفوع فيها كان يأخذ بالمرسل والمنقطع،

وكثر في فروعه القياس والرأي وعرف به، واشتهرت براعة صاحبه أبي يوسف

في القضاء لتولية هارون الرشيد إياه رياسته في مملكته، ثم اشتغل صاحبه محمد

بن الحسن بالحديث، وأخذ الموطأ عن الإمام مالك ودون الكتب التي هي عمدة

المذهب.

واشتهر في المدينة علم عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وزبد بن ثابت وابن

عباس وأبي هريرة وغيرهم من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأصحابهم من

كبار التابعين رواتهم وفقهائهم، فكانت عمدة مالك بن أنس في اجتهاده، وكان لثقته

بهؤلاء الأعلام يأخذ المراسيل عنهم، وبعمل أهل المدينة بشرطه على كثرة المرفوع

عنده.

ثم ظهر محمد بن إدريس الشافعي وقد تأسس هذان المذهبان على ما أشرنا

إليه فرحل في طلب الحديث من مكة إلى المدينة، وسمع الموطأ وغيره من مالك،

ثم إلى بغداد فلقي محمد بن الحسن وناظره ونظر في كتب أبي حنيفة ومذهبه،

ولقي أحمد بن حنبل وطبقته من المحدثين، وألف هنالك كتبه التي تسمى بالمذهب

القديم، ثم هاجر إلى مصر وسمع من رجالها وألف فيها مذهبه الجديد، وكان أكبر

الفرق بينه وبين من قبله أن بنى مذهبه على الجمع بين روايات الأمصار المختلفة،

ووضع أصول الفقه للجري عليها في الاستنباط، وخالف أبا حنيفة وأصحابه ومالكًا

في مسائل، من أهمها: ما اشترطه في الاحتجاج بالمرسل والمنقطع، وغير ذلك كما

بينه في كتاب الأم.

ووجه أحمد بن حنبل جل عنايته إلى الإحاطة بالروايات بقدر الاستطاعة،

وبالجرح والتعديل للرجال فكان أعلمهم بها، وأقلهم عناية بالفقه استغناءً بالحديث

والآثار، ومسنده أصل الأصول لأكثر كتب السنة، فهو أعظم المسانيد وأوسعها،

ثم وضع تلاميذه وغيرهم كتب الصحاح والسنن وغيرها كما بيناه آنفًا.

وقد جرى على مذاهب هؤلاء الأربعة أكثر فقهاء أهل السنة في الشرق

والغرب، وصارت كتب السنة المدونة وشروحها المصنفة مرجع علمائهم كلهم،

فملؤوا بها طباق الأرض علمًا من كل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم.

فبتلك الكتب التي أتقن أفراد الأخصائيين لكل نوع منها في الرواية والدراية

صار طريق علوم السنة بأنواعها معبدًا ممهدًا، وهذه العلوم تتسع دائرتها في كل

عصر بقدر ما يتجدد للبشر فيه من الأقضية والمصالح السياسية، والحكمة العقلية

والأدبية، والأصول التشريعية، والنظريات العلمية التجريبية، والمخترعات الفنية

والصناعية، ومن فوق هذا كله إقامة الحجة على نبوة خاتم النبيين، ودفع الشبهات

عما يرد عليها وعلى أحاديثه من إشكال علمي أو عقلي؛ وإنما يكون ذلك بتمحيص

الروايات ونصب ميزان الترجيح بين المتعارض منها. والأجانب يعنون بنقد هذه

المتعارضات ما لا يعنون بتلك العلوم والحكم التي تعد من المعجزات، لتفجر

ينابيعها من فيض نبي أمي نشأ بين الأميين، وفي هذه الكتب ما لا يصح سنده وما

يُشْكِل متنه، بمخالفة الظني للقطعي من نص أو حس، وما فيه علل خفية كعنعنة

المدلسين في الصحاح، ومخالفة الثقات في غيرها، ولا بد للعالم المسلم من العلم

بذلك، ولا يتيسر ذلك كله إلا بجمع ما تفرق في كتبها في كل موضوع.

بيد أن الحياة الدينية العلمية التي بعثت الأولين على تصنيف تلك الأسفار

العظيمة، قد عرض لها أمراض روحية وسياسية كثيرة، انتهت بالمسلمين إلى

هجرها هجرًا غير جميل، حتى صار أكثر علمائهم وخطبائهم وأدبائهم يجهلون علم

الحديث، فلا يميزون بين ما صح منه وما لم يصح، بل ينقلون المنكرات

والموضوعات منه، ويحتجون بها حتى في أصول العقائد وأحكام العبادات والقضاء؛

لأنهم على جهلهم لها، وعدم تمييزهم بينها، ينقلونها من كتب الأدب والتصوف

والمواعظ والتواريخ والقصص، وكذا أكثر كتب التفسير والفقه فأمسينا في فقر

مدقع من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وأخباره، وفي خزائن كتبنا من كنوزها

العظيمة ما لو استخرجناه وانتفعنا به لكنا أغنى الأغنياء، ولملأنا الدنيا بما فيها من

العلم والحكمة بما من الله به على أهل عصرنا من نعمة المطابع، وتعميم

المواصلات وسرعتها بين الأقطار الشواسع، حتى صار جمع تلك الثروة الواسعة

من كتب الحديث وشروحها سهلاً على كل من يريده، ولكن بعد أن قل من يريده

حتى إن من المقلدين الجامدين من لا يرى لهذه الكتب فائدة إلا التبرك بها، والصلاة

على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره وذكرها!

ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها

بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ

القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر

وإنني لما هاجرت إلى مصر سنة 1315 رأيت خطباء مساجدها الأزهر وغيره

يذكرون الأحاديث في خطبهم غير مخرجة، ومنها الضعيف والمنكر والموضوع،

ومثلهم في هذا الوعاظ والمدرسون، ومصنفو الكتب، فكنت أنكر ذلك عليهم كما

بدأت بإنكار مثله على أهل بلدي طرابلس قبلهم، واخترت لأشهر خطبائهم من

الأحاديث الصحاح والحسان المعزوة إلى مُخَرِّجِيهَا ما ختم بها خطب ديوانه.

ولما أنشأت المنار في أواخر تلك السنة التزمت فيه تخريج ما أنقله فيه من

الأحاديث، فكان لذلك بعض التأثير في بعض طلاب العلم في الأزهر، ثم في

مدرسة القضاء الشرعي، وكان جل الذين اشتغلوا بالحديث منهم من إخواني

وأصدقائي، فبإحيائي لهذه السنة بالقول والعمل، وبالدعوة إلى السنة وهدي السلف،

والنهي عن مستحدثات البدع، وُصفت بمحيي السنة، على ضعف حفظي للرواية،

وقلة حظي من الدراية، ولله الحمد على ما أعطى، ومنه وله وحده الفضل والمنة.

بيد أن جمهور المشتغلين بعلوم الشرع لا يزالون معرضين عن علم الحديث

حتى إن مشيخة الأزهر على علو مكانتها، قد أنشأت منذ أربع سنين مجلة دينية

علمية جعلتها لسان حالها، فكان أول ما أنكرته عليها عدم عنايتها بالحديث الشريف،

واقترحت عليها تخصيص بعض العلماء لتخريج كل حديث ينقل فيها وبيان

درجته، ولكن لا يزال ينشر فيها ما لا يصح ولا يعزى إلى شيء من كتب السنة

المعتمدة؛ لقلة اطلاع محرريها على هذه الكتب، وصعوبة التمييز بين الصحيح

وغيره مما في غير الصحيحين، وأصعب من ذلك عليهم المراجعة للعثور على

تخريج ما ينقلونه من الكتب المختلفة، وقد صاروا هم وأمثالهم من الكتاب والمصنفين

الذين يكتبون في المسائل الإسلامية مضطرين إلى هذا التمييز والتخريج، لكثرة

السؤال عنه، والإنكار على من نقله وتركه غفلاً، بكثرة إخواننا من أنصار السنة

ودعاتها والمهتدين بها، وتأليفهم الجمعيات ونشرهم المصنفات لتعميمها، واعتراض

الزراع والعمال منهم على العلماء الرسميين من غيرهم، وظهور حجتهم عليهم، ولا

سبيل إلى حفظ كرامتهم ومقامهم العلمي إلا بالاشتغال بعلم الحديث، وهو يتوقف

على درس طويل وتعب كثير.

وأول ما يحتاجون إليه قبل درسه الفني العلمي سهولة المراجعة في كتبه

للوقوف على ما يُحتج به وما لا يُحتج به، ويقرب شقته عليهم هذا الكتاب الذي

شعر بالحاجة إليه لنفسه ولأمثاله من شعوب الإفرنج عالم أوربي مستشرق هو

الدكتور أ. ي فنسنك الهولندي، والمسلمون أحوج إليه منهم، ولا غرو فقد ورد في

الحديث (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) رواه الترمذي من

حديث أبي هريرة، وقال: غريب. ورواه غيره بألفاظ أخرى بعضها موقوف على

علي وابن عمر رضي الله عنهما تكفي للاعتبار بها في موضوع الاستفادة في علم

مجمع على وجوبه، وورد في حديث آخر مرفوع (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما

هم من أهله) رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله

عنهما، ويؤيد ضعف سنده ما في معناه في الصحيحين بلفظ آخر ليس نصًّا فيه مثله،

وحاصل ما تقدم أن الحاجة إلى مفتاح لكتب السنة الجامعة شديدة لكل من يريد

الدخول عليها من أبوابها

موضوع هذا الكتاب دلالة القارئ على ما أُودع في كتب الصحاح والسنن

والمسانيد والسير والطبقات والمغازي - المبينة في أوله - من الأحاديث والآثار

والمناقب بالصفة التي شرحها، فهو لا يدلك على مواضع الأحاديث التي تحفظها أو

تحفظ أوائلها في تلك الكتب كمفتاح أحاديث الصحيحين؛ وإنما يدلك على ما ورد

فيها من كل موضوع بمراجعة أخص كلمة به تدل على أصل الموضوع، ثم ما

يليها من فروعه، فهو ككتاب (فتح الرحمن لطالب آيات القرآن) فإذا لم تجد

مطلوبك عند الكلمة التي راجعتها؛ فإنك تجده عند كلمة أخرى في معناها، فمؤلفه

قد أحصى ما وصل إليه علمه، ووضع ألفاظها بقدر ما بلغه فهمه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ

نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7) .

وإنني كنت أعجبت بالكتاب منذ اطلعت عليه، واستأذنت مؤلفه بنقله إلى

اللغة العربية، فأذن لي، وانتدب لهذا العمل الجليل أحد إخواننا من عشاق العلم

الذين يكثرون الاختلاف إلى دار المنار، والبحث في مسائل التفسير والآثار،

ويقتنون نفائس الأسفار، الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أدام الله توفيقه، ومهد له في

كل علم نافع وعمل صالح طريقه، وكنا اتفقنا على التعاون على تصحيحه وتنقيحه،

فعاقني عن القيام بسهمي منه ما لم يعقه عن سرعة القيام بسهمه، وانفرد بهذا

الفضل واستقل به، وجاهد في هذه السبيل - وهي سبيل الله - جهادًا محمودًا تلافى

به بعض تقصير المؤلف، فصحح ما فطن له في الأصل من خطأ بمراجعة تلك

الكتب كلها في مظانها، بعد وضع الأرقام لما بين يديه من نسخها، وإبقاء المتكرر

من المتون في مواضعها، وتكثير العناوين للحديث الواحد منها، حتى صارت هذه

الترجمة العربية أنفع من أصلها الإنكليزي في الدلالة على تلك المتون في كتبها،

فجزاه لله على حسن عمله وإخلاص نيته، ووفق الأمة للشكر له بالانتفاع بأثره،

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) رواه

أحمد والترمذي والضياء في المختارة من حديث أبي سعيد الخدري بسند صحيح،

ولا ننسى أن نشكر لمؤلف الأصل عمله وجهاده، فهو صاحب الفضل الأول في هذا

الأثر الحميد {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4)

...

...

...

... وكتبه محمد رشيد رضا

...

...

...

... منشئ المنار بمصر

_________

ص: 290

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جوامع كلم في شؤون الدول والأمم

شعور المسلمين بهدمهم لقوة الإسلام

وإعداد زعمائهم للاعتصام

كان لكل فريق من واضعي أسس التفرق بين المسلمين بعصبيات المذاهب،

فالجنس (الشعوبية) فاللغات، فالأوطان، فالطرائق منافع خاصة بكل منهم، ثم غلب

الإسلام، فانحصرت هذه المنافع بزعمائهم في جامعة الإسلام، المانعة من التفرق

والانقسام، إلا غلاة الشيعة فقد مرقت الباطنية منها، ثم استغل الإفرنج المستعمرون

هذه الفرق كلها، واستخدموها في إذلال كل منها، بهدم الجامعة الإسلامية من

أساسها، وقد شعر أكثر هؤلاء الزعماء في المشرق وأقلهم في المغرب بذلك، فيجب

إشعار الباقين به وإعداد الجميع للدعوة التي ستنشر في العام الآتي مبينة لهم كيف

ينتفعون بقوتهم الجامعة، مع حفظ منافعهم الخاصة، من جميع النواحي الدينية

والدنيوية.

_________

ص: 297

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعريف بكتاب مسائل الإمام أحمد

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم لك الحمد والشكر، ثم لمحمد رسولك خاتم النبيين الذي بلغنا عنك،

فَصَلّ اللهم عليه وعلى آله وصحابته المبلغين عنه ما آتيته من كتابك وحكمتك،

وعلى أتباعهم الحافظين عنهم ما بَلَّغُوا من بيانه وسننه، وجميع الناشرين للعلم

والعاملين به، وسلم تسليمًا.

أما بعد، فهذه أثارة من علم حافظ الملة، وإمام الأئمة، أبي عبد الله أحمد بن

محمد بن حنبل، كانت من مخبآت الخزائن، فاستخرجها منها بعض الأعوان على

الخير؛ لنشرها على الأمة بنعمة الطبع.

كان أكبر هَمِّ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وجل عنايته مصروفًا إلى

رواية الحديث ونقد رجاله تلقينًا وتصنيفًا، وإلى حفظ السنة النبوية المتبعة المأثورة

بالعلم والعمل، على الهدي الذي كان عليه الصحابة والتابعون وصلحاء السلف،

وما كان يريد أن يكون ذا مذهب في الفقه يُدَّون ويُتَّبع رأيه فيه؛ لأنه ما كان يبيح

لأحد أن يقلده ولا أن يقلد غيره في فهمه ورأيه؛ وإنما كان يدعو الناس إلى الاتباع،

وينهاهم عن الابتداع، حتى إنه كان يتحامى القياس ويرغب عنه، وقد روي عنه

أنه قال: سألت الشافعي عن هذا القياس فقال: هو كلحم الميتة يباح للضرورة - أو

قال كلمة بمعنى يباح والشك من الكاتب - ولذلك كتب الحديث والآثار والسنة وصفة

الصلاة والرد على المبتدعة، ولم يصنف شيئًا في الفقه، ومن ثم قال الإمام أبو

جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب الأحكام أنه لم يذكر فيه خلاف الإمام أحمد؛

لأنه كان محدثًا لا فقيهًا.

والحق أن الإمام أحمد كان محدثًا فقيهًا يرجع إليه العلماء فيما يشكل عليهم من

مسائل الفقه، كما يرجعون إليه فيما يشكل عليهم من روايات الأحاديث ورواتها،

ليعلموا ما يصلح وما لا يصلح للعمل به منها، وكان يجيب السائلين؛ ولكنه ما كان

يحب أن يُنقل عنه ولا عن غيره شيء في الفقه إلا الحديث والسنن، وتفنيد

المحدثات والبدع.

قال صاحبه أبو الحسن أحمد بن الحسن الترمذي - وهو من شيوخ البخاري

- عنه، أي: عن أحمد: سألت أبا عبد الله فقلت له: أكتب كتب الشافعي؟ فقال:

ما أقل ما يحتاج صاحب الحديث إليه. وقال صاحبه عبد الملك بن عبد الحميد

الميموني الرقي أبو الحسن: سألت أبا عبد الله عن مسائل فكتبتها فقال: إيش تكتب

يا أبا الحسن؟ فلولا الحياء منك ما تركتك تكتبها، وإنه عليَّ لشديد، والحديث أحب

إليَّ منها. قلت: إنما تطيب نفسي في الحمل عنك، إنك تعلم أنه منذ مضى رسول

الله صلى الله عليه وسلم قد لزم أصحابه قوم، ثم لم يزل يكون للرجل أصحاب

يلزمون ويكتبون. قال: من كتب؟ قلت: قال أبو هريرة: وكان عبد الله بن

عمرو يكتب ولم أكتب فحفظ وضيعت. فقال لي: فهذا الحديث؟ فقلت له: فما

المسائل إلا حديث، ومن الحديث تشتق. قال لي: أعلم أن الحديث نفسه لم يكتبه

القوم. قال: لا. لمن يكتبون؟ قال: لا إنما كانوا يحفظون ويكتبون السنن إلا الواحد

بعد الواحد الشيء اليسير منه، فأما هذه المسائل تدون وتكتب في الدفاتر فلست

أعرف فيها شيئًا، وإنما هو رأي لعله قد يدعه غدًا ينتقل عنه إلى غيره. ثم قال لي:

انظر إلى سفيان ومالك حين أخرجا ووضعا الكتب والمسائل كم فيها من الخطأ؟

وإنما هو رأي يرى اليوم شيئًا وينتقل عنه، والرأي قد يخطئ. فإذا صار إلى هذا

الموضع دار هذا الكلام بيني وبينه غير مرة. اهـ.

أقول: ذكر هذا عنه القاضي أبو الحسن محمد بن القاضي أبي يعلى الكبير في

مختصر (طبقات الحنابلة) وقال قبله في ترجمة الميموني هذا: وعنده عن أبي

عبد الله مسائل في ستة عشر جزءًا، وجزأين كبيرين بخط جليل مائة ورقة - إن

شاء الله تعالى - أو نحو ذلك، لم يسمعه منه أحد غيري فيما علمت من مسائل لم

يشركه فيها أحد، كبار جياد، تجوز الحد في عظمها وقدرها وجلالتها. اهـ.

بحروفه ص 156 من الطبقات.

وهكذا كان يسأل الإمام أصحابه وغيرهم عما يعرض لهم من المسائل؛ لأن

إمامة العلم ورياسته قد انتهت إليه في بغداد عاصمة الخلافة وكعبة العلم، فأما أهل

الرواية كالميموني فكانوا يروون عنه هذه المسائل، ومنهم صاحبه أبو داود في

المسائل المجموعة في هذا الكتاب، وأما سائر الناس فكانوا يعملون بما يقوله ويفتي

به، وإفتاء العامي فيما يعرض له واجب على أولي العلم؛ ولكن أحمد كان ينهى أن

يتخذ فهمه دينًا يقلد فيه، وكذا سائر الأئمة كما صرح به الإمام المزني عن الشافعي

في أول مختصره، وأنه كتبه لأجل النظر فيه، أي مساعدة على فتح باب الفهم،

وأن الشافعي نهى عن تقليده فيه؛ وإنما يعمل الناظر في العلم بما يقوم الدليل عنده

على صحته، وقد بكى مالك في مرض موته؛ إذ بلغه أن الناس يعملون بقوله لذاته،

مع أنه قد يرجع هو عنه.

ولما دَوَّن أتباعه الفقه على مذهبه جمعوا ما وصل إليهم من المسائل المجموعة،

والروايات المتفرقة، ووضعوها في أبوابها، ومن أجل هذا تجد الروايات

والأقوال عنه كثيرة مختلفة، وقد وضعوا للاختلاف فيها وترجيح بعضها على

بعض قواعد، ولو كان هو المدون للفقه لما احتاجوا إلى ذلك؛ لأنه كان يكون عند

الكتابة يدون ما يرى أنه الحكم، أو يذكر في المسألة وجهين على الأكثر، ووضعوا

اصطلاحًا لألفاظه المختلفة في التعبير عما يراه، وعما لا يراه في المسألة كقوله:

لا ينبغي، لا يعجبني، لا يصلح، أستقبحه، هو قبيح، أكرهه، لا أحبه، هذا أقبح

أو أشد. وفي مقابله: أحب كذا، يعجبني، هو أعجب إلي، هذا حسن أو أحسن،

وقد بين هذا وذاك العلامة ابن مفلح في فاتحة كتابه (الفروع) وإنما كان يقول هذا

حتى لا يكون جازمًا بأنه هو حكم الله تعالى، وما كان يخطر ببال أحدهم أن الناس

سيتركون ما صح في السنة والحديث تقديمًا لأقوالهم عليها، هذا ما كانوا يخافون

من كتابة الفقه، وليس فيما عداه إلا النفع للأمة والإعانة على العلم، وفتح أبواب

الفهم، فجزاهم الله خير الجزاء.

لا أعلم أن شيئًا من المسائل التي نقلها عن الإمام راوٍ واحد رويت عمن سأله

عنها، ودونت في زمن راويها إلا هذه المسائل التي رواها عنه أشهر أصحابه أبو

داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب السنن المشهورة، فإن النسخة

المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق قد سمعت وكتبت في سنة 266 للهجرة،

وكانت وفاته سنة 275 فهي قد كتبت في عصره، ومن العجب أن علماء المذهب

لم يعتنوا بها بعد ذلك بما ينبغي لمثلها من الرواية والشرح حتى إن صاحب مختصر

الطبقات لم يذكرها في ترجمته، ولم نجد لها ذكرًا في كتاب (كشف الظنون) ولا

في فهرس المكتبة المصرية الكبرى، وإن ما فيها من الفقه لهو من أصح ما يعزى

إلى أحمد أو أصحه؛ لأنه كتب بلفظه في عصره، ولا يستغنى عنه بغيره.

لهذا نعد من حسنات هذا العصر، عصر تجديد العلم ونشر كتب السلف

بالطبع أن وفق الله تعالى الشيخ إبراهيم بن حمد الصنيع السلفي النجدي أحد كرام

تجار جدة لطبع هذا الكتاب بعد العثور على نسخة المدينة المنورة واستنساخها، وأن

أشار عليه بعض أهل المعرفة والرأي أن يكلف الأستاذ الأمين المدقق عالم الشام

الشيخ محمد بهجة البيطار معارضتها على نسخة المكتبة الظاهرية وتصحيحها

بالمقابلة عليها، وقد تبرع الأستاذ بهذا العمل الشاق وجرى فيه على الطريق الوعر

بأن أحصى كل ما رأى من الاختلاف بين النسختين، وأثبت في حواشي النسخة

المدنية التي جُعِلَت هي الأصل للطبع ما يخالفها في النسخة الظاهرية من تحريف

وتصحيف وزيادة ونقصان وهو كثير جدًّا، وترى بيان هذا بقلمه في آخر الكتاب.

وكان من سوء الحظ أن نسخة المدينة كثيرة الغلط حتى إن منه ما هو تحريف

أو تصحيف ظاهر لا يحتمل الصواب، وأن النسخة الظاهرية تخالفها في أكثره إلى

الصحيح كما صرحت به في بعض تعليقاتي عليه، ومثل هذا الاختلاف لا يصح أن

يُجْعَل اختلاف رواية ولا اختلاف فهم، وقد كتب الأستاذ رأيه في بعض الخطأ

اللفظي والمعنوي في الكتاب، ومنه اختلاف قولي الإمام في المسألة الواحدة،

ونصح لمريد طبع الكتاب أن يطبعه في مطبعة دار المنار بمصر، وأن تكلفني ما لا

يكلَّف مثله صاحب مطبعة من النظر في المشكلات المعنوية والمسائل الخفية،

وضبط الروايات وأسماء الرجال المشتبهة والتي لا تعرف لما وقع فيها من التحريف،

وكتب في ذلك جدولاً فيه عشرات من هذه المسائل، وقد أرسل إليّ هذا الجدول

بعد الاتفاق مع مدير المطبعة على شروط الطبع، ومنها أن يكون تصحيح المطبعة

على الأصل المرسل تحت إشرافي ومراجعتي.

وقد قمت ولله الحمد بأكثر مما كلفته من تصحيح المسائل المشكلة والخفية

وأسماء الرجال التي أحصاها الأستاذ ابن البيطار، ومنها ما كتبت له حواشي

وضعت اسمي في آخرها أو أولها، وربما تُرك ذكر الاسم أو سقط من بعضها،

ومنها ما لم أضع له حاشية لئلا تكثر الحواشي بغير فائدة، ولم يكن من الممكن بيان

جميع المسائل الخفية في الأصل وهي صحيحة مع كثرتها إلا بشرح مطول لها

يكون أضعاف الأصل في حجمه؛ فإن هذه المسائل لم يُقْصَد بشيء منها أن تكون

بيانًا تامًّا لمسألة فقهية أو اعتقادية أو حديث أو تاريخ راوٍ لأجل تلقينها لطلاب العلم

أو المستفتين؛ وإنما هي إشارات وجيزة من حافظ عليم إلى مشكلات عنده لإمام

أعلم منه، فيكفيه أن يشير إليها بلفظ مفرد أو جملة وجيزة تامة أو غير تامة،

ويقنعه من الجواب عليها مثل ذلك، فمن لم يكن على علم بموضوع المسألة من هذا

النوع فلعله لا يفهم السؤال والجواب، وناهيك بالسؤال عن حديث بذكر كلمة منه

ولو في بعض رواياته، أو بذكر أحد رواته باسمه أو لقبه أو كنيته، على ما في

هذه الأعلام من الاشتراك والاشتباه، ثم ناهيك بالجواب عنه بكلمة مبهمة أو باسم

آخر، وغير ذلك مما كان معروفًا عند السائل والمسؤول، وأشباه هذا مما تكرر في

هذه المسائل، ولو ضربت له الأمثال هنا لأطلت في غير طائل.

عرفت كثيرًا من التحريف والتصحيف لأسماء رجال الحديث في إحدى

النسختين أو كلتيهما بشهرتهم، وكثرة مرور أسمائهم على ضعف حفظي وذكري

للأعلام كالأرقام، وشككت في بعضها فراجعت عما أحاله عليَّ الأستاذ ابن البيطار

من المشكوك فيه فصححته، بل قمت بأكثر مما عُهِدَ إلي من التصحيح بقدر الإمكان،

كما قام هو بأكثرها مما عُهِدَ إليه أيضًا، فنسأل الله أن يثيبنا على هذه الخدمة.

ولو نقلت نسخة المكتبة الظاهرية بالتصوير الشمسي، أو كتبت عنها نسخة

وصححت عليها، وكلفنا الطبع عنها مع معارضتها على النسخة المدنية لَمَا تعبنا

عُشْر هذا التعب في تصحيحها، ولما زادت حواشيها على عُشْر هذه الحواشي،

ولجاء المطبوع أصح وأظهر في القراءة وأقرب إلى الفهم، لعدم الحاجة إلى

الحواشي عند القراءة إلا قليلاً، ومن ذا الذي كان يعلم هذا الفرق كله بين النسختين؛

فيخبر مريد طبع الكتاب به، ويقترح عليه العمل به.

أما أنا فلم أقرأ شيئًا من النسخة المخطوطة التي أرسلت إلى مطبعة المنار؛

لأنني لم أكلف قراءة الأصل، ولم أشعر بالحاجة إليه بعد العلم بتصحيح الثقة الأمين

الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار له بالصفة التي يعرفها القراء مما وصفه لهم؛

وإنما كنت أنظر فيما جمع منه في المطبعة للإشراف على تصحيح مصححها،

وللنظر فيما عهده إلي من (مشكلاتها الفقهية والحديثية وأسماء الرواة) ولم أفطن

لفضل النسخة الظاهرية على المدنية إلا بعد طبع كراسات منه، وأظن أن ما وقع

لي من هذا مثل الذي وقع للأستاذ ابن البيطار في معارضة النسختين، وما كان له

ولا لي أن نتصرف في الأصل المدني فنصحح ما نظن ولا ما نجزم بأنه خطأ فيه،

لاحتمال خطأ الظن في الأول، ولعدم ثقة جميع القراء بصحة ما تجزم به إلا أن

نبين الأصل المصحح، والدليل على أن ما جزمنا به هو الصواب، وهذا لا يكون

إلا بالتوسع في هذه الحواشي، وجعلها سفرًا كبيرًا، وهو ما لم نكلفه، على ما

يقتضيه من التعب الكثير والزمن الطويل، وأنا أقر بأنني لست أهلاً للاضطلاع به

في أقل من سنة كاملة أخصه بها.

بيد أني أقول: إن مما قمنا به من خدمة هذا الكتاب هو الممكن الذي أطقناه،

وهو قد أظهر لمحبي العلم والمشتغلين بفقه الإمام أحمد، وبعلوم الحديث نسخة منه

جامعة لكل ما في النسختين المخطوطتين اللتين لم يوجد منه غيرهما، مع زيادات

من البيان والتصحيح لا يُسْتَغْنَى عنهما، فإذا قدره علماء الحنابلة وعلماء الحديث

قدره، وأحبوا إكمال فائدته بما ينتفع به جميع القارئين له، فلينتدب بعضهم إلى

شرحه، وإن شرح القسم الخاص بالحديث ورجاله ليسير على المشتغلين به من

إخواننا علماء الهند، وأما القسم الفقهي فلا يستطيعه إلا فقيه حنبلي ضليع وما

أعرف أحدًا جامعًا بين الأمرين، فإن وجد فهو قليل لا كثير.

ويتوقف الفهم التام لهذا الكتاب في جميع مسائله على معرفة اللغة العرفية

لعلماء بغداد في عصر الإمام أحمد (رحمه الله تعالى) فقد كتبت بلغة النطق، لا

بلغة التصنيف والفرق بينهما قليل؛ فمنه عدم التزام حركات الإعراب، ومنه

استعمال مفردات غير عربية الأصل وهي قليلة جدًّا، وقد نبه الأستاذ ابن البيطار

لبعضها في حواشيه وزدت عليه في ذلك، وأرجعت بعضها إلى أصل عربي

كالوقوف على المنصوب بالسكون على لغة ربيعة، ثم رأيت هذا يكثر في أثناء

الكلام بدون وقف، ولا ترى مثل هذا في مصنفات الإمام أحمد التي كتبها - كيف

وقد شهد له الإمام الشافعي (رحمهما الله تعالى) بإمامة اللغة كإمامة الدين، وناهيك

بشهادة الشافعي.

قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي رضي الله عنه: أحمد إمام في ثماني

خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في

الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة. اهـ. من طبقات الحنابلة.

وجملة القول أن هذا الكتاب قد جَمَعَ من فقه الإمام أحمد، وعلمه بالحديث

ورجاله ما يعد من بقايا المآثر، وأعلاق الذخائر التي تركها الأوائل للأواخر، فنسأل

الله تعالى أن ينفع بها، ويحسن جزاء من رواها، ومن نسخها، ومن صححها، ومن

طبعها، إنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، آمين.

...

...

...

وكتبه محمد رشيد رضا

...

...

...

منشئ المنار

_________

ص: 298

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عهد التحكيم

بين المملكة العربية السعودية وبين مملكة اليمن

بسم الله الرحمن الرحيم

بما أن حضرة صاحبي الجلالة الإمامين الملك عبد العزيز ملك المملكة العربية

السعودية والملك يحيى ملك اليمن قد اتفقا بموجب المادة الثامنة من معاهدة الصلح

والصداقة وحسن التفاهم المسماة بمعاهدة الطائف، والموقع عليها في السادس من

شهر صفر سنة ثلاث وخسمين بعد الثلاثمائة والألف على أن يحيلا إلى التحكيم أي

نزاع أو اختلاف ينشأ عن العلاقات بينهما وبين حكومتيهما وبلاديهما متى عجزت

سائر المراجعات الودية عن حله؛ فإن الفريقين الساميين المتعاقدين يتعهدان بإجراء

التحكيم على الصورة المبينة في المواد الآتية: -

(المادة الأولى)

يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن يقبل بإحالة القضية المتنازع

فيها على التحكيم خلال شهر واحد من تاريخ استلام طلب إجراء التحكيم من الفريق

الآخر إليه.

(المادة الثانية)

يجري التحكيم من قبل هيئة مؤلفة من عدد متساوٍ من المحكمين ينتخب كل

فريق نصفهم، ومن حَكَم وازع يُنتخَب باتفاق الفريقين الساميين المتعاقدين، وإن لم

يتفقا على ذلك يرشح كل منهما شخصًا، فإن قبل أحد الفريقين بالمرشح الذي يقدمه

الفريق الآخر؛ فيصبح وازعًا، وإن لم يمكن الاتفاق على ذلك تجرى القرعة على

أيهما يكون وازعًا، مع العلم بأن القرعة لا تجري إلا على الأشخاص المقبولين من

الطرفين، فمن وقعت القرعة عليه أصبح رئيسًا لهيئة التحكيم، ووازعًا للفصل في

القضية، وإن لم يحصل الاتفاق على الأشخاص المقبولين من الطرفين تجرى

المراجعات فيما بعد إلى أن يحصل الاتفاق على ذلك.

(المادة الثالثة)

يجب أن يتم اختيار هيئة التحكيم ورئيسها خلال شهر واحد من بعد انقضاء

الشهر المعين لإجابة الفريق المطلوب منه الموافقة على التحكيم لقبوله لطلب الفريق

الآخر، وتجتمع هيئة المحكمين في المكان الذي يتم الاتفاق عليه في مدة لا تزيد

عن شهر واحد بعد انقضاء الشهرين المعينين في أول المادة، وعلى هيئة المحكمين

أن تعطي حكمها خلال مدة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تزيد عن شهر واحد

من بعد انقضاء المدة التي عينت للاجتماع كما هو مبين أعلاه، ويعطى حكم هيئة

التحكيم بالأكثرية، ويكون الحكم ملزمًا للفريقين، ويصبح تنفيذه واجبًا بمجرد

صدوره وتبليغه، ولكل من الفريقين الساميين المتعاقدين أن يعين الشخص أو

الأشخاص الذين يريدهم للدفاع عن وجهة نظره أمام هيئة التحكيم، وتقديم البيانات

والحجج اللازمة لذلك.

(المادة الرابعة)

أجور محكمي كل فريق عليه، وأجور رئيس هيئة التحكيم مناصفة بينهما،

وكذلك الحكم في نفقات المحاكمة الأخرى.

(المادة الخامسة)

يعتبر هذا العهد جزءًا متممًا لمعاهدة الطائف الموقع عليها في هذا اليوم

السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد الثلاثمائة والألف، ويظل ساري

المفعول مدة سريان المعاهدة المذكورة، وقد حُرِّر هذا من نسختين باللغة العربية

يكون بيد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين نسخة.

وقرارًا بذلك جرى توقيعه في اليوم السادس من شهر صفر سنة ثلاث

وخمسين بعد الثلاثمائة والألف.

...

...

(التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود

...

...

(التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

...

...

...

... حُرر في 6 صفر 1353

من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة الأخ صاحب السيادة السيد عبد الله الوزير

المندوب المفوض من قبل جلالة الإمام يحيى حفظه الله.

السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فإنه بمناسبة توقيع معاهدة الطائف بيننا

وبينكم نيابة عن جلالتي ملكي المملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية أحب أن

أثبت لكم في كتابي هذا أنه لا يمكن اعتبار تلك المعاهدة، وقبول إنفاذ مقتضاها إلا

في إثبات ما يأتي:

1-

أن يجري تسليم الأدارسة، وإخلاء جبالنا في تهامة، وإطلاق رهائن أهلها

حالاً.

2-

أن يظل مضمون هذه المعاهدة مكتومًا، ولا ينشره أحد الفريقين، ولا

سيما ما يتعلق منها بمسألة الحدود لما يحدث ذلك من التشويش في تهامة خاصة،

وإن انسحاب جند جلالة الملك عبد العزيز يكون بكامل الصيانة والشرف من

ابتداء انسحابه إلى آخره وكل حادث عدواني عليه في خلال تلك المدة يكون مضمونًا

من قِبَل جلالة الإمام يحيى، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

...

...

... (التوقيع)

...

...

... خالد بن عبد العزيز السعود

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

...

...

...

... حُرر في 6 صفر 1353

من عبد الله الوزير إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من

قبل جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تلقيت كتاب سموكم تاريخ 6

صفر 1353، وقد أحطت علمًا بما اشترطتموه سموكم لإنفاذ معاهدة الطائف التي

عقدت بين الفريقين من تسليم الأدارسة، وإخلاء الجبال التي كانت محتلة من قبل

جنود جلالة الإمام يحيى من بلاد جلالة الملك عبد العزيز، وإطلاق رهائن أهلها،

وأن تظل هذه المعاهدة مكتوبة، وعلى الأخص مسألة الحدود إلى أن يتم ترتيب

الاتفاق الذي اتفقنا عليه لإنفاذه، وإن انسحاب جند جلالة الملك عبد العزيز يكون

بكامل الصيانة والشرف من ابتداء انسحابه إلى آخره وإن كل حادث عدواني عليه

في خلال تلك المدة يكون مضمونًا من قبل جلالة الإمام يحيى، لقد أحطت علمًا

بذلك، ويسرني أن أعلن سموكم بقبولنا وموافقتنا لاشتراطكم، وأنه سيكون مرعيًّا

من جهتنا، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

...

...

...

(التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

...

...

...

تحريرًا في 6 صفر 1353

من عبد الله الوزير إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من

قبل جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فأتشرف بأن أثبت هنا إلحاقًا بمعاهدة

الطائف الموقع عليها من قبل سموكم نيابة عن جلالة الملك عبد العزيز، والموقعة

من قبلي نيابة عن جلالة الملك الإمام يحيى، وأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بما هو

آتٍ:

1-

تسليم الأدارسة لجلالة الملك عبد العزيز، وقد عملت الترتيبات اللازمة

لتسليم السيد الحسن والسيد عبد العزيز بن محمد الإدريسي، وسيسلمون حالاً لرجال

سمو الأمير فيصل في تهامة، أما السيد عبد الوهاب الإدريسي فنظرًا لأنه لا يزال

إلى الآن في بلاد العبادل فقد اُتخذت الوسائل والوسائط لاستدعائه من تلك الأنحاء

لتسلميه، فإن لم يطع الأمر فأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بشأنه بما يأتي:

أ - أن تمتنع حكومة الإمام يحيى عن كل مساعدة مادية أو معنوية له، وأن

تمنع عنه من بلادها أي معاضدة أو معاونة.

ب - إذا أرادت حكومة جلالة الملك عبد العزيز القبض عليه في الأراضي

التي هو فيها؛ فإن حكومة الإمام يحيى ستعمل من جهتها سائر أنواع التضييقات

العسكرية التي تستطيعها لمنع فراره إلى أراضيها، وتتعهد أن تلقي القبض عليه،

وعلى كل شخص اشترك معه في حركته من أي جهة وقبيل من قبائل المملكة العربية

السعودية، وأن تسلمهم لحكومة جلالة الملك عبد العزيز بغير شرط ولا قيد إذا دخلوا

إلى جهات المملكة اليمانية، وأن تمنع فراره أو فرار أي شخص من الذين اشتركوا

معه في عمله إلى الخارج إذا دخلوا إلى أراضي المملكة اليمانية.

2-

أما من كان له تعلق بالأدارسة وحركتهم من الأشراف أو غيرهم، فإذا

أرادوا اللحاق بالإدريسي فلهم الأمان من قبل حكومة جلالة الملك عبد العزيز

والصيانة والاحترام والإكرام اللائق بحقهم، وإذا لم يشاؤوا ذلك فإنهم يخرجون من

بلاد جلالة الإمام يحيى، ولا يسمح لهم بالبقاء فيها، وإذا عادوا إليها مرة أخرى

فَيُطْرَدُون حالاً - ويُنْذَرُون بأنهم إذا عادوا يسلمون إلى حكومة جلالة الملك عبد

العزيز، فإن عادوا بعد طردهم، فأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بتسليمهم إلى حكومة

جلالة الملك عبد العزيز بغير قيد، ولا شرط.

فأرجو أن تعتبروا هذا سموكم عهدًا وثيقًا له منزلة المعاهدة المعقودة بيننا وبين

سموكم بهذا اليوم، وعلى هذا عهد الله وميثاقه، وأرجو أن يكون هذا طبقًا للاتفاق

الشفوي الذي اتفقنا عليه في هذا الشأن، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

...

...

...

... (التوقيع)

...

...

...

عبد الله بن أحمد الوزير

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

...

...

...

... حُرر في 6 صفر 1353

من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة صاحب السيادة الأخ السيد عبد الله الوزير

المندوب المفوض من قبل جلالة الملك الإمام يحيى حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فأتشرف بأن أعلمكم باستلامي كتاب سيادتكم

بتاريخ اليوم بشأن ما تعهدتم به باسم جلالة الإمام يحيى بشأن الأدارسة وأتباعهم،

وأنا على ثقة بأن ما تعهدتم به سيكون تنفيذه بمقتضى الأمانة والوفاء المأمول في

جلالة الإمام يحيى، ونتمنى أن يكون تنفيذ ذلك بأسرع مدة ممكنة.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

...

...

...

... (التوقيع)

...

...

...

خالد بن عبد العزيز السعود

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

...

...

...

... حُرر في 6 صفر 1353

من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة المكرم السيد عبد الله الوزير حفظه الله

تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فبمناسبة توقيع معاهدة الطائف بين

مملكتنا ومملكة اليمن أثبت هنا ما اتفقنا عليه بشأن تنقلات المتنقلين من رعايا

المملكة العربية السعودية، ورعايا المملكة اليمانية في البلدين، أن التنقل في الوقت

الحاضر يظل على ما كان عليه في السابق إلى أن يوضع بين البلدين اتفاق خاص

بشأن الطريقة التي ترى الحكومتان، متفقًا اتخاذها من أجل تنظيم الانتقال سواء للحج

أو التجارة وغيرها من الأغراض والمنافع، فأرجو أن أنال جوابكم بالموافقة على

ما اتفقنا عليه بهذا الشأن.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

...

...

(التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

...

...

...

... حُرر في 6 صفر 1353

من عبد الله الوزير إلى صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من قبل

جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تلقيت كتاب سموكم تاريخ 6

صفر بشأن تنقلات رعايا الفريقين بين البلدين، وإنني على اتفاق مع سموكم في أن

يكون الانتقال في الوقت الحاضر طبقًا للطريقة التي كان السير عليها من قبل إلى

أن يوضع اتفاق خاص بشأن تنظيم الانتقال في المستقبل، وإن ذلك سيكون مرعيًّا

من جانب حكومتنا كما هو مرعي من جانب حكومتكم.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

...

...

...

...

(التوقيع)

...

...

...

... عبد الله بن أحمد الوزير

* * *

فبعد أن اطلعنا على هذه المعاهدة السالفة الذكر، وعلى عهد التحكيم والكتب

التي ألحقت بها، وأمعنا النظر فيها صدقناها وقبلناها وأقررناها جملة في مجموعها

ومفردة في كل مادة وفقرة منها، كما أننا نصدقها ونبرمها، ونتعهد ونعد وعدًا

ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم - بحول الله - بما ورد فيها، ونلاحظه بكمال الأمانة

والإخلاص، وبأننا لن نسمح بمشيئة الله بالإخلال بها بأي وجه كان طالما نحن

قادرون على ذلك، وزيادة في تثبيت صحة كل ما ذكر فيها أمرنا بوضع خاتمنا

على هذه الوثيقة، ووقعناها بيدنا، والله خير الشاهدين

حرر بقصرنا في الطائف في الخامس والعشرين من شهر صفر سنة 1353

(الختم الملوكي)

...

... (التوقيع) عبد العزيز آل السعود

_________

ص: 305

الكاتب: محمد رشيد رضا

تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية

في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي

(تابع لما قبله)

معجزة القرآن

أنقل هنا ما نشرته مجلة المشرق من الطعن في معجزة القرآن بحروفه، ثم

أفنده بالبرهان، وهذا لا يفعله أحد من رجال النصرانية لا الكاثوليك، ولا غيرهم

لعلمهم بأنهم إذا نقلوا كلامنا إلى أتباعهم لا يقدرون على الرد عليه بما يقنع أتباعهم

فضلاً عن غيرهم.

قال في ص 957، 958 من سنة 1933 لمجلة المشرق ما نصه بغلطه

اللفظي والمعنوي.

(من المعلوم أن المسلمين يستشهدون بكتابهم على صدق نبوة محمد فهو

عندهم آية الآيات، والأعجوبة الصريحة، والدليل القائم بذاته على مدى الأيام

داعيًا إلى الهدى من غير شاهد يشهد بصحة نسبته إلى أصله، كأن به توقيع الله

بالذات، ويدعمون قولهم بما ينسبونه إلى مفاعيل القرآن من الحوادث العظمى التي

قلبت فئة عظيمة من البشر ظهرًا لبطن، وبالاختصار فالقرآن عندهم كما يقول

السيد محمد رشيد رضا هو معجز للخلق بلفظه، ونظمه وأسلوبه، وعلومه وهدايته،

وبذلك هو (آية لا كالآيات، ونور لا كالأنوار)(ص 59) .

ولكن ما هي قيمة تلك المعجزة وما هي حقيقة مفاعيلها؟

قال الأب دي لانفرسان محرر مجلة (في أرض الإسلام) الإفرنسية:

(ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن الأدبية، كما وأنه ليس من يشك

في قيمة التوراة اللغوية في الترجمة الإنكليزية أو في الترجمة الألمانية لمؤلفها لوتر

على أن تلك القيمة البشرية محضة، وقد يتاح لكل إنسان مثقف أن يتحققها تحققًا

متفاوتًا مع تفاوت تضلعه من اللغة، ومن آداب البلاد التي وضع فيه الكتاب؛ ولكن

تلك القيمة الأدبية ليست مما يزيد أو ينقص في قيمة المتن الدينية

(إننا لا ننكر على القرآن القيمة الدينية، ونحن على بينة من مفعوله في

إثارة عواطف السجود والصلاة والتسليم لإرادة الله، وهناك جمهور المتصوفين

الصادقين من استقوا من مناهل القرآن على مدى الزمان مناهل المودة الصادقة لله

عز وجل.

(ولكن محور كلامنا لا يدور على تأثير القرآن في النفوس، بل على

السؤال هل القرآن بذاته دليل؟ هل هو بذاته آية الآيات ومعجزة المعجزات كما

يسميه السيد محمد رضا (ص 59) وقبله الكثيرون من كبار أئمة المسلمين؟ هل

القرآن هو كلام الوحي، لا بمعنى الوحي الشعري أو الفني المعروف عند أهل الفن

والأدب بالوحي النفسي (كما ذكره المؤلف ص 29) ولكن بالمعنى الكامل المألوف

عند رجال الدين أعني به كلام الله الحي؟

(بعيد عنا القول أن كتابًا موحى به من الله وحيًا بينًا لا يمكن أن ينم عن

أصله الإلهي من غير أدلة خارجه عنه، وإنه من المستحيل أن يشهد الكتاب بذاته

لصاحبه فتثبت فيه علامة الله وتوقيعه؛ ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في أن

تتحقق تلك العلامة من غير ما أن نخشى الضلال، ولا نخاف أن نكون غلطنا في

تحقيقنا، وما المشكل إلا مشكل الدليل الباطني، وهو شهير عند أهل التفسير؛ فإن

قيمة الدليل الباطني على صحة الوحي لم تقع قط في الجدال؛ ولكن الجدال إنما هو

في تطبيق العلامة والدليل الباطني تطبيقًا لا يترك مجالاً للريب؛ ولذلك فقد أجمع

المفسرون على القول: إن الدليل الخارجي هو أشد تأثيرًا من الباطني؛ لأنه أبعد منه

عن خطر الغلط، وآمن على سلامة التأكيد)

(ففي الأمر الواقع ليس للدليل الباطني قيمة إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي

كون مؤلف من المؤلفات يمكن أن يكون قد خرج من عقل بشرى) اهـ بحروفه.

(المنار) : في هذه العبارة شبهات نشير إلى دحضها بالإجمال.

***

الشهبة الأولى

في الموازنة بين القرآن والتوراة والإنجيل في البلاغة

نقل عن أحد آبائهم أنه (ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن اللغوية) ؛

ولكنه زعم أنه يشاركه في ذلك ترجمتا التوراة الإنكليزية والألمانية. والجواب عنها

من وجهين:

(أحدهما) أن القرآن معجز للبشر بعبارته اللغوية، عجز عن الإتيان بسورة

من مثله فحول بلغاء العرب الذين اشتهروا بالفصاحة والبلاغة، ولم يكن محمد

صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يعد من طبقتهم فيها، وقد تحداهم الله بأن يأتوا

بسورة مثله مصرحًا بأنهم لن يفعلوا، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه، فلو قدروا

لفعلوا، واستمر هذا الإعجاز إلى يومنا هذا، ولم يقل أحد من الإنكليز، ولا من

الألمان: إن ترجمة التوراة معجزة للبشر لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها فظهر الفرق

كفلق الصبح أو أشد نورًا.

(الوجه الثاني) لماذا لا يوازنون بين القرآن الذي جاء به محمد صلى الله

عليه وسلم، والتوارة التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله، وهي أصل

دينهم فأين هي؟ وأين الإنجيل الذي جاء به عيسى المسيح عليه السلام، ويذكرون

في كتب العهد الجديد أنه أمر تلاميذه أن يكرزوا به في الخليقة كلها؟ ولماذا لا

يوازنون بين قيمته الأدبية وقيمة القرآن؟ حسب القرآن أنه هو الذي جاء به محمد

رسول الله وخاتم النبيين، فيعرف به أصل دينه معرفة قطعية؛ ولكن ما جاء به

أخواه موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام غير موجود بنصه الحرفي، وهذه

الترجمات الموجودة لا يمكن إثبات أخذها عن أصلها لفقده من العالم، وهي مختلفة

متعارضة متناقضة، فكيف يؤثق بأنها مطابقة لأصلها لو كان موجودًا؟

* * *

الشبهة الثانية

في دلالة هداية القرآن الدينية على كونه من الله

اعترف أيضًا بأنهم لا ينكرون هداية القرآن الدينية من التسليم لإرادة الله

تعالى والعبادة الصادقة له؛ ولكنهم ينكرون أن يكون تأثيره هذا دليلاً على أنه من

عند الله تعالى، وآية على صحة محمد صلى الله عليه وسلم، والجواب عنها من

ثلاثة أوجه: وجهين عقليين، والثالث نقلي مسيحي

(الأول) إننا لم نحصر البرهان على كون القرآن وحيًا من الله تعالى في

تأثير هدايته للبشر، ولا في إعجاز لغته بل أوردنا في كتاب الوحي المحمدي، ثم

في غيره من تفسيرنا براهين أخرى عقلية وعلمية على ذلك حسبه منها اتفاق علماء

الإفرنج في هذا العصر على أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بكتاب في الذروة

العليا من البلاغة والفصاحة اللغوية بعد دخوله في سن الأربعين إذا لم يكن قد مارس

هذا النوع من الكلام، أو تمرن في سن الصبا والشباب، وأنه ليس في استطاعة

أحد من البشر أن يأتي بكتاب ممتاز في العلوم الدينية أو الأدبية أو التشريع المدني

والسياسي بعد بلوغ سن الأربعين إذا كان لم يمارس هذه العلوم بالتلقي والبحث

والعمل قبل ذلك، وقد ثبت بالتواتر أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نشأ أميًّا بين قوم

أميين لم يزاول شيئًا من هذا ولا مما قبله، وقد احتج عليهم بهذا كما أمره الله بقوله:

{قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا

تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) وإذا كان هذا الكتاب الذي يعترف اليوم أعدى أعدائه،

وأشد خصومه جدلاً ومراءً بقيمته اللغوية والأدبية والدينية وتأثيره الحسن في العالم

محالاً أن يكون من تأليف محمد بهذا البرهان العلمي، فهل يمكن أن يكون إلا بوحي

من الله تعالى له؟ وهل يوجد في كتب الوحي التي يؤمنون بها ما يساويه في هذه

الحجة؟

(الوجه الثاني) إن ما كان للقرآن من التأثير في هداية الملايين من البشر

إلى معرفة الله تعالى، وعبادته الصادقة، وترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام

والأوثان والأشجار والكواكب والحيوان والإنسان (وابن الإنسان) من أكبر البراهين

على أنه من وحي الله وكلامه، وهل بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه إلا لأجل هذا؟

وهل وجد كتاب من كتبه كان له أكبر من هذا التأثير أو مثله في هذه الهدية؟ قد

بسطنا الجواب السلبي عن هذا الاستفهام في كتاب الوحي المحمدي.

إذا كان الماديون المعطلون أو المنكرون للوحي والنبوة من أساسها ينكرون

هذه الدلالة على الوحي؛ لأنها فرع الإيمان بالأصل وهو وجود الله تعالى ورسالة

الرسل، فكيف ينكرها من يدعون الإيمان بهما؟ هذا ما تعجب منه موسيو مونتيه

أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف إذ قال: إنه لا يعقل أن يوجد أحد يؤمن بنبوة

أنبياء بني إسرائيل ولا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وبيانه كما بسطناه في كتاب خلاصة السيرة المحمدية وكتاب الوحي أنه إذا

جاءنا رجل بكتاب في الطب والعلاج، ورأينا جميع المرضى الذين عملوا به برئوا

من أمراضهم، ألا يكون هذا أقوى دليل على صدقه وصحة ما فيه من العلم؟ بلى

وإن هذا الكتاب لا يحتاج إلى من يشهد له بأنه كتاب طب مفيد؛ لأن الشهادة الفعلية

القطعية أصدق من الشهادات القولية وحدها، ويمكن أن يعرفها كل أحد؛ ولهذا كان

السبب الأكبر لإسلام أكثر الأعاجم في الصدر الأول ما شاهدوه بأعينهم وعرفوه

باختبارهم من سوء حالة العرب المشركين الجاهلين قبله، وانقلابهم بهدايته وسنة

النبي الأمي الذي جاء به أئمة يهدون بالحق، وبه يعدلون؛ فتحول كثير من اليهود

والروم وأكثر النصارى من السوريين والكلدان والآشوريين والأرمن والقبط

والبربر عن نصرانتيهم إلى الإسلام، وكذا المجوس والهنود الذين كانوا قرناء الروم

في حضارتهم وفلسفتهم.

أما العرب فكان سبب إيمانهم إعجازه اللغوي والعلمي وتأثيره وسلطان

آياته على العقول والقلوب، والاقتناع بأنها حق وخير لهم، مع حالة من جاءهم

به؛ إذ كان إلى سن الأربعين غير معروف ببلاغة ولا علم، وغير ممتاز على أهل

وطنه وبيئته إلا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق.

إن معترض مجلة المشرق يسمي هذا وذاك من الأدلة الباطنية التي ليس لها

إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي كون هذا الكتاب قد خرج من عقل بشري، وقد

غفل عن كون المؤمن بالله وبوحيه يضطر أن يؤمن بما كان كذلك أنه من الله تعالى؛

إذ لا موجود يقدر عليه غيره فقامت عليه الحجة.

(للرد بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 311

الكاتب: محمد رشيد رضا

العبرة بسيرة الملك فيصل

رحمه الله تعالى

(8)

يوم الجمعة 25 شعبان 14 مايو سنة 1920

قابلت ضحوة هذا اليوم الملك فيصلاً بداره، فأخبرني أن والده وافق على ما

اقترحناه من تنفيذ مشروع (الوحدة العربية) والاتفاق مع ابن سعود مع المحافظة

على شرفه وفوضه بذلك (قال) فيمكننا الآن إرسال وفد علني إلى ابن سعود، وقد

عقد والدي اتفاقًا مع إمام اليمن.

ثم قال: إنه جاءه من مصر أن الإدريسي (أي السيد محمدًا الكبير) أرسل

إليّ كتابًا مع رجل اسمه السيد محمد السقاف، وسيصل إلى هنا حاملاً له في هذين

اليومين (قال) وإنه يمكن عقد اجتماع في هذا العام في طابة.

وأخبرته بمسألة استقدام ضيفنا وصاحبه (ضيفنا لقب أطلقناه بمصر على

صاحب حجازي لنا يشتغل بالسياسة، وكنت استأذنت الملك بطلبه إلى الشام فأذن) .

ثم تكلمنا في مسألة العشائر، وهي تكاد تتم إن شاء الله تعالى اهـ.

هذا ما كتبته في مذكرتي في ذلك اليوم بعد فراق الملك فيصل، وأعني بكلمتي

الأخيرة أنني لم أترك مسألة السعي لتنظيم عشائر سورية وقبائلها بعد سقوط وزارة

الركابي باشا؛ لأنني رأيت الملك فيصلاً لا يزال يُظْهِر لي عنايته بها، ووعد يومئذ

بتنفيذها.

وأقول الآن: إن كل ما ذكرت هنا من الأخبار لم يصح منه شيء، وأما الآراء

فكان الملك فيصل ثابتًا على وجوب سعينا إلى (الوحدة العربية) والتوسل بما يعتقد

من اتصال المودة بيني وبين ابن السعود على إدخاله فيها، وأنها لا تتم بدونه،

وكان موافقًا لي على أن والده هو العقبة الأولى في هذه السبيل، فإذا ذُلِّلَت واقتحمت

كان عقبة ابن سعود أهون منها.

***

مكاتبة أمراء العرب في مؤتمر الوحدة العربية

يوم الأحد 5 رمضان 23 مايو

أرسلت قبل نصف الليلة البارحة إلى الملك فيصل الكتاب الذي طلبه مني

لإرساله إلى ابن سعود، وقابلته ضحوة اليوم بداره الخاصة، وتكلمنا في المسألة

العربية، وإمكان جمع مؤتمر من زعماء العرب في المدينة المنورة أو أي مكان

يختارونه، وقال: إن والده يوافق على ذلك.

وتكلمنا في مسألة سورية أيضًا، ومسألة سفره إلى أوربة، وعدم ارتياح

الناس إلى هذا السفر وسببه، ومما قلته له (وهو فصل الخطاب) : إن المسألة يمكن

اختصارها بكلمة واحدة، وهي هل يكون حكم البلاد لنا ونحن نستخدم من الأوربيين

من نرى المصلحة في استخدامه؟ أم يكون لهم ويستخدمون منا آلات لإدارته؟ اهـ.

وأقول الآن: قد بينت فيما تقدم أن الرجل لم يتغير رأيه بعد إعلان الاستقلال

عما كان قبله من وجوب اتفاقه مع فرنسة على طريقة الحكم في سورية، وأن

الوسيلة لذلك أن تفوض إليه البلاد عقد هذا الاتفاق، وقد كان يطلب هذا التفويض

من الزعماء، وكان من أركانهم الأستاذ الشيخ محمد كامل قصَّاب رئيس الجمعية

الوطنية، وهو معارض شديد، وكان الدكتور شهبندر من أقوى أنصاره، ثم اطمأن

الملك لموافقته له بعد أن صار وزيرًا، وقد صار في البلاد مؤتمر عام له شأن،

وكان يذاكرني في هذه المسألة منذ اجتمعنا في بيروت عند عودته من أوربة كما تقدم

بعدِّه إياي من أصحاب الرأي (الناضج كما كان يقول) ومن أصحاب المكانة في

حزب الاستقلال العربي، وقد صار لي صفة أخرى وهي رياسة المؤتمر الرسمي،

ولم يتغير رأيي في المسألة، كما أنه لم يتغير رأيه، والواقع الآن في سورية يؤكد

رأيي، وسأعود إلى هذه المسألة.

يوم الجمعة 10 رمضان 28 مايو

قابلت الملك فيصلاً بداره صباح اليوم، وكنت أرسلت إليه البارحة صورة

كتابي الأول إلى ابن سعود ليرسله مع الثاني الذي أعطيته إياه في 5 رمضان (كذا

في الأصل الذي في المذكرة) فأخبرني أنه أمر إحسان بك أن يكلفني صورة كتاب

له (أي لابن سعود من قِبَلِه هو) وكتاب آخر يُرسل إلى سائر أمراء العرب في

الكويت والمحمرة وغيرهما، وأنه كان يكتب كلمات مختصرة في ذلك وتعب فلم

يتمها، والمراد منها بيان فكرته الأساسية التي أبني عليها.

ثم لقيت إحسان بك وأخذت منه الورقة (التي كتبها الملك) ، وكتبت

الصورتين ليلاً، وأعطيته إياهما، وحفظت ورقة الملك عندي وهي في لفظها

ومعناها....

يوم الأحد 12 رمضان 30 مايو

أفطرت اليوم والوزراء وأعضاء المؤتمر مع الملك فيصل، فأُجلست في

المائدة عن يمينه، والشريف جميل عن يساره، ورئيس الوزراء أمامه، وسائر

الوزراء عن اليمين واليسار في صدر المكان، وجُعل لأعضاء المؤتمر مائدتان

طويلتان على الجانبين، وقد أسرّ إليّ الملك في أثناء الطعام بأن الوفد سافر بالكتب،

وهو مؤلف من العصيمي وآخرين أحدهما سلميان الدخيل. اهـ.

ثم كتبت بعد ما تقدم في يوم آخر قريب (ثم تبين لي أن هذا غير صحيح) .

***

قضية وطنية لها علاقة بترجمة الملك

يوم الأحد 26 رمضان 13 يونيو

ظهر الخلاف في النصف الثاني من هذا الشهر بين أعضاء حزب الاستقلال

وجمعيته، وقد اجتمع في دار الدكتور أحمد قدري زهاء أربعين عضوًا من أعضاء

الجمعية، ودارت المذاكرة تحت رياستي في إصلاحها، فاتفق الجميع على وجوب

إلغاء امتياز الأعضاء المؤسسين، وعلى طلب جميع من في العاصمة منهم ومن

غيرهم لتقرير هذا في انتخاب مجلس إدارة (أو تأسيس) من الهيئة العامة عدده

ثلاثون أو أكثر، وهو يُنتخب من أفراد لجنة مركزية أو تنفيذية من سبعة أعضاء،

وسيكون هذا الاجتماع في الليلة القابلة.

***

الخلاف في حزب الاستقلال العربي وجمعيته

يوم الإثنين 27 رمضان 14 يونيو

اجتمع البارحة الإخوان في دار الدكتور قدري اجتماعهم الثاني تحت رياستي،

وبعد طول المذاكرة استقر الرأي على كتابة بلاغ يمضيه جميع من حضر وغيرهم

ممن على رأيهم، يقدم إلى اللجنة المركزية، يطالبونها فيه بدعوة جميع الأعضاء

في 7 شوال للمذاكرة في الإصلاح المطلوب الذي اقترح من قبل، وينذرونها أنها

إذا لم تفعل فإن الموقعين يفعلون ذلك بحق الأكثرية، وقد فعلوا، وكُتبت نسختان

من القرار؛ ليقدم أحدهما، ويحفظ الآخر.

يوم الثلاثاء 28 رمضان 15 يونية

قرر أعضاء المؤتمر اليوم بأن تعطل الجلسات من نهار غد لأجل عيد الفطر

إلى نهاية الأسبوع الذي بعده، وتعود يوم السبت 26 حزيران (يونيو) ، وبعد

الجلسة العامة جمعت ديوان الرياسة للنظر في أعماله المتأخرة لعدم اجتماعه من مدة

طويلة كنت أدعو الأعضاء فلا تحصل الأكثرية.

وعند العصر تقريبًا قابلت الملك بداره بمناسبة عزمه على السفر قبل المغرب

إلى حلب، فتكلمنا في مسألة سفره، فأخبرني بأنه يريد إرسال قوة عسكرية إلى

حدود سورية الشمالية بمناسبة الهدنة بين الترك والفرنسيس في كليكية وبأن في هذا

شيئًا من الخلاف بينه وبين الوزراء.

(الوفد الوطني لأوربة والملك فيصل)

ثم تكلمنا في مسألة الوفد (الذي يسافر إلى أوربة) فقال بمناسبة وجوب

إرسال وفد وطني غير وفد الحكومة (وهو ما اقترحه بعض الإخوان والزعماء) :

إن هذا مما يجب على الأحزاب والجمعيات؛ ولكن كل شيء يُطلب منه، ولا سيما

المال وهو لا يستطيع ذلك، وقد ضيق عليه في ميزانية البلاط! ! (قال) كل

شيء يُطلب من فيصل، في الأمة رجال كثير غير فيصل، ليست عبارة عن رجل

واحد.

قلت: نعم لها رجال كثيرون؛ ولكن ليس لها إلا رأس واحد.

قال: صحيح، أنا أساعد من يذهب من قبل الوطن؛ ولكن ليس عليَّ النفقة

كلها. ولم أكن أسمع منه مثل هذه الشكوى، بل كان يُظْهِر لي أنه يأخذ على عاتقه

مساعدة العمل للوحدة العربية، وللجامعة الإسلامية أيضًا! !

وأحمد الله أنني أبعد الناس عن مساعدته في شيء ما، حتى إنه عرض عليّ

تقديم شيء من فرش الدار، بل قال: إن فرش الدار كله عليه، فاحتلت في دفع ذلك

عني. اهـ.

هذا ما كتبته بعد فراقه ووداعه في ذلك اليوم، وأفسره هنا بأنني كنت أشعر

منه بأنه يريد إكرامي بمساعدة مالية، ويرى مني أمارات الإباء إذ عرّض بذلك،

ولما استقرت قدمي في الشام للعمل في المؤتمر، قال لي مرارًا: إنه لا يليق بمقامك

البقاء في الفندق، فيجب أن تأخذ دارًا تقيم فيها، عليك الدار، وعلينا فرشها

فاستأجرت دارًا واسعة، واستحضرت فرشها التام من طرابلس، فلم يدر بذلك إلا

والدار مفروشة.

يوم الخميس 30 رمضان 17 يونيو

كلمني الدكتور عبد الرحمن شهبندر في وزارة الخارجية بشأن الوفد الذي

يذهب إلى أوربة، وقال: إنه يجب أن نتفق على تحديد المطالب التي يلتزمها، وبعد

بحث وجيز اتفقنا على الاجتماع ليلة السبت في دار جميل بك مردم مستشار

الخارجية، ويطلب الشيخ كامل قصاب للحضور معنا.

وأكد لي الوزير ما كنت سمعته عن الأمير زيد من عدم قبوله رياسة هذا الوفد،

قلت للوزير: لماذا؟ قال: لأنه لا يريد حمل هذه المسؤولية، ووزير الخارجية يريد

أخذ تفويض من زعماء ورؤوساء الأحزاب، ولا يتكلم باسم الحكومة فقط. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 316

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من صاحب الإمضاء في بيروت

(س14 - 21) من صاحب الإمضاء في بيروت

(بسم الله الرحمن الرحيم)

حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الكبير السيد

محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى وأدامه، آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة

الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع بها

عامًّا ولكم الشكر:

(1)

هل المطالبون بإنكار المنكر هم العلماء فقط دون غيرهم، أم جميع

الناس؟

(2)

ما تعريف الكفر والإلحاد، وما حكمهما في الشرع الشريف؟

(3)

هل يجوز ترجمة القرآن الكريم نفسه والأحاديث النبوية نفسها إلى

اللغات الأجنبية كالإفرنسية والإنكليزية واللاتينية والتركية أو غيرها أم لا؟

(4)

هل يجوز كتابة القرآن الكريم على قواعد الإملاء الحديث أم لا؟

(5)

ما قولكم فيمن يقول: لا أعتقد ولا أعمل إلا بالقرآن الكريم فقط، ولا

أعتقد ولا أعمل بالأحاديث النبوية ولو كانت صحيحة معتمدة أو غيرها، فهل هذا

يعد مسلمًا مؤمنًا أم لا؟

(6)

ما قولكم فيمن يعتقد ويقول: إن القرآن الكريم هو كلام النبي صلى

الله عليه وسلم، وليس من كلام الله تعالى فهل هذا يعد مسلمًا ومؤمنًا أم لا؟

(7)

هل صح ما يقول بعضهم: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

إلا اثنا عشر أو أربعة عشر حديثًا فقط أم لا؟

(8)

هل جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مروية عنه باللفظ

والمعنى تمامًا أم بالمعنى فقط؟

(9)

هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز

اعتقادهما والعمل بهما أم لا؟ وما معناهما؟ وهما (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ

مقعده من النار) ، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وفي رواية أخرى (لا

طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) تفضلوا بالجواب، ولكم الأجر

والثواب.

...

... السائل: عبد الحفيظ إبراهيم اللادقي، بيروت

(أجوبة المنار)

(14)

المُطَالَب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور العارضة المعينة من فروض

الكفاية، وقد يتعين وينحصر في فرد إن لم يوجد غيره حيث يجب ويشترط فيه

العلم بما يأمر به أو ينهى عنه، بل كل عمل شرعي يشترط فيه العلم به لا العلم

بجملة علوم اللغة والشرع التي يعطى متعلمها شهادة رسمية بأنه عالم، فالفرائض

العينية والمعاصي القطعية المعلومة من الدين بالضرورة من شأنها أن يعرفها كل

مسلم، وهي أهم ما يجب الأمر بالمفروض منه كأركان الإسلام الخمسة والنهي عن

المنكر منه كالزنا والسُّكر والسرقة والخيانة والكذب والنميمة، وأما المسائل غير

المعلومة للعوام والخواص من المسلمين؛ فإنما يُطَالِب بها العالم بحكمها، وإذا قام

بها جمهور العوام والخواص من المسلمين، كان ذلك أعظم مؤدب لتاركي الفرائض

ومرتكبي المعاصي، وقد بيَّنا في تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) أن في

جملة قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} (آل عمران: 104) وجهين (أحدهما)

أنه يجب أن تتألف منكم جماعة تتعاون على القيام بهذه الواجبات، وهذه الجماعة

يجب عليها أن تدرس ما يتوقف عليه الأمر والنهي بجميع فروعه (وثانيهما) أن

معناها ولتكونوا أمة تدعو إلى الخير

إلخ وكل من الوجهين صحيح، والثاني

عام للأفراد كل أحد فيما يعرفه ويقدر عليه (ويراجع التفصيل في الجزء الرابع،

من تفسير المنار) .

(15)

تعريف الكفر والإلحاد

الظاهر أن مراد السائل بالكفر والإلحاد ما يقابل الإيمان والإسلام، وإلا فإنهما

قد يطلقان على بعض ما لا يُخْرِج صاحبه من الملة، فالمعنى العام الجامع لكل ما

ينافي ملة الإسلام هو تكذيب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، أو

تكذيب شيء مما علم المكذب أنه جاء من أمر الدين، وهو قسمان: الأول المجمع

عليه المعلوم من الدين بالضرورة ككون القرآن كلام الله تعالى، وتوحيد الله وتنزيهه

عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة كالدعاء والذبح والنذر له

إلخ، وكون محمد رسول الله وخاتم النبيين، وما أشرنا إليه في جواب السؤال

السابق من الفرائض والمحرمات القطعية، فهذا لا يعذر أحد بجهله إلا من كان

حديث العهد بالإسلام لم يمض عليه زمن كافٍ لتعلم هذه الضروريات منه، ومن

كان في حكمه كرجل أسلم في مكان أو بلد ليس فيه من المسلمين من يعلمه ذلك كله

وطال عليه الزمن وهو لا يعلم أن عليه واجبات أخرى ولا أنه يجب عليه الهجرة

مثلاً.

والقسم الثاني ما كان غير مجمع عليه، أو مجمعًا عليه غير معلوم من الدين

بالضرورة كبعض محرمات النكاح وأحكام المواريث مثلاً مما لا يعرفه إلا العلماء

فهذا يعذر من جهله، فإن علم شيئًا منه أنه من دين الله قطعًا صار حكمه حكم القسم

الأول بالنسبة إليه.

وحكم الكافر بهذا المعنى الذي فصلناه أنه لا يعامل معاملة المسلمين فيما هو

خاص بهم، وهو قسمان:

(1)

كافر أصلي من كتابي ووثني، وكل منهما إما ذمي وإما معاهد وإما

حربي ولكل منهما أحكام.

(2)

كافر مرتد وله أحكام أشد إذا استتيب ولم يتب، منها أن امرأته إذا

كان متزوجًا تَبِين منه ويحرم عليها أن تعامله معاملة الأزواج بمجرد ارتداده بأن

تفارقه وتخرج من داره، ومنها أنه لا يرث المسلمين ولا يرثونه، ومنها أنه إذا

مات أو قُتِل لا يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين، وقد حدثت

في العام الماضي ثورة إسلامية في القطر التونسي لمنع المتجنسين بالجنسية

الفرنسية من دفن موتاهم بين المسلمين في مقابرهم؛ لأنهم مرتدون عن الإسلام

بما تقتضيه الجنسية الفرنسية من التزاوج والتوارث بأحكام القانون الفرنسي المخالف

لنصوص القرآن والسنة مما هو مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فأرادت

الحكومة الفرنسية الحامية إجبار المسلمين على دفنهم في مقابرهم، وظاهرها بعض

المنافقين على هذا فخاب سعيها، وعجزت قوتها عن ذلك، وانتهى الأمر بإنشاء

مقبرة خاصة بهؤلاء المرتدين المصرين على كفرهم، بل لم ينته من كل وجه،

ففرنسة تريد إكراه المسلمين على مرادها، وقد حدث في هذا الشهر ثورة في تونس

من عاقبيل إرهاق فرنسة لزعماء المسلمين وخواصهم.

(16)

ترجمة القرآن والأحاديث النبوية باللغات الأجنبية:

قد كتبت في الجزء التاسع من تفسير المنار (ص 331 - 363) بحثًا

طويلاً في استحالة ترجمة القرآن ترجمة صحيحه تؤدي معانيه أداءً تامًّا كما تفهم من

لغته العربية وعقائده الإسلامية، وفي تحريم ترجمته ترجمة تعطي حكم الأصل

العربي المنزل من وجوب اعتقاد أنه كلام الله تعالى، وأنه يُتَعَبَّد بتلاوته في الصلاة

وغيرها كما فعلت الحكومة التركية الكمالية، وقد طبعنا هذا البحث في رسالة

مستقلة، ثم كتبنا مقالاً آخر في الرد على من زعم جواز ذلك من المتهوكين انتصارًا

للحكومة التركية.

وأما ترجمة القرآن ترجمة معنوية تفسيرية على غير الصفة المذكورة آنفًا فله

من المجوزات ما قد يصل إلى حكم الوجوب الكفائي، وأظهرها تصحيح الترجمات

الكثيرة له في اللغات المشهورة المُحَرِّفَة لمعانيه، المشوهة لمحاسنه، التي جُعِلَتْ

وسائل للطعن عليه وبغيه عوجًا، وهو الدين القويم والصراط المستقيم، ومن هذه

الترجمات ما تعمد فاعلوها بعض هذا التحريف والتشويه، ومنها ما وقع بجهلهم

وعجزهم، وقد بينت في مقدمة كتاب الوحي المحمدي أن أشهر مترجميه من

الفرنسيس والإنكليز المعاصرين اعترفوا بأنه معجز ببلاغته، وأن إعجازه يدخل

فيه استحالة ترجمته كأصله.

وأما الأحاديث فلا أعلم أن أحدًا قال بتحريم ترجمتها، وجميع مسلمي الأعاجم

يترجمونها.

(17)

كتابة القرآن بالرسم العرفي:

المعروف المشهور أن علماء الملة متفقون على وجوب كتابة المصاحف

بالرسم الذي كتبها به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليها، وقد مست

الضرورة لطبع مصحف مفسر بالرسم العرفي ليقرأه الجماهير قراءة صحيحة غير

محرفة ويفهموه؛ إذ عُلِمَ بالتجربة أن أكثر الناس يخطئوا في القراءة في هذه

المصاحف إلا من تلقاها من القراء وقليل ما هم، وسئلنا عن ذلك فأجبنا عنه بما

رأيتموه في الجزء الثاني من منار هذه السنة من الجواز وتعليله.

(18)

حكم من يقول: إنه لا يعتقد ولا يعمل إلا بالقرآن دون الأحاديث:

إن الإيمان بالقرآن، والعمل بما أمر الله تعالى وما نهى عنه فيه يستلزم

الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عنده تعالى، ووجوب طاعته

بمثل قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) وهذا الأمر

مكرر في عدة سور وفي معناه آيات أخرى كقوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ

أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) ومن المعلوم بنصوص القرآن، وبإجماع الأمة أن

الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكلام الله والمنفذ له كما قال تعالى:

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) .

فمن يقول: إنه لا يعتقد أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي بين بها القرآن

وبلغ بها الدين واجبة الاتباع، وإنه يستحل معصيته صلى الله عليه وسلم فيما صح

عنه أنه أمر به أو نهى عنه من أمور الدين، وإن أجمع المسلمون على تلقيه عنه

بالتواتر كعدد ركعات الصلوات وركوعها وسجودها، وغير ذلك مما أشرنا إليه آنفًا

في الفتوى (15) وإنما يعتقد ويعمل بما يدله عليه ظاهر القرآن فقط - من قال هذا

لا يُعتد بإيمانه ولا بإسلامه؛ فإنه مشاق للرسول غير متبع لسبيل المؤمنين، بل

متناقض يريد بهذا القول جحود الإسلام وتركه من أساسه، فالله تعالى يقول:

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا

تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) .

ولكن إن أراد أنه غير مكلف أن يعرف هذه الأحاديث المدونة ويعمل بها كلها،

أو بما صححه المحدثون منها؛ فإن قوله حينئذ يكون موهمًا لا نصًّا في استباحة

عصيان الرسول فيما علم أنه جاء به من أمر الدين، فلا يحكم عليه بالكفر

والخروج من الملة حتى يبحث معه في مراده من كلامه؛ فإن أئمة المسلمين لم يقل

أحد منهم بوجوب العلم بما في كتاب من كتب الحديث، وكان موطأ الإمام مالك

رحمه الله تعالى أولها تدوينًا واستأذنه الخليفة العباسي في نشره في الأمة وأمر

الناس بالعمل به، فلم يأذن له كما بيَّنا ذلك مرارًا.

وجملة القول أن المعتمد في التكفير القطعي ما أجملناه في الفتوى (15)

ومما لا شك فيه أن من يعتقد أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من دين

الله واستحل من هذا عصيانه فيه بدون تأويل يكون كافرًا.

(19)

حكم من يعتقد أن القرآن الكريم كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا

كلام الله:

من يعتقد هذا يكون كافرًا بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله

صلى الله عليه وسلم ولما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة والإجماع، ولا فرق

بين من يطلق القول بهذا، ومن يزعم أن معاني القرآن وحي من الله أنزلت على قلب

النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عبارته وألفاظه فهي من النبي صلى الله عليه

وسلم، فقد أجمع المسلمون على أن القرآن أُنْزِل عليه صلى الله عليه وسلم بهذا

النص العربي المكتوب في المصاحف كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ *

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) فإن قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء:

195) متعلق بقوله (نزل) لا المنذرين؛ فإن المنذرين هم الرسل السابقون، ولم

يكن إنذار كل منهم بلسان عربي مبين، بل كان كل منهم ينذر قومه بلسانهم كما قال

تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4)

والآيات المصرحة بنزول القرآن باللغة العربية معروفة في سور يوسف والرعد

وطه والزمر وفصلت والشورى والزخرف والأحقاف، وأما الآيات والدلائل على

أن القرآن منزل من عند الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له منه إلا تبليغه

بنصه العربي المنزل، وبيان معانيه وتنفيذه، وأنه صلى الله عليه وسلم كان عاجزًا

كغيره من البشر عن الإتيان بمثله، فقد بيناها في تفسير سورة يونس وسورة هود

بأكثر مما فصلناها في كتاب الوحي المحمدي

(20)

من قال: إنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلا 12 أو 14

حديثًا:

هذا القول غير صحيح، بل لم يقل به أحد بهذا اللفظ؛ وإنما قيل هذا أو ما

دونه في الأحاديث التي تواتر لفظها.

(21)

رواية الأحاديث باللفظ وبالمعنى:

بعض الأحاديث مروية بلفظها الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم ولا

سيما القصيرة، وأكثر أقواله صلى الله عليه وسلم مختصرة كما قال: (أعطيت

جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا) ، رواه أبو يعلى من حديث عمر

رضي الله عنه وحسنوه، وناهيك بما اشتهر به العرب من قوة الحفظ، وكذا غيرهم

من الأمم الذين يعتمدون على الحفظ قبل الكتابة، وروي كثير منها بالمعنى لما نرى

في الصحاح وغيرها من اختلاف في ألفاظ الرواية للحديث الواحد الذي لا يحتمل

تعدد موضوعه، وصرح به المحدثون والأصوليون، واشترطوا في قبول المروي

بالمعنى جودة فهم الراوي وحسن ضبطه.

(22)

حديثا (من كذب علي متعمدًا)

إلخ، و (لا طاعة لمخلوق

في معصية الخالق) :

هذان الحديثان صحيحان، بل الأول منهما متواتر بلفظه رواه أصحاب

المسانيد والصحاح والسنن عن عشرات من الصحابة والمهاجرين والأنصار وبما

يزيدون على سبعين صحابيًّا، ورواه غيرهم أيضًا عن آخرين، وفي رواية للإمام

أحمد عن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا (من كذب علي فهو في النار) ولأجل هذا

كان بعض كبار الصحابة يمتنعون من التحديث عنه صلى الله عليه وسلم حتى

بعض المبشرين بالجنة كالزبير رضي الله عنه خشية أن يخطئ أحدهم في الرواية

فيناله الوعيد؛ ولكن هذا لم يمنع بعض الذين عُرِفُوا بالصلاح من تعمد الكذب عليه

صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث كثيرة في الترغيب والترهيب (والثاني) رواه

باللفظ الأول في السؤال أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري

وصححوه، وباللفظ الثاني أحمد والشيخان ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي

رضي الله عنه.

* * *

جناية حديثية وخيانة دينية

للشيخ يوسف النبهاني

بهذه المناسبة أنبه قراء المنار لاتقاء الاعتماد على أحاديث كتاب (الفتح

الكبير، في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير) المطبوع بمصر سنة 1350؛ فإن

الشيخ يوسف النبهاني الدجال المشهور جمع أحاديث الجامع الصغير والزيادات عليه

وحذف منه رموز المؤلف للأحاديث الصحاح والحسان والضعاف؛ ليتوهم المطلع

عليه أن كل ما فيه صحيح أو مقبول يحتج به على أن تلك الرموز لم تكن كافية

للتمييز بينها.

_________

ص: 355

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مباحث الربا والأحكام المالية

(تابع لما في الجزء السادس م 33 ص 449)

ولفظ الحديث عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على

خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر

خيبر هكذا؟) قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين من

الجمع والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، بع

الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) [1] وليس في هذا حيلة؛ وإنما هو نهي

عن شراء التمر بالتمر متفاضلاً، وأمر ببيع كل نوع منه، وابتياعه بالدراهم وهذا

الأمر عام مطلق في جميع البيوع، وهو أن يكون لكل شيء من الأشياء المختلفة

ثمن تقدر به، وتقصد به الثمنية المعينة ليكون ميزانًا لتقدير سائر الأشياء به،

ومعرفة نسب بعضها إلى بعض، فشراء التمر الرديء الكيل بخمسة دراهم،

والجيد من نوع كذا بعشرة دراهم، يجعل لكل من النوعين ثمنًا معينًا تعرف به نسبة

أحدهما إلى الآخر، فليس في هذه الصفة مخالفة للشارع في صفة العقد ولا حكمته

في تحريم الربا، ولا في أكل أموال الناس بالباطل، وقد يكون له صورة تشبه

الحيلة، وهو أن يكون أحد رجلين عنده تمر جيد، وآخر عنده رديء وكل منهما

محتاج إلى ما عند الآخر لولا منع المبادلة لتبادلا بهما؛ فيشتري كل منهما ما عند

الآخر بالثمن.

هذا وإن العلامة المحقق ابن القيم قد أحصى كل ما استدل به القائلون بجواز

الحيل من الآيات والأحاديث والقياس ومسألة العقود والشروط فيها، ومسألة

المخارج من الحرج وما زيد عليها، ورد عليهم ردًّا قويًّا سديدًا شديدًا مفصلاً

تفصيلاً، وأورد من فروع مفاسدها ما هو كفر ورِدَّة عن الإسلام [2] ، وما هو من

كبائر الفسوق والعصيان، فأغناني ذلك عن الإطالة في هذه المسالة بعد أن كنت

عازمًا عليه.

وحسبي أنني بينت تحقيق الأصل الذي يرجع إليه كل شيء في هذا الباب

وهو وجوب المحافظة على حكمة الشارع في تحريم الربا كغيره، وعلى نصوص

الشارع فيه مع التفرقة بين القطعي منها وغير القطعي، كما بينت أن قواعد الفقهاء

وتعريفاتهم وضوابطهم ومدارك الأحكام في مذاهبهم ليست تشريعًا دينيًّا يجب على

الأمة أخذه بالتسليم والعمل به؛ وإنما هو مسائل اجتهادية وضوابط فنية يصدق

عليها كلها كلمة الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا

صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأزيد هذه المسألة

بيانًا أيضًا في فصل آخر.

* * *

حكمة النهي عن ربا الفضل

بقي عليَّ هنا بيان مسألة مهمة، وهي أن قاعدة اليسر ورفع الحرج من أحكام

الإسلام مسألة قطعية ثابتة بنص القرآن وصريح السنة وإجماع الأمة، وأن مسألة

ربا الفضل في بعض فروعها من العسر والحرج والخروج عن المعقول في حكمة

التشريع ما يشق معه المحافظة على نصوصها وحكمتها معًا؛ لأن حكمتها غير

ظاهرة. ولذلك قال بعض كبار العلماء: إنها تعبدية، والتعبد في هذه المعاملات

المالية غير معقول أيضًا؛ إذ لا يظهر فيه معنى من معاني التعبد التي تزيد المؤمن

إيمانًا بالله تعالى ومعرفة بجلاله وكماله ورحمته وعدله وحكمته؛ ولذلك يرى كثير من

المؤمنين المتقين أنفسهم مضطرين إلى التماس المخرج من بعض أحكامه بالحيلة،

ويفرقون بين المخارج الباطلة التي يحتال بها مرضى القلوب وضعفاء الإيمان على

ربا النسيئة القطعي الدال على القسوة واستباحة أكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك

من المعاصي والمخارج الصحيحة المشار إليها بقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل

لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2)

وإنني أعتمد في هذه المسألة على ما حققه العلامة ابن القيم في حكمة تحريم

ربا الفضل؛ إذ لم أر أحدًا وفق لما وفق له من ذلك، وقد كنت نقلت في الصفحة 73

و74 ما قاله هذا المحقق من الفرق بين ربا النسيئة، وربا الفضل في كتابه (أعلام

الموقعين) وحكمة تحريم كل منهما بالإجمال، فأما حكمة تحريم ربا النسيئة وهو ما

فيه من الضرر العظيم فلا شبهة فيه، وأما حكمة تحريم ربا الفضل فقد نقلت عنه

أنه قال: إنها كونه ذريعة لربا النسيئة. ولم أذكر بيانه التفصيلي له، وهذا موضعه

فأنقله عنه بنصه وأعيد خمسة أسطر مما نقلته هنالك في آخر ص74 وهو:

(قال) الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي الذهب

والفضة والبُر والشعير والتمر والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع

اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من

يروى هذا عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته

مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم

تظهر فيه علة امتنع القياس. (وطائفة) حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا

مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة. (وطائفة) خصته بالطعام [3] وإن

لم يكن مكيلاً ولا موزونًا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد - (وطائفة)

خصته بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزونًا، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن

أحمد وقول للشافعي. وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه [4] ، وهو قول مالك وهو

أرجح هذه الأقوال كما ستراه.

وأما الدراهم والدنانير (فقالت طائفة) العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا

مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة (وطائفة) قالت: العلة فيهما

الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى (وهذا هو الصحيح

بل الصواب) فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد

وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا؛

فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا

انتقضت من غير فرق مؤثر دل [5] على بطلانها، وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس فيه

مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية؛ فإن الدراهم والدنانير أثمان

المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون

مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذا كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن

نعتبر به بالمبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات

حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا

بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة

يرتفع وينخفض؛ فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت

من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم

الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به

الأشياء، ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم

والدنانير مثل أن يعطي صحاحًا ويأخذ مكسرة، أو خفافًا ويأخذ ثقالا أكثر منها

لصارت متجرًا، أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها

بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد

أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات.

(فصل) وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من

حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها فمن رعاية مصالح العباد أن

مُنِعُوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعُوا من

بيع بعضها ببعض حالاً متفاضلاً، وإن اختلفت صفاتها، وجوز لهم التفاضل فيها

مع اختلاف أجناسها.

وسر ذلك والله أعلم أنه لو جوَّز بيع بعضها ببعض نسأ لم يفعل ذلك أحد إلا

ربح، وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج

ويشتد ضرره، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ولا سيما أهل

العمود والبوادي؛ وإنما يتناقلون الطعام بالطعام، فكان من رحمة الشارع بهم

وحكمته أن منعهم من ربا النسأ فيهم كما منعهم من ربا النسأ في الأثمان؛ إذ لو جوَّز

لهم النسأ فيها لدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي)[6] فيصير الصاع الواحد لو

أخذ قفزانًا كثيرة ففطموا عن النسأ، ثم فطموا عن بيعها متفاضلاً يدًا بيد؛ إذ تجرهم

حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نسأ وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف

الجنسين المتباينين؛ فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة، ففي إلزامهم

المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه، وفي تجويز النسأ بينها ذريعة إلى (إما

أن تقضي وإما أن تربي) فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدًا

بيد كيف شاؤوا؛ فحصلت لهم مصلحة المبادلة واندفعت عنهم مفسدة (إما أن تقضي

وإما أن تربي) وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نسأ؛

فإن الحاجة داعية إلى ذلك فلو مُنِعُوا منه لأضر بهم، ولامتنع السلم الذي هو من

مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم والشريعة لا تأتي بهذا، وليس بهم

حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نسأ، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا،

فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة،

ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبًا إلى مفسدة راجحة.

(يوضح ذلك) أن من عنده صنف من هذه الأصناف، وهو محتاج إلى

الصنف الآخر؛ فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر كما قال النبي

صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبًا) أو تبيعه بذلك

الصنف نفسه بما يساوي، وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالاً بخلاف ما إذا

أمكن من النسأ؛ فإنه حينئذ يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل؛

لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره؛ فينشأ من النسأ

تضرر بكل واحد منهما، والنسأ ههنا في صنفين، وفي النوع الأول في صنف

واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد، وإذا تأملت ما حرم فيه النسأ رأيته إما صنفًا

واحدًا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير والبُر والشعير

والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النسأ كالبُر والثياب والحديد والزيت.

(يوضح ذلك) أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة

فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته، فمُنِعُوا من ذلك حتى مُنِعُوا

من التفرق قبل القبض؛ إتمامًا لهذه الحكمة ورعاية لهذه المصلحة؛ فإن المتعاقدين

قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر، وكما يفعل

أرباب الحيل يطلقون العقد، وقد تواطؤوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح

وقد اتفقوا على التحليل، ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها

إليه بدون ذلك الثمن، فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالاً، وأخروا

الطلب لأجل الربح؛ فيقعوا في نفس المحذور.

(وسر المسألة) أنهم مُنِعُوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يُفْسِد

عليهم مقصود الأثمان، ومُنِعُوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يفسد

عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر

ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع أن لا يفاضل

بينهما، ولهذا قال:(تبرها وعينها سواء) فظهرت حكمة تحريم ربا النسأ في

الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأن تحريم هذا تحريم المقاصد،

وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة.

وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا؛ فإن ما حُرِّم سدًّا

للذريعة أخف مما حُرِّم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت

صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره

عبادة على معاوية؛ فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز

كآلات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما

أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها؛ فإنه سفه

وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به، ولا

تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز

بيعها بجنسها ألبتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما

تنفيه الشريعة؛ فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من

ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببُر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج

إليه؛ إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوَّز الشارع بيع

الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو

الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه

بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم

ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر

تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة

في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية. ولا سيما فإن لفظ

النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: (الدراهم

بالدراهم والدنانير بالدنانير) وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) والرقة هي

الورق، وهي الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة؛ فإن حمل المطلق

على المقيد كان نهيًا عن الربا في النقدين، وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك

نفي الحكم عن جملة ما عداهما، بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري في بعض

صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها.

(يوضحه) أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب

والسلع لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين

الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها؛

فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها

بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا

بيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها؛ لكن لو سدَّ على الناس ذلك لسد

عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر.

(يوضحه) أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون

الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها، ومن المعلوم

بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها، ومعلوم قطعًا أنها لا تباع

بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارًا، ولم يكن

عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله، وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد

رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس.

(يوضحه) أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا

بغير جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف.

(يوضحه) أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه، وما

حُرِّم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما

أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب

والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب

والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما

تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر

من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة.

فهذا محض القياس، ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به

أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة

الصناعة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها، وإذا كان أرباب الحيل

يجوِّزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسًا، ويقولون: الخمسة في

مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة؟ وكيف

تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلاً ورحمة وجلالة بإباحة

هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للمعقول والفطر والمصلحة، والذي يقضي

منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة حتى منعوا بيع رطل زيت برطل

زيت، وحرموا بيع الكسب بالسمسم وبيع النشا بالحنطة، وبيع الخل بالزبيب ونحو

ذلك، وحرموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاؤوا إلى ربا النسيئة وفتحوا

للتحليل عليه كل باب، فتارة بالعينة، وتارة بالمحلل، وتارة بالشرط المتقدم

المتواطأ عليه، ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكاتبون

والمتعاقدان ومن حضر أنه عقد ربا مقصود، وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة

بعشرة نقدًا ليس إلا، ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا

فعلوا هنا كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم، وقالوا: قد يُجْعَل وسيلة

إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر؛

فيقع التفاضل.

فيا لله العجب! كيف حُرِّمَت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وأُبيحت تلك

الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا؟ وأين مفسدة بيع الحلية

بجنسها، ومقابلة الصناعة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي

أساس كل مفسدة، وأصل كل بلية؟ وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل

ما شاء، وبالله التوفيق.

(فإن قيل) الصفات لا تُقَابَل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة

الجيدة بأكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولمَّا أبطل

الشارع ذلك عُلِم أنه مُنِعَ من مقابلة الصفات بالزيادة.

(قيل) الفرق بين الصنعة التي هي أثر الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق

عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها، ولا هي من

صنعه، فالشارع من حكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة؛ إذ ذلك يفضي

إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل؛ فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر،

والعلة أن لا يبيع جنسًا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من

كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جوَّز لهم مقابلة الصفات بالزيادة، لم يحرم عليهم ربا

الفضل، وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه.

(يوضحه) أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها

مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها؛ إذ لا فرق بينهما في ذلك.

(يوضحه) أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بِعْ هذا المصوغ

بوزنه واخسر صياغتك [7] . ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها. ولا يقول

له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل قط: لا تبعه إلا

بغير جنسه. ولم يُحَرِّم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه.

(فإن قيل) فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ، فكيف يسلم لكم في

الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلاً، وتكون الزيادة في مقابلة

صناعة الضرب، قيل: هذا سؤال قوي وارد.

(وجوابه) أن السَّكَّة لا تتقوم فيه الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها؛

فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة، وإن كان الضارب يضربها بأجرة؛

فإن القصد بها أن تكون معيارًا للناس لا يتجرون فيها كما تقدم، والسكة فيها غير

مقابلة بالزيادة في العرف، ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة، وانتقضت المصلحة

التي ضربت لأجلها، واتخذها الناس سلعة، واحتاجت إلى التقويم بغيرها، ولهذا

قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، وأخذ الرجل الدراهم ورد نظيرها وليس

المصوغ كذلك، ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافًا ويرد خمسين ثقالاً بوزنها، ولا

يأبى ذلك الآخذ ولا القابض، ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئًا، وهذا بخلاف

المصوغ، والنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا درهمًا واحدًا، وأول من

ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان؛ وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار.

(فإن قيل) فيلزمكم على هذا أن تجوِّزوا بيع فروع الأجناس بأصولها

متفاضلاً، فجوَّزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلاً، والزيت بالزيتون والسمسم

بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضًا.

(وجوابه) أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع، أو تكون الصورة المحرمة

بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها؛ والثلاثة منتفية في فروع

الأجناس مع أصولها، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها ولا

يساويها في إلحاقها بها، وأما الأصناف الأربعة ففرعها إن خرج عن كونه قوتًا لم

يكن من الربويات، وإن كانت قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه، وحرم بيعه بجنسه الذي

هو مثله متفاضلاً كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز، ولم يحرم بيعه بجنس آخر، وإن

كان جنسهما واحدًا فلا يحرم السمسم بالشيرج، ولا الهريسة بالخبز؛ فإن هذه

الصناعة لها قيمة لا تضيع على صاحبها، ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا

سنة ولا إجماع ولا قياس، ولا حرام إلا ما حرمه الله، كما أنه لا عبادة إلا ما

شرعها الله، وتحريم الحلال كتحليل الحرام. اهـ المراد منه.

(للموضوع بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تقدم أن الجمع هنا التمر الرديء، والجنيب نوع من التمر الجيد.

(2)

منها ما وقع في زماننا وهو ارتداد المرأة المتزوجة عن الإسلام لأجل إفساد عقد نكاحها من زوجها الذي تكرهه والعياذ بالله.

(3)

ما بين القوسين ثابت في النسخة المطبوعة في مصر دون المطبوعة في الهند.

(4)

المراد بما يصلحه الملح، فإن حل محله غيره كان له حكمه.

(5)

أي: دل انتقاضها على بطلانها.

(6)

هذه الجملة عنوان ربا النسيئة المحرم لذاته في القرآن، ومعنى دخولها فيه أنه عندما يحل الأجل الأول يطالب الدائن المدين بقضاء الدين أو الزيادة فيه إلى أجل آخر؛ فإن لم يجد ما يقضي زاده في العين من نقد أو طعام لأجل التأخير وهو النسيئة كما تقدم مكررًا، وبهذا يكون ذريعة لها ولأجلها نهي عنه.

(7)

قد تزيد دقة الصنعة في ثمن الصيغة أضعاف ثمن مادتها من الذهب أو الفضة، وفي لفظ الصياغة المكرر هنا نسخة أخرى الصناعة.

ص: 362

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الوحي المحمدي

دعوتي إلى انتقاده، وذات بيني وبين صديقي الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس

تعودت من سن الشباب وعهد طلب العلم أن أسأل خاصة أصدقائي عما

ينتقدون مني؛ لأستعين به على تربية نفسي وأن أنتقدهم كذلك بحرية وإخلاص، ثم

جريت على هذه العادة في مجلة المنار، فأنا أقترح على قرائها في كل عام أن يكتبوا

إليّ ما ينتقدون فيها، وأذكر في أثناء العام، أو في آخره ما يرد إليّ من ذلك وأبين

رأيي فيه.

ولما جمعت بحثي المطول في (الوحي المحمدي) في كتاب مستقل، وختمته

بدعوة شعوب الحضارة العصرية إلى الإسلام، سألت خواص العلماء من أصدقائي

وأذكياء تلاميذي عن رأيهم فيه، وما ينتقدونه منه؛ لاعتقادي أنه لا بد أن يعاد

طبعه فأكون على بصيرة فيما ينبغي له من تنقيح أو إيضاح أو زيادة أو نقصان،

وأول من سألتهم ذلك بالمكاتبة جلالة أمير المؤمنين الإمام يحيى حميد الدين صاحب

اليمن فقرَّظه بما نشرته في أول التقاريظ ولم ينتقد شيئًا منه، وأول من سألتهم ذلك

بالمشافهة أكبر علماء مصر العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي

شيخ الأزهر والمعاهد الدينية بالأمس، ثم العلامة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد

سليم مفتي الديار المصرية، فأما الأول فلم ينتقد شيئًا من مسائله، بل سألته: أترى

بحث الآيات وخوارق العادات طويلاً يحسن اختصاره؟ قال: كله ضروري لا

يُحْذَف منه شيء. وبيَّن رأيه في جملته بكتابه الوجيز البليغ الذي كتبه إليّ عقب

مطالعة الكتاب، ونشرته فيما اخترته من التقاريظ للطبعة الثانية، وأما الثاني فكان

بيني وبينه محاورة طويلة في مسألة وجوب تعلم اللغة العربية على جميع المسلمين

ووجوب تدبر القرآن؛ فإنه أنكر إطلاقي الكلام في هذا الموضوع بما يُفْهَم منه جعله

ذلك واجبًا عينيًّا، ووافقه فيه صديقنا العلامة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني،

وقد اقتنعا بعد طول البحث بأن أقل الواجب وجوبًا عينيًّا على أفراد الأعاجم هو ما

يتلى في الصلاة، وأن ما فوق ذلك من العلم بالقرآن ولغته، فهو من فروض الكفاية

التي يجب على أولي الأمر نشرها والسعي لتعميمها، وكذا من قدر عليه من الأفراد

والجمعيات.

وكان صديقي العلامة الأستاذ الشيخ عبد الله بن علي بن اليابس ممن أهديتهم

الكتاب وسألتهم إبداء رأيهم لي فيه بعد مطالعته، وكنت أحرص على الوقوف على

رأيه؛ لأنه تلقى العلم أولاً في نجد وحذق طريقتهم السلفية المأثورة عن مشايخهم في

اتباع الآثار، ثم عرف طريقة علماء مصر في التدريس والبحث والاستدلال،

وألف أسلوب المنار ونهجه في تأييد السلف تجاه الماديين، ودعاة النصرانية

والمتكلمين والمبتدعين، فصار أعرف بالحاجة إلى هذا من علماء بلاده المقيمين

فيها، وأرى من المفيد له أن يتمرن على الانتقاد، ويتعود سماع الرد الحر عليه مع

حسن النية من الجانبين، وقد قصدت هذا، فقرأ الكتاب بقصد البحث فيه عما يسهل

انتقاده، ثم جاءني وذكر لي ما أحصاه منه، فأجبته عنه أجوبة مختصرة لم يقتنع

بها، قلت له مرغبًا في الكتابة: لعلك لو كتبت هذه المسائل، وعُنيت بإقامة الدليل

عليها يتجلى لك الصواب، والتمييز بين الغث والسمين؛ لأن الاستدلال بالكتابة

يخرج الكاتب من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، فكتب فأطال كأنه يناظر خصمًا

ليقنعه أو يفند مذهبه.

جاءني بما كتب فلم أملك من الفراغ ما أقرؤه، وأبين له رأيي فيه، وهو كل

ما كنت أريده، ورأيته يبغي نشره، فألقيته إلى المطبعة، ولم أقرأه، فجمع لينشر

في باب الانتقاد على المنار المفتوح على الدوام، وفهمت من رغبته في نشره أنه

واسع الحرية لا يسوءه أن يرد عليه ويدان كما يدين، وأنا أظن أنني من أوسع أهل

هذا العصر صدرًا لمثل هذا؛ لأنني ألفته من أول النشأة ورسخ معي في مصر،

وأهلها أوسع أهل الشرق حرية.

ثم إنني قرأت ما كتبه مجموعًا بحروف المطبعة عندما جاء وقت نشره بحسب

الترتيب الذي جريت عليه، ورأيت أنني مضطر للرد على كل ما قاله من المسائل

وأدلتها، فندمت أن وعدت بنشره، كارهًا أن يظهر في المنار هذا الخلاف بيني

وبين صديق كريم، وأخ وديد من قوم أحبهم ويحبونني، وقد علمت منه أنه مثلي

يكره أن نظهر بمظهر الخلاف، وكان مقتضاه أن يختصر في بيان المسائل التي

انتقدها، وفي مطالبتي بالدليل عليها، وإذًا لذكرتها مع دليلي عليها بالإيجاز كما

فعلت في كل انتقاد؛ ولكنه أطال وأكثر السؤال، فصار تطويل الرد حتمًا لا مناص

منه فكان.

وقد ساءني أن رأيت الرد ساءه، ونزغ الشيطان بيني وبينه، وكان ذنبي أن

دعوته إلى النقد ونشرته له، وكان ذنبه أن أسرف فيه فخرج به عن المطلوب وهو

التنبيه لما يحتاج إلى تصحيح أو تنقيح، إلى التفنيد ومناظرة الخصوم، ونحمد الله

أن كنا ببركة الإخلاص وحسن النية فيما أخطأنا فيه ممن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ

الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:

201) .

زارني فبثني الشكوى من ثقل وطأة الرد، وحمله إياه على تزوير مقال طويل

في الرد عليه، فتفكيره بأن هذا لا يليق بمثلنا في صداقتنا وحسن نيتنا، فترجيحه

لاطلاعي على رأيه الأخير فيه، وتفويضه إلى أمر تلافيه، فشكرت له ذلك وقبلته

فأقول:

إن بعض انتقاد الأستاذ كان من سوء الفهم لا سوء القصد، أو عن اختلاف

في الاجتهاد والرأي، وبعضه كان من ناحية البيان والتعبير عنه، وكل منا في هذا

سواء.

فأما اعتراضه على مسألة الرق والسبي فقد أورده على عبارة الطبعة الأولى

من كتاب الوحي وكانت مختصرة مجملة قابلة للاعتراض؛ لأنها غير مؤدية للمراد

وكان ينبغي أن يطلع على عبارة الطبعة الثانية إذ كانت صدرت قبل أن يكتب؛

ولكنه قال: إنه لم يكن قد اطلع عليها. وهو صادق.

وكذلك مسألة كلام الله قد بسطتها في الطبعة الثانية بسطًا لا شبهة عليه عنده

كما قال، على أنني كنت بسطتها في مواضع من التفسير بما هو أوسع مما في

الطبعة الثانية أيضًا؛ ولكنه لم يره أو لم يتذكره.

وأما مسألة القتال وآية الأمر به مع النهي عن الاعتداء، وكون غزوات النبي

صلى الله عليه وسلم كلها كانت دفاعًا، فقد كان أكبر أسباب الخلاف بيننا في أصلها

دون بعض فروعها اختلاف فهم المراد من الدفاع والاعتداء، وما كانت عليه الحال

في عهد ظهور الإسلام، وفي هذا العصر أيضًا؛ فإنني رأيت الكثيرين من العلماء

- دع العامة - يفهمون أن الاعتداء أو الابتداء بالحرب يعتبر بالهجوم في كل واقعة

أو معركة أو أخذ غنيمة، ومن ثم يعدون بعض الغزوات والسرايا في صدر الإسلام

دفاعًا، وبعضها اعتداءً أو هجومًا، وهذا خطأ مخالف لعرف العرب وسائر الأمم

وللواقع، والحق أن المعتدية من الأمتين أو الدولتين هي المبتدئة بالعدوان المنشئة

لحالة الحرب، والمدافعة هي المقابلة لها، وإن كانت في أثناء حالة الحرب تغنم

وتهاجم ما استطاعت، ومن المعلوم بالقطع أن قريشًا وسائر قبائل العرب قد عادوا

النبي صلى الله عليه وسلم واعتدوا عليه وعلى من آمن معه منذ أعلن دعوتهم إلى

الإسلام، ومن المعلوم أيضًا أن حالة الحرب بين فريقين لا تزول إلا بمعاهدة، وما

عقدت المعاهدة بين المؤمنين والمشركين إلا في الحديبية أو آخر سنة ست للهجرة،

ولم يلبث المشركون أن نقضوها فعادت حالة الحرب فأباحت للنبي صلى الله عليه

وسلم فتح مكة سنة ثمان، وما تلاها من غزوة حنين والطائف، ونزل في ذلك ما

نزل من الآيات في أول سورة التوبة التي منها ما يسمونه آية السيف، ومن حججها

قوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ

أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) ولم يحط الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس فهمًا بمرادي

هذا إلا بالمشافهة الأخيرة، فزال الخلاف في الأصل، ولم يبق حاجة إلى البحث

في فروعه والتعبير عنه.

وأما آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (البقرة:

190) فقد بينا في تفسيرها من جزء التفسير الثاني أنها وما بعدها نزلت في القتال

في الشهر الحرام، وسببها معروف فصلناه هنالك.

وأما مسألة اشتراط المرأة في عقد نكاحها حق عصمتها؛ أي: تطليق نفسها فهو

لا يزال يرى أنه لا يصح، وهو يخالفنا ويخالف من سبقنا إلى تقرير أن الأصل في

العقود والشروط الصحة فيما لم يخالف حكم الله؛ عملاً بإطلاق قوله تعالى: {أَوْفُوا

بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وأقواهم حجة وبيانًا فيه شيخا الإسلام ابن تيمية وابن

القيم، ويقول: إنه خلاف في الاجتهاد: له اجتهاده وإن لنا اجتهادهم واجتهادنا.

وأما مطالبته إيانا بحديث، أو بخبر صحيح على تعيين يوم مولد النبي صلى

الله عليه وسلم، فيقول: إنه يعني به الخبر التاريخي، لا الخبر المرفوع إلى النبي

صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم بمراده سواء وافق ما فهمناه من عبارته أو خالفه.

وجملة القول أننا قد تعارفنا بعد تناكر عارض ضعيف لم يلبث أن زال ولله

الحمد، ولولا حرصي على دوام صداقته ومودته وإعلام من قرأ نقده، وردي عليه

أنه لم يحدث بيننا أقل هجر ولا تقاطع، لما كتبت هذا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 372

الكاتب: محمد رشيد رضا

تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية

في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي

(تابع لما قبله في ج 4)

(الوجه الثالث النقلي المسيحي) أن الإنجيليين نقلوا عن المسيح عليه السلام

أنه أنبأ بظهور أنبياء كذبة من بعده، ووضع قاعدة كلية للتمييز بين الصادقين

والكذبة، وهي قوله: من ثمارهم تعرفونهم.

فليخبرنا كاتب مجلة المشرق وآباؤها عن نبي له من ثمار الخير والبر التي

اعترفوا بها عرضًا، وهو قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير من ثمار محمد

صلى الله عليه وسلم التي اهتدى بها الملايين من البشر.

ويؤيد هذه القاعدة كثير من الدلائل الخارجية على نبوته صلى الله عليه وسلم،

منها شهادات كتب العهدين العتيق والجديد له بما فصلناه في تفسير المنار،

وبسطه غيرنا بتفصيل أوسع كالشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق،

ومنها شهادة من آمن به من علماء اليهود والنصارى، وغير ذلك مما لا محل لإيراد

الشواهد عليه هنا.

بعد هذا نقول لهم: إنه ليس لكم أدلة خارجية على كون هذه الرسائل التي

تسمونها اليوم بالأناجيل كتبت بوحي ولا إلهام؛ وإنما رأينا في كتبكم أنكم تستدلون

على صدقها بدليل داخلي لا يدل عليه، وهو أنها لو لم تكن صادقة لكان كاتبوها من

الكذبة الأشرار؛ وهذا لا يعقل، وخصومكم لا يسلمون هذا لكم؛ إذ يمكن أن يقال

أيضًا: إنه يجوز أن يكونوا غير متعمدين للكذب ولا متحرين للصدق، ويجوز أن

يكون قد دس حزب قسطنطين وغيره شيئًا في كتبهم؛ إذ ليس عندكم نقل متواتر

بالأسانيد المتصلة إليهم كما سيأتي، على أنه لو صح هذا الدليل لكنا أولى به منكم،

وإن كنا لا نحتاج إليه مثلكم؛ لأن عندنا ما هو أصح منه وأقوى.

***

الشبهة الثالثة

في الشهادة الخارجية على وحي القرآن

نحن لم نقتصر في كتاب الوحي المحمدي على الأدلة الباطنية والشهادات

الداخلية على كون القرآن كلام الله تعالى كما زعم معترض مجلة المشرق، بل

أوردنا كثيرًا من الشهادات الخارجية، والأدلة العقلية والعلمية في الطبعة الأولى،

ولما رأيت مثل هذه الشبهات الكاثوليكية الجزوتية زدتها بيانًا في الطبعة الثانية

أكثرها في فاتحتها، وفي الفصل الأول الذي زدته فيها، ومنها أنني أوردت على

النصارى ما نقلوه عن المسيح عليه السلام من الشهادة لنفسه، وشهادة غيره له، فقد

نقل عنه يوحنا أنه قال: (5: 31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا 32 الذي

يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق 33 أنتم أرسلتم إلى

يوحنا فشهد للحق) ثم روى عنه (8: 13 فقال له الفريسيون: أنت تشهد لنفسك

شهادتك ليست حقًّا 14 فأجاب يسوع وقال لهم: (وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي

حق) نقلت هذا في سياق شهادة الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله:

{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: 166) .

ومن شهادة الله تعالى له ما أيده من المعجزات، وأظهرها بعد القرآن وما فيه،

منها أنباؤه عن المستقبل الذي يسمونه بالنبوات، كاستيلاء أتباعه على ملك كسرى

وقيصر وهم في أشد أوقات الفقر والضعف كوقت غزوة الخندق؛ إذ تألبت عليهم

قبائل المشركين مع اليهود، وهجموا عليهم في مدينتهم يريدون استئصالها فأيد الله

المؤمنين بريح وجنود من الملائكة لم يروها، وقذف في قلوبهم الرعب، وردهم

بغيظهم لم ينالوا خيرًا {وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ} (الأحزاب: 25) كما هو

مفصل في أول سورة الأحزاب.

***

مطاعن النصارى على القرآن

قال كاتب مجلة المشرق بعد إيراد تلك الشبهات النحيفة السخيفة: (هذا وإذا

كان الكلام على كتاب فيه ما فيه من العيوب رغم ما يحويه من محاسن الجمال

وأساليب البيان، فلا بد من القول: إن ذلك الكتاب لا يمكن أن يُنْسَب إلى الله)

وأيد هذه الدعوى بما نقله عن أشهر كتاب عندهم في الطعن على القرآن، ولخص

ذلك بما نذكره ونفنده ونبين بطلانه هنا بالإيجاز، وقد سبق الرد عليه بالتفصيل في

كتابنا (شبهات النصارى وحجج الإسلام) وسنعيده في الجزء الثاني من كتاب

الوحي المحمدي كما وعدنا في تصدير الطبعة الثانية للجزء الأول فنقول:

رد زعمهم ضياع شيء من القرآن

(الطعن الأول) زعم ذلك الطاعن أن القرآن قد ضاع منه شيء، فلم يُكْتَب

كله، وأن الذي ضاع؛ منه ما نسيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما نسيه

الصحابة رضوان الله عليهم، ومنه ما لم يُحْفَظ، قال: (وكثير من آياته لم يكن لها

قيد إلا في ذاكرة الصحابة؛ فضاع منها الكثير)

وجوابنا عن هذا أنه دعوى مفتراة ليس عليها أدنى دليل، فمن المعلوم

بالتواتر أن كل ما كان ينزل من القرآن كان يكتب ويحفظه الكثيرون من الصحابة،

يعبدون الله تعالى به في الصلاة وغيرها، وكانت ملكة الحفظ في العرب أقوى منها

في غيرهم لاعتمادهم عليها في حفظ أشعارهم وأنسابهم ووقائعهم.

من العجيب أن يفتري النصارى على القرآن هذه الفرية، وهو الكتاب الذي

حفظه الألوف من العرب في عصر نزوله وكتبوه متفرقًا، ثم مجموعًا، وما زال

يحفظه مئات الألوف في كل عصر، وهم أهل دين لم يكتبوا من إنجيل مسيحهم

شيئًا من لفظه بلغته، وهذه الرسائل الأربع التي يسمونها في الزمن الأخير

بالأناجيل لم تكن معروفة لمن يسمونهم رسله في العصر الأول؛ إذ لم يذكرها أحد

منهم في رسائلهم، وهذا رابعهم يوحنا يقول في آخر إنجيله: (21: 24 هذا هو

التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق 25 وأشياء أخرى كثيرة

صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة

آمين! ! !) فلماذا لم يكتب هو ولا أحد من تلاميذه وأتباعه عُشْر معشارها؟

كذلك ليس عندهم أصل مكتوب من سائر كتب العهدين في زمن أصحابها

بلغاتهم، ولا يدعون هم ولا اليهود أنهم حفظوا كتابًا منها بنصه وحروفه التي جاء

بها موسى ولا غيره من أنبيائهم كما فعل المسلمون.

رد زعمهم وجود المناقضات فيه

(الطعن الثاني) ما سماه المناقضات وضعف البيان في المتشابهات المحتاجة

إلى التأويل، وفي الناسخ والمنسوخ، فأما الأول فشبهته في اختلاف المفسرين في

المتشابه وتأويله كما فصلته في تفسير سورة آل عمران، ثم في سورة يونس أخيرًا،

ولا تناقض فيه ولا ضعف بيان؛ ولكن الأذهان تتفاوت بطبعها في فهم بعض

المسائل بطبيعة موضوعها، ولا سيما الوحي وكلام الأنبياء في عالم الغيب.

وقد حققنا أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابهات، وأما تأويلها

الذي لا يعلمه إلا الله، فهو حقيقة صفات الله تعالى، وما تؤول إليه أخبار الوعد

والوعيد في الآخرة؛ لأنها من عالم الغيب، ويرى القراء في الجزء الماضي (ج

4) كلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.

على أن أكثر كلام المسيح عليه السلام كان رموزًا لا يفهم تلاميذه المراد منها،

وهم أولى الناس بفهمها حتى المسائل التي تدعي هذه الرسائل الأربع أنها أساس

العقيدة كهدم الهيكل وإقامته في ثلاثة أيام، ومنه ما حكاه يوحنا في آخر رسالته من

أقواله عليه السلام لسمعان بطرس في محبته له ومستقبله، وقوله للتلميذ الذي كان

يحبه: (21: 22 إذا كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء، فماذا لك؟ (قال يوحنا)

23 فذاع هذا القول بين الإخوة: إن ذلك التلميذ لا يموت، ولكن لم يقل يسوع: إنه

لا يموت

إلخ) ، فالتلاميذ كلهم لم يفهموا هذه الكلمة بشهادة يوحنا الذي شهد لنفسه

أن شهادته حق، ومن يوحنا هذا؟ وهو غير معروف بالتحقيق، والأرجح أنه من

تلاميذ بولص (راجع دائرة المعارف الفرنسية) فإن عادت المشرق إلى مثل هذا

البهتان أتيناها بالشواهد الكثيرة على تصريحهم بغموض كلام المسيح عليه السلام،

وعدم فهمهم له، فكيف يعيبون غيرهم بالكحل في أعينهم، ولا يرون الجذع في

أعينهم؟

وأما الناسخ والمنسوخ فقد بينا في تفسير الآية الوحيدة الصريحة فيه، وهي

قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:

106) أن المراد بالآيات فيها ما يؤيد الله به رسله بدليل قوله تعالى بعدها: {أَمْ

تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) وبيانه أنه

تعالى أيد موسى ببعض الآيات الكونية ونسخها بتأييد عيسى بمثلها في الأدلة على

صدقه، ثم نسخ هذه وأيد محمدًا بما هو خير منها، والمقصد من إرسالهم واحد

عليهم الصلاة والسلام، وأما نسخ الأحكام، فأنكر بعض علمائنا وجوده في القرآن،

وقال بعضهم: فيه عشرون آية، وبعضهم: بضع آيات، وكل ما عدوه منها فهو

فصيح بليغ، وفائدة الناسخ فيه ظاهرة، كنسخ الإرث بالإسلام والهجرة عند قلة

المسلمين بإرث القرابة الزوجية بعد كثرتهم، ونسخ القبلة إلى بيت المقدس لبيت

الله الحرام، على أن قبلة بيت المقدس لم تكن بنص في القرآن.

مخالفة القرآن لكتب العهد العتيق هو الحق:

(الطعن الثالث) مخالفة القرآن لكتب العهد القديم في بعض المسائل

التاريخية؛ وجوابنا عن هذا أن تواريخ العهد القديم لا يقوم دليل على صدقها كما بيناه

بالتفصيل في تفسير المنار، وأما القرآن فقد قامت البراهين الكثيرة على أنه كلام

الله تعالى، فما بينهما من خلاف فقول القرآن فيه هو الفصل، وحكمه فهو الحكم

بالحق والعدل، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) وقال: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن

قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ

الكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 63-

64) .

قصة يوسف في القرآن والعهد العتيق:

(الطعن الرابع) زعمه أن يوسف بن يعقوب تبين قصته في القرآن أنه قد

تراخى للشهوة من ذاته، وقصته في التوراة تبين براءته، يعني أن هذا الفرق يدل

على أن التوراة وحي من الله دون القرآن، والجواب عن هذا أن القرآن أثبت لنا أن

يوسف عليه السلام قد ابتلاه الله تعالى بتجارب محصه بها تمحيصًا، فكان من عباده

المخلصين (منها) مراودة امرأة عزيز مصر له في سن شبابه، فاستعصم ولم يقع

في الفتنة، وآثر عليها السجن، وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن

رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) ففيه وجهان: أحدهما، وهو المتبادر من اللغة

أن كلاًّ منهما هم بمواثبة الآخر والبطش به كما شرحناه في الجزء الأول من المنار

أخيرًا، والثاني أنهما هما بالفاحشة، ولكن رؤيته برهان ربه صرف عنه السوء

والفحشاء، وهذه منقبة عظيمة له، وهي أدل على اعتصامه وعدم تراخيه للشهوة

مع قوة الداعية الطبيعية لها.

ولكن ما بال الطاعن يستدل بهذه الفضيلة السلبية للتوراة، وينسى ما قذفت به

لوطًا عليه السلام من الزنا ببناته، وداود عليه السلام من أقبح الزنا العمد بامرأة

أوريا الحثي، ثم تعريضه للقتل، مع نزاهة القرآن عن مثل هذا وما يقرب منه؟ دع

ما يرمون به سليمان عليه السلام من الشرك والوثنية لأجل النساء.

(الطعن الرابع) زعمه أن القرآن ذكر إسكندر ذي القرنين بما لا يوافق

أخبار التاريخ المحققة، وجوابه أن ذا القرنين المذكور في القرآن ليس بإسكندر

المقدوني، وإنما هو أحد أذواء اليمن، ولو خالف أخبار التاريخ لكان ما خالفها فيه

هو الحق.

(الطعن الخامس) اعتراضه على الإسراء إلى المسجد الأقصى بأن المراد

به هيكل سليمان قال: (مع أن الهيكل في أيام محمد كان خرابًا) والجواب عن ذلك

أن المراد بالمسجد الأقصى هذا المكان، وسماه بهذا الاسم للإنباء بأنه سيكون مسجدًا

للمسلمين يقابل المسجد الحرام الذي كان هيكل أصنام أيضًا (وقد كان) والمسجد

محل السجود والصلاة فإن كان عامرًا أو خُرِّب فخرابه لا يسلبه اسم المسجد، ولا

حرمته في شرعنا.

(الطعن السادس) نسبة مريم والدة المسيح عليهما السلام إلى عمران

(وجوابه) من وجهين أحدهما: أن ليس عندهم تاريخ قطعي لنسبها، والثاني أنه

يصح جعله من باب نسبة المرء إلى العظيم أو الرئيس من أجداده قريبًا كان أو بعيدًا،

كقولهم في المسيح: (ابن داود) وإطلاقهم لقب إسرائيل على ذريته، وقول نبينا

صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) ، وتسمية جميع الناس ملك العربية

عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل (ابن سعود) .

(الطعن السابع) ما حكاه القرآن عن نداء قوم مريم لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: 28) وهذا نحو مما قبله في التجوز المشهور كقولهم: يا أخا الهيجاء.

للشجاع. وهارون عليه السلام كان رئيس الكهنة، ومريم ألحقت بالكهنة في

انقطاعها لعبادة الله تعالى، فقالوا لها: يا أخت هارون تهكمًا بها، إذ اتهموها

بالفاحشة، وقد برأها الله تعالى في كتابه العزيز من بهتانهم، ومن كذب بعض

النصارى أيضًا بقولهم: إن ولدها عيسى من يوسف النجار. ومن كنودهم وبهتانهم

عليه هذه المطاعن المفتعلة، وموعدنا بالرد التفصيلي قريب إن شاء الله.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 376

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرد على من أفتى بكتمان بعض القرآن

ثم حرَّف بعضه استدلالاً على فتواه

نشرنا في الجزء الأول من منار هذا العام استفتاء في قول من زعم أن في

القرآن الحكيم آيات لا يجوز إذاعتها، ولا إسماعها لأهل الكتاب من ذوي ذمتنا،

وأخرى لا يجوز إسماعها للنساء هي قصة يوسف، بل قال سورته عليه السلام .

ذكر المستفتي اسم الذي زعم ما نقله عنه في السؤال، ولم نذكره نحن في

الجواب تكريمًا له، وأملاً منا بأن يبين هو الحقيقة بما يبرئ به نفسه مما اتهمه به

السائل أو يتأوله، وصرحنا بشكنا في عزو هذا المنكر العظيم إليه كما قاله السائل،

ولم نصرح باسم الصحيفة وهو (الوطنية) التي نشر فيه السائل هذه التهمة مبالغة

في كتمانها، فلما اطلع على المنار بادر إلى الدفاع عن نفسه بما أثبت التهمة وجنى

على القرآن جناية جديدة، فجاز لنا أن نصرح باسمه تبعًا له، ووجب أن نرد عليه،

ولو كان خطؤه في غير كتمان القرآن والاستدلال عليه بتحريف بعض آياته عن

موضعها وتصوير المسألة بغير صورتها لما كان من شأننا أن نرد عليه، ولكن هذا

الرد دفاع آخر عن حق القرآن.

يؤسفنا أن صاحب الزعمين هو الأستاذ الشيخ محمود محمود وكيل جمعية

مكارم الأخلاق، فقد نشر في الجزء التاسع من مجلة الجمعية الذي صدر في شهر

ربيع الآخر تفسير آيات له من سورة الأنعام منها قوله عز وجل: {وَلَا تَسُبُّوا

الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) فأدخل

في عموم النهي عن سب آلهة المشركين سب أهل الكتاب، بل قال: آلهة النصارى

إلخ ما ستراه، ونقل عمن عبر عنه بقوله (عمدة العلماء في الأندلس) قوله:

(فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الله أو الإسلام أو الرسول فلا يحل لمسلم

ذم دينه، ولا صنمه، ولا صليبه، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك) اهـ.

ثم قال: (هذا هو مفهوم القرآن الكريم، والقرآن أعز علينا وأحب إلى قلوبنا

من صاحب المنار الذي حملته خصومته مع بعض الأساتذة أن يفتي في الجزء الأول

من عام 1353 بما يخالف ذلك، ولعله قد نسي ما قاله في مناره في تفسير هذه الآية،

والكمال المطلق لله وحده، والعصمة خاصة بالأنبياء وما سمي الإنسان إلا لنسيه)

(أظن أن الشيخ قد كبر، فخانته ذاكرته، فقد نشر منذ أعوام أن العلماء

استنبطوا من هذه الآية أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها، وأن

إطلاق لفظ الكفر على من يحرم إيذاؤه من أهل الأديان محرم شرعًا إذا تأذى به،

ولا سيما في الخطاب، ونقل عن الغنية ومعين الحكام أنه لو قال للذمي: يا كافر.

يأثم إن شق عليه.

(وقد أغرب الشيخ في فتواه القائمة على مسألة مكذوبة، وطالب من المفتي

أن يتوب، وما سمعنا أن من أفتى فأخطأ - على سبيل الفرض - يطالب بالتوبة.

(بعد هذا أستطيع أن أقول وأظنك معي في الفهم: أن سب آلهة المسيحيين

وقديسيهم في هذا العصر الذي ضعف فيه المسلمون وتفرقوا وذلوا، وقوي الكافرون

واتحدوا وعزوا، ولا سيما بالمذياع (الراديو) يدخل في مفهوم هذه الآية، ولو لم

يكن فيه إلا تفريق الأمة وإفساد باطنها كما فسد ظاهرها، لكان كافيًا في استحباب

منعه، حتى يعود للإسلام عزه ومجده، وتكون كلمته هي العليا في الخافقين، كما

كانت في أيام سيد الكونيين والثقلين، ويظهره الله على الدين كله مرة أخرى،

وعسى أن يكون قريبًا إن شاء الله) اهـ.

(المنار)

إن الخطأ في تفسير الأستاذ الشيخ محمود محمود لهذه الآية كثير من ناحية

تفسير الآية، ومن ناحية الرد به على الفتوى التي أشار إليها، ومن ناحية ما تضمنه

من وصف المسلمين في هذا العصر بأسوأ الأوصاف وأخسها، ووصف النصارى

بأحسنها وأشرفها، ومن ناحية إثبات الآلهة للمسيحيين، وغير ذلك من النواحي، وما

كان لنا أن نتصدى لبيان تلك الأنواع من الخطأ فيها وفي غيرها، ولا أن نناظره في

شيء منها ولا من غيرها، إلا مسألة بعد المسافة بين آية سورة الأنعام في النهي عن

سب المسلمين لمعبودات المشركين، وبين الفتوى التي أفتاها هو في كتمان بعض

القرآن الذي يسوء أهل ذمتنا منهم بزعمه، وأهل ذمتنا لا يكونون أعز منا، ولا نكون

أذلاء لهم وهم تابعون لنا، ومسألة إفتاء المنار بأن كتمان القرآن لا يجوز، وأن الله

قد لعن فاعله إلا أن يتوب.

فإذا كان القرآن أعز عليه، وأحب إلى قلبه من صاحب المنار كما ادعى،

فصاحب المنار أحق أن يكون القرآن أحب إليه منه؛ فإنه أفتى بكتمان بعض آيات

القرآن؛ لئلا يسخط النصارى، وبكتمان بعضها عن النساء بزعمه أنها مفسدة لهن

وصاحب المنار أفتى ببطلان فتواه في المسألتين تعظيمًا للقرآن ودفاعًا عنه،

وتنزيهًا له عما ظنه فيه، وجزمًا بأن كل ما أُنزل فيه نافع لا ضرر فيه يبيح كتمانه

برأي مثله، ولا برأي أعلم أهل الأرض، فأي المفتيين أحق بعزة القرآن وحب

القرآن؟ الذي يزعم أن فيه سبًّا وشتمًا وإفسادًا للنساء يقتضي كتمانهما، أم الذي

ينزهه عن هذا وهذا، وعن كل ما لا يليق بكلام الله عز وجل، ويثبت أن كل ما

فيه صلاح وإصلاح يجب إظهاره والدعوة إليه، وتفنيد كل من يصد عنه؟

فإن كان ظن أن صاحب المنار كبر فخانته ذاكرته، فأنساه كبر السن ما نشره

منذ أعوام موافقًا لرأيه هو، فأفتى أخيرًا بما يخالفه (لخصومته مع بعض الأساتذة)

فأحرى به هو أن يكون صغر سنه هو، أو شرخ شبابه قد حال بينه وبين فهم ما

كتبه صاحب المنار أولاً وآخرًا؛ فإنه لا خلاف ولا تعارض بين فتوييه، ولم يقع

بينه وبين أحد من الأساتذة خصومة حملته على ذلك، وإنما يعني ببعض الأساتذة

نفسه، ولم يكن بيننا وبينه خصومة، بل كان آخر عهدنا بمودته المتصلة أن يبرنا

بر الولد لوالده، ونوده ود الأخ لأخيه، فكان بتواضعه يبالغ في المودة جهرًا،

ونعتدل فيها سرًّا وجهرًا، فالواجب عليه إذن أن يترك اتباع ظنه في صاحب المنار

{ِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ويأخذ باليقين في شأن نفسه، ونحن

لا نزال على فتوانا بعدم جواز سب النصارى ولا غيرهم، وإن كان فيهم من

يسبوننا ويطعنون في ديننا وكتاب ربنا ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا لما زعمه

باطلاً، بل لأن المسلم ليس بسبَّاب ولا لعَّان.

تحرير الموضوع أن الفتوى التي أفتاها صاحب المنار الشيخ الكبير، ورد

عليها الشيخ محمود الشاب الطرير، وكيل جمعية مكارم الأخلاق ومفسر مجلتها

ومفتيها النحرير، بما فسر به آية الأنعام برأيه وبنقله، لا يدخل في موضوعها ما

ادَّعاه من سب المسلمين الأذلاء بزعمه لآلهة النصارى الأعزاء وصليبهم وقديسيهم

بوهمه، وإنما موضوعها أنه لا يجوز كتمان شيء من آيات القرآن العظيم الحكيم

في هذا العصر بدعوى أنه كان لهذه الآيات ما يبررها في عصر نزولها دون هذا

العصر، هذا ما علل به فتواه أولاً بحسب ما نقله السائل عنه؛ وإنه لحوب كبير

وإثم عظيم، وقد زاده في الدفاع عنه في مجلة الجمعية إثمًا وجرمًا بما زعمه أن تلك

الآيات الكريمة متضمنة لسب آلهة القوم وصليبهم وقديسيهم، والقرآن أجل وأعظم

وأنزه من ذلك، وقد قال في أهل الكتاب:{وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} (العنكبوت:

46) ولم يذكر صليبهم بسب ولا غيره، وكل ما قرره فيهم أحكام حق وعدل

وإصلاح ونزاهة، فهل هذه محبته للقرآن؟ وهل يقره عليه أعضاء جمعيته أو

أعضاء مجلس إدارتها كما يقرونه على جميع تصرفاته في الجمعية ومدرستها،

وتعليم صبيانها وبناتها؟ نحب أن نعلم هذا.

ومن فروع رده الغريب علينا قوله: إن أغرب شيء في فتوانا مطالبته بالتوبة

وإنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يُطَالَب بالتوبة. يعني بمطالبتنا إياه بالتوبة إيرادنا

لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ

لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ * إِلَاّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا

وَبَيَّنُوا} (البقرة: 159-160) الآية، فهو يرد على تذكيرنا إياه بالآية الكريمة

بأنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يطالب بالتوبة، ولا يدري أن سماعه غير حجة

فضلاً عن عدم سماعه، فليخبرنا ممن سمع أن من يفتي بما يخالف كتاب الله

وإجماع المسلمين لا يُطَالَب بالتوبة ولا يجوز تذكيره بحكم الله في فتواه إذا كان في

قوله تعالى إرشاد له إلى التوبة؟ ومن قيَّد هذا التذكير بكتاب الله بهذا الشرط؟ وما

حجته على ذلك؟

إنني أعود فأطالبه بأن يتوب إلى الله من فتواه الأولى بخلاف كتاب الله، ومن

استدلاله عليها بما بينت بطلانه؛ فإن الأمر بالتوبة مشروع فيما دون ذلك على

الهفوات {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)

فإن لم يقبل هذه النصيحة فليقتصر على ما هو أليق بها مما نشره في أواخر هذا

الجزء من المجلة من سب الشيخ رشيد رضا وشتمه والطعن فيه، وفي أستاذه الإمام

إن شاء، وإن كان يحظر سب الكفار، وله الأمان بأن لا نرد عليه بكلمة واحدة

ما لم يكن فيما ينشره عبث بالقرآن أو بالسنة، كعبث ذلك الشيخ الذي أفتى بأن كل

من يؤمن بظاهر القرآن من صفات الله كما كان يؤمن السلف الصالح فهو كافر،

وبغير هذا من البدع ومخالفة السنة، وكان الأستاذ الشيخ محمود من أنصارنا عليه،

وعاد الآن لتأييده ونصره، ونسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعليهما من كل ذنب،

ويهبنا كمال الإخلاص والتقوى، والسلام على من اتبع الهدى.

_________

ص: 382

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌دائرة المعارف الإسلامية ومفاسدها

اسم خادع، كسور له باب ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبَلِه العذاب، هو

معجم لَفَّقَهُ طائفة من علماء الإفرنج المستشرقين لخدمة ملتهم ودولهم المستعمرة لبلاد

المسلمين يهدم معاقل الإسلام وحصونه، بعد أن عجز عن ذلك دعاة دينهم بالطعن

الصريح على كتاب الله العزيز ورسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وبعد أن

عجز عن ذلك الذين حرَّفوا القرآن منهم بترجماته الباطلة، والذين شوهوا تاريخ

الإسلام بمفترياتهم، ذلك بأن هؤلاء الملفقين لهذا المعجم الذي سموه دائرة المعارف

الإسلامية لم يتركوا شيئًا من عقائد الإسلام، ولا من فضائله، ولا من تشريعه، ولا

من مناقب رجاله إلا وصوروه لقراء معجمهم بما يخالف صورته الصحيحة من

بعض الوجوه، إما بصورة مشوهة، وإما بصورة عادية لا مزية لها، وطالما قلت:

إن الإفرنج قد أتقنوا كثيرًا من العلوم والفنون والصناعات؛ ولكن إتقانهم للكذب

والإفك، أي: صرف الناس عما يريدون حجبه عنهم من الحقائق قد فاق إتقانهم لغيره

مما أتقنوه من علم وعمل.

وفي هذه الدائرة عيوب علمية وتاريخية أخرى أهمها كما بدا لنا من نظرة

قصيرة فيها أنها لم تُكْتَب لتحقيق المسائل التاريخية والعلمية لذاتها، بل لأجل بيان

آرائهم وأهوائهم والإعلام بما سبق لهم ولعلمائهم فيها من بحث وطعن في كتبهم

ورسائلهم المتفرقة.

ولقد كنا سررنا إذ علمنا أن جماعة من شباننا شرعوا في ترجمة هذا المعجم

بلغة الإسلام العربية، ووضع حواشي لتصحيح ما فيه من الأغلاط التاريخية

والعلمية والدينية، وبيان الحق فيما دسوه فيه من عقائدهم وآرائهم الباطلة في

المسائل الدينية، ونوط هذا وذاك بالعلماء الإخصائيين في كل منهما، وقد صدر

الجزآن الأول والثاني من الأجزاء الصغيرة التي قسموا لها الكتاب مذيلين ببعض

الحواشي من هذه التصحيحات والانتقادات، وهي غير كافية في موضوعها، ثم

أعرض المترجمون عن ذلك وطفقوا ينشرون الأجزاء غفلاً من التعليق على موادها

المشوِّهة للإسلام وتاريخه، بعد أن ظننا أنهم سيزيدونه استقصاءً وتحقيقًا، فخابت

الآمال فيهم، وانقلب عملهم النافع ضارًّا، وما كان يرجى من إصلاحهم فسادًا

وإفسادًا.

فعلى الذين اشتركوا في أجزاء هذه الدائرة من المسلمين انخداعًا بما أعلنوه

عنها أن يطالبوهم بالوفاء بما وعدوا به من التعليق على كل مادة، أو مسألة مخالفة

لدين الإسلام وتاريخه وسيرة عظماء رجاله، فإن عادوا إلى ذلك استمروا على

اشتراكهم فيها، وإن لم يعودوا له بالوجه المرضي وجب عليهم شرعًا أن يقطعوا

الاشتراك، وحُرِّم على سائر المسلمين أن يشتروا شيئًا من هذه الأجزاء لئلا يكونوا

من الذين يبذلون أموالهم للصد عن دينهم ونصر أعدائه عليه، إلا من يرد على هذه

الأباطيل بما يُحَذِّر المسلمين منها.

أقول ولا أخشى لائمًا ولا مخالفًا: إن نشر هذا المعجم باللغة العربية كما كتبه

واضعوه بدون تعليق على ما فيه من الأغلاط والمطاعن ومخالفه الحقائق هو أضر

من شر كتب دعاة النصرانية (المبشرين) وصحفهم؛ لأن هذه قلما ينخدع أحد من

عوام المسلمين بما فيها من الباطل، وأما هذا المعجم المسمى بدائرة المعارف

الإسلامية المعزو أكثر ما نقل فيه إلى كتب المسلمين؛ فإنه يخدع أكثر القارئين له

ممن يُعَدُّون من خواص المتعلمين؛ لأنه يقل فيهم من يفرق بين الحق والباطل مما

فيه، ويقل فيهم من يعلم أن مؤلفي هذه الدائرة ممن يتربصون بهم الدوائر {عَلَيْهِمْ

دَائِرَةُ السَّوْءِ} (التوبة: 98) فعسى أن يتدارك المترجمون لها ذلك بمثل هذا

التذكير القلمي الذي لم نكتبه إلا بعد أن كلفنا بعض إخواننا المعاشرين لهم أن ينذرهم

إياه بلسانه ولساننا، ولعلنا نجد فرصة ننشر فيها بعض الشواهد على ما قلنا.

_________

ص: 386

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المطبوعات الحديثة

(مائة حديث وحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

(تأليف محمود بك خاطر، طبع في مطبعة مصر بغاية الإتقان سنة

1352) .

محمود بك خاطر من خيار أدباء مصر نفسًا ولغةً وتصنيفًا له كتاب (مهذب

مختار الصحاح) مطبوع، وكتاب (مختار القاموس) تحت الطبع.

وقد عُني أخيرًا بجمع مائة حديث وحديث من دواوين السنة، وعزا كل واحد

منها إلى أحد مخرِّجيه من أصحابها، وشرحها شرحًا لطيفًا وجيزًا، وطبعها في

مطبعة مصر - وهو مديرها - طبعًا جميلاً، ونشرها بين الناس، فكان وقعها حسنًا

نافعًا؛ لأنها من الحكمة المحمدية التي تكثر الحاجة إليها في هذا العصر كما قال في

بيان غرضه منها: (راعيت في اختيارها تعرضها للمسائل الحيوية، والشؤون

الاجتماعية، مما يهذب الناشئين، ويثقف النابهين، وينبه الغافلين) ولا غرو

فمحمود حسن الاختيار حسن الذوق، محسن متقن لكل ما يعمل بقدر طاقته، وقد

تجلى في هذا الكتاب جمال دينه مع جمال عقله وأدبه وذوقه وإتقان فن الطباعة الذي

تولى فيه إدارة مطبعة من أغنى مطابع مصر أو الشرق، وهي مطبعة بنك مصر.

تفضل صديقي محمود بك خاطر بإهداء الكتاب إليّ في أول عهده بإخراجه من

المطبعة، وقد سرني أن أبطأت في تقريظه حتى أخذ حظه الكبير من تقريظ

الجرائد بأقلام محرريها وغيرهم من الأدباء، ولم أر في أسماء مقرظيه أحدًا من

المشتغلين بعلم الحديث يكفيني الإشارة إلى بعض ما ينتقد على الكتاب مما لا يعلمه

إلا أهل الحديث.

أهم ذلك أن المؤلف صرف وقتًا طويلاً في جمع هذه الأحاديث من دواوين

السنة التي ذكرها، وفي مراجعة شروح بعضها، وكان يغنيه عن ذلك كله أو جله

وعما كتبه في أول الكتاب (ص8) وفي آخره (ص 71-74) من ذكر أسماء

هذه الكتب، وأرقام الصحائف التي نقل الأحاديث منها - كان يغنيه عن ذلك كله أو

جله شرح الجامع الصغير، بما يكون تخريجه للأحاديث أتم، والثقة بها أكمل، مع

موافقتها لاصطلاح أهل الحديث.

أكثر هذه الأحاديث مدونة في الجامع الصغير، وربما توجد كلها في النسخة

التي أضيف إليها ذيله [*] ومؤلفه الجلال السيوطي يعزو كل حديث إلى مخرِّجيه من

أصحاب الكتب الستة وغيرهم، ووضع علامات للصحاح والحسان والضعاف منها

في الغالب، وما فاته من هذا لا يفوت شراحه، فما فائدة تعب المؤلف في قراءة

جامع الترمذي كله، واختيار بضعة عشر حديثًا منه يعزوها إليه وحده، وأهل

الحديث يعلمون أن فيه بعض الأحاديث الضعيفة والمنكرة والشاذة، فعزو الحديث

إليه وحده لا يفيد أنه صحيح ولا حسن، وكذلك سائر الكتب التي نقل عنها ما عدا

الصحيحين، وبعض ما عزاه إلى واحد من هؤلاء قد يكون مرويًّا في أحد

الصحيحين أو كليهما، وقد يكون متفقًا عليه أو مما رواه الجماعة كلهم، ومن المنتقَد

عند أهل الحديث أن ينقل أحد حديثًا ويعزوه إلى أحد مخرِّجيه إلا أن يكون أصحهم

رواية كالشيخين في صحيحيهما، فإن كان فيهما، فيعزى إليهما معًا إن كان لفظها

واحدًا، وإلا اقتصر على البخاري؛ لأنه أصحهما، أو على صاحب اللفظ الذي

يختاره مصرحًا به.

والأستاذ محمود بك يعزو الحديث المتفق عليه إلى واحد ممن لا يتحرون

الصحاح وحدها كالأحاديث الثالث والرابع والسادس والسابع والثامن والتاسع، بل

الحديث السادس رواه الجماعة كلهم، وقد عزاه إلى البخاري وحده، وعزا الرابع

إلى أحمد وحده، وقد رواه معه البخاري ومسلم كلاهما متفق عليه، وعزا التاسع

إلى أبي داود وحده، وهو متفق عليه رواه أحمد والبخاري ومسلم أيضًا، ومثل

هذا كثير في الكتاب.

ومما ينتقَد عليه أنه قال في فاتحة (ص9) : وقد أوردت كل حديث منها

بإسناده إلى من حدَّث به، وهو لم يذكر إسناد شيء منها بالمعنى المعروف عند

المحدِّثين، وهو السند أي: طريق الحديث من رواية الأول كالبخاري مثلاً إلى

الصحابي الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه يعني بالإسناد معناه

اللغوي وهو العزو إلى أصحاب الكتب، فيحسن أن يتذكر هذا وذاك إذا وفقه الله

تعالى لخدمة الأمة بكتاب آخر من مختاراته النافعة، وأن يذكر الكتب الستة

ومؤلفيها بترتيب تواريخهم، لا بترتيب حروف المعجم، وأن لا يذكر مسند أحمد

في الكتب الستة، والأشهر أن السادس منها سنن ابن ماجه، ومنهم من يعد منها

الموطَّأ أو سنن الدارمي دون ابن ماجه.

ومن الغريب أن يخطئ المؤلف في تعريفه وبيانه لكتب الحديث التي نقل عنها

ومؤلفيها (ص10) في اسم صاحب الصحيح الثاني، فيقول: (صحيح أبي الحسن

مسلم بن مسلم والصواب أنه أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، وقل من يذكر

اسم جده) ، ومثله خطؤه في ضبط الترمذي، فقد ضبطه في هذا البيان، وفي عزو

الحديث الأول إليه مشكولاً بضم التاء، وهي مسكورة بالاتفاق.

وافتتح المؤلف الكتاب بمقدمة وجيزة في نسب النبي صلى الله عليه وسلم

وصورته وسيرته جمعت في ورقتين صغيرتين ما لا يستغني مسلم عن معرفته،

والظاهر أنه اعتمد فيها على ما كان علق بحفظه، فلم تأت بما يعهد في لغته من

الدقة، مثال ذلك أنه قال بعد بضعة أسطر من الصفحة الأولى: وعندما بلغ أشده

تولى رعي الغنم بالبادية مع إخوته في الرضاع، وهو صلى الله عليه وسلم قد

رعاها قبل ذلك، ولم يمكث في البادية إلى أن بلغ أشده. وفي الصفحة التي تليها

(وجمع رسول الله عشيرته وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب)

إلخ، والصواب

وبنو المطلب كما هو ظاهر، ولعل الأستاذ ينقح هذه السيرة الشريفة اللطيفة،

ويراعي ما قلنا في الطبعة الثانية لهذا الكتاب، إذ يرجى أن يطبع مرارًا.

صفحات الكتاب من مقدمته إلى نهاية فهرسه 78 صفحة، وثمنه خمسة

قروش صحيحة، ويطلب من مكتبة مصر، فنحث جميع القراء على مطالعته.

***

(كتاب الإسلام كتاب ديني، أخلاقي، أدبي، اجتماعي)

مؤلفه الأستاذ أسعد لطفي أفندي حسن طبع طبعًا جيدًا متقنًا في مطبعة فاروق

بمصر سنة 1350، صفحاته 368 من قطع المنار، ثمن النسخة منه عشرون

قرشًا.

رفعه المؤلف (إلى الله جل وعلا) بمناجاة ودعاء، ثم افتتحه بمقدمة في

الشكوى من فشو الفواحش والمنكرات، والإعراض عن هداية الدين وعلمه لعدم

دراسته في المدارس، ووجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي أقدم

عليه بهذا الكتاب، وإن لم يكن من علماء الدين كما قال، وتلا هذا تمهيد وجيز في

مولد النبي الأعظم وبعثته ورسالته، فدخول على الموضوع بالتعريف بالإسلام

والإيمان بالإجمال، فتفصيل لما يجب الإيمان من صفات الله، والإيمان بملائكته،

وكتبه ورسله بإيراد طوائف من آيات القرآن المجيد مشكولة غير مفسرة في كل

موضوع منها، وفي قصص الرسل عليهم السلام من غير تفسير حتى إنه ذكر في

رسالة يوسف عليه السلام السورة المسماة باسمه كلها؛ ولكنه تكلم فيما يجب لخاتمهم

محمد صلى الله عليه وسلم على إعجاز القرآن وأخلاقه وحكمه النبوية، ثم تكلم في

الزواج والميراث وحقوق النساء، وموضوع الحجاب والسفور الذي عظمت فتنته

في هذه السنين بمصر وغيرها.

ثم انتقل إلى العبادات فبدأ بالصلاة والطهارة، فذكر الضروري من أحكامهما

موافقًا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في المسائل الخلافية، ثم تكلم على الزكاة

والصيام والحج، فذكر الضروري من أحكامها مع الإلمام بحكمها، ولكن عبارته في

بعض هذه الأحكام لم تكن دقيقة كعبارات الفقهاء، فهي لا تخلو من أغلاط معنوية،

ثم ختم الكتاب في النهي عن البدع الفاشية في هذا الزمان، فرسالة أبي الربيع محمد

بن الليث التي كتبها من قِبَل هارون الرشيد إلى قسطنطين ملك الروم يدعوه بها إلى

الإسلام.

وجملة القول: إن الكتاب مفيد، وهو خير من جميع الكتب الكلامية التي

تقرأ في المعاهد الدينية، وعسى أن يُعْنَى بتصحيحه بالدقة التامة في الطبعة

الثانية، ويعلق على آيات القرآن التي فيه تفسيرًا مختصرًا يُفْهَم به معناها في

الجملة.

***

(كتاب الآيات المحمدية)

(تأليف محمد عبد الوهاب عضو جماعة الوعظ والدعوة الإسلامية،

وجمعيات مكارم الأخلاق والهداية الإسلامية والمحافظة على القرآن الحكيم، الطبعة

الأولى، بالمطبعة المتوسطة بمصر سنة 1353)

صنف المصنفون كتبًا كثيرة في موضوع هذا الكتاب من الآيات الشاملة

للمعجزات والإرهاصات وغيرها، منها ما جمعه المحدثون من الروايات في ذلك

من صحيح وضعيف ومنكر وموضوع اعتمادًا على تمييز العلماء بينها من أسانيدها،

ومن أشهرها دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم وللحافظ البيهقي، ومن أجمعها كتاب

الخصائص الكبرى للسيوطي، ومنها كتب لمن بعدهم من الذين يجمعون كل ما

يرونه في الكتب من مختصر ومطول.

وقد اختار الأستاذ الفاضل محمد أفندي عبد الوهاب من موظفي وزارة الحربية

طائفة من هذه الآيات نقلها كما قال من الصحيحين، وتيسير الوصول، والسيرة

الحلبية، وسيرة ابن هشام، وزاد المعاد، والجواب الصحيح ونور اليقين؛ ولكنه

ينقل عن غيرها بتعيين لما ينقل عنه كدلائل النبوة، وبدون تعيين، ويذكر بعض

الآيات بدون عزو إلى كتاب.

وكان قد اقتصر في المقدمة على ذكر النقل من الصحيحين والسيرتين، ثم

زاد عليهما في خاتمته ما ذكرنا من الكتب، وقد علمت أنه زاد على كل ما ذكره

فيها.

واعتذر في كلمته الختامية عن نقل ما لم يصح عن المحدثين من تلك

المعجزات بأن في الصحاح ما يزيل استبعاد وقوعها؛ ولكن ينبغي أن يكون المانع

من نقل ما لا يصح أنه لا يصح، لا أنه مستبعد، فإذا نقل وجب أن يبين درجته

عند إيراده، واستغنى المؤلف عن هذا باعتذاره عنه، وهو أقل ما يجب.

وقد جعل المؤلف ربح هذا الكتاب، وهو ما يزيد من ثمنه على نفقة طبعته

إعانة لفقراء الحجاز فكل من يشتري منه شيئًا يكون شريكًا له في هذه الصدقة،

فنحث قراء المنار على ذلك، وصفحات الكتاب 158، وهو يُطلب من مؤلفه في

منزله عدد 13 حارة عنبر شارع حيصان الموصلي بالدرب الأحمر بمصر.

_________

(*) طبع الجامع الصغير ممزوجًا بذيله هذا عن نسخة تولى مزجها الشيخ يوسف النبهاني المشهور بنشر الخرافات والمنكرات والموضوعات، فخان الله ورسوله ومؤلف الجامع بحذفه منها علامات الصحة والحسن والضعف؛ ليعتقد قراؤها الذين يقل أن يوجد فيهم محدث بأن كل أحاديثها معتمدة يجب على المسلم اعتقاد ما فيها، والاعتماد عليها في العمل على عللها ومنكراتها فليحذر هذا من اطلع عليها.

ص: 388

الكاتب: محمد رشيد رضا

العبرة بسيرة الملك فيصل

رحمه الله تعالى

(9)

مسألة أجنبية عن الترجمة

ولكنها من صميم القضية السورية والأمة العربية

يوم الجمعة أول شوال 18 يونيو

كنا قررنا أن يجتمع ديوان رياسة المؤتمر - بعد تعطيل الجلسات لأجل العيد

- أمس فجاء الشيخ عبد القادر الخطيب مبكرًا، فتكلمت معه في الخلل

والاضطراب الذي حصل أخيرًا في المؤتمر، فشوَّه سمعته الحسنة، وفي وجوب

التعاون على تلافيه، ولما جاء عزت أفندي دروزه (السكرتير) وصلاح الدين

أفندي (من الأعضاء) قال الخطيب - في وجوهما -: إن أعضاء إدارة المؤتمر

مقصرون في حقوق الرئيس؛ إذ تركوه ولم يساعدوه على حفظ النظام حسب

القانون.

فاعتذر عزت أفندي دروزه - عن نفسه - بأنه ترك القعود حول الرئيس

لأجل البحث في مواد القانون، فَذَكَّرَهم الخطيب بما كان من معاونتهم للرئيس

السابق هاشم بك الأتاسي اهـ.

ولما اجتمع ديوان الرياسة أول مرة بعد العيد، وكان ذلك في 6 شوال (23

يونيو) صرح صلاح الدين أفندي بأن أعضاء الإدارة قصَّروا في معاضدة الرئيس

عمدًا؛ لأنه من العلماء! وقد كتبت كلمة صلاح الدين أفندي الحرة في أعلى صفحة

مذكرتي من ذلك اليوم، وذكرتها هنا لمناسبتها لما قبلها.

وأقول الآن: إن عزت أفندي دروزه من أركان حزبنا، وكان يلازم كرسي

رئيس المؤتمر، ويقوم معه بأهم أعمال حفظ النظام وغيرها؛ ولكنه صار يتركني

وينزل من مكانه في منصة الرياسة بالقرب مني ويجلس مع الأعضاء، وأما الشيخ

عبد القادر الخطيب فكان معارضًا لحزبنا من جهة، وكان بيني وبينه غاية التباين

في الأفكار والإصلاح الديني؛ وإنما أظهر نصري في هذه المسألة أو إنكارها علنًا؛

لأنه كان يعتقد أن الأفندية من حزبنا قد عز عليهم أن يكون رئيس المؤتمر عالمًا

دينيًّا معممًا، وأحبوا أو أرادوا أن يظهر عجزه عن القيام بجميع حقوق الرياسة،

فليعتبر المسلم بهذا، ففيه عبر كثيرة، ولا أزيد عليه في هذا الاستطراد شيئًا! ! ! !

***

أحاديث عيد الفطر في دمشق

(يوم السبت 2 شوال سنة 1338، الموافق 19 يونيه (حزيران)

سنة 1920)

اجتمعنا في الليلة البارحة في دار جميل مردم بك - على موعد سابق - أنا

وصاحب الدار وناظر الخارجية (الدكتور عبد الرحمن شهبندر) وناظر الحربية

(يوسف بك العظمة) والشيخ كامل قصاب (رئيس اللجنة الوطنية) وخالد أفندي

الحكيم، وقد تأخرت عن الموعد لكثرة زائري العيد حتى بعد العشاء، وموضوع

الاجتماع المفاوضة في الوفد الذي يُرْسَل إلى أوربة لأجل القضية السورية.

سأل وزير الخارجية عن القاعدة التي يبني عليها الوفد مطالبه؟

قلت: لا قاعدة عندنا إلا قرار المؤتمر السوري.

قال الوزير: تعني الاستقلال التام الناجز، ووحدة سورية بدخول فلسطين

ولبنان فيها على أن يكون للبنان الخيار في شكل إدارته بدون تدخل أجنبي؟

قلت: نعم ، ووافقني الأستاذ الشيخ كامل

قال الوزير: إن معنى هذا رفض قرار مؤتمر (سان ريمو) .

قال الأستاذ الشيخ كامل: فليكن. قال: إذًا لا حاجة إلى السفر.

وبعد بحث (دار بين الحاضرين كلهم) قال وزير الحربية: إنه بلغه عن ثقة أن

مؤتمر سان ريمو لم يقرر في شأننا شيئًا قطعيًّا.

قال وزير الخارجية: أنا لا أعتد بهذه الإشاعات، عندنا شيء قطعي هو بلاغ

اللورد اللنبي عن حكومته أن المؤتمر قرر الاعتراف باستقلال سورية والعراق

على قاعدة الانتداب، وأن فرنسة انتدبت لسورية، وإنكلترة للعراق وفلسطين،

فإما أن نرفض هذا القرار ولا حاجة حينئذ للوفد، وإما أن نعترف به، ونبحث

معهم في معنى الانتداب، ونطالب ألا يمس سلطاننا العربي.

قلت: بل يحتج الوفد على القرار بمخالفته للمادة 22 من معاهدة فرسايل ويبني

مطالبه على هذه المادة. وفصلت ذلك، ثم انصرفنا على عزم العودة إلى البحث في

جلسة أخرى (انظر مذكرة بعد غد)

يوم الإثنين 4 شوال 21 يونيو:

اجتمعت البارحة برئيس الوزارة (هاشم بك الأتاسي) وصباح اليوم بالملك

فيصل، وهو الاجتماع الأول بعد عودته من حلب، وتكلمنا في مسألة الوهابية.

***

حديث مع سمو الأمير زيد في مسألتين

(1)

ضعف الحكومة السورية وتدخل الملك فيصل:

لما زارني الأمير زيد زيارة العيد تكلم معي في مسألة إدارة الحكومة السورية،

فذكرت له بعض ما يجب لتلافي ضعفها، فدعاني إلى الغداء معه أمس - وكان

الحديث قبله ثاني يوم العيد - لنتوسع في الكلام على انفراد فأجبت، وكان مما

اعترف به فساد كثير من رجال البلاط (حاشية الملك) وقال: إنه يجب تنظيفه من

مثل الشيخ (ف. خ) واعتذر عن تدخل الملك في الأعمال لضعف الحكومة

وعجزها.

قلت: إن الواجب عليه إصلاحها لا التصرف الشخصي الذي يزيدها خللاً [1]

(2)

مسألة العداء بين الهاشميين وابن سعود:

وأخبرني (الأمير) بعودة الرسول (

شلاش) الذي ذهب بكتابي وكتاب

الملك إلى ابن سعود، وقال: إن ابن الرشيد يود الاتفاق مع شرفاء مكة، وإن ابن

سعود مراوغ - أو ما هذا معناه أو مؤداه.

ثم إن رئيس الأمناء (إحسان بك الجابري) أطلعني في المساء - أي: مساء

أمس (3 شوال) على كتاب ابن سعود للملك فيصل، وهو ودي، وعلى ملحق

سياسي له بغير إمضاء ولا ختم - كعادته - ينحي فيه باللائمة على الملك حسين،

ويقول: إنه لا يود الاتفاق.

ولكن الملك فيصلاً يتوقع زحف الوهابية على الحجاز، وطلب من الوزارة

جيشًا سوريًّا لحماية المدينة المنورة منهم، وإلا ترك المُلك وذهب لقتالهم مع أبيه.

***

الوحدة العربية

إيضاح لمسألتها بيني وبين الملك فيصل

إنني على قلة عنايتي بكتابة المذاكرات قد كتبت منها ما أهم ما دار بيني وبين

الملك فيصل لأجل الرجوع إليه إذا استمر التعاون بيننا على العمل للقضيتين:

قضية الوحدة العربية، وقضية الجامعة الإسلامية اللتين لا تقوم إحداها إلا بالأخرى،

ولم أقصد بكتابتها أن تكون مادة لكتابة تاريخ لهما؛ لأن وقتي لا يتسع لذلك مع ما

أقصده من الإصلاح الإسلامي العام.

ومما أزيده من الإيضاح على ما كتبت في هذه المذكرة أن الملك فيصلاً فتح

جواب ابن سعود الذي أرسله إليّ مع الرسول (شلاش) الذي حمل الكتابين إليه مع

إبقاء ظرفه سليمًا، وأرسله إليّ ملصقًا؛ ولكن ضعف صمغ الظرف عند فتحه

بعرضه على بخار الماء، فعلمت أنه فُتِحَ قبل إرساله إليّ ولكنني تجاهلت ذلك، وهو

جواب عن كتابي الأول الذي كتبته في 27 جمادى الآخرة سنة 1338، وأرسل في

أوائل رجب لا الكتاب الثاني الذي كتبته في اليوم الثالث من رمضان، وأخبرني

الملك على مائدة الإفطار مساء 12 منه أنه أرسله مع الوفد الذي كان قرر إرساله

إلى الأمير ابن سعود، وذكرته في مذكرة ذلك اليوم، وأنه تبين لي بعد أنه لم

يرسله، وما أدري متى أرسله بعد ذلك.

وكان الكتاب الأول مطولاً ذكَّرته فيه بما كنت كتبته إليه عن مشروعي للوحدة

العربية، وأرسلته مفصلاً إلى إمام اليمن ومجملاً إلى سموه وإلى السيد محمد

الإدريسي الكبير، وبما حال من التواصل بيننا في أثناء الحرب العامة؛ إذ أرسلت

إليه رسولاً ليعرض له رأيي فيها، وفي القضية العربية الكبرى.

ثم قلت فيه: (وأكتفي الآن بجنوحكم للسلم مع الحجاز، وقبولكم دعوة الوحدة

العربية على القاعدة التي بيناها في هذا الكتاب، ومتى جاءني خطكم مصرحًا بهذا،

وجاء خط ملك الحجاز لولده الأمير فيصل بمثله نشرع في وضع قواعد الاتفاق

العربي العام

) إلخ.

وذكرت له فيه أنني مرسل إياه مع الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار (وهو

خير ثقة من أهل العلم والصلاح هنا، فثقوا به فيما يبلغكم عني ويبلغني عنكم،

وإن كان غير متمرس بالسياسة على أنني لقنته ما لا بد له من العلم به من الأحوال

الحاضرة) .

وقد سافر رسولي الأستاذ البيطار مع رسول الملك رمضان شلاش؛ ولكنه

عرض له عند حدود الحجاز ما أعجزه عن مواصلة السفر إلى نجد فأعطى كتابي

لرفيقه ، وأرسلته الحكومة إلى المدينة المنورة، ومنها عاد إلى دمشق.

وقد كان جواب الأمير ابن سعود لي ثناء علي، وإطراء فوق المعهود من

أسلوب ابن سعود في كتبه ورسائله لحكمة ظاهرة، وفيه استحسان للدعوة إلى

الاتفاق والاتحاد بالإجمال، وأنه يحتاج إلى الدرس، وأنه سيخبرني بما يتراءى له

من التفصيل، وهو مختوم بخاتمه المعروف، وفيه ملحق وجيز بخطه دون ختمه

قال فيه: (أيها الأستاذ الأكرم، جميع ما ذكرتم في كتابكم حق ومعقول، ولكن ليس

بخافٍ على سيادتكم أن الأقوال واحدة والأفعال مختلفة، كل تابع هواه) ، ثم ذكر

أن رسولي لو وصل إليه لعرَّفه كل ما في ضميره، وأنه يستحسن أن أرسل إليه

رسولاً عاقلاً دينًا بصفة تاجر من طريق بمبي (الهند) ليعرِّفه جميع ما في الخاطر،

وقد أعطيته للملك فيصل مع ملحقه لاعتقادي أنه قرأهما قبلي، ولولا هذا لكان

مقتضى الأمانة والمصلحة أن أكتم الملحق عنه مع بقاء السعي والتوسل للثقة بينهما،

ومما يدل على أنه كان قرأه أنه لم يطل النظر فيه، بل أعاده إلي بدون تريث ولا

بطء.

وقد اشتد سخطه بعد عودة الرسول من نجد على ابن سعود، وخوفه من زحفه

على الحجاز، وانقطع بحثنا في مسألة الوحدة العربية أيامًا.

وأما كتابي الثاني في أوائل رمضان لسموه فهو مبني على قبول الملك حسين

للاتفاق معه الذي عرضه عليه ولده الملك فيصل بالاتفاق معي، وقد كتبته بعد

وصول جوابه عن الأول كما عُلِمَ مما تقدم.

وأما طلب الملك فيصل من الوزارة أن تجهز جيشًا سوريًّا لقتال ابن سعود كما

يوجب عليه والده، فقد أجابته الوزارة عنه جوابًا سلبيًّا، وأن كل ما تسمح به هو

أن يتطوع من شاء من السوريين لهذه المساعدة بشرط أن تكون نفقتهم على حكومة

الحجاز، وأن تكون حكومة سورية على الحياد؛ ولكن أخطأ الظن، ولم يزحف ابن

سعود بالجيش الوهابي على الحجاز في ذلك العهد، وعدنا إلى سعينا للوحدة العربية

إلى أن أنذره الجنرال غورو الزحف على سورية، وأذكر هنا آخر كلمة لي في

مذكراتي بدمشق في هذه المسألة بعد تمهيد وجيز وهو:

كان اقترح عليّ الملك فيصل أن أكتب له القواعد أو الأسس التي ارتأيت أن

تُبْنَى عليها دعوة أمراء جزيرة العرب للمحالفة لأجل المناقشة فيها قبل تبييضها

وكتابة الدعوة، فكتبتها، ولما عرضت فكرة الخوف من زحف الوهابية على الحجاز

امتنعت من إطلاعه عليها، حتى إذا انجلى ذلك العارض عرضتها عليه، فقال: دعها

لي حتى أتأمل فيها. وبعد أن تأمل فيها مرارًا قال لي: إنني موافق عليها كلها، لم

أستطع زيادة كلمة فيها، ولا نقص كلمة منها. وهاك الكلمة الوجيزة التي كتبتها في

مذكرتي عنها:

يوم الأحد 17 شوال، 4 يوليو (تموز) :

أطلعت الملك فيصل على البرنامج الذي رأيت جعله أساسًا لدعوة أمراء

جزيرة العرب للاتفاق والحلاف فأعجبه جدًّا، بل أُعْجب به جدًّا، وقال: أنا أوافق

عليه أنا وإخوتي علي وعبد الله وزيد وكل ذي كلمة وفهم في مكة، ولا يمكن أن

يغلب سيدنا - يعني والده - علينا كلنا ويرفضه، بل نتعهد بقبوله إياه. وتواعدنا

على المذاكرة التفصيلية فيه غدًا، ووعدني بأن لا يُطْلِع عليه أحدًا قط، ولا إحسان

الجابري اهـ.

ولكنني في ضحوة اليوم التالي (الإثنين) حلَّفت إحسان بك يمين جمعية

الجامعة العربية، وكتبت فيه أنه سألني بعد القسم، هل يحنث باليمين من يوافق

على احتلال الأجانب بعض البلاد لإنقاذ البعض الآخر؟ قلت: نعم.

(وثم صارت ثقتي بإحسان بك أقوى من ثقتي بجلالته في مسألة الوحدة

العربية؛ لأنها عند إحسان مطلقة، وعند فيصل مقيدة بمصلحته ومصلحة والده)

***

عودة إلى مسألة الوفد السوري

يوم الثلاثاء 5 شوال 22 يونيو:

اتفقت أمس مع وزير الخارجية بعد كلام في مهمة الوفد السوري الذي سيسافر

إلى أوربة على الاجتماع ليلاً في دار مستشارها جميل مردم بك لبسط الحديث

وتقرير ما نراه، فاجتمعنا البارحة وكان ثالثنا - غير صاحب الدار - وزير

الحربية يوسف بك العظمة، ورابعنا وزير المعارف ساطع بك الحصري، وخامسنا

خالد أفندي الحكيم، ولم يبلغ الشيخ كامل موعد الاجتماع.

وبعد البحث اتفقوا على رأيي الذي كررته، وهو أن تكون قاعدة مطالب الوفد

قرار المؤتمر السوري، والاحتجاج على قرار مؤتمر سان ريمو لمخالفته للمادة 22

من معاهدة فرسايل، والبحث في معنى المساعدة الاستشارية المقررة في تلك المادة

واشتراطه أن لا تمس الاستقلال التام، وأن يكون الرأي فيها للأمة، وأن لا يقر

الوفد على شيء نهائي، بل يحمل ما يتقرر إلى البلاد ويعرضه على مؤتمرها

النيابي - كذا ولعل المراد مجلسها النيابي إذ كان مقررًا - ليقرره أو يرفضه أو

يطلب تعديله.

***

حالة الحكومة السورية وملكها وشعبها

يوم الأربعاء 6 شوال، 22 يونيو:

تكلمت في جلسة ليلة الثلاثاء مع بعض الوزراء في مسألة الاجتماعات السرية

التي يعقدها بعض وجهاء دمشق ومعمميها الموالين لفرنسة وزعماؤهم رضا باشا

الركابي والشيخ عبد المحسن الأسطواني والشيخ محمود أبو الشامات والشيخ أسعد

الصاحب والشيخ أديب تقي الدين والشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ عبد الحميد

العطار و....، وقد بلغ الحكومة أنهم قرروا إرسال وفد إلى فرنسة ليطلب انتدابها

لجميع سورية، وألقى الحاضرون التبعة في إهمال ما يجب من تربيتهم على ناظر

الداخلية (رضا بك الصلح) فقلت: إن مثل هذا العمل يجب أن يكون بقرار مجلس

الوزراء لا بأمر وزير الداخلية وحده؛ لأنه يتعلق بالسياسة والإدارة العامة، ولا يعد

من الوقائع الموضعية.

واليوم زارني وزير الداخلية، وأخبرني بضغط زملائه عليه، وأنه رفع

استقالته إلى الملك، وطلب مني تعضيده، فدل هذا على أنه يود أن لا يقبل الملك

استقالته ليكون مركز الوزارة قويًّا أمام يوسف بك العظمة وزير الحربية وأعوانه

كوزير المعارف ورئيسهم، وسبب هذا الشقاق أن رضا بك الصلح يرى أنه أحق

برياسة الوزارة، ويميل إلى كبراء الشام المؤسسين للحزب الوطني - لأنه

أرستقراطي مثلهم - ولا يوافق زملاءه المخالفين على الضغط عليهم، ولا على

مساعدة العصابات في جبال عامل ولا في غيره، وهو المصيب في هذه المسألة؛

فإن العصابات الموضعية تخرب البلاد بأيديها وأيدي السلطة الفرنسية، وتسفك

الدماء بدون نتيجة مفيدة، وإنما يُعْقَل الاستعانة بالعصابات إن وقعت بشرط أن

تكون عامة (لا موضعية) كما قلت للملك فيصل ولغيره مرارًا، وقد طلبوا منه -

أي: وزير الداخلية - عزل رئيس البلدية الذي طعنت فيه اللجنة الوطنية وغيرها

قولاً وكتابة، فلم يقبل فاشتد النفور بينه وبين المسلمين (كذا) من أعضاء الوزارة

فاستقال وسأسعى لعدم قبول استقالته اهـ.

يوم الجمعة 8 شوال، 25 يونيو:

كلمت رئيس أمناء الملك إحسان بك الجابري في مسألة استقالة رضا بك

الصلح فوافقني على السعي لعدم قبولها، وقال: إنها لا تزال في جيبه لم يقدمها

لجلالة الملك لعل رضا بك يستردها اهـ[2] .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كان الحديث بيني وبين الأمير زيد في ضعف الحكومة واستبداد الملك فيصل فيها طويلاً صريحًا، ملأني إعجابًا بحريته وذكائه، وقليلٌ ما كتبته يشير إلى كثيره.

(2)

كان بيني وبين رضا بك الصلح رحمه الله تعالى صداقة ومودة شخصية، وكنت أحب المحافظة عليه في الوزارة لمكانة أسرته، وتمثيله لبيروت في حكومة سورية، وأما وجهاء دمشق المشار إليهم فلم يكن بيني وبين أحد منهم مودة ولا عداوة إلا علي رضا باشا الركابي، كنا صديقين، وقد ذكرنا ما وقع بيننا من الفتور في قلب المودة.

ص: 393

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

المرأة البرزة وخطابتها على الرجال مكشوفة الوجه

(س 23) من حضرة صاحب الإمضاء في (مجالغكا - جاوة)

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى حضرة مولاي قدوة العلماء الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا

صاحب مجلة المنار - نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز - آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد، فما دام قولكم في النساء المتبرزات كالخطبة أمام الرجال مكشوفة

الوجه، فإن جوزتم، فما مراد قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} (الأحزاب: 28) الآية، وقوله تعالى:] وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [

إلى {تُفْلِحُونَ} (النور: 31) أفتونا يا سيدي بيانًا شافيًا فلكم الشكر منا، ومن الله

الأجر والثواب. والسلام.

...

...

...

...

محبكم المخلص

...

...

...

...

عبد الحليم

...

...

...

...

... رئيس هيئة المركزية لشركة العلماء

...

(23)

المرأة البرزة تخطب الرجال سافرة:

(ج) قوله في السؤال المتبرزات غلط أو محرف أصله البرزات، فالتبرز

الخروج إلى البراز (بالفتح) وهو الفضاء الواسع، وغلب استعماله في قضاء

الحاجة، والبرزة (كضخمة) معناها المرأة البارزة المحاسن، وغلب استعماله عند

العرب والمولدين بما نقله أصحاب المعاجم عن رواة اللغة كقول صاحب لسان

العرب: قال ابن الأعرابي: قال الزبيري: البرزة من النساء التي ليست بالمتزايلة

التي تزايلك بوجهها تستره عنك وتنكب إلى الأرض، والمخرمقة التي لا تتكلم إن

كُلِّمت، وقيل: امرأة برزة متجالة تبرز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون عنها، وفي

حديث أم معبد: وكانت امرأة برزة تختبئ بفناء قبتها، أبو عبيد: البرزة من النساء

الجليلة التي تظهر للناس ويجلس إليها القوم، وامرأة برزة موثوق برأيها وعفافها،

ويقال: امرأة برزة إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب، وهي مع ذلك عفيفة

عاقلة تجلس إلى الناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور والخروج اهـ.

وأم معبد التي ذكرها هي الخزاعية الصحابية التي مر بها النبي صلى الله

عليه وسلم، وصاحبه الصدِّيق رضي الله عنه في حديث الهجرة في طريقهما من

مكة إلى المدينة ومعهما خادمهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهما عبد الله

بن أريقط - وكان مشركًا ثم أسلم - فسألوها عن لحم وتمر ليشتروا منها، فاعتذرت

بالقحط وتمنت لو كان عندها قراء تضيفهما به، وكان بجانب خيمتها شاة عجفاء لا

تستطيع الخروج إلى المرعى، فاستأذنها النبي صلى الله عليه وسلم بحلبها فقالت له:

احلبها إن وجدت فيها حلبًا، فمسح ضرعها، ودعا الله تعالى، وحلبها فدرت فسقى

أم معبد، ثم من معه، ثم شرب على سنته إذ قال:(ساقي القوم آخرهم شربًا)[1]

ثم حلب وأبقى عندها اللبن لتسقي منه أبا معبد عند عودته، وقصتها معروفة في

كتب الحديث والسير، واسمها (عاتكة بنت خالد الخزاعي) قيل: كانت مسلمة

قبل مرور النبي صلى الله عليه وسلم بها، وقيل: أسلمت بعد ذلك، وعاشت إلى

عام الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه.

فإن كان مراد السائل من النساء البرزات، فلا حرج في خطبتهن سافرات فقد

كان كثير من نساء الصحابة ومن بعدهم برزات يحضرن صلاة الجماعة ومجالس

العلم، ويخطبن الرجال، ويروين الحديث، وإن كان مراده بروز النساء للرجال

كيفما كانت حالتهن وصفاتهن ومخالطتهن لهم، فالحكم يختلف باختلاف ذلك كما هو

معروف، وإننا لنرى من بعض نساء مصر في بروزهن ما يتبرأ منه الإسلام،

وكل دين وأدب وشرف.

لم يرد في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نص في

تحريم ما ذكرنا، ولا في سيرة نساء السلف الصالح شيء من منع المرأة أن تقف

مكشوفة الوجه تخطب على الرجال فيما هو حق ومصلحة، وقد بيَّنا في كتابنا

(نداء الجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) تحت عنوان (آداب المرأة

وفضائلها) جملة ما ورد في ستر النساء وملابسهن ومخالطتهن للرجال ومسألة

حجب نساء الأمصار، وفسرنا فيه الآيتين الكريمتين اللتين ذُكِرَتا في السؤال

وغيرهما بما يعلم منه جوابه مفصلاً، فليراجعها الرئيس الفاضل في المسائل

54 -

57 من صفحة 106 إلى 113 منه إن لم يكن قرأها بعد إرسال سؤاله إلينا،

فإن بقي له بعد ذلك في الموضوع ما يبغي بيانه، فليتفضل بالسؤال عنه.

* * *

أسئلة عن أحكام القصاص في القتل والصيال والقمار

(س24 - 27) من صاحب الإمضاء من صولو بجاوة.

الحمد لله وحده.

إلى حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية، وخادم الإسلام، عزيزي

الأستاذ السيد محمد رشيد رضا محرر مجلة المنار الغراء بمصر القاهرة، دام إجلاله.

بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فأرجو من فضيلتكم أن تفتونا على صفحات مجلتكم المنار الغراء عن

ما يلي لتكتسب الثواب في الدنيا والآخرة، وتهدوننا إلى سواء الصراط، آجركم الله

وجازاكم بالخير الجزيل في الأولى والآخرة آمين.

(1)

كيفية حكم القصاص في الشريعة المحمدية السمحة، ولا سيما في

القتل الشائع ما بين المسلمين البيِّن؟ !

(2)

ما حكم الشريعة المحمدية في شخص يدين بدين الإسلام تَعَرَّض مسلمًا

آخر ماشيًا في سبيله، وسفك دمه بغير حق؟

(3)

هل تحكم الشريعة المحمدية بالإعدام على المعتدي السافك لدم أخيه

المسلم أم لا؟

(4)

من دافع عن ماله وروحه، وحان القضاء والقدر وسفك دم المسلم

المعتدي عليه هل تحكم الشريعة المحمدية عليه بالإعدام أم تبرئه لأنه غير قاصد

الشر، بل قَصَدَهُ المجرمُ بالشر؟ وكيفية إجراء الحكم الشرعي على المجرم، هل

يجازيه ربه في الآخرة بخير أم بشر؟

(5)

ما قولكم في اليانصيب (اللتري) الشائع في جميع العالم: هل هو حرام

أم مكروه أم جائز؛ فإننا نرى كثيرًا من إخواننا المسلمين يشترون تذكرة اليانصيب

بثمن 11 ربية تقريبًا آملين أن يحصلوا مائة وخمسين ألف ربية، فمنهم من يحصل

ذلك المبلغ، ومنهم من يتأسف على مبلغه الذي يهديه لمصلحة اليانصيب بلا فائدة

تعود عليه، أفيدونا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

...

... السائل

...

...

...

أفندي البحري

...

...

...

بصولو جاوة

(ج) أقول قبل الجواب: إن السائل أعطاني لقبين أولهما غير صحيح؛ وإنما

هو لقب ثابت لموظف رسمي من قبل الحكومة المصرية، وصاحبه في هذا العهد

الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم فهو مفتي الديار المصرية، ولعل السائل

يظن أن كل من يفتي في مصر يصح أن يوصف بهذا اللقب.

ثم إن الأسئلة الثلاثة الأولى يصح أن تجعل سؤالين مقترنين، وهو حكم

قصاص القتل وتنفيذه فنلخصها كما فهمناه من عبارته، وإن لم نعرف سبب السؤال

ونجيب عنه.

***

(24 و25) حكم قتل المسلم لأخيه عمدًا وكيفية تنفيذ القصاص:

أما حكم قتل العمد بغير حق، فهو القود بأن يقتل القاتل قصاصًا إلا أن يعفو

عنه أولياء الدم أو بعضهم؛ وإنما يقتل بحكم ولي الأمر، وكيفية القتل التي كانت

معهودة في عصر التشريع الديني هي قطع الرأس بالسيف، ومن مباحث الاجتهاد

فيها هل هي واجبة دينًا يمتنع أن يستبدل بها ما يكون أسهل منها وأقل تعذيبًا وإيلامًا

للمقتول كالشنق والقتل بالكهرباء؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب

الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة)

الحديث، فالقتلة والذبحة في الحديث بكسر أولهما اسم لكيفية القتل أو الذبح، وهو

يدل على وجوب ترجيح أحسن الكيفيات، والحديث رواه مسلم وأصحاب السنن عن

شداد بن أوس.

(26)

حكم الصِّيال إذا قتل الصائل:

إن دفاع المرء عن نفسه وماله وزوجه وأولاده إذا اعتدى عليه معتدٍ مشروعٌ،

ويسمى هذا الاعتداء الصيال، وأحكامه مبسوطة في كتب الفقه، والأصل فيه أن

يدافع الصائل بالأخف فالأخف، فلا ينتقل من وسيلة لدفعه إلى وسيلة أشد منها إلا

إذا كانت غير كافية، فإن أفضى بهذه الصفة إلى قتله كان دمه مهدرًا لا قصاص فيه

ولا دية ولا كفارة كما نص عليه في مذهب الشافعية الذي عليه أهل جاوة، والأصل

فيه حديث النسائي عن مخارق قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال: الرجل يأتيني فيأخذ مالي، قال:(ذَكِّره بالله) قال: فإن لم يذكر؟ قال:

(فاستعن عليه من حولك من المسلمين) قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟

قال: (فاستعن عليه بالسلطان) قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: (قاتل دون

مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك) .

وروى أصحاب السنن الثلاثة من حديث سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: (من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد،

ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) والمراد بدون ما ذكر

الدفاع عنه.

وفي صحيح مسلم أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله

أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ ، قال:(فلا تعطه مالك)، قال: أرأيت إن

قاتلني؟ قال: (قاتله)، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد)، قال:

أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار) .

(27)

حكم اليانصيب:

اليانصيب نوع من أنواع الميسر بيناه في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ

الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) الآية في الطبعة الثانية من الجزء الثاني من

تفسير المنار (ص 329 و 330 منه) بعد بيان ميسر العرب، وقلنا: إنه لا يظهر

فيه كل ما وُصِفَ به ميسر العرب مع الخمر في آيات سورة المائدة وهذا نصه:

(اليانصيب) هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الجمعيات

أو الشركات من ألوف من الناس كمائة ألف دينار (جنيه) مثلاً، تجعل جزءًا

كبيرًا كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلاً، يُقَسَّم بينهم بطريقة

الميسر وتأخذ هي الباقي، ذلك بأن تطبع أوراقًا صغيرة كأنواط المصارف المالية

(بنك نوت) تسمى أوراق (اليانصيب) تجعل ثمن كل واحدة منها دينارًا واحدًا مثلاً

يطبع عليها، وتجعل العشرة الآلاف التي تعطى ربحًا لمشتريي هذه الأوراق مائة

سهم أو نصيب تُعْرَف بالأرقام العددية، وتسمى النمر (جمع نمرة) ويطبع على

الورقة المشتراة عددها، وما تربحه كل واحدة من العشر الأوائل منها، وتجعل

باقيها للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه

السحب، ذلك بأنهم يتخذون قطعًا صغيرة من المعدن يُنْقَش في كل واحدة منها عدد

من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحد إلى مائة ألف، إذا كان المبيع من الأوراق

مائة ألف، ويضعونها في وعاء من المعدن كري الشكل كخريطة الأزلام (القداح)

التي بيناها آنفًا، فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر، فإذا كان

يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولاً سمي النمرة الأولى مهما

يكن عددها هي التي يعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند

العرب، وما خرج منها ثانيًا سمي النمرة الثانية، ويعطى حاملها النصيب الذي يلي

الأول، حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده، وكان الباقي

خاسرًا.

وأما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة

والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون

عند السحب، وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه، ولا يعملون له

عملاً آخر، فيشغلهم عن الصلاة، أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة، ولا

يعرف الخاسر منهم فردًا أو أفراد أكلوا ماله؛ فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب

وقمار الموائد ونحوه، وكثيرًا ما يجعل (اليانصيب) لمصلحة عامة كإنشاء

المستشفيات والمدارس الخيرية وإعانة الفقراء، أو مصلحة دولية ولا سيما الإعانات

الحربية، والحكومات التي تحرم القمار تبيح (اليانصيب) الخاص بالأعمال

الخيرية العامة أو الدولية، ولكن فيه مضار القمار الأخرى وأظهرها أنه طريق

لأكل أموال الناس بالباطل، أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، وهذا محرم

بنص القرآن كما تقدم في محله، وقد يقال: إن المال الذي يبنى به مستشفى لمعالجة

المرضى، أو مدرسة لتعليم أولاد الفقراء، أو ملجأ لتربية اللقطاء لا يظهر فيه

معنى أكل أموال الناس بالباطل، إلا في آخذي ربح النمر الرابحة دون آخذي بقية

المال من جمعية أو حكومة، وهو على كل حال ليس فيه عداوة ولا بغضاء لأحد

معين كالذي كان يغرم ثمن الجزور عند العرب، وليس فيه صد عن ذكر الله وعن

الصلاة.

ومن مضرات الميسر ما نبه إليه الأستاذ الإمام ولم يسبقه إليه أحد من

المفسرين، وهو إفساد التربية بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب

الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية،

وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان

العمران.

ومنها وهو أشهرها تخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في

ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز، وانحصرت ثروتها في

رجل أضاعها في ليلة واحدة، فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن

تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك اهـ.

فإذا ثبت أن هذا النوع لا يدخل في عموم الميسر المحرم في القرآن فلا يعد

من الحرام القطعي بالنص، ويظهر هذا إن فعلته حكومة أو جمعية خيرية لا تأكل

من ربحه شيئًا؛ ولكن شراءه قد يكون ذريعة لغيره، فينهى عنه من هذا الباب.

* * *

اليانصيب وتربية الوحوش وغيرها في الأقفاص

(س28و29) من صاحب الإمضاء في سميس برنيو (جاوة)

مولاي الأستاذ العلامة الجليل، والمصلح الكبير، صاحب المنار المنير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(أما بعد) فأرجو من فضلكم الجواب عن الأسئلة الآتية وهي:

(1)

إن حكومتنا الهولاندية قد تعمل بعض الأعمال الكبيرة كبناء

المستشفيات والملاجئ أو إعانة المنكوبين بما يسمونه لوتراي (يانصيب) ، وقومته

بنحو مائة ألف روبية، وجعلتها عشرة آلاف سهم (لوت) وتبيع كل سهم

منها بعشر روبيات وتأخذ من ثمن هذه الأسهم خمسين ألفًا مثلاً لبناء

المستشفيات والملاجئ أو إعانة المنكوبين، ثم تقسم الخمسين إلى نحو عشرين

قسمًا تُدْفَع للذين اشتروا هذه الأسهم بطريق القرعة بينهم فمن خرجت له فله نصيب

منها.

فهل يجوز شراء هذا السهم (اللوت) وأخذ ربحه أم لا؟ وهل يجوز لنا طلب

شيء من الخمسين التي أخذتها الحكومة تنفقه على مدرسة إسلامية أو غيرها من

مصالح المسلمين؟ وهل يجوز أن نعمل مثل هذا العمل (لوتري) بإذن الحكومة

لضعف المسلمين وإعراضهم عن البذل في سبيل الخير العام؟ أم يعد هذا العمل من

القمار الذي حرمه الله بنص القرآن؟

(2)

هل يجوز تربية الطير أو غيرها من الوحوش في الأقفاص فردًا أو

زوجًا مع ما يكفيها من الأكل والشرب وغيرهما، وذلك للائتناس بصورتها أو

صوتها؟ وهل يعد ذلك ظلمًا لها أم لا؟ وقد أفتى من أفتى بأن حبس الطير في

القفص ظلم لها وإن لم يقصر في أكلها وشربها.

هذا وتفضلوا بالجواب، ولكم مني الشكر ومن الله الأجر والثواب.

...

...

...

محمد بسيوني عمران

(28)

اليانصيب أيضًا:

قد بينا حكم هذه المسالة بالتفصيل في الفتوى 27 آنفًا، أما شبهة جعله للمنافع

العامة فقد بيَّنا ما فيها في جواب سؤال من بلادكم نشر في ص 670 من مجلد المنار

33، وأما إذا فعلت حكومتكم ذلك وأعطتكم منه شيئًا للمنافع العامة؛ فإن لكم أخذه

لذلك بغير شبهة.

(28)

حكم حبس الوحوش والحيوان والطير في الأقفاص:

قال بعض الفقهاء: إن حبس الحيوان والطير ظلم فهو حرام، ويظهر وجه هذا

القول إذا كان حبسها لأجل تعذيبها، والمعهود المعروف عندنا في حدائق الحيوانات

بمصر وأمثالها في الأمصار الكبيرة في الشرق والغرب أن هذه الحيوانات يعتنى

بغذائها وتناسلها، وجعل الجو الذي توضع فيه كأجواء الأقطار التي تجلب منها،

وإن الغرض منها انتفاع العلماء بدرس طباعها وسنن الله فيها، وتمتع العامة

برؤيتها، وقد خلق الله هذه الأرض وما فيها لمنافع الناس المختلفة فلا وجه مع هذا

لتحريمها قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) .

* * *

شبهات على تحريم اليانصيب الخاص ربحه بالمنافع العامة

(30)

من صاحب الإمضاء في قوص

حضرة صاحب الفضيلة العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ، فإني - والحق أقول - قلَّ أن أجد

كفئًا واسع الاطلاع يرتاح إلى إجابته ضمير السائل غير شخصكم المحبوب.

لهذا أرسل إلى فضيلتكم كلمتي الآتية كشبهة في مجموعها حول تحريم

اليانصيب أرجو بيانها، وإرسال شعاع من نور علمكم الفياض يكشف لي الحق

وينير طريقه - وهي ليست شبهات متعنت أو مجادل ليس إلا، وإنما هو طلب

الوقوف على الحقيقة التي لا يصل إليها علمي القاصر، والله أسأل أن يطيل في

حياتكم وينفع بكم الإسلام والمسلمين.

...

...

... حسن النجار أحمد مدرس إلزامي

شبهاتي حول تحريم اليانصيب

يقول الأصوليون: إن المآلات معتبرة شرعًا، واعتبارها لازم في كل حكم.

(أولاً) فقد يكون العمل في الأصل مشروعًا؛ ولكن ينهى عنه نظرًا

لما يئول إليه من المفسدة: مثال ذلك امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل

من ظهر نفاقه معللاً ذلك بقوله: (أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) .

(ثانيًا) النهي عن سب مَنْ يدعو المشركون من دون الله معللاً ذلك في

قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) .

(ثالثًا) النهي عن التشدد في العبادة خوف الانقطاع عنها.

فالأصل في كل هذه الأمثلة وما ماثلها على المشروعية؛ ولكن نهي عنه نظرًا

لأن مآله غير مشروع بضرره، والمفسدة المؤدية إليه، والشرع إنما مبناه على

جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد يكون العمل أيضًا في الأصل ممنوعًا؛ ولكن

يترك النهي عنه نظرًا إلى ما يؤول إليه من المصلحة.

ومثاله: تحريم قتل النفس، ثم إباحتها عند القصاص نظرًا لمآله الذي عبر

القرآن الكريم عنه بقوله: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) .

ومثاله إباحة الكذب عند قصد الصلح مثلاً - وإباحة الغيبة وذكر عيوب الناس

لغرض شريف مشروع كالاستعانة على تحسين حاله أو الانتصاف منه

إلخ.

ومثاله إباحة كشف العورة عند التداوي، وإباحة أكل الميتة للمضطر، ومثاله

ما جاء في حديث البائل في المسجد حيث أمر الرسول بتركه حتى يتم بوله نظرًا

لأن الضرر المترتب على تركه أقل من الضرر المترتب على قطعه بوله، فلم لا

تطبق هذه القاعدة في اليانصيب والغاية منه شريفة ومفيدة كالاستعانة بما يجمع منه

على إزالة الأمية، ورفع الجهل عن كاهل الأمة - أو كالاستعانة به في بناء

مستشفى لتخفيف آلام المرضى من الفقراء والمساكين كما هو الحال في يانصيب

جمعية المؤاساة الإسلامية بالإسكندرية.

أرجو إجابتي على هذه الشبهات بما أفهم فيكم من دقة البحث وسعة الاطلاع

والسلام عليكم ورحمة الله.

...

...

...

...

حسن النجار أحمد

(3)

لم لا يباح قمار اليانصيب لجعل ربحه في المنافع العامة؟

(ج) لا ريب أن جميع أحكام الشريعة السمحة في المعاملات مبنية على

أساس المنافع والمصالح العامة واجتناب المفاسد ودرئها، ومعللة بها، والحكم يدور

مع العلة وجودًا وعدمًا كما قالوا؛ ولكن ما ثبت منها بنص الشارع القطعي الرواية

والدلالة لا مجال للاجتهاد في أصله، ومنه تحريم الميسر فيجب اتباعه وإن لم

تظهر لنا علته في بعض أنواعه مع الجزم بأنه لا بد أن تكون له علة صحيحة، ولا

تجوز مخالفته إلا بدليل نص مثله كدليل إباحة الضرورات للمحظورات كما سيأتي،

وقد بين الكتاب العزيز أن في الخمر والميسر إثمًا كبيرًا ومنافع للناس وأن إثمهما

أكبر من نفعهما، وقد حرمهما الله تعالى مع ذلك مبينًا علة تحريمهما في آيات سورة

المائدة، فإن كان ما يسمى (اليانصيب) من هذا الميسر فلا يقال لِمَ لم يبح هذا

النوع منه لما فيه من المنفعة الزائدة على ما كان من منافع الميسر الذي كان عند

العرب عند نزول الآية؛ لأننا نقول: إن النص يجب اطراده، وإن لم تظهر العلة

في جميع أفراده كما هو الأصل في جميع قواعد التشريع العامة: الدينية والقانونية.

بيد أن هنا شبهة على تحريم اليانصيب الخيري المحض الذي تفعله الحكومات

والجمعيات الخيرية بيناها في الفتوى 27 آنفًا، وهي أن يقال: إن هذا اليانصيب

ليس مما يدخل في عموم ميسر العرب بالأزلام، ولا تظهر فيه علة تحريمه

المشتركة بينه وبين الخمر وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ

العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم

مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) وإذا كان فيه إثم وضرر مما ذكرناه في تفسير آية البقرة

فلا ريب في أن نفعه أكبر من إثمه وضرره، فلا يظهر وجه لتحريمه في هذا النوع

خاصة بخلاف غيره والله أعلم.

_________

(1)

رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بهذا اللفظ، وبدون كلمة (شُربًا) أحمد والبخاري في التاريخ وأبو داود.

ص: 401

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تصدير طبع كتاب المنار والأزهر

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ

آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11) ،

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ

عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) ، {هَذَا

كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: 29) .

صدق الله العظيم

ما للأزهر وما عليه من الحق:

الحق أقول: إنه لا يوجد في العالم الإسلامي بيئة (أو ما يعبر عنه في

العرف المدني بالشخصية المعنوية) أجدر من هذا الأزهر بالكرامة في نفسه،

وبالتكريم من الأمة وحكومتها؛ ولكنه ظُلِمَ وهُضِمَ حقه، بل حقوقه منذ تفرنجت

حكومته، ولم تعد تشعر بالحاجة إلى علم الدين وأهله، فازدرتهم وحرمتهم من

مناصب الدولة، وقد قبل علماؤهم هذا وذاك بلا دفاع أو بلا شعور، فصار من

التقاليد المتبعة والعرف العام الذي يراعى في القوانين ويشبه الشرع الإلهي المُنَزَّل،

وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم، فظلمتهم حكومتهم، وخذلتهم أمتهم؛ حتى قيض

الله تعالى لهم عالمًا أفغانيًّا، سيدًا حسينيًّا، فأيقظهم من سباتهم، ونبههم من غفلتهم

عن أنفسهم، وذكَّرهم بحقوقهم في الدولة وبحقوق الأمة عليهم، وأهاب بهم ليأطروا

الظالم على الحق أطرًا، ويقسروه على العدل قسرًا، كما هداهم نبيهم صلوات الله

وسلامه عليه وعلى آله، وإلا أهلكهم الله تعالى بخضوعهم للظلم، وتنكيس رؤوسهم

للذل، وليستعدوا لذلك بإحياء العلم الذي تحيا به الأمم، وتقوم به الدول.

ثم خلفه من مريديه عالم من بني جلدتهم، ونبتة باسقة من تربة أزهرهم،

جهر بدعوته هذه معه وبعده، إذ قال في بيانه لها في سياق ما دعا إليه من الإصلاح

العلمي والعملي:

(جهرنا بهذا والظلم في عنفوانه، والاستبداد قابض على صولجانه، ويد

الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد،) فماذا جرى؟

نفى الظلم الداعي الأول من القطر، ونفى الثاني أولاً من القاهرة إلى بلده

محلة نصر، ثم إلى خارج وطنه: ثم كان ماذا؟ أو ماذا كان؟ عاد إلى مصر

عزيزًا كريمًا، وجدد الدعوة إلى إصلاح الأزهر، وإصلاح مصر والأمة الإسلامية

به، فسالمه الظلم آنًا، ثم ناوأه آونة، واستعان على صده عن الأزهر ببعض أهل

الأزهر، وقد كان من أعوان الظلم عليه وعلى الإصلاح بعد أن كان معه الشيخ

محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر اليوم الذي عمل في إفساد إصلاحه، وإذلال

الأزهر، وظلم أهله ما لم يعمله أحد منهم، ولا من غيرهم.

الأساس الإداري لإصلاح الإمام للأزهر الاستقلال:

أتكلم في هذا التصدير عن إصلاح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده قدَّس الله

وجهه من وجهة إعلائه لشأن الأزهر واستقلال أهله به، وكف يد كل من الحكومة

والأمير عن الاستبداد فيه، وهي الوجهة التي عُني الشيخ الظواهري بإفسادها،

وظهر لكل أهل الأزهر ولغيرهم سعيه وسعايته لهدم الأساس الذي وضعه الإمام لها،

وقد تكلمت في صلب الكتاب عن كيده للإصلاح العلمي الديني بالإفساد البدعي

الخرافي.

كان الأساس الذي وضعه الإمام محمد عبده لإدارة الأزهر أن يكون علماؤه

مستقلين فيه بنظام وقانون لا سلطان للحكومة ولا للأمير على العبث به، كما بينت

ذلك بالتفصيل في المنار، ثم في الجزء الأول من تاريخه (أي تاريخ الأستاذ الإمام) .

وذكرت من جملة الشواهد على ذلك من وقائعه أن سمو الأمير أرسل إلى شيخ

الأزهر رجلاً من أكبر رجالات مصر المكرمين (هو الشيخ محمد توفيق البكري)

يبلغه فيه أمر سموه بتوجيه كسوة تشريف من الدرجة الأولى لغير المستحق لها من

العلماء، فلما عرض توجيه الكسوة المنحلة في مجلس إدارة الأزهر لم يتسن لشيخ

الأزهر أن يوجهها إلى غير مستحقها والشيخ محمد عبده في الجلسة، بل وجهت

إلى مستحقها بمقتضى القانون.

حتى إذا ما اجتمع كبار العلماء في حضرة الأمير في أول مقابلة له في قصر

عابدين، صب سموه سوط التثريب على شيخ الأزهر قائلاً له: ألم أكن أمرت بكذا؟

فحصر لسان فضيلة الشيخ عن الجواب، وفرك إحدى كفيه بالأخرى، فبادر

الشيخ محمد عبده إلى إنقاذه قائلاً: إن الذي قرره مجلس الإدارة في الكسوة المذكورة

هو التنفيذ لأمر أفندينا؛ لأنه مقتضى القانون الموقع بإمضاء سموه، والمجلس لا

يعرف له آمرًا غيره، ولا يمكنه العمل بالأوامر الشفوية المخالفة له، فإذا شاء

أفندينا أن توجه (كساوى التشريف) إلى من يشاء من العلماء فليلغ القانون بدكريتو

(مرسوم) يقول فيه: إن كساوى التشريف توجه بإرادة سنية منا! ! فلما سمع

الأمير هذا تبيغ دمًا، وتفصد عرقًا، وانتصب واقفًا لينصرف العلماء فانصرفوا.

هدم الظواهري لاستقلال الأزهر بنفوذ مستخدمي البلاط:

وأما الشيخ الظواهري فهو يخالف قانون الأزهر وما هو فوقه من هداية كتاب

الله وسنة رسوله بكلمة من القصر غير صادرة له عن لسان جلالة الملك المطاع،

بل من تلفون الإبراشي باشا أو من دونه من حاشية البلاط، لا لحفظ استقلال

الأزهر وكرامة أهله، بل للتمتع بمنافع السلطان الاستبدادي فيه؛ فالشيخ لذته في

التمتع بلذة الرياسة في ظل استبداد السياسة، حتى روي أنه يبذل أكثر راتبه

لشريكه في تبادل المنفعة [1] ، ولذة هذا الشريك في جمع المال لنفسه، وجل منافع

الشيخ المادية ما يناله ولده وأهل بيته وبعض أعوانه من الوظائف بجاهه، هذا ما

يقوله ويكتبه المنقبون في سيرته، ومثل هذا قد فعل غيره؛ ولكن الذي لم يفعله أحد

من مشايخ الأزهر هو هذا الإسفاف والتدلي في إهانة علم الدين وأهله بجعل رئيسهم

يذل ويخزى بخنوعه لموظف إداري أو كتابي ليس له عليه أدنى سيطرة ولا سلطان،

وكل ما يخشاه ويرجوه من وجوده في القصر الملكي أن يكتم عن جلالة الملك

ظلمه واستذلاله للعلماء، أو يتأوله بأن فيه خدمة دينية لجلالته، أي أنه يرجو منهم

أن يغشوا ولي الأمر به، وتسمية هذا خدمة للدين أو اتباعًا لما أوجبه الله تعالى من

طاعة أولي الأمر، من تلبيس إبليس ولبس الدين مقلوبًا كالفرو، كما قال أمير

المؤمنين علي كرم الله وجهه.

وقد بينت في خاتمة هذا الكتاب أقوال أشهر المفسرين في الظلم والركون إلى

الظالمين، وإلى من تدنس بشيء من الظلم وإن قل وكونه سببًا لدخول النار معهم،

وما يجب من طاعة الأمراء والسلاطين بالمعروف، ومن نهيهم عن المنكر، ومن

كون السلطة العليا عليهم للأمة ينفذها أهل الحل والعقد من زعمائها.

وقد قال حجة الإسلام الغزالي في (كتاب الحلال والحرام) من الإحياء:

(الباب السادس فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة ويحرم، وحكم غشيان

مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم) (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة

ثلاثة أحوال: الحالة الأولى وهي شرها أن تدخل عليهم، والثانية وهي دونها أن

يدخلوا عليك، والثالثة وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك) .

ثم شرح كل حالة من هذه الثلاث وهو يخاطب بهذا كل مسلم، فما قولك

بعلماء الدين المتصدرين للإمامة والقدوة فيه؟ ثم ما قولك فيهم إذا كانت حالتهم معهم

دون الحالة التي قال أنها شر الأحوال بأن يكون العالم الكبير أمام أحدهم كالأجير

الصغير، بل رئيس العلماء الأكبر كالمرؤوس الحقير، إن الإمام الغزالي لم يكن

على سعة عقله واختباره لأهل زمانه يتصور أن يضع أحد من العلماء نفسه في هذا

الدرك الأسفل وهو الذي كتب ما كتب في علماء السوء وازدلافهم للسلاطين،

وتذكيرهم بعزة علماء الدين، ووعظهم للخلفاء العباسيين، وهو الذي زاره الخليفة

في بيته واقترح عليه أن يؤلف كتابًا في إبطال شبهات الباطنية، وتفنيد دعوتهم

المفسدة للدين والدولة، فمن كان هذا شأنه في مقام العلم الكريم، لا يخطر في باله

أن يكون رئيس العلماء الأكبر في مصر إسلامي كما نرى في مصرنا هذا.

كان عندنا في الأزهر ذلك الإمام الكامل الذي كان يهابه أميره، بله بطانته

وأعوانه، وكانت مزاياه ترى من الهند في الشرق، وتونس والجزائر في الغرب،

وأوربة في الشمال، من حيث لا يراه الأزهر الذي يجاهد فيه لرفع ذكره،

وإعلاء قدره، فاضطره الاستبداد إلى الخروج منه والاستقالة من خدمته، ليوجه

جهاده إلى ميدان آخر، فلم يشعر الأزهر يومئذ بهذه الصدمة التي قرع بها، وقد

شعر بقارعتها وشكا منها الشرق والغرب كما شرحنا ذلك في المنار ثم في (تاريخ

الأستاذ الإمام) .

يومئذ خدعوا الأزهر بأنهم يريدون إرجاعه إلى ما وجد لأجله بزعمهم، وهو

(العبادة وعلوم الدين لا غير، ومنع كل ما سواها من علوم العصر، وقصر كل ما

يسمونه الإصلاح على صحة الطلبة وغذائهم، وخدعوا الرجل الطيب علامة مصره

الشيخ عبد الرحمن الشربيني رحمه الله بهذا فاتخذوه آلة لتنفيذه، وقبول مشيخة

الأزهر لأجله، بعد التمهيد له بخطاب مفتوح رفعه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري

إلى سمو الخديو قال فيه: وأرجو ويرجو المسلمون من سموكم أن تشملوا هذه

المدارس (يعني الأزهر والمعاهد الدينية) بعنايتكم، وأن تقطعوا منها جراثيم

الفساد والانحطاط) .

ثم أرسلوا صاحب الجوانب المصرية الأديب السوري المعروف إلى الأستاذ

الشيخ الشربيني لأخذ حديث منه ينشر فيها، فتنقله جريدة المؤيد فيخفى على الناس

أنه مكر مدبر كما ظنوا، فكان أول ما سأل الشيخ عنه:

(ماذا يرى مولانا فيما قام يلتمسه اليوم الشيخ الظواهري من الجناب

الخديو؟)

أجاب الأستاذ: الظواهري إنما ينطق بلسان كل محب لخير الأزهر عالم

بالغرض الذي أسس له والخدمة التي أداها للدين. ثم بين في جواب سؤال آخر أن

هذه الخدمة عبادة الله، وطلب شرعه كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لا

غير (وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به، ولا

يرجى له)

إلخ ما فصلناه في تاريخ الأستاذ الإمام، فكيف قبل الظواهري في

رياسته للأزهر اليوم ما طالب الخديو بقطع جراثيمه بالأمس، بل جعل لعلوم

العصر ومدرسيها السلطان الأعلى على الأزهر وعلماء الدين فيه؟

ماذا فعل العلامة الشربيني الذي لم يدر ما أريد به، كما أنه لم يكن يدري لماذا

أنشئ الأزهر ولا ما فعله الأزهر؟ ثم ماذا فعل من بعده من مشايخ الأزهر منذ

تركه الأستاذ الإمام سنة 1323هـ و (1905م) إلى هذه السنة 1353؟

لم يفعل أحد منهم شيئًا، وإنما تركوا أمرهم للخديو، ثم تركه الخديو للحكومة

فسنت له قانونًا بعد قانون، ولم يكن لأحد منهم رأي في عبث الحكومة بالأزهر،

ولا تأثير علمي ولا ديني فيما تقلب فيه الأزهر من التنقل في الأطوار، ولا فهمها

أحد منهم إلى أن ولي رياسته الشيخ محمد مصطفى المراغي فكان هو الرجل الذي

عرف ما تجدد في الأزهر من أطوار، وما يضطرب فيه من موج ويصطخب من

تيار، فوضع له القانون الذي يمكن أن يجري فيه فلك الإصلاح آمنًا من الأخطار،

فنُوزِعَ في بعض مواده التي يتعذر بدونها حمل تبعة العمل واستقلال فيه فاستقال منه،

فظهر من مزاياه وخلائقه العليا بهذه الاستقالة ما لم يكن يعرف كنهه أعرف الناس

بإدارته وسيرته في مدته القصيرة في رياسة الأزهر، ولا فيما قبلها من رياسة

المحكمة الشرعية، ولا فيما قبلها من رياسة القضاء الشرعي في السودان.

وأما أهل الأزهر فكان يعرفه بعض أذكيائهم المستقلين في العلم والرأي، ولم

يعرفه علماؤهم وطلابهم كلهم إلا بعد أن جربوا رياسة خلفه المضاد له في جميع

مزاياه، وبضدها تتميز الأشياء، بل عرفه الآن جميع الناس حتى العوام في القاهرة

والإسكندرية وبقية الأمصار التي هي مقر المعاهد الدينية والمدارس العليا إذا

صخت أسماعهم أصوات الألوف المتظاهرة على الشيخ الظواهري من الأزهريين

وطلاب المدارس العليا صائحة في الشوارع بإسقاطه، نابزة له بألقاب الخيانة

ونعوت الإهانة، وملحة في مطالبة الوزارة التوفيقية الحرة بإعادته إلى مشيخة

الأزهر ورياسة المعاهد الدينية.

ثم عرف هذا كله سائر الأمصار والقرى في هذا القطر، وفي غيره بنشر

الجرائد له في العالم مؤيدًا بمقالات كثير من علماء الأزهر وغيرهم من حملة الأقلام،

فكان أقوم شهادة لما يسمى في هذا العصر بالرأي العام.

طور الأزهر الجديد ومن يصلح لرياسته:

إن الأزهر قد دخل في طور انقلاب عصري جديد فيه خطر كبير على الدين

والدولة، وفيه رجاء عظيم لهما، فلا يصلح لإدارته فيه إلا عالم كبير العقل،

عزيز النفس، عالي الهمة، قوي الإرادة، حكيم الإدارة، صادق اللسان، راسخ

الخلق، عزوف عن السفاسف والدنايا والمطامع، يشرف الرياسة فيزداد بها شرفًا،

ويضطر كل من يتصل به أن يجله، سواء أوافقه في الرأي أم خالفه؟

مثل هذا الرجل يندر وجوده في صنف العلماء وغيرهم من الطبقات الراقية

كرجال المدارس العالية والقضاة والمحاماة والوزراء والأمراء لا في مصرنا هذه

التي تشكو من فقر الأخلاق المدقع فيها، بل في أمصار الشرق والغرب أيضًا،

ولكن يكثر في طبقاتنا العراة المجردون من حللها كلها أو أكثرها، وأكبر المصائب

على الأمة أن تُقَلَد المناصب، وتُنَاط المصالح بهؤلاء العراة البادية سوآتهم، أو

ببعض المستورين بالأسمال والأخلاق البالية لأجل تجربتهم؛ ولكن أهل الأزهر

أكلوا من شجرة أبيهم آدم عليهم السلام فبدت لهم سوآت بيئتهم، ورأوا بعين

بصيرتهم العريان من جلل تلك المزايا والفضائل والعاطل من حليها، فهم يرغبون

فيه، ويرون من زينه الله بأجمل زينتهما فهم يرغبون فيه، وإنهم لعلى هدى في

الأمرين، وإن ما تطلبه المصلحة بلسان الحال، أقرب مما تطلبه الرغبة بلسان

المقال {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ

يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .

بيد أن الثورة قد تزين للشبان طلب ما لا ترضاه الحكمة، من حيث لا يدرون

أن مثل هذا الطلب قد يكون مانعًا لا مقتضيًا؛ لأن الحكومات تأبى أن تكون منفذة

لرغبات طلاب المعاهد والمدارس لذاتها، بل يخشى أن يكون التظاهر سبب تأخير

ما اقتضته المصلحة العامة منها، إلا إذا كانت الحكومة كوزارة محمد توفيق باشا

في إيثار المصلحة على كل شيء، وهذا الوزير المستقل في رأيه وإرادته أعلم من

كل هؤلاء المتظاهرين ومن غيرهم بمزايا الشيخ المراغي في نفسه، وبمكانته في

قلوب أمته، وأعلم بحالة الأزهر ومشيخته الحاضرة، وزادته هذه المظاهر الحرة

التي لولاه لم تكن علمًا، ولا يخفى عليه أن ما قيل وما كتب وما فعل من قبل ومن

بعد في إهانة الظواهري، وإظهار الأزهر لاحتقاره كافٍ لإبعاده عنه لو كان مبالغًا

فيه، فكيف وقد ظهر عجزه عن إدارته، وإن في بقائه في المشيخة إهانة للإسلام

والمسلمين في اعتقادهم إن لم نقل في الواقع؟ وإنني لأقول هذا عن عقيدة ورأي،

ولا يخالف فيه ذو حجر، والأمور مرهونة بأوقاتها، ونسأل الله التوفيق لأولياء

أمورنا.

نصيحة لطلاب الأزهر والمعاهد الدينية:

إخواني: إنكم ستنالون ما ترضون من تولي من تمقتون عنكم، وتولية من

تحبون عليكم، لا بقوة مظاهرتكم لزيد وتظاهركم على عمرو؛ بل لأنه الحق

والخير والمصلحة؛ ولأن الأمة الإسلامية كلها معكم فيه؛ ولأنكم في عهد وزارة

تقدر هذه القوى الأربع قدرها، وجديرة بأن ترضي الله تعالى بإرضائها، وإن هذا

لهو خير لكم من إجابتكم إلى ما طلبتم خضوعًا لقوة اجتماعكم لذاتها، نعم إن

الاجتماع قوة؛ ولكن قوة الحكومة أشد من قوة الطلبة، بيد أنها دون قوة الأمة التي

تطلب الحق بوسائل العقل والحكمة، وقد قال حكيمنا السيد الحسيني الأفغاني:

العاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة؟

إخواني: إنني قلت في مقدمة هذا الكتاب التي كتبتها منذ سنة ونصف سنة: إنه

ليؤلمني ألذع الألم أن تضطر الأمة الإسلامية وصحفها إلى هذا التشهير بسيرة

الرئيس لأكبر مصلحة إسلامية في مصر

إلخ، ثم بينت السبب الطبيعي لهذا في

القسم الأخير منه في الكلام على العبرة بهذه العاقبة السوءى للمسيء بمقتضى سنة

الله تعالى في الاجتماع المدني.

وأقول هنا: إن صراخكم في الشوارع بإسقاط شيخ الأزهر مع نبزه بالألقاب

والهجوم على مكتبه وتحطيم ما فيه لجريمة ثورية ذات شعب من الضرر، ثالثها

إهانة المرؤوسين لمنصب الرياسة بما يخشى أن يكون سنة سيئة لا يبقى معها

للنظام ولا للمنصب حرمة، فتعقب هذه السنة أن يجتنب هذه الرياسة أهلها الكرام،

ويتكالب عليها الطامعون اللئام، الذين يخنعون للإهانة، فيكونوا حربًا للأمة،

وتكون حربًا لهم، واعتبِروا في الفريقين حكمة النبوة في الحديث الذي رواه مسلم

في صحيحه عن عوف بن مالك مرفوعًا: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم،

وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم،

وتلعنونهم ويلعنونكم) اهـ والصلاة في الحديث: الدعاء المتضمن للعطف، فالخير

داعية الخير، والشر داعية الشر، والمخرج من هذه العاقبة ما ترونه في الكلام

على الأمراء والسلاطين في خاتمة هذا الكتاب.

إخواني: إن التعليم الديني لن يكون وسيلة لسعة الرزق للألوف من

المتخرجين في هذه المعاهد، ولا ينبغي أن يكون كذلك؛ وإنما يجب أن يقصد به

إعادة مجد الإسلام من حيث هو دين هداية وسيادة وسياسة وتشريع عام لجميع

البشر، ولن يكون وسيلة إلى بلوغ رجاله هذه الغاية، إلا إذا كان أهله مستقلين -

دون الحكام - في إدارته ونظمه ومناهجه ورزقه ودرجاته العلمية بقانون يكفل لهم

ذلك، فإلى هذه الغاية يجب أن تتوجه قوة المعاهد الدينية، فإن لم تفعل كانت عاقبة

الدين في مصر كعاقبته في حكومة الترك، فلا أزهر ولا مدارس دينية، ولا محاكم

شرعية، ولا أوقاف إسلامية، وإن فعلت رجي أن تعم هداية الإسلام الشرق

والغرب، ويتم بها وعد الله باستخلاف أهله في الأرض، وإظهاره على الدين كله،

فيكون علماؤه من الأئمة الوارثين، وهي فاعلة إن شاء الله تعالى وبه التوفيق اهـ.

***

كلمة جديدة في الكتاب والشيخ الظواهري

إن ما أعلمه حق العلم من تاريخ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري وأخلاقه

وآرائه وأعماله من قبل توليته رياسة الأزهر والمعاهد الدينية قد بدت في سيرته

وأعماله في هذه الرياسة، بل تكشف هو بها فظهر بصورة لا أستبيح لقلمي وصفها،

ولولا غيرتي الدينية على هذا المعهد الإسلامي؛ واعتقادي أن رياسته له في هذا

الطور الجديد، وفي ظل النظام الاستبدادي المدبر كان خطرًا على الأزهر، وعلى

الإسلام لما كتبت ما كتبت فيه، ولقد نصحت له من قبل أن أكتب شيئًا، ثم أنذرته

راجيًا أن يكفيني أمر الاضطرار إلى الكتابة والنشر؛ ولكن خلقه وغروره بالمنصب

أبيا عليه قبول النصيحة والاعتبار بالإنذار.

جئته أول مرة أو زرته بمكتبه في إدارة المعاهد لما رأيته شرع في الانتقام من

بعض العلماء المهتدين بنور الكتاب والسنة بالنقل من الأزهر إلى بعض المعاهد،

واتهامهم بما أمر بالتحقيق فيه، فتلقاني بالحفاوة والترحيب كدأبه، وأظهر لي

الرغبة في التعاون معه على خدمة الإسلام، مصرحًا بقوله: نحن إخوة إن كنا نختلف

في بعض الآراء فلا يمنعنا هذا عن التعاون على خدمة الإسلام العامة، ولعله كان

رأى في المنار ما أسميه القاعدة الذهبية للاتفاق بين أتباع المذاهب والطوائف وهو

قولي: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) وكان

فضيلة الأستاذ مفتي الديار المصرية المحب للإصلاح المعتصم بالإخلاص حاضرًا،

فَسُرَّ بكلمة الشيخ الأكبر، وتكلم فيما يراه من وجوب التعاون بيننا؛ ولكنني لم أكن

أعتقد أن الشيخ مخلص في قوله كالمفتي، فكانت أول تجربة له أن ألقيت إليه

النصيحة التي زرته لأجلها، فقلت له: إن العرب كانت تقول: إن آلة الرياسة أو

شرطها الحلم وسعة الصدر، ولم أذكر له الشرط الثاني لهم في بيت الشعر المشهور

الذي يذكر في شواهد النحو:

ببذل وحلم ساد في قومه الفتى

وكونك إياه عليك يسير

قلت: وإذ كانت فضيلتكم ترى أن الاختلاف في بعض المسائل لا ينافي الأخوة

والتعاون على المتفق عليه، فأرى أن يتسع صدركم لما تنكرونه على فلان وفلان

من العلماء ولا تفتحوا على أنفسكم باب الانتقام، ولا تجعلوا لكم خصومًا من

مرؤوسيكم

إلخ، فوعد وعدًا حسنًا في ظاهره، يومئ إلى مكر في باطنه، ثم

ظهر هذا المكر في أقبح صوره بعزل من أوصيته بهم من التدريس في الأزهر،

وهم الذين يكره منهم ما عرف عنهم من إنكار للبدع، واتباع للسنن على مذهب

السلف واستقلال في العلم، وعزل آخرين معهم من كبار السن بالشبهة التي

اشتهرت وعلم جميع أهل الأزهر وغيرهم من العارفين بطلانها.

ثم إنه لما أغرى سفيهه من محرري مجلة المشيخة (نور الإسلام) بنشر تلك

المقالات المعروفة في تأييد البدع والخرافات والطعن على الوهابية ورجال الحديث،

ثم على المنار بعد أن نصحت لها بسلوك الطريقة المثلى اللائقة بأول مجلة دينية

رسمية تصدرها مشيخة الأزهر، ورأيتني مضطرًا إلى الرد على ما افترته علي،

كاشفت الشيخ بأنه يجب علي شرعًا أن أرد على ما افترته علي مجلة المشيخة، فإن

أذن بنشر الرد فيها اقتصرت به على بيان خطأ المفتري بأبرد النصوص الصحيحة

المبينة للحقيقة من المنار بدون زيادة، وإلا رددت عليها بما أنشره في المنار، وفي

بعض الجرائد اليومية بما يسوءه من إظهار جهلها وافترائها، فأظهر قبول الاقتراح

الأول وكان ما كان من محاولة خداعي بالصلح والاتفاق كما بينته في المنار، ونشر

في بعض الجرائد، وجمع في هذا الكتاب.

ثم طبعت هذه المقالات مستقلة، ورأيت أن أضيف إليها بعض الشواهد من

مجلدات المنار على ما قمت به من خدمة الأزهر والدعوة إلى إصلاح التعليم

والتربية فيه، والمقترحات الإسلامية التي توجبها حاجة العصر على علمائه، وإن

أقدم على هذا خلاصة لترجمتي العلمية، وتربيتي الدينية التي جعلت كل همي من

حياتي الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي، وهاجرت إلى مصر للقيام بها، وأنشأت

المنار لها.

وكان الغرض الأول من كتابة هذه الترجمة أن تدل قارئها على أن الباعث

النفسي على الرد على مجلة الأزهر هو ما نشأتُ عليه تربية وتعليمًا وعلمًا وعملاً،

ولم يكن غرضًا عارضًا، ولا جزاء محضًا للظواهري ولسان حاله الدجوي بطعنهما

علي عملاً بما أباحه كتاب الله من جزاء السيئة بمثلها؛ فإن خلقي يأبى عليّ هذا، ولو

أردته لعجزت عن كتابة مثل تلك الرسالة الهجائية (صواعق من نار في الرد على

صاحب المنار) التي استقاءها الثاني واستساغها الأول، وكانت توزع في الجامع

الأزهر بالمجان، ووعد الشيخ الأكبر بمنع توزيعها فأخلف الميعاد كعادته، وإنما

كتبت لتطهير الأزهر الشريف مما لطخاه به من العار، وصد ما استهدف له من

الأخطار، ودفاعًا عن حق المنار.

وقد بدا لي بعد الشروع فيها أن أبيح لقلمي فيها حرية قد ينتقدها بعض قارئيها

من شانئ شائن يعدها من تزكية النفس المذمومة، ومن صديق مُزَكٍّ يود أن أجب

عن نفسي الغيبة، وهو ذكر بعض ما وقع لي من الأمور الروحية غير العادية في

أثناء الاشتغال بالرياضة الصوفية وكثرة الذكر، مما يعده الجمهور من كرامات

الأولياء، وقد اشتهرت بالإنكار على المغرورين بها، والتأويل لأشهر ما يعدونه أو

يدعونه منها، حتى إن بعض أعداء الإصلاح من الخرافيين الذين اتخذوا دعوى

الكرامات والمنامات حرفة يأكلون بها أموال العوام بالباطل، ويستهوونهم لاعتقاد

ولايتهم، واتباع بدعهم والبذل لهم، ما زالوا يصدون هؤلاء العوام الجاهلين عن

الإصلاح الذي يدعوهم إليه المنار بأن منشئه من منكري الكرامات ومبغضي

الأولياء.

ولقد وقع إذ نشرت هذه الترجمة في المنار ما كنت أتوقع من نقد بعض

المحبين وحمد آخرين؛ ولكن كان من البواعث لي على نشره في الكتاب لا الموانع

دونه، وإنني أشير هنا إلى جملة هذه البواعث ولولا حدوث ما اقتضى تعجيل

إصدار الكتاب لنشرتها فيه وهي:

إن أكثر المسلمين أو الشرقيين الذين عرفنا أحوالهم بالمشاهدة والمحادثة

والمكاتبة في البلاد التي نشأنا فيها والبلاد التي سافرنا إليها من عربية وتركية

وهندية ينقسمون في الأمور الروحية فريقين كبيرين، وفريق ثالث صغير، أو قليل.

الفريق الأول: يصدقون كل ما يقرؤون وما يسمعون من الأخبار المخالفة

للعادات المألوفة عن المتقدمين الذين يسمونهم الأولياء، ويسمون أعمالهم بسمة

الكرامات، وعن المعاصرين من مشايخ الطريق ومدعي استخدام الجن،

ويخضعون للمنتحلين لها، ويرجون نفعهم ويخافون ضرهم، ويبذلون لهم أموالهم،

وربما ائتمنوهم على أعراضهم ونسائهم، وفي ذلك من الخرافات والمعاصي المفسدة

لأمور الدين والدنيا ما تفاقم شره، واستشرى فساده وعظم وزره، وما هو شرك

صريح بالله تعالى.

والفريق الثاني: ماديون يكذبون جميع هاته الأخبار، وينكرون وجود ما ليس

له سبب طبيعي منها أو إمكانها، ويعدونها مفتريات مختلقة لخداع الجاهلين الغافلين

وسلب أموالهم، ومنهم الذين يكذِّبون الأديان كلها لاتفاقها على أخبار معجزات

الأنبياء، وكرامات القديسين والأولياء، ويحتجون على ذلك بأنها في هذا الأصل

الديني سواء، مع اختلافها فيما هو أهم منه من أصول الدين، وبأن العلم والتاريخ

قد كشفا كثيرًا من خفايا أهلها ودجلهم وحيلهم وكذبهم ويقاس غيره عليه.

والفريق الثالث: يعتقدون أن لها أصلاً ثابتًا؛ ولكن فيها دجلاً وأباطيل يتعذر

التمييز بنيها، ومن هؤلاء من لا يصدق منها إلا ما أثبته الإفرنج المشتغلون بالأمور

الروحية، وما يسمونه استحضار الأرواح، وهم في حيرة من تعارض أخبارهم مع

عقائد الأديان، وكثيرًا ما ينقلون ما يرونه في الصحف الإفرنجية من أحداثها،

ويعدونه كغيره من الغرائب المادية التي تهدي إليها التجارب في نور العلم.

ومن موضوع المنار البحث في هذه المسائل، والتصدي لهداية أهلها للحق

فيها، لهذا رأيت من المفيد أن أذكر في ترجمة حياتي ما وقع لي مما يؤهلني لذلك،

ويبين لقارئه أنني أتكلم فيه على بصيرة فيما أنتقده، وفيما أقره وما أتأوله، كما

أتكلم في إصلاح التربية والتعليم في الأزهر وغيره، وأنه ليس لي فيه هوى ولا

منفعة، ولا أخشى به فتنة أحد، بل مقاومة الجهل والدجل، أحمد الله عز وجل أن

حفظني ببركة الإخلاص من هذه الفتنة في الزمن الذي فُتِنَ في مثله الكثيرون في

كل عصر، فقد ألهمني أن كنت أهون أمر تلك الأمور الروحانية على من يرونها

بأعينهم (كشفاء المصروعين والمرضى) ويسمعونها بآذانهم (كالمكاشفات) من

حيث أرى أهل الدعوى والتلبيس والدجل قد فتنوا كثيرًا من الناس بأنفسهم، وسلبوا

الكثير من أموالهم، وأسال الله تعالى أن يتم النعمة، ويحسن الخاتمة بفضله وكرمه.

وإني لأستغرب أن يقصدني بعض علماء أوربة الباحثين في الأمور الروحية

للبحث معي فيها، وأن يعدوني من بعض أعضاء جمعياتهم من حيث لا أرى أحدًا

من قومي يُعنى بذلك ولا يسأل عنه، وقد اتسعت دائرة المباحث والتجارب الروحية

في أوربة في هذه السنين، وكثرت أخبار غرائبها، وإن جرائدنا تنقل منها ما تظن

أنه ظريف، ونحن نعلم أنه تليد، وإن ما كتبنا منه كثير.

وإن إظهار العالم لعلمه عندما يرى الحاجة إليه ليُسْأَل عنه - مطلوب شرعًا مع

الإخلاص، ومجاهدة هوى النفس، والمأثور في هذا عن أئمتنا في العلم والعرفان

معروف، والذين كتبوا وقائعهم وتاريخهم منهم كثيرون، ومن علماء الغرب أكثر،

وما شرع شيخنا الأستاذ الإمام في كتابة ترجمة حياته إلا بإلحاح بعض هؤلاء

الغربيين عليه فيه، ومن سوء حظنا أنه لم يتمه، ونحمد الله أن وفقنا لتدوين ما

علمناه منه.

لعله وضح بهذا ما خفي على بعض إخواننا وغيرهم من نيتنا في كتابة هذه

الترجمة قبل أن ينقرض من أهل وطننا من يعرف أكثرها، ووضح أيضًا أنني لم

أقصد بكتابة هذا الكتاب وبيان مساوئ الشيخ الظواهري فيه إلا ما كان يقصده أئمتنا

من علماء الجرح والتعديل بتراجم رواة الحديث الضعفاء والوضاعين، وعلماء

الحديث المدافعين عن السنة بالرد على المبتدعين، فجهادي به موجه إلى المسيء

إلى الإسلام بمنصبه، دون المجاهر بالإساءة إلي بحسده وراتبه، فما هذا إلا سيئة

من سيئات ذاك، وما كنت أعبأ بجهله علي وعلى السنة وأئمتها من أهل الحديث

ومتبعي السلف قبل جعله إياه ناطقًا باسم مشيخة الأزهر في مجلتها.

وما ندمت على شيء كتبته فيه إلا ما نقلته من خبر بذله جل راتبه هدايا إلى

وليه وناصره؛ لأن ظاهر عبارته أنه من المساوئ الشخصية على أنني قصدت به

إزالة عجب الناس من إبقائه في منصبه بعد ظهور مساويه تنزيهًا لولي الأمر عن

علمه بها وإقراره عليها.

ولقد أرجأت تصديره ثمانية عشر شهرًا؛ لأنني أعلم أنه يقرب أن يتقرب به

إلى أوليائه في الحكومة تلك المستبدة الظالمة فيزداد استمساكهم به: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ

بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الجاثية: 19) وما كادت تسقط وتخلفها الوزارة الحرة

المرجوة، إلا وصراخ الأزهر وعويله من ظلمه قد طبق الآفاق، واخترق السبع

الطباق، وأطبق عليه الطلاب والعلماء، وأجمع عليه الكتاب والشعراء والخطباء،

فتعذر أن يتهم به فرد من الأفراد أو جمع قليل متواطئون عليه، فنشرت الكتاب

موقنًا بقرب عزله إن لم يعتزل، وإقالته من منصبه لا من عثره إن لم يستقل؛ لأن

الاستعجال بهذا أهون الشرين عليه من الإملاء له فيه؛ فإن الأزهر لن يطيق الصبر

بعد على احتمال الذل والهوان ببقاء رياسته؛ ولكنه هو يحتمل شرًّا من ذلك

بالإصرار عليها، وتمني قهر مرؤوسيه بحماية حرس من الحكومة له في بيته

وفي طريقه وفي الأزهر يمنعه أن ينكلوا أو يمثلوا به، وما كانت شدة الحرص

على الرياسة لتأتي بخير، وإنما خير أهلها من ترغب فيهم ويرغبون عنها،

ويرونها عبئًا ثقيلاً لا يقبل إلا لأجل المصلحة العامة، لهذا قال صلى الله عليه وسلم:

(إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة،

وبئست الفاطمة) رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، وروى البخاري

ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: (دخلت على النبي

صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أَمِّرْنَا

على بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا

والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله أو أحدًا حرص عليه) ولقد رأينا في عصرنا

رجلاً واحدًا حرص على رياسة الأزهر أشد الحرص وأذله وأسخفه، ورجلاً واحدًا

زهد فيها أشد الزهد وأعزه وأشرفه.

_________

(1)

إذا كان هذا الخبر حقًّا لا مبالغة فيه كما يقولون، فلعله يكون بهدايا بعض الجواهر الغالية؛ فإن راتب الشيخ كبير.

ص: 451

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مباحث الربا والأحكام المالية

(تابع لما قبله)

الأصول والقواعد العامة

للحلال والحرام في المعاملات المالية

مقدمة في تلخيص إجمالي لما تقدم:

قد بيَّنا حقيقة الربا المحرم بنص القرآن القطعي، وهو ربا النسيئة أي ما

يأخذه الدائن من المديون المعسر عند استحقاق الدين المؤجل عليه وعجزه عن

قضائه لأجل تأخيره إلى أجل آخر، وهو زيادة لا مقابل لها، فهي ظلم قد يتضاعف

إذا عجز المديون عن القضاء كلما حل أجل جديد، فيكون أفحش أنواع الظلم

والقسوة، وبيَّنا حقيقة ما سمي ربا الفضل، وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه

وسلم من بيع أحد النقدين أو أصول الأقوات التي عليها مدار معيشة الأمة بمثله من

جنسه مع زيادة أو تأخير، وبيَّنا أن حكمة النهي عنه سد ذريعة الربا القطعي

المحرم بنص كتاب الله تعالى، وبيَّنا أن الفقهاء توسعوا باجتهادهم في أحكام

المعاملات المالية حتى أدخلوا في معنى الربا كثيرًا من صور البيوع والقروض

والشركات التي لا تدخل في ربا القرآن الأصلي (النسيئة) ولا في ربا الحديث

الاحتياطي من باب ولا منفذ، إلا بالتأويلات المستنبطة من التعاريف والأقيسة

والضوابط المذهبية والاجتهادية، وأن جمهور المسلمين يظنون أن كل ما حظره

الاجتهاد المذهبي وعدَّه من الربا فهو محرم، كالذي حرَّمه الله بالنص القطعي وتوعد

عليه بأعظم الوعيد لشدة ضرره، وظلم الأخ لأخيه فيه، والذي نهى عنه رسوله

صلى الله عليه وسلم احتياطًا لسد ذريعة الظلم الذي حرَّمه الله تعالى على عباده كما

حرَّمه على نفسه.

ومن أجل هذا الفهم الباطل ضاعت عليهم سبل المعاملات، ووقعوا في مآزق

العسر والحرج الممنوع من شريعة الحنيفية السمحة بنص كتابها العزيز، واضطروا

إلى طرق أبواب الحيل لاستحلال ما حرَّمه الله لا ما حرَّمه هؤلاء الفقهاء برأيهم

فقط، ولم يضع لهم هؤلاء الفقهاء حدودًا وضوابط للاضطرار أو الحاجة إلى

المحظور في قاعدتهم: الضرورات تبيح المحظورات، وفي قولهم: إن المحرَّم لذاته

يباح للمضطر إليه، وإن المحرَّم لسد الذريعة يباح للحاجة إليه ورجحانها على

المفسدة.

إن هؤلاء المقلدين حرَّموا على أنفسهم وعلى عباد الله ما لم يحرِّمه عليهم ربهم،

فمنهم من حرَّم على نفسه منافع أحلها الله له، ومنهم من أقدم على ارتكاب ما

يعتقد أن الله تعالى حرَّمه عليه إما بحيلة يعلم أنها لا تخفى على الله ولا ترضيه،

وإما بغير حيلة، ودخل أدعياء الفقه منهم في عموم من قال الله تعالى فيهم: {أَمْ

لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} (الشورى: 21) ومن قال فيهم:

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} (التوبة: 31) ، وقد فسره النبي صلى الله

عليه وسلم بأنهم هم الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم.

وآل أمر أكثر المسلمين إلى أن تغلب الإفرنج على أكثر بلادهم بالفتح

السياسي أو الحرب، أو بالنفوذ الاقتصادي والإداري، وصارت جميع أحكامها

المالية بالقوانين التي تبيح ما حرَّموا من الربا وغيره من ضروب الكسب، فصاروا

يؤكلونهم الربا ولا يأكلون منهم، ويكسبونهم أموالهم ولا يكسبون منهم، حتى إن

المسلم الغني يودع ماله في مصارفهم (بنوكهم) بدون فائدة له فيستغلونها لأنفسهم،

والمسلم المحتاج يستدين منهم بالربا، فازدادوا بهذا عسرًا وفقرًا، وفرت ثروة

بلادهم من أيديهم إلى أيدي مستعبديهم، وصار أكثرهم أجراء بل عبيدًا للإفرنج فيها،

وتبع ضياع الثروة والنفوذ ضياع العلم الديني والدنيوي، وبدأ يتبع ذلك ضياع

الدين التقليدي، ولا يمكن أن يجدوا مخرجًا من هذه المآزق إلا بمسابقة الإفرنج إلى

الثورة وتنظيمها وبذلها في المنافع والمصالح الملية، فمنهم من يلتمس هذا بترك

الإسلام نفسه سرًّا أو جهرًا، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك طوعًا أو كرهًا،

وأكثرهم كالناقة العشواء، تخبط في الظلماء، أو كالذي يتخبطه الشيطان من

المس.

هذه المسألة من أظهر المسائل التي يعبرون عنها بقولهم (عمت بها البلوى)

وعموم البلوى في الأمر والعامة مما يبيح المحظور للأمة، كما أن الضرورة

الشخصية تبيح المحظور للأفراد، وبناء عليها قال الإمام الغزالي في كتاب الحلال

والحرام من الإحياء: إن المال إذا حُرِّم كله حل كله فيستأنف فيه التعامل بالأحكام

الشرعية على أنه حلال.

إن جمهور المسلمين لفي حرج شديد في هذه المعاملات المالية العصرية،

وكلهم يتمنون لو يجدون لهم مخرجًا منه مع المحافظة على دينهم، وأنى يجدونه

وهم يطلبونه من أدعياء الفقه الديني الذين وصفهم شيخنا الأستاذ الإمام بحملة العمائم،

وسكنة الأثواب العباعب، وهم حماة التقاليد الفقهية التي أدخلتهم في جحر الضب

اتباعًا لسنن من قبلهم من أهل الكتاب، لكن بعد أن خرج هؤلاء منه، وهم الذين

قال فيهم قبيل وفاته:

ولكنه دين أردت صلاحه

أحاذر أن تقضي عليه العمائم

ذلك بأنهم هم أئمة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن

سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)

(رواه البخاري ومسلم) وبأنهم أجهل ممن قال فيهم أمير المؤمنين علي كرم الله

وجهه: (لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبًا) ، وإذ كانوا هم حماة التقاليد التي

حصرت الأمة في جحر الضب (أي الضيق) فوظيفتهم أن يقذفوا كل مصلح

يحاول إخراجها منه إلى فضاء الحنيفية السمحة بأنه خارج من الدين أو عليه

بمخالفته لأئمة المذاهب الواجب اتباع واحد منهم على كل واحد من المسلمين بنص

عقيدة جوهرة التوحيد للقاني:

ومالك وسائر الأئمة

كذا أبو القاسم هداة الأمة

فواجب تقليد حبر منهم

كذا حكى القوم بلفظ يفهم

ويعنون بوجوب تقليد حبر من هؤلاء الأئمة الفقهاء - وأبو القاسم: الجنيد من

أئمة الصوفية - تقليد ما في هذه الكتب الكثيرة المؤلفة فيما يسمونه مذاهبهم وفي

طرائق الصوفية، ولا عذر عندهم لمن يخالفهم فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله

صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أدلة هؤلاء الأئمة ونصوص كتبهم المروية عنهم

أيضًا، فالأخذ عن الأئمة والعمل بنصوصهم ممنوع عندهم أيضًا، وكذا اتباع

الطبقة العليا من أصحابهم كأبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة،

وكذا من يليهم من طبقات مجتهدي المذهب وأصحاب التخريج والترجيح بين

الأقوال المختلفة والتصحيح فيه مباشرة؛ وإنما الواجب شرعًا في رأيهم العمل بما

يعتمده متأخرو المؤلفين من أقوال من قبلهم من المصححين، كما قال علامتهم ابن

عابدين في (رسم المفتي) وهم الذين سماهم أسرى النقل المحض من كتب

مخصوصة للمقلدين.

وإنني بعد أن حاربت هذه التقاليد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

مع اتباع هدي الأئمة من السلف الصالح كالذين ذكرهم اللقاني لا تقليدهم، أقدم بيان

ما أرى فيه المخرج للأمة من الجحر الضيق المظلم، إلى الفضاء المشرق بنور الله

تعالى مبتدئًا بالأصول الآتية:

الأول أصل الأصول

في منافع الكون الدنيوية: الإباحة

بمقتضى فطرة الله ودينه المكمل لها

الأصل في جميع منافع الكون الإباحة للخلق بدليل هداية الفطرة ودينها، وقد

بيَّن ذلك الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29)، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا

وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك: 15)، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي

الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) فهم يعرفون منافعها بالتجارب ويترقون فيها

بالتعاون حتى تكون معارفهم علومًا مدونة، وفنونًا متوارثة، وهداية الحواس

والعقل كافية في ذلك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنتم أعلم

بأمور دنياكم) وما في معناه رواه مسلم.

ثم إن الله شرع الدين لعباده ليعلمهم ما لا تستقل عقولهم بمعرفته بالدلائل

والتجارب وهو معرفته تعالى الصحيحة وعبادته التي ترضيه، وما يهذب أخلاقهم

ويزكي أنفسهم من الفضائل، ليعيشوا بالتعاون والتحاب والعدل والإحسان، ويجتنبوا

الرذائل الضارة بأفرادهم وجماعاتهم الكبيرة والصغيرة كالظلم والعدوان، وبمجموع

هذين الأمرين يكونون أهلاً لاجتناء ثمرة الدين في حياتهم الدنيا بقدر استعدادهم

المشوب بالشوائب الكثيرة، وأهلاً للسعادة الكاملة في الآخرة.

والدليل على ذلك أن الله تعالى قص علينا في كتابه دعوة أشهر رسله لأقوامهم

فلم نجد فيها ما يدل على أن مما بعثوا له تعليم أقوامهم الزراعة والتجارة والصناعة؛

وإنما وجدناها متفقة على عبادة الله وحده، والنهي عن الشرك والظلم والفساد في

الأرض، وعلى الامتنان على الناس بنعم الأرض واستعمارهم فيها، وكون الدين

يزيدهم فيها قوة ونعمًا، ووجدنا في قصة شعيب أنه نهى قومه عن نقص المكيال

والميزان، وعن بخس الناس أشياءهم، والفساد في الأرض؛ لأن هذه الرذائل قد

فشت فيهم.

ووجدنا في أخبار بني إسرائيل أن الله تعالى حرم على اليهود طيبات كانت

أحلت لهم بسبب ظلمهم؛ تربية لهم، وأن نبيه عيسى عليه السلام أحل لهم - بإذن

الله - بعض ما حُرِّم عليهم، ثم جاء محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه

وسلم فوضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم كلها، فعلمنا أن ذلك كان

تحريمًا عارضًا في شعب واحد معروف إلى أجل معلوم، وأن شريعة خاتم النبيين

السمحة هي الدائمة.

(الأصل الثاني)

ما أكمله الله من الدين فلا يقبل زيادة فيه

أكمل الله تعالى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم دينه لجميع الشعوب والقبائل

في جميع أقطار الأرض إلى آخر الزمان، فحدد لهم في كتابه وما بيَّنه من سنة

رسوله خاتم النبيين جميعَ ما يحتاجون إليه من أصول التشريع الديني العام الدائم،

وفوض إليهم ما وراء تلك الحدود، ووعدهم باستخلافهم في الأرض وتمكين دينهم

وسيادتهم وقوتهم فيها، وإظهار دينهم على الدين كله، وختم بذلك النبوة والتشريع

الديني، فليس لأحد بعد كتاب الله القرآن وبيان السنة المحمدية له أن يفرض على

البشر عقيدة، ولا عبادة، ولا تحريمًا دينيًّا لشيء من الأشياء، ولا لعمل من

الأعمال، فالدين قد كمل فلا يقبل زيادة ورد من الأوراد ولا العبادات ولا تحريم

شيء، وأسعد أتباعه من يقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من

بعده.

(الأصل الثالث)

ما فوضه الله إلى عباده من أحكام الدنيا

وأما مصالح الدنيا ومعاملاتها المدنية والاقتصادية والسياسية، فقد ترك الشرع

ما لم يبينه منها إلى اجتهاد هذه الأمة الكبيرة؛ لأنها لا يمكن حصرها، وهي

تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فما أدى إليه اجتهاد أحد من الأفراد عمل به ولا

يكون دينًا لغيره، وما أدى إليه اجتهاد أولي الأمر من المصالح العامة من سياسة

وقضاء عملوا به على أنه ضبط للمعاملات للفصل في الخصومات، وإقامة العدل؛

ولكن ليس لأحد منهم أن يجعل شيئًا منه دينًا يكلف الناس أن يدينوا الله تعالى به،

فكل ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينًا لا يكون بعده دينًا كما

قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وقد كان مما يوصي به النبي صلى الله

عليه وسلم أمراء الجيش أو السرايا قوله: (إذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن

تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا

تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا) رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث بريدة

رضي الله عنه، وهو من الدلائل على تفويض مصالح الأمة إلى أولي الأمر منها

كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)

(الأصل الرابع)

اجتهاد الفقهاء لا يشرِّع عقيدة ولا فريضة ولا تحريمًا

والغرض من هذا أن آراء الفقهاء، وأحكام الأمراء والقضاة في المسائل

الاجتهادية ليس من أحكام الله تعالى في عباده، ولا حلال ولا حرام، فأما في

العبادات فقد بيَّنا حكمه، وأما في المعاملات المالية ونحوها فاجتهاد الأفراد لهم

وعليهم، واجتهاد أولي الأمر بشرطه تجب طاعتهم فيه إذا حكموا به ولم يكن مخالفًا

لكتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما تجب لأجل منع الفوضى وحفظ

الحقوق ومنع العدوان، وإقامة النظام؛ ولكن لا يجوز لهم أن يسموه حكم الله تعالى،

ويدَّعوا أن الله تعبد عباده به؛ وإن المخالف له عاصٍ لله تعالى فاسق عن أمره،

خارج عن هداية دينه، يستحق عذابه في الآخرة، فضلاً عن كونه يخرج من الملة

بإنكاره أو استحلال مخالفته، كما يتوهم أكثر المسلمين في مخالفة اجتهاد الفقهاء،

ومنها ما نحن فيه من الكلام في أحكام الربا الاجتهادية يتوهمون أن كل من خالف

الصحيح المعتمد في المذهب الذي ينسب إليه في مسألة منه - ككون كل نفع

للمقرض من المقترض ربا - أنه واقع في الوعيد الشديد في آيات سورة البقرة بأنه

محارب لله ولرسوله في الدنيا، وأنه يقوم من قبره يوم القيامة كما يقوم الذي

يتخبطه الشيطان من المس، وأنه حقت عليه لعنة الله في حديث (لعن الله آكل

الربا وموكله وشاهديه وكاتبه هم فيه سواء) رواه أحمد ومسلم بهذا اللفظ من حديث

جابر وأحمد وأصحاب السنن عن غيره.

بل أقول: إن أصول علم الحديث تمنع أن يدخل في عموم هذا الوعيد الإلهي

الخاص بالكبائر من يأكل ربا الفضل - الذي جعله بعض الحنفية كمفتي الهند الذي

رددنا عليه في كتابنا هذا بيانًا لربا القرآن - في مثل صرف ريال مصري بأربعة

أرباع الريال المعروفة مع تأخير في القبض أو اختلاف في المجلس مثلاً، كما أن

الوعيد على الزنا لا يعم ما سمي باسمه من ذرائعه كالنظر واللمس ولو بشهوة.

وما قررته في هذه المسألة موافق لأصول الأئمة المجتهدين كما أنه هو

المتبادر من النصوص؛ ولكن أكثر المسلمين يجهلونه، وفي بعض كتب الفقه ولا

سيما كتب الحنفية نصوص فقهية في تكفير من يقول أو يفعل ما يدل على عدم

إذعانه واحترامه لهذه الكتب وما فيها من الفتاوى، أو الطعن على مؤلفيها أو غيرهم

من الفقهاء، بشبهة أن ذلك يستلزم الطعن في شرع الله ودينه، ثم في الله عز وجل

ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ولو جاز لأحد التكفير بمثل هذه اللوازم لكان

من يكفر أحدًا من المسلمين بهذه الآراء أولى بأن يحكم بكفره، بل يمكن الاستدلال

على كفره ابتداء بأنه افترى على الله وشرَّع لعباده ما لم يأذن به.

بل أقول: إن جميع هؤلاء الأئمة مجمعون على أن آراءهم الاجتهادية ليست

شرعًا دينيًّا يجب اتباعهم فيه، وأنهم ليسوا إلا باحثين فيما شرعه الله تعالى لعباده

مبينين لما يفهمونه منه، وأنه لا يجوز لأحد العمل به إلا من ظهر له صحة دليله

واقتنع به، وقد فصلنا هذا بدلائله وبالنقل عنهم رضي الله عنهم في مواضع من

مجلة المنار، ومنها ما جمع في كتاب (الوحدة الإسلامية) وكتاب (يسر الإسلام،

وأصول التشريع العام) .

أطلت في هذه المسألة على ما سبق في معناها لفشو الجهل بها على عظم

شأنها، وأنتقل منها إلى بيان ما جاء في الكتاب العزيز في مسألة التحريم والتحليل

والحرام والحلال في المعاملات المالية، ثم إلى مجمل ما ورد في الأحاديث النبوية

الصحيحة من النهي عن بعض المعاملات المالية، وحكم هذه المناهي ومذاهب

الفقهاء فيها، ثم أقفي على ذلك بما عليه أهل هذا العصر في الأقطار الإسلامية التي

تعامل شعوب الحضارة ودولها من المعاملات التجارية والشركات المالية، وما هو

محرم منها في دين الإسلام، وما هو غير محرم، وأستغني بهذا عن إفتاء من

يستفتونني في هذه المسائل من الشرق والغرب، وأبدأ ببيان الدلائل على أن

التحريم الديني حق الله تعالى فأقول:

نصوص القرآن في التحريم الديني

(وكونه لله تعالى وحده)

إن التحريم الديني هو حق الله تعالى على عباده، فليس لأحد من خلقه حق أن

يحرم عليهم شيئًا إلا بإذنه في وحي منه، فكل ما قاله ويقوله الفقهاء في التحريم

الديني باجتهادهم غير مستند إلى نص صريح من الشارع فهو باطل كالقول في

أصول العقائد والعبادات، دون صفة الأداء كالقبلة، ومن أدلة هذه القاعدة ما يأتي:

(1)

قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .

(2)

قوله تعالى:] وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا

حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ [الآية (النحل: 116) .

(3)

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً

وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59) ويدخل في هذا ما

أنكره على المشركين، وذمهم عليه من تحريم بعض الحرث والأنعام عامًّا أو خاصًّا

في آيات معروفة.

(4)

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ

الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) وفي تحريم الطيبات وتحريم الأطعمة آيات أخرى

ليس هذا محلها.

وقد اشترط أئمة العلم من السلف كالحنفية أن التحريم لا يثبت إلا بنص قطعي

من الشارع، بل قال بعضهم من القرآن دون الدليل الظني وسيأتي بيانه.

_________

ص: 465

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شهر رمضان

موسم العبادة الروحية البدنية الاجتماعية

كتبنا في السنين الخالية، ونشرنا في مجلدات المنار الخالدة، مقالات كثيرة

في أحكام الصيام وحكمه وفوائده الصحية المتفق عليها عند الأطباء، والاجتماعية

التي تتفق فيها العادات في مواعيد الطعام والدعوات عليها بين الأقران، والصدقات

على الفقراء، والاجتماع على بعض العبادات الخاصة بهذا الشهر كصلاة التراويح

ومجالس الوعظ وتلاوة القرآن، ولكل من هذه العبادات والعادات الإسلامية تأثير

في النفس وشعور روحي خاص يزيد المؤمنين إيمانًا بربهم، ومودة بينهم، وقوة

في رابطتهم، والذين لا يصومون محرومون من حلاوة هذا الشعور الشريف، وإن

شاركوا المؤمنين في بعض ظواهره.

وشر هؤلاء المفطرين من لا يشعر بألم حرمانه من هذه الحلاوة الروحية

والعاطفة الملية، كأنهم من الحيوانات أو الحشرات ذات الحياة الفردية، فإني أظن

أن ما يعيش عيشة الاجتماع منها كالنمل والنحل تشعر أفراده بلذة خاصة في تعاونها

الاجتماعي فوق اللذة بتوفية أبدانها ما فيه قوام حياتها الشخصية والنوعية، وأعتقد

أن جميع البهائم خير لأنفسها من فساق البشر المجرمين، وأن الصيام خير مانع

للفسق وجناية الإنسان على نفسه وعلى غيره، لا في أثناء صيامه فقط بل في كل

آن إذا كان صيامه عبادة لا عادة، والفرق بين الصيامين أن من يترك الشهوات

البدنية في النهار مجاراة لأهل ملته في أيام معدودات، هي أيام شهر رمضان لا

يعدو عمله أن يكون تغيير عادة من العادات بتحويل ما كان يفعله في النهار إلى

الليل، وهو لا يخلو من الفوائد البدنية والاجتماعية، وإنما صيام العبادة بالنية

والاحتساب؛ أي: رجاء ثواب الله ومرضاته، وآيته؛ أي: علامته الظاهرة زيادة

الطاعة ولا سيما الصلاة واجتناب الآثام كصيانة اللسان من فحش القول والغيبة

والنميمة والكذب، ولا شيء أدل على صيام العادة كترك الصلاة، وكذا تأخيرها عن

وقتها، كالذين يسهرون ثلثي الليل في اللغو المنهي عنه ليؤدوا سنة السحور في الثلث

الأخير ثلث التهجد والاستغفار في الأسحار، فيتسحرون وينامون، وأكبر ما

يخسرونه جماعة صلاة الفجر التي يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدون

لصاحبها عند الله تعالى كما ورد في تفسير {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (الإسراء: 78) .

وقد ورد في الحديث عند الإمام أحمد وغيره (الصوم في الشتاء الغنيمة

الباردة) أي كالغنيمة التي ينالها الجيش من الأعداء بدون حرب ولا قتال، من

حيث إنه لا يجوع الصائم فيه ولا يعطش في الغالب؛ لقصر النهار وعدم الحر،

ويفسره حديث (الشتاء ربيع المؤمن) رواه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد

الخدري رضي الله عنهم بسند حسن ورواه البيهقي بزيادة (قَصُرَ نهاره فصام،

وطال ليله فقام) أي قام فيه لتهجده بغير مشقة كصيامه، وهو بهذه الزيادة ضعيف

السند، قوي المتن؛ لأنه مفسر للمراد منه فكل منهما يقوي الآخر.

وإن أهم ما أبغي في هذه الذكرى أن من يستحل الإفطار في نهار رمضان كله

بغير عذر شرعي من مرض أو سفر يكون كافرًا مرتدًّا عن الإسلام، فيبطل عقد

زواجه إن كان متزوجًا، ويحرم على زوجه أن تعامله معاملة زوجية، وإذا مات

في هذه الحالة أي قبل أن يموت لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين،

وهو كذلك لا يرث ولا يورث، وحكم هذه الردة مجمع عليه لا خلاف فيه بين

المذاهب الإسلامية، ولكن من الناس من لا يعرف معنى الاستحلال المخرج

لصاحبه من دين الإسلام في هذه المسألة وغيرها كاستحلال ترك الصلاة والزكاة

وفعل الزنا والسرقة والسكر وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيظن

أن معناه أن يعتقد أن ذلك حلال وهو غلط؛ فإن اعتقاد حله ينافي كونه معلومًا من

الدين بالضرورة؛ وإنما استحلال ذلك عدم الإذعان لحكم الشرع فيه، وعده بالعمل

كالمباحات من الشرب والأكل في نهار رمضان أو في لياليه، أو عد شرب الخمر

كشرب الماء والاستمتاع بالأجنبية كالاستمتاع بالزوجة، لا شعور معه بحرمة

الأوامر والنواهي الإلهية ولا موجب للتوبة والاستغفار.

فمن أجل هذا لا يعقل أن يقع من مؤمن بالله ورسله وشرعه بخلاف من يشتد

عليه الجوع أم العطش، فتغلبه شهوته على الأكل والشرب وهو يشعر بذنبه

واستغفار ربه فهذا عاص لا كافر؛ لأنه غير مستحل، وقلما يقع لمسلم في صيام مثل

هذه الأيام من فصل الشتاء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة الباردة.

_________

ص: 473

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرزيئة القومية الوطنية

بالشيخ محمد الجسر

قبيل فجر يوم الأحد ثالث شهر شعبان (11 نوفمبر - تشرين الثاني) من هذا

العام (1353 هـ - 1934م) رزئت الأمة العربية والوطن السوري اللبناني بوفاة

رجل لا كالرجال، وفرد لا كالأفراد، بل علم لا تطاوله الأعلام: رزئنا بأخينا

الشيخ محمد الجسر أبرع نابغة سياسي وطني، ابن أستاذنا ومربينا الشيخ حسين

الجسر أنفع عالم ديني عصري، ابن الشيخ محمد الجسر أورع صالح صوفي،

ثالث ثلاثة أنبتتهم لهذه الأمة رياض مدينتنا طرابلس الشام، فكان رزؤه مصابًا

كبيرًا عامًّا لجميع أهل هذا الوطن على اختلاف أديانهم ومذاهبهم السياسية المتباينة

التي لم تجمعها على غيره جامعة؛ وإنما كان إجماع طوائفهم على إكبار المصاب به

فرعًا لإجماعها على الإعجاب بعلمه بزمنه، وأدبه في معاشرته، وعدله في حكمه،

وبراعته في سياسته، مزايا لم تتفق في هذا الوطن لغيره، بل أقول: إن إجماع

طوائف هذا الوطن على الاعتراف بها لرجل من أهلها معجزة من معجزات النبوغ

العقلي، والتوفيق العملي.

فحق لطرابلس أن تفخر به على الأمصار، وحق لهذا البيت الإسلامي أن

يباهي به البيوتات من جميع الأديان، وحق لهذا الوطن أن يفيض حزنًا ويذوب

أسفًا على هذا النابغة الذي فقده في أشد أوقات الحاجة إليه، وقد كملت حُنكته،

وتمت خبرته، وعمت الثقة به في بلاد تأبى عليها ذلك تربيتها الدينية وتقاليدها

الطائفية، وتعاليمها المدرسية التي لا نظير لها في وطن من أوطان أمة من أمم

الأرض.

وأغرب مدارك هذا الإعجاز في ثقة نصارى لبنان بالشيخ محمد الجسر العالم

المسلم المعمم ابن الشيخ حسين الجسر الذي انتهت إليه رياسة علماء الإسلام، حفيد

الشيخ محمد الجسر أشهر صلحاء صوفية المسلمين بالولاية والكرامات، أن ينال

هذه الثقة في عهد سيطرة الدولة الفرنسية على لبنان واعتزاز نصارى لبنان بها،

وهي التي تعد شنئان الإسلام ومجاهدة أهله من أسس تقاليدها السياسية والصليبية

الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول.

كان الشيخ محمد الجسر أحد الأفراد الذين شذوا دون طائفتهم بإظهار الميل إلى

الاحتلال الفرنسي فسخطت عليه وكان مسلمو بلده (طرابلس) أشدهم سخطًا لخيبة

رجائهم فيه أن يكون أول حامل للواء الوطنية فيهم؛ لأنه أجدرهم بمعرفة خطر هذه

السيطرة عليهم في دينهم ودنياهم، ولم يكن يختلج في خاطر أحد منهم أن يكون

أقدر رجل فيهم، بل في بلادهم كلها على خدمة هذا الوطن الذي دهي بأقتل الدواهي

القاصمة، والفواقر المفقرة، فيكون البدر الطالع في غاسق الظلم إذا وقب،

والطبيب الآسي لشر سحرة السياسة النفاثات في العقد.

كان أول منصب ظهر فيه للطوائف كلها فضله منصب القضاء الأهلي برياسة

محكمة الجنايات للجمهورية، فشهد له جميع المتقاضين وجميع العارفين بضعف

القضاء في البلاد بأنه أعطى العدل والمساواة جميع حقوقها، حتى حكي عن بعض

من كانوا أظهروا له العداء من إحدى الطوائف النصرانية أنهم وقعوا بين يديه في

قضية يخفى مسلك الحق والعدل فيها، ويتسنى للقاضي الجائر أن يتصرف كيف

شاء في الحكم لمن يميل له أو عليه من خصومها، وظنوا أنه آن له أن ينتقم منهم،

ولم يلبثوا أن رأوا من عدله وإنصافه المالك عليه زمام أمره ما بدل خوفهم أمنًا،

وبغضهم له حبًّا.

ليس كثيرًا على شيخ مسلم سليل بيت الفقه والتصوف، وقد تولى رياسة

محكمة الجنايات واؤتمن على الدماء، أن يكون عدلاً في القضاء، فهذا فرض

يوجبه عليه دينه عقيدة وعلمًا وتربية، فنص القرآن يوجب المساواة في العدل بين

جميع الناس كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، برهم

وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وإنما بزغ نبوغ ابن الجسر كالشمس في توليه رياسة

مجلس النواب اللبناني ست سنين، كان يديره فيها كما يدير خاتمه في خنصره، فلا

يتعاصى شيء على إرادته، فأعجب بسياسته وكياسته الوطنيون والأجانب على

سواء.

حتى إذا ما انتهت المدة القانونية لرئيس الجمهورية اللبنانية، وأريد انتخاب

الرئيس الذي يخلفه علم موسيو بونسو مندوب فرنسة السامي ورجاله كغيرهم أن

السواد الأعظم من جميع الطوائف منتخبون للشيخ محمد الجسر لا محالة، حتى

نواب الموارنة الذين يعدون لبنان بتأييد فرنسة لهم وطنًا نصرانيًّا مورانيًّا كما صرح

بذلك بطركهم فكبر على غبطته أن يكون الشيخ رئيس جمهوريته، ورأى أن

المندوب السامي الفرنسي قد أظهر ارتياحه لانتخابه، ورضاه برياسته، فلجأت إلى

حكومة باريس العليا حتى أصدرت أمرها إلى مندوبها بوجوب منع هذه الكارثة،

فماذا يفعل وقد تجلى له أنه عاجز عن منع انتخابه، وأن جلاء فرنسة عن لبنان

وسورية أيسر خطبًا من جعل رئيس جمهورية لبنان شيخًا مسلمًا معممًا؟ لم ير حيلة

للتفصي من هذه المعضلة إلا إقناع الشيخ بترك ترشيح نفسه لها، فبذل المستطاع

من دهائه وأمانيه له، فأبت قناة الشيخ أن تلين لغمزته، وحية دهائه أن تستجيب

لرقيته، فلما أيقن أن الانتخاب مفض إلى جلوسه بعمامته البيضاء على كرسي

رياسة الجمهورية لم يجد مناصًا من هذه النتيجة إلا إصدار أمره الدكتاتوري بإلغاء

دستور لبنان من أساسه.

أكتب هذا مؤبنًا، لا مؤرخًا له مدونًا لسيرته، فإنني أرجئها إلى الجزء التالي

وأقتصر هنا على بيان أكبر ما أحاط بإعجابي من مزايا نبوغه الذي انفرد به، فكان

جديرًا بحزني وحزن وطنه وأمته عليه، وشعورهم بعظم الخطب بفقده بعد اكتمال

حنكته واستعداده لما يرجى من الرجال العظام الأفذاذ، الذين لا يظفر تاريخ الأمم

بأمثالهم إلا في بعض الأجيال، عسى أن يكون في هذا التنويه عبرة للمنافقين الذين

يظنون أن العظمة في نيل المناصب والرواتب، ولو بخيانة الأمة والوطن

والإخلاص في العبودية للأجانب، وأنى للمنافقين في صغار أنفسهم أن يعقلوا معنى

العظمة الصحيحة، أو ما دونها من مراتب الفضيلة؟

لا شيء يعزينا عن فقيدنا العزيز إلا ما روي لنا من تحقق ما كنا نتمناه من

كتابة مذاكرات حرة دَوَّنَ فيها ما علمه وخبره في أثناء معالجته للأمور العامة

ومعاشرته للعاملين من الوطنيين والأجانب، فهذه المذاكرات كنز نفيس هي خير

عوض تفيد الأمة أنفع ما كانت ترجو أن تتلقاه منه؛ ولكن الذي لا عوض عنه هو

ما كانت ترجوه من عمله عندما تتاح الفرصة للعمل، بعد التمهيد له بالثقة وجمع

الكلمة الذي لا ينهض بدونه وطن، فالمرجو من نجله الكبير وصنوه الكريم أن

يعجلا بنشر كل ما يمكن نشره منها، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءهما، ويطيل

بقاءهما، وينفع الأمة بهما، وأن يديم ذكر هذا البيت فخرًا وذخرًا لهذا الوطن

المسكين، ويفرغ عليهما وعليه الصبر في هذا المصاب، والله مع الصابرين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 475

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌غاية مصطفى كمال من مراحله

لما علمت أن مصطفى كمال باشا صرح بأن له غاية يجري إليها في مراحل

مقدرة، ورأيته قطع ثلاث مراحل منها، أيقنت بالحدس المنطقي أن غايته أن

يؤسس بالجمهورية التركية اللادينية دولة جديدة وقد فعل، وأمة جديدة تسمى تركية

إلى أن يتم تكوينها، ثم تسمى باسمه فهو يقبل دخول كل عنصر فيها إذا قبل

مقوماتها ومشخصاتها التي يقترحها وينفذها بالقوة ولغة جديدة غير اللغة التركية

المعروفة في تركستان وفي الأناضول؛ ولكنها مركبة منهما ومن اللغات اللاتينية،

ولا سيما الفرنسية، وتكتب بحروفها حتى إذا نشأ عليها وحدها جيل جديد بعد الجيل

الأول المخضرم نسبت إليه، وتنقطع الصلة بين هذه اللغة وجميع لغات الشرق

الإسلامية، ولا سيما العربية التي سبقه ملاحدة الاتحاديين إلى مناوأتها، وأقدم هو

وحده على الإجهاز عليها وقطع دابرها من الشعب التركي في مراحل خاصة بها،

وهو يعتقد أنه لا يتم له الإجهاز على الدين الإسلامي ومحو جميع آثاره من هذا

الشعب إلا بذلك، ويظن أنه متفق مع زعماء البلاشفة على الانتهاء إلى الإلحاد

والتعطيل بيد أنه يلوح لي أنه إن طال عمره وبلغ آخر هذه المرحلة؛ فإنه يضع

لهذا الشعب الذي سينسب إليه دينًا جديدًا مستمدًّا من الديانة الطبيعية التي وضعها

لأوربة بعض فلاسفتها، فاستحسنها جميع شعوبها وعدوها موافقة للعقل والحضارة

والسياسة؛ ولكن لم يتدين بها أحد؛ لأن مصدر الدين الموافق للفطرة لا بد أن يكون

سلطانه غيبيًّا فوق سلطان العقل البشري؛ لأنه هو ملجؤها في كل ما تعجز عنه

عقول البشر في الدنيا، وهو وجهتها الروحانية إلى ما تجنح له وترتقي إليه من

عالم الغيب.

يظن المعطلة الماديون أن الأنبياء المرسلين هم الذين وضعوا الأديان التي

دعوا إليها، فيزين لبعضهم غرور القوة إمكان محوها، ولبعض آخر أن يخضعوا

أقوامهم الضعفاء إخضاعًا تعبديًّا كما يخضعونهم إخضاعًا سياسيًّا واجتماعيًّا، ولا

تزال أكثر شعوب البشر ضعيفة قابلة لتجارب عجيبة كتجارب البولشفيك في

الروس، ومصطفى كمال في الترك، ولكل بداية غاية، وكل شيء بلغ الحد انتهى.

_________

ص: 478

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(كتاب السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات)

تأليف الداعي إلى السنة، والصاد عن البدعة، الشيخ محمد عبد السلام خضر

الشقيري الحوامدي مؤسس الجمعية السلفية بالحوامدية (جيزة) قال في طرته: (قد

ذكرنا فيه 700 حديث ما بين صحيح وحسن وقليل من الضعيف المقبول الوارد في

الترغيب والترهيب، و690 بدعة أو أكثر في الصلوات والأذكار والصيام الحج

وغير ذلك، و130 من الأحاديث الموضوعة والخرافات الفاشية بين المسلمين) .

كثرت الجمعيات الدينية في هذه البلاد، وإن لبعضها مجلات، وأكثرها تعقد

الاجتماعات لإلقاء الخطب والمحاضرات، وإن من مؤسسي بعضها لعلماء رسميين

من خريجي الأزهر وغيره من المعاهد الدينية، وآخرين من خريجي مدرسة دار

العلوم وغيرها من المدارس الأميرية، وأما الجمعية السلفية الحوامدية فهي تمتاز

باشتغال رئيسها بكتب الحديث والدعوة إلى الاهتداء بها، والأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر بأدلة كتب السنة، فأعضاؤها يتناهون عن جميع البدع والمنكرات في

الدين، وينكرون على كل من يزعم أن البدعة الدينية تنقسم إلى حسنة وسيئة، ولا

يقبلون قول أحد من الأحياء ولا الميتين في تحسين بدعة ولا تأويل سنة مما

اهتدى به السلف الصالح، وهم لم يتخذوا جماعتهم عصبية ولا كتب مؤسسها مذهبًا

يتعصبون له كالسبكية، بل يقبلون نصيحة كل من ينصح لهم بعلم ويقبلونها.

وقد جربت مرشدهم وداعيتهم بالنصيحة فألفيته يقبلها مغتبطًا مسرورًا داعيًا

لي، ولما رأيته في أول رسالة له ينقل الأحاديث النبوية من غير عزوها إلى

مخرجيها، وبيان ما قالوه في تصحيحها أو تضعيفها كما يفعل أكثر المؤلفين

المعاصرين ومحرري المجلات حتى مجلة الأزهر منها، وأنكرت عليه ونصحت له

بالمراجعة وتخريج الأحاديث، فقبل النصيحة ونوه بها في هذا الكتاب.

ومن فوائد هذا الكتاب بيان البدع والخرافات الفاشية في هذه البلاد، وإنكاره

على العلماء الرسميين إقرار العامة عليها، وتأويل بعضهم لها بما يضلهم ويخدعهم

بأنها مشروعة، وصفحاته 320، وثمن النسخة منه 7 قروش، ما عدا أجرة البريد.

***

(الثورة العربية الكبرى)

للأستاذ أمين سعيد المحرر في جريدة المقطم عنايةٌ بدرس أطوار الشعوب

الشرقية عامة، والأمة العربية خاصة، فهو يجمع ما يُنْشَر في الصحف والمصنفات

الجديدة من أخبارها وأحداثها، ويفصلها فصولاً، ويجعل لها أبوابًا وفهارس لتسهيل

الرجوع إليها، وقد ألف عدة كتب أبسطها وأمتعها كتاب (الثورة العربية الكبرى)

عرَّف موضوعه بقوله: (تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن) الذي

أصدرته هذا العام مطبعة (عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر) في ثلاثة أجزاء

أو مجلدات موضوع الأول (النضال بين العرب والترك) وهو الحلقة الأولى من

هذا التاريخ وفي مقدمته الكلام على الدولة العثمانية وتاريخها القديم والحديث مع

العرب والجمعيات العربية التي أفضت إلى الثورة، وموضوع الثاني (النضال بين

العرب والفرنسويين والإنكليز) وهو يشتمل على الحلقة الثانية منه وهو تاريخ

الحكومة الفيصلية من قيامها حتى سقوطها مع تاريخ القضية العراقية من ابتداء

الحرب العظمى حتى إنشاء الدولة الجديدة في بغداد سنة 1921، وموضوع الثالث

(إمارة شرق الأردن وقضية فلسطين وسقوط الدولة الهاشمية وثورة الشام) وهو

أكبر الأجزاء تبلغ صفحاته 652، فهو يزيد على حجم اللذين قبله، وصفحات

أولهما 130، وثانيهما 336.

لقد كان هذا الكتاب حاجة في نفس الأمة العربية مهدها لها كاتب من أبنائها،

فجمع لها ما لم يجمعه غيره من مواد تاريخها الحديث، فاستحق شكرها بالقول

والعمل، فشكر القول الثناء عليه، والتنويه به باللسان والقلم، ومنه نقده ببيان ما

قد فات المؤلف من الوثائق، وما نقصه من الحقائق، وتمحيص ما لم يمحصه من

المسائل، وشكر العمل قراءة الكتاب ونشره الذي يساعد المؤلف على المزيد من

إتقانه وتكميله في طبعة أخرى، وتصنيف غيره من الكتب النافعة، وأرجو أن

يكون لي عودة إليه بعد أن يتاح لي مطالعة الكثير منه، وإن فيما نشرته في

مجلدات المنار من قبل، وما لا أزال أنشره من سيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى

لحقائق عظيمة الشأن بعيدة الغور في تاريخ أمتنا الحديث والوحدة العربية التي كنت

في طليعة من كتب فيها ومن دعا إليها، ولله الحمد.

_________

ص: 479

الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي

مأساة أميرة شرقية

نقد وتحليل بقلم الأستاذ العلامة المصلح الشيخ محمد تقي الدين الهلالي

(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

نشرت مجلة (Bombay India of Weekly Illustrated The

المصور الأسبوعي للهند بمباي في 27 أغسطس 933) ضمن سلسلة مقالات في

تاريخ الشرق للكاتب الإنكليزي (كراهام لويس) مقالاً تحت عنوان (مأساة أميرة

عربية) ارتكب فيه أخطاء عظيمة، وها أنا ذا مترجم مقاله، فراد عليه بما يجلي

الشبهة، ويوضح الحقيقة بعد مقدمة وجيزة في بيان سبب كثرة الأخطاء والأغلاط

الجهلية، والخطيئات العمدية، التي تكثر جدًّا في كل ما يكتبه الإفرنج عن الإسلام

والمسلمين، والشرق والشرقيين.

مقدمة في أخطاء المستشرقين وخطاياهم

أيجوز أن نتلقى بالقبول كل ما يكتبون عن الشرق؟

لهؤلاء العلماء الأوربيين الذين يَتَسَمَّون بالمستشرقين أخطاء، ولهم خطيئات

أيضًا، أما أخطاؤهم فمنشؤها القصور؛ لأن أكثرهم إذا لم يكن كلهم يتعلمون الآداب

والعلوم الشرقية بأنفسهم بمطالعة الكتب، ويستعينون بتراجم أمثالهم ممن سبقهم،

فَيُلِمُّون باللغات والعلوم إلمامًا ضعيفًا لا يمكن صاحبه أن يجلس على منصة الحكم

ويقضي بالقسطاس المستقيم، والكتب وحدها لا تهدي ضالاًّ، ولا تعلم جاهلاً، وما

أحسن ما قاله أبو حيان النحوي وإن كان قد أخطأ في إيراده بالتعريض بالإمام ابن

مالك.

يظن الغُمر أن الكتب تهدي

أخا فهم لإدراك العلوم

ومن يُدري الجهول بأن فيها

غوامض حيرت عقل الفهيم

إذا رمت العلوم بغير شيخ

ضللت عن الصراط المستقيم

وتلتبس الأمور عليك حتى

تكون أضل من تُوما الحكيم [1]

وقد قيل: لا تأخذ العلم عن صُحُفي، ولا القرآن عن مصحفي [2] ، فأكثر

المستشرقين صحفيون في العلوم الشرقية، ولنضرب لذلك مثلاًً (جورج سايل)

أول من ترجم القرآن إلى الإنكليزية، وهو أحد الثلاثة الذين شهد لهم العلامة أحمد

بن فارس الشدياق رحمه الله بالمعرفة الحقيقية للغة العربية، وحكم على سائر

المدعين لمعرفتها على عهده في البلاد البريطانية أنهم لا يعلمون، ولذلك قرأت شيئًا

من ترجمته، فوجدت في الجزء الأول من القرآن أربعين غلطة، وكتبت في ذلك

مقالات نشرتها في مجلة الضياء الهندية في السنة الماضية (1352) .

ومثال آخر رسائل أبي العلاء المعري ترجمها إلى الإنكليزية عالم إنكليزي

نسيت اسمه، وطُبعت في أوربة، طالعتها فوجدتها مشحونة بالأغلاط.

ومثال ثالث ترجمة محمد مار مادويك العالم الأديب الشهير صاحب مجلة

(إسلاميك كلتشر) أي الثقافة الإسلامية، وله تصانيف جياد قرأت شيئًا من ترجمته

للقرآن فوجدت فيها أغلاطًا واضحة جدًّا، وكتبت إليه بشيء منها فاعترف وأجابني

شاكرًا وطالبًا المزيد، إلا في غلطة منها؛ فإنه أبى أن يعترف وعمي عليه فهم

الصواب فيها، وهي في قوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 12) ومثيلتها قوله بعد ذلك: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13) ترجمها بما معناه أليسوا سفهاء

إلخ، ووضع علامة الاستفهام في

آخر الجملة، وكذلك صنع بالتي بعدها، فلم يميز بين (ألا) المركبة التي هي

همزة الاستفهام ولا النافية كقوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14) ؟ وقول الشاعر:

ألا اصطبار لمن ولت شبيبته

وآذنت بمشيب بعده هرم

وبين (ألا) الاستفتاحية البسيطة كما في الآية، وفي قول امرئ القيس: ألا

أيها الليل الطويل ألا انجل البيت، فكتبت إليه جوابًا وضحت له المسألة، فرجع

إلى الاعتراف وقال: إنني متعجب جدًّا من عدم انتباه الأستاذ الغمراوي لهذه

الأغلاط، وأنا قد اعتمدت عليه في تصحيح الكتاب، وأقمت سنتين في مصر بقصد

تنقيحه.

ولو كان الزمان مواتيًا والفرصة سانحة لصححت ترجمته من أولها إلى

آخرها؛ لأنها أول ترجمة قام بها إنكليزي مسلم وآخرها أيضًا، وإن لم تسلم من

الأغلاط المعنوية أيضًا؛ ولكنها على كل حال أفضل من تراجم النصارى.

وأما الخطيئات فيرتكبها ثلاثة أضرب من المستشرقين:

(الضرب الأول) هم القسيسون المتعصبون كجورج سايل المتقدم ذكره

ومرجليوث وزويمر ومن على شاكلتهم، والحامل لهم على ارتكابها شدة بغضهم

للإسلام وللشرق كله من أجل الإسلام.

(الضرب الثاني) السياسيون المستعمرون وغرضهم معروف.

(الثالث) الأدباء الذين لا يترفعون عن الكذب وزخرف القول ليكتسبوا بذلك

المال الوافر، والشهرة الواسعة، وإعجاب القراء الأوربيين الجاهلين، الذين

يصدقون كل ما يقرؤون عن الشرق والشرقيين.

ولعل (مستر لويس كراهام) محرر المقالات الشرقية الأدبية التاريخية في

مجلة (المصور الأسبوعي) التي تُنشر باللغة الإنكليزية في مدينة (بمباي - الهند)

من هذا الضرب الأخير؛ فإنه كتب مقالاً في المجلة المذكورة بتاريخ

تحت

عنوان (مأساة أميرة شرقية) وملأه بالأكاذيب والأخطاء والخطايا، وستقف على

ذلك فترى كيف يعبث كُتاب أوربة بالحقائق، ويتحدثون عن التاريخ العربي بما

يشبه قصص ألف ليلة وليلة، لا فيما ينشر في بلادهم فقط، بل فيما ينشر في

الشرق الإنكليزي وأكثر المستعمرات وشبه المستعمرات أيضًا، ونحن عن ذلك

غافلون أو متغافلون.

قبل الشروع في نخل مقال كراهام، ووضعه على محك النقد يجب عليّ أن

أعترف بأن هنا لك قسمًا رابعًا من المستشرقين هم بريئون من تعمد الخطيئات

ومبرؤون عنها، وكانوا قبل هذا الزمان قليلاً جدًّا، فمنهم توماس كارليل وجيبون

وكوثى، وأما في هذا العصر فهم بحمد الله كثير لا يحصون؛ ولكن الخاطئين أكثر

منهم بكثير، بل لا مناسبة بينهم، فيجب علينا أن نفتح عيوننا، وننظر ماذا يقال

عن أدبنا وتاريخنا في الصحف والمخيلات (السينمات) ودور التمثيل وسائر

الأندية، ونغبر في وجوه المبطلين اهـ.

قال لويس كراهام:

الجمال في النساء يجلب لمن تحلت به كفلين متساويين من سعادة وشقاء،

وصحف التاريخ طافحة بالحوادث التي أتاح الحسن فيها للمرأة الثراء والغنى،

والمكانة، والنعيم والعذاب.

يظهر أن كل صورة ظهرت ملأى بالنور والغبطة تكون خاتمتها أبدًا ظلمة

وانحطاطًا من شامخ إلى هوة سحيقة.

ليلى بنت الجودي الغساني رئيس القضاة وُهِب لها جمال زاهر يحرق قلوب

الرجال، ويبعث أهواءهم، لقد اشتهرت شهرة واسعة بالجمال الفاتن منذ صباها،

ولم تلبث أن تزوجت بمالك بن نويرة، وكان مالك صديقًا حميمًا للبطل الإسلامي

العظيم (خالد بن الوليد) ولأسباب خارجة عن هذه القصة أتى مالك عملاً جعل

خالدًا لا يثق به، وساءت العلاقات بينهما جدًّا، حتى انتهى ذلك إلى أن صار كل

منهما رئيسًا لفرقة معادية للأخرى، وكلتا الفرقتين تبذل أقصى جهدها للفتك

بالأخرى بحجة شرعية في معتقدها الخاص، ولم تدم هذه الواقعة طويلاً حتى وقع

البائس مالك بن نويرة هو وحليلته ليلى أسيرين في يد خالد.

والآن قد ألممنا بشيء من وصف ليلى نقول: إنها وهبت قلبها لزوجها،

وعزمت على أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في الدفاع عنه لتربح حياته، وكانت

النساء إذ ذاك محتجبات، وكان كشف وجوههن يعد خزيًا وعارًا، ومع ذلك تزينت

ليلى بحليها، وأرادت أن تجعل حسنها شفيعًا في زوجها، فعزمت على أن تقصد

خالدًا تطلب منه الرحمة، وتظهر أمامه سافرة، وتضم إلى حسنها شفيعًا آخر وهو

أعذب ما تقدر عليه من الكلام لعله يهب لها حياة مالك.

كانت تلك الليلة ليلة لهو وطرب وسرور، وانبساط وشرب خمور، في

معسكر خالد، والجنود مغتبطون قاعدون حول النار يصطلون، ويعددون أعمال

ذلك اليوم (الوقعة) وبينما هم كذلك إذا بشبح متزمل بعباءة كثيفة يجتازهم حتى

يقف أمام فسطاط خالد، فما هي إلا همسة يهمسها الشبح للحارس حتى يلج الفسطاط،

ويرى خالد مضطجعًا على سريره ليستريح، وكانت ستائر الخيمة من الجوخ

العالي الذي أُخِذَ من الغنائم، وذلك السرير بعينه جاء من قافلة فارسية، وكان

الفسطاط مضاء بنور ضئيل، ورائحة العود تعبق فيه وتزيده روعة وجلالاً، وما

وقع بصر خالد على الشبح حتى نزع العباءة الضخمة التي كانت تحيط به،

وظهرت ليلى أمام خالد، ولم تلبث إلا لحظة حتى جثت على ركبتيها، وتفجر من

بين شفتيها الجميلتين جدول منحدر من الكلام، وكأن قلبها في مخالب طائر،

وأسعدتها عيناها ففاضت بالدموع، فرأت ابتسامة على شفتي خالد، واهًا! لقد

نجحت! لقد أذاب جمالها قلب القائد الحربي الحديدي، سُرت ليلى بذلك.

بغتة يكسر صوت خالد ذلك السكون، وكان صوته غليظًا خشنًا من الغضب،

ما كادت ليلى تسمع رنين لفظه حتى جحظت عيناها من الرعب، ولما رأت الرجل

الذي دعاه خالد فزعت منه، وأرادت أن تجفل؛ ولكن دمها صار جمدًا حين سمعت

نص الحكم الذي فاه به القائد، اضرب عنق مالك في الحين، وادع لي إمامًا يعقد

لي على ليلى الآن.

أما الرعب والفزع الذي وقع لهذه المرأة السالبة للعقول فلا يمكن وصفه،

فتصور القارئ له خير من أن أصفه له، فكرت ليلى لحظة وهي في غاية

الاضطراب، فتحققت أن جمالها هو الذي خذلها وأسلمها، لقد أنتج عملها ضد

المقصود، فبدلاً من أن توقظ رحمة خالد أيقظت هواه، لم يضع شيء من الوقت

ففي الحال أُبْلِغ البائس مالك الحكم، وما شعرت ليلى وهي لا تزال جاثية ذاهلة أمام

سرير خالد إلا وصوت مالك يرشق قلبها المثقل بالآلام ضغثًا على إبالة (هذا هو

سر القضية، ما قتلني إلا أنت) ، وهكذا صارت ليلى زوجًا لخالد لاعنة جمالها

الذي كان نكبة عليها.

حقًّا لقد كان جمال هذه المرأة مدهشًا، وناهيك أنه في وقعة عقرباء جالت

جنود خالد جولة (انهزمت انهزامة قليلة) فهجم العدو على فسطاط خالد، وكان

سيدهم (مجاعة) قد أسرته خيل خالد من قبل، فوجدوه مطروحًا هناك موثقًا،

فأراد هؤلاء البدو المتوحشون أن يقتلوا ليلى؛ لكن جمالها الفتَّان كان قد سرى في

قلب (مجاعة) وعمل عمله، فدفعهم عنها وأجارها منهم، وأرادوا أن يفكوا أسره،

فأبى وفضَّل أن يبقى أسيرًا عند ليلى ليمتع بصره بالنظر إليها حينًا.

واشتهر جمال ليلى وطار صيتها في الآفاق حتى صار الناس يتغنون به في

المدينة، فهاج هوى عبد الرحمن بن أبي بكر فأخذ يشبب بها، ويتغنى بحبه لها،

وما زال هائمًا بها حتى أسعده الحظ بتزوجها فرفعها إلى أعلى مكانة من الإجلال

حتى هجر لأجلها نساءه وخليلاته (سراريه) .

لكن ذلك الإجلال والعشق كان فارغًا؛ لأنه إنما كان يحب الجمال الجسمي،

ضاربًا عرض الحائط بجمالها النفسي، كان زواجه غمًّا عليها وحزنًا، لم تزل

الأميرة البائسة تذكر مالكًا وأيامه السعيدة، ولما وجدت نفسها في مستوى الحيوان

الأعجم إن هي إلا متعة وملهاة، انقبضت نفسها، واستولى عليها الهم، وغلب

عليها الصمت، فنحل جسمها، وذبل جمالها، فذبل معه حب عبد الرحمن لها.

وفي خاتمة الأمر رجعت إلى بيت أبيها لتقضي بقية أيامها في تفكير هادئ،

وهكذا كانت عاقبة هذه المرأة العجيبة - كانت حياتها كما ترى حياة شاقة أدت لأجلها

ثمنًا غاليًا حتى على حسنها وجمالها.

* * *

في الفسطاط

صور الكاتبُ داخلَ فسطاط خالد صورة تضاهي غرفة أحد ملوك الهند في

العصر الحاضر، فهذه النارجيلة الطويلة قائمة منتصبة، وهذه باطية بلورية مملوءة

خمرًا تحفها الكاسات النفسية، وهذه المباخر يتصعد في جو الحجرة دخانها ويعبق

طيبها، وهذه المصابيح الجميلة معلقة يتوقد نورها، وهذا خالد بن الوليد الذي

اخترعته مخيلة كراهام مرتديًا ثيابًا فاخرة على الزي المصري تخاله أحد العمد

المترفين جالسًا على كرسي مزخرف بديع، وتحت قدميه الحافيتين كرسي جميل

لوضع القدمين، وها هي ذي المائدة البهية منصوبة عليها من الفواكه ألوان وأفنان.

وهذه ليلى ابنة الجودي عارية النصف الأعلى من جسمها تقريبًا، متزينة

بأقراطها وفتخاتها، وثلاثة أزوج من الأساور، فزوج في عضدها، وآخر أسفل

قليلاً من مرفقها، وثالث في معصمها، متجردة في سراويل بلا غلالة ولا درع،

وحجالها في أسفل ساقيها إلى كعبيها، غادة بيضاء، وسيمة جيداء، ملفوفة لفاء،

هضيمة الخصر عظيمة ما تحته، طوالة زلحة برهرهة (ولولا التأدب مع المرحوم

العلامة أحمد بن فارس صاحب الساق على الساق لأسهبت في سرد هذه الأوصاف)

ترى هذه المرأة الفتانة جاثية على ركبة واحدة، محدقة النظر في وجه خالد العبوس،

جزوعًا هلوعًا، مستعطفة مستحرمة بعينيها، ومنظرها الذي يذيب الجماد، بله،

جدول الكلام المنصب المنساب من شفتيها كما قال كراهام مخترع القصة نفسه.

وأما خالد هذا الخيالي فيتصوره الرائي مقطب الوجه إلا أن عينيه لا

تستطيعان أن تخفيا ما سرى في جسمه ونفسه من الهيام بحسن هذه الدمية الجاثية

بين يديه، وهي كما قال الكاتب (تراجيدي) أي مأساة ترق لها قلوب الأسود

الهصر، والسباع الضارية، لو كانت حقيقية أو خيالية، أما وقد أساء مخترعها إلى

القراء بأن جعلها في الدعوى حقيقة تاريخية، وفي الواقع خرافة خيالية؛ فإن ذلك

يغض من روعتها، ويقلل من تأثيرها، ويشوش تصورها.

فيا ليت شعري أكان كراهام لويس جادًّا أم هازلاً، جاهلاً أم متجاهلاً،

مستهزئًا بنفسه أم بالقراء، أم بالتاريخ أم بالأدب حين أخذ صورة امرأة خليعة من

نساء الفرس الساكنين في بمباي ووضعها بين يدي صورة فلاح غني من ريف

مصر في غرفة راجا هندي مترف، وقال للناس هذه صورة خالد بن الوليد القائد

العربي، لا في بيعة بحمص أو دمشق (فيكون الأمر لولا النارجيلة والخمر قريبًا)

بل في معسكره بالبطاح من أرض بني تميم وهو في سرية متحفز لقتال أهل الردة؟

لكن هذا الكاتب الظريف أبى له خياله إلا أن يجعل فسطاطه مجلس كسرى أو

قيصر، وأضاف إليه نارجيلة، لئلا يحرم من زينة مجالس أولي النعمة والترف من

أهل الشرق الأقصى، وليس على فكره بمستنكر أن يجمع الأزمنة في زمان واحد،

والأمكنة المختلفة في مكان واحد، والأشخاص المتعددين في شخص واحد كما

سيأتي بيانه في تحقيق قصة ليلى ابنة الجودي ، لقد أعجبني جدًّا ما قال الأستاذ

معين الدين أحد رفقاء دار المصنفين في رده على هذا الكاتب في مجلة (معارف)

الأوردية؛ فإنه بعد أن فند ما تكذَّبه الكاتب، وأدى إليه ما يستحقه من الاحتقار قال

ما ترجمته: تصويره خالدًا وفسطاطه كمن يصور المسيح على طيارة يحوم في جو

باريس ويتفرج على قصورها. اهـ.

(يتبع)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: اشتهر اسم تُوما الحكيم حتى صار مضرب المثل في الجهل المركب من جهلين، الجهل بالأمر، والجهل بهذا الجهل، إذا قال الشاعر في هجائه:

قال حمار الحكيم توما

لو أنصف الناس كنت أركب

لأنني جاهل بسيط

وصاحبي جاهل مركب.

(2)

الصحفي من يأخذ العلوم عن الصحف بدون تلقٍ عن العلماء، وهو بالتحريك نسبة إلى الصحيفة؛ لأن العرب تنسب إلى المفرد لا إلى الجمع، والمصحفي من يتلقى القرآن من المصحف لا عن القراء الحفاظ وكل منهما يكون كثير الغلط والخطأ.

ص: 535