الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذهب داود وابن حزم من الظاهرية إلى أن الرطوبة لا تنقض الوضوء ورد قول من قال بأنها ناقضة بأنه لم يرد بذلك نص فقال: " بُرْهَانُ إسْقَاطِنَا الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا ، هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ بِإِيجَابِ وُضُوءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا شَرَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ إلَّا مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَمَا عَدَاهَا فَبَاطِلٌ ، وَلَا شَرْعَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تبارك وتعالى وَأَتَانَا بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم"(1) والمتأمل لرد ابن حزم يدرك أنه لم رد على الحنفية والشافعية لذكرهم الرطوبة من النواقض ولكن لذكرهم انتقاض الوضوء من الخارج من السبيل سوى ما جاء به النص، قال ابن حزم: " وأما الشافعي فإنه جعل العلة في نقض الوضوء للمخرج وجعله أبو حنيفة للخارج وعظم تناقضه في ذلك كما ذكرنا، وتعليل كلا الرجلين مضاد لتعليل الآخر ومعارض له
…
" (2)
وبعد هذا البحث في أقوال الفقهاء يترجح لدي أن الرطوبة لا تنقض الوضوء لأمور:
أولاً: إنه لم يرد فيها نص واحد لا صحيح ولا حسن بل ولا ضعيف، ولا قول صحابي، ولم يُلزم أحداً من النساء بالوضوء لكل صلاة كحال المستحاضة أحد من العلماء.
ولو علمت النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يلزمهن الوضوء لكل صلاة بسبب الرطوبة لما كان لسؤالهن عن الاستحاضة معنى، فإنهن لم يسألن عن الاستحاضة إلا لأنهن لم يكنَّ يرين الرطوبة شيئاً ولم يكن يتوضأن منها لكل صلاة.
(1) ينظر المحلى 1/255ـ257
(2)
المحلى 1/260
والذي يفهم من ترك العلماء لذكر الرطوبة من نواقض الوضوء، أنهم لا يرونها ناقضاً، وليس العكس، فلو كانوا يرونها ناقضاً لذكروها من النواقض، ولو كان العلم بها مشتهراً، كما صنعوا في البول والغائط وغيرهما ولذا فإن ابن المنذر لم يذكر الرطوبة في النواقض المتفق عليها ولا المختلف فيها، (1) وليس صحيحا أن الفقهاء قعدوا القواعد ومناط الأحكام دون سائر المسائل؛ لأن ذلك كان من فقهاء الأمة الأوائل أما من جاء بعدهم فقد ذكروا من المسائل مالا يحدث إلا نادرا بل ربما ذكروا منها مالا يتصور حدوثه ومن يقرأ كتب فروع المذاهب خاصة الأحناف يدرك ذلك. (2)
ثانياً: إن نساء الصحابة كسائر النساء في الفطرة والخلقة، وليس كما يظن أن الرطوبة شيء حادث في هذا الزمان أو أنه يصيب نسبة من النساء، ولا يصيب الجميع، بل هو شيء لازم لصحة المرأة ولسلامة رحمها كحال الدمع في العين والمخاط في الأنف واللعاب في الفم، ولو قيل: إن هذه الأمور حادثة، وليس منها شيء فيما سبق لم يوافق على ذلك أحد. والنساء أعرف بهذا، غير أن نسبة الرطوبة تتفاوت في كميتها تبعاً للطبيعة كالعرق والدمع، فبعض الناس يعرق كثيراً وآخر يعرق قليلاً وليس من أحد لا يعرق بتة، ولو كان ذلك لصار مرضاً.
ولو افُترض أن هذه الرطوبة لا تصيب كل امرأة بل تصيب نسبة منهن، فما مقدار هذه النسبة أهي أقل من المستحاضات! فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أحكامها حتى جعل المحدثون والفقهاء للمستحاضة كتباً وأبواباً في مصنفاتهم، وهن أربع عشرة امرأة كما عدهن ابن حجر –رحمه الله.
(1) ينظر كتاب الأوسط المجلد الأول
(2)
على سبيل المثال قال ابن نجيم في البحر الرائق شرح كنز الدقائق:" وكذا الذباب إذا طار ودخل في الدبر وخرج من غير بلة، لاينقض! " ينظر كتاب الطهارة أحكام الوضوء نواقض الوضوء"
فلا يصح أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بيان هذا الأمر؛ لأنه لا يصيب كل امرأة، والأحكام تنزل في الواحد والاثنين، والحادثة وإن خصَّت فحكمها عام.
ثالثاً: كانت الصحابيات يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما كنَّ صفًّا أو أكثر، وربما صلَّى بالأعراف أو الأنفال أو الصافات أو المؤمنون، ويطيل الركوع والسجود، ولم يُروَ أن بعضهن انفتلت عن الصلاة وذهبت لتعيد وضوءها، فالأيام كثيرة، والفروض أكثر وحرصهن على الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمر، فلا بد أن تنزل هذه الرطوبة من واحدة أو أكثر أثناء الصلاة كما يصيبنا نحن في صلاة التراويح أو غيرها، ولم يستفسرن عن هذا ولو كان الوضوء واجباً وقد تركن السؤال ظنًّا منهن بالطهارة فمستحيل أن لا ينزل الوحي في شأنهن.
رابعاً: إن تكليف المرأة بالوضوء لكل صلاة لأجل الرطوبة إن كانت مستمرة أو إعادتها للوضوء إذا كانت متقطعة شاق، وأية مشقة، وهو أكثر مشقة من الاحتراز من سؤر الهرة الطوافة بالبيوت حتى جعل سؤرها طاهراً، وهي من السباع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلل طهارة الهرة بمشقة الاحتراز حيث يقول:"إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات". (1)
(1) ذكر ذلك ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 21/599 والحديث أخرجه أخرجه الترمذي كتاب الطهارة / باب ما جاء في سؤر الهرة 1 /153، 154،، أبو داود في كتاب الطهارة/ باب سؤر الهرة 1/19 من طريق عبد الله ابن مسلمة،، والنسائي في الطهارة /باب سؤر الهرة 1/55 من طريق قتيبة،، وابن ماجة في الطهارة/ باب الوضوء بسؤر الهرة 1/131 من طريق زيد ابن الحباب،، والدارمي في كتاب الطهارة/ باب الهرة إذا ولغت في الإناء 1/187 من طريق الحكم ابن المبارك،، وأحمد 5/303 من طريق إسحاق ابن عيسى 309 من طريق خالد الخياط،، والحاكم في الطهارة/باب سؤر الهرة 1/160 من طريق زيد،، وابن خزيمة في الطهارة /باب الرخصة في الوضوء بسؤر الهرة 2/294 من طريق ابن وهب،، وابن حبان في الطهارة/باب ذكر الخبر الدال على أن آسار السباع كلها طاهرة 2/294 من طريق القعنبي،، والدارقطني في كتاب الطهارة باب سؤر الهرة 1/70 من طريق احاق ابن عيسى،، والبيهقي في الطهارة باب سؤر الهرة1/245 من طريق زيد،، والشافعي في الوضوء باب ماخرج من كتاب الوضوء ص9،، وعبد الرزّاق في كتاب الطهارة باب سؤر الهرة 1/100،، وابن ابي شيبة في الطهارة/باب من رخص في الوضوء بسؤر الهر 1/53 من طريق زيد كلهم رووه عن مالك به ومالك أخرجه في الموطأ كتاب الطهاره /باب الطهور للوضوء 1/35 وإسناده صحيح، صححه الترمذي وابن خز يمة وابن حبان والحاكم والذهبي والعقيلي والبيهقي والنووي
خامساً: إن الله تعالى سمّى الحيض أذى وما سواه فهو طهر فقال: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ "(1)
فما كان طاهراً فكيف يُنجَس، وما كان طهراً فكيف يوجب وضوءاً؟.
فإن قيل: هذا المني طاهر ويوجب غسلاً؟
رد بأن خروج المني ليس هو سبب الغسل بل السبب في ذلك الشهوة البالغة المنتهى، ألا ترى أنه إذا ضعفت الشهوة لم توجب غسلاً وأوجبت وضوءاً بنزول المذي، ثم ألا ترى أن الإيلاج يوجب غسلاً ولا إنزال، فليست العبرة بنزول المني. ثم ألا ترى أن المرأة إذا رأت ما يرى الرجل ولم تر ماء لم يلزمها غسل فلابد من توفر الأمرين لقوله صلى الله عليه وسلم:"نعم إذا رأت الماء" كما أخرج ذلك البخاري في كتاب الغسل/ باب إذا احتلمت المرأة عن أم سلمة رضي الله عنها قال: "جاءت أم سليم امرأة طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال: نعم إذا رأت الماء".
سادساً: حديث أم عطية "كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً"يشهد لهذا المعنى فإذا
كن لا يعددن الصفرة والكدرة شيئاً فلأن لا يعددن الرطوبة شيئاً من باب أولى.
وقولها: لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً من الحيض، ولا تعد الصفرة والكدرة موجبة لشيء من غسل أو وضوء ولو كانت توجب وضوءاً لبينَّت ذلك.
سابعاً: إن جعل الرطوبة من نواقض الوضوء مع خلوه من الدليل يحرج النساء " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ "(2)
(1) البقرة 222
(2)
الحج 78
ومن تأخذ بهذه الفتوى وتلتزم بالوضوء من الرطوبة لو تمكنت من العمل بمقتضاها في بيتها وعملها فإنها لا تتمكن منها في العمرة والحج سيما المواسم والزحام، فهل ستعمل به تارة وتتركه أخرى، وهل يصح أن يكون ذلك حدثاً أحياناً ولا يكون حدثا أحياناً أخرى، ثم إن كثيرات ممن عملت بهذه الفتوى وألزمت نفسها بها أصابهن الوسواس الكثير، فصار شغلها الشاغل، هل نزل منها رطوبة أم لا؟
ثم إذا توضأت وصلَّت ووجدت شيئاً من ذلك ولم يكن مستمراً اضطرت لقطع صلاتها وإعادة الوضوء على الفتوى بأنه إذا كان متقطعاً لزمها إعادة الوضوء.
وهذا عسير جداً، ولا طاقة للمرأة به، والله تعالى لم يكلف عباده إلا بما يطيقون.
ثامنا: إن الأصل في النواقض الدليل الشرعي من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم" لا وضوء إلا من حدث. قيل وما الحدث قال: صوت أو ريح (1)
(1) وليس معنى ذلك أن لا يجب الوضوء إلا من ذلك؛لأنه لم يقله صلى الله عليه وسلم ابتداء بل قاله جوابا لسؤال وجاء ذكر النواقض الأخرى في أدلة أخرى في الكتاب والسنة ليس شيء منها يدل على أن الرطوبة تنقض الوضوء قال ابن خزيمة:"
صحيح ابن خزيمة ج1/ص18
باب ذكر الخبر المتقصى للفظة المختصرة التي ذكرتها والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم أن لا وضوء إلا من صوت أو ريح عند مسألة سئل عنها في الرجل يخيل إليه أنه قد خرجت منه ريح فيشك في خروج الريح وكانت هذه المقالة عنه صلى الله عليه وسلم لا وضوء إلا من صوت أو ريح جوابا عما عنه سئل فقط لا ابتداء كلام مسقطا بهذه المسألة إيجاب الوضوء من غير الريح التي لها صوت أو رائحة إذ لو كان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم ابتداء من غير أن تقدمته مسألة كانت هذه المقالة تنفي إيجاب الوضوء من البول والنوم والمذي إذ قد يكون البول لاصوت له ولا ريح وكذلك النوم والمذي لاصوت لهما ولا ريح وكذلك الودي.
". (1)
(1) الحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحة كتاب الوضوء / باب ذكر خبر روي مختصرا
…
1/18،، والترمذي في أبواب الطهارة / باب ما جاء في الوضوء من الريح 1/109،، وابن ماجة كتاب الطهارة/ بابلا وضوء إلا من حدث 1/171،،وأحمد2/471،، والبيهقي كتاب الطهارة/ باب الوضوء من الريح يخرج من أحد السبيلين 1/ 117،، والطبراني في الأوسط7/86،، وتمام الرازي في الفوائد 2/ 187 بأسانيد من طريق شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا إلا أن الطبراني رواه من طريق شعبة عن إدريس الكوفي عن سهيل به والحديث أصله في الصحيحين فعند البخاري في كتاب الوضوء/ باب لا تقبل صلاة بغير طهور. حديث رقم (135) ينظر الفتح 1/234. وفي الحيل / باب في الصلاة حديث رقم (6954) الفتح12/329،، وعند مسلم من حديث جرير عن سهيل عن أبي هريرة بلفظ (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) في كتاب الطهارة/ باب وجوب الطهارة للصلاة نووي 4/51،، حديث رقم 2
قال ابن حجر:"وقال البيهقي هذا حديث ثابت قد اتفق الشيخان على إخراج معناه من حديث عبد الله بن زيد وقال بن أبي حاتم سمعت أبي وذكر حديث شعبة عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا لا وضوء إلا من صوت أو ريح فقال أبي هذا وهم اختصر شعبة متن الحديث فقال لا وضوء إلا من صوت أو ريح ورواه أصحاب سهيل بلفظ إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحا من نفسه فلا يخرج حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا." تلخيص الحبير ج1/ص117
ولأجل عدم وجود الدليل على انتقاض الوضوء بالرطوبة رجع العلامة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن القول بانتقاض الوضوء بالرطوبة وكتب لي على بحث بعثت به إليه (راجعته فرأيت أقوى دليل على أن الرطوبة لا ينتقض بها الوضوء أن الأصل عدم النقض إلا بدليل)(1)
وبه احتج الشافعي رحمه الله كما نقله عنه السرخسي قال: "وهذا إشارة إلى موضع الحدث لا عينه فدلَّ أن الحدث ما يكون من السبيل المعتاد، والمعنى فيه أن قليل الخارج من غير السبيل ليس بحدث بالاتفاق، وما يكون حدثاً، فالقليل منه والكثير سواء كالخارج من السبيل، والدليل عليه الريح إذا خرج من الجرح لم يكن حدثاً بخلاف ما إذا خرج من السبيل، وهذا لأن الشرع أقام المخرج مقام الخارج في ثبوت حكم الحدث فما لا يخرج منه إلا النجاسة جعل الخارج منه حدثاً ونجساً، وما يختلف الخارج منه لم يكن حدثاً وإن خرج منه ما هو بنجس، تيسيراً للأمور. (2)
(1) نشر البحث بتعليق الشيخ بخط يده وهو رحمة الله عليه آية في الاجتهاد والفقه تعلمنا منه وانتفعت به الأمة نفعا عظيما حشرنا الله به مع الصديقين
(2)
ينظر "المبسوط" للسرخسي 1/76، وهذا القول جيد في هذه المسألة، وعليه فمخرج الرطوبة وهو المتصل بالرحم ليس مخرجاً للنجاسة ولا سبيلاً له، بل الخارج منه يختلف، فالمني طاهر والحيض نجس، والفم يختلف الخارج منه فالريق طاهر والقيء نجس. والله أعلم.