المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيان فساد أقوال الطوائف إجمالا: - مسألة الإيمان دراسة تأصيلية

[علي بن عبد العزيز الشبل]

الفصل: ‌بيان فساد أقوال الطوائف إجمالا:

أن الإيمان وكذا الكفر، كل منهما خصالٌ وشعبٌ عديدة، ومراتب متعددة، فمن الإيمان شعب إذا زالت زال الإيمان كله كالصدق في الحديث والحياء. وكذلك الكفر منه شعب إذا وقعت وقع الكفر الأكبر كالاستهزاء والسب لله ولدينه ولرسوله، ومنه شعب إذا وقعت لم يقع الكفر الأكبر المخرج عن الملة، كسب المسلم وقتاله والنياحة وغير ذلك، وإنما يكون مقترفها واقعاً في الكفر الأصغر، وهو الكفر العملي، وهو لا يخرج من الملة (1) .

* * *

‌بيان فساد أقوال الطوائف إجمالاً:

وهي الأقوال التي خالفت قول عامة أهل الحديث، أهل السنة والجماعة، إذ التفصيل ليس هذا مقامه، ولا لمثلي بيانه. لأنه يعتمد على عرض شبه كلٍ على حده، وتناولها بالبيان والجواب، وقد أفلح فيه الشيخ ابن تيمية في كتابيه الإيمان الكبير والأوسط، بما أظنه لو تأمله مريد الحق بعمدته لاكتفى به!

ونقد الأقوال إجمالاً يسلمني من مناهج المتكلمين في عرضهم المجرد لمقالات الطوائف دون تعقيب أو توضيح للصواب من ضده.

فأما قول الوعيدية: فقد خالف إجماع الصحابة، وخالف النصوص في الوحيين الشريفين؛ التي دلت على نفع الشفاعة لأصحاب الكبائر وإخراج الموحدين من النار، وعدم خلودهم فيها.

أ- من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن أنس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.

(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/237) ، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/516-520) ، وكتاب الصلاة لابن القيم (54-61) ، والرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (27/29) ، وأعلام السنة المنشورة للحافظ الحكمي (73-75) وغيرها كثير!

ص: 11

ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه) (1) .

ج- كيف وقد وعد سبحانه أن يغفر لمن شاء ممن لم يشرك به شيئاً كما في آيتي النساء {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ماَدُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُُ} [النساء:48] .

د-وأيضا الهدي النبوي في أصحاب المعاصي والكبائر الذين اقترفوها في عهده صلى الله عليه وسلم حيث لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بتجديد إيمانهم أو الدخول في الدين من جديد، لو كانوا فارقوه كما يقول هؤلاء؟

هـ-أن هؤلاء محجوجون بأنه ليس أحد إلا ويخطئ أو يترك أمراً واجباً عليه من أوامر الدين ونواهيه، فيلزم على قولهم أنه لم يبق على الإيمان أحد.

لأن الإيمان بهذا القيد عندهم، وهو كل لا يتجزأ ليس إلا الإيمان المطلق؟ ومن يدعيه؟!

وقول المرجئة المحضة بيِّنُ الفسادِ، لما يلزمه من اللوازم القبيحة الباطلة:

أ- فإن أبا لهب وأبا جهل يعرفان ربهما ويوحِّدانه في الربوبية ولا يجهلانه ومع هذا فهما من أهل النار ولا شك.

وكذا عامة من لم يؤمن بالرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمجوس ونحوهم.

ب- أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً وكان عارفاً بربه، غير جاهل به، وهو كافر من أهل النار. وكذا أبوه عبد المطلب!

(1) الأحاديث التي أغفل تخريجها هنا يعني أنه سيأتي تخريجها في التعليق على الكتاب المحقق ((الرسالة الواضحة)) بحول ربي وقوته.

ص: 12

ج- ومن لوازم قولهم الفاسد أن فرعون الجاحد لربوبية الله ظاهراً مؤمن كامل الإيمان لأنه عارف بالله في قلبه غير جاهل به، لقول أصدق القائلين سبحانه في آخر سورة الإسراء {قاَلََ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلَاّ رَبُّ السَمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَضَآئَّرَ وَإِنِّى لأَظَنُّكَ يَا فِرْعَوْنَ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] ، وقوله في أول سورة النمل {وَجَحَدُوا بِهاَ وَاسْتَيْقَنَتْها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ فَانظُرْ كَيْفَ كاَنَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14] .

د- كما أن من أقبح لوازمه أن إبليس – أعاذنا الله منه- عند هؤلاء الجهمية مؤمن بالله، لأنه عارف له بقلبه غير جاهل به.

هـ- ومن لوازم قولهم أنه لا يكفر إلا الجاهل بربه، والحقيقة أنه لا أجهل من جهم وأضرابه بربهم حيث جعل لله الوجود المطلق، وعطَّله من جميع الصفات، ومن كان كذلك فلا يعرف إلا في الذهن فقط ولا وجود له في الخارج.

فمن أجهل بربه منه؟ سبحان الله وتعالى عما يصفون!

3-

من لوازم بطلان مذهب الكرَّامية وأضرابهم بأن الإيمان هو النطق باللسان فقط!

أ- فإن المنافقين الذين كفَّرهم الله وكذَّبهم وجعلهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. فقال تعالى في سورة النساء: {إِنَّ المْناَفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا ً} [النساء:145] .

وفي أول سورة المنافقون: {إِذَا جَآءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 1-3] .

ص: 13

وكذا كل من أبطن في قلبه كفراً أو ناقضاً من نواقض الدين يكون عندهم مؤمناً مادام مُقراً بلسانه (1) .

ب- بل من جمع بين الكفر الاعتقادي والعملي أو النفاق الاعتقادي والعملي أو كلها يكون مؤمناً ما بقي مقراً بالإيمان باللسان!

ج- كما يلزم من ذلك- عندهم- أن من لا يستطيع النطق بلسانه لخرس أو عجز من خوف أو نحوه لا يكون مؤمناً ولو كان قلبه وعمله مطمئناً بالإيمان.

د- مناقضة هذا القول لقوله تعالى في آخر النحل: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ ولَهُمْ عَذاَبٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُم اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْياَ عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهًُمْ فِى الأَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل: 106-109] .

4-

قول جمهور الأشاعرة والماتريدين ونحوهم بأن الإيمان هو تصديق القلب) قول فاسد؛ لعدة اعتبارات منها:

(1) فإن المرجئة سلَّموا أن المكذب في الباطن، المصدق في الظاهر مؤمن، لكنه مُعذب مخلد في النار، فنازعوا في اسمه لا في حكمه، ومن حكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة فهو غلط عليهم، ومع هذا فتسميتهم له مؤمناً بدعة ابتدعوها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم. ذكره أبو العباس ابن تيمية في الإيمان الأوسط (7/475-476) .

ص: 14

أ-ما ورد تسميته إيمان من الأعمال والأقوال في النصوص الشرعية، كقوله تعالى في سورة السجدة:{إِنَّماَ يُؤْمِنُ بِئَايَتِناَ الَّذِّينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] .

وفي سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونُ الَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدَوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفًسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّدِقُونَ} [الحجرات:15] .

وقوله عن المؤمنين والمنافقين في التوبة: {لَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 44-45] .

ولما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا)) (1) .

فنصَّ على أن الإتيان بهذه الأعمال من الإيمان، ويُعلم أن تركها نقص في الإيمان ونفيٌّ لكماله الواجب، وصاحبها مستحق للبراءة منه (2) . مع وجود التصديق عندهما في قلبيهما.

(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان- باب قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)) (101) .

(2)

ولذا فإن أضبط حدٍّ للكبيرة: أنها كل ذنب تُوعِّد عليه بالحدِّ في الدنيا والغضب أو اللعنة أو النار، أو البراءة من صاحبه، أو نفي الإيمان عنه. كما اختاره المحققون.

ص: 15

كما روى مسلم أيضاً في حديث أنواع المجاهدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) . فسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم عمل القلب واللسان والجوارح إيماناً.

ب-يلزم عليه أن كل من لم ينطق بالشهادتين وهو مَصَّدق بقلبه بصدق الرسول وصحة دينه فهو مؤمن: كأبي طالب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى

مع الاتفاق على كفرهم، وأنهم من أهل النار خالدين فيها.

ج-كما يلزم عليه من الباطل أن من صدَّق بقلبه بالله ورسله.. ثم لم يصلِّ، ولم يصم، ولم يحج، أو لم يزكِّ سواءً جاحداً أو متعمداً من غير جحود.. أنه المؤمن الكامل؛ لبقاء التصديق بقلبه.

د-وكذلك يلزم عليه أن من صدق بقلبه ثم أتى ناقضاً من نواقض الإسلام من السحر أو الشرك أو الاستهزاء بالدين.. أنه مؤمن، لبقاء أصل التصديق بالله في قلبه وهذه من أفسد اللوازم على قولهم.

5-

أما قول مرجئة الفقهاء وأمثالهم فيستدل عليهم بفساد قولهم:

أ-بالأدلة الدالة على دخول الأعمال في الإيمان وهي كثيرة جداً مضى طرف منها.

ب-يلزم عليه أيضاَ أن من ترك فرضاً أو واجباً في الدين من الأعمال أنه لا يخرج عن الإيمان، كمن امتنع عن الزكاة عمداً، وهو ما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قتالهم، كما فعلوا مع المرتدين من العرب. وهم عند هؤلاء معهم التصديق والإقرار؟!

ج-كذلك من أقرَّ بلسانه وصدَّق بقلبه، لكن فعل ناقضاً كذبح لغير الله، أو سجود أو سحر، أنه مؤمن ليس بكافر؟

د-كذلك يُردُّ عليهم بالنصوص التي نفت الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر – وهي النصوص التي يستدل بها الوعيدية على خروج هؤلاء من الإيمان مثل:

ص: 16