الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشارح
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عِوجًا، وأسند بيانه إليه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فكانت سنته بيانًا لمجمله، وقيدًا لمطلقه، فأعظم بها منهجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي لم يجعل في دينه حرجًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، وواضعًا عنهم كلّ إصر كان أثقل ظهر الأولين مُحْرِجًا، صلّى الله عليه وعلى آله، وصحبه، وسلّم تسليمًا أبلجًا.
[أما بعد]: فإن سنن الإمام الحافظ الحجة الثبت أبي عبد الله محمد بن يزيد المعروف بابن ماجه من أهمّ الكتب التي تتداولها أيدي طلبة العلم في جميع أقطار الأرض من قديم الزمان، غير أنه لم يقم أحد بشرحها شرحًا وافيًا بمقاصدها، ومستوعبًا لمباحثها، ومزيلًا لملتبساتها، وفاتحًا لمقفلاتها، ومبيّنًا ما تضمّنته من أنواع العلوم، وأسرار الفهوم، وموضّحًا ما وقع فيها من الأحاديث الواهية، وغيرها من المطالب التي هي من أهمّ المهمّات لطلّاب العلم، ولا سيّما طلّاب الحديث، وقد كتب كثيرون من فضلاء المتقدّمين، والمتأخرين عليها تعليقات لا بأس بها، لكنها قطرات، لا تُروي الغليل، ولا تشفي العليل، فأحببت أن أتشرّف بخدمتها حسب الطاقة بشرح متّصف بالأوصاف السابقة، تتجلّى فيه معاني الأحاديث باسقة، متحلّية بحلل جواهر أهل الحديث، ممن أسهموا في خدمة هذا الفنّ في القديم والحديث، وأخصّ منهم الإمام الحافظ الحجة، حذام المحدثين في المتأخرين، شيخ الإسلام أحمد بن محمد بن عليّ المعروف بابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، فإن كتبه هي مادّة هذا الشرح، ولا سيّما كتابه العديم النظير في بابه "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، فقد قلت، وأقول، وأكرر: لولا فتح الباري، ثم "فتح الباري" ما قضيت أوطاري، وكذا كتب الأئمة: ابن
المنذر، والبيهقيّ، والبغويّ، والخطابيّ، والقاضي عياض، والقرطبيّ، والنوويّ، والمنذريّ، والذهبيّ، وابن حزم، وابن تيميّة، وابن القيّم، والعينيّ، وابن قُدامة، والصنعانيّ، والشوكانيّ، وابن الأثير، والفيّوميّ، وابن منظور، والمجد الفيروزأباديّ، وغيرهم ممن يمرّ عليك حين أعزو الكلام إليه، رحمعهم الله تعالى أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، وأدخلنا مدخلهم الكريم آمين.
فسيكون الشرح -إن شاء الله تعالى- بحوله وقوته قرّة أعين محبي السنة، يزيل عنهم كلّ غبَش وسنة، فيا طلّاب علم الحديث أهلا بكم في رحاب كتاب نفيس، رائق الحديث لكل جليس، ولكل من استوحش ببعده عن فنّ الحديث أنيس.
يَا ابْنَ الْكِرَام أَلَا تَدْنُو فتُبْصِرَ مَا
…
قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كمَنْ سَمِعَا
وسمّيته: [مشارق الأنوار الوهّاجة، ومطالع الأسرار البهّاجة، في شرح سنن الإمام ابن ماجه]، والله تعالى الكريم، أسأل أن ينفعني به، وكلّ من تلّقاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
(اعلم): أنه ينبغي لي أن أُقدّم بين يدي الشرح ترجمة لصاحب الكتاب، وبيان مكانَة "سننه"، فأقول:
هو الإمام الحافظ الكبير الحجة المفسر أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه الرَّبَعي (1) بالولاء الْقَزْوِيني (2)، مصنف "السنن"، و"التاريخ"، و"التفسير"، وحافظ قزوين في عصره، ولد سنة تسع ومائتين، وسمع من علي بن محمد الطنافسي الحافظ،
(1)"الرَبَعيّ" -بفتح الراء والباء الموحّدة، وبعدها عين مهملة-: نسبة إلى ربيعة، وهي اسم لعدّة قبائل، راجع "لبّ اللباب" مع هامشه 1/ 364. ولا يُعرف إلى أيها ينتسب المصنّف رحمه الله تعالى.
(2)
"الْقَزويني" -بفتح القاف، وسكون الزاي، وكسر الواو-: نسبة إلى قَزْوين، وهي من أشهر مُدُن عراق العجم، خرج منها جماعة من العلماء.
وأكثر عنه، ومن جُبَارة بن المُغَلِّس، وهو من قدماء شيوخه، ومن مصعب بن عبد الله الزبيري، وسويد بن سعيد، وعبد الله بن معاوية الجمَحيّ، ومحمد بن رُمْح، وإبراهيم ابن المنذر الحِزَامي، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبي بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار، ويزيد بن عبد الله اليمامي، وأبي مصعب الزهري، وبشر بن معاذ العقدي، وحميد بن مسعدة، وأبي حذافة السهمي، وداود بن رُشيد، وأبي خيثمة، وعبد الله بن ذكوان المقرئ، وعبد الله بن عامر بن بَرّاد، وأبي سعيد الأشج، وعبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم، وعبد السلام بن عاصم الْهِسِنجاني، وعثمان بن أبي شيبة، وخلق كثير مذكورين في "سننه" وتآليفه.
وروى عنه جماعة، منهم: إبراهيم بن دينار الحوْشيّ الهمَذَانيّ، وأحمد بن إبراهيم الْقَزْوينيّ، جدّ الحافظ أبي يعلى الخليليّ، وأبو الطيّب أحمد بن رَوح البغداديّ الشَّعْرانيّ، ومحمد بن عيسى الأبهري، وأبو عَمْرو أحمد بن محمد بن حكيم المديني الأصبهانيّ، وإسحاق بن محمد القزوينيّ، وجعفر بن إدريس، والحسين بن عليّ بن يزدانيار، وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القزوينيّ القطان، وسليمان بن يزيد القزوينيّ، وعليّ ابن سعيد بن عبد الله العسكريّ، وآخرون.
قال القاضي أبو يعلى الخليليّ: كان أبوه يزيد يعرف بماجه، وولاؤه لربيعة. وعن ابن ماجه قال: عرضت هذه "السنن" على أبي زرعة الرازي، فنظر فيه، وقال: أظنّ إن وقع هذا في أيدي الناس، تعطلت هذه الجوامع، أو أكثرها، ثم قال: لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا، مما في إسناده ضعف، أو نحو ذا.
قال الذهبيّ: قد كان ابن ماجه حافظا ناقدا صادقا، واسع العلم، وإنما غَضّ من رتبة "سننه" ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات، وقول أبي زرعة -إن صح- فإنما عَنَى بثلاثين حديثا الأحاديث المطّرحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة، فكثيرة، لعلها نحو الألف (1). قال أبو يعلى الخليلي: هو ثقة كبير متفق
(1) هذا فيه مبالغة لا تخفى على بصير.
عليه، محتجّ به له معرفة بالحديث وحفظ، ارتحل إلى العراقين، ومكة، والشام، ومصر، والرّيّ لكَتْبِ الحديث. وقال الحافظ محمد بن طاهر المقدسيّ: رأيت لابن ماجه بمدينة قزوين تاريخا على الرجال والأمصار من عهد الصحابة إلى عصره، وفي آخره بخط صاحبه جعفر بن إدريس: مات أبو عبد الله يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء، لثمان بقين من شهر رمضان، من سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وسمعته يقول: وُلدت في سنة تسع ومائتين، ومات وله أربع وستون سنة، وصلى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه أخواه أبو بكر وأبو عبد الله، وابنه عبد الله.
وقال الذهبيّ: مات في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وقيل: سنة خمس، والأول أصحّ، وعاش أربعا وستين سنة. وقع لنا رواية "سننه" بإسناد متصل عال، وفي غضون كتابه أحاديث يَعْلُو بِهَا صاحبه الحافظ أبو الحسن القطان. وقد حَدَّث ببغداد أخوه أبو محمد الحسن بن يزيد بن ماجه القزويني، في حدود سنة ثمانين ومائتين، إذ حَجّ عن إسماعيل بن توبة القزويني الحافظ، سمع منه الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر.
وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب": كتابه في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدًّا، حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه هو ضعيف غالبا. وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث منكرة، والله تعالى المستعان، ثم وجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد ابن علي الحسيني ما لفظه: سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: كل ما انفرد به ابن ماجه فهو ضعيف -يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة-. انتهى ما وجدته بخطه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الكلام ليس بصحيح على إطلاقه، فإن فيه أحاديث انفرد بها، وهي إما صحيحة وإما حسان، وكذا حمل الحافظ هذا الكلام في "التهذيب" على الرجال غير صحيح، لأنه انفرد برجال ثقات وسوف تراهم حين أنبه عليهم في هذا الشرح -إن شاء الله تعالى-.
قال: وذكر ابن طاهر في "المنثور" أن أبا زرعة وقف عليه، فقال: ليس فيه إلا نحو سبعة أحاديث.
وذكر الرافعي في "تاريخ قزوين" في ترجمته أنه محمد بن يزيد، وأن "ماجه" لقب يزيد، وأنه بالتخفيف اسم فارسي، قال: وقد يقال: محمد بن يزيد بن ماجه، والأول أثبت. قال: رثاه محمد بن الأسود القزويني بأبيات، أولها [من الوافر]:
لَقَدْ أَوْهَى دَعَائِمَ عَرْشِ عِلْمِ
…
وَضَعْضَعَ رُكْنَهُ فَقْدُ ابْنِ مَاجَهْ
ورثاه يحيى بن زكريا الطرائفي بقوله [من الوافر أيضًا]:
أيَا قَبْرَ ابْنِ مَاجَهْ غِثْتَ قَطْرًا
…
مَسَاءً بِالْغَدَاةِ وَبِالْعَشِيِّ
قال: والمشهورون برواية "السنن": أبو الحسن القطان، وسليمان بن يزيد، وأبو جعفر محمد بن عيسى، وأبو بكر حامد الأبهري، وسعدون، وإبراهيم بن دينار. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: "ماجه" بسكون الهاء وصلًا ووقفًا. قال ابن خلّكان: "وماجه" -بفتح الميم والجيم، وبينهما ألف، وفي الآخر هاء ساكنة. انتهى. وقال في "القاموس، وشرحه تاج العروس". "ماجه" بسكون الهاء، كما جزم به الشمس بن خلّكان لقب والد الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد الرَّبَعيّ القزوينيّ، صاحب "التفسير"، و"التاريخ"، و"السنن"، لا لقب جدّه، كما زعمه بعضٌ، قال شيخنا: وما ذهب إليه المصنّف، فقد جزم به أبو الحسن بن القطّان، ووافقه على ذلك هبة الله بن زاذان، وغيره، قالوا: وعليه فيُكتب "ابن ماجه" بالألف لا غير. وهناك قول آخر ذكره جماعة، وصحّحوه، وهو أن "ماجه" اسم لأمّه. والله تعالى أعلم. انتهى (1).
وقال في "الرسالة المستطرفة": "ماجه" لقب أبيه، لا جدّه، ولا أنه اسم أمّه، خلافًا لمن زَعَم ذلك، وهاؤه ساكنة وصلًا ووقفًا؛ لأنه اسم أعجميّ. انتهى (2).
(1)"القاموس"، مع شرحه "تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 102.
(2)
راجع "الرسالة المستطرفة"(ص 17).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قدْ تبيَّنَ بما ذُكر أن الصواب أن "ماجه" يقرأ بالهاء الساكنة وصلًا ووقفًا، وأما ما اشتهر في الآونة الأخيرة من قراءته وكتابته بالتاء المربوطة، فغلطٌ؛ لأنه لم يثبت ممن يُعتمد قوله، ومن العجيب الغريب أن محقّق "سنن ابن ماجه" الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي قال فيما كتبه في آخر الكتاب بعد أن أورد الكتب التي كتبته بالهاء، وما قاله ابن خلّكان من ضبطه بالهاء الساكنة: ما نصه: وهل بعد ضبط ابن خلّكان مقالٌ لإنسان؟. فأصاب، ولكن الغريب العجيب أنه أورد بعد ذلك الكتب التي كتبته بالتاء المربوطة، ثم قال: وإنما أتعبت معي القرّاء لكيلا يُخطّىء بعضهم بعضًا، ممن قال:"ابن ماجه" -أي بالهاء- فهو على صواب، وأمامه ما يأتسي به، ومن قال:"ابن ماجة" -أي بالتاء- فهو على بيّنة أيضًا، وليس بضارّه شيئًا أن يخالفه سواه. انتهى.
وهذا هو العجب العجاب، فأين البيّنة على هذا، فهل توارد المطابع في الغلط يكون بيّنة على تصويب الغلط، كلّا ثم كلّا، فهلا يأتينا ببيّنة واحدةٍ من كلام المحققين، كابن خلّكان، وصاحب القاموس، كما فعل في الهاء الساكنة، فهيهات، هيهات.
والحاصل أن قراءة "ابن ماجه" وكتابته بالهاء الساكنة وصلًا ووقفًا هو الصواب الذي لا يجوز سواه، فإنه اسم عجميّ، يُنطق به كما سُمع، فكما لا يقال في "سيبويه، ونفطويه، وواهويه، ونحوها": سيبوية، ونفطوية، وراهوية بالتاء المربوطة، لا يقال هنا أيضًا:"ابن ماجة" بالتاء، فافهم، وتبصّر بالإنصاف، ولا تتهَوَّر بتقليد ذوي الاعتساف، والله تعالى يتولّى هداك، اللهم اهدنا فيمن هديت آمين.
وإنما أطلت في هذا البحث؛ لأني رأيت من يدّعي صحّة "ابن ماجة" بالتاء، ويخاصم في ذلك مستندًا إلى ما كتبه الأستاذ المذكور، فأحببت أن يتبيّن الحقّ، ولا يُغترّ بمثله. والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: عدد كتب "سنن ابن ماجه" اثنان وثلاثون كتابا. وقال أبو الحسن القطان: في "السنن" ألف وخمسمائة باب، وجملة ما فيه أربعة آلاف حديث. ذكره الذهبي في "سيره". (1). وذكر الأستاذ محمد فؤاد أن عدد كتبه (37) عدا المقدّمة، وعدد
(1) راجع "سير أعلام النبلاء" 13/ 277 - 281. و"تهذيب الكمال" 27/ 40 - 42. =
أبوابه (1515) بابًا، وعدد أحاديثه (4341) انتهى.
وعدد الأحاديث الصحيحة منه على ما حققه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى (3503) وعدد الأحاديث الضعيفة منه (948). لكن المجموع يخالف ما قاله محمد فؤاد، ويحتاج إلى تدقيق، وإمعان، وسأحقّقه عند متابعة العمل في الشرح، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[خاتمة]: عملي في الشرح كما يلي:
1 -
كتابة نصّ الكتاب، أو الباب، ثم شرح ذلك، إن احتاج إليه.
2 -
كتابة نصّ الحديث سندًا ومتنًا، مع معارضة النسخ الموجودة لديّ.
3 -
ذكر تراجم رجال السند، مسلسلًا بالأرقام، وأذكر له عنوانًا بقولي:
رجال هذا الإسناد: خمسة، أو ستة، أو نحو ذلك.
4 -
إن كان المترجم لم يسبق له ذكر، ذكرت له ترجمة متوسّطة، إذا كان من المشاهير الأعلام (1)، وإن كان ممن تُكُلِّم فيه توسّعت في ترجمته بذكر ما قاله العلماء الجرح والتعديل، حتى يعرف حقَّ المعرفة بما له، وما عليه، وإن تقدَّمت ترجمته ذكرت ما يُعرف به من نسبه، وطبقته، ومرتبته في العدالة، والضعف، مع الإحالة إلى موضع ذكره.
5 -
أعتمد أولًا عبارة "تقريب التهذيب" حتى تكون كالفَذْلَكَة (2)، ثم أذكر
= و"تهذيب التهذيب" 3/ 737 - 738.
(1)
وإنما توسّعت في ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه، وإن كان من المشاهير؛ لأجل مناسبتها لما ذكره المؤلّف في مقدّمة كتابه من أبواب العلم، وغيرها؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه هو من أوائل طلاب العلم النبويّ ومؤسسيه، فكانت معرفة ترجمته الوافية معينة لطلاب العلم كيف يسلكون في طلبه، وكيف يصلون إلى غرضهم منه، فهذا هو السرّ في إطالة ترجمته رضي الله عنه، فليُفهم، والله تعالى وليّ التوفيق.
(2)
قال في "القاموس": فَذْلَك حسابَهُ: أنهاه، وفَرَغ منه، مُخترعةٌ من قوله: إذا أجمل حسابه، فذلك كذا وكذا انتهى.
بعدها ما يكون كالتفصيل لها مما في "تهذيب التهذيب" غالبًا، و"لسان الميزان"، و"تعجيل المنفعة"، و"هدي الساري مقدّمة فتح الباري"، وكلها للحافظ أبي الفضل ابن حجر المتوفّى سنة (852 هـ) رحمه الله تعالى، وهو المراد عند إطلاقي لفظ "الحافظ" في هذا الشرح، وفي غيره من مؤلّفاتيّ.
ومن "تهذيب الكمال" للحافظ أبي الحجّاج المزّيّ المتوفّى سنة (742) رحمه الله تعالى، و"الخلاصة" للحافظ الخزرجيّ المتوفّى سنة (923) رحمه الله تعالى، و"سير أعلام النبلاء"، و"تذكرة الحفّاظ"، و"ميزان الاعتدال"، وكلها للحافظ الذهبيّ المتوفّى سنة (748) رحمه الله تعالى.
وقد أزيد في بعض المواضع من "التاريخ الكبير" للإمام البخاريّ المتوفّى سنة (256) رحمه الله تعالى، و"الجرح والتعديل" للإمام ابن أبي حاتم المتوفّى سنة (327) رحمه الله تعالى، و"الثقات" للإمام ابن حبّان البستيّ المتوفّى سنة (354) رحمه الله تعالى، وغيرها من كتب المحقّقين الأعلام رحمهم الله تعالى.
6 -
ذكر لطائف الإسناد.
7 -
ترقيم الكتب والأبواب، والأحاديث الموجودة في الكتاب، وبيان ما تفرّد به المصنّف عن بقيّة أصحاب الأصول الستّة.
8 -
أكتب رقم الطبقات بين قوسين هكذا [1] ورقم الباب والحديث هكذا 1/ 1 فأقول مثلًا: محمد بن عبد الله بن نمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة ثبت [10] 1/ 4 فالرقم الذي قبل الخط المائل للباب، والذي بعده للحديث.
9 -
ثم أدخل في شرح الحديث مبتدءًا بذكر الصحابيّ، أو من دونه حسب ارتباط الكلام، وأكتب عنوانًا "شرح الحديث" "عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
"، فأذكر ما يتطلّبه ذلك الحديث من شرح غريبه، وإعرابه وإيضاح ما يُستشكل من جمله، ببيان أقوال اللغويين، والنحويين، والفقهاء المعتبرين.
10 -
ثم أذكر المسائل التي تتعلّق بذلك الحديث، فأكتب عنوانًا "مسائل تتعلّق
بهذا الحديث" "المسألة الأولى" في درجته، "المسألة الثانية" في تخريجه، "المسألة الثالثة" في فوائده، مقدّمًا فيها ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، ومنه يُعلم مطابقة الحديث للباب، "المسألة الرابعة" في اختلاف أهل العلم في حكم كذا، وهلُمّ جرّا بحسب كثرة متعلّقات الحديث وقلّتها، وهكذا كلّ حديث إلى أن ينتهي الباب، أو الكتاب.
11 -
إذا كان الحديث ضعيفًا لا أتوسّع في البحث فيه إلا في شرح غريبه، وبيان درجته، وأسباب ضعفه، إلا إذا كان ضعفه بسند المصنّف خاصّة، مع صحته عند غيره، ولا سيما إذا كان في "الصحيح"، فإني أستوفي شرحه، وبيان ما يتعلّق به، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(خاتمة) أختم بها المقدّمة -وأسأل الله تعالى حسنها-:
(اعلم): أنه جرت عادة أهل العلم، ولا سيّما المحدّثون رحمهم الله تعالى أن يسوقوا أسانيدهم إلى أصحاب الكتب في أول شروعهم، قراءةً، أو تدريسًا، أو شرحًا، أو غير ذلك؛ لأنها كما قال بعض الفضلاء، أنسابُ الكتب، فأقول تأسيًا بهم، واقتفاء لآثارهم: إنه اتّصل سندي بالإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى في "سننه" خاصّة، وجميع مؤلفاته عامّة بطرق مختلفة، أقتصر منها على ما يخصّ "سننه"، فأقول:
أروي سنن الإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله بن يزيد المعروف بابن ماجه القزوينيّ 202 - 273 هـ رحمه الله تعالى عن مشايخ كثيرين قراءةً وسماعًا لبعضها، وإجازةً لكلّها، أخصّ منهم: والدي العلامة الجليل، والدرّاكة النبيل الشيخ علي بن آدم بن موسى المتوفّى يوم الخميس (12/ 9/ 1412 هـ) وله نيَفٌ وثمانون سنة رحمه الله تعالى، والشيخ عبد الباسط بن محمد بن حسن النحويّ البورنيّ المناسيّ، والشيخ المقرىء المحدث حياة بن علي، والشيخ محمد زين بن محمد ياسين الداني إجازةً منهم رحمهم الله تعالى أربعتهم عن العلامة المقرىء المحدث الشيخ كبير أحمد بن عبد الرحمن الْعدّيّ الحسنيّ أبًا العَقِيليّ أُمًّا الدوّويّ بلدًا المتوفّى سنة (1390 هـ) عن العلامة عبد الجليل بن يحيى الدُّلّتّيّ، عن والده يحيى بن بشير الدُّلّتّيّ، عن والده بشير الدّلّتّيّ، عن المفتي داود بن أبي بكر الدّوّويّ، عن السيد سليمان بن يحيى
مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد النخليّ المكيّ، عن محمد بن علاء الدين البابليّ، عن عيسى بن محمد الثعالبيّ، عن عليّ بن إبراهيم الحلبي، عن محمد بن أحمد الرمليّ، عن زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلانيّ، عن أبي العباس أحمد بن عمر البغداديّ اللؤلؤيّ، عن الحافظ أبي الحجاج يوسف ابن عبد الرحمن المزّيّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمر بن قُدَامة الحنبليّ المقدسيّ، عن موفّق الدين عبد الله بن أحمد بن قُدامة الحنبليّ المقدسيّ، عن أبي زُرْعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسيّ، عن الفقيه أبي منصور محمد بن الحسين بن الهيثم المقوميّ القزوينيّ، عن أبي طلحة القاسم بن أبي المنذر الخطيب، عن أبي الحسن عليّ بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطّان، عن مؤلفه الحافظ الحجة الهمام أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزوينيّ رحمه الله تعالى.
و"ماجه" لقب يزيد والد محمد يقرأ بالهاء الساكنة وصلًا ووقفًا كما أسلفت تحقيقه، فتنبَّهْ.
قال رحمه الله تعالى في ثلاثيّاته: حدّثنا جُبَارة، قال: حدّثنا كثير، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحبّ أن يكثر خير بيته، فليتوضّأ إذا حضر غداؤه، وإذا رُفع". انتهى.
وهو سند ضعيف؛ لضعف جُبارة بن المُغَلِّس، وكثير بن سُليم.
(ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلامة محمد زين ابن الشيخ محمد ياسين الدانيّ المتوفّى سنة (1395 هـ) عن شيخه محمد سراج بن محمد سعيد الأنيّ، عن الشيخ يوسف بن إسماعيل البيروتيّ، عن الشيخ إبراهيم السقّا الشافعيّ، عن العلامة ثُعيلب، عن الشهابين: أحمد الملّوي، وأحمد الجوهري، كلاهما عن عبد الله بن سالم البصريّ، صاحب الثبت المشهور عن الشمس البابليّ، عن البرهان إبراهيم بن حسن اللقاني، وعلي بن إبراهيم الحلبيّ، عن الشمس محمد بن أحمد الرمليّ، عن القاضي زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلانيّ بالسند السابق.
(ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ المحدث المتقن محمد بن عبد الله الصوماليّ رحمه الله
تعالى إجازة عن الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان المدرس بالحرم المكيّ، عن أبي عبد الله محمد بن يوسف السورتيّ، عن محمد بن الطيب المكيّ، عن الشيخ حسين بن محسن الأنصاريّ اليمنيّ، عن الشيخ ناصر الحازميّ، عن العلامة محمد بن عليّ الشوكانيّ، عن عبد القادر الكوكبانيّ، عن محمد حياة السنديّ، عن سالم بن عبد الله البصريّ، عن أبيه الشيخ عبد الله بن سالم البصريّ بالسند المتقدّم.
(ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي، عن شيخه عبد الحقّ بن عبد الواحد، عن أحمد بن عبد الله البغداديّ، عن عبد الرحمن بن عباس بن عبد الرحمن، عن الشوكانيّ، عن عبد القادر بن أحمد الكوكبانيّ، عن عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجيّ، عن إبراهيم بن حسن الكرديّ، عن البابليّ، عن سالم بن محمد السنهوريّ، عن محمد بن أحمد الغيطيّ، عن الزين الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، عن أبي الحسن عليّ بن أبي المجد، عن أبي العباس الحجار، عن الأنجب بن أبي السعادات، عن أبي زرعة المقدسيّ بالسند المذكور.
(ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلامة المحدث الشهير محمد بن رافع بن بصيري سماعًا لبعضه بقراءة غيري عليه، وإجازةً لباقيه، عن شيخه محمد بن محمد أمين خير الباكستاني ثم المكي، عن محمد يحيى الكاندهلوي، عن الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي، عن عبد الغني المجدديّ، عن محمد إسحاق، عن جده عبد العزيز، عن أبيه ولي الله أحمد ابن عبد الرحيم الدهلوي، عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكوراني المدنيّ، عن والده البرهان إبراهيم بن حسن الكردي المدني، عن الشيخ أحمد القشاشيّ، عن الشيخ أحمد بن عبد القدوس الشناوي، عن شمس الدين أحمد بن محمد الرملي، عن زين الدين زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ بالسند المذكور.
(ح) وأرويه أيضًا قراءة لأول حديث منه، وإجازة لباقيه عن المسند الكبير الشيخ محمد ياسين بن محمد عيسى رحمه الله تعالى، عن الشيخ محمد بن علي المالكيّ، عن العلامة أبي بكر بن محمد شطا المكيّ، عن أحمد بن زيني دحلان المكيّ، عن عثمان بن حسن الدمياطيّ،
عن عبد الله بن حجازي الشرقاويّ، عن الشمس محمد بن سالم الحفنيّ.
(ح) وعن الشيخ الفادانيّ، عن الشيخ عمر بن حمدان المحرسيّ، عن شيخه فالح ابن محمد الظاهريّ، عن محمد بن علي الخطابي السنوسيّ، عن السيد محمد مرتضى الزبيديّ، عن الشمس محمد بن سالم الحفنيّ المذكور، عن عبد العزيز الزياديّ، عن محمد ابن العلاء البابليّ، عن سالم بن محمد السنهوريّ، عن النجم محمد بن أحمد الغيطيّ، عن القاضي زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ بسنده الماضي.
(ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمنيّ، عن شيخه محمد بن يحيى دوم الأهدل، عن محمد بن عبد الرحمن الأهدل، عن محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، عن عمه شرف الإسلام الحسن بن عبد الباري الأهدل، عن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن والده العلامة سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن صفي الدين أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل عن عماد الدين السيد يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبي بكر بن علي البطاح الأهدل، عن يوسف بن محمد البطاح، عن الطاهر ابن حسين بن عبد الرحمن الأهدل، عن أبي الضياء وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني، عن زين الدين أحمد بن عبد اللطيف الشرجي، عن سليمان بن إبراهيم العلويّ، عن برهان الدين إبراهيم بن عمر العلويّ، عن محدث الشام أبي الحجاج يوسف بن الزكيّ عبد الرحمن الشهير بالحافظ المزيّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسيّ الحنبليّ بالسند المذكور.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لي أسانيد متعدّدة إلى الإمام ابن ماجه غير هذه، ويكفي ما ذكرته اختصارًا.
وبالسند الذي ذكرته آنفًا قال الإمام الحافظ الحجة، أبو عبد الله، محمد بن يزيد المعروف بابن ماجَهْ الْقَزْوينيّ المتوفّى سنة (273 هـ):
بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ المصنّف رحمه الله تعالى كتابه بالبسملة اتباعًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كان يُصَدِّر بها كتبه إلى الملوك، وغيرهم، كما ثبت ذلك في قصّة هِرَقْل، وقصّة صلح الحديبية، وغير ذلك، مما أخرجه الشيخان، وغيرهما. وموافقةً للكتاب العزيز، حيث إن الصحابة رضي الله عنهم افتتحوا كتابة الإمام الكبير بها، وتبعهم على ذلك جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، مَن يقول بأن البسملة آية من أوّل الفاتحة، ومن لا يقول به.
وقال إمام المفسّرين، أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ رحمه الله تعالى في تفسيره النافع ما نصّه:
إن الله تعالى ذكرُهُ، وتقدّست أسماؤه، أدّب نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى، أمامَ أفعاله، وتقدّم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدّبه به من ذلك، وعلّمه إياه منه لجميع خلقه سنّةً، يستنّون بها، وسبيلًا يتّبعونه عليها في افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم، وكتبهم، وحاجاتهم انتهى كلام ابن جرير (1).
[تنبيه]: إنما عَدَلتُ عن الاستدلال بما اشتهر الاحتجاج به -ولا سيّما عند المتأخرين من المصنّفين- على استحباب البسملة، وهو حديث:"كلّ أمر ذى بال، لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أبتر"، وفي رواية:"لا يُبدأ بالحمد لله"، وفي رواية:"بالحمد، فهو أقطع"، وفي رواية:"أجذم"، وفي رواية:"لا يبدأ فيه بذكر الله". رواه الحافظ عبد القادر الرُّهَاويّ رحمه الله تعالى في "أربعينه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-كما ذكره النوويّ رحمه الله تعالى في شرحه- إلى ما ذكرته لضعفه جدًّا، بل ادّعى بعضهم وضعه، وإن لم يُوافق عليه، وقد ذكرت في "شرح مقدمة مسلم" خمس عشرة مسألة، مما يتعلق بالبسملة، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(1) تفسير ابن جرير الطبريّ جـ 1 ص 50.
(وَصَلَّى اللهُ) جملة خبريّة لفظًا، إنشائيّة معنًى، والأصحّ في معنى الصلاة ما ذكره الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" عن أبي العالية أنه قال: صلاه الله ثناؤه عليه عند ملائكته، وصلاة الملائكة الدعاء. انتهى.
وقال ابن عباس معنى: يصلّون يُبرّكون. انتهى، قال في "الفتح": تحت قول أبي العالية: أخرجه ابن أبي حاتم. وقال تحت قول ابن عبّاس: وصله الطبريّ من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس في قوله تعالى:{يُصَلُّونَ عَلىَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] قال: يبَرِّكون على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي يدعون له بالبركة، فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخصّ منه انتهى (1).
وقال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه": ورُوِيَ عن سفيان الثوريّ، وغيرِ واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الربّ الرحمةُ، وصلاة الملائكة الاستغفار انتهى كلام الترمذيّ (2).
وقال الحافظ ابن كثير: والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة. حكاه البخاريّ عن أبي العالية. ورواه أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، عنه. وقال غيره: الصلاة من الله عز وجل الرحمة. وقد يقال: لا منافاة بين القولين. والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس، والاستغفار انتهى كلام ابن كثير (3). وقد رجّح العلّامة ابن القيّم رحمه الله تعالى تفسير من فسّر صلاة الله تعالى بالثناء عند الملائكة، وردّ على من فسّرها بالرحمة، وبالغ في ذلك في كتابه "جلاء الأفهام". ونقلته في "شرح النسائيّ" فراجعه فإنه مفيد جدًّا.
وقال الحافظ في "الفتح" بعد ما ذكر الاختلاف: ما حاصله: وأولى الأقوال ما
(1) فتح جـ 9 ص 49.
(2)
"جامع الترمذيّ بشرح تحفة الأحوذيّ" جـ 2 ص 61.
(3)
تفسير ابن كثير جـ 3 ص 503.
تقدّم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله عَلى نبيّه صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه، وتعظيمه، وصلاة الملائكة، وغيرهم عليه، طلب ذلك من الله تعالى، والمراد طلب أصل الصلاة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ -من ترجيح تفسير أبي العالية- هو الراجح عندي، وقد أشبعت الكلام على هذا البحث في "شرح مقدّمة مسلم"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: يحتمل أن تكون جملتا البسملة والصلاة إنشائيتين، فلا إشكال في عطف إحداهما على الأخرى، ويحتمل أن تكونا مختلفتين إنشاء، وإخبارًا، وفي عطف إحداهما على الأخرى خلاف بين النحاة، وقد نظم بعضهم ذلك، فقال:
وَعَطْفُكَ الإِنْشَا عَلَى الإِخْبار
…
وَعَكسُهُ فِيهِ خِلَافٌ جَارِي
أَهْلُ الْبَيانِ وَابْنُ مَالِكٍ أبوا
…
مِثْلَ ابْنِ عُصْفُورٍ وَبِالجُلِّ اقتَدوْا
وَجَوَّزَتْهُ فِرْقَةٌ قَلِيلَهْ
…
وَسِيبوَيْه وَارْتَضى دَلِيلَهْ
(وسَلَّمَ) اختُلف في معنى السلام، فقيل: السلام الذي هو اسم من أسماء الله تعالى عليك، وتأويله: لا خلوت من الخيرات، والبركات، وسَلِمتَ من المكاره والآفات، إذ كان اسم الله إنما يُذكر توقّعًا لاجتماع معاني الخير والبركة فيها، وانتفاء عوارض الخلل والفساد عنها. ويحتمل أن يكون بمعنى السلام: أي ليكن قضاء الله تعالى عليك السلام، وهو السلامة، كالمقام والمقامة: أي يسلّمك الله تعالى من النقائص، فمعنى اللهم سلّم على محمد: اللهم اكتب له السلامة من كلّ نقص في دعوته، وأمته، وذكره، فتزداد دعوته على مرّ الأيام علوًّا. أمته تكاثرًا، وذكره ارتفاعًا. أفاده البيهقي رحمه الله تعالى (1).
(عَلَى سَيِّدِنَا) متعلِّقٌ بـ "صلى". قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: وسيّد القوم رئيسهم، وأكرمهم، والسيّد: المالك، وأصله سَوِيد، وزانُ كريم، فاستُثقلت الكسرة
(1) راجع "القول البديع" للسخاويّ ص 75.
على الواو، فحُذفت، فاجتمعت الواو، وهي ساكنة، والياء، فقُلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء. وقيل: أصله فَيْعِلٌ -بسكون الياء، وكسر العين- وهو مذهب البصريين، والأصل سَيْوِد. وقيل: بفتح العين، وهو مذهب الكوفيين، لأنه لا يوجد فَيْعِلٌ بكسر العين في الصحيح، إلا صَيْقِل، اسم امرأة، والعليل محمول على الصحيح، فتعيّن الفتح؛ قياسًا على عَيْطَل، وكذلك ما أشبهه. انتهى (1).
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: اعلم أن السيّد يطلق على الذي يفوق قومه، ويرتفع قدره عليهم، ويُطلق على الزعيم والفاضل، ويُطلق على الحليم الذي لا يستفزّه غضبه، ويُطلق على الكريم، وعلى المالك، وعلى الزوج، وقد جاءت أحاديث كثيرة بإطلاق السيّد على أهل الفضل.
فمن ذلك ما رواه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صَعِد بالحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما المنبر، فقال: "إن ابني هذا سيّد
…
" الحديث. وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لمّا أقبل سعد ابن معاذ رضي الله عنه: "قوموا إلى سيِّدكم". وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن سعد ابن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلًا أيقتله؟
…
" الحديث، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى ما يقول سيّدكم".
وأما ما أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح عن بُريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا للمنافق: سيّد، فإنه إن يك سيّدًا، فقد أسخطتم ربكم عز وجل"، فيُجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأنه لا بأس بإطلاق: فلانٌ سيّدٌ، ويا سيّدي، وشبه ذلك إذا كان المُسَوَّد فاضلًا خَيِّرًا، إما بعلم، وإما بصلاح، وإما بغير ذلك، وإن كان فاسقًا، أو متّهما في دينه، أو نحو ذلك، كُرِه أن يقال له: سيّد. انتهى كلام النوويّ بتصرف (2).
(1)"المصباح المنير" في مادة "جود" و"سود".
(2)
"الأذكار" للنووي ص 321 - 323.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في "بدائع الفوائد": اختلف الناس في جواز إطلاق السيّد على البشر، فمنعه قوم، ونُقل عن مالك، واحتجّوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قيل له: يا سيّدنا، قال:"السيّد الله تبارك وتعالى". وجوّزه قوم، واحتجّوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار:"قوموا إلى سيّدكم"، وهذا أصحّ من الحديث الأول، قال هؤلاء: السيّد أحد ما يُضاف إليه، فلا يقال: للتميميّ: سيّد كِنْدَةَ، ولا يقال: الملك سيّد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يُطلق على الله هذا الاسم. وهذا فيه نظر، فإن السيّد إذا أُطلق عليه تعالى، فهو في منزلة المالك، والمولى، والربّ، لا بمعنى الذي يُطلق على المخلوق. انتهى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن لفظ "السيّد" يجوز إطلاقه على الله تعالى؛ لحديث أبي داود المذكور، وهو حديث صحيح، ويجوز إطلاقه على المخلوق إذا لم يكن فاسقًا؛ للأحاديث المتقدّمة في كلام النوويّ رحمه الله تعالى.
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن قولهم: "يا سيّدنا" فهو من باب التحذير عن الْغُلُوّ في المدح، فالحديث صريح في ذلك، فقد أخرج أبو داود بسند جيّد، وصحّحه غير واحد -كما قال في "الفتح" (2) - عن عبد الله بن الشّخّير رضي الله عنه قال:"انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيّدنا، فقال: "السيّد الله تبارك وتعالى"، قلنا: وأفضلنا فضلًا، وأعظمنا طَوْلًا، فقال: "قولوا: بقولكم -أو بعض قولكم- ولا يَسْتَجْرِيَنَّكم الشيطان" (3). والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (مُحَمَّدٍ) بالجرّ صفة لسيّد، أو عطف بيان له، أو بدلٌ، ويجوز قطعه إلى
(1) راجع "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" للشيخ عبد الرحمن بن حسن، آل الشيخ ص 738 - 739.
(2)
راجع "الفتح" 5/ 179.
(3)
أي لا يستتبعنّكم، فيتّخذكم جَرِيّه، أي وكيله، وسُمّي الوكيل جَرِيّا؛ لأنه يَجري مَجرَى موكّله. أفاده في "لسان العرب".
الرفع بتقدير مبتدأ محذوف وجوبًا؛ لكونه نعت مدح: أي هو محمدٌ، أو إلى النصب بتقدير فعل محذوف كذلك: أي أمدح محمدًا. ولا يعترض على هذا كونه بصورة المجرور والمرفوع؛ لأن ذلك جائز في لغة بعض العرب، حيث يقفون على المنصوب المنوّن بالسكون، ورسمه يكون بصورة المرفوع والمجرور.
و (محمّد): علم لنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف أسمائه منقول من اسم مفعول حُمّد المضعّف، وهو يتضمّن الثناء على المحمود، وإجلاله، وتعظيمه، ومحبّته، وهو علم وصفة، اجتمع فيه الأمران في حقه صلى الله عليه وسلم، وإذ كان علمًا محضًا في حقّ غيره، وقد أشبعت الكلام في هذا البحث في "شرح مقدّمة مسلم"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(وَآلِهِ) بالجرّ عطفًا على "سيدنا"، واختُلف في أصله، فقيل: أهل، قُلبت الهاء همزةً، ثم سُهّلت، ولهذا إذا صُغّر رُدّ إلى أصله، فقيل: أُهيلٌ. وقيل: أصله أَوَلٌ بالتحريك، من آل يئول: إذا رجع، سمّي بذلك من يؤول إلا الشخص، ويضاف إليه، ولا يضاف إلا إلى معظّم، فلا يقال: آل الحجّام، ولا آل الإسكاف، بخلاف أهل، فإنه يستعمل في الأشراف وغيرهم، وإنّما قيل: آل فرعون؛ لتصوّره بصورة الأشراف، ولا يضاف أيضًا إلى غير العاقل، ولا إلى الضمير عند الأكثرين، وجوّزه بعضهم بقلّة، كما هنا، وكما في قول الشاعر:
وَانصُرْ عَلَى آلِ الصَّليـ
…
ـبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ
واختُلف في المراد بالآل هنا، فقيل: من تحرم عليهم الصدقة، وهو نصّ الشّافعي، واختاره الجمهور، ورجحه السخاوي، وقيل: أزواجه وذرّيته. وقيل: ذريّة فاطمة رضي الله تعالى عنها وقيل: جميع قريش. وعن أحمد رحمه الله تعالى: المراد في حديث التشهّد أهل بيته. وقيل: جميع أمّة الإجابة، وهو قول مالك، واختاره الأزهري، ورجحه النوويّ في "شرح مسلم". وقيّده بعضهم، وهو الحقّ بالأتقياء منهم، وعليه يُحمل كلام من أطلقه، ويؤيّده قوله عز وجل:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34].
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الأول هو الأرجح؛ لأنه صحّ قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحلّ لمحمد، ولا لآل محمد". ووجه الاستدلال بهما أن الآل الذي طُلِبَ منا أن نصلّي عليهم إذا صلينا على النبيّ صلى الله عليه وسلم هم الذين بينهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين، ونحوهما، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.
(وَصَحبِهِ) بالجرّ كسابقه، وهو اسم جمع لصاحب بمعنى الصحابيّ، كراكب ورَكْب. وقيل: جمع له، وهو من لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ولو لم يرو عنه، ولم تطل مجالسته، كما قال في "ألفية الحديث":
حدّ الصَّحَابي مُسْلِمًا لَاقِي الرَّسُولْ
…
وَإِنْ بِلَا رِوَايةٍ عَنْهُ وَطُول
(وَمُحِبِّيهِ) أي محبي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم المتمسّكون بسنته، المقتفون لآثاره، وهم الذين يحبّون الله تعالى حقّ المحبّة، الذين فهموا الخطاب الموجّه إليهم بقول الله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] حقّ الفهم، فنالوا بذلك ما وعدهم الله عز وجل:{يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فتحقّق لهم قوله تعالى في الحديث القدسيّ الذي أخرجه البخاريّ في "صحيحه" "من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض". {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
[تنبيه]: عطف "محبيه" على ما قبله من عطف العامّ على الخاصّ؛ ليشمل من أتى بعدهم متمسّكًا بسنته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقدّم الآل؛ لأن النصّ ورد بالصلاة عليهم، حيث قال صلى الله عليه وسلم في تعليمه الصلاة لمّا سئل عن كيفيّة الصلاة المأمور بها في الآية:"قولوا: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد الخ". وأما الصلاة على الصحب، وتاليه، فمن استحسانات العلماء، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: إنما قَرَن المصنّف رحمه الله تعالى الصلاة بذكر السلام، امتثالًا للأمر الوارد في الآية الكريمة:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وخروجًا من الخلاف في كراهة إفراد أحدهما عن الآخر، وإن كان المختار عدم الكراهة.
قال الحافظ السخاويّ رحمه الله تعالى: استُدلّ بحديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه، وغيره -يعني حديث تعليمه صلى الله عليه وسلم الصلاة الإبراهيميّة لمّا سألوه عن كيفيّة الصلاة عليه- على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره، وكذا العكس؛ لأن تعليم السلام تقدّم قبل تعليم الصلاة، فأُفرِدَ التسليمُ مدّةً في التشهّد قبل الصلاة عليه.
وقد صرّح النوويّ رحمه الله تعالى في "الأذكار" وغيره بالكراهة، واستدلّ بورود الأمر بهما معًا في الآية. قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر-: وفيه نظر، نعم يكره أن يُفرد الصلاة، ولا يُسلّم أصلًا، أما لو صلّى في وقتٍ، وسلّم في وقتٍ آخر، فإنه يكون ممتثلًا انتهى كلام السخاويّ (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لي فيما ذُكر وقفتان:
(الأولى): قول النوويّ بكراهة الإفراد مما لا دليل عليه، فإنّ مجرّد الاقتران في الآية لا يدلّ عليه، كما أنّ قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لا يدلّ على ذلك، فلا قائل بأن من وجبت عليه الزكاة لا بدّ أن يؤدّيها مؤونة بالصلاة، بحيث إنه لو فرّق بينهما كُره عليه.
(1)"القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" ص 35.
(الثانية): قول الحافظ رحمه الله تعالى: نعم يكره أن يفرد الصلاة، ولا يُسلّم أصلًا الخ محلّ نظر أيضًا؛ لأنه لا يمكن حصول ذلك أصلًا؛ لأنه لا بدّ أن يصلّي الصلوات الخمس، فإذا صلّى لا بدّ أن يتشهّد، وفيه السلام، فلا يمكن عدم السلام أصلًا، فتنبّه.
والحاصل أن القول بكراهة الإفراد غير صحيح، بل الجمع بينهما مستحبّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه آخر]: عطف المصنّف رحمه الله تعالى الآل والصحب، وأشركهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة والسلام عليهم، أما الصحب، فمن عمل العلماء، وأما الآل فقد وردت النصوص بهم؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكرهم في تعليماته لكيفيّة الصلاة المأمور بها في الآية الكريمة:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]:
فقد أخرج الشيخان، وغيرهما عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد". متفق عليه.
وعن أبي حميد الساعديّ، رضي الله عنه، أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: "اللهم صل على محمد، وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". متفق عليه.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لقيني كعب بن عجرة، فقال: ألا أُهدي لك هدية، سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم، أهلَ البيت؟، فإن الله قد عَلَّمَنا كيف نسلم عليكم، قال: قولوا: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على
إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". متفق عليه.
وأخرج مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك، يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم". وغير ذلك من الصيغ المختلفة الواردة في التعليم النبويّ، فكان الأولى أن يصلّي عليهم أيضًا.
وقد ذكرت في "شرح مقدّمة مسلم" أحاديث صحيحة في فصل الصلاة والسلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.