الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن لفظ الإيمان يتعدى إلى غيره باللام دائماً نحو قوله تعالى: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وقول فرعون في الشعراء:{ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:49} ، وقوله تعالى في يونس: {فَمَآءَامَنَ لِمُوسَى إِلَاّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس:83]، وقوله:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] . وقوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، وآيات عديدة. أما لفظ التصديق وصدق ليصدق فإنه يتعدى بنفسه نحو: قوله تعالى في الصافات: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِناَّ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَْ} [الصافات:105] . وفي أولها: {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] . وفي سورة الزمر: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] فكلها بمقابل الكذب.
لو فرضنا أن معنى الإيمان لغة التصديق، لوجب أن لا يختص بالقلب فقط بل يكون تصديقاً باللسان، وتصديقاً بالجوارح كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق ((العينان تزنيان..)) الحديث.
كذلك لو قلنا: إن الإيمان أصله التصديق، فإنه تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والصوم إمساك مخصوص يتبيَّن بالمعنى الشرعي حيث يكون للتصديق لوازم شرعية دخلت في مسماه (1) .
* * *
العلاقة بين الإسلام والإيمان:
أي هل الإسلام هو الإيمان؟ وهل الإيمان هو الإسلام؟ أو غيره. فهذا مما افترقت فيه الطوائف، كافتراقهم في مسمى الإيمان.
(1) هذه الأوجه وغيرها بسطها أبو العباس ابن تيمية في مواضع من كتبه: في الإيمان الأوسط (7/529-536) ، وشرك الأصفهانية (142-143) ، والمجموع (10/269-276) ، والإيمان الكبير (126-134، 274-281) .
فقالت الوعيدية: إن الإسلام هو الإيمان والعكس صحيح (1) .
وقيل: الإسلام هو الكلمة أي كلمة التوحيد بالشهادتين. والإيمان هو العمل.
وهذان القولان لهما وجه صحيح يتضح عند التحقيق في معناهما.
وذهب الأشاعرة إلى أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، بأن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا (2) .
وهذا القول فيه حق وباطل يتضح إن شاء الله.
والقول الصواب الذي عليه أهل التحقيق القول بالتفصيل، وهو إجمالاً: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا. وإذا افترقا اجتمعا.
ومعناه:
* أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في نص واحد من كتاب أو سنة فإن لكل واحد منهما معنىّ يختص به.
فالإسلام: الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان والصلاة..
والإيمان: الأعمال الباطنة من الاعتقادات كالتوكل والخوف والمحبة والرغبة والرهبة
…
وغيرها.
وقد دل على هذا دلائل كثيرة منها اكتفاءً واختصاراً:
قوله تعالي في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قَولَوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِىقُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] فاجتمعا في نص واحد، ونفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام؛ فدل على افتراقهما أنهم مسلمون لكن لم يبلغوا أن يكونوا مؤمنين.
-وحديث جبريل عليه السلام المشهور وفيه ذَكَر الإسلامَ: بالأركان الخمسة، والإيمان: بالأصول الستة.
فإنهما اجتمعا في نص واحد، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم لكلٍ بمعنى غير الآخر؛ فدل على افتراقهما.
(1) كما في الإيمان الكبير (229،1346) ، وجامع العلوم لابن رجب (26) وما بعدها وهو لازم قولهم في مسمى الإيمان عند التأمل! وهو لازم قول الكرامية والمرجئة المحضة..!
(2)
وهو قول أبي بكر الباقلاني نقله عنه بلفظه شيخ الإسلام في الإيمان الكبير (147) وما بعدها وقال قبله: ((فصل: قال الذين نصروا مذهب جهم في الإيمان من المتأخرين كالقاضي أبي بكر وهذا لفظه..)) اهـ، فذكره.
وأركان الإسلام الخمسة أعمال ظاهرة، وأصول الإيمان الستة أعمال باطنة، ولا بد منهما جميعاً.
-وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وسعد جالسٌ، فترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. فقال: ((أو مسلماً)) مالك عن فلان، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، فقلت: مثل ذلك وأجابني بمثله، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد صلى الله عليه وسلم ثم قال:((يا سعد إني لأُعطي الرجل، وغيره أحب إليَّ منه، خشية أن يكبه الله في النار)) متفق عليه واللفظ للبخاري (1) .
ووجه الدلالة كما في دلالة آية الحجرات، بتفريقه صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم في نص واحد، مما يدل أن لكل منهما معنى يختص به.
-ويدل على هذا الفرق الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره: ((ثنا بهز بن حكيم ثنا علي بن مسعدة ثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب)) ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول: ((التقوى ههنا، التقوى ههنا)) (2)
(1) رواه البخاري موصولاً في كتاب الإيمان – باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة.. (27) ، ومسلم في الإيمان أيضاً – باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه (150) .
(2)
أخرجه في الإيمان أحمد في المسند (3/134-135)، وأخرجه البزار وأبو يعلى قال في المجمع 1/52:((رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه والبزار باختصار ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وأبوداود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون)) اهـ.
وأخرجه ابن حبان في المجروحين (2/111) من طريق ابن مسعدة به، وكذا العقيلي في الضعفاء (2/250) ، وانظره في تفسير ابن كثير (7/352)(الشعب) ، والمطالب العالية (2861) ، والدر المنثور (6/10) ، وعزاه فيه أيضاً لابن مردويه، وأورده الحافظ ابن رجب في الجامع محتجاً به، وعلته ابن مسعدة.
وابن مسعدة هو: علي الباهلي أبو حبيب البصري، مختلف فيه، وسبق من عدَّله وممن جرحه البخاري وقال: فيه نظر، ولذا تبعه العقيلي فأورده في الضعفاء، وضعفه النسائي وأبوداود وابن عدي في الكامل وقال: أحاديثه غير محفوظة.
ولذا قال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام من السابعة، وقد روى له البخاري في الأدب الترمذي وابن ماجه
وأورد صاحب تهذيب الكمال وتهذيبه هذا الحديث في ترجمته، كما فعل الذهبي في الميزان، وانظره في التاريخ الكبير (6/294) ، والميزان (3/156) ، والتهذيب (3/192)(الرسالة) ، والجرح والتعديل (6/204) .
ولا شك أن معنى الحديث صحيح ثابت في الصحيحين وغيره مما يشهد لهذا الحديث ويقوي جانب ثبوته.
ومن هنا قال الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم:
((قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم، فإن من حقَّق الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح بالأعمال.
وليس كل مسلم مؤمناً، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحقيقاً تاماً، مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلماً، وليس بمؤمن الإيمان التام)) اهـ (1) .
*ومعنى افتراقهما: أن يأتي أحدهما في نص دون الآخر، فعندئذٍ يكون أحدهما بمعنى الآخر، فالإسلام هو الإيمان والعكس صحيح.
ولهذا أدلة كثيرة في الوحيين:
-منها قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الأَخِرَةَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
-وفي أولها قوله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران:19] .
فاقتضينا أن الدين عند الله الإيمان، ومن يبتغ غير الإيمان ديناً فلن يقبل منه.
-ومنه قوله تعالى في خطابه للمؤمنين في آيات كثيرة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا} [البقرة:104] فإن الخطاب أيضاَ متوجه للذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، مما يدل على تناول أحدهما الآخر عند الانفراد.
-وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه واللفظ للبخاري (2) وفي لفظ آخر لهما ((الإيمان بضع وسبعون)) .
(1) جامع العلوم والحكم، شرح الحديث الثاني: حديث جبريل المشهور (28) ، وانظر منهج الحافظ ابن رجب (428) وما بعدها.
(2)
أخرجه البخاري موصولاً في كتاب الإيمان – باب أمور الإيمان (9) ، ومسلم في الإيمان أيضاً – باب بيان شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (35) .
فإن الإيمان هنا متناول للإسلام لاشتماله على الصلاة والصيام والحج والزكاة.
-ولما في الصحيحين – واللفظ للبخاري- من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه إليه صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (1) .
-وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) رواه البخاري (2) .
ففى كلا الحديثين المسلم يشمل المؤمن، مما يدل على أنهما بمعنى واحد عند الاجتماع.
-ومن أصرح الأدلة من السنة على كون افتراقهما يُصِّيرُ معناهما واحداً حديث وفد عبد القيس، المتفق على صحته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: ((تشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)) الحديث (3) .
(1) أخرجه البخاري موصولاً في الإيمان – باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (10) ، ومسلم في الإيمان أيضاً – باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (40) .
(2)
رواه البخاري وهذا لفظه متصلاً في كتاب الإيمان – باب من الدين الفرار من الفتن (19) .
(3)
الحديث أخرجه بطوله البخاري في أحد عشر موضعاً في صحيحه كلها متصلة هذا أولها في كتاب الإيمان – باب أداء الخمس من الإيمان (53) وهذا لفظه، وأخرجه مسلم في الإيمان أيضاً – باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين (17) .