المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن - مسألة الإيمان دراسة تأصيلية

[علي بن عبد العزيز الشبل]

الفصل: وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن

وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد، أطاعت الجوارح، وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق، كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيِّنه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعة، والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى، فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق، وإن سمي تصديقاً، فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته)) اهـ.

*‌

‌ملاحظة وتنبيه:

ولما كان الكفر شعباً كثيرة، فإن هذه الشعب متفاوتة، الكفر فيها درجات، فمنها الكفر الأكبر كسب الله ورسوله ودينه، ومنها الكفر الأصغر؛ كسب المسلم وقتله والنياحة، كما أن الكفر الأكبر، شعبه متفاوتة أيضاً تفاوتاً واضحاً، وكل من نوعي الكفر الأكبر والأصغر على مراتب بعضها أشد من بعض، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوى (20/87) :((واعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض، فالكافر المكذب أعظم جرماً من الكافر غير المكذب؛ فإنه جمع بين ترك الإيمان المأمور به، وبين التكذيب المنهي عنه، ومن كفر وكذَّب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه، أعظم ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب، ومن كفر وقتل وزنا وسرق وصد وحارب كان أعظم جرماً)) اهـ.

3-

أن الكفر نوعان: كفر أكبر مخرج عن الملة، ومحبط للعمل، وموجب للخلود في النار، ولا يُغفر لصاحبه، وينفى عن صاحبه اسم الإيمان أصلاً وكمالاً، كالسحر وسب الله أو رسوله أو دينه أو كتابه أو الإعراض عن دين الله..!!

ص: 48

وكفر أصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط العمل ولا يوجب الخلود في النار، وهو تحت مشيئة الله في مغفرته، ولا ينافي أصل الإيمان، بل ينافي كماله الواجب، وهو حكم الكبائر من الذنوب، كالنياحة على الميت، والطعن في الأنساب، وقتال المسلم..الخ.

-كما أن الشرك والظلم والفسق والنفاق نوعان أكبر وأصغر.

وهذا الأمر مشهور معروف بين العلماء قد تواردوا عليه، ولا أظن ذا علم ينكره، أو يتطرق إليه شك فيه.

ومضى في النقل السابق عن ابن القيم في كتابه (الصلاة) مايؤيده.

4-

أنه هناك علاقة بين الكفر الأكبر والشرك الأكبر، وهي علاقة عموم وخصوص، فكل شرك كفر وليس كل كفر شركاً.

فالذبح لغير الله والنذر له والخوف منه خوف عبادة؛ شرك مع الله في تلك العبادات، وهو كفر أكبر مخرج عن الملة، ومناقض للإيمان.

أما سب الله ورسوله ودينه أو الاستخفاف بشرعه أو بالمصحف ونحو ذلك فهو كفر مخرج عن الملة، ولا يعد شركاً في الاصطلاح.

وكذلك الإعراض أو الاستكبار أو الشك والارتياب فهو كفر أكبر ولا يُسمى شركاً.

5-

أن الكفر ورد في موارده المعتبرة في نصوص الوحيين الشريفين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرد على صورتين:

1-

مُعرَّفاً بالألف واللام، فالمراد به الكفر المعهود أو المستغرق في الكفر، وهو المخرج من الملة.

2-

ويأتي منكراً غير مُعرَّف لا بالألف واللام، ولا بالإضافة والتخصيص.

فلا يعد بالصورة الثانية كفراً أكبر؛ بل الأصل فيه أنه كفر أصغر لا يخرج من الملة.

ومثل الفرق بين تلك الصورتين للفظة الكفر، كذلك هناك فرق بين الاسم المطلق للكفر، وبين مطلق اسم الكفر، كما قلنا سابقاً، والمطلب العاشر في الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان.

وهذا المعنى هو ما قرَّره الشيخ أبو العباس ابن تيمية في كتابه ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/237-238) حيث يقول:

ص: 49

((وروى مسلم في صحيحه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر)) .

أي هاتان الخصلتان هم كفر قائم بالناس، ففي الخصلتين كفر، حيث كانتا من أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام من شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق، حتى يقوم به حقيقة الكفر.

كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم من أصل الإيمان وفرق بين الكفر المعرف باللام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)) . وبين كفر مُنكرٍ في الإثبات.

وفرق أيضاً بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر، أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما في قوله:((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) .

فقوله: ((يضرب بعضكم رقاب بعض)) تفسير الكفار في هذا الموضع، وهؤلاء يُسمون كفاراً تسمية مقيدة، ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل: كافر، ومؤمن.

كما أن قوله تعالى: {مِن مَّآءٍ دَافقٍ} سمى المني ماء تسمية مقيدة، ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال:{فلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا} ..)) .

6-

أن أهل السنة والجماعة يعظمون لفظ التكفير جداً، ويجعلونه حقاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقط، فلا يجوز ولا يسوغ عندهم تكفير أحدٍ إلا من كفره الله أو كفره رسوله.

ولذا يقول الطحاوي في عقيدته المشهورة المتداولة: ((ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله. ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)) .

وكذا قرره ابن تيمية في عقيدته: الواسطية المتلقاه بالقبول، حيث يقول:

((فصل، ومن أصل أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

ص: 50

وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي..)) إلى آخر الفصل.

وإنما أهل البدع والأهواء هم الذين شعارهم تكفير من خالفهم فضلاً عن لمزهم وتعييرهم، ولذا يقول- رحمه الله-في ((الكيلانية)) 12/466:

((وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.

فصل: وأما تكفير قائل هذا القول فهو مبني على أصل لابد من التنبيه عليه، فإنه بسبب عدم ضبطه اضطربت الأمة اضطراباً كثيراً في تكفير أهل البدع والأهواء كما اضطربوا قديماً وحديثاً في سلب الإيمان عن أهل الفجور والكبائر.

وصار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية ويعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحق، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، فيصير فيهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق- ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يُكفِّر بـ ((المقالة)) التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها.

وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذماً مطلقاً، لا يفرقون فيه بين ما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، وما يقوله أهل البدع والفرقة.

أو يقرُّون الجميع على مناهجهم المختلفة، كما يُقرَّ العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة)) أهـ.

ص: 51