الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - (باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
-)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما أحسن صنيع المصنّف رحمه الله تعالى، وأنصع تبويبه، حيثما بدأ كتابه بـ "باب اتّباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى تصنيفه في جمع سننه صلى الله عليه وسلم، وتنبيهًا للطالب على أن الأخذ بهذه السنن هو الدين القويم، والصراط المستقيم، ثم عقّب هذا الباب بأبواب الإيمان؛ لأنه الأساس لبناء المكلّف بيت العزّ والشرف، ثم أتبعه بفضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم مبلغوا هذه السنن إلى الأمة، فينبغي أن يعرف فضلهم، ويُشهر قدرهم، ثم عقد بابًا لذكر الخوارج الذين خرجوا على أهل الحقّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم؛ ليجتنب الناس بدعهم، وانحرافاتهم، ثم أتبعه بـ "باب من سنّ سنة حسنةً، أو سيّئة"، و"باب من أحيا سنّة قد أميتت" حثًّا على نشر السنة القائمة، وإماتة السنة التي أُميتت، ثم ختمه بأبواب العلم، إشارةً إلى أن هذه السنن إنما تحقّق، وتُنشر بتعلّمها، وتعليمها، ثم دخل في المقصمود بادئًا بـ "كتاب الطهارة وسننها"، ومسلسلًا لأبواب السنن حسب تناسبها، والتئامها، فلله درّه من مصنف مهذِّب، ومحدّث مرتّب، فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء على ما أسداه إلى الأمة الإسلامية من سُنَن، وزفّه إليها من عطايا ومنن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله -المذكور أول الكتاب- قال:
1 -
(حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنا شَرِيكٌ، عَنِ الأعَمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَمَرتُكُمْ بِهِ فَخُذوه، وَمَا نَهَيْتكُمْ عَنهُ فَانْتَهُوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، واسمه إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم، الحافظ الكوفي الواسطيّ الأصل، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10]:
رَوَى عن أبي الأحوص، وعبد الله بن إدريس، وابن المبارك، وجماعة.
ورَوى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والمصنّف، وروى له النسائي بواسطة أحمد بن علي القاضي، وزكرياء الساجي، وعثمان بن خرزاذ، وابنه أبو شيبة إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن سعد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وجماعة.
قال يحيى الحماني: أولاد ابن أبي شيبة من أهل العلم، كانوا يزاحمونا عند كل محدث. وقال أحمد: أبو بكر صدوق، وهو أحب إلي من عثمان. قال عبد الله بن أحمد: فقلت لأبي: إن يحيى بن معين يقول: عثمان أحب إلي، فقال: أبو بكر أعجب إلينا. وقال العجلي: ثقة، وكان حافظا للحديث. وقال أبو حاتم، وابن خراش: ثقة، وقال عمرو ابن علي: ما رأيت أحفظ من أبي بكر، قدم علينا مع علي بن المديني، فسرد للشيباني أربعمائة حديث حفظا وقام. وقال أبو عبيد القاسم: انتهى العلم إلى أربعة، فأبو بكر أسردهم له، وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له، وعلي أعلمهم به، وقال صالح بن محمد: أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة. وقال ابن خراش: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، فقلت له: يا أبا زرعة وأصحابنا البغداديين؟ فقال: دع أصحابك أصحاب مخاريق. وقال ابن حبان في "الثقات": كان متقنًا حافظا دَيِّنا، ممن كتب، وجمع، وصنّف، وذاكر، وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. وقال ابن قانع: ثقة ثبت.
قال البخاري وغير واحد: مات سنة خمس وثلاثين ومائتين في المحرم. وفي "الزهرة": روى عنه البخاري ثلاثين حديثا، ومسلم ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا.
أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والمصنّف.
2 -
(شريك) بن عبد الله بن أبي شريك النخعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ القاضي بواسط، ثم الكوفة، صدوقٌ يُخطيء كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا، شديدًا على أهل البدع [8].
رَوَى عن زياد بن علاقة، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، والعباس ابن ذَرِيح، وإبراهيم بن جرير العجلي، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وخلق.
وروى عنه ابن مهدي، ووكيع، ويحيى بن آدم، ويونس بن محمد المؤدب، والفضل بن موسى السيناني، وعبد السلام بن حرب، وابنا أبي شيبة، وغيرهم.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: سمع شريك من أبي إسحاق قديما، وشريك في أبي إسحاق أثبت من زهير، وإسرائيل، وزكريا. وقال يزيد بن الهيثم عن ابن معين: شريك ثقة، وهو أحب إلي من أبي الأحوص، وجرير، وهو يروي عن قوم لم يرو عنهم سفيان الثوري، قال ابن معين: ولم يكن شريك عند يحيى -يعني القطان- بشيء، وهو ثقة ثقة. وقال أبو يعلى: قلت لابن معين: أيما أحب إليك جرير أو شريك؟ قال: جرير، قلت: فشريك أو أبو الأحوص؟ قال: شريك، ثم قال: شريك ثقة، إلا أنه لا يتقن، ويغلط، ويذهب بنفسه على سفيان وشعبة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: شريك أحب إليك في أبي إسحاق أو إسرائيل؟ قال: شريك أحب إلي، وهو أقدم، قلت: شريك أحب إليك في منصور أو أبو الأحوص؟ فقال: شريك أعلم به، وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان حسن الحديث، وكان أروى الناس عنه إسحاق الأزرق. وقال علي بن حكيم عن وكيع: لم يكن أحد أروى عن الكوفيين من شريك، وقال الجوزجاني: شريك سيء الحفظ، مضطرب الحديث مائل. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: شريك يحتج بحديثه؟ قال: كان كثير الخطأ، صاحب حديث، وهو يغلط أحيانا، فقال له فضلك الصائغ: إنه حدث بواسط بأحاديث بواطيل، فقال أبو زرعة: لا تقل بواطيل. قال عبد الرحمن: وسألت أبي عن شريك، وأبي الأحوص، أيهما أحب إليك؟ قال: شريك، وقد كان له أغاليط. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: في بعض ما لم أتكلم عليه من حديثه مما أمليت بعض الإنكار، والغالب على حديثه الصحة والاستواء، والذي يقع في حديثه من النكرة، إنما أُتي به من سوء حفظه، لا أنه يتعمد شيئًا مما يستحق أن ينسب فيه إلى شيء من الضعف. قال أحمد بن حنبل: ولد شريك
سنة (90)، ومات سنة سبع وسبعين ومائة، وكذا أرخه غير واحد، منهم ابن سعد، وقال: كان ثقة مأمونا كثير الحديث، وكان يَغْلَط. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: أخطأ في أربعمائة حديث. وقال ابن المثنى: ما رأيت يحيى، ولا عبد الرحمن حَدّثا عنه بشيء. وقال محمد بن يحيى بن سعيد، عن أبيه: رأيت في أصول شريك تخليطا. وقال أبو جعفر الطبري: كان فقيها عالما. وقال أبو داود: ثقة يخطئ على الأعمش، زهير فوقه، وإسرائيل أصح حديثا منه، وأبو بكر بن عياش بعده. وقال ابن حبان في "الثقات": ولي القضاء بواسط سنة (155)، ثم ولي الكوفة بعدُ، ومات بها سنة (7) أو (188)، وكان في آخر أمره يخطيء فيما روى، تغير عليه حفظه، فسماع المتقدمين منه ليس فيه تخليط، وسماع المتأخرين منه بالكوفة فيه أوهام كثيرة.
روى له البخاري في التعاليق، ومسلم في المتابعة، والأربعة.
3 -
(الأعمش) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، يقال: أصله من طبرستان، وولد بالكوفة، ثقة حافظٌ، عارفٌ بالقراءة، وَرعٌ، لكنه يدلّس [5].
رَوَى عن أنس ولم يثيت له منه سماع وعبد الله بن أبي أوفى، يقال: إنه مرسل، وزيد بن وهب، وأبي وائل، وأبي عمرو الشيباني، وقيس بن أبي حازم، وخلق كثير.
وروى عنه الحكم بن عتيبة، وزبيد اليامي، وأبو إسحاق السبيعي، وهو من شيوخه، وسليمان التيمي، وسهيل بن أبي صالح، وهو من أقرانه، ومحمد بن واسع، وشعبة، والسفيانان، وإبراهيم بن طهمان، وخلائق من أواخرهم أبو نعيم، وعبيد الله بن موسى.
قال ابن المديني: لم يحمل عن أنس، إنما رآه يخضب، ورآه يصلي. وقال ابن معين: كلُّ ما روى الأعمش عن أنس مرسل. وقال أبو حاتم: لم يسمع من ابن أبي أوفى، ولا من عكرمة: وقال ابن المنادى: قد رأى أنس بن مالك، إلا أنه لم يسمع منه، ورأى أبا بكرة الثقفي، وأخذ له بركابه، فقال له: يا بني إنما أكرمت ربك.
وتعقّب الحافظ قول ابن المنادي هذا، وتعجّب من الحافظ المزّي حيث نقله، ولم يتعقّبه، مع حفظه ونقده، فقال: وقول ابن المنادي: إن الأعمش أخذ بركاب أبي بكرة الثقفي غلط فاحش؛ لأن الأعمش وُلد إما سنة (61) أو سنة (59) على الخلف في ذلك، وأبو بكرة مات سنة إحدى أو اثنتين وخمسين، فكيف يتهيأ أن يأخذ بركاب من مات قبل مولده بعشر سنين أو نحوها؟ وكأنه كان -والله أعلم- أخذ بركاب ابن أبي بكرة، فسقطت "ابن"، وثبت الباقي. انتهى.
وقال وكيع، عن الأعمش: رأيت أنس بن مالك، وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي. وقال ابن المديني: حفظ العلم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستة: عمرو بن دينار بمكة، والزهري بالمدينة، وأبو إسحاق السبيعي، والأعمش بالكوفة، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير بالبصرة. وقال أبو بكر بن عياش عن مغيرة: لما مات إبراهيم اختلفنا إلى الأعمش في الفرائض. وقال هشيم: ما رأيت بالكوفة أحدًا أقرأ لكتاب الله منه.
وقال ابن عيينة: سبق الأعمش أصحابه بأربع: كان أقرأهم للقرآن، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خصلة أخرى. وقال يحيى بن معين: كان جرير إذا حدث عن الأعمش، قال: هذا الديباج الخسرواني. وقال شعبة: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش. وقال عبد الله بن داود الْخُريبي: كان شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف المصحف. وقال عمرو بن علي: كان الأعمش يسمى المصحف؛ لصدقه. وقال ابن عمار: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش، ومنصور ثبت أيضا، إلا أن الأعمش أعرف بالمسند منه. وقال العجلي: كان ثقة ثبتا في الحديث، وكان محدث أهل الكوفة في زمانه، ولم يكن له كتاب، وكان رأسا في القرآن، عَسِرًا، سيىء الخلق، عالمًا بالفرائض، وكان لا يلحن حرفا، وكان فيه تشيع، ويقال: إن الأعمش وُلد يوم قتل الحسين، وذلك يوم عاشوراء سنة (61). وقال عيسى بن يونس: لم نر مثل الأعمش، ولا رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش، مع فقره وحاجته. وقال يحيى بن سعيد القطان: كان من النساك، وهو علامة الإسلام. وقال
وكيع: اختلفت إليه قريبا من سنتين، ما رأيته يقضي ركعة، وكان قريبا من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى. وقال الخُرَيْبِيّ: مات يوم مات، وما خلف أحدًا من الناس أعبد منه، وكان صاحب سنة. وقال ابن معين: ثقة. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال أبو عوانة وغيره: مات سنة (147)، وقال أبو نعيم: مات سليمان سنة ثمان وأربعين ومائة في ربيع الأول، وهو ابن (88) سنة، وفيها أرخه غير واحد.
روى له الجماعة.
4 -
(أبو صالح) ذكوان السمّان الزيات المدني، مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، ثقة ثبتٌ، كان يجلب الزيت إلى الكوفة [3].
شهد الدار زمن عثمان، وسأل سعد بن أبي وقاص مسألة في الزكاة، وروى عنه، وعن أبي هريرة، وأبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وعَقِيل بن أبي طالب، وجابر، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وغيرهم. وأرسل عن أبي بكر. ورَوَى عنه أولاده: سهيل، وصالح، وعبد الله، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن دينار، ورجاء بن حيوة، وزيد بن أسلم، والأعمش، وأبو حازم، سلمة بن دينار، وآخرون.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة، من أجل الناس، وأوثقهم. وقال حفص ابن غياث، عن الأعمش: كان أبو صالح مؤذنا، فأبطأ الإمام فأمنا، فكان لا يكاد يجيزها من الرقة والبكاء. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث، يحتج بحديثه. وقال أبو زرعة: ثقة مستقيم الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان يَقْدَم الكوفة يجلب الزيت، فينزل في بني أسد. وقال أبو داود: سألت ابن معين من كان الثبت في أبي هريرة؟ فقال: ابن المسيب، وأبو صالح، وابن سيرين، والمقبري، والأعرج، وأبو رافع. وقال الساجي: ثقة صدوق. وقال الحربي: كان من الثقات. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: ثقة. وقال أبو زرعة: لم يلق أبا ذر. قال يحيى بن بكير وغير واحد: مات سنة (101). روى له الجماعة.
5 -
(أبو هريرة) بن عامر بن عبد ذي الشَّرَى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب الدوسي، هكذا سماه، ونسبه ابن الكلبي، ومن تبعه، وقواه أبو أحمد الدمياطي. وقال ابن إسحاق: كان وسيطا في دوس، وأخرج الدولابي من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: اسم أبي هريرة عبد نهم بن عامر، وهو دوسي، حليف لأبي بكر الصديق، وخالف ابن البرقي في نسبه، فقال: هو ابن عامر بن عبد شمس بن عبد الساطع بن قيس بن مالك بن ذي الأسلم بن الأحمس بن معاوية بن المسلم بن الحارث بن دهمان بن سليم بن فهم بن عامر بن دوس، قال: ويقال: هو ابن عتبة بن عمرو بن عيسى بن حرب بن سعد بن ثعلبة بن عمرو بن فهم بن دوس، وقال أبو علي بن السكن: اختلف في اسمه، فقال أهل النسب: اسمه عمير بن عامر، وقال ابن إسحاق: قال لي بعض أصحابنا عن أبي هريرة: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس ابن صخر، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكُنيت أبا هريرة؛ لأني وجدت هرة، فحملتها في كمي، فقيل لي: أبو هريرة، وهكذا أخرجه أبو أحمد الحاكم في "الكنى" من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وأخرجه ابن منده من هذا الوجه مطولا، وأخرج الترمذي بسند حسن، عن عبيد الله بن أبي رافع، قال: قلت لأبي هريرة: لم كنيت بأبي هريرة؟ قال: كنت أرعى غنم أهلي، وكانت لي هرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، وإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة. انتهى. وفي "صحيح البخاري": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا هِرّ. وأخرج البغوي من طريق إبراهيم بن الفضل المخزومي، وهو ضعيف، قال: كان اسم أبي هريرة في الجاهلية عبد شمس، وكنيته أبو الأسود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكناه أبا هريرة. وأخرج ابن خزيمة بسند قوي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عبد شمس، من الأزد، ثم من دوس. وأخرج الدولابي بسند حسن، عن أسامة بن زيد الليثي، عن عبيد الله
ابن أبي رافع، والمقبري، قالا: كان اسم أبي هريرة عبد شمس بن عامر بن عبد الشَّرَى (1) - والشَّرَى اسم صنم لدوس- فلما أسلم سُمي بعبد الله بن عامر، وقال عبد الله بن إدريس عن شعبة: كان اسم أبي هريرة عبد شمس، وكذا قال يحيى بن معين، وأحمد بن صالح المصري، وهارون بن حاتم، وكذا قال أبو زرعة، عن أبي مسهر، وقال أبو نعيم الفضل بن دكين مثله، وزاد: ويقال: عبد عمرو، وقال مرة أخرى: أبو هريرة سُكين، ويقال: عامر بن عبد غنم، وكذا قال إسماعيل بن أبي أويس: وجدت في كتاب أبي كان اسم أبي هريرة عبد شمس، واسمه في الإسلام عبد الله، وعن أبي نمير (2) مثله، وذكر الترمذي عن البخاري مثله، وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: أبو هريرة عبد شمس، ويقال: عبد نهم، ويقال: عبد غنم، ويقال: سكين، ويقال: عبد الله بن عامر، أخرجه البغوي عن صالح، وكذا قال الأحوص بن المفضل العلائي عن أبيه، وكذا حكاه يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، وذكر ابن أبي شيبة مثله، وزاد: ويقال: عبد الرحمن بن صخر، وذكر البغوي عن عبد الله بن أحمد، قال: سمعت شيخا لنا كبيرا يقول: اسم أبي هريرة سكين بن دُومة، وهذا حكاه الحسن بن سفيان بسنده عن أبي عمر الضرير، وزاد: ويقال: عبد عمرو بن غنم، وقال عمرو بن علي الفلاس، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن المحرر بن أبي هريرة: كان اسم أبي عبد عمرو بن عبد غنم، أخرجه أسلم بن سهل في "تاريخه"، وأخرجه البغوي عن المقدمي، عن عمه سفيان، ولفظه: كان اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن غنم، كذا في رواية عيسى بن علي، عن البغوي، وأخرجه ابن أبي الدنيا من طريق المقدمي مثل ما قال عمرو بن علي، وكذا هو في "الذهليات" عن بكر بن بكار، عن عُمَر بن علي المقدمي (3)، وقال ابن خزيمة:
(1) في "القاموس": ذو الشَّرَى -أي مقصورًا-: صنم لدوس. انتهى.
(2)
كذا نسخة "الإصابة"، أبو نمير، وليُحرّر.
(3)
كان في النسخة: "عن عمر بن بكار، عن عمرو بن علي المقدسي"، والإصلاح من =
قال الذهلي: هذا أوضح الروايات (1) عندنا على القلب، قال ابن خزيمة: وإسناد محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة أحسن من سفيان بن حسين، عن الزهري، عن المحرر، إلا أن يكون كان له اسمان قبل إسلامه، وأما بعد إسلامه، فلا أحسب اسمه استمر. قلت أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير اسمه، فسماه عبد الرحمن، كما نقل أحمد بن حنبل، عن أبي عبيدة الحداد، وأخرج أبو محمد بن زيد، عن الأصمعي أن اسمه عبد عمرو بن عبد غنم، ويقال: عمرو بن عبد غنم، وجزم بالأول النسائي، وقال البغوي: حدثنا الحسن ابن عرفة، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، واسمه عبد الرحمن بن صخر، قال الحافظ: وأبو إسماعيل صاحب غرائب، مع أن قوله: واسمه عبد الرحمن بن صخر، يحتمل أن يكون من كلام أبي صالح، أو من كلام من بعده، وأخلق به أن يكون أبو إسماعيل الذي تفرد به، والمحفوظ في هذا قول محمد بن إسحاق، وأخرج أبو نعيم من طريق إسحاق بن راهويه، قال: أبو هريرة مختلف في اسمه، فقيل: سكين بن مل، وقيل: ابن هانئ، وقال بعضهم: عمر بن عبد شمس، وقيل: ابن عبد نهم، وقال عباس الدوري، عن أبي بكر بن أبي الأسود: سكين بن جابر، وأخرج أبو أحمد الحاكم بسند صحيح، عن صالح بن كيسان، قال: اسمه عامر، ومثله حكاه الهيثم بن عدي، عن ابن عباس، وهو المسوق، وزاد أنه ابن عبد شمس بن عبد غنم بن عبد ذي الشَّرَى، وقال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: هو عامر بن عبد شمس، وقيل: عبد غنم، وقيل: سكين بن عامر، وقال خليفة: اختلف في اسمه، فقيل: عمير بن عامر، وقيل: سكين بن دومة، ويقال: عبد عمرو بن عبد غنم، وقيل: عبد الله ابن عامر، وقيل: برير، أو يزيد بن عشرقة، وقال الفلاس: اختلفوا في اسمه، والذي
= "تاريخ ابن عساكر" جـ 67 ص 304.
(1)
ولفظ "تاريخ ابن عساكر": "وأوقع الروايات على القلب".
صح أنه عبد عمرو بن عبد غنم، ويقال: سكين، وقال البغوي: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا أبو نميلة، حدثنا محمد بن عبيد الله، قال: اسمه سعد بن الحارث، قال البغوي: وبلغني أن اسمه عبد ياليل، وقال ابن سعد، عن الواقدي، كان اسمه عبد شمس، فسمي في الإسلام عبد الله، ونقل عن الهيثم مثله، وزاد البغوي عن الواقدي: ويقال: إنه عبد الله ابن عائذ، وقال ابن البرقي: اسمه عبد الرحمن، ويقال: عبد شمس، ويقال: عبد غنم، ويقال: عبد الله، ويقال: بل هو عبد نهم، وقيل: عبد تيم، وحكى ابن منده في أسمائه: عبد، بغير إضافة، وفي اسم أبيه: عبد غنم، وحكى أبو نعيم فيه: عبد العزى، وسَكَن -بفتحتين.
قال النووي في مواضع من كتبه: اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من ثلاثين قولا. وقال القطب الحلبي: اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا، مذكورة في "الكنى" للحاكم، وفي "الاستيعاب"، وفي "تاريخ ابن عساكر".
قال الحافظ: وجه تكثره أنه يجتمع في اسمه خاصة عشرة أقوال مثلا، وفي اسم أبيه نحوها، ثم تركبت، ولكن لا يوجد جميع ذلك منقولا، فمجموع ما قيل في اسمه وحده نحو من عشرين قولا: عبد شمس، وعبد نهم، وعبد تيم، وعبد غنم، وعبد العزى، وعبد ياليل، وهذه لا جائز أن تبقى بعد أن أسلم، كما أشار إليه ابن خزيمة، وقيل فيه أيضا: عبيد بغير إضافة، وعبيد الله بالإضافة، وسُكين بالتصغير، وسكن بفتحتين، وعمرو بفتح العين، وعمير بالتصغير، وعامر، وقيل: برير، وقيل: بر، وقيل: يزيد، وقيل: سعد، وقيل: سعيد، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وجميعها محتمل في الجاهلية والإسلام، إلا الأخير، فإنه إسلامي جزما، والذي اجتمع في اسم أبيه خمسة عشر قولا، فقيل: عائذ، وقيل: عامر، وقيل: عمرو، وقيل: عمير، وقيل: غنم، وقيل: دومة، وقيل: هانئ، وقيل: ملّ، وقيل: عبد نهم، وقيل: عبد غنم، وقيل: عبد شمس، وقيل: عبد عمرو، وقيل: الحارث، وقيل: عشرقة، وقيل: صخر، فهذا معنى قول من قال اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من ثلاثين قولا.
فأما مع التركيب بطريق التجويز، فيزيد على ذلك نحو مائتين وسبعة وأربعين من ضرب تسعة عشر في ثلاثة عشر، وأما مع التنصيص، فلا يزيد على العشرين، فإن الاسم الواحد من أسمائه يركب مع ثلاثة، أو أربعة من أسماء الأب، إلى أن يأتي العد عليهما، فيخلص للمغايرة مع التركيب عدد أسمائه خاصة، وهي تسعة عشر، مع أن بعضها وقع فيه تصحيف، أو تحريف، مثل بر، وبرير، ويزيد، فإنه لم يرد شيء منها إلا مع عشرقة، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وكذا سكن وسكين، والظاهر أنه يرجع إلى واحد، وكذا سعد وسعيد، مع أنهما أيضا لم يردا إلا مع الحارث، وبعضها انقلب اسمه مع اسم أبيه كما تقدم في قول من قال: عبد عمرو بن عبد غنم، وقيل: عبد غنم بن عبد عمرو، فعند التأمل لا تبلغ الأقوال عشرة خالصة، ومرجعها من جهة صحة النقل إلى ثلاثة: عمير، وعبد الله، وعبد الرحمن، الأولان محتملان في الجاهلية والإسلام، وعبد الرحمن في الإسلام خاصة، كما تقدم.
قال ابن أبي داود كنت أجمع سند أبي هريرة، فرأيته في النوم، وأنا بأصبهان، فقال لي: أنا أول صاحب حديث في الدنيا. وقد أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثا، وذكر أبو محمد بن حزم أن مسند بقي بن مخلد احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف وثلاثمائة حديث وكسر، وحدث أبو هريرة أيضا عن أبي بكر، وعمر، والفضل بن العباس، وأبي بن كعب، وأسامة بن زيد، وعائشة، وبصرة الغفاري، وكعب الأحبار، وروى عنه ولده المحرر -بمهملات- ومن الصحابة ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وواثلة بن الأسقع، ومن كبار التابعين مروان بن الحكم، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الله بن ثعلبة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسلمان الأغر، والأغر أبو مسلم، وشريح بن هانئ، وخباب صاحب المقصورة، وأبو سعيد المقبري، وسليمان بن يسار، وسنان بن أبي سنان، وعبد الله بن شقيق، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وعراك بن مالك، وأبو رزين الأسدي، وعبد الله بن قارظ، وبسر بن سعيد، وبشير بن نهيك، وبعجة الجهني، وحنظلة الأسلمي، وثابت بن عياض، وحفص بن
عاصم بن عُمَر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وخلاس بن عمرو، وزُرارة بن أوفى، وسالم أبو الغيث، وسالم مولى شداد، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن عمرو بن سعيد ابن العاص، وأبو الحباب سعيد بن يسار، وعبد الله بن الحارث البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن مرجانة، والأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز، والمقعد، وهو عبد الرحمن بن سعيد، ويقال له: الأعرج أيضا، وعبد الرحمن بن أبي نُعْم، وعبد الرحمن بن يعقوب، والد العلاء، وأبو صالح السمان، وعبيدة بن سفيان، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعطاء بن ميناء، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يزيد الليثي، وعطاء ابن يسار، وعبيد بن حنين، وعجلان والد محمد، وعبيد الله بن أبي رافع، وعنبسة بن سعيد بن العاص، وعمرو بن الحكم، أبو السائب، مولى ابن زُهرة، وموسى بن يسار، ونافع بن جبير بن مطعم، وعبد الله بن رَباح، وعبد الرحمن بن مهران، وعمرو بن أبي سفيان، ومحمد بن زياد الجمحي، وعيسى بن طلحة، ومحمد بن قيس بن مَخْرَمة، ومحمد ابن عباد بن جعفر، ومحمد بن أبي عائشة، والهيثم بن أبي سنان، وأبو حازم الأشجعي، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو الشعثاء المحاربي، ويزيد بن الأصم، ونعيم المجمر، ومحمد بن المنكدر، وهمام بن منبه، وأبو عثمان الطنبذي، وأبو قيس مولى أبي هريرة، وآخرون كثيرون.
قال البخاري: روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره، قال وكيع في نسخته: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، قال: كان أبو هريرة أحفظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرجه البغوي من رواية أبي بكر بن عياش، عن الأعمش بلفظ: ما كان أفضلهم، ولكنه كان أحفظ، وأخرج ابن أبي خيثمة، من طريق سعيد بن أبي الحسن، قال: لم يكن أحد من الصحابة أكثر حديثا من أبي هريرة، وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال أبو الزُّعَيزِعَة، كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة، فجعل يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير،
أكتب ما يحدث به حتى إذا كان في رأس الحول، أرسل إليه فسأله، وأمرني أن أنظر، فما غَيّر حرفا عن حرف. وفي "صحيح البخاري" من طريق وهب بن منبه، عن أخيه همام، عن أبي هريرة، قال: لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني، إلا عبد الله ابن عمرو، فإنه كان يكتب، ولا أكتب. وقال الحاكم، أبو أحمد -بعد أن حكى الاختلاف في اسمه ببعض تقدم- كان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزمهم له صحبة، على شبع بطنه، فكانت يده مع يده، يدور معه حيث دار، إلى أن مات، ولذلك كثر حديثه. وقد أخرج البخاري في "الصحيح" من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث". وأخرج أحمد من حديث أبي بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء، لا يسأله عنها غيره. وقال أبو نعيم: كان أحفظ الصحابة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بأن يحببه إلى المؤمنين، وكان إسلامه بين الحديبية وخيبر، قدم المدينة مهاجرًا وسكن الصُّفّة، وقال أبو معشر المدائني، عن محمد بن قيس قال: كان أبو هريرة يقول: لا تكنوني أبا هريرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كناني أبا هر، والذكر خير من الأنثى. وأخرجه البغوي بسند حسن عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، وقال عبد الرحمن بن أبي لبيبة: أتيت أبا هريرة، وهو آدم، بَعيدُ ما بين المنكبين، ذو ضفيرتين، أفرق الثنيتين. وأخرج ابن سعد من طريق قرة بن خالد، قلت لمحمد بن سيرين: أكان أبو هريرة مُخشوشنا؟ قال: لا، كان لينا، قلت: فما كان لونه؟ قال: أبيض، وكان يخضب، وكان يلبس ثوبين ممشقين، وتمخط يوما، فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان. وقال أبو هلال عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيتني أُصرَع بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجرة عائشة، فيقال: مجنون، وما بي جنون، زاد يزيد بن إبراهيم، عن محمد عنه: وما بي إلا الجوع، ولهذا الحديث طرقا في "الصحيح" وغيره، وفيها سؤال أبي بكر، ثم عمر عن آية، وقال: لعل أن يسبقني، فيفتح علي الآية، ولا يفعل. وقال داود بن
عبد الله، عن حميد الحميري: صحبت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، كما صحبه أبو هريرة. وقال ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم: نزل علينا أبو هريرة بالكوفة، واجتمعت أحمس، فجاءوا ليسلموا عليه، فقال: مرحبا، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، لم أكن أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمر بن ذر، حدثنا مجاهد، عن أبي هريرة قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع، وأشد الحجر على بطني، فذكر قصة القدح واللبن. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن هو ابن مهدي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني أبو كثير، حدثني أبو هريرة، قال: أما والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني، قال: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى عليّ، فدعوتها يوما، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي، فذكرت له، فقال:"اللهم اهد أم أبي هريرة"، فخرجت عدوا، فإذا بالباب مجاف، وسمعت خَضْخَضْةَ الماء، ثم فتحت الباب، فقالت: أشهد إن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فرجعت وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني وأمي إلى المؤمنين، فدعا. وقال الجريري عن أبي بصرة، عن رجل من الطفاوة، قال: نزلت على أبي هريرة، قال: ولم أدرك من الصحابة رجلا أشد تشميرا، ولا أقوم على ضيف منه. وقال عمرو بن علي الفلاس: كان مقدمه عام خيبر، وكانت في المحرم سنة سبع، وفي "الصحيح" عن الأعرج قال: قال أبو هريرة: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينا، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا، فقال:"من يبسط رداءه حتى أقضِي مقالتي، ثم يقبضه إليه، فلن ينسى شيئا سمعه مني"، فبسطت بردة علي حتى قَضَى حديثه، ثم قبضتها إلي، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه بعد. وأخرجه أحمد،
والبخاري، ومسلم، والنسائي من طريق الزهري، عن الأعرج، ومن طريق الزهري أيضا عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، يزيد بعضهم على بعض. وأخرجه البخاري وغيره، من طريق سعيد المقبري عنه مختصرا: قلت: يا رسول الله إني لأسمع منك حديثا كثيرا أنساه، فقال:"ابسط رداءك"، فبسطته، ثم قال:"ضمه إلى صدرك"، فضممته، فما أنسيت حديثا بعد. وأخرج أبو يعلى من طريق الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، عن أبي هريرة قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء الحفظ، فقال:"افتح كساءك"، فذكر نحوه. وأخرج أبو نعيم من طريق عبد الله بن أبي يحيى، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ألا تسألني عن هذه الغنائم؟ " قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، قال: فنزع نمرة على ظهري، ووسطها بيني وبينه، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال:"اجمعها، فصُرها إليك"، فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني، وقد تقدمت طرق هذا الحديث الصحيحة، وله طرق أخرى، منها عند أبي يعلى من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأخذ مني كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، فيصرهن في ثوبه، فيتعلمهن، ويعلمهن؟ " قال: فنشرت ثوبي، وهو يحدث، ثم ضممته، فأرجو ألا أكون نسيت حديثا مما قال. وأخرجه أحمد من طريق المبارك بن فضالة، عن الحسن نحوه، وفيه: فقلت: أنا، فقال:"ابسط ثوبك"، وفي آخره: فأرجو ألا أكون نسيت حديثا سمعته منه بعد ذلك. وأخرج ابن عساكر من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فبسطت ثوبي، ثم جمعته، فما نسيت شيئا بعد هذا، مختصر مما قبله.
قال الحافظ: ووقع لي بيان ما كان حدث به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، إن ثبت الخبر، فأخرج أبو يعلى من طريق أبي سلمة: جاء أبو هريرة، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، في شكواه يعوده، فأذن له، فدخل، فسلم وهو قائم، والنبي صلى الله عليه وسلم، متساند إلى صدر علي، ويده على صدره ضامّه إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم باسط رجليه، فقال:"ادن يا أبا هريرة"، فدنا،
ثم قال: "ادن يا أبا هريرة"، ثم قال:"ادن يا أبا هريرة"، فدنا حتى مست أطراف أصابع أبي هريرة أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له:"اجلس"، فجلس، فقال له:"أدن مني طرف ثوبك"، فمد أبو هريرة ثوبه، فأمسك بيده، ففتحه، وأدناه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أوصيك يا أبا هريرة بخصال، لا تدعهن ما بقيت"، قال: أوصني ما شئت، فقال له:"عليك بالغسل يوم الجمعة، والبكور إليها، ولا تلغ، ولا تله، وأوصيك بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه صيام الدهر، وأوصيك بركعتي الفجر، لا تدعهما، وإن صليت الليل كله، فإن فيها الرغائب"، قالها ثلاثا، ثم قال:"ضم إليك ثوبك"، فضم ثوبه إلى صدره، فقال: يا رسول الله بأبي وأمي أسر هذا، أو أعلنه؟ قال:"أعلنه يا أبا هريرة"، قالها ثلاثا، والحديث المذكور من علامات النبوة، فإن أبا هريرة كان أحفظ الناس للأحاديث النبوية في عصره.
وقال طلحة بن عبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع. وقال ابن عمر: أبو هريرة خير مني، وأعلم بما يحدث. وأخرج النسائي بسند جيد في "العلم" من "كتاب السنن الكبرى" [3/ 440]: أن رجلا جاء زيد بن ثابت، فسأله عن شيء، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم، ندعو الله، ونذكر ربنا، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال:"عودوا للذي كنتم فيه"، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي، قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علما لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمين"، فقلنا: يا رسول الله ونحن نسأل الله علما لا ينسى، فقال:"سبقكم بها الغلام الدوسي". وأخرج الترمذي من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك أشياء لا أحفظها، قال:"ابسط رداءك"، فبسطته، فحدث حديثا كثيرا، فما نسيت شيئا حدثني به، وسنده صحيح، وأصله عند البخاري بلفظ:"فما نسيت شيئا سمعته بعدُ". وأخرج الترمذي أيضا عن عمر أنه قال لأبي هريرة: أنت
كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحفظنا لحديثه. وعن الدراوردي، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، قال: تواعد الناس ليلة إلى قبّة من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة يحدّثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح.
وأخرج ابن سعد من طريق سالم مولى بني نصر، سمعت أبا هريرة، يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلاء الحضرمي، فأوصاه بي خيرًا، فقال لي:"ما تحب؟ " قلت: أؤذن لك، ولا تسبقني بـ "آمين"، وأخرجه البخاري من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.
قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى معلّقا على هذا الأثر: هذا دالّ على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرّك فتنة في الأصول، أو الفروع، أو المدح والذمّ، أما حديث يتعلّق بحل، أو حرام، فلا يحلّ كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى، وفي "صحيح البخاريّ" قول الإمام عليّ رضي الله عنه:"حدّثوا الناس بما يَعرفون، ودعوا ما يُنكرون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله"، وكذا لو بثّ أبو هريرة رضي الله عنه ذلك الوعاء لأوذي، بل لقُتل، ولكن العالم قد يؤدّيه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلانيّ؛ إحياء للسنّة، فله ما نوى، وله أجر، وإن غلط في اجتهاده. انتهى (1).
وعند أحمد من طريق يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، وقيل له: أكثرت، فقال: لو حدثنّكم بما سمعت لرميتموني بالقَشَع، أي الجلود.
وفي "الصحيح" عن نافع قال: قيل لابن عمر حديث أبي هريرة، أن من اتبع جنازة، فصلى عليها فله قيراط
…
الحديث، فقال: أكثر علينا أبو هريرة، فسأل عائشة، فصدقته، فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. وأخرج البغوي بسند جيد، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمنا
(1)"سير أعلام النبلاء" 2/ 597 - 598.
بحديثه. وأخرج ابن سعد بسند جيد، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث بشيء ما سمعته، قال: يا أمه طلبتها، وشغلك عنها المكحلة والمرآة، وما كان يشغلني عنها شيء، والأخبار في ذلك كثيرة.
وأخرج البيهقي في "المدخل" من طريق بكر بن عبد الله، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أنه لقي كعبا، فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: ما رأيت رجلا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة. وأخرج أحمد من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، سمعت أبا هريرة يبتدىء حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق، أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:"من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وأخرج مسدد في "مسنده" من رواية معاذ بن المثنى، عن خالد، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: بلغ عمر حديثي، فقال لي: كنت معنا يوم كنا في بيت فلان؟ قلت: نعم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "من كذب علي
…
" الحديث، قال: اذهب الآن فحدث. قال الذهبيّ: يحيى ضعيف.
وعن سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عُبيد الله، عن السائب بن يزيد، سمع عمر يقول لأبي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأُلحقنك بأرض دوس، وقال لكعب: لتتركن الحديث، أو لألحقنك بأرض الْقِرَدة. وعن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدث أحاديث، لو تكلمت بها في زمن عمر لشُجّ رأسي.
قال الحافظ الذهبي: هكذا كان عمر رضي الله عنه يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزجر غير واحد من الصحابة عن بثّ الحديث، وهذا مذهب لعمر ولغيره، فبالله عليك إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر، بل هو غضّ لم يُشَب، فما ظنك بالإكثار من رواية الغرائب، والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط، فبالحريّ أن نزجُر القوم عنه، فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف، بل يروون والله -الموضوعات والأباطيل، والمستحيل في الأصول
والفروع، والملاحم والزهد، نسأل الله العافية، فمن روى ذلك مع علمه ببطلانه، وغرّ المؤمنين، فهذا ظالم لنفسه، جان على السنن والآثار، يستتاب من ذلك، فإن أناب وأقصر، وإلا فهو فاسق كفى به إثمًا أن يحدّث بكل ما سمع، وإن هو لم يعلم، فليتورّع، وليستعن بمن يُعينه على تنقية مروياته، نسأل الله العافية، فلقد عمّ البلاء، وشملت الغفلة، ودخل الداخل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون، فلا عُتبى على الفقهاء وأهل الكلام. انتهى كلام الذهبيّ (1).
وأخرج مسدد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما يقول، ولكنا نجبُن ويجترىء. وفي "فوائد المزكى"، تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه:"إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه"، فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ قال: لا، فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: أكثر أبو هريرة، فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا، فبلغ ذلك أبا هريرة، فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا. وقد أخرج أبو داود الحديث المرفوع. وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح، سمعت أبا هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك؟ وكان الأمير يومئذ غيره، ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان، وقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، وإنما قدم قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت معه حتى مات، أدور معه في بيوت نسائه، وأخدمه، وأغزو معه، وأحج، فكنت أعلم الناس بحديثه، وقد والله سبقني قوم بصحبته، فكانوا يعرفون لزومي له، فيسألونني عن حديثه، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، ولا والله لا يخفى
(1) راجع "سير أعلام النبلاء" 2/ 601 - 602.
علي كل حديث كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة، ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه، قال: فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافا عنه. وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق، عن عمر، أو عثمان بن عروة عن أبيه، قال: قال: أبي أدنني من هذا اليماني رضي الله عنه -يعني أبا هريرة رضي الله عنه فإنه يكثر، فأدنيته، فجعل يحدث، والزبير يقول: صدق، كذب، فقلت: ما هذا؟ قال: صدق أنه سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن منها ما وضعه في غير موضعه. وتقدم قول طلحة: قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا. وفي "فوائد تمام" من طريق أشعث بن سليم، عن أبيه، سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة، فسألته، فقال: إن أبا هريرة سمع. وأخرج أحمد في "الزهد" بسند صحيح، عن أبي عثمان النهدي، قال: تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو وامرأته وخادمه، يقسمون الليل أثلاثا، يصلي هذا ثم يوقظ هذا. وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن عكرمة، أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح بقدر ديتي (1). وفي "الحلية" من تاريخ أبي العباس السراج بسند صحيح، عن مضارب بن حزن، كنت أسير من الليل، فإذا رجل يكبر، فلحقته، فقلت: ما هذا؟ قال: أكثر شكر الله علي أن كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان لنفقة رحلي، وطعام بطني، فإذا ركبوا سبقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله، فأنا أركب، وإذا نزلت خُدِمت. وأخرجه ابن خزيمة من هذا الوجه، وزاد: وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت، فقالت: لا أَرِيم حتى تجعل لي عصيدة، فها أنا إذا أتيت على نحو من مكانها، قلت: لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال، فمن أين لك؟ قال: خيل نُتجت، وأعطية تتابعت، وخراج
(1) هكذا في "سير أعلام النبلاء""ديتي"، ووقع في "الإصابة" وغيرها بلفظ "ذنبي"، والظاهر أنه مصحّف.
رقيق لي، فنظر فوجدها كما قال، ثم دعاه ليستعمله، فأبى، فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك، قال: ومن؟ قال: يوسف عليه السلام، قال: إن يوسف نبي الله ابن نبي الله، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثا أن أقول بغير علم، أو أقضي بغير حكم، ويضرب ظهري، ويشتم عرضي، وينزع مالي. وأخرج ابن أبي الدنيا في "كتاب المزاح"، والزبير بن بكار فيه، من طريق ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة: أن رجلا قال له: إني أصبحت صائما، فجئت أبي، فوجدت عنده خبزا ولحما، فأكلت حتى شبعت، ونسيت أني صائم، فقال أبو هريرة: الله أطعمك، قال: فخرجت حتى أتيت فلانا، فوجدت عنده لقحة تحلب، فشربت من لبنها حتى رويت، قال: الله سقاك، قال: ثم رجعت إلى أهلي فقِلتُ، فلما استيقظت دعوت بماء فشربته، فقال. يا ابن أخي أنت لم تعود الصيام. وأخرج ابن أبي الدنيا في "المحتضرين" بسند صحيح، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: دخلت على أبي هريرة، وهو شديد الوجع، فاحتضنته، فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: اللهم لا ترجعها، قالها مرتين، ثم قال: إن استطعت أن تموت فمت، والله الذي نفس أبي هريرة بيده، ليأتين على الناس زمان، يمر الرجل على قبر أخيه، فيتمنى أنه صاحبه. وقد جاء هذا الحديث مرفوعا، عن أبي هريرة. وعن عمير بن هانئ، قال: كان أبو هريرة يقول: تشبثوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني سنة ستين. وأخرج أحمد، والنسائي بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن مهران، عن أبي هريرة، أنه قال حين حضره الموت: لا تضربوا عليّ فسطاطا، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي. وأخرج أبو القاسم بن الجراح في "أماليه" من طريق عثمان الغطفاني، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: إذا مت فلا تنوحوا علي، ولا تتبعوني بمجمرة، وأسرعوا بي. وأخرج البغوي من وجه آخر عن أبي هريرة، أنه لما حضرته الوفاة بكى، فسئل، فقال: من قلة الزاد، وشدة المفازة. وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق مالك، عن سعيد المقبري، قال: دخل مروان على أبي هريرة، في شكواه الذي مات فيه -
فقال: شفاك الله، فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك، فأحبب لقائي، فما بلغ مروان -يعني وسط السوق- حتى مات. وقال ابن سعد عن الواقدي: حدثني ثابت بن قيس، عن ثابت ابن مِسحل قال: صلى الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، على أبي هريرة بعد أن صلى بالناس العصر، وفي القوم ابن عمر، وأبو سعيد الخدري، قال: وكتب الوليد إلى معاوية يخبره بموته، فكتب إليه انظر من ترك، فادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، فإنه كان ممن نصر عثمان يوم الدار. قال أبو سليمان ابن زَبْر في "تاريخه": عاش أبو هريرة ثمانيا وسبعين سنة. قال الحافظ: وكأنه مأخوذ من الأثر المتقدم عنه، أنه كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة، وأزيد من ذلك، وكانت وفاته بقصره بالعقيق، فحمل إلى المدينة، قال هشام بن عروة، وخليفة، وجماعة: توفي أبو هريرة سنة سبع وخمسين، وقال الهيثم بن عدي، وأبو معشر، وضمرة بن ربيعة: مات سنة ثمان وخمسين، وقال الواقدي، وأبو عبيد، وغيرهما: مات سنة تسع وخمسين، وزاد الواقدي: وصلى على عائشة في رمضان سنة ثمان، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع، ثم توفي بعد ذلك. قال الحافظ: وهذا الذي قاله في أم سلمة وَهَلٌ منه، وإن تابعه عليه جماعة، فقد ثبت في "الصحيح" ما يدل على أن أم سلمة عاشت إلى خلافة يزيد بن معاوية، والمعتمد في وفاة أبي هريرة قول هشام بن عروة (1). أخرج له الجماعة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما أطلت في ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه لما في سيرته العطرة مما يتناسب مع ما يحتاج إليه طالب العلم، فإنه قد تبيّن مما ذُكر أنه رضي الله عنه كان حريصًا على طلب العلم، ومقبلا عليه، متفرّغًا له، لا يشغله بيع ولا زراعة، ولا أهل، ولا مال، فبذل كل ما في وسعه لطلبه، ولم يقتصر على بذل الجهد فقط، بل شكى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يواجهه من مشكلة النسيان، فعالج صلى الله عليه وسلم ذلك بدعوته المباركة، فأزال الله عز وجل
(1) راجع "الإصابة" 12/ 63 - 79 و"تهذيب الكمال" 34/ 366 - 379، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 578 - 632 و"تهذيب التهذيب" 4/ 601 - 603.
عنه تلك المشكلة، وفتح الله عز وجل عليه في وقت قصير ما لم يفتح على غيره في زمن طويل، فكان أحفظ الصحابة، فأبقى للأمة ذخرًا كثيرًا من الأحاديث التي تعلقت بها السعادة الدنيوية، والأخروية، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يتفرغ له، وأن يبذل كل ما عنده من جهد، ومال، وصحة لطلبه، وأن يكثر من الدعاء حتى يفتح الله عز وجل عليه في أقرب وقت ما يكون له وللأمة سببا لسعادة الدارين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا، آمين. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، وهو رئيس المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، والمكثر من روى فوق الألف، وهم الذين جمعتهم مرتّبًا بقولي:
المُكْثِرُونَ في رِوَايةِ الخُبَر
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأكارِم الْغُرَرْ
أبو هُرَيْرَةَ يَليه ابْنُ عُمَرْ
…
فَأنَسٌ فَزَوْجَةُ الهادي الأَبَرْ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ
فأما أبو هريرة رضي الله عنه فروى (5374) حديثًا، اتفق الشيخان على (326) وانفرد البخاريّ (93) ومسلم (98)(1). وأما ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فروى (2630) اتفقا على (170) وانفرد البخاريّ (81) ومسلم (31). وأما أنس بن مالك رضي الله عنه، فروى (2286)، اتفقا على (168) وللبخاريّ (83) ولمسلم (71). وأما عائشة رضي الله تعالى عنها، وهي المرادة بقولي:"فزوجة الهادي الأبرّ"، فروت (2210) اتفقا على (174) وللبخاريّ (54) ولمسلم (68). وأما ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، فروى
(1) هكذا في "سير أعلام النبلاء" 2/ 632 والذي في "خلاصة الخزرجي" أن المتفق عليه (325) وما للبخاريّ (79) وما لمسلم (93) فليحرر.
(1696)
، اتفقا على (75) وللبخاري (28) ولمسلم (49). وأما جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، فروى (1540) اتفقا على (58) وللبخاريّ (26) ولمسلم (126). وأما أبو سعيد الخدريّ، وهو المراد بقولي "الخدريّ"، فروى (1170) اتفقا على (43) وللبخاريّ (26) ولمسلم (52). والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي صالح. (ومنها): أن الأعمش من المكثرين في الرواية عن أبي صالح، يقال: سمع منه ألف حديث، قاله الخزرجيّ في "الخلاصة" ص 112.
4 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وكلاهما من صيغ الاتصال على الأصحّ في "عن" من غير المدلّس، بشرطه، وهو السماع عند البخاريّ وغيره، وهو الراجح، والمعاصرة مع إمكان اللقيّ عند مسلم، وقد حقّقت هذا البحث، واستوفيته في "شرح مقدّمة مسلم"، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا؟، ومثلها "أنَّ"، وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَمَنْ رَوَى بِـ "عَنْ "وَ"أَن" فَاحْكُمِ
…
بِوَصْلِهِ إِنِ اللِّقَاءُ يُعْلَم
وَلَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا وَقِيلَ لَا
…
وَقِيلَ "أَنَّ" اقْطَعْ وَأَمَّا "عَنْ" صِلَا
وَمُسْلِمٌ يَشرِطْ تَعَاصُرًا فَقَطْ
…
وَبَعْضُهُمْ طُولَ صَحَابَةٍ شَرَطْ
وقوله: "إن اللقاء يعلم" أي مع السماع، فليس اللقاء كافيًا في ذلك، وأما ما اشتهر من أن اللقاء المجرد عن السماع هو الشرط عند البخاريّ، ومن قال بقوله، وهم الجمهور، فليس بصحيح، بل هم يشترطون السماع مع اللقاء، وقد حَقَّقْتُ ذلك في الشرح المذكور، وبالله تعالى التوفيق.
5 -
(ومنها): أن ثلاثة من رجاله ممن اشتهر بكنيته، أبو بكر، وأبو صالح، وأبو هريرة.
6 -
(ومنها): أن كنية أبي هريرة ليست كنية حقيقيَّة، وإنما هي لقب بصورة
الكنية، وإنما لقّب به لأجل هرّة كانت معه، فقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه عن عبد الله ابن رافع، قال: قلت لأبي هريرة: لم كنّوك أبا هريرة؟ قال: أما تفرَق منّي؟ قلت: بلى إني لأهابك، قال: كنت أرعى غنما لأهلي، فكانت لي هُريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة. وعن أبي معشر نجيح، عن محمد بن قيس، قال: كان أبو هريرة يقول: لا تكنوني أبا هريرة، كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هِرّ، قال:"ثكلتك أمك أبا هرّ"، والذكر خير من الأنثى. وعن كثير ابن زيد، عن الوليد بن رباح أن أبا هريرة كان يقول: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعوني أبا هرّ (1).
7 -
(ومنها): أن الأعمش ممن اشتهر بلقبه، وأصل العمش في اللغة سيلان دمع العين، مع ضعف البصر، يقال: عمِشت العين، من باب تعِب: إذا سال دمعها في أكثر الأوقات، مع ضعف البصر، فالرجل أعمش، والأنثى عَمشاء، والجمع عُمْش بضم، فسكون، كحُمر، جمع أحمر وحمراء، كما قال في "الخلاصة":
فُعْلٌ لِنَحْوِ أحْمَر وَحَمْرَا
…
وَفُعْلَةٌ جَمعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى
[تنبيهات]:
(الأول): اختلف في أبي هريرة، هل هو منصرف، أم لا؟، قال القاري في "المرقاة": جرّ أبي هريرة بالكسر هو الأصل، وصوّبه جماعة؛ لأنه جزء علم، واختار آخرون منع صرفه، كما هو الشائع على ألسنة العلماء، من المحدّثين، وغيرهم؛ لأن الكلّ صار كالكلمة الواحدة. انتهى. قال المباركفوريّ: الراجح منعه من الصرف، ويؤيّده منع صرف "ابن داية" علمًا للغراب، قال قيس بن الملوّح، مجنون ليلى [من الطويل]:
أَقُولُ وَقَدْ صَاحَ ابْنُ دَايَةَ غَدْوَةً
…
بِبُعْدِ النَّوَى لَا أَخْطَأتكَ الشَّبَائِكُ
قال القاضي البيضاويّ في "تفسيره" في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]: ما نصّه: "رمضان" مصدر رَمض: إذا احترق، فأضيف
(1) انظر "سير أعلام النبلاء" 2/ 587.
إليه "شهر"، وجُعل علمًا، ومنع من الصرف للعلميّة والألف والنون، كما مُنع "داية" في "ابن داية" علما للغراب؛ للعلمية والتأنيث. انتهى "تحفة الأحوذيّ" 1/ 32.
(التنبيه الثاني): قال العلامة المباركفوريّ رحمه الله تعالى: قد تفوّه بعض الفقهاء الحنفيّة بأن أبا هريرة لم يكن فقيها، وقوله هذا باطل، مردود عليهم، وقد صرّح أجلّة العلماء الحنفية بأنه رضي الله عنه كان فقيهًا، قال صاحب "السعاية شرح الوقاية": وهو من العلماء الحنفيّة ردّا على من قال منهم: إن أبا هريرة غير فقيه ما لفظه: كون أبي هريرة غير فقيه، غير صحيح، بل الصحيح أنه من الفقهاء الذين كانوا يُفتون في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم-كما صرّح به ابن الهمام في "تحرير الأصول"، وابن حجر في "الإصابة". انتهى.
وفي بعض حواشي "نور الأنوار" أن أبا هريرة كان فقيها، صرّح به ابن الهمام في "التحرير"، كيف وهو لا يعمل بفتوى غيره؟ وكان يفتي في زمن الصحابة رضي الله عنه، وكان يعارض أجلة الصحابة، كابن عباس، فإنه قال: إن عدة الحامل المتوفّى عنها زوجها أبعد الأجلين، فرده أبو هريرة، وأفتى بأن عدتها وضع الحمل، كذا قيل. انتهى.
وقال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "التذكرة": أبو هريرة الدوسي اليمانيّ الفقيه، صاحب رسول الله رضي الله عنه، كان من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الفتوى، مع الجلالة، والعبادة، والتواضع. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في "إعلام الموقّعين": ثم قام بالفتوى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرْكُ الإسلام (1)، وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكانوا بين مكثر منها، ومقلّ، ومتوسّط، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
(1) برك الجمل: بفتح، فسكون: صدره، والمراد به هنا صدر الإسلام، أي متقدّموا الإسلام، ورؤساؤه.
والمتوسطون منهم فيما رُوي عنهم من الفُتْيَا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس ابن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة
…
رضي الله عنه الخ، فلا شك في أن أبا هريرة رضي الله عنه كان فقيها من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ومن كبار أئمة الفتوى.
[فإن قيل]: قال إبراهيم النخعي أيضًا: إن أبا هريرة لم يكن فقيها، والنخعي من فقهاء التابعين.
[قلت]: قد نُقم على إبراهيم النخعي لقوله: إن أبا هريرة لم يكن فقيها، قال الحافظ الذهبيّ في "الميزان" في ترجمته: وكان لا يُحكم العربية، ربما لحن، ونقموا عليه قوله: لم يكن أبو هريرة فقيهًا. انتهى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذيّ" في حديث المصرّاة المرويّ عن أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم: قال بعضهم: هذا الحديث لا يُقبل؛ لأنه يرويه أبو هريرة، وابن عمر، ولم يكونا فقيهين، وإنما كانا صالحين، فروايتهما إنما تقبل في المواعظ، لا في الأحكام. وهذه جرأة على الله، واستهزاء في الدين عند ذهاب حملته، وفقد نَصَرَته، ومن أفقه من أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم؟، ومن أحفظ منهما؟ خصوصًا من أبي هريرة، وقد بسط رداءه، وجمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وضمه إلى صدره، فما نسي شيئًا أبدًا، ونسأل الله المعافاة من مذهب لا يثبت إلا بالطعن علي الصحابة رضي الله عنهم، ولقد كنت في جامع المنصور من مدينة السلام في مجلس عليّ بن محمد الدامغانيّ، قاضي القضاة، فأخبرني به بعض أصحابنا، وقد جرى ذكر هذه المسألة أنه تكلم فيها بعضهم يومًا، وذكر هذا الطعن في أبي هريرة، فسقطت من السقف حية عظيمة في وسط المسجد، فأخذت في سمت المتكلم بالطعن، ونفر الناس، وارتفعوا، وأخذت الحية تحت السواري، فلم يُدر أين ذهبت، فارعوَى من بعد ذلك من الترسّل في هذا القدح. اهـ. انتهى "تحفة الأحوذي" 1/ 32 - 33.
وقال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء"(1): قال الحافظ أبو سعد السمعانيّ: سمعت أبا المعمر المبارك بن أحمد، سمعت أبا القاسم يوسف بن عليّ الزنجانيّ الفقيه، سمعت الفقيه أبا إسحاق الفيروزابادي، سمعت القاضي أبا الطيب يقول: كنا في مجلس النظر بجامع المنصور، فجاء شابّ خُراساني، فسأل عن مسألة المصرّاة، فطالب بالدليل، حتى استدلّ بحديث أبي هريرة الوارد فيها، فقال -وكان حنفيًّا-: أبو هريرة غير مقبول الحديث، فما استتمّ كلامه، حتى سقط عليه حيّة عظيمة من سقف الجامع، فوثب الناس من أجلها، وهرب الشابّ منها، وهي تتبعه، فقيل له: تُبْ، تُبْ، فقال: فغابت الحية، فلم يُر لها أثر. إسنادها أئمة. انتهى "سير أعلام النبلاء" 2/ 618 - 619. والله تعالى أعلم.
(التنبيه الثالث): يجوز التلقيب بالأعمش، ونحوه من الألقاب التي فيها نقص، إذا اشتهر بها الشخص، وإن كان يكره ذلك بقصد تعريفه، لا تعييره؛ للضرورة، وأما النهي الوارد في آية:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] فمحمول على ما إذا كان للتعيير، كما هو المتعارف عند عوامّ الناس أنهم يلقّبون الشخص بما فيه من العيوب، كالعور، والعمَش، والعرَج، فنهي عن ذلك، وأما بعد أن اشتهر، ولا يُعرف إلا به، فيجوز؛ لما ذكرناه، وإليه أشار الحافظ السيوطيّ في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَذِكْرُهُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِاللَّقَبِ
…
أَوْ حِرْفَةٍ لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَعِب
(التنبيه الرابع): عدد ما رواه المصنّف رحمه الله تعالى من الأحاديث في هذا الكتاب لأبي هريرة (631) ولأبي صالح (136) وللأعمش (260) ولشريك النخعيّ (76) ولشيخه أبي بكر بن أبي شيبة (1098). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فخذوه) أي
(1)"سير أعلام النبلاء" 2/ 618 - 619.
تمسّكوا به. و"ما" في الموضعين شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، وجوابها، أو خبرها قوله:"فخذوه"، ودخلت الفاء في الخبر؛ لمشابهة "ما" الموصولة للشرطية في العموم، والوجه الأول أولى.
قال السنديّ رحمه الله تعالى: وما في الموضعين شرطية، كما ذكر السيوطيّ هذا الاحتمال؛ لأن الشرطية أظهر معنى، وفي الموصولة يلزم وقوع الجملة الإنشائية خبرًا، وهو مما اختلفوا فيه، وكثير منهم على أنه لا يصحّ إلا بتأويل، بخلاف الشرطية، فإن المحققين على أن خبرها جملة الشرط، لا الجزاء. انتهى.
فقوله: "ما أمرتكم به" يعم أمر الإيجاب، والندب، وقوله:"فَخُذُوهُ" لمطلق الطلب الشامل للوجوب والندب، فينطبق على القسمين، وقيل: هذا مخصوص بأمر الوجوب. وسيأتي مزيد بسط لذلك في شرح الحديث التالي، إن شاء الله تعالى.
[تنبيه]: المراد بالأمر هنا هو الأمر الذي يتعلّق بالدين، وأما ما يتعلق بأمر الدنيا، فليس كذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما جاء لبيان الأمور الدينيّة، لا الأمور الدنيويّة؛ لما أخرجه أحمد، في "مسنده رقم 24399"، ومسلم في "صحيحه"، والمصنّف في "كتاب الأحكام" 2471، كما سيأتي، من حديث عائشة، وأنس رضي الله تعالى عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يُلقّحون، فقال:"لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شِيصًا، فمرّ بهم، فقال:"ما لنخلكم؟ "، قالوا: قلت: كذا وكذا، قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم". ولفظ أحمد في "مسنده"، والمصنّف في "كتاب الأحكام": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال:"ما هذا الصوت؟ "، قالوا: النخل يُؤبِّرونها، فقال:"لو لم يفعلوا لصلح"، فلم يؤبّروا عامئذ، فصار شِيصًا، وذكروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن كان شيئًا من أمر دنياكم، فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم فإليّ". فدل هذا النصّ على أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يجب امتثاله، والذي جاء التحذير الشديد في قوله عز وجل:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، هو ما كان أمرًا دينيًّا، لا الأمور الدنيوية، فإن الإنسان يُخَيَّر فيها، كما أرشد إليه بقوله:"فشأنكم به"، والله تعالى أعلم.
(وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ) يعم نهي التحريم، والتَّنْزِيه، وكذا الطلب في قوله:(فَانْتَهُوا) أي اتركوه، يعم القسمين. ثم الخطاب، وإن كان للحاضرين، فيعم الغائبين أيضًا؛ لأن رسالته صلى الله عليه وسلم للجميع، كما بيّنه الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث -كما قال الحافظ ابن عساكر في "الأطراف"-: مختصر من الحديث الذي بعده، وسيأتي تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، إن شاء الله تعالى.
وهو حديث صحيح.
[فإن قيل]: كيف يصحّ، وفي إسناده شريك القاضي، وهو متكلم فيه، كما سبق في ترجمته؟.
[أجيب]: بأنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه جرير بن عبد الحميد، كما سيأتي في الحديث الذي بعده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله -المذكور أول الكتاب- قال:
2 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: أنبأنا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ذَرُونِي مَا تركْتكُمْ، فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكمْ بسُؤَالهِمْ، وَاختِلَافِهِمْ عَلَى أنبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أمرتكمْ بِشيءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نهَيْتكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة، وقد تقدّموا غير:
1 -
(محمد بن الصبّاح) بن سفيان بن أبي سفيان الجْرْجَرَائيّ، أبي جعفر التاجر مولى عمر بن عبد العزيز، صدوقٌ [10].
رَوَى عن حفص بن غياث، وعائذ بن حبيب، وجرير، وحاتم بن إسماعيل، وإسحاق الأزرق، وابن عيينة، وحماد بن خالد، وزكرياء بن منظور، وعباد بن العوام، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن رجاء المكي، وسعيد بن مسلمة الأموي، وعبد العزيز بن أبي حازم، وعبد العزيز بن الخطاب، والدراوردي، وعلي بن ثابت الجزري، وعمار بن محمد، ومحمد بن سلمة، ومحمد بن سليمان بن الأصبهاني، ومروان بن معاوية، وهشيم، والوليد بن مسلم، والقطان، ويحيى بن سليمان، وأبي بكر ابن عياش، ومعمر بن سليمان الرقي، ويزيد بن هارون، ويعقوب بن الوليد المدني، وخلق. وروى عنه أبو داود، وابن ماجه، وابنه جعفر بن محمد بن الصباح، وأبو زرعة الرازي، وموسى بن هارون، وجعفر الفريابي، والحسين بن إسحاق التستري، وإسحاق بن إبراهيم المنجنيقي، والقاسم بن زكريا المطرز، ومحمد بن صالح بن ذُرَيح، ومحمد بن إسحاق الثقفي السراج، وغيرهم. قال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز: سألت ابن معين عنه؟ فقال: ليس به بأس، قلت: وعنده عن الوليد بن مسلم كتاب صالح، وعن ابن عيينة حديث كثير، فقال: ليس به بأس. وقال يعقوب بن شيبة: ذُكر ليحيى بن معين ابن الصباح يعني الجرجرائي -فقال يحيى: حدث بحديث منكر، عن علي بن ثابت، عن إسرائيل، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا:"صنفان ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية"، قال يعقوب: وهذا حديث منكر جدا من هذا الوجه، كالموضوع، وإنما يرويه علي بن نزار، شيخ ضعيف، واهي الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنهما يعني بواسطة عكرمة- قال: ولم يذكر يحيى محمد بن الصباح هذا بسوء. وقال أبو زرعة، ومحمد بن عبد الله الحضرمي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، والدولابي أحب إلي منه. قال البخاري، وابن حبان في "الثقات"، والبغوي: مات سنة أربعين ومائتين. تفرد به أبو داود، والمصنّف.
[تنبيهات].
(الأول): الجَرْجَرَائيّ -بجيمين مفتوحتين، بينهما راء ساكنة، ثم راء خفيفة: نسبة
إلى جرجرايا بلدة قريبة من دجلة بين بغداد وواسط. قاله في "اللباب"1270.
(الثاني): جملة ما رواه المصنّف لشيخه محمد بن الصباح هذا في هذا الكتاب (146) حديثًا.
(الثالث): محمد بن الصباح في الكتب الستة اثنان:
[أحدهما]: هذا، وهو من أفراد أبي داود، والمصنف، كما سبق آنفًا.
[والثاني]: محمد بن الصباح أبو جعفر الدولابيّ البغداديّ الثقة الحافظ [10] من رجال الجماعة.
والفرق بينهما أن الأول يروي عنه المصنف بلا واسطة، وقد أكثر عنه، والثاني روى عنه بواسطة محمد بن يحيى الذهليّ في موضع واحد برقم (193) وليس له عنده غيره، وكذا لا يروي عنه الترمذيّ، والنسائيّ إلا بواسطة، وإنما يروي عنه مباشرة البخاريّ، ومسلم، وأبو داود. والله تعالى أعلم.
2 -
(جرير) بن عبد الحميد بن قُرْط -بضم القاف، وسكون الراء، بعدها طاء مهملة- الضبي، أبو عبد الله الرازي القاضي، وُلد بقرية من قرى أصبهان، ونشأ بالكوفة، ونزل الرَّيّ.
رَوَى عن عبد الملك بن عمير، وأبي إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسليمان التيمي، والأعمش، وعاصم الأحول، وسهيل بن أبي صالح، وخلق كثير.
وروى عنه إسحاق بن راهويه، وابنا أبي شيبة، وقتيبة، وعبدان المروزي، وأبو خيثمة، ومحمد بن قدامة بن أعين المصيصي، ومحمد بن قدامة الطوسي، ومحمد بن قدامة ابن إسماعيل السلمي النجاري، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ويحيى بن يحيى، ويوسف بن موسى القطان، وأبو الربيع الزهراني، وعلي بن حجر، وجماعة.
وقال محمد بن سعد: كان ثقة يُرحل إليه وقال ابن عمار الموصلي: حجة، كانت كتبه صحاحا. وقال محمد بن عموو زُنيج: سمعت جريرا قال: رأيت ابن أبي نَجيح، وجابرا الجعفي، وابن جريج، فلم أكتب عن واحد منهم، فقيل له: ضيعت يا أبا عبد
الله، فقال: لا، أما جابر فكان يؤمن بالرجعة، وأما ابن أبي نجيح فكان يرى القدر، وأما ابن جريج فكان يرى المتعة. وقيل لسليمان بن حرب: أين كتبت عن جرير؟ فقال بمكة، أنا وعبد الرحمن يعني ابن مهدي- وشاذان. وقال علي بن المديني: كان جرير صاحب ليل. وقال أبو خيثمة: لم يكن يدلس. وقال يعقوب بن شيبة، عن عبد الرحمن ابن محمد، عن سليمان الشاذكوني: حدثنا عن مغيرة، عن إبراهيم في طلاق الأخرس، ثم حدثنا به عن سفيان، عن مغيرة، ثم وجدته على ظهر كتاب لابن أخيه، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة، قال سليمان: فوقفته عليه، فقال لي: حدثنيه رجل عن ابن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم.
قال الحافظ: إن صحت هذه الحكاية، فجرير كان يدلس. وقد قيل ليحيى بن معين، عقب هذه الحكاية: كيف تروي عن جرير؟ فقال: ألا تراه قد بين لهم أمرها.
وقال العجلي: كوفي ثقة، نزل الري، وقال النسائي: ثقة. وقال ابن خراش: صدوق. وقال أبو القاسم اللالكائي: مجمع على ثقته.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث، وعاصم الأحول، حتى قدم عليه بهز، فعرفه، نقله العقيلي. وقال البيهقي في "السنن": نُسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ. وذكر صاحب "الحافل" عن أبي حاتم أنه تغير قبل موته بسنة، فحجبه أولاده، وهذا ليس بمستقيم، فإن هذا إنما وقع لجرير بن حازم، فكأنه اشتبه على صاحب "الحافل".
وقال ابن حبان في "الثقات": كان من العباد الخُشُن. وقال أبو أحمد الحاكم: هو عندهم ثقة. وقال الخليلي في "الإرشاد": ثقة متفق عليه.
وقال حنبل بن إسحاق: وُلد جرير بن عبد الحميد في سنة (107)، وقال حنبل أيضا عن أحمد: ثنا محمد بن حميد، عن جرير: وُلدت سنة (10) قال: ومات جرير سنة (188). وكذا قال مطين في تاريخ وفاته، وزاد في شهر ربيع الآخر.
روى له الجماعة، وله عند المصنف في هذا الكتاب (29) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَّ صلى الله عليه وسلم: "ذَرُونِي) أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات، ونحو ذلك، قال الفيَّوميّ: وذِرْته أَذَره وَذْرًا: تركته، قالوا: وأماتت العرب ماضيه، ومصدره، فإذا أريد الماضي قيل: ترك، وربّما استُعْمِلا على قلّة، ولا يُستعمل منه اسم فاعل. انتهى.
وقال المجد في "القاموس": وذَرْهُ: أي دعه، يَذَرُهُ تَرْكًا، ولا تقل: وَذَرْهُ، وأصله وَذِرَهُ يَذَرُهُ، كوَسِعَهُ يَسَعُهُ، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل، أو قيل: وَذِرْتُهُ شاذّا. انتهى.
وقال ابن منظور في "اللسان": قال ابن السّكّيت: يقال: ذَرْ ذَا، ودع ذَا، ولا يقال: وَذَرْتهُ، ولا وَدَعْتُهُ، وأما في الغابر، فيقال: يَذَرُهُ، ويَدَعُهُ، وأصله وَذِره يَذَره، مثالُ وَسِعَه يَسَعهُ، ولا يقال: واذِر، ولا وادعٌ، ولكن تركته، فأنا تارك. انتهى.
ولبعضهم شعرًا:
وَقَدْ أَمَاتُوا الماضِ (1) مِنْ يَذَرْ يَدَع
…
لكنَّ في الضُّحَى قُرِي بِـ "مَا وَدع"
ولفظ البخاريّ: "دعوني"، وهو بمعنى "ذرُوني".
وقد ذكر مسلم سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد، فقال عن أبي هريرة رضي الله عنه:"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله، فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
وأخرجه الدارقطني مختصرا، وزاد فيه: "فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
(1) أصله الماضي بالياء، فحذف للوزن.
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. وقد رُوي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج، وقالوا: أفي كل عام؟ (1).
وفي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: من أبي؟ فقال: "فلان"، فنزلت هذه الآية:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]، وفيهما أيضا عن قتادة، عن أنس، قال: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فغضب، فصعِد المنبر، فقال:"لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته"، فقام رجل، كان إذا لاحى الرجال دُعي إلى غير أبيه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: "أبوك حذافة"، ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، نعوذ بالله من الفتن. وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101].
وفي "صحيح البخاري"، عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟، ويقول الرجل، تضل نِاقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (2).
وله شاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عند الطبري في "التفسير"، وفيه: "لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم
…
" الحديث، وفيه: "فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101].
وأخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره": من حديث أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غضبان محمار وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل، فقال: أين أنا؟ فقال: "في النار"، فقام إليه آخر: فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة، فقام عمر رضي الله عنه،
(1)"فتح" 15/ 188.
(2)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 166 - 167.
فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم بآبائنا، قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
وروي أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس، في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أَذَّن في الناس، فقال: "يا قوم كتب عليكم الحج"، فقام رجل، فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فقال: "والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذن لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه"، فأنزل الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ، نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله تعالى عن ذلك، ولكن انظروا، فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه (1).
(مَا ترَكْتكُمْ)"ما" مصدريّة ظرفية: أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء. قال في "الفتح" 15/ 188: وإنما غاير بين اللفظين، لأنهم أماتوا الفعل الماضي، واسم الفاعل منهما، واسم مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو "يذر"، وفعل الأمر، وهو "ذر"، ومثله "دع"، و"يدع"، ولكن سُمِع "ودع"، كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى:"ما ودعك ربك وما قلى"، قرأ بذلك إبراهيم بن أبي عبلة، وطائفة، وقال الشاعر [من الطويل]:
وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
…
فَرَائِسَ أَطْرَافِ المثقَّفَةِ السُّمْرِ
ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة، وإلا لقال: اتركوني.
والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع، خشية أن ينزل به وجوبه، أو
(1) وفي إسناده عطية العوفي، قال في "التقريب": صدوق يخطىء كثيرًا، وكان شيعيًّا، مدلّسًا.
تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبا من التعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستَثقَل، فقد يؤدي لترك الامتثال، فتقع المخالفة. قال ابن فرج: معنى قوله: "ذروني ما تركتكم": لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر، ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله:"حجوا" وإن كان صالحا للتكرار، فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ، وهو المرة، فإن الأصل عدم الزيادة، ولا تكثروا التنقيب عن ذلك؛ لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل، إذ أُمروا أن يذبحوا البقرة، فلو ذبحوا أي بقرة كانت لامتثلوا، ولكنهم شددوا، فَشُدّد عليهم، وبهذا تظهر مناسبة قوله: "فإنما هلك من كان قبلكم
…
" إلى آخره، بقوله: "ذروني ما تركتكم".
وقد أخرج البزار، وابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة مرفوعًا:"لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة، فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم"، وفي السند عباد بن منصور، وحديثه من قبيل الحسن. وأورده الطبري عن ابن عباس موقوفًا، وعن أبي العالية مقطوعا. واستُدل به على أن لا حكم قبل ورود الشرع، وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب. انتهى (1).
(فَإِنَّما هَلَكَ) بفتح اللام ثلاثيّا، وقوله (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) فاعله (بِسُؤَالهِم) أي بسبب سؤالهم (وَاختِلَافِهِمْ عَلَى أنبِيَائِهِمْ) وفي رواية البخاريّ:"فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم"، قال في "الفتح": قوله: "فإنما أهلك" بفتحات، وقال بعد ذلك:"سؤالهم" بالرفع على أنه فاعل "أهلك"، وفي رواية غير الكشميهني "أُهلك" بضم أوله، وكسر اللام، وقال بعد ذلك "بسؤالهم": أي بسبب سؤالهم. وقوله: "واختلافُهم" بالرفع، وبالجر على الوجهين، ووقع في رواية همام عند أحمد بلفظ:"فإنما هلك" -يعني كرواية المصنّف- وفيه "بسؤالهم"، ويتعين الجر في "واختلافهم"، وفي رواية الزهري:"فإنما أهلك"، وفيه "سؤالهم"، ويتعين الرفع في "واختلافهم". وأما قول النووي في "أربعينه":"واختلافهم" برفع الفاء، لا بكسرها،
(1)"فتح" 15/ 188.
فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها، وهي التي من طريق الزهري. انتهى.
(فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشيءٍ) وفي رواية مسلم "بأمر"(فَخُذُوا مِنْهُ) ولفظ البخاريّ: "فأتوا منه"(مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي افعلوا قدر استطاعتكم، ووقع في رواية الزهري عند مسلم:"وما أمرتكم به"، وفي رواية همام عنده:"وإذا أمرتكم بالأمر، فأتمروا ما استطعتم"، وفي رواية محمد بن زياد عند الترمذيّ:"فافعلوا".
(وَإِذَا نَهَيْتكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا"). وفي رواية البخاريّ: "فاجتنبوه"، هكذا رواية المصنّف بتقديم جملة الأمر على جملة النهي، وهو رواية مسلم من طريق الزهريّ، عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، ووقع في رواية للبخاريّ من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بتقديم جملة النهي على الأمر، قال الحافظ: ما مختصره: واقتصر النووي في "الأربعين" على رواية الزهريّ المذكورة، وعزا الحديث للبخاري ومسلم فتشاغل بعض شراح "الأربعين" بمناسبة تقديم النهي على ما عداه ولم يعلم أن ذلك من تصرف الرواة، وأن اللفظ الذي أورده البخاري هنا أرجح من حيث الصناعة الحديثية؛ لأنهما اتفقا على إخراج طريق أبي الزناد، دون طريق الزهري، وإن كان سند الزهري مما عُدّ في أصح الأسانيد، فإن سند أبي الزناد أيضا مما عد فيها فاستويا، وزادت رواية أبي الزناد اتفاقَ الشيخين. وظن القاضي تاج الدين في شرح "المختصر" أن الشيخين اتفقا على هذا اللفظ، فقال بعد قول ابن الحاجب:"الندب": أي احتج من قال إن الأمر للندب بقوله: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم"، فقال الشارح: رواه البخاري ومسلم، ولفظهما: وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وهذا إنما هو لفظ مسلم وحده، ولكنه اغتر بما ساقه النووي في "الأربعين".
ثم إن هذا النهي عام في جميع المناهي، ويُستثنى ما يُكرَه المكلف على فعله، كشرب الخمر، وهذا على رأي الجمهور، وخالف قوم، فتمسكوا بالعموم، فقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، والصحيح عدم المؤاخذة إذا وُجدت صورة
الإكراه المعتبرة. واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال: لا يتصور الإكراه عليه، وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن ينعظ (1) الرجل بغير سبب، فيكره على الإيلاج حينئذ، فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا لكان زانيا، فتُصُوِّر الإكراهُ على الزنا.
واستَدَلَّ به من قال: لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش به، ولا إساغة لقمة من غُصَّ به، والصحيح عند الشافعية جواز الثالث؛ حفظا للنفس، فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي، فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم عن وائل رفعه:"إنه ليس بدواء، ولكنه داء"، ولأبي داود عن أبي الدرداء رفعه:"ولا تداووا بحرام"، وله عن أم سلمة مرفوعا:"إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". وأما العطش فإنه لا ينقطع بشربها، ولأنه في معنى التداوي، والله أعلم.
والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه، ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي، كأكل الميتة للمضطر. وقال الفاكهاني: لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لم يعد ممتثلا، بخلاف الأمر -يعني المطلق- فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان ممتثلا. انتهى ملخصا.
وقد أجاب هنا ابن فرج بأن النهي يقتضي الأمر، فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدا من آحاد ما يتناوله النهي، بخلاف الأمر، فإنه على عكسه، ومن ثَمَّ نشأ الخلاف هل الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده. قاله في "الفتح" 15/ 189. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1) يقال: نعظ ذكره ينعظ نَعْظًا، ويحرّك، ونعوظًا: بالنون أي قام ذكره. انتهى "القاموس".
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى). في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا - 1/ 1 و 2 - وأخرجه (خ) في "الاعتصام" 7288 (م) في "الحج" 1337 (ت) في "العلم" 2679 و (النسائيّ) في "الحج"(2573)(أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 7320 و 7449 و 8450 و 9239 و 9488 و 9577 و 27258 و9890 و 27312 و 10229، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب اتّباع سنته صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): ما قاله النووي رحمه الله تعالى: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها، أو شرط، فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر، ثم قدر في أثناء النهار إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها. وقال غيره: فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا؛ لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم، فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود؛ إذ لا يتصور منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على عدمه.
3 -
(ومنها): أنه استدل به على أن من أُمر بشيء، فعجز عن بعضه، ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه، ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
4 -
(ومنها): أنه استدل به على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات؛ لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات، ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
[فإن قيل]: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
[فجوابه]: أن الاستطاعة تطلق باعتبارين. قال في "الفتح": كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة، لا يدل على المدعَى من الاعتناء به، بل هو من جهة الكف؛ إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثَمَّ قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي.
وعَبّر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود.
وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهي عنه قد تتخلف، واستُدِل له بجواز أكل المضطر الميتة. وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة.
وقال ابن فرج في "شرح الأربعين": قوله: "فاجتنبوه" هو على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر، إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان، كما نطق به القرآن. انتهى. والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال. وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك، وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر؛ لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر؛ لأن العمل قد يعجز المعذور عنه.
وادعى بعضهم أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، يتناول امتثال المأمور، واجتناب المنهي، وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة، في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر
تصوره في الأمر، بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار، وزعم بعضهم أن قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نسخ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، والصحيح أن لا نسخ، بل المراد بحق تقاته امتثال أمره، واجتناب نهيه مع القدرة، لا مع العجز.
5 -
(ومنها): أنه استدل به على أن المكروه يجب اجتنابه؛ لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه، فشمل الواجب والمندوب. وأجيب بأن قوله:"فاجتنبوه" يُعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر، وهو الأمر. وقال الفاكهاني: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا يكون معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما.
6 -
(ومنها): أنه استُدل به على أن المباح ليس مأمورا به؛ لأن التأكيد في الفعل، إنما يناسب الواجب والمندوب وكذا عكسه. وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد بالمعنى الأعم، وهو الإذن.
7 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه. وقيل: يقتضيه. وقيل: يتوقف فيما زاد على مرة، وحديث الباب قد يُتمسك به لذلك؛ لما في سببه أن السائل قال في الحج: أكل عام؟ فلو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه، لم يحسن السؤال، ولا العناية بالجواب، وقد يقال: إنما سأل استظهارا واحتياطا. وقال المازري: يحتمل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا من صيغة الأمر.
8 -
(ومنها): أنه قد تمسك به من قال بإيجاب العمرة؛ لأن الأمر بالحج إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب إلا مرة، فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاستدلال غير واضح، وسيأتي في "كتاب المناسك" أدلة وجوب العمرة، إن شاء الله تعالى.
9 -
(ومنها): أنه استُدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولو قلت: نعم لوجبت". وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال.
10 -
(ومنها): أنه استُدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة، حتى يثبت المنع من قبل الشارع.
11 -
(ومنها): أنه استُدل به على النهي عن كثرة المسائل، والتعمق في ذلك، قال البغوي في "شرح السنة": المسائل على وجهين: [أحدهما]: ما كان على وجه المّعلم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز، بل مأمور به؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 7]، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال، والكلالة، وغيرهما.
[ثانيهما]: ما كان على وجه التعنت والتكلف، وهو المراد في هذا الحديث، والله أعلم. ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك، وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن الأغلوطات، قال الأوزاعي: هي شداد المسائل. وقال الأوزاعي أيضا: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما. وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال ابن العربي: كان النهي عن السؤال في العهد النبوي؛ خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعدُ فقد أمن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع، قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء، فإنهم فرعوا، ومهدوا، فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء، ودروس العلم. انتهى ملخصا.
وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أَهَمُّ منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات؛ ليسهل تناوله. والله المستعان. قاله في "الفتح" 15/ 190 - 192.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه "جامع
العلوم والحكم" في هذا الحديث، فقد أجاد رحمه الله تعالى البحث فيه، وأتى بالعجب العجاب من الفوائد الكثيرة، والعوائد الغزيرة، أحببت إيراده هنا؛ تكميلًا للفوائد، وتتميمًا للعوائد، قال رحمه الله تعالى- بعد أن أورد أحاديث في معنى الحديث الذي ذكره المصنّف: ما حاصله: دلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه، مما يسوء السائل جوابه، مثل سؤال السائل هل هو في النار أو في الجنة؟ وهل أبوه من يُنسب إليه أو غيره؟ وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم، وقريب من ذلك سؤال الآيات، واقتراحها على وجه التعنت كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب. وقال عكرمة وغيره. إن الآية نزلت في ذلك، ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده، ولم يطلعهم عليه كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح.
ودلت أيضا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام، مما يُخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه، كالسؤال عن الحج، هل يجب كل عام أم لا؟ وفي الصحيح عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم عن اللعان كره المسائل وأعابها، حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، متّفق عليه. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في المسائل، إلا للأعراب ونحوهم، من الوفود القادمين عليه، يتألفهم بذلك، فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم فَنُهُوا عن المسألة، كما في "صحيح مسلم " عن النواس بن سمعان قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع. وفي "المسند" عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: كان الله قد أنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا
عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، قال: فكنا قد كرهنا كثيرا من مسألته، واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فأتينا أعرابيا فرشوناه بُرْدًا، ثم قلنا له: سل النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثا. وفي "مسند أبي يعلى" عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: إن كان لتأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]، وذكر الحديث. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يسألونه عن حكم حوادث، قبل وقوعها، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غدا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب، وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده، وعن طاعتهم وقتالهم، وسأله حذيفة عن الفتن، وما يصنع فيها.
فهذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" يدل على كراهة المسائل وذمها، ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لما يُخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم، أو إيجاب ما يشق القيام به، وهذا قد أمن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل، بل له سبب آخر، وهو الذي أشار إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في كلامه الذي ذكرنا بقوله:"ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه".
ومعنى هذل أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم، لا بد أن يبينه الله في كتابه العزيز، ويبلغ ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال، فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم، فإن الله تعالى لا بد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال، كما قال تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} الآية
[النساء: 176]، وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال عن شيء، ولا سيما قبل وقوعه، والحاجة إليه، وإنما الحاجة المهمة إلى فهم ما أخبر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم اتباع ذلك، والعمل به.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسائل، فيحيل على القرآن، كما سأله عمر عن الكلالة، فقال:"يكفيك آية الصيف".
وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال أمره، واجتناب نهيه، شغلا عن المسائل، فقال:"إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق بذلك، إن كان من الأمور العلمية، وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد، في فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما ينهى عنه، فتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك، لا إلى غيره، وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع، من الكتاب والسنة، فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي، إلى فرض أمور قد تقع، وقد لا تقع، فإن هذا مما يدخل في النهي، ويثبط عن الجد في متابعة الأمر. وقد سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر، فقال له: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، فقال له الرجل: أرأيت إن غُلبت عنه، أرأيت إن زُوحمت؟ فقال له ابن عمر: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. أخرجه الترمذي.
ومراد ابن عمر أن لا يكون لك هَمٌّ إلا في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك، أو تعسره قبل وقوعه، فإنه يفتر العزم على التصميم عن المتابعة، فإن التفقه في الدين، والسؤال عن العلم، إنما يحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدال.
وقد رُوي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان، فقال له عمر: متى ذلك
يا علي؟، قال: إذا تُفُقه لغير الدين، وتعلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: كيف بكم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة، فإن غيرت يوما، قيل: هذا منكر، قالوا: ومتى ذلك؟ قال: إذا قلت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت قراؤكم، وتُفُقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة. أخرجه عبد الرازق في كتابه.
ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين، يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة: خرج عمر على الناس، فقال: أحرّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر رضي الله عنه، لعن السائل عما لم يكن. وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء يقول: كان هذا، فإن قالوا: لا، قال دَعُوه حتى يكون. وقال مسروق: سألت أبي بن كعب عن شيء؟ فقال: أكان بعدُ؟ فقلت: لا، فقال: أَجِمَّنَا يعني أرحنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا. وقال الشعبي: سئل عمار عن مسألة، فقال: هل كان هذا بعدُ؟ قالوا: لا، قال: فدعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناه لكم. وعن الصلت بن راشد قال: سألت طاوسا عن شيء، فانتهرني، فقال: أكان هذا؟ قلت: نعم، قال: آلله، قلت: آلله، قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه قال: يأيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهبكم ههنا وههنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سُدّد، أو قال: وُفّق، وقد خرجه أبو داود في كتاب "المراسيل" مرفوعا من طريق ابن عجلان، عن طاوس، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا، لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال سُدِّد ووفق، وإنكم إن عجلتم تشتت بكم السبل ههنا وههنا.
ومعنى إرساله أن طاوسا لم يسمع من معاذ. وأخرجه أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. ورَوَى الحجاج بن منهال، حدثنا جرير
ابن حازم، سمعت الزبير بن سعيد رجلا من بني هاشم، قال: سمعت أشياخنا يحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال في أمتي من إذا سئل سُدد وأُرشد، حتى يسألوا عما لا ينزل تبيينه، فإذا فعلوا ذلك ذهب بهم ههنا وههنا. وقد رَوَى الصنابحي عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن الأغلوطات. أخرجه الإمام أحمد رحمه الله، وفسره الأوزاعي، وقال: هي شداد المسائل. وقال عيسى بن يونس: هي ما لا يُحتاج إليه من كيف وكيف. ويُروَى من حديث ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون قوم من أمتي يُغَلِّطون فقهاءهم بعضل المسائل، أولئك شرار أمتي". وقال الحسن: شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل، يعمون بها عباد الله. وقال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرِم عبده بركة العلم، ألقَى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما. وقال ابن وهب عن مالك: أدركت هذه البلدة، وإنهم ليكرهون الإكثار الذي فيه الناس اليوم، يريد المسائل. وقال أيضا: سمعت مالكا، وهو يعيب كثرة الكلام، وكثرة الفتيا، ثم قال: يتكلم كأنه جمل مغتلم، يقول: هو كذا، هو كذا، يهدر في كلامه. وقال: سمعت مالكا يكره الجواب في كثرة المسائل، وقال: قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، فلم يأته في ذلك جواب، فكان مالك يكره المجادلة عن السنن. وقال أيضا الهيثم بن جميل: قلت لمالك: يا أبا عبد الله الوجل يكون عالما بالسنن، يجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه، وإلا سكت. قال إسحاق بن عيسى: كان مالك يقول: المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال وهب: سمعت مالكا يقول: المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغن. وكان أبو شريح الإسكندراني يوما في مجلسه، فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم منذ اليوم، فقوموا إلى أبي حميد خالد بن حميد، صَقِّلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل، إلا ما نزل، فإنها تقسي القلب، وتورث العداوة. وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه -يعني أحمد- يسأل عن مسألة، فقال: وقعت هذه
المسألة، بُليتم بها بعدُ.
وقد انقسم الناس في هذا الباب قسمين: فمن أتباع أهل الحديث من سَدّ باب المسائل حتى قل فهمه، وعلمه لحدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وصار حامل فقه، غير فقيه. ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل، قبل وقوعها ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه، حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب، ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء، والعداوة والبغضاء، ويقتون ذلك كثيرا بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلت السنة على قبحه وتحريمه، وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، في أنواع العلوم، من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريق الإمام أحمد، ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه كثرة الخصومات والجدال، وكثرة القيل والقال، وكان الإمام أحمد كثيرا إذا سئل عن شيء من المسائل المحدثة المتولدات التي لا تقع، يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة، وما أحسن ما قاله يونس بن سليمان السقطي: نظرت في الأمر فإذا هو الحديث والرأى، فوجدت في الحديث ذكر الرب عز وجل وربوبيته، وإجلاله وعظمته، وذكر العرش، وصفة الجنة والنار، وذكر النبيين والمرسلين، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام، وجماع الخير فيه، ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والغدر والحيل، وقطيعة الأرحام، وجماع الشر فيه. وقال أحمد بن شبويه: من أراد علم القبر فعليه بالآثار، ومن
أراد علم الخير (1) فعليه بالرأي، ومن سلك طريقه لطلب العلم على ما ذكرناه، تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولابد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمع على هدايتهم ودرايتهم، كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم، وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به، وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله عز وجل، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله، وسدده، وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب، في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} الآية [فاطر: 28]، ومن الراسخين في العلم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن الراسخين في العلم؟ فقال:"من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم". وقال نافع بن زيد: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله، والمتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: أتاكم أهل اليمن، هم أبو قلوبا، وأرق أفئدة، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية"، متّفقٌ عليه. وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري، ومن كان على طريقه من علماء أهل اليمن، ثم إلى مثل أبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، وطاوس، ووهب بن منبه، وغيرهم من علماء أهل اليمن، وكل هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله، فكلهم علماء بالله، يخشونه ويخافونه، وبعضهم أوسع علما بأحكام الله وشرائع دينه من بعض، ولم يكن تمييزهم
(1) هكذا النسخة وأورده الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" بلفظ "الخبز" بالخاء، والموحدة، والزاي، ولعله هو المناسب، والله أعلم.
عن الناس بكثرة قيل وقال، ولا بحث ولا جدال، وكذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام، وهو الذي يحشر يوم القيامة أمام العلماء بِرَتْوة، ولم يكن علمه بتوسعة المسائل وتكثيرها، بل قد سبق عنه كراهة الكلام فيما لا يقع، وإنما كان عالما بالله، وعالما بأصول دينه رضي الله عنه. وقد قيل للإمام أحمد: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق، قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم؟ قال: إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق. وسئل عن معروف الكرخي؟ فقال: كان معه أصل العلم خشية الله، وهذا يرجع إلى قول بعض السلف: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا. وهذا باب واسع، يطول استقصاؤه.
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فنقول: من لم يشتغل بكثرة المسائل، التي لا يوجد مثلها في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل اشتغل بفهم كلام الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقصده بذلك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فهو ممن امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وعمل بمقتضاه، ومن لم يكن اهتمامه بفهم ما أنزل الله على رسله، واشتغل بكثرة توليد المسائل، قد تقع وقد لا تقع، وتكلف أجوبتها بمجرد الرأي، خُشي عليه أن يكون مخالفا لهذا الحديث، مرتكبا لنهيه تاركا لأمره.
(واعلم): أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة، إنما هو من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، فلو أن من أراد أن يعمل عملا، سأل عما شرع الله في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فيه فاجتنبه، وقعت الحوادث مقيدة بالكتاب والسنة، وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما شرعه الله، وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة؛ لبعدها عنها.
وبالجملة فمن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وانتهى عما نَهَى عنه، وكان مشتغلا بذلك عن غيره، حصل له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن خالف ذلك، واشتغل بخواطره، وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب،
الذين هلكوا بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في البحث عن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم":
قال بعض العلماء: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر؛ لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قُيّد بحسب الاستطاعة، ورُوي هذا عن الإمام أحمد رحمه الله، ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البر يعملها البر والفاجر، وأما المعاصي فلا يتركها إلا صديق. ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"اتق المحارم تكن أعبد الناس". رواه الترمذيّ (1). وقالت عائشة رضي الله عنها: "من سره أن يسبق الدائب المجتهد، فليكف عن الذنوب"، وروي مرفوعا. وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه.
والظاهر أن ما ورد من تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات، إنما أريد به على نوافل الطاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات؛
(1) أخرجه الترمذيّ من طريق الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ عني هؤلاء الكلمات، فيعمل بهن، أو يعلم من يعمل بهن؟ "فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعد خمسا، وقال:"اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك، تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك، تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئا، هكذا رُوي عن أيوب ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وروى أبو عبيدة الناجي، عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى، انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 82 رقم 100 و"السلسلة الصحيحة" رقم 930.
لأن الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم مطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نية، بخلاف الأعمال، ولذلك كان جنس ترك الأعمال، قد تكون كفرا، كترك التوحيد، وكترك أركان الإسلام، أو بعضها على ما حُقّق في محله، بخلاف ارتكاب المنهيات، فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: لردُّ دانق من حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله. وعن بعض السلف قال: ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلى الله من خمسمائة حجة. وقال ميمون بن مهران: ذكر الله باللسان حسن، وأفضل منه أن يذكر الله العبد عند المعصية، فيمسك عنها. وقال ابن المبارك: لأن أرد
درهما من شبهة أحب إليّ من أن أتصدق بمائة ألف، ومائة ألف، حتى بلغ ستمائة ألف.
وقال عمر بن عبد العزيز: ليست التقوى قيام الليل، وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، فإن كان مع ذلك عمل، فهو خير إلى خير، أو كما قال. وقال أيضا: وددت أني لا أصلي غير الصلوات الخمس سوى الوتر، وأن أؤدي الزكاة، ولا أتصدق بعدها بدرهم، وأن أصوم رمضان، ولا أصوم بعده يوما أبدا، وأن أحج حجة الإسلام، ثم لا أحج بعدها أبدا، ثم أعمد إلى فضل قوتي، فأجعله فيما حرم الله عليّ، فأمسك عنه.
وحاصل كلامهم يدل على أن اجتناب المحرمات، وإن قلت، أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات، فإن ذلك فرض، وهذا نفل.
وقال طائفة من المتأخرين: إنما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"؛ لأن امتثال الأمر لا يحصل إلا بعمل، والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب، وبعضها قد لا يستطاع، فلذلك قيده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة، قال الله عز وجل:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال في الحج:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وأما النهي فالمطلوب عدمه، وذلك هو الأصل، فالمقصود استمرار العدم الأصلي، وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يستطاع.
وهذا فيه أيضا نظر، فإن الداعي إلى فعل المعاصي، قد يكون قويا لا صبر معه للعبد على الامتناع عن فعل المعصية، مع القدرة عليها، فيحتاج للكف عنها حينئذ، إلى مجاهدة شديدة، وربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفوس على فعل الطاعات، ولهذا يوجد كثيرا من يجتهد في فعل الطاعات، ولا يَقْوَى على ترك المحرمات. وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية، ولا يعملون بها، فقال: أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. وقال يزيد بن ميسرة: يقول الله في بعض الكتب: أيها الشاب التارك لشهوته، المتبذل في شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي، وقال: ما أشد الشهوة في الجسد، إنها مثل حريق النار، وكيف ينجو منها الحصوريون؟ (1).
والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة؛ رخصة عليهم، ورحمة لهم، وأما المناهي فلم يُعذر أحد بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلفهم تركها على كل حال، وإنما أباح أن يتناولوا من المطاعم المحرمة عند الضرورة، ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قال الإمام أحمد رحمه الله: إن النهي أشد من الأمر. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان وغيره، أنه قال:"استقيموا، ولن تحصوا"(2)، يعني لن تقدروا على الاستقامة كلها. وروى الحكم بن حزن الْكُلَفيّ قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه الجمعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوكئا على عصا، أو قوس، فحمد الله، وأثنى عليه بكلمات، خفيفات طيبات مباركات، ثم قال:"يا أيها الناس إنكم لن تطيقوا، ولن تفعلوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا، وأبشروا"، أخرجه
(1) هكذا النسخة "الحصوريون" بياء النسبة، ولعل الصواب "الحصورون"، والحصور: هو الذي لا يأتي النساء، سمي به لأنه حُبس عن الجماع، ومنع، فهو فعول بمعنى مفعول. انتهى.
(2)
حديث صحيح، سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى في "كتاب الطهارة" برقم 277.
الإمام أحمد، وأبو داود (1).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم": دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كله، وقدر على بعضه، فإنه يأتي بما أمكن منه، وهذا مطرد في مسائل:
(منها): الطهارة، فإذا قدر على بعضها، وعجز عن الباقي، إما لعدم الماء، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض، فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه، ويتيمم للباقي، وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور.
(ومنها): الصلاة، فمن عجز عن فعل الفريضة قائما صلى قاعدا، فإن عجز صلاها مضطجعا، وفي "صحيح البخاري" عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"، فإن عجز عن ذلك كله أومأ بطَرْفه، وصلى بنيته، ولم تسقط عنه الصلاة على المشهور.
(ومنها): زكاة الفطر، فإذا قدر على إخراج بعض صاع لزمه ذلك، على الصحيح فأما من قدر على صيام بعض النهار دون تكملته، فلا يلزمه ذلك بغير خلاف؛ لأن صيام بعض اليوم ليس بقربة في نفسه، وكذلك لو قدر على عتق بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه؛ لأن تبعيض العتق غير محبوب للشارع، بل أمر بتكملته بكل طريق. وأما من فاته الوقوف بعرفة في الحج، فهل يأتي بما بقي منه من المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار أم لا، بل يقتصر على الطواف والسعي، ويتحلل بعمرة على روايتين عن أحمد، أشهرهما أنه يقتصر على الطواف والسعي؛ لأن المبيت والرمي من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه، وإنما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام، وبذكره في الأيام المعدودات، لمن أفاض من عرفات، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة، كما لا يؤمر به المعتمر. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (2).
(1) حديث حسن أخرجه أحمد 4/ 212 وأبو داود رقم 1096.
(2)
راجع "جامع العلوم والحكم" 1/ 165 - 183.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما أطلت بنقل كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وإن كان بعضه تقدّم؛ لما اشتمل عليه من الفوائد الغزيرة، فأحببت أن أنقله دون تصرّف بالاختصار؛ استيفاءً لما حواه، وهذا شأن الشرح، حيث إن فيه ذكرَ المسائل مفصّلة، مُستوعَبَةً، ولا يُنظر لطولها، وتكرارها.
ولقد أجاد الإمام النووي رحمه الله تعالى في أوائل "شرح صحيح مسلم" حيث يقول -بعد أن ذكر دقائق بعض الأسانيد-: ما نصّه:
"ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم من شيء من ذلك بما يجده مبسوطًا واضحًا، فإني إنما أقصد بذلك إن شاء الله الكريم - الإيضاح والتيسير، والنصيحة لمطالعه، وإعانته، وإغناءه من مراجعة غيره في بيانه، وهذا مقصود الشروح، فمن استطال شيئًا من هذا، وشبهه فهو بعيد من الإتقان، مباعد للفلاح في هذا الشأن، فليُعَزّ نفسه؛ لسوء حاله، وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله، ولا ينبغي لطالب التحقيق، والتنقيح، والإتقان، والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة، أو سآمة ذوي البطالة، وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطًا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحًا مضبوطًا، ويحمد الله الكريم على تيسيره، ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه وإيضاحه، وتقريره -وفقنا الله الكريم- لمعالي الأمور، وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور، وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الحبور والسرور، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" (1).
فعليك أيها الأخ العزيز أن تجعل نصيحة هذا الإمام المحقق نُصب عينيك كلما استشعرت بشيء من التكرار والتطويل في هذا الشرح؛ لتظفر بكَنْز عظيم -إن شاء الله تعالى- زادني الله وإياك الحرص على التحقيق، والغوص في علم الحديث، فإنه البحر الخِضَمّ العميق، بمنه وكرمه آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1) راجع "شرح صحيح مسلم" 1/ 152.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
3 -
(حَدَّثَنا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبةَ، حَدثَنَا، أبو مُعَاوِيَةَ، وَوَكيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطَاعَنى فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصى الله").
رجال هذا الإسناد: ستة: وكلهم تقدّموا في الإسنادين الماضيين، غير اثنين:
1 -
(أبو معاوية): وهو محمد بن خازم -بعجمتين- التميمي السعدي مولاهم، الضرير الكوفيّ، يقال: عمي وهو ابن ثمان سنين، أو أربع، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9].
رَوَى عن عاصم الأحول، وأبي مالك الأشجعي، وسعد ويحيى ابني سعيد الأنصاري، والأعمش، وداود بن أبي هند، وعبيد الله بن عمر العمري، وخلق كثير.
وروى عنه ابن جريج وهو أكبر منه، ويحيى القطان، وهو من أقرانه، ويحيى بن حسان التنيسي، وأسد بن موسى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو الوليد الطيالسي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وجمّ غفير.
قال أيوب بن إسحاق بن سافري: سألت أحمد ويحيى عن أبي معاوية وجرير؟ قالا: أبو معاوية أحب إلينا يعنيان في الأعمش، وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظا جيدا. وقال الدُّوري عن ابن معين: أبو معاوية أثبت في الأعصش من جرير. ورَوى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر مناكير، وقال ابن المديني: كتبنا عن أبي معاوية ألفا وخمسمائة حديث، وكان عند الأعمش ما لم يكن عند أبي معاوية أربع مائة ونيف وخمسون حديثا. وقال شبابة بن سوار: كنا عند شعبة، فجاء أبو معاوية، فقال شعبة: هذا صاحب الأعمش فاعرفوه، وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان يرى الإرجاء، وكان لين القول فيه. وقال يعقوب بن شيبة: كان من الثقات، وربما دلس، وكان يرى الإرجاء. وقال الآجري عن أبي داود: كان مرجئا، وقال مرة: كان رئيس المرجئة بالكوفة. وقال
النسائي: ثقة. وقال ابن خراش: صدوق، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان حافظا متقنا، ولكنه كان مرجئا خبيثا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث يدلس، وكان مرجئا.
قال أحمد بن حنبل وغير واحد: وُلد سنة (113)، وقال ابن نُمير: مات سنة (194). وقال ابن المديني، وآخرون: مات سنة خمس وتسعين ومائة. روى له الجماعة، له عند المصنّف (156) حديثًا.
2 -
(وكيع) بن الجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ -بضمّ الراء، وهمزة، ثم مهملة- أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظ عابدٌ، من كبار [9].
رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وأيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار، وهشام بن عروة، والأعمش، وجرير بن حازم، وخلق كثير.
ورَوَى عنه أبناؤه: سفيان، ومَلِيح، وعُبيد، ومستمليه محمد بن أبان البلخي، وشيخه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، والحميدي، والقعنبي، والأشج، وخلق كثير.
قال القعنبيّ: كنا عند حماد بن زيد، فجاءه وكيع، فقالوا: هذا راوية سفيان، فقال حماد: لو شئت قلت: هذا أرجح من سفيان. وقال المرُّوذيّ: قلت لأحمد: مَن أصحاب سفيان؟ قال: وكيع، ويحيى، وعبد الرحمن، وأبو نعيم، قلت: قدّمتَ وكيعًا؟ قال: وكيع شيخ. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما رأيت أوعى للعلم من وكيع، ولا أحفظ منه، وقال الدُّوري: ذاكرت أحمد بحديث، فقال: من حدثك؟ قلت: شبابة، قال: لكن حدثني مَن لم تر عيناك مثله وكيع. وقال علي بن عثمان النفيلي: قلت لأحمد: إن أبا قتادة يتكلم في وكيع، قال: مَن كَذّب أهل الصدق فهو الكذاب. وقال محمد بن عامر المصيصي: سألت أحمد وكيع أحب إليك أو يحيى بن سعيد؟ قال: وكيع، قلت: لم؟ قال: كان وكيع صَدِيقًا لحفص بن غياث، فلما ولي القضاء هجره، وكان يحيى بن سعيد صَديقا لمعاذ بن معاذ، فلما ولي القضاء لم يهجره. وحكى محمد بن علي الوراق عن أحمد
مثل ذلك سواءً في وكيع وابن مهدي، وزاد: قد عُرض على وكيع القضاء فامتنع منه، وقال ابن سعد: كان ثقةً، مأمونًا، عاليًا، رفيع القدر، كثير الحديث، حجة. وقال العجلي: كوفي ثقة، عابد، صالح، أديب، من حفاظ الحديث، وكان يفتي. وقال الآجري: قلت لأبي داود: أيما أثبت وكيع أو ابن أبي زائدة؟ قال: وكيع. وقال يعقوب ابن شيبة: كان خيرًا فاضلًا حافظًا. وقال ابن حبان في "الثقات": كان حافظا متقنًا.
قال هارون بن حاتم: سمعت وكيعًا يقول: وُلدت سنة ثمان وعشرين ومائة. وقيل: وُلد سنة سبع. وقيل: سنة تسع وقال خليفة وغيره: مات سنة ست وتسعين. وقال أحمد: حج وكيع سنة ست، ومات في الطريق. وقال محمد بن سعد، وأبو هشام: مات بفيد منصرفا من الحج، سنة سبع، زاد أبو هشام: يوم عاشوراء.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (454) حديثًا.
(لطائف الإسناد):
1 -
(منها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم من رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن فيه أبا معاوية أثبت الناس في الأعمش.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ. وبقية اللطائف تقدّمت في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطَاعَني) شرطيّة مبتدأ، جوابها قوله:(فَقَدْ أَطَاعَ الله) وهو الجواب على الأصح من أقول أربعة للنحاة في خبر أسماء الشرط (1). وهذه الجملة منتزعة من قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الآية [النساء: 80]: أي لأني لا آمر إلا بما أمر الله به، فمن فعل ما آمرُهُ به، فإنما
(1) الأول: أنه الشرط،، الثاني: أنه الجواب، وهو الصحيح، الثالث أنه الشرط والجواب معًا. الرابع أنه لا خبر لها؛ استغناء بفعل الشرط والجواب.
أطاع من أمرني به أن آمره، ويحتمل أن يكون المعنى: لأن الله أمر بطاعتي، فمن أطاعني، فقد أطاع أمر الله له بطاعتي، وفي المعصية كذلك، والطاعة هي الإتيان بالمأمور به، والانتهاء عن المنهيّ عنه، والعصيان بخلافه.
وقال السنديّ في "شرحه": يريد أنه مبلّغٌ عن الله، فمن أطاعه فيما بلّغ، فقد أطاع الآمر الحقيقيّ، ومثله المعصية، وهذا مضمون قوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، لكن سوق الآية في نسق المعصية؛ لإفادة أنه ليس على الرسول وبال المعصية؛ إذ ليس عليه إلا البلاغ، لا الحفظ، فوبال المعصية على ذلك العاصي. انتهى كلام السندي.
(وَمَنْ عَصَانِي) أي خالف أمري (فَقَدْ عَصى الله) والحديث مختصر، وقد أورده المصنّف رحمه الله تعالى في "كتاب الجهاد" تاما، ولفظه:"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الإمام، فقد أطاعني، ومن عصى الإمام فقد عصاني"، وسيأتي تمام شرحه هناك، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعدم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: كتب في النسخة التي حققها محمد فؤاد عبد الباقي: ما نصّه: هذا الحديث مما انفرد به المصنّف. انتهى.
وهذا غلطٌ؛ كما يتبيّن من المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا - 1/ 3 وفي "الجهاد" 39/ 2859 - وأخرجه (خ) في "الجهاد والسير" 2957 و"الأحكام" 7137 (م) في "الإمارة" 1835 (ن) في "البيعة" 4193 و"الاستعاذة" 5510 (أحمد) في "باقي مسند المكثرين"7386 و7600 و27350
و 8200 و 8788 و 9121 و 10259. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، وهو معنى الطاعة المذكورة في هذا الحديث.
2 -
(ومنها): أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي طاعة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مأمور من الله عز وجل بتبليغ شرائعه، فلا يأمر، ولا ينهى إلا آخذًا عن الله تعالى، كما قال:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} الآية [النجم: 3، 4]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
4 -
(حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثنا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِي، عَنِ ابْنِ المبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ أَبي جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ، إِذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، لَمْ يَعْدُه، وَلَمْ يُقَصِّرْ دُونَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن عبد الله بن نمير) الهمْداني -بسكون الميم- الخارفي، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة، حافظٌ، فاضلٌ [10].
رَوَى عن أبيه، وسفيان بن عيينة، ومروان بن معاوية، وإسماعيل ابن علية، وأبي معاوية، وعبد الله بن إدريس، وزكرياء بن عدي، وخلق كثير.
وروى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وروى الترمذي، والنسائي عنه بواسطة البخاري، والحسن بن أحمد بن حبيب الكرماني، وأبو زرعة، وعلي بن الحسين بن الجنيد الرازيون، والذهلي، وغيرهم.
قال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظم محمد بن عبد الله بن نمير تعظيما عجبا، ويقول: أي فتى هو؟ وعن أحمد أيضا قال: هو دُرّة العراق. وقال علي بن الجنيد: كان أحمد، وابن معين يقولان في شيوخ الكوفيين: ما يقول ابن نمير فيهم. قال
ابن الجنيد: وما رأيت بالكوفة مثل ابن نمير، وكان رجلا نبيلا، قد جمع العلم والفهم والسنة والزهد، وكان فقيرا. وقال أحمد بن سنان: ما رأيت من الكوفيين من أحداثهم أفضل منه. وقال العجلي: كوفي ثقة، ويُعَدُّ من أصحاب الحديث. وقال أبو حاتم: ثقة يحتج بحديثه. وقال الآجري عن أبي داود: ابن نمير أثبت من أبيه. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال ابن عدي: سمعت الحسن بن سفيان يقول: ابن نمير ريحانة العراق، وأحد الأعلام. قال: وسمعت أبا يعلى يقول: حديث محمد بن نمير يملأ الصدر والنحر، قال: وكان محمد بن عمر الصوفي إذا حدثنا عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن نمير العبد الصالح. وقال ابن وضاح: ثقة، كثير الحديث، عالم به، حافظ له. وقال ابن قانع: ثقة ثبت. وقال ابن شاهين في "الثقات" عن ابن رشدين: سألت أحمد بن صالح عنه؟ فقال: تسألني عن رجل لم أر بالعراق مثله، ومثل أحمد، ما رأيت بالعراق مثلهما، ولا أجمع منهما للعقل والدين، ولكل شيء.
وفي "الزهرة" روى عنه البخاري (22) حديثًا، ومسلم (573) حديثا.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في شعبان سنة أربع وثلاثين ومائتين، وكان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين. وقال البخاري: مات في شعبان، أو رمضان. روى له الجماعة، وله عند المصنّف مائة وثمانية أحاديث.
2 -
(زكريا بن عديّ) بن زُريق بن إسماعيل، ويقال: ابن عدي بن الصلت بن بسطام التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، وهو أخو يوسف، ثقة جليلٌ، حافظ، من كبار [10].
روى عن أبي إسحاق الفزاري، وابن مبارك، وعبيد الله بن عمرو الرقي، وحماد ابن زيد، وهشيم، وغيرهم. وروى عنه إسحاق بن راهويه، والبخاري في غير "الجامع" وعبد الله بن أبي شيبة، وعبد الله الدارمي، وابن نمير، ومحمد بن عبد الرحيم البزاز، وحجاج بن الشاعر، وغيرهم.
قال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: لا بأس به. وقال ابن الجنيد: قيل لابن
معين: ذُكر لأبي نعيم حديث عن زكريا بن عدي، فقال: ما له للحديث؟ ذاك بالتوراة أعلم، فقال ابن معين: كان زكريا بن عدي لا بأس به، وكان أبوه يهوديا فأسلم. وقال العجلي: كوفي ثقة رجل صالح، وأخوه يوسف ثقة، وزكريا أرفع منه، وكان متقشفا، حسن الهيئة، له نفس. وقال المنذر بن شاذان: ما رأيت أحفظ منه، جاءه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقالا له: أخرج إلينا كتاب عبيد الله بن عَمْرو، فقال: ما تصنعون بالكتاب؟ خذوا حتى أملي عليكم كله، وكان يحدث عن عدة من أصحاب الأعمش، فيميز ألفاظهم. وقال عباس الدوري: حدثنا زكريا بن عدي، وكان من خيار خلق الله. وقال ابن خراش: ثقة جليل ورع. وقال ابن سعد: توفي ببغداد في جمادى الأولى سنة (211)، وكان رجلا صالحا ثقة صدوقا، كثير الحديث. وقال مطين، وإسماعيل بن أبي الحارث: مات سنة (212)، زاد إسماعيل، وابن حبان: يوم الخميس ليومين مضيا من جمادى الآخرة. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذي والمصنف، له عنده ثلاثة أحاديث فقط: هذا، وفي "كتاب الصلاة" 195/ 1406 حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه
…
" الحديث. وفي "كتاب الزهد" 21/ 4230 حديث جابر رضي الله عنه أيضًا، مرفوعًا: يُحشر الناس على نياتهم".
3 -
(ابن المبارك) هو عبد الله بن المبارك بن واضح المروزيّ الحنظليّ التميميّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، أحد الأعلام، ثقة، ثبتٌ، فقيه، عالم، جواد، مجاهدٌ، اجتمعت فيه خصال الخير [8].
روى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعد بن سعيد الأنصاري، وإبراهيم بن أبي عبلة، وأبي خلدة خالد ابن دينار، وعاصم الأحول، وابن عون، والأعمش، وهشام بن عروة، والثوري، وشعبة، والأوزاعي، وابن جريج، ومالك، والليث، وابن أبي ذئب، وخلق كثير.
وروى عنه الثوري، ومعمر بن راشد، وأبو إسحاق الفزاري، وجعفر بن سليمان
الضبعي، وبقية بن الوليد، وداود بن عبد الرحمن العطار، وابن عيينة، وأبو الأحوص، وفضيل بن عياض، ومعتمر بن سليمان، والوليد بن مسلم، وأبو بكر بن عياش، وغيرهم من شيوخه، وأقرانه، ومسلم بن إبراهيم، وأبو أسامة، وأبو سلمة التبوذكي، وخلق كثير، آخرهم الحسين بن داود البلخي.
قال أبو أسامة: ما رأيت أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك. وقال عبدان: أول ما خرج سنة إحدى وأربعين. قال ابن مهدي: لما سئل عن ابن المبارك وسفيان: لو جهد سفيان جهده على أن يكون يوما مثل عبد الله لم يقدر. وقال شعيب بن حرب. إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام. وقال شعيب: ما لقي ابن المبارك رجلا إلا وابن المبارك أفضل منه. وقال أحمد: لم يكن في زمانه أطلب للعلم منه، جمع أمرا عظيما، ما كالن أحد أقل سقطا منه، كان رجلا صاحب حديث حافظًا، وكان يحدث من كتاب. وقال شعبة: ما قدم علينا مثله. وقال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة، فما رأيت لهم فضلا على ابن المبارك، إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوهم معه. وقال أبو حاتم عن إسحاق بن محمد بن إبراهيم المروزي: نُعي ابن المبارك إلى سفيان بن عيينة، فقال: لقد كان فقيها عالما عابدا زاهدا سخيًّا شجاعا شاعرا. وقال فضيل بن عياض: أما إنه لم يخلف بعده مثله. وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وقال سلام بن أبي مطيع: ما خلّف بالمشرق مثله. وقال القواريري: لم يكن ابن مهدي يقدم عليه، وعلى مالك في الحديث أحدا. وقال ابن المثنى: سمعت ابن مهدي يقول: ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفا من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك. وقال الحسن بن عيسى: اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك، مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن حسين، وغرهما، فقالوا: تعالوا حتى نَعُدّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، والفصاحة، والزهد، والورع، والإنصاف، وقيام الليل، والعبادة، والحج،
والغزو، والفروسية، والشجاعة، والشدة في بدنه، وترك الكلام فيما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه. وقال العباس بن مصعب: جمع الحديث، والفقه، والعربية، والشجاعة، والتجارة، والسخاء، والمحبة عند الفِرَق، وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه. وقال علي بن الحسين بن شقيق: بلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: لولا أنت وأصحابك ما اتجرت، قال: وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم. وقال الحاكم: هو إمام عصره في الآفاق، وأولاهم بذلك علما، وزهدا، وشجاعة، وسخاء. وقال أبو وهب: مَرَّ عبد الله برجل أعمى، فقال: أسألك أن تدعو لي، فدعا، فرد الله عليه بصره وأنا أنظر. وقال الحسن بن عيسى: كان مجاب الدعوة. وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث، رجل صالح، وكان جامعا للعلم. وقال ابن حبان في "الثقات": كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمانه في الأرض كلها. وقال يحيى بن يحيى الأندلسي: كنا في مجلس مالك، فاستؤذن لابن المبارك، فأذن، فرأينا مالكا تزحزح له في مجلسه، ثم أقعده بلصقه، ولم أره تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك، فربما مر بشيء، فيسأله مالك: ما عندكم في هذا؟ فكان عبد الله يجيبه بالخفاء، ثم قال: قام فخرج، فأُعجب مالك بأدبه، ثم قال لنا: هذا ابن المبارك، فقيه خراسان.
وقال الخليلي في "الإرشاد": ابن المبارك الإمام المتفق عليه، له من الكرامات ما لا يحصى، يقال: إنه من الأبدال، وقال: كتبت عن ألف شيخ. وحكى الحسن بن عرفة محنه من دقيق الورع أنه استعار قلما من رجل بالشام، وحمله إلى خراسان ناسيا، فلما وجده معه بها، رجع إلى الشام حتى أعطاه لصاحبه. وقال الأسود بن سالم: إذا رأيت الرجل يغمز ابن المبارك، فاتهمه على الإسلام. وقال النسائي: لا نعلم في عصر ابن المبارك أجل من ابن المبارك، ولا أعلى منه، ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه. ومناقبه، وفضائله كثيرة جدا.
وقال أحمد بن حنبل، وغير واحد: وُلد سنة ثمان عشرة ومائة. وقال ابن سعد: مات بِهيت منصرفا من الغزو، سنة إحدى وثمانين ومائة، وله ثلاث وستون سنة، طلب العلم، وروى رواية كثيرة، وصنف كتبا كثيرة، في أبواب العلم، وكان ثقة مأمونا، حجة، كثير الحديث. (1). روى له الجماعة، وله عند المصنّف ثلاثون حديثًا.
4 -
(محمد بن سوقة) -بضم المهملة- الغَنَويّ -بفتح الغين المعجمة والنون الخفيفة- أبو بكر الكوفيّ العابد، ثقة، مرضيّ، عابدٌ [5].
روى عن أنس، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن دينار، وأبي صالح السمان، ونافع ابن جبير بن مطعم، وإبراهيم النخعي، ونافع مولى ابن عمر، ومنذر الثوري، ومحمد بن المنكدر، وجماعة.
وروى عنه مالك بن مغول، والثوري، وابن المبارك، وأبو معاوية، وعبد الرحمن ابن محمد المحاربي، غيرهم.
قال محمد بن عبيد: سمعت الثوري يقول: حدثني الرضي محمد بن سوقة، قال: ولم أسمعه يقول ذلك لعربي، ولا لمولى. وقال الحسين بن حفص، قال الثوري: أُخرج إليكم كتاب خير رجل بالكوفة، فأخرج كتاب محمد بن سوقة. وقال طلحة بن مصرف: ما بالكوفة رجلان يزيدان على محمد بن سوقة، وعبد الجبار بن وائل بن حجر. وقال الحميدي عن ابن عيينة: كان بالكوفة ثلاثة، لو قيل لأحدهم: إنك تموت غدًا، ما كان يقدر أن يزيد في عمله: محمد بن سوقة، وعمرو بن قيس الملائي، وأبو حيان التيمي. قال سفيان: وكان محمد بن سوقة لا يحسن أن يعصي الله. وقال العجلي: كوفي ثبت، وكان خزازا، جمع من الخز مائة ألف، ثم أتى مكة، فقال: ما اجتمعت هذه لِخَيْر، فتصدق بها، وكان صاحب سنة وعبادة وخير كثير، في عداد الشيوخ، وليس بكثير الحديث. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة مرضي. وذكره ابن
(1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 415 - 417.
حبان في "الثقات"، في الطبقة الثالثة في أتباع التابعين، وقال: كان من أهل العبادة والفضل والدين والسخاء. وقال أيضًا: قد قيل: إنه رأى أنسا، وأبا الطفيل. قال الحافظ: ومقتضاه أن تكون روايته عنده عن أنس مرسلة. وقال يعقوب بن سفيان: محمد بن سوقة من خيار أهل الكوفة وثقاتهم. وقال الدارقطني: كوفي فاضل ثقة. روى له الجماعة، له عند المصنف خمسة أحاديث برقم 4 و 1602 و 2910 و 3814 و4065. والله تعالى أعلم.
5 -
(أبو جعفر) هو محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب المدنيّ المعروف بالباقر الهاشمي، أمه بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، ثقة فاضل [4].
روى عن أبيه، وجديه الحسن والحسين، وجد أبيه علي بن أبي طالب مرسل، وعم أبيه محمد بن الحنفية، وابن عم جده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وأبي سعيد الخدري، وجابر، وأنس، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه جعفر، وأبو إسحاق السبيعي، والأعرج، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبو جهضم موسى بن سالم، والقاسم بن الفضل، والأوزاعي، وابن جريج، والأعمش، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وليس يروي عنه من يُحتَج به. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن البرقي: كان فقيها فاضلا. وذكره النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر، وابنه جعفر بن محمد. عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم تَوَلَّهما، وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى. وعنه قال: ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. قال ابن البرقي: كان مولده سنة ست وخمسين. وقيل: إنه مات سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست عشرة، وقيل: سبع عشرة. وقال ابن سعد: مات سنة ثماني عشرة ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة.
قال الحافظ: فإن ثبت ذلك فيكون مولده سنة خمس وأربعين، ولكن ابن سعد لم ينقل ذلك إلا عن الواقدي، كذا صرح به في "الطبقات الكبرى"، ثم قال ابن سعد: أنا عبد الرحمن بن يونس، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، سمعت محمد بن علي، وهو يذاكر فاطمة بنت الحسين، صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وهذه تُوفي لي ثمانيا وخمسين سنة، ومات بها. انتهى.
وهذا السند في غاية الصحة، ومقتضاه أن يكون ولد سنة ستين، وهذا هو الذي يتجه؛ لأن أباه علي بن الحسين شهد مع أبيه، يوم كربلاء، وهو ابن عشرين سنة، وكان يوم كربلاء في المحرم سنة إحدى وستين، ومقتضاه أن مولد علي كان سنة إحدى وأربعين، فمن يولد سنة أربعين، أو سنة إحدى وأربعين كيف يولد له سنة خمس وأربعين، والأصح أنه مات سنة أربع عشرة؛ لأن البخاري قال: ثنا عبد الله بن محمد، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، قال: مات أبي سنة أربع عشرة، فيكون مولده على هذا سنة ست وخمسين، وهو يتجه أيضا، وقد قيل: إن رواية محمد عن جميع من سُمّي هنا من الصحابة، ما عدا ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب مرسلة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ينبغي أن يزاد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بلا شكّ؛ لأنه تأخر بعد ابن عباس، فإنه مات سنة (68) ومات ابن عمر آخر سنة (73) أو أول التي تليها، فليتأمل. والله تعالى أعلم.
روى له الجماعة، وله عند المصنف أربعة وعشرون حديثًا.
6 -
(ابن عمر)(1) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب الإمام القدوة
(1) راجع ترجمته في "الإصابة" 6/ 167 - 173 و"سير أعلام النبلاء" 3/ 203 - 239 و"تهذيب التهذيب" 2/ 389 - 391.
شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن القرشي العدويّ المكي، ثم المدني، أمه زينب بنت مظعون الجمحية.
وُلد سنة ثلاث من المبعث النبوي فيما جزم به الزبير بن بكار، قال: هاجر وهو ابن عشر سنين، وكذا قال الواقدي حيث قال: مات سنة أربع وثمانين. وقال ابن منده: كان ابن إحدى عشرة ونصف. ونقل الهيثم بن عدي، عن مالك، أنه مات وله سبع وثمانون سنة، فعلى هذا كان له في الهجرة ثلاث عشرة، وقد ثبت عنه أنه كان له يوم بدر ثلاث عشرة، وبدرٌ كانت في السنة الثانية، وأسلم مع أبيه، وهاجر، وعُرض على النبيّ صلى الله عليه وسلم ببدر فاستصغره، ثم بأحد فكذلك، ثم بالخندق فأجازه، وهو يومئذ ابن خمس عشرة سنة، كما ثبت في "الصحيح". وأخرج البغوي في ترجمته من طريق علي بن زيد، عن أنس، وسعيد بن المسيب قالا: شهد ابن عمر بدرا.
قال الحافظ الذهبيّ: هذا خطأ وغلط؛ لما ثبت عنه أنه قال: عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزني (1).
وأخرج البغويّ أيضًا من طريق مطرف، عن أبي إسحاق، عن البراء، عرضت أنا وابن عمر يوم بدر، فرُدِدنا. وحفظ وقت إسلام أبيه، كما أخرج البخاري من طريق عبد الله. وقال البغوي: أسلم مع أبيه، ولم يكن بلغ يومئذ. وأخرج من طريق أبي إسحاق: رأيت ابن عمر في السعي بين الصفا والمروة، فإذا رجل ضخم آدم. وهو من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أيضا عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي ذر، ومعاذ، وعائشة، وغيرهم.
وروى عنه من الصحابة جابر، وابن عباس، وغيرهما، وبنوه: سالم، وعبد الله، وحمزة، وبلال، وزيد، وعُبيد الله، وابن أخيه حفص بن عامر، ومن كبار التابعين سعيد ابن المسيب، وأسلم مولى عمر، وعلقمة بن وقاص، وأبو عبد الرحمن النهدي، ومسروق، وجبير بن نفير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، في آخرين.
(1)"سير أعلام النبلاء" 3/ 209.
وممن بعدهم مواليهم: عبد الله بن دينار، ونافع، وزيد، وخالد بن أسلم، ومن غيرهم: مصعب بن سعد، وموسى بن طلحة، وعروة بن الزبير، وبشر بن سعيد، وعطاء، وطاوس (1)، ومجاهد، وابن سيرين، والحسن، وصفوان بن محرز، وآخرون.
وفي "الصحيح" عن سالم، عن ابن عمر، كان من رأى رؤيا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قصها عليه، فتمنيت أن أرى رؤيا، وكنت غلاما شابا عزبا، أنام في المسجد، فرأيت في المنام، كأن ملكين أتياني، فذهبا بي
…
" الحديث، وفي آخره فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: "نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل"، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا القليل. وفي "الصحيح" أيضا عن نافع، عن ابن عمر: فرأيت في يدي سَرَقَةً من حرير، فما أهوي بها إلى مكان من الجنة إلا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أخاك" أو "إن عبد الله رجل صالح".
قال البخاري في "التاريخ": حدثني الأويسي، حدثني مالك، أن ابن عمر بلغ سبعا وثمانين سنة. وقال غير مالك: عاش أربعا وثمانين، والأول أثبت. وقال ضمرة بن ربيعة في "تاريخه": مات سنة اثنتين، أو ثلاث وسبعين، وجزم مرة بثلاث، وكذا أبو نعيم، ويحيى بن بكير، والجمهور، وزاد بعضهم: في ذي الحجة. وقال الفلاس مرة سنة أربع، وبه جزم خليفة، وسعيد بن جبير، وابن زبر. روى له الجماعة، له في "مسند بقي بن مخلد" ألفان وستمائة وثلاثون حديثا بالمكرر، واتفق الشيخان له على (168) وانفرد البخاريّ (81) ومسلم (31) قاله الذهبيّ (2) وله عند المصنف (364) حديثًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله تعالى.
(1) الذي في "الإصابة": وطارق، وما هنا من "سير أعلام النبلاء" 3/ 205.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 3/ 238.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: محمد بن سوقة، عن أبي جعفر.
3 -
(ومنها): أنه فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أحد المكثرين السبعة، وقد تقدّموا قريبًا، وأحد العبادلة الأربعة المجموعين في قول السيوطيّ في "ألفية الحديث":
وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو
…
وَابْنُ الزُّبَيْرِ في اشْتِهَارٍ يَجرِي
دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لهُمْ عَبَادِلَهْ
…
وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَالَ لَهْ
4 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، والقول من صيغ الأداء، وكلها من صيغ الاتصال، على تفصيل تقدّم بيانه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ) محمد بن عليّ الباقر، أنه (قَالَ: كَانَ) عبد الله (بْنُ عُمَرَ) ابن الخطّاب رضي الله عنهما (إِذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، لَمْ يَعْدُهُ) بفتح أوله، وسكون ثانيه مضارع عدا، من باب نصر، يقال: عدَوته أعدوه: إذا تجاوزته إلى غيره، وعدّيته، وتعدّيته كذلك. قاله الفيّوميّ. والمعنى أن ابن عمر إذا سمع حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتجاوزه بالزيادة على قدر ما سمعه منه صلى الله عليه وسلم، والإفراط فيه.
وفي رواية الدارميّ من طريق ابن عيينة، عن محمد بن سوقة: وكان ابن عمر إذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه، ولم ينقص منه، ولم يجاوزه، ولم يقصر عنه.
(وَلَمْ يُقَصِّرْ) بضم أوله، وتشديد ثالثه، من التقصير في الأمر، وهو التواني فيه، يقال: قصّر فلان في حاجتي: إذا ونِي فيها. قاله ابن منظور (دُونَهُ) أي دون ذلك الحديث، بمعنى أنه لا ينقص منه شيئًا، بل يرويه تامّا كما سمعه.
قال المجد: "دون" بالضم تكون نقيض فوقُ، وتكون ظرفًا، وبمعنى أمام، ووراء، وفوق، ضدّ، وبمعنى غير. انتهى "قاموس".
وذكر ابن منظور رحمه الله تعالى في "اللسان": عن بعض النحويين: لـ "دون" معاني كثيرة، فقال:"دون" تكون بمعنى قبلُ، وبمعنى أمام، وبمعنى وراء، وبمعنى تحت، وبمعنى فوق، وبمعنى الساقط من الناس وغيرهم، وبمعنى الشريف، وبمعنى
الأمر، وبمعنى الوعيد، وبمعنى الإغراء. فأما "دون" بمعنى قبل، فكقولك: دون النهر قتال، ودون قتل الأسد أهوال: أي قبل أن تصل إلى ذلك. و"دون" بمعنى وراء، كقولك: هذا أمير على ما دون جيحون: أي على ما وراءه. والوعيد كقولك: دونك صراعي، ودونك فتمَرَّسْ بي. وفي الأمر كقولك: دونك الدرهم: أي خذه. وفي الإغراء دونك زيدًا: أي الزم زيدًا حافظه. وبمعنى تحت كقولك: دون قدمك خدّ عدوك: أي تحت قدمك. وبمعنى فوق كقولك: إن فلانا لشريف، فيُجيب آخر، فيقول: ودون ذلك: أي فوق ذلك. وقال الفرّاء: "دون" تكون بمعنى "على"، وتكون بمعنى "علّ"، وتكون بمعنى بعد، وتكون بمعنى عند، وتكون إغراء، وتكون بمعنى أقلّ من ذا، وأنقص من ذا. انتهى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المناسب هنا من هذه المعاني، كونها بمعنى "غير"، وبمعنى أقل، وأنقص، أي فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، لا يأتي به أقلّ وأنقص مما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل يؤديه كما هو.
وهذا الحديث فيه قصّة، وقد ساقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده" بقصّته، فقال:
5521 -
حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا محمد بن سوقة، سمعت أبا جعفر، يقول: كان عبد الله بن عمر، إذا سمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا، أو شهد معه مشهدا، لم يقصر دونه، أو يعدُوه، قال: فبينما هو جالس، وعبيد بن عمير يقص على أهل مكة، إذ قال عبيد بن عمير:"مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين، إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها، وإن أقبلت إلى هذه نطحتها". فقال عبد الله بن عمر: ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير، وفي المجلس عبد الله بن صفوان، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف قال -
(1)"لسان العرب" 13/ 165 - 166.
رحمك الله-؟ فقال: قال: "مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين (1)، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها"، فقال له: رحمك الله هما واحد، قال: كذا سمعت.
وأخرج أحمد من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل المنافق مثل الشاة العائرة (2) بين الغنمين، تَعِير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا - 1/ 4 - ولم يخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد) في "مسند المكثرين" 5521 (الدارميّ) في "المقدّمة"220. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو بيان اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه الاستدلال أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يجتهد في أداء الحديث النبوي على لفظه، وإن كان المعنى لا يختلف؛ اتباعًا للفظ المنقول، وهكذا ينبغي للمسلم أن يحرص على اتباعه صلى الله عليه وسلم قولًا، وفعلًا، وحالًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في الأخلاق المرضية، فلا ينبغي أن يُتجاوز إلى غير هديه، وقد أمر الله تعالى باتباعه في غير ما آية، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]. وقال {وَإِن
(1)"الربيض" بفتح، فكسر: الغنم برُعاتها المجتمعةُ في مرابضها، وهي مباركها. أفاده في "القاموس".
(2)
أي المترددة. ومعنى تعير: أي تتردد، وتذهب.
تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54]. وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): ما كان عليه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من شدة الاتباع للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان معروفًا بذلك، فروى ابن وهب، عن مالك، عمن حدثه أن ابن عمر كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثاره، وحاله، ويهتمّ به، حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك. وعن خارجة بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقلت: هذا مجنون. وعن عبد الله بن عمر، عن نافع، أن ابن عمر كان يتّبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ مكان صلّى فيه، حتى إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصبّ في أصلها الماء؛ لكيلا تيبس. وقال نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو تركنا هذا الباب للنساء"، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات (1). ذكر هذا كله الذهبيّ في "السير"(2).
وأخرج الترمذيّ من طريق صالح بن كيسان، عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه، أنه سمع رجلا من أهل الشام، وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال عبد الله بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إن أباك قد نهى عنها، فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال السنديّ رحمه الله تعالى معلقًا على هذا الحديث: ما نصّه: فانظر إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كيف خالف أباه مع علمه بأن أباه قد بلغه الحديث، وأنه لا يخالفه إلا بدليل هو أقوى منه عنده، ومع ذلك فقد أفتى بخلاف قول أبيه، وقال: إن قول أبيه
(1) أخرجه ابن سعد 4/ 162 من طريق أبي الوليد الطيالسيّ، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك. ورجاله ثقات.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 3/ 213.
لا يليق أن يؤخذ به. وقد عَمِل بمثل هذا سالم بن عبد الله حين بلغه حديث عائشة في
الطيب قبيل الإحرام، وقبل الإفاضة، ترك قول أبيه وجده، وقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحقّ أن تتّبع. وغالب أهل الزمان على خلافاتهم (1) إذا جاءهم حديث يُخالف قول
إمامهم يقولون: لعل هذا الحديث قد بلغ الإمام، وخالفه بما هو أقوى عنده منه.
وروى ابن عمر حديث: 11 لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، فقال له بعض أولاده:
نحن نمنع، فسبّه سبا ما سُمع سب مثله قط، وقطع الكلام معه إلى الموت. وله رضي الله عنه في
مراعاة دقائق السنن أحوال مدوّنة في كتب الحديث، مشهورة بين أهله. انتهى كلام
السنديّ (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ولْعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
5 -
(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمارٍ الدِّمَشْقِى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سُمَيْعٍ، حَدَّثنا
إِبْرَاهِيمُ ابْنُ سُلَممانَ الْأَفْطَسُ، عَنِ الْوَليدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجرَشِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ
أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْفَقْرَ، وَنَتَخَوَّفُهُ، فَقَالَ:
"آالْفَقْرَ تخَافُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَده لَتُصَبَّنَّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا، حَتَّى لَا يُزِيغَ قَلْبَ
أَحَدِكُمْ إِزَاغَةً إِلَّا هِيهْ، وَايْمُ الله لَقَدْ ترَكتكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنهَارُهَا سَوَاءٌ".
قَالَ أبو الدَّرْدَاءِ: صَدَقَ وَاللهِّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، تَرَكنَا وَاللهَّ عَلَى مِثْلِ الْبيضَاءِ لَيْلُهَا
وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة أيضًا:
1 -
(هشام بن عمار) بن نُصير -بنون، مصغّرا- ابن ميسرة بن أبان السلمي،
ويقال: الظفري، أبو الوليد الدمشقيّ، خطيب المسجد الجامع بها، صدوقٌ، مقرىء،
كبر، فصار يتلقن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10].
(1) هكذا النسخ، و/ لعله "على خلاف ذلك" فليحرّر.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 11.
وقد سمع من معروف الخيّاط، لكن معروفٌ ليس بثقة.
روى عن معروف الخياط أبي الخطاب الدمشقي، صاحب واثلة، وصدقة بن خالد، وعبد الحميد بن حبيب، أبي العشرين، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وخلق كثير.
وروى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وروى الترمذي عن البخاري عنه، وابنه أحمد بن هشام، وشيخاه الوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب، وابن سعد، وجمّ غفير.
قال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم عن يحيى بن معين:
كيس كيس. وقال العجلي: ثقة. وقال مرة: صدوق. وقال أحمد بن خالد الخلال، عن يحيى بن معين: حدثنا هشام بن عمار، وليس بالكذوب. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الدارقطني: صدوق كبير المحل. وقال عبدان: ما كان في الدنيا مثله. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه، لما كبر هشام تغير، فكلما دفع إليه قرأه، وكلما لُقّن تلقن، وكان قديما أصح، كان يقرأ من كتابه، قال: وسئل أبي عنه؟ فقال: صدوق، وقال ابن عدي: سمعت قُسطنطين بن عبد الله الروميّ مولى المعتمد على الله أمير المؤمنين يقول: حضرت مجلس هشام، فقال له المستملي: من ذكرت؟ فقال: حدثنا بعض مشايخنا، ثم نعس، فقال المستملي: لا تنتفعون به، فجمعوا له شيئا، فأعطوه، فكان بعد ذلك يملي عليهم. وقال ابن وارة: عزمت زمانا أن أمسك عن حديث هشام؛ لأنه كان يبيع الحديث. وقال صالح بن محمد: كان يأخذ على الحديث، ولا يحدث ما لم يأخذ. وقال الإسماعيلي، عن عبد الله بن محمد بن سيار: كان هشام يلقن، وكان يلقن كل شيء، ما كان من حديثه، وكان يقول: أنا قد خرجت هذه الأحاديث صحاحا. وقال الله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} الآية [البقرة: 181]، وكان يأخذ على كل ورقتين درهمين، ويشارط، ولمّا لُمتُهُ على التلقين، قال: أنا أعرف حديثي، ثم قال لي بعد ساعة: إن كنت تشتهي أن تعلم، فأدخل إسنادا في شيء، فتفقدت الأسانيد التي فيها قليل اضطراب، فسألته عنها، فكان يمر فيها، قال المروذي
عن أحمد بن حنبل: هشام طياش خفيف.
وقال أبو بكر الباغندي، عن هشام بن عمار: وُلدت سنة ثلاث وخمسين ومائة.
وقال البخاري: مات بدمشق آخر المحرم سنة خمس وأربعين ومائتين، وفيها أرخه غير واحد، وقيل: مات سنة أربع، وقيل: سنة ست. وقال في "الزهرة": روى عنه البخاري أربعة أحاديث.
روى عنه الجماعة، سوى مسلم، وله عند المصنّف ثلاثمائة، وثمانية وعشرون حديثًا.
2 -
(محمد بن عيسى بن القاسم بن سُميع) -بالتصغير- أبو سفيان الدمشقيّ الأمويّ مولاهم، صدوقٌ يُخطىء، ويُدلّس،، ورُمي بالقدر [9].
روى عن حميد الطويل، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وزيد بن واقد، وإبراهيم بن سليمان الأفطس، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وغيرهم.
وروى عنه العباس بن الوليد الخلال، وعبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن المهاجر، وعبد الرزاق بن عمر العابدي، وهارون بن محمد بن بكار، والهيثم بن مروان، وهشام بن عمار، وآخرون.
قال عثمان الدارمي عن دحيم: ليس من أهل الحديث، وهو قدري. وقال أبو حاتم: شيخ دمشقي، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال البخاري: يقال: إنه لم يسمع من ابن أبي ذئب هذا الحديث -يعني حديثه عن الزهري في مقتل عثمان-. وقال صالح بن محمد: ثنا هشام بن عمار، ثنا محمد بن عيسى بن القاسم، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، حديث مقتل عثمان، قال: فجهدت به كل الجهد أن يقول: حدثنا ابن أبي ذئب، فأبى، قال صالح: قال لي محمود ابن بنت محمد بن عيسى، هو في كتاب جدي، عن إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله، عن ابن أبي ذئب، قال صالح: وإسماعيل بن يحيى هذا يضع الحديث. قال صالح: فحدثت بهذه القصة محمد بن يحيى الذهلي، فقال: الله المستعان. وقال ابن شاهين: محمد بن عيسى بن سميع شيخ من أهل الشام ثقة، وإسماعيل الذي أسقطه ضعيف. وقال ابن حبان: هو مستقيم الحديث إذا بين السماع في
خبره، فأما خبره الذي روى عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في مقتل عثمان، فلم يسمع من ابن أبي ذئب، سمعه من إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب، فدلس عنه، وإسماعيل واهٍ. وقال الآجري عن أبي داود: قال لي عيسى بن شاذان: قلت لهشام بن عمار: محمد بن عيسى قال لكم: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: أيشٍ سؤالك عن هذا؟ قال أبو داود: محمد بن عيسى ليس به بأس، إلا أنه كان يتهم بالقدر. وقال أبو داود: سمعت هشام بن عمار يقول: حدثنا محمد بن عيسى الثقة المأمون، قال أبو داود: بلغني أن أبا مسهر قال لهشام بن عمار وأصحابه: ذهبتم، فأكلتم طعام الدجال -يعني محمد بن عيسى. وقال ابن عساكر: بلغني عن يزيد بن محمد بن عبد الصمد أنه قال: محمد بن عيسى شيخ ثبت. وقال ابن عدي: لا بأس به، وله أحاديث حسان، عن عُبيد الله -يعني ابن عمر، وروح يعني ابن القاسم وجماعة من الثقات، وهو حسن الحديث، والذي أنكر عليه حديث مقتل عثمان، أنه لم يسمعه من ابن أبي ذئب. وقال الحاكم أبو أحمد: مستقيم الحديث، إلا أنه روى عن ابن أبي ذئب حديثا منكرا، وهو حديث مقتل عثمان، ويقال: كان في كتابه: عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب، فأسقطه، وإسماعيل ذاهب الحديث.
وقال الدارقطني: ليس به بأس، وجزم ابن حبان بأنه دلس حديث ابن أبي ذئب، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفيه نظر، والظاهر أنه دلس عليه تدليس التسوية كما تقدم في خبر صالح جزرة، وقد وهم فيه محمد بن إسماعيل، فجعله ترجمتين، ورد ذلك عليه أبو حاتم، وأبو زرعة. وقال الخطيب في "الموضح": قال البخاري مرة: محمد بن عيسى ابن سميع، ومرة: محمد بن عيسى القرشي، سمع زيد بن واقد، وهو رجل واحد. وقال أبو سليمان ابن زبر عن شيوخه: مات سنة أربع ومائتين. وقال الحسن بن محمد بن بكار ابن بلال: مات سنة ست ومائتين. وكان مولده سنة أربع عشرة ومائة.
روى له أبو داود، والنسائيّ، والمصنّف، له عنده هذا الحديث فقط.
3 -
(إبراهيم بن سليمان الأفطس) الدمشقيّ، ثقة ثبتٌ، إلا أنه يُرسل [8].
رَوَى عن مكحول، والوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشِي، ويزيد بن يزيد بن جابر.
وعنه محمد بن شعيب بن شابور، وإسماعيل بن عياش، ومحمد بن عيسى بن سُميع، وغيرهم. قال دحيم: ثقة ثقة. وقال مرة: ثقة ثبت. وقال يعقوب بن سفيان: سألت دحيما عنه؟ فقال: بخ بخ ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال البخاري: إبراهيم الأفطس عن يزيد بن يزيد جابر مرسل. وذكره ابن حبان في "الثقات".
روى له الترمذي والمصنّف، له عنده هذا الحديث فقط.
4 -
(الوليد بن عبد الرحمن الجرشيّ) بضم الجيم، وفتح الراء، وبالشين المعجمة - الحمصيّ الزّجّاج، كان على خراج الْغُوطة أيام هشام، ثقة [4].
روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي أُمامة، وجبير بن نفير، والحارث بن أوس الثقفي، وعياض بن غطيف، وغيرهم. ورَوى عنه يعلى بن عطاء، وإبراهيم بن أبي عبلة، وداود بن أبي هند، وغيرهم.
قال الغلابي عن ابن معين: روى داود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، وهو ثقة. وقال ابن خراش: ثقة، وكان ممن قَدِم على الحجاج. وقال أبو زرعة الدمشقي في الطبقة الثالثة: قديم، جيد الحديث. وقال أبو حاتم، ومحمد بن عون: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البخاري: الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، مولى لأبي سفيان الأنصاري، قاله أبو شعيب، وأراه الوليد بن أبي مالك، قال ابن عساكر: هذا وهم، وكذا قوله: مولى لأبي سفيان، فإنه عربي.
وتعقّبه الحافظ بأنه يجوز أن يكون مولى بالحلف، وإن كان عربي الأصل، فقد تابع البخاري على ما قال أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان. ووقع عند الطحاوي في روايته لحديثه: عن الحارث بن عبد الله بن أوس، عن الوليد بن عبد الرحمن بن الزجاج.
روى له البخاري في "خلق أفعال العباد"، ومسلم، والأربعة. له عند المصنف حديثان فقط: هذا، وفي "كتاب الصلاة"- "باب ما جاء في قيام شهر رمضان" (1327) حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان
…
" الحديث.
5 -
(جبير بن نفير) بنون، وفاء مصغّرًا - ابن مالك بن عامر الحضرميّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله الحمصيّ، ثقة، جليل، مخضرم [2].
أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وعن أبي بكر الصديق مرسلا، وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وفي سماعه منه نظر، وعن أبيه، وأبي ذر، وأبي الدرداء، والمقداد بن الأسود، وخالد بن الوليد، وعبادة بن الصامت، وابن عمر، ومعاوية، والنواس بن سمعان، وثوبان، وعقبة بن عامر الجهني، وخلق.
وروى عنه ابنه عبد الرحمن، ومكحول، وخالد بن معدان، وأبو الزاهرية، وأبو عثمان، وليس بالنهدي، وحبيب بن عبيد، وصفوان بن عمرو، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ثقة، من كبار تابعي أهل الشام. وقال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو زرعة الدمشقي: رفع دُحيم من شأن جبير بن نفير، وقَدّم أبا إدريس عليه. وقال النسائي: ليس أحدٌ من كبار التابعين أحسن روايةً عن الصحابة من ثلاثة: قيس بن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي، وجُبير بن نُفير. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: أدرك الجاهلية، ولا صحبة له. وقال سليم بن عامر عن جبير: استقبلت الإسلام من أوله.
وقال أبو زرعة: هو أسن من إدريس (1) لأنه قد ثبت له إدراك عمر، وسمع كتابه يقرأ بحمص. وقال ابن سعد: كان ثقة فيما يروي من الحديث. وقال ابن خراش: هو من أجل تابعي الشام. وكذا قال الآجري عن أبي داود. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: مشهور بالعلم. وذكره الطبري في طبقات الفقهاء. وقال معاوية ابن صالح: أدرك إمارة الوليد بن عبد الملك. انتهى.
قال الحافظ: فإن صح ذلك، فيكون عاش إلى سنة بضعٍ؛ لأن الوليد ولي سنة (86) والله أعلم.
قال أبو حسان الزيادي: مات سنة (75) وكان جاهليًّا أسلم في خلافة أبي بكر،
(1) هكذا في "تهذيب التهذيب" 1/ 292 ولعله "من أبي إدريس" يعني الخولانيّ. والله أعلم.
ويقال: مات سنة (8). روى له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله عند المصنف سبعة أحاديث، برقم -5 و 1327 و 2707 و 4075 و 4076 و 4089 و 4253. والله تعالى أعلم.
6 -
(أبو الدرداء) عويمر بن مالك، وقيل: ابن عامر، وقيل: ابن ثعلبة، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج الأنصاري، أبو الدرداء الخزرجي. وقال الْكُدَيمي عن الأصمعي: اسمه عامر، وكانوا يقولون له: عويمر، وكذا قال عمرو بن علي عن بعض ولده. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة، وزيد بن ثابت. وروى عنه ابنه بلال، وزوجته أم الدرداء، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة، ومعدان بن أبي طلحة، وأبو إدريس الخولاني، وأبو مرة، مولى أم هانئ، وأبو حبيبة الطائي، وأبو السفر الهمداني مرسل، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وجبير بن نفير، وسويد بن غَفَلَة، وزيد بن وهب، وصفوان بن عبد الله بن صفوان، وعلقمة بن قيس، وكثير بن قيس، وسعيد بن المسيِّب، وأبو بحرية عبد الله بن قيس، وكثير بن مرة، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن كعب القرظي، وهلال بن يساف، وآخرون.
قال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: أسلم يوم بدر، وشهد أحدا، وأبلى فيها، وقال الأعمش، عن خيثمة عنه قال: كنت تاجرا قبل البعثة، فزاولت بعد ذلك التجارة والعبادة، فلم يجتمعا، فأخذت العبادة، وتركت التجارة.
وقد علّق على هذا الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى، فقال: الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد، وهذا الذي قاله هو طريق جماعة من السلف، والصوفيّة، ولا ريب أن أمزجة الناس تختلف في ذلك، فبعضهم يَقوَى على الجمع، كالصدّيق، وعبد الرحمن بن عوف، وكما كان ابن المبارك، وبعضهم يعجِز، ويقتصر على العبادة، وبعضهم يقوى في بدايته، ثم يعجز، وبالعكس، وكلّ سائغ، ولكن لا بدّ من النهضة بحقوق الزوجة
والعيال. انتهى كلام الذهبيّ (1).
وقال صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "نعم الفارس عويمر"، وقال:"حكيم أمتي"، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا. قال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز: مات أبو الدرداء، وكعب الأحبار، في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته. وقال الواقدي، وغير واحد: مات سنة اثنتين وثلاثين. وقال ابن حبان: ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب. وقال ابن سعد: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عوف بن مالك. وقال ابن عبد البر: قال طائفة من أهل الأخبار: مات بعد صفين، قال: والأصح عند أهل الحديث أنه توفي في خلافة عثمان. وصحح ابن الحذاء قول البخاري: إنه عويمر بن زيد. وقال عمرو بن علي عن بعض ولده: مات قبل عثمان بسنة.
أخرج له الجماعة، روى (179) حديثًا، اتفق الشيخان على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم، بثمانية. وأخرج له المصنف ستة وعشرين حديثا. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه مسلسلٌ بالشاميّين، فالوليد، وجُبير حمصيان، والباقون دمشقيون.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء، وكلاهما للاتصال على الوجه الذي تقدّم بيانه. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الدرْدَاءِ) عويمر بن مالك رضي الله عنه، أنه (قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته، أو من الموضع الذي كان فيه (وَنَحْنُ نَذْكرُ الْفَقْرَ) جملة في محل نصب على الحال، أي والحال أننا نذكر آثار الفقر، وبؤسه (وَنَتَخَوَّفُهُ) بتشديد الواو: أي نظهر
(1)"سير أعلام النبلاء" 2/ 338.
الخوف من لحوقه بنا (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (آالْفَقْرَ تخَافُونَ) بهمزة الاستفهام، ونصب "الفقرَ" على أنه مفعول مقدّم لـ "تخافون"(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَد) قسم منه صلى الله عليه وسلم بالله الذي نفسه صلى الله عليه وسلم بيده يتصرّف فيها كيف شاء، وفيه إثبات اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله. وقوله (لتصَبَنَّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا) جواب القسم (حَتَّى لَا يُزِيغَ) بضم أوله من الإزاغة: بمعنى الإمالة عن الحقّ. قال الفيّوميّ: زاغت الشمس تَزيغ زَيْغًا: مالت، وزاغ الشيءُ كذلك، ويزوغ زَوغًا لغةٌ، وأزاغه إزاغة في التعدّيّ. انتهى. وقال ابن منظور: الزَّيْغُ: الميل، زاغ يَزيغ زَيغًا، وزَيَغَانًا، وزُيوغًا، وزَيْغُوغةً، وأزغتُهُ أنا إزاغةً، وهو زائغ، وقوم زاغةٌ عن الشيء: أي زائغون، وقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]: أي لا تُملنا عن الهدى والقصد، ولا تُضلّنا. وقيل: لا تُزغ قلوبنا: لا تتعبّدنا بما يكون سببًا لزيغ قلوبنا، والواو لغة -يعني زاغ يزوغ بالواو لغة لبعض العرب- انتهى.
(قَلْبَ أَحَدِكُمْ) بنصب "قلب" على أنه مفعول به لـ "يزيغ"(إِزَاغَةً) مفعول مطلق لـ "يزيغ"(إِلَّا هِيهْ) استناء مفرّغ، و"هي" ضمير الدنيا في محل رفع فاعل "يزيغ"، والهاء للسكت. وقال بعض من كتب هنا: قوله: "حتى لا يزيغ الخ": أي حتى لا يُميل قلب أحدكم إمالةً إلا طلب الزيادة، و"هيه" بسكون الياء كلمة يُستزاد بها الشيء. ويحتمل أن يكون بفتح الياء، والهاء في آخره للوقف، و"هي" ضمير مؤنث غائب يرجع إلى "الدنيا": أي حتى لا يميل قلبَ أحدكم إلا الدنيا. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الأقرب، كما قررناه سابقًا. والله تعالى أعلم.
(وَايْمُ الله) بهمزة الوصل بمعنى يمين الله، وهو مبتدأ خبره محذوف: أي قسمي، أو بالعكس: أيَ قمسي: ايم الله (لَقَدْ ترَكْتكُمْ) قال السنديّ: أي ما فارقتكم بالموت، فصيغة الماضي بمعنى الاستقبال، أو اجتهدت في إصلاح حالكم حتى صرتم على هذه الحال التي تركتكم عليها، واشتغلت عنها بأمور أُخَر، كالعبادة، فصيغة الماضي على معناها. انتهى.
(عَلَى مِثْلِ الْبيضَاءِ) قال السنديّ رحمه الله تعالى: ظاهر السوق أن هذا بيان لحال
القلوب، لا لحال الملّة، والمعنى: على قلوب هي مثل الأرض البيضاء ليلًا ونهارًا، ويحتمل أن يكون لفظ المثل مقحمًا، والمعنى: على قلوب بيضاء نقيّة عن الميل إلى الباطل، لا يُميلها عن الإقبال على الله تعالى السرّاء والضرّاء، فليُفهم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يبعد أن يكون المراد الملّةَ، فيكون المعنى: لقد تركتكم على ملّة مثل الشمس في الظهور والوضوح، وعدم اللبس على أحد ممن يُبصر، أما الأعمى، فإنه لا ينتفع بظهورها؛ لخلل من جهته، لا من جهتها، لكن لا يضرّها عدم إبصاره لها، وإنما يتضرّر هو، كما قيل [من البسيط]:
مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى في الأُفْقِ طَالِعَةً
…
أَنْ لَا يَرَى نُورَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ
فكذلك ملة الإسلام إنما ينتفع بها من فتح الله سبحانه وتعالى قلبه، وهداه إليها، ولا ينقص قدرها بإعراض من كتب الله عليه الشقاء الأبديّ، وإنما ينقص هو نفسه.
ولمّا كانت الشمس المشبه بها أنقص حالًا من المشبّه، حيث يتغيّر حالها بتغير الأوقات، فإنها تظهر نهارًا، ويتمّم سلطانها فيه، وتختفي ليلًا، فيذهب سلطانها فيه، بخلاف المشبه، وهي الملة، فإن تمام ظهورها، وإشراقها لا يتغيّر بتغير الأحوال والأزمان، بل هو على حدّ سواء دائمًا، بيّن ذلك، وأوضحه، فقال:(لَيْلُهَا وَنهَارُهَا سَوَاءٌ) أي كلّ أزمانها وأحوالها متساوية في الوضوح والظهور، لا يتغيّر، ولا يتحول، وإن تغير الزمان والمكان، بل يبقى على ما هو عليه حتى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، ولهذا المعنى أتبعه المصنف رحمه الله تعالى بحديث:"لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"، اللهم اجعلنا من الطائفة المنصورة، آمين.
(قَالَ أبو الدَّرْدَاءِ) رضي الله عنه (صَدَقَ) فعل ماض، وفاعله "رسول الله"، وقوله:(وَاللهَ) قسم اعتُرض به بين الفعل والفاعل للتأكيد (رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ترَكَنَا وَالله عَلَى مِثْلِ الْبيضَاءِ) أي على ملّة واضحة الإشراق، كوضوح إشراقَ الشمس (لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ) أي متساوية، لا تختلف بأي حال من الأحوال في الاهتداء بها، والوصول إلى الغرض المطلوب، وهو الظفر بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله تعالى، أخرجه هنا - 1/ 5 - وهو حديث صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ؛ وفيه هشام بن عمّار، ومحمد بن عيسى، وقد تقدم أنه تُكُلّم فيهما، كما سبق في ترجمتهما؟.
[قلت]: حديثهما لا ينزل عن درجة الحسن، ولذا حسّنه الشيخ الألبانيّ، في "صحيح ابن ماجه"، وفي "السلسلة الصحيحة" 2/ 308 برقم (688).
وللحديث شواهد يصحّ بها منها: حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (16519)، وسيأتي للمصنّف برقم (43) ولفظه:
"وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةَ ذَرَفَت منها العيون وَوَجِلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مُوَدِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك
…
" الحديث. وهو حديث صحيح، كما سيأتي الكلام عليه في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ومنها: حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أخرجه أحمد في "مسنده "(22857) فقال: حدثنا حيوة، قال: أنبأنا بقية بن الوليد، قال: حدثني بَحِير بن سَعْد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عوف بن مالك أنه قال "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في أصحابه فقال:"الفقر تخافون؟ أو العَوَز، أوتُهِمُّكم الدنيا، فإن الله فاتح لكم أرض فارس والروم، وتُصَبّ عليكم الدنيا صَبًّا، حتى لا يَزِيغكم بعدي إن أزاغكم إلا هي".
وهذا حديث صحيح الإسناد رجاله ثقات.
ومنها: حديث عمرو بن عوف الأنصاريّ رضي الله عنه، أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، وسيأتي لفظه في المسألة التالية، وفيه: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم،
ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم"، وفي لفظ: "وتهلككم كما أهلكتهم".
والحاصل أن الحديث صحيح بهذه الشواهد، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي ملته التي ترك أمته عليها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
2 -
(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستفتح لها الدنيا بحذافيرها، وتصبّ عليها صب الماء المنهمر، وينغمسون فيها، فتستولي على قلوبهم؛ إلا من عصمه الله تعالى بالتقوى والورع.
3 -
(ومنها): التحذير عن الاغترار بالدنيا، والانخداع لها، والتنافس فيها، وقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين، وأَمّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، وقال:"أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ "، قالوا: أجل يا رسول الله، قال:"فأبشروا، وأمّلوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها، كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم".
وأخرجا أيضًا من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج يوما، فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن
تنافسوا فيها".
ولفظ مسلم: فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أَيْلة إلى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم"، قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
4 -
(ومنها): أنه قد يُستدلّ بهذا الحديث على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن زيغ القلب بالدنيا والغنيّ هو الذي عنده الدنيا، فهو مظنة الوقوع في زيغ قلبه الذي يجرّ إلى الهلاك غالبًا، والفقير آمنٌ من ذلك.
5 -
(ومنها): أن فيه بيان وضوح الملة، فلا تلتبس على من أراد سلوكها، والتمسك بها، وأنه لا يزيغ عنها إلا من كتب عليه الشقاء المؤبّد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
6 -
(حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار، حدثنا مُحَمدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدثنا شُعْبةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمتي مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ، حَتَى تَقُومَ الساعَةُ) *
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محمد بن بشار) بن عثمان بن داود بن كيسان العبديّ، أبو بكر الحافظ البصريّ، المعروف بـ "بندار"، ثقة [10].
رَوَى عن عبد الوهاب الثقفي، وغندر، وروح بن عبادة، وحرمي بن عمارة، وابن أبي عدي، ومعاذ بن هشام، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي داود الطيالسي، ويزيد بن زريع، ويزيد بن هارون، وخلق كثير.
وروى عنه الجماعة، وروى النسائي عن أبي بكر المروزي، وزكرياء السجزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبقي بن مخلد، وعبد الله بن أحمد، وابن ناجية، وإبراهيم
الحربي، وابن أبي الدنيا، وزكرياء الساجي، وأبو خليفة، وابن خزيمة، وآخرون.
قال ابن خزيمة: سمعت بندارا يقول: اختلفت إلى يحيى بن سعيد القطان أكثر من عشرين سنة، قال بندار: لو عاش يحيى بعد تلك المدة، لكنت أسمع منه شيئا كثيرا. وقال الآجري عن أبي داود: كتبت عن بندار نحوا من خمسين ألف حديث، وكتبت عن أبي موسى شيئا، ولولا سلامةٌ في بندار تُرك حديثه، وقال إسحاق بن إبراهيم الفزاري: كنا عند بندار، فقال في حديث عن عائشة قال: قالت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل يسخر منه: أعيذك بالله ما أفصحك؟ فقال: كنا إذا خرجنا من عند روح، دخلنا إلى أبي عبيدة، فقال: قد بان ذلك عليك، وقال العجلي: بصري ثقة، كثير الحديث، وكان حائكًا. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: صالح لا بأس به. وقال عبد الله بن محمد بن يونس السختياني: كان أهل البصرة يقدمون أبا موسى علي بندار، وكان الغرباء يقدمون بندارا، وقال ابن حبان في "الثقات": كان يحفظ حديثه، ويقرؤه من حفظه. وقال ابن خزيمة في "التوحيد": ثنا إمام أهل زمانه محمد بن بشار. وقال البخاري في "صحيحه": كتب إلي بندار، فذكر حديثا مسندا، ولولا شدة وثوقه ما حدث عنه بالمكاتبة، مع أنه في الطبقة الرابعة من شيوخه، إلا أنه كان مكثرا، فيوجد عنده ما ليس عند غيره. وقال مسلمة بن قاسم: أنا عنه ابن المهراني، وكان ثقة مشهورا. وقال الدارقطني: من الحفاظ الأثبات. وقال الذهبي: لم يرحل، ففاته كبار، واقتنع بعلماء البصرة، أرجو أنه لا بأس به.
قال السراج: سمعت أبا سيار يقول: سمعت بندارا يقول: وُلدت في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة، ومات حماد سنة (67). وقال البخاري وغير واحد: مات في رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
روى عنه المصنف في هذا الكتاب مائتين واثنين وثلاثين حديثًا (232).
2 -
(محمد بن جعفر) الهُذَليّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ المعروف بـ "غُندر"، صاحب الكرابيس، ثقة، صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلة [9].
رَوَى عن شعبة، فأكثر، وجالسه نحوا من عشرين سنة، وكان ربيبه، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وعوف الأعرابي، ومعمر بن راشد، وسعيد بن أبي عروبة، وحسين المعلم، وابن جريج، وهشام بن حسان، وعثمان بن غياث، والثوري، وابن عيينة.
ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وقتيبة، ويعقوب الدورقي، وبندار، وخلق كثير.
قال الميموني عن أحمد: غندر أسن من يحيى بن سعيد، سمعته يقول: لزمت شعبة عشرين سنة، لم أكتب من أحد غيره شيئا، وكنت إذا كتبت عنه، عرضته عليه. قال أحمد: أحسبه من بلادته كان يفعل هذا. وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: كان من أصح الناس كتابا، وأراد بعضهم أن يخطئه، فلم يقدر، وكان يصوم منذ خمسين سنة يوما ويوما لا. قال ابن المديني: هو أحب إلي من عبد الرحمن في شعبة. وقال ابن مهدي: كنا نستفيد من كتب غندر في شعبة. وكان وكيع يسميه الصحيح الكتاب. وقال أبو حاتم عن محمد بن أبان البلخي: قال ابن مهدي: غندر أثبت في شعبة مني. وقال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حَكَمٌ بينهم. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن غندر؟ فقال: كان صدوقا، وكان مؤدبا، وفي حديث شعبة ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من خيار عباد الله، ومن أصحهم كتابا، على غفلة فيه. وقال العيشي: إنما سماه غندرا ابن جريج، كان يكثر التشغب عليه، قال: وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرا، وقال العجلي: بصري ثقة، وكان من أثبت الناس في حديث شعبة. ورُوي عن ابن معين قال: قدمنا على غندر، فقال: لا أحدثكم حتى تمشوا خلفي، فيراكم أهل السوق، فيكرموني.
قال أبو داود، وابن حبان: مات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقال ابن سعد: مات سنة (94)، وقال: كان ثقة إن شاء الله. وقال البخاري: حدثني محمد بن المثنى، قال: مات غندر سنة (92).
روى له الجماعة، وله عند المصنّف مائة وثلاثة أحاديث (103).
3 -
(شعبة) بن الحجاج بن الورد الْعتكيّ الأزديّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقة، حافظ، متقنٌ، أمير المؤمنين في الحديث، وأول من فتّش عن الرجال بالعراق، وذبّ عن السنة، وكان عابدًا [7].
رَوَى عن أبان بن تغلب، وإبراهيم بن عامر بن مسعود، وجامع بن شداد، وجبلة بن سحيم، وجعدة بن أم هانئ، وجعفر الصادق، وحسين المعلم، وحصين بن عبد الرحمن، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، ومسعر بن كدام، وخلق كثير.
ورَوَى عنه أيوب، والأعمش، وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن إسحاق، وهم من شيوخه، وجرير بن حازم، والثوري، والحسن بن صالح، وغيرهم من أقرانه، ويحيى القطان، وابن مهدي، ووكيع، وابن إدريس، وابن المبارك، ويزيد بن زريع، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، ومحمد بن جعفر غندر، وخلق كثير.
قال أبو طالب عن أحمد: شعبة أثبت في الحكم من الأعمش، وأعلم بحديث الحكم، ولولا شعبة ذهب حديث الحكم، وشعبة أحسن حديثا من الثوري، لم يكن في زمن شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثا منه، قُسم له من هذا حظ، وروى عن ثلاثين رجلا من أهل الكوفة، لم يرو عنهم سفيان. وقال محمد بن العباس النسائي: سألت أبا عبد الله من أثبت، شعبة أو سفيان؟ فقال: كان سفيان رجلا حافظا، وكان رجلا صالحا، وكان شعبة أثبت منه، وأنقى رجلا، وسمع من الحكم قبل سفيان بعشر سنين. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن -يعني في الرجال- وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقيته للرجال. وقال معمر: كان قتادة يسأل شعبة عن حديثه. وقال حماد بن زيد: قال لنا أيوب: الآن يقدَم عليكم رجل من أهل واسط، هو فارس في الحديث، فخذوا عنه. وقال أبو الوليد الطيالسي: قال لي حماد بن سلمة: إذا أردت الحديث فالزم شعبة. وقال حماد بن زيد: ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، فإذا خالفني شعبة في شيء تركته. وقال ابن مهدي: كان الثوري يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث. وقال الثوري لسَلْم بن قتيبة: ما فعل أُستاذنا شعبة. وقال أبو
قطن عن أبي حنيفة: نعم حشو المصر هو. وقال الشافعي: لولا شعبة ما عُرف الحديث
بالعراق. وقال أبو زيد الهروي: قال شعبة: لأن أتقطع أحبّ إلي من أن أقول لما لم
أسمع: سمعتُ. وقال يزيد بن زريع: كان شعبة من أصدق الناس في الحديث. وقال
أبو بحر البكراوي: ما رأيت أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على ظهره. وقال مسلم بن إبراهيم: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة قط، إلا رأيته قائما يصلي. وقال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم بمسكين منه. وقال قراد أبو نوح: رأى علي شعبة قميصا، فقال بكم أخذت هذا؟ قلت: بثمانية دراهم، قال لي: ويحك أما تتقي الله، تلبس قميصا بثمانية، ألا اشتريت قميصا بأربعة، وتصدقت بأربعة، قلت: أنا مع قوم نتجمل لهم، قال: أيشٍ نتجمل لهم. وقال وكيع: إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات؛ لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه القطان، ثم أحمد ويحيى. وقال ابن سعد: توفي أول سنة (160) بالبصرة. وقال ابن حبّان: ولد سنة (83) ومات سنة (160) وله (77) سنة، وكان من سادات أهل زمانه حفظا وإتقانا، وورعا وفضلا، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار عَلَمًا يُقتدَى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق. وذكر ابن أبي خيثمة أنه مات في جمادى الآخرة.
روى له الجماعة، له عند المصنّف مائة وثمانون حديثًا (180).
[تنبيه]: جملة من اسمه شعبة في الكتب الستة ثلاثة:
(الأول): هذا الإمام المشهور، وهو في الستة كلها.
(والثاني): شعبة بن دينار الكوفيّ، لا بأس به [6] عند النسائيّ فقط.
(والثالث): شعبة بن دينار الهاشمي مولى ابن عباس المدنيّ، صدوقٌ، سيىء الحفظ [4]، عند أبي داود فقط، والله تعالى أعلم.
4 -
(معاوية بن قرة) بن إياس بن هلال بن رئاب المزني أبو إياس البصري، ثقة،
عالم [3].
رَوَى عن أبيه، ومعقل بن يسار المزني، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن مغفل، وعدّة. ورَوَى عنه ابنه إياس، وابن ابنه المستنير بن أخضر بن معاوية، وثابت البناني، وحزم بن أبي حزم، وبسطام بن مسلم، وشعبة، وأبو عوانة، وآخرون.
قال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ثقة. وكذا قال العجلي، والنسائي، وأبو حاتم. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مطر الأعنق عن معاوية بن قرة: لقيت من الصحابة كثيرا، منهم خمسة وعشرون من مزينة. قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاث عشرة ومائة. وقال يحيى بن معين: مات وهو ابن ست وسبعين سنة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: معاوية بن قرة، عن علي مرسل. وقال أبو حاتم: لم يلق ابن عمر. وقال ابن حبان: كان من عقلاء الرجال. وقال الشافعي: روايته عن عثمان منقطعة. روى له الجماعة. وله عند المصنف ثمانية أحاديث، برقم (6) و 419 و 420 و 1002 و 2608 و 2705 و 3578 و 3985.
5 -
(قرة) بن إياس بن هلال بن رئاب المزني، أبو معاوية البصري، صحابيّ رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه معاوية، قال ابن عبد البر: سكن البصرة، ولم يرو عنه غير ابنه، ويقال له: قرة بن الأغر، قُتل في حرب الأزارقة، مع عبد الرحمن بن عبيس في زمن معاوية. وقع ذكره في البخاري ضمنا في أثر معلق في "كتاب الصلاة". وقد أرخه ابن سعد، وخليفة، وأبو عروبة، وابن حبان، وغيرهم سنة (64) فيكون ذلك في زمن معاوية ابن يزيد بن معاوية، وذكره ابن سعد في طبقة الخندقيين. روى له البخاري في "الأدب المفرد"، والأربعة، له اثنان وعشرون حديثًا، روى له المصنف منها خمسة أحاديث برقم 6 و 102 و 2608 و 2705 و 3578. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، سوى الصحابي، فمن
رجال الأربعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
6 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وهي من صيغ الاتصال على الأصحّ في "عن" من غير المدلّس، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى قريبًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّة) المزنيّ رحمه الله (عَنْ أَبِيهِ) قرّة بن إياس المزنيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَزَالُ) نافية، و"تزال" مضارع "زَيِلَ" كعلِم، قال الفيّوميّ: وما زال يفعل كذا، ولا أزال أفعله لا يُتكلّم به إلا بحرف النفي، والمراد به ملازمةُ الشيء، والحالُ الدائمة، مثل "ما بَرِحَ" وزنًا ومعنى، وقد تكلّم به بعض العرب على أصله، فقال: ما زَيِلَ زيدٌ يفعل كذا. انتهى.
وهي من الأفعال التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، واسمها قوله:(طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي) أي جماعة منهم، قال الفيّومي: الطائفة: الفرقة من الناس، والطائفة: القطعة من الشيء، والطائفة من الناس الجماعة، وأقلّها ثلاثة، وربّما أُطلقت على الواحد والاثنين. انتهى.
وقال القرطبيّ في "المفهم" 3/ 761: الطائفة الجماعة، وهم الذين قال الله تعالى
في حقهم: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181].
والطائفة في الأصل: هي القطعة من الشيء، يقال: طائفة من كذا: أي قطعة منه، وهي من الناس الجماعة. قال مجاهد: هم من الواحد إلى الألف، وكذلك قال النخعيّ. وقال عطاء: أقلّه رجلان، فصاعدًا. وقال الزهري: ثلاثة فصاعدًا. والطائفة هي الفرقة التي يُمكن أن تكون حلقة، وكأنها الجماعة الحافّة حول الشيء، أقلّها ثلاثة، أو أربعة. انتهى كلام القرطبيّ.
وقوله: (مَنْصُورِينَ) منصوب على أنه خبر "يزال": أي منصورين على عدوّهم،
وغالبين لهم، كما قال في الحديث الآخر: "يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوّهم
…
" الحديث (لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ) أي ترك نُصرتهم، وإعانتهم، يقال: خذلته، من باب قتل: إذا تركت نصرته، وإعانته، وتأخّرت عنه، والاسم الخذلان، وخذّلته بالتشديد تخذيلًا: حملته على الفشل، وترك القتال. قاله الفيّومي (حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) أي إلى أن تقرب الساعة بإتيان العلامة، وهي الريح التي تقبض روح كلّ مؤمن ومؤمنة، فقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه" من حديث عبد الرحمن بن شِمَاسة المهْريّ، أنه قال: كنت عند مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهليّة، لا يَدْعُون الله بشيء، إلا ردّه عليهم، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي، يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"، فقال عبد الله: أَجَلْ: "ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، مَسُّها مَسُّ الحرير، فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة".
وفي رواية البخاريّ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون" قال في "الفتح": قوله: "حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون": أي على من خالفهم، أي غالبون، أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أولى، وقد وقع عند مسلم من حديث جابر بن سمرة:"لن يبرح هذا الدين قائما تقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة"، وله في حديث عقبة بن عامر:"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث قرّة بن إياس رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا - 1/ 6 - بهذا الإسناد فقط وأخرجه (الترمذيّ) في "الفتن" 2192 وقال: حسنٌ صحيح. و (أحمد) في "مسند المكيين" 15169 و"مسند البصريين"19854. و (الطيالسيّ) في "مسنده" 1076. و (ابن حبّان) 61 و 6834 و (الحاكم) في "معرفة علوم الحديث" ص 2 و (الخطيب) في "شرف أصحاب الحديث" 11 و 44.
وفي الباب عن ثوبان رضي الله عنه كما سيأتي قريبًا برقم (10) والمغيرة بن شُعبة رضي الله عنه في "الصحيحين"، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما في "الصحيحين" أيضًا. وجابر رضي الله عنه عند مسلم، وعقبة بن عامر عند مسلم أيضًا، وعن غيرهم. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان فضل اتّباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك أن هؤلاء الطائفة ما حصل لهم ذلك النصر، والثبات على مقاومة العدوّ، وإبادته إلا بسبب اتّباعهم سنته صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): أن فيه بيان فضل هذه الأمّة، حيث إن الله عز وجل أجارها عن اتّفاق على الضلال، فلا تزال جماعة مؤمنة بربّها أيّ إيمان، متّبعة لسنة نبيّها صلى الله عليه وسلم، لا يغيّرها حوادث الزمان، ولا يبدّل أحوالها تعاقب الملوان، واختلاف الجديدان (1)، بل تبقى صابرة صامدة على الحقّ، لا تبالي بتآمر جميع الخلق، فسبحان من اصطفى خيار عباده لنيل صَفْوِ وداده.
(1) الظاهر أن هذا على لغة من يُلزم المثنى الألف؛ لمراعاة السجع، فتنبّه.
3 -
(ومنها): أن فيه دلالة على صحّة الإجماع؛ لأن الأمة إذا أجمعت على شيء، فقد دخلت فيهم هذه الطائفة المختصّة بهذا الفخر العظيم، فكلّ الأمّة محقّ، فإجماعهم حقّ، ويفيد هذا المعنى قوله عز وجل:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]. قاله القرطبيّ (1). وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وهو أصح ما استدل به من الحديث لكون الإجماع حجة، وأما حديث:"لا تجتمع أمتي على ضلالة"، فضعيف (2). انتهى (3).
4 -
(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً، فإنّ هذا الوصف ما زال -بحمد الله تعالى- من زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث. انتهى (4)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بهذه الطائفة:
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله في "المفهم" 3/ 763: قد اختلف العلماء في من
(1)"المفهم" 3/ 764 "كتاب الجهاد".
(2)
هذا الحديث ضعيف، رواه ابن ماجه في هذا الكتاب برقم (3950) وابن أبي عاصم في "السنّة" رقم (84) وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند" 133 واللالكائيّ في "أصول أهل السنة" 1/ 105 /653 عن معان بن رفاعة السلاميّ، عن أبي خلف الأعمى، عن أنس مرفوعًا، وهو إسناد واه بمرة، إذ أبو خلف الأعمى متروك، ورماه ابن معين بالكذب. وقال الدارقطنيّ في "الأفراد": تفرّد بهذا الحديث. ومعان بن رفاعة ليّن الحديث. وأخرجه أبو نُعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 208 وهو ضعيف أيضًا فيه عللٌ، قد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى في "السلسلة الضعيفة" 6/ 436 رقم (2896) فراجعه تستفد، وسنعود إليه في محلّه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى حينما يورده المصنّف رحمه الله تعالى برقم (3950)"كتاب الفتن" 2/ 1303.
(3)
"شرح مسلم" 13/ 67.
(4)
"شرح مسلم" 13/ 67.
هذه الطائفة؟، وأين هم؟، فقال عليّ بن المدينيّ: هم العرب، واستدلّ برواية من روى:"وهم أهل الغرب"، وفسّر "الغرب" بالدلو العظيمة. وقيل: أراد بالغرب أهل القوّة، والشدّة، والحدّ، وغرب كلّ شيء حدّه. وقيل: أراد به غرب الأرض، وهو ظاهر حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه وقال فيه:"لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ في المغرب حتى تقوم الساعة". ورواه عبد بن حميد، وقال فيه:"لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحقّ حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله". ورواه بقيّ بن مَخْلَد في "مُسنده" كذلك: "لا يزال أهل المغرب كذلك".
قال القرطبيّ: وهذه الروايات تدلّ على بطلان التأويلات المتقدّمة، وعلى أن المراد به أهل المغرب في الأرض، لكن أول المغرب بالنسبة إلى الدينة مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو الشام، وآخره حيث تنقطع الأرض من المغرب الأقصى، وما بينهما، كلّ ذلك يُقال عليه: مغرب، فهل أراد المغرب كلّه، أو أوّله" كل ذلك محتملٌ، لا جَرَم قال معاذٌ رضي الله عنه في الحديث الآخر: "هم أهل الشام"، ورواه الطبريّ، وقال: هم ببيت المقدس. وقال أبو بكر الطرطوشيّ في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب بعد أن أورد حديثًا في هذا المعنى قال: -والله تعالى أعلم- هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أراد بذلك جملةَ أهل المغرب لما هم عليه من التمسّك بالسنّة والجماعة، وطهارتهم من البِدَع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح؟. والله تعالى أعلم. انتهى ما ذكره القرطبيّ (1).
وقال في "الفتح": قال صاحب "المشارق" في قوله" "لا يزال أهل الغرب" يعني الرواية التي في بعض طرق مسلم، وهي -بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء-: ذكر يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني قال: المراد بالغرب الدلو: أي الْعَرَب -بفتح المهملتين- لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم، لكن في حديث معاذ: "وهم
(1)"المفهم" 3/ 763 - 764.
أهل الشام"، فالظاهر أن المراد بالغرب البلد؛ لأن الشام غربي الحجاز، كذا قال، وليس بواضح. ووقع في بعض طرق الحديث "المغرب" -بفتح الميم، وسكون المعجمة- وهذا يَرُدّ تأويل الغرب بالعرب، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه، أن المراد الإقليم، لا صفة بعض أهله. وقيل: المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال: في لسانه غَرْب -بفتح، ثم سكون- أي حِدّة. ووقع في حديث أبي أمامة عند أحمد: "أنهم ببيت المقدس"، وأضاف "بيت" إلى "المقدس". وللطبراني من حديث النهدي نحوه، وفي حديث أبي هريرة في "الأوسط" للطبراني: "يقاتلون على أبواب دمشق، وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس، وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة".
ويمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شامية، ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو، وحِدَّة وجِدٌّ. انتهى (1).
وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": وأما هذه الطائفة فقال البخاريّ: هم أهل العلم، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟. قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث (2).
وقال في "الفتح": قال النووي: يجوز أن تكون هذه الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع، وبصير بالحرب، وفقيه، ومحدث، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن النكر، وزاهد، وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أَوّلًا فأوّلًا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر
(1)"الفتح" 15/ 229. "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة".
(2)
"شرح مسلم" 13/ 66 - 67 "كتاب الجهاد".
الله. انتهى ملخصا مع زيادة فيه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن الصواب في المراد بالطائفة المذكورة هم الجماعة الذين يقومون بنصرة الدين، والذبّ عن حريمه، واتّباع السنّة، وقمع البدعة، فيشمل كلّ من كان متّصفًا بما ذُكر من علماء الحديث، والمفسّرين، والفقهاء، والأمراء، والسلاطين، والشجعان، القائمين بما ذكر. والله تعالى أعلم.
قال: ونظير ما نَبّهَ عليه -يعني النووي في كلامه السابق- ما حَمَل عليه بعضُ الأئمة حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو مُتَّجِهٌ، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعَى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعيّ، وإن كان متصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كُلُّ من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا. انتهى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهو بحثٌ نفيسٌ جِدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم في الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "حتى تقوم الساعة"، وحديث مسلم:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق":
قال ابن بطال رحمه الله: هذا الحديث وما أشبهه، ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض، حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام
(1)"الفتح" 15/ 229 - 230.
الساعة، إلا أنه يضعف، ويعود غريبا كما بدأ، ثم ذكر حديث: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق
…
" الحديث، قال: فتبين في هذا الحديث تخصيص الأخبار الأخرى، وأن الطائفة التي تبقى على الحق، تكون ببيت المقدس إلى أن تقوم الساعة، قال: فبهذا تأتلف الأخبار.
وتعقّبه الحافظ رحمه الله قائلًا: ليس فيما احتج به تصريح إلى بقاء أولئك إلى قيام الساعة، وإنما فيه حتى يأتي أمر الله، فيحتمل أن يكون المراد بأمر الله، ما ذُكر من قبض مَن بقي من المؤمنين، وظواهر الأخبار تقتضي أن الموصوفين بكونهم ببيت القدس أن آخرهم من كان مع عيسى عليه السلام، ثم إذا بعث الله الريح الطيبة، فقبضت روح كل مؤمن لم يبق إلا شرار الناس.
وقد أخرج مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وسائر الآيات العظام، وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك، إذا انقطع تناثر الخَرَز بسرعة، وهو عند أحمد، وفي مرسل أبي العالية:"الآيات كلها في ستة أشهر". وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "في ثمانية أشهر"، وقد أورد مسلم عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ما يشير إلى بيان الزمان الذي يقع فيه ذلك، ولفظه:"لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبَد اللات والعزى"، وفيه:"يبعث الله ريحا طيبة، فتوفَّى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وعنده في حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "يخرج الدجال في أمتي
…
" الحديث، وفيه: "فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيطلبه، فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد، في قلبه مثقال حبة من خير"، أو "إيمان، إلا قبضته"، وفيه: "فيبقى شرار الناس في خِفَّة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان، فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم ينفخ في الصور". فظهر بذلك أن المراد بأمر الله في حديث: "لا تزال
طائفة" وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة، ولا يتخلف عنها إلا شيئا يسيرا، ويؤيده حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما، رفعه: "لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال". أخرجه أبو داود، والحاكم، قال: ويؤخذ منه صحة ما تأولته، فإن الذين يقاتلون الدجال، يكونون بعد قتله مع عيسى، ثم يُرسَل عليهم الريح الطيبة، فلا يبقى بعدهم إلا الشرار، كما تقدم.
ووُجدت في هذا مناظرة لعقبة بن عامر، ومحمد بن مسلمة، فأخرج الحاكم من رواية عبد الرحمن بن شِمَاسة أن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شرٌّ من أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر: عبد الله أعلم ما يقول، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي، يقاتلون على أمر الله، ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"، فقال عبد الله: أَجَلْ، "ويبعث الله ريحا، ريحها ريح المسك، ومَسُّها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة". فعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة:"حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح. انتهى ما في "الفتح"(1).
وقال في موضع آخر: ما خلاصته: إن المراد بأمر الله هبوب تلك الريح، وبقيام الساعة ساعتهم، والمراد بالذين يكونون ببيت المقدس هم الذين يحصرهم الدجال إذا خرج، فينزل عيسى إليهم، فيقتل الدجال، ويَظهر الدين في زمن عيسى، ثم بعد موت عيسى تهب الريح المذكورة، فهذا هو المعتمد في الجمع -والعلم عند الله تعالى- انتهى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:
(1)"الفتح" 14/ 583 - 585. "كتاب الفتن".
(2)
"الفتح" 15/ 228. "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة".
"حتى تقوم الساعة"، وبقوله:"حتى يأتي أمر الله"، علامة الساعة التي هي هبوب الريح المذكورة، فلا يوجد بعده نفس مؤمنة، بل يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وبهذا يحصل الجمع بين حديث الباب، وحديث:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس".
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
7 -
(حَدَّثَنَا أبو عَبْد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ حَمْزة، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عَلْقَمَةَ، نَصْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الحضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي، قَوَّامَة عَلَى أَمْرِ الله، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا").
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "حدثنا أبو عبد الله" هو المصنّف رحمه الله، وقائل "حدّثنا" أحد الرواة عنه، والظاهر أنه أبو الحسن بن القطّان؛ لأنه المشهور برواية هذه "السنن" عنه. والله تعالى أعلم.
ورجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هشام بن عَمّار) الدمشقيّ، تقدّم قبل حديث.
2 -
(يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الْبَتْلَهِيّ الدمشقيّ القاضي، من أهل بيت لَهْيَا، ثقة رُمي بالقدر [8].
رَوَى عن الأوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وثور بن يزيد، ونصر بن علقمة، وزيد بن واقد، وسليمان بن أرقم، وسليمان بن داود الخولاني، وجماعة.
ورَوَى عنه ابنه محمد، وابن مهدي، والوليد بن مسلم، وأبو مسهر، ومحمد بن المبارك، ومروان بن محمد، وهشام بن عمار، وعلي بن حجر، وآخرون.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس، وكذا قال المرُّوذيّ عن أحمد. وقال الغلابي وغيره عن ابن معين: ثقة، قال الغلابي: كان ثقة، وكان يُرمَى بالقدر. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: كان قدريًّا، وكان صدقة بن خالد أحب إليهم منه. وقال
عثمان الدارمي عن دُحيم: ثقة عالم، لا أشك إلا أنه لقي علي بن يزيد. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، قلت: كان قدريا؟ قال: نعم. وقال النسائي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثنا هشام بن عمار، ثنا يحيى بن حمزة، وكان قاضيا على دمشق ثقة. وقال عبد الله ابن محمد بن سيار: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث صالحه. وقال عمرو ابن دُحيم: أعلم أهل دمشق بحديث مكحول الهيثم بن حميد، ويحيى بن حمزة. وقال العجلي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة مشهور. وقال مروان بن محمد: استقضاه المنصور سنة ثلاث وخمسين، فلم يزل قاضيا حتى مات. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلد سنة ثلاث ومائة، ومات سنة ثلاث وثمانين ومائة، وكذا قال أبو مسهر وغيره. قال أبو سليمان بن زَبْر: وُلد سنة اثنتين، وقيل: سنة خمس، وقيل غير ذلك.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة عشر حديثًا.
3 -
(أبو علقمة، نصر بن علقمة) الحضرميّ الحمصيّ، ثقة (1)[6].
رَوَى عن أخيه محفوظ بن علقمة، وجُبير بن نُفير، وعمرو بن الأسود، وكثير بن مرة، وعبد الرحمن بن عائذ الأزدي، وأرسل عن أبي الدرداء.
ورَوَى عنه ابنُ ابنِ أخيه خزيمة بن عبادة بن محفوظ نسخة كبيرة، وصدقة بن عبد الله السمين، والْوَضِين بن عطاء، ومعاوية بن يحيى الأطرابلسي، والوليد بن كامل البجلي، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وبقية بن الوليد، وغيرهم.
قال عثمان الدارمي عن دُحيم: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: نصر بن علقمة عن جُبير بن نُفير مرسل. أخرج له النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(عمير بن الأسود) -بضم العين، مصغّرًا- وهو عمرو بن الأسود العنسي،
(1) هذا الصواب عندي، وأما قول الحافظ في "التقريب": مقبول، فليس. بمقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه دُحيم، وابن حبّان، ولم يجرحه أحد، فهو ثقة بلا شكّ. والله تعالى أعلم.
ويقال: الهمداني، أبو عياض، ويقال: أبو عبد الرحمن الدمشقي، ويقال: الحمصي، سكن داريا، ثقة مخضرم عابدٌ، من كبار التابعين [2].
رَوَى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، والعرباض ابن سارية، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجُنادة بن أبي أمية، وأبي هريرة، وعائشة، وأم حرام بنت مِلْحان، وجماعة.
ورَوَى عنه ابنه حكيم بن عمير، ومجاهد، وخالد بن معدان، وشريح بن عبيد، وكثير بن أبي كثير، ونصر بن علقمة، وإبراهيم بن مسلم الهجري، وزياد بن فياض، على خلاف في ذلك، وغيرهم.
قال ضمرة بن حبيب: مَرّ عمرو بن الأسود على عمر بن الخطاب، فقال: من سره أن ينظر إلى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلينظر إلى هدي هذا. وقال محمد بن عوف: عمرو بن الأسود يكنى أبا عياض، وهو والد حكيم بن عمير، وقيل: إن أبا عياض الذي يروي عنه زياد بن فياض، والعراقيون رجل آخر. كذا حَكَى ابن أبي حاتم عن أبيه، وقال: اسمه مسلم بن نُذير. وقيل: إن أبا عياض اسمه قيس بن ثعلبة، حكاه النسائي في "الكنى"، والحاكم أبو أحمد. وقال ابن حبان في "الثقات": عمير بن الأسود كان من عباد أهل الشام، وزهادهم، وكان يُقْسِمُ على الله فيبره. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وروى الحاكم في "الكنى" من طريق مجاهد، قال: حدثنا أبو عياض في خلافة معاوية. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات، مات في خلافة معاوية، وذكره أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة"، وحكاه عن ابن أبي عاصم أنه ذكره فيهم، قال أبو موسى: وليس بصحابي، إنما يروي عن الصحابة. وحكى ابن أبي خيثمة عن مجاهد، أنه قال: ما رأيت بعد ابن عباس أعلم من أبي عياض. وروى الحسن ابن علي الحلواني في كتاب "المعرفة" هذا الكلام عن مجاهد أيضا بإسناد صحيح. وروى الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق أرطاة بن المنذر، ثني زُريق أبو عبد الله الألهاني، أن عمرو بن الأسود قدم المدينة، فرآه عبد الله بن عمر يصلي، فقال: من سره أن ينظر
إلى أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلينظر إلى هذا.
قال الحافظ: ومما يؤيد أن عمير بن الأسود هو عمرو بن الأسود ما أخرجه البخاري، عن يحيى بن إسحاق بن يزيد، والطبراني عن أحمد بن المعلى، عن هشام بن عمار، كلاهما عن يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمير بن الأسود، عن أم حرام
…
الحديث، هذه رواية البخاري، وفي رواية الطبراني عمرو بن الأسود. أخرج له الجماعة إلا الترمذيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(كثير بن مرة الحضرميّ) الرُّهَاويُّ، أبو شَجَرَة، ويقال: أبو القاسم الحمصيُّ، ثقة مخضرم [2].
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن معاذ بن جبل، وعمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وأبي فاطمة الأزدي، وتميم الداري، ونعيم بن همار، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عمرو، وعوف بن مالك الأشجعي، وقيس الجذامي، وغيرهم.
ورَوَى عنه خالد بن معدان، ومكحول، وصالح بن أبي عَرِيب، وأبو الزاهرية حُدَير بن كُرَيب، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير، ونصر بن علقمة، وشُريح بن عُبيد، وسليمان بن موسى، وزيد بن واقد، على خلاف فيه، ويزيد بن أبي حبيب، وآخرون.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، من تابعي أهل الشام. وقال: كان ثقة. وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عبد العزيز بن مروان كتب إِلَى كَثِيرِ بن مرة الحضرمي، وكان قد أدرك سبعين بدريا. وقال أبو الزاهرية، عن كثير بن مُرّة الحضرمي: مررت بعوف بن مالك، فقال: أرجو أن تكون رجلا صالحا. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت له -يعني لدُحَيم-: فمن يكون معهم في طبقتهم -يعني جبير بن نفير، وأبا إدريس- فقال: كثير بن مرة. قال البخاري: قال أبو مسهر: أدرك عبدَ الملك -يعنى خلافته-، وذكره في "الأوسط"
في فصل من مات من السبعين إلى الثمانين. وقال العسكري: أخرجه ابن أبي خيثمة في الصحابة الذين يُعرَفون بكناهم، وهو وَهَم. وقال أبو موسى في "ذيل الصحابة": أورده عَبْدَان، وحديثه مرسل، ولم يذكره في الصحابة غيره.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث.
6 -
(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه، تقدم أول الباب. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير كثير بن مرّة، فمن رجال الأربعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير الصحابيّ، فمدني.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، كما سبق بيانه قريبًا. والله تعالى أعلم.
وقوله: "قوّامة" بتشديد الواو جمع قائمة، كصوّامة، جمع صائم، وفي رواية عند البخاريّ:"لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله"، وفي رواية عنده:"لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خَذَلهم حتى يأتيهم أمر الله، وهم على ذلك"، وزاد: قال عمير -يعني ابن هانىء-: فقال مالك بن يُخامِر: قال معاذ: وهم بالشام. وفي رواية عنده: "ولا تزال عصابة من المسلمين، ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة"، وتمام شرح الحديث، سبق قريبًا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده نصر بن يعقوب، قال عنه في "التقريب": مقبول؟.
[قلت]: قوله: مقبول، غير مقبول؛ لأنه ثقة، فقد رَوَى عنه جماعة، ووثّقه دُحيم، وابن حبّان، ولم يجرحه أحد، وأيضًا فلروايته شواهد، كما سبق في الحديث الماضي، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا بالسند المذكور فقط، وأخرجه ابن حبّان برقم (6835) والبزّار (3320) بإسناد حسن، من طريق أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما سبق في تخريج الحديث السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
8 -
(حَدَّثَنَا أبو عَبْد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّار، حَدَّثنا الجرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ زُرْعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أبا عِنَبَةَ الخُوْلَانِيَّ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ، مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا يَزَالُ الله يَغْرِسُ في هَذَا الدِّينِ غَرْسًا، يَستَعْمِلُهُمْ في طَاعَتِهِ").
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدّم الكلام في قوله: "حدثنا أبو عبد الله" في الحديث الماضي.
ورجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(هشام بن عمّار) الدمشقيّ، تقدّم في 1/ 5.
2 -
(الجرّاح بن مَلِيح) الْبَهْرَانيّ -بفتح الموحّدة- أبو عبد الرحمن الحمصيّ، صدوقٌ [7].
رَوَى عن إبراهيم بن طهمان، والحجاج بن أرطاة، وشعبة، وحاتم بن حُريث، وأرطاة بن المنذر، وبكر بن زرعة الخولاني، وغيرهم.
ورَوَى عنه الحسن بن خُمَير، والهيثم بن خارجة، وسليمان بن عبد الرحمن، وهشام ابن عمارة، وعدة.
قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: لا أعرفه. قال ابن عدي: كان يحيى إذا لم يكن له علم بأخبار الشخص ورواياته يقول: لا أعرفه، والجراح مشهور في أهل الشام، وهو لا بأس به، وبرواياته، وله أحاديث صالحة جياد، ونسخ، وقد رَوَى أحاديث مستقيمة، وهو في نفسه صالح. وفي "تاريخ العباس بن محمد الدوري"، رواية أبي سعيد بن الأعرابي عنه، قال ابن معين: الجراح بن مليح، شامي ليس به بأس. أخرج له النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
3 -
(بكر بن زُرعة) الْخَولانيّ الشاميّ، صدوقٌ (1)[5].
رَوَى عن أبي عِنَبَة الخولاني، وله صحبة، ومسلم بن عبد الله الأزدي. ورَوَى عنه إسماعيل بن عياش، والجراح بن مليح البهراني. ورَوَى عنه أيضا أبو المغيرة الخولاني. قال أحمد في "الزهد": حدثنا أبو المغيرة، سمعت بكر بن زرعة الخولاني، وكانت قد أتت عليه مائة سنة وزيادة على مائة، قال: انصرف أبو مسلم الخولاني إلى منزله بحمص، فذكر قصة. ذكره ابن حبان في "الثقات". انفرد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
4 -
(أبو عِنَبَة الخولاني) -بكسر أوله، وفتح النون والموحّدة- مختلَفٌ في صحبته، والأشبه عندي أنه صحابيّ، قيل: اسمه عبد الله بن عِنبَة -بنون، فموحّدة- وقيل: عمارة. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وعن عمر بن الخطاب، ورَوَى عنه بكر بن
(1) هذا أولى من قول صاحب"التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثّقه ابن حبان، ولم يجرحه أحد.
زُرْعَة الخولانيّ، وأبو الزاهرية حُدَير بن كُريب، وشُرَحبيل بن شُفْعة، وطُليق بن سُمَير، وقيل: ابن عُمير، ولقمان بن عامر، ومحمد بن زياد الألهاني، وغيرهم. ذكره خليفة، وابن سعد، وغير واحد في الصحابة، وذكره عبد الصمد بن سعيد الحمصي في تسمية من نزل حمص من الصحابة، وقال: كان ممن أكل الدم في الجاهلية، وصلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرني بذلك يزيد بن عبد الصمد. وقال الحاكم أبو أحمد: يقال: كان ممن صلى القبلتين، ويقال: أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم-يعني ولم يره-. وقال أحمد بن محمد بن عيسى، صاحب "تاريخ حمص": أدرك الجاهلية، وعاش إلى خلافة عبد الملك، وكان من أصحاب معاذ، ممن أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المفضل الغلابي عن ابن معين، في حديث أبي عِنَبَة: إنه ممن صلى القبلتين، قال أهل الشام: من كبار التابعين، وأنكروا أن له صحبة، وأنه مددي من أهل إليمن، أَمَدُّوا بهم في اليرموك. وقال أبو حاتم الرازي. هو من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. وذكره ابن سُمَيع فيهم. وذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة العليا التي تلي الصحابة، وقال: أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو زرعة: كان جاهليًّا، ولم تكن له صحبة، وقد صرح بسماع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال خليفة في الطبقة الثالثة من أهل الشام: مات أبو عِنَبَة سنة ثماني عشرة ومائة، كذا قال، وقد تقدم قول أحمد بن محمد بن عيسى: إنه مات في خلافة عبد الملك، وهو أشبه بالصواب. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، و (1110) حديث: "يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربّك الأعلى
…
" الحديث. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم موثّقون.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا حديثان فقط، كما مرّ بيان ذلك آنفًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن بكر بن زُرعة رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أبا عِنبةَ) تقدّم ضبطه قريبًا (الخُوْلَانِيَّ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو-: نسبة إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرّة بن أُدد بن يَشجب بن عَرِيب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وبعض الخولان يقولون: خولان بن عمرو بن إلحاف بن قُضاعة، وهي قبيلة نزلت الشام، يُنسب إليها جماعة من العلماء (1).
(وَكَانَ قَدْ صَلى القِبْلَتَيْنِ) أي إليهما، ففيه الحذف والإيصال، و"القبلتان": هما بيت المقدس، والكعبة (مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) فيه دليل على أنه صحابيّ، وهو الأصحّ، كما أشرت إليه في ترجمته السابقة، فقدَ عدّه جماعة من أهل العلم في الصحابة، منهم: البخاريّ، وابن سعد، وخليفة، والبغويّ (قَالَ) أي أبو عِنَبة (سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم) فيه تصريح بصحبته (يَقُولُ:"لَا يَزَالُ الله يَغْرِسُ) بفتح أوله، أو ضمّه، وكسر ثالثه، من الغَرْس، أو الإغراس، يقال: غَرَسَ الشجرَ، يَغْرِسه، من باب ضرب: أثبته في الأرض، كأغرسه. أفاده في "القاموس". وهو هنا كناية عن تثبيتهم على الحقّ، وتأييدهم بالحجج (في هَذَا الدِّينِ) أي الإسلاميّ، لأنه المراد عند الإطلاق، كما نصّ الله عز وجل عليه في كتابه العزيز، حيث قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 85]. وقوله: (غَرْسًا) -بفتح، فسكون- منصوب على أنه مفعول به لقوله: "يغرس"، وهو بمعنى مفعول، قال في "القاموس"، و"شرحه": الغَرْس -بالفتح-: الشجر المغروس، جمعه أَغْراس، وغِرَاس بالكسر. انتهى. والمراد هنا: القوم الذين يقيمهم الله تعالى لحفظ الدين، ويثبتهم بالإيمان واليقين (يَسْتَعْمِلُهُمْ في طَاعَتِهِ) أي ييسّر لهم أسباب طاعته، ويُنير لهم الطريق إلى نيل عنايته ومرضاته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
(1) راجع "الأنساب" 2/ 419 و"اللباب" 1/ 471.
والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي عِنَبة الخولانيّ رضي الله تعالى عنه هذا حسنٌ، من أجل الجرّاح، وبكر، فإنهما من رجال الحسن، كما يظهر مما تقدّم في ترجمتيهما، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنف هنا بهذا الإسناد فقط. وأخرجه أحمد 4/ 200، والبخاريّ في "التاريخ الكبير" 9/ 61، وابن حبّان في "صحيحه" رقم (326)، وابن عديّ في "الكامل" 58/ 2. وابن شاهين في "السنة" 18/ 47/ 1، وابن منده في "المعرفة" 2/ 1/1.
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، لكن الذي يظهر لي أن الإسناد حسن؛ لما عرفت من أن الجراح، وبكر بن زرعة صدوقان، فهما من رجال الحسن، فافهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو اتّباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك أن هؤلاء الذين يغرسهم الله تعالى إنما حصل لهم فضل الغرس بسبب اتّباعهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان مزيّة دين الإسلام، حيث تولى الله عز وجل حفظه بغرس أناس يقومون به حقّ القيام.
3 -
(ومنها): بيان فضل هذه الأمة، حيث إن الله عز وجل يستعمل طائفة منها في حفظ هذا الدين إلى قيام الساعة، وقد وقاها الله عز وجل أن تجتمع على ضلالة.
4 -
(ومنها): بيان عناية الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث ييسّر لهم أسباب الهداية، فهو الهادي إلى سواء السبيل، كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ
وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، وقال سبحانه:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الآية [الأنعام: 125]، وقال تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} الآية [الزمر: 22]، وقال تعالى:{اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]. اللهمّ اهدنا فيمن هديت، اللهمّ آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
9 -
(حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا الحجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ خَطِيبًا، فَقَالَ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا وَطَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ، لَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلهُمْ، وَلَا مَنْ نَصَرَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يعقوب بن حميد بن كاسب) المدنيّ، نزيل مكة، وقد يُنسب لجدّه، صدوقٌ، ربما وَهِم [10].
رَوَى عن زكريا بن منظور، وسعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، وإبراهيم بن سعد، وابن عيينة، وحاتم بن إسماعيل، ومروان بن معاوية، ومعتمر بن سليمان، ومغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، والوليد بن مسلم، وابن أبي فديك، ومَعْن بن عيسى، وأبي ضمرة، وعبد الرزاق، وآخرين.
ورَوَى عنه البخاري في "خلق أفعال العباد"، وروى في "الصلح"، وفي "فضل من شهد بدرًا"، من "صحيحه" عن يعقوب غير منسوب، عن إبراهيم بن سعد، فقيل: إنه يعقوب بن حميد هذا، وقيل يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقي، وقيل: يعقوب بن محمد الزهري، وقيل يعقوب بن إبراهيم بن سعد، والأول أشبه، وباقي الأقوال محتملة، إلا الأخير، فإن البخاري لم يلق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وابن ماجه، وأبو عبد الملك
البسري، وعباس العنبري، وأبو الوليد الأزرقي، وأبو خالد الرازي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، ومحمد بن وضاح، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي عاصم، وعباس بن الفضل الأسفاطي، وعلي بن طيفور النسوي، والقاسم بن عبد الله بن مهدي الأخميمي، وغيرهم. قال مضر بن محمد عن ابن معين: ثقة. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس بشيء. وقال في موضع آخر عنه: ليس بثقة، قلت: من أين قلت ذاك؟ قال: لأنه محدود، قلت: أليس هو في سماعه ثقة؟ قال: بلى. وقال عباس العنبري: يُوصل الحديث. وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: ثقة؟ فحرك رأسه، قلت: كان صدوقا في الحديث؟ قال: لهذا شروط. وقال أيضا: قلبي لا يسكن على ابن كاسب. وقال أبو حاتم. ضعيف الحديث. وقال البخاري: لم يزل خَيّرًا، هو في الأصل صدوق. وقال النسائي: ليس بشيء. وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وقال القاسم بن عبد الله بن مهدي: قلت لأبي مصعب: بمن توصيني بمكة، وعمن أكتب بها؟ فقال: عليك بشيخنا أبي يوسف، يعقوب بن حميد بن كاسب. وقال ابن عدي: لا بأس به، وبرواياته، وهو كثير الحديث، كثير الغرائب، وكتبتُ مسنده عن القاسم بن عبد الله بن مهديّ، وفيه من الغرائب، والنسخ والأحاديث العزيزة، وشيوخ من أهل المدينة من لا يروي عنهم غيره، وإذا نظرت إلى "مسنده" علمت أنه جَمّاع للحديث، صاحب حديث. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: كان يحفظ، ممن جمع، وصنّف، وربما أخطأ في الشيء بعد الشيء.
وحَكَى ابنُ أبي خيثمة عن ابن معين قصة الدُّوري معه مرة واحدة، وما به بأس، لولا أنه سفيهٌ، قال ابن أبي خيثمة: وقلت لمصعب الزبيري: إن ابن معين يقول في ابن كاسب: إن حديثه لا يجوز؛ لأنه محدود، فقال بئس ما قال، إنما حدّه الطالبيون في التحامل، وابن كاسب ثقة، مأمون، صاحب حديث، وكان من أمناء القضاة زمانا. وقال مسلمة: ثقة سكن مكة، وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. قال العقيلي عن زكريا بن يحيى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه، فسألته عنه؟ فقال: رأينا في "مسنده" أحاديث أنكرناها،
فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعدُ فوجدنا الأحاديث في الأصول مُغَيَّرةً بخط طَرِيّ، كانت مراسيل، فأسندها، وزاد فيها. وقال صالح جزرة: تكلم فيه بعض الناس. وقال الحاكم أبو عبد الله: لم يتكلم فيه أحد بحجة، وناظرني شيخنا أبو أحمد الحافظ -يعني الحاكم صاحب "الكنى"- وذكر أن البخاري رَوَى عنه في "الصحيح"، فقلت: إنما رَوَى عن يعقوب بن محمد الزهري، وثبت أبو أحمد على ما قال. انتهى. وبذلك جزم أبو إسحاق الحَبّال، وأبو عبد الله بن منده، وغيرهما. قال البخاري: مات سنة أربعين أو إحدى وأربعين ومائتين.
روى له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، روى له في هذا الكتاب (63) حديثًا.
2 -
(القاسم بن نافع) المدنيّ السُّوَارقيّ -بضمّ المهملة، وتخفيف الواو، وبالقاف: نسبة إلى السُّوَارِقِيّة، قرية من قُرَى المدينة، مستورٌ [9].
رَوَى عن الحجاج بن أرطاة، وجَسْر بن فَرْقَد القصاب، وهشام بن سعد، ومالك ابن أنس. ورَوَى عنه محمد بن الحسن بن زِبَالة، ويعقوب بن حميد بن كاسب، تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
3 -
(الحجّاج بن أرطاة) -بفتح الهمزة- ابن ثور بن هُبَيرة بن شَرَاحيل النخعيّ، أبو أرطاة الكوفي القاضي، أحد الفقهاء، صدوقٌ، كثير الخطإ والتدليس [7].
رَوَى عن الشعبي حديثا واحدًا، وعن عطاء بن أبي رَبَاح، وجَبَلَة بن سُحَيم، وزيد بن جبير الطائي، وعمرو بن شعيب، وسماك بن حرب، ونافع مولى ابن عمر، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي الزبير، والزهري، ومكحول، وقيل: لم يسمع منهما، ويحيى ابن أبي كثير، ولم يسمع منه، وجماعة.
ورَوَى عنه شعبة، وهُشيم، وابن نمير، والحمادان، والثوري، وحفص بن غياث، وغندر، وأبو معاوية، ويزيد بن هارون، وعدة، ورَوَى عنه منصور بن المعتمر، وهو من شيوخه، ومحمد بن إسحاق، وقيس بن سعد المكي، وهما من أقرانه، وغيرهم.
قال ابن عيينة: سمعت ابن أبي نَجِيح يقول: ما جاءنا منكم مثله -يعني الحجاج ابن أرطاة-. وقال الثوري: عليكم به، فإنه ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وقال العجلي: كان فقيها، وكان أحد مفتي الكوفة، وكان فيه تِيهٌ، وكان يقول: أهلكني حب الشرف، وولي قضاء البصرة، وكان جائز الحديث، إلا أنه صاحب إرسال، وكان يرسل عن يحيى بن أبي كثير، ومكحول، ولم يسمع منهما، وإنما يعيب الناس منه التدليس، قال: وكان حجاج راويا عن عطاء، سمع منه. وقال أبو طالب عن أحمد: كان من الحفاظ، قيل: فلم ليس هو عند الناس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ليس يكاد له حديث إلا فيه زيادة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صدوق ليس بالقوي، يدلس عن محمد بن عُبيد الله الْعَرْزَميّ، عن عمرو بن شعيب. وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق عندي سواء، وتركت الحجاج عمدًا، ولم أكتب عنه حديثا قط. وقال أبو زرعة: صدوق يدلس. وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه، وأما إذا قال: حدثنا فهو صالح، لا يرتاب في صدقه وحفظه، إذا بَيَّنَ السماع، ولا يحتج بحديثه، لم يسمع من الزهري، ولا من هشام بن عروة، ولا من عكرمة، وقال هشيم: قال لي الحجاج بن أرطاة: صِفْ لي الزهريّ، فإني لم أره. وقال ابن المبارك: كان الحجاج يُدَلِّس، فكان يحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب، مما يحدثه العرزمي متروك. وقال حماد بن زيد: قَدِم علينا جرير بن حازم من المدينة، فكان يقول: حدثنا قيس بن سعد، عن الحجاج بن أرطاة، فلبثنا ما شاء الله، ثم قَدِم علينا الحجاج ابن ثلاثين، أو إحدى وثلاثين، فرأيت عليه من الزحام ما لم أر على حماد بن أبي سليمان، رأيت عنده داود بن أبي هند، ويونس بن عبيد، ومطرًا الوراق جُثَاةً على أرجلهم، يقولون: يا أبا أرطاة ما تقول في كذا؟ وقال هشيم: سمعته يقول: استفتيتُ وأنا ابن ست عشرة سنة. وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: إنما عاب الناس عليه تدليسه عن الزهري وغيره، ربما أخطأ في بعض الروايات، فأما أن يتعمد الكذب فلا، وهو ممن يكتب حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: واهي
الحديث، في حديثه اضطراب كثير. وقال: صدوق، وكان أحد الفقهاء. وقال ابن حبان: سمعت محمد بن نصر، سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن عيسى بن يونس قال: كان الحجاج بن أرطاة لا يحضر الجماعة، فقيل له في ذلك، فقال: أحضر مسجدكم حتى يزاحمني فيه الحَمّالون والْبَقّالون. وقال الساجي: كان مدلسا صدوقا، سيىء الحفظ، ليس بحجة في الفروع والأحكام. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به إلا فيما قال أخبرنا، وسمعت. وقال ابن سعد: كان شريفا، وكان ضعيفا في الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال البزار: كان حافظا مدلسا، وكان مُعْجَبًا بنفسه، وكان شعبة يُثني عليه، ولا أعلم أحدًا لم يرو عنه -يعني ممن لقيه- إلا عبد الله ابن إدريس. وقال مسعود السِّجْزي عن الحاكم: لا يحتج به. وكذا قال الدارقطني. وقال ابن عيينة: كنا عند منصور بن المعتمر، فذكروا حديثًا، فقال: من حدثكم؟ قالوا: الحجاج بن أرطاة، قال: والحجاج يُكتب عنه؟ قالوا: نعم، قال: لو سكتم لكان خيرا لكم. وقال ابن حبان: تركه ابن المبارك، وابن مهدي، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: هذا القول فيه مجازفة، وأكثر ما نُقِم عليه التدليس، وكان فيه تِيهٌ لا يَلِيق بأهل العلم. انتهى. وقال إسماعيل القاضي: مضطرب الحديث؛ لكثرة تدليسه. وقال محمد بن نصر: الغالب على حديثه الإرسال، والتدليس، وتغيير الألفاظ. قال الهيثم: مات بخراسان مع المهدي. وقال خليفة: مات بالري. وأرخه ابن حبان في "الثقات" سنة (145). قال الحافظ: وقد رأيت له في البخاري رواية واحدة، متابعة تعليقا في "كتاب العتق". أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم مقرونًا بغيره، والأربعة، وله في هذا الكتاب (43) حديثًا.
4 -
(عمرو بن شُعيب) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي الحجازيّ الإمام المحدّث، أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الله المدني، ويقال: الطائفي، وقال أبو حاتم: سكن مكة، وكان يخرج إلى الطائف، وقال الذهبيّ: فقيه أهل الطائف، ومحدّثهم، وكان يتردّد كثيرًا إلى مكّة، وينشر العلم، وله مال
بالطائف، وأمه حبيبة بنت مُرّة الحجبيّة. انتهى (1). صدوقٌ [5].
رَوَى عن أبيه، وجُلُّ روايته عنه، وعمته زينب بنت محمد، وزينب بنت أبي سلمة، ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، والرُّبَيِّع بنت معوذ، وطاووس، وسليمان بن يسار، ومجاهد، وعطاء، والزهري، وسعيد المقبري، وعطاء بن سفيان الثقفي، وجماعة.
ورَوَى عنه عطاء، وعمرو بن دينار، وهما أكبر منه، والزهري، ويحيى بن سعيد، وهشام بن عروة، وثابت البناني، وعاصم الأحول، وقتادة، ومكحول، وحميد الطويل، وإبراهيم بن ميسرة، وأيوب السختياني، وحَرِيز بن عثمان، والزبير بن عَدِيّ، وأبو إسحاق الشيباني، وأبو الزبير المكي، ويحيى بن أبي كثير، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم من التابعين، ومنهم أيضا الأوزاعي، وابن جرير، ومحمد بن إسحاق، وحسين المعلم، والحكم بن عتيبة، وابن عون، وداود بن أبي هند، وعمرو بن الحارث المصري، ومطر الوراق، ويزيد بن الهاد، وعبد الله بن طاوس، وثور بن يزيد الحمصي، وحجاج بن أرطاة، وسليمان بن موسى، وعبد الرحمن بن حرملة، وعمارة بن غزية، والمثنى بن الصباح، وابن لهيعة، وآخرون.
قال صدقة بن الفضل: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: إذا رَوَى عنه الثقات، فهو ثقة، يحتج به. وقال علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد: حديثه عندنا واهٍ. وقال علي عن ابن عيينة: حديثه عند الناس فيه شيء. وقال أبو عمرو بن العلاء: كان يُعاب على قتادة، وعمرو بن شعيب أنهما كانا لا يسمعان شيئا إلا حدثا به. وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا. وقال الأثرم عن أحمد: أنا أكتب حديثه، وربما احتججنا به، وربما وَجَسَ في القلب منه شيء، ومالك يروي عن رجل عنه. وقال أبو داود عن أحمد ابن حنبل: أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
(1)"سير أعلام النبلاء" 5/ 165.
جده، وإذا شاءوا تركوه. وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، قال البخاري: مَنِ الناسُ بعدهم؟.
وأنكر الحافظ الذهبيّ هذه الحكاية، فقال: أستبعد صدور هذه الألفاظ من البخاريّ، أخاف أن يكون أبو عيسى وَهِم، وإلا فالبخاريّ لا يُعرّج على عمرو أفتراه يقول: فمن الناس بعدهم، ثم لا يُحتجّ به أصلًا، ولا متابعة؟ (1).
وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهو كتاب، ومن هنا جاء ضعفه، وإذا حدث عن سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار، أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال الدُّوري، ومعاوية بن صالح، عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: سألت ابن معين، فقال: ما أقول؟ رَوَى عنه الأئمة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك. وقال أبو زرعة: رَوَى عنه الثقات، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، وقال: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده، فرواها، وعامة المناكير تُروَى عنه إنما هي عن المثنى بن الصباح، وابن لهيعة، والضعفاء، وهو ثقة في نفسه، إنما تكلّم فيه بسبب كتاب عنده، وما أقل ما نُصيب عنه، مما رَوَى عن غير أبيه عن جده من المنكر. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده؟ فقال: عمرو أحب إليّ. وقال محمد بن علي الجوزجاني: قلت لأحمد: عمرو سمع من أبيه شيئا؟ قال: يقول: حدثني أبي، قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، أراه قد سمع منه. وقال الآجري: قلت لأبي داود: عمرو بن شعيب عندك حجة؟ قال: لا، ولا نصف حجة. وقال جرير: كان مغيرة لا يعبأ بصحيفة عبد الله بن عمرو. وقال الحسن
(1) راجع "سير أعلام النبلاء" 5/ 167.
ابن سفيان عن إسحاق بن راهويه: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ثقة، فهو كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر. قال أيوب بن سويد، عن الأوزاعي: ما رأيت قرشيا أفضل، وفي رواية أكمل من عمرو بن شعيب. وقال العجلي، والنسائي: ثقة. وقال أبو جعفر، أحمد بن سعيد الدارمي: عمرو بن شعيب ثقة، رَوَى عنه الذين نظروا في الرجال، مثل أيوب، والزهري، والحكم، واحتج أصحابنا بحديثه، وسمع أبوه من عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: صح سماع عمرو من أبيه، وصح سماع شعيب من جده. وقال الدارقطني: لعمرو بن شعيب ثلاثة أجداد: الأدنى منهم محمد، ومحمد لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من جده عبد الله، فإذا بَيَّنَهُ وكشفه، فهو صحيح حينئذ، ولم يَترُك حديثه أحد من الأئمة.
وقال الدارقطني أيضًا: قال النقاش: عمرو بن شعيب ليس من التابعين، وقد روى عنه عشرون من التابعين، قال الدارقطني: فتتبعتهم فوجدتهم أكثر من عشرين. قال المزي: كأن الدارقطني وافق النقاش على أنه ليس من التابعين، وليس كذلك، فقد سمع من زينب بنت أبي سلمة، والرُّبَيّع بنت مُعَوِّذ، ولهما صحبة. وقال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس، وثقاتهم، وجماعة من الضعفاء، إلا أن أحاديثه عن أبيه، عن جده، مع احتمالهم إياه لم يُدخلوها في صحاح ما خَرَّجوا، وقالوا: هي صحيفة.
قال الحافظ: عمرو بن شعيب ضعفه ناس مطلقا، ووثقه الجمهور، وضعف بعضهم روايته عن أبيه عن جده حسبُ، ومن ضعفه مطلقا، فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه، فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ عن، فإذا قال: حدثني أبي، فلا ريب في صحتها كما يقتضيه كلام أبي زرعة المتقدم، وأما رواية أبيه عن جده، فإنما يعني بها الجد الأعلى، عبد الله بن عمرو، لا محمد بن عبد الله، وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله في أماكن، وصح سماعه منه كما تقدم، وكما روى حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شعيب، قال: سمعت عبد الله بن عمرو، فذكر حديثًا،
أخرجه أبو داود من هذا الوجه.
وفي رواية عمرو ما يدلّ على أنّ المراد بجدّه هو عبد الله بن عمرو، فمن ذلك رواية حسين المعلم، عن عمرو، عن أبيه، عن جده، قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيا ومنتعلًا"، رواه أبو داود، وبهذا السند:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدًا"، رواه الترمذي، وبه:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة"، رواه ابن ماجه (1).
ومن ذلك: هشام بن الغاز، عن عمرو، عن أبيه، عن جده قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخِر
…
" الحديث، رواه ابن ماجه (2).
ومن ذلك محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بكلمات من الفزع
…
" الحديث، رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم.
وهذه قطعة من جملة أحاديث تُصَرّح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو، لكن هل سمع منه جميع ما رَوَى عنه أم سمع بعضها، والباقي صحيفة، الثاني أظهر عندي، وهو الجامع لاختلاف الأقوال فيه، وعليه ينحط كلام الدارقطني، وأبي زرعة، وأما اشتراط بعضهم أن يكون الراوي عنه ثقة، فهذا الشرط معتبر في جميع الرواة، لا يختص به عمرو، وأما قول ابن عدي: لم يُدخلوها في صحاح ما خرّجوا، فيرد عليه إخراج ابن خزيمة له في "صحيحه"، والبخاري في "جزء القراءة خلف الإمام" على سبيل الاحتجاج، وكذلك النسائي، وكتابه عند ابن عدي معدود في الصحاح، ولكن ابن عدي عَنَى غير "الصحيحين"(3) فيما أظن، فليس فيهما لعمرو شيء.
(1) سيأتي في "كتاب الصلاة" برقم (931).
(2)
سيأتي في "كتاب اللباس" برقم (3603).
(3)
هكذا نسخة "تهذيب التهذيب"، والظاهر أن الصواب "عنَى "الصحيحين" بحذف لفظة "غير"، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.
وقد أنكر جماعة أن يكون شعيب سمع من عبد الله بن عمرو، وذلك مردود بما تقدم، ومن ذلك قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت علي بن المديني عن عمرو بن شعيب؟ فقال: ما روى عنه أيوب، وابن جريج، فذا كله صحيح، وما رَوَى عن أبيه عن جده، فهو كتاب وَجَدَهُ، فهو ضعيف. وقال ابن عدي: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة، إلا أنه إذا روى عن أبيه عن جده يكون مرسلًا؛ لأن جده محمدًا لا صحبة له. وقال ابن حبان في "الضعفاء": إذا روى عمرو عن طاوس، وسعيد بن المسيب، وغيرهما من الثقات، فهو ثقة، يجوز الاحتجاج به، وإذا رَوَى عن أبيه، عن جده، فإن شعيبا لم يلق عبد الله، فيكون منقطعا، وإن أراد بجده محمدا، فهو لا صحبة له، فيكون مرسلًا، والصواب أن يُحَوَّل عمرو إلى "كتاب الثقات"، فأما المناكير في روايته فتُترك.
وقال الدارقطني: لمّا حكى كلام ابن حبان: هذا خطأ، قد رَوَى عبيد الله بن عمر العمري، وهو من الأئمة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت عند عبد الله بن عمرو، فجاء رجل، فاستفتاه في مسألة، فقال لي: يا شعيب امْضِ معه إلى ابن عباس
…
، فذكر الحديث.
قلت وقد أسند ذلك الدارقطني في "السنن"، قال: ثنا أبو بكر بن زياد النيسابوري، ثنا محمد بن يحيى الذهلي وغيره، قالوا: ثنا محمد بن عبيد، ثنا عبيد الله بن عمر. ورواه الحاكم أيضا من هذا الوجه. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت هارون ابن معروف يقول: لم يسمع عمرو من أبيه شيئًا، إنما وجده في كتاب أبيه، قال ابن أبي خيثمة: قلت ليحيى بن معين: أليس قد سمع من أبيه؟، قال: بلى، قلت: إنهم ينكرون ذلك، فقال: قال أيوب: حدثني عمرو، فذكر أبا عن أب إلى جده، قد سمع من أبيه، ولكنهم قالوا حين مات عمرو بن شعيب: عن أبيه عن جده إنما هذا كتاب، قال الحافظ: يشير ابن معين بذلك إلى حديث إسماعيل ابن علية، عن أيوب، حدثني عمرو ابن شعيب، حدثني أبي، عن أبيه، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو، فذكر حديث:
"لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبيع"، أخرجه أبو داود، والترمذي، من رواية ابن علية، عن أيوب.
ورَوَى النسائي من حديث ابن طاوس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن أبيه محمد بن عبد الله بن عمرو، وقال مرة: عن أبيه، وقال مرة: عن جده، في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، ولم يأت التصريح بذكر محمد بن عبد الله بن عمرو في حديث، إلا في هذين الحديثين فيما وقفت عليه، وذلك نادر لا تعويل عليه، ولكن استدلّ ابن معين بذلك على صحة سماع عمرو من أبيه في الجملة. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح -يعني المصري-: عمرو سمع من أبيه، عن جدّه، وكُلُّه سماعٌ، عمرٌو يُثْبَتُ أحاديثه مقام التثبت. وقال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه، وما رَوَى عن أبيه، عن جده، لا حجة فيه، وليس بمتصل، وهو ضعيف، من قبيل أنه مرسل، وَجَدَ شعيب كتب عبد الله بن عمرو، فكان يرويها عن جده إرسالًا، وهي صحاح عن عبد الله بن عمرو، غير أنه لم يسمعها.
قال الحافظ: فإذا شَهِدَ له ابن معين أن أحاديثه صحاح، غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل. والله أعلم. وقال يعقوب بن شيبة: ما رأيت أحدا من أصحابنا، ممن ينظر في الحديث، وينتقي الرجال يقول في عمرو بن شعيب شيئًا، وحديثه عندهم صحيح، وهو ثقة ثبت، والأحاديث التي أنكروا من حديثه، إنما هي لقوم ضعفاء، رَوَوها عنه، وما رَوَى عنه الثقات فصحيح، قال: وسمعت علي بن المديني يقول: قد سمع أبوه شعيب من جده عبد الله بن عمرو. وقال علي ابن المديني: وعمرو بن شعيب وعندنا ثقة، وكتابه صحيح. وقال الشافعي -فيما أسنده البيهقي في "المعرفة" عنه، يخاطب الحنفية، حيث احتجوا عليه بحديث لعمرو بن شعيب-: عمرو بن شعيب قد رَوَى أحكامًا توافق أقاويلنا، وتخالف أقاويلكم عن الثقات، فرددتموها، ونسبتموه إلى الغلط، فأنتم محجوجون إن كان ممن ثبت حديثه، فأحاديثه التي وافقناها، وخالفتموها، أو أكثرها، وهي نحو ثلاثين حكما، حجة عليكم، وإلا فلا تحتجوا به، ولا سيما إن كانت الرواية
عنه لم تثبت. وقال الذهبي: كان أحد علماء زمانه، وقال: قيل: إن محمدا والد شعيب مات في حياة أبيه، فرباه جَدّه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما نقلت ترجمة عمرو بن شعيب بطولها؛ لكثرة الكلام فيه، والحقّ أنه ثقة، فإذا صرح بالتحديث، فأحاديثه صحاح، وأن المراد بجدّه جدّه الأعلى، وهو عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقد أوجز الحافظ رحمه الله خلاصة القول فيه، حيث قال فيما سبق من كلامه: فإذا شَهِدَ له ابن معين بأن أحاديثه صحاح، غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي أن يكون وجادةً صحيحةً، وهو أحد وجوه التحمل.
وأجاد الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "الميزان" حيث قال: قد أجبنا عن روايته عن أبيه، عن جدّه بأنها ليست بمرسلة، ولا منقطعة، أما كونها وجادة، أو بعضها سماع، وبعضها وجادة، فهذا محلّ نظر، ولسنا نقول: إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح، بل هو من قبيل الحسن. انتهى (1).
قال خليفة وغيره: مات سنة ثماني عشرة ومائة.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (70) حديثًا.
5 -
(أبوه) شُعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص الحجازي السهميّ، وقد ينسب إلى جده الطائفيّ، صدوق [3].
رَوَى عن جده، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية، وعبادة بن الصامت، وأبيه محمد بن عبد الله إن كان محفوظا.
ورَوَى عنه ابناه: عمرو، وعمر، وثابت البناني، ونسبه إلى جده، وأبو سَحَابَة زياد ابن عمرو، وسلمة بن أبي الحسام، وعثمان بن حكيم بن عطاء الخراساني.
ذكره خليفة في الطبقة الأولى من أهل الطائف. وذكره ابن حبان في "الثقات"،
(1)"ميزان الاعتدال" 5/ 323. طبعة دار الكتب العلميّة.
وذكر البخاري، وأبو داود، وغيرهما أنه سمع من جده، ولم يذكر أحد منهم أنه يروي عن أبيه محمد، ولم يذكر أحد لمحمد هذا ترجمة إلا القليل. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (65) حديثًا.
6 -
(معاوية) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبو عبد الرحمن الأموي، أسلم يوم الفتح، وقيل قبل ذلك، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وأخته أم حبيبة.
ورَوَى عنه جرير بن عبد الله البجلي، والسائب بن يزيد الكندي، وابن عباس، ومعاوية بن حُدَيج، ويزيد بن جارية، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وأبو إدريس الخولاني، وسعيد بن المسيب، وقيس بن أبي حازم، وعيسى بن طلحة، وأبو مِجْلَز، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جبير بن مطعم، وآخرون.
ولاه عمر بن الخطاب الشام بعد أخيه يزيد، فأقره عثمان مدة ولايته، ثم ولي الخلافة، قال ابن إسحاق: كان معاوية أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة. وقال يحيى بن بكير عن الليث: تُوفّي في رجب لأربع ليال بقين منه سنة ستين. وقال الوليد بن مسلم: مات في رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سنة ونصفا. وقيل: مات سنة تسع وخمسين. وقيل: مات وهو ابن ثمان وسبعين. وقيل: ابن ست وثمانين. أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (130) حديثًا، اتفق الشيخان منها على أربعة، انفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بخمسة، وله في هذا الكتاب ستة عشر حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) شعيب بن محمد، أنه (قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما (خَطِيبًا، فَقَالَ) رضي الله تعالى عنه (أَيْنَ عُلماؤُكُمْ) أي ليُصدّقوني فيما أقول (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) كرّره تأكيدًا (سَمِعْتُ رَسُولَ الله، يَقُولُ: "لا) نافية، ولهذا رُفع الفعل بعدها (تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة. وقوله:(إِلَّا وَطَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ) في محلّ نصب على الحال، أي إلا والحال أن طائفة منهم ظاهرون.
ومعنى ظهورهم غلبتهم، وقهرهم، والمراد بالناس أعدائهم الكفّار.
قال صاحب "إنجاح الحاجة": لعلّ غرض معاوية بن أبي سفيان من رواية هذا الحديث بهذا الاهتمام الاستدلال على حقّيّته، وحقّيّة أشياعه وأتباعه؛ لأن الطائفة الظاهرة الغالبة المنصورة في زمانه لم يكن إلا هو وأتباعه، فلو لم تكن تلك الطائفة على الحقّ قوّامة على أمر الله لما صدق هذا الحديث. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الاستدلال نظرٌ لا يخفى. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: "ظاهرون" هكذا نسخ "ابن ماجه" بالرفع، وهو الظاهر؛ لأنه خبر لطائفةٌ، فما كتبه الدكتور بشار فيما كتبه على هذا الكتاب من تصويبه "ظاهرين" بالنصب فمما لا وجه له، إلا بتكلّف، لا داعي له، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتهوّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": اتفق الشراح على أن معنى قوله: "ظاهرون على من خالفهم" أن المراد عُلُوّهم عليهم بالغلبة، وأبعد من أبدع، فرد على من جعل ذلك منقبة لأهل الغرب أنه مذمة؛ لأن المراد بقوله:"ظاهرين على الحق" أنهم غالبون له، وأن الحق بين أيديهم كالميت، وأن المراد بالحديث ذم الغرب، وأهله لا مدحهم. انتهى.
(لَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلهُمْ) أي ترك معاونتهم، ونصرهم (وَلَا) يبالون أيضًا (مَنْ نَصَرَهُمْ) أي إنهم لقوّة إيمانهم، وكمال توكّلهم على ربّهم لا يلتفتون إلى غيره سبحانه وتعالى، فلا يعتمدون على إقبال من أقبل عليهم، ولا يتأثّرون على إدبار من أدبر منهم، بل هم دائمًا مستمرّون على نشر الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث معاوية رضي الله تعالى عنه هذا إسناده ضعيف؛ لأن فيه القاسمَ بنَ نافع، مجهول الحال، لم يرو عنه سوى اثنين، ولم يوثّقه أحد، وقال الذهبيّ في "الميزان": لا
يُعرف؟، لكن الحديث صحيح، فقد أخرجه الشيخان من طريق عُمير بن هانىء، عن معاوية رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "العلم" 25، و"الاعتصام بالكتاب والسنة"7312 و (مسلم) في الإمارة" 1037، و"أحمد" 4/ 101، وأما فوائده فقد تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
10 -
(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسماءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحقِّ، مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله عز وجل").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هشام بن عمّار) السلميّ الدمشقيّ المذكور في 1/ 5.
2 -
(محمد بن شعيب) بن شابور -بالمعجمة، والموحّدة- الأمويّ مولاهم، أبو عبد الله الدمشقيّ، نزيل بيروت، صدوقٌ، صحيح الكتاب، من كبار [9].
رَوَى عن الأوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وسعيد بن بشير، وخالد بن دِهْقان، وسعيد بن عبد العزيز التَّنُوخي، وعبد الرحمن بن حسان الكناني، وإبراهيم بن سليمان الأفطس، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن المبارك، ومات قبله، والوليد بن مسلم، وهو من أقرانه، وإسحاق بن إبراهيم الفراديسي، ومروان بن محمد الطاطري، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، وصفوان بن صالح المؤذن، ومحمد بن مصفى، ومحمد بن هاشم البعلبكي، ومؤمل بن الفضل الحراني، ونصر بن عاصم الأنطاكي، وهشام بن عمار، وبقية، وعمران بن يزيد، وآخرون.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: ما أرى به بأسًا، وما علمت إلا خيرًا. وقال عبد الله ابن أحمد عن أبيه نحوه، وزاد: كان رجلا عاقلا. وقال هشام بن مرثد: سمعت ابن معين يقول: كان مرجئا، وليس به في الحديث بأس. وقال إسحاق بن راهويه: روى ابن المبارك عن محمد بن شعيب بن شابور، فقال: أنا الثقة من أهل العلم، محمد بن شعيب، وكان يسكن بيروت. وقال ابن عمار ودحيم: ثقة، زاد دحيم: والوليد كان أحفظ منه، وكان محمد إذا حدث بالشيء من كتبه، كان حديثا صحيحًا. وقال أبو حاتم: هو أثبت
من محمد بن حرب، ومحمد بن حمير، وبقية. وقال الآجري عن أبي داود: محمد بن شعيب في الأوزاعي ثبت. وقال ابن عدي: الثقات من أهل الشام، فعده فيهم. وقال العجلي: شامي ثقة. وقال الذهبي في "الميزان": ما علمت به بأسًا. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وُلد سنة ست عشرة ومئة، ومات سنة مائتين، وكذا قال ابن أبي عاصم عن دحيم في سنة وفاته. وقال الحسن بن محمد بن بكار: مات سنة ست أو (97). وقال هشام بن عمار: مات سنة (98). وقال محمد بن مصفى: مات سنة تسع وتسعين ومائة. أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث.
3 -
(سعيد بن بشير) الأزديّ مولاهم، أبو عبد الرحمن، أو أبو سلمة الشاميّ، أصله من البصرة، أو واسط، لا بأس به (1)[8].
رَوَى عن قتادة، والزهري، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عمر، وعبد العزيز ابن صهيب، والأعمش، وأبي الزبير، ومطر الوراق، وجماعة. ورَوَى عنه بقية، وأسد ابن موسى، ورواد بن الجراح، ومحمد بن شعيب بن شابور، وأبو مسهر، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان قدريا. وقال البخاري ومسلم: نراه أبا عبد الرحمن الذي رَوَى هشيم عنه عن قتادة. وقال بقية عن شعبة: ذاك صدوق اللسان. وفي رواية صدوق اللسان في الحديث. قال بقية: فحدثت به سعيد بن عبد العزيز، فقال لي: بُثَّ هذا يرحمك الله في جندنا، فإن الناس عندنا كأنهم ينتقصونه. وقال أبو حاتم: قلت لأحمد بن صالح: سعيد بن بشير دمشقي، كيف هذه الكثرة عن قتادة؟ قال: كان أبوه
(1) قال عنه في "التقريب": ضعيف، وعندي أن إطلاق الضعف عليه محلّ نظر، وإن تكلم فيه كثيرون، فقد وثقه شعبة، ودُحيم، وقال البزّار: صالح، ليس به بأس، حسن الحديث. وقال أبو حاتم، وأبو زرعة: محلّه الصدق عندنا، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي ينكر على من أدخله في كتاب الضعفاء، وقال: يُحوّل منه. وقال البخارىّ: يتكلّمون في حفظه، وهو مُحتَملٌ. انتهى. فمثل هذا لا ينبغي إطلاق الضعف عليه، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، فليتأمل. والله تعالى أعلم.
شريكا لأبي عروبة، فأقدم بشير ابنه سعيدًا البصرة، فبقي يطلب مع سعيد بن أبي عروبة. وقال مروان بن محمد: سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا سعيد بن بشير، وكان حافظا. وقال يعقوب بن سفيان: سألت أبا مسهَر عنه؟ فقال: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف، منكر الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي مسهر: كان سعيد بن بشير قدريا، قال: معاذ الله. قال: وسألت عبد الرحمن بن إبراهيم، عن قول من أدرك فيه، فقال: يوثقونه، وسألته عن محمد بن راشد، فقدم سعيدا عليه. وقال عثمان الدارمي: سمعت دُحيما يوثقه، وسألته عن محمد بن راشد، فقدم سعيدا عليه. وقال سعيد بن عبد العزيز: كان حاطب ليل. وقال عمرو بن علي، ومحمد بن المثنى: حدث عنه ابن مهدي، ثم تركه، وكذا قال أبو داود عن أحمد. وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يضعف أمره. وقال الدُّوري وغيره عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عثمان الدارمي وغيره عن ابن معين. ضعيف. وقال علي بن المديني: كان ضعيفا. وقال محمد ابن عبد الله بن نمير: منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات. وقال البخاري: يتكلمون في حفظه، وهو محُتَمَل. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: محله الصدق عندنا، قلت لهما: يحتج بحديثه؟ قالا: يحتج بحديث أبي عروبة، والدستوائي، هذا شيخ يُكتب حديثه. وقال النسائي: ضعيف. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال الساجي: حَدّث عن قتادة بمناكير. وقال الآجري عن أبي داود: ضعيف. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطإ، يروي عن قتادة ما لا يُتابَع عليه، وعن عمرو بن دينار ما ليس يُعرف من حديثه، ومات وله (89) سنة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لم يُدرِك الحكم بن عتيبة. وقال أبو بكر البزار: هو عندنا صالح، ليس به بأس. وقال ابن عديّ. له عند أهل دمشق تصانيف، ولا أرى بما يرويه بأسًا، ولعله يَهِم في الشيء بعد الشيء، ويَغلَط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق. قال "أبو الجماهر وغيره: مات سنة (168). وقال الوليد وغيره: مات سنة (69). وقال ابن سعد: مات سنة (70). أخرج
له الأربعة، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث.
4 -
(قتادة) بن دعامة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سَدُوس، أبو الخطاب السدوسي البصري، وُلد أكمه، ثقة ثبتٌ، رأس الطبقة [4].
رَوَى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن سَرْجِسَ، وأبي الطفيل، وصفية بنت شيبة، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وحميد بن عبد الرحمن ابن عوف، والشعبي، وعبد الله بن شقيق، وغيرهم.
ورَوَى عنه أيوب السختياني، وسليمان التيمي، وجرير بن حازم، وشعبة، ومسعر، ويزيد بن إبراهيم التستري، ويونس الإسكاف، وأبو هلال الراسبي، وهشام الدستوائي، ومطر الوراق، وهمام بن يحيى، وعمرو بن الحارث المصري، وغيرهم.
قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: إنه أقام عند سعيد بن المسيب ثمانية أيام، فقال له في اليوم الثالث: ارتَحِلْ يا أعمى، فقد أَنْزَفْتَنِي. وقال سلام بن مسكين: حدثني عمرو بن عبد الله، قال: لمّا قدم قتادة على سعيد بن المسيب، فجعل يسأله أيامًا وأكثر، فقال له سعيد: أكلَّ ما سألتني عنه تحفظه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وقال فيه الحسن كذا، حتى رَدَّ عليه حديثا كثيرا، قال: فقال سعيد: ما كنت أظن أن الله خلق مثلك. وعن سعيد بن المسيب قال: ما أتاني عراقي أحسن من قتادة. وقال بكر بن عبد الله المزني: ما رأيت الذي هو أحفظ منه، ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه. وقال ابن سيرين: قتادة هو أحفظ الناس. وقال مطر الوراق: كان قتادة إذا سمع الحديث أخذه الْعَوِيل والزَّوِيل حتى يحفظه. وقال معمر: قال قتادة لسعيد بن أبي عروبة: خذ المصحف، قال: فعرض عليه سورة البقرة، فلم يخطئ فيها حرفا واحدا، قال: يا أبا النضر: أحكمت؟ قال: نعم، قال: لأنا بصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة، قال: وكانت قرئت عليه، وقال الأثرم: سمعت أحمد يقول: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئا إلا حفظه، وقُرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة، فحفظها، وكان سليمان التيمي، وأيوب يحتاجون إلى حفظه، ويسألونه،
وكان له خمس وخمسون سنة يوم مات.
وقال ابن حبان في "الثقات": كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حفاظ أهل زمانه، مات بواسط سنة (117)، وكان مدلسا على قَدَر فيه. وقال عمرو بن علي: وُلد سنة (61)، ومات سنة سبع عشرة ومائة. وقال أبو حاتم: تُوفي بواسط في الطاعون، وهو ابن ست، أو سبع وخمسين سنة، بعد الحسن بسبع سنين. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى ابن سعيد: مات سنة (117) أو (18). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (154) حديثًا.
5 -
(أبو قلابة) عبد الله بن زيد بن عمرو، ويقال: عامر بن ناتل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد، أبو قلابة الجرمي البصري، أحد الأعلام، ثقة فاضلٌ، كثير الإرسال [3].
رَوَى عن ثابت بن الضحاك الأنصاري، وسمرة بن جندب، وأبي زيد عمرو بن أخطب، وعمرو بن سلمة الجرمي، ومالك بن الحويرث، وزينب بنت أم سلمة، وأنس ابن مالك الأنصاري، وغيرهم.
ورَوَى عنه أيوب، وخالد الحذاء، وأبو رجاء سلمان مولى أبي قلابة، ويحيى بن أبي كثير، وأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، وعاصم الأحول، وغيلان بن جرير، وطائفة.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: كان ثقة كثير الحديث، وكان ديوانه بالشام. وقال علي بن أبي حملة: قلنا لمسلم بن يسار: لو كان بالعراق أفضل منك لجاءنا الله به، فقال: كيف لو رأيتم أبا قلابة؟. وقال مسلم أيضا: لو كان أبو قلابة من العجم، لكان مُوْبذ مُوْبذان -يعني قاضي القضاة-. وقال ابن سيرين ذاك أخي حقّا. وقال ابن عون: ذَكَرَ أيوب لمحمد حديثا عن أبي قلابة، فقال: أبو قلابة -إن شاء الله- ثقة، رجل صالح، ولكن عمن ذكره أبو قلابة؟. وقال أيوب: كان والله من الفقهاء، ذوي الألباب، ما أدركت بهذا المصر رجلا كان أعلم بالقضاء من أبي قلابة، ما
أدري ما محمد. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وكان يحمل على علي، ولم يرو عنه شيئا، ولم يسمع من ثوبان. وقال أبو حاتم: لا يعرف له تدليس (1). وقال ابن خراش: ثقة. وقال عمر بن عبد العزيز: لن تزالوا بخير يا أهل الشام ما دام فيكم هذا. قال ابن المديني: مات أبو قلابة بالشام. وقال ابن يونس: مات بالشام سنة أربع ومائة، وكذا أرخه غيره. وقال الواقدي: تُوفي سنة (4) أو خمس. وقال ابن المديني: مات سنة (4) أو سبع. وقال ابن معين: أرادوه على القضاء، فهرب إلى الشام، فمات بها سنة (6) أو (7). وقال الهيثم بن عدي: مات سنة (107). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (27) حديثًا.
6 -
(أبو أسماء الرحبيّ) عمرو بن مرثد الدمشقي، وقال ابن سميع: اسم أبيه أسماء. رَوَى عن ثوبان، وأبي ذر، وشداد بن أوس، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخشني.
ورَوَى عنه أبو الأشعث الصنعاني، وأبو قلابة الجرمي، وشداد أبو عَمّار، ومكحول الشامي، وراشد بن داود الصنعاني، ويحيى بن الحارث الذماري، وربيعة بن يزيد القصير، وصالح بن جبير.
قال العجلي: شامي تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن زبر: "الرَّحَبيّ-: نسبة إلى رحبة دمشق، قرية من قراها، بينها وبين دمشق ميل، رأيتها عامرة. وذكر أبو سعد بن السمعاني أنه من رَحَبَة حمير، وقال: مات في خلافة عبد الملك بن مروان. ويُروَى عن أبي داود أن اسم أبي أسماء الرحبي عبد الله. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث.
7 -
(ثوبان) بن بُجْدُد، ويقال: ابن جَحْدَر، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن الهاشمي، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: أصله من اليمن، أصابه سِبَاء، فاشتراه النبي صلى الله عليه وسلم،
(1) هذا يردّ قول الذهبي في "الميزان" جـ 2 ص 425 - 426: ثقة في نفسه إلا أنه يدلّس عمن لَحِقه، وعمن لم يلحقه، وكان له صُحُفٌ يُحدّث فيها ويدلّس انتهى.
فأعتقه، وقال:"إن شئت أن تَلْحَق بمن أنت منهم فعلت، وإن شئت أن تثبت، فأنت منا أهل الييت"، فثبت، ولم يزل معه في سفره وحضره، ثم خرج إلى الشام، فنزل الرملة، ثم حمص، وابتنى بها دارا، ومات بها في إمارة عبد الله بن قُرْط، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو أسماء الرحبي، ومعدان بن أبي طلحة اليعمري، وأبو حي المؤذن، وراشد ابن سعد، وجُبير بن نُفير، وعبد الرحمن بن غَنْم، وأبو عامر الألهاني، وأبو إدريس الخولاني، وجماعة. قال صاحب "تاريخ حمص": بلغنا أن وفاته كانت سنة (54)، وكذا قال ابن سعد، وغير واحد، أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا، وشرح الحديث، وفوائده تقدّمت في الأحاديث الماضية، فلا حاجة إلى إعادتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه هذا إسناده حسن، من أجل الكلام في سعيد ابن بشير، كما تقدّم في ترجمته، وأما متنه فقد أخرجه مسلم، كما سيأتي في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا (1/ 10) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "الجهاد" 6/ 52 عن سعيد بن منصور، وأبي الربيع الزهرانيّ، وقتيبة، ثلاثتهم عن حماد ابن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عنه. و (أبو داود)(4252) عن سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى، كلاهما عن حماد بن زيد به، و (الترمذيّ)(2229) في "الفتن" عن قُتيبة به، وزاد في أوله:"إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين"، وقال: حسنٌ صحيح. و (أحمد) 5/ 278 عن سليمان بن حرب به. و 5/ 279 عن يونس، عن حماد به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
11 -
(حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَالِدًا يَذْكُرُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَّ خَطًّا، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ في الخطِّ الْأَوْسَطِ، فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ الله، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبو سعيد، عبد الله بن سعيد) بن حصين الكنديّ، أبو سعيد الأشج الكوفي، ثقة، من صغار [10].
رَوَى عن إسماعيل ابن علية، وحفص بن غياث، وأبي أسامة، وعبد السلام بن حرب، وهشيم، وزياد بن الحسن بن فرات القزاز، وأبي بدر شجاع بن الوليد.
وروى عنه الجماعة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وجماعة.
قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس، ولكنه يروي عن قوم ضعفاء.
وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال مرة: الأشج إمام زمانه. وقال النسائي: صدوق، وقال مرة: ليس به بأس. وقال محمد بن أحمد بن بلال الشطوي: ما رأيت أحفظ منه. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الخليلي، ومسلمة بن قاسم: ثقة. وقال اللالكائي وغيره: مات سنة سبع وخمسين ومائتين. وأرخه ابن قانع سنة (6). وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ ثمانية، ومسلم سبعين حديثًا، وله في هذا الكتاب (44) حديثًا.
2 -
(أبو خالد الأحمر) سليمان بن حيان الأزدي الكوفي الجعفري، نزل فيهم، ووُلد بجرجان، صدوقٌ يُخطىء [8].
رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وداود بن أبي هند، وابن عون.
ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وآدم بن أبي إياس، وأسد بن موسى، والفريابي، وأبو كريب، وأبو سعيد الأشج، وجماعة، وحَدّث عنه محمد بن إسحاق،
وهو من شيوخه، وآخر من روى عنه حميد بن الربيع.
قال إسحاق بن راهويه: سألت وكيعا عن أبي خالد، فقال: وأبو خالد ممن يسأل عنه؟. وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة. وكذا قال ابن المديني. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: ليس به بأس. وكذا قال النسائي. وقال عباس الدوري، عن ابن معين: صدوق، وليس بحجة. وقال أبو هشام الرفاعي: ثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الخطيب: كان سفيان يعيب أبا خالد؛ لخروجه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأما أمر الحديث، فلم يكن يطعن عليه فيه. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وإنما أُتِي من سوء حفظه، فيَغْلَط، ويخطىء، وهو في الأصل -كما قال ابن معين- صدوق، وليس بحجة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: ثقة ثبت صاحب سنة، وكان متحرفًا، يواجر نفسه من التجار، وكان أصله شاميا، إلا أنه نشأ بالكوفة. وقال أبو بكر البزار في كتاب "السنن" ليس ممن يلزم زيادته حجة؛ لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظا، وأنه قد رَوَى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يتابع عليها. قال هارون بن حاتم: سألت أبا خالد: متى وُلدت؟ قال سنة (114). قال هارون: ومات سنة (190). وقال ابن سعد، وخليفة: مات سنة تسع وثمانين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا.
3 -
(مجالد) -بضمّ أوله، وتخفيف الجيم- ابن سعيد بن عمير بن بِسطام بن ذي مُرّان بن شُرَحبيل بن ربيعة بن مَرْثَد بن جُشَم الهمداني -بسكون الميم- أبو عمرو، ويقال: أبو سعيد الكوفي، ليس بالقويّ، وقد تغيّر في آخر عمره، من صغار [6].
رَوَى عن الشعبي، وقيس بن أبي حازم، وأبي الوَدّاك جبر بن نوف، وغيرهم.
وروى عنه ابنه إسماعيل، وإسماعيل بن أبي خالد، وهو من أقرانه، وجرير بن حازم، وشعبة والسفيانان، وابن المبارك، وغيرهم.
قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وكان
أحمد بن حنبل لا يراه شيئا. وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: مجالد، قال: في نفسي منه شيء. وقال أحمد بن سنان القطان: سمعت ابن مهدي يقول: حديث مجالد عند الأحداث، أبي أسامة وغيره، ليس بشيء، ولكن حديث شعبة، وحماد بن زيد، وهشيم، وهؤلاء -يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره-. وقال عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول لبعض أصحابه: أين تذهب؟ قال: إلى وهب بن جرير، أكتُب السيرة عن أبيه، عن مجالد، قال: تكتب كذبا كثيرا، لو شئتُ أن يجعلها إلي مجالد كلها عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله فعل. وقال أبو طالب عن أحمد: ليس بشيء، يرفع حديثا كثيرا، لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس. وقال الدوري عن ابن معين: لا يحتج بحديثه. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف، واهي الحديث، كان يحيى بن سعيد يقول: لو أردت أن يرفع لي مجالد حديثه كله رفعه، قلت: ولِمَ يرفعه؟ قال: للضعف. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي يحتج بمجالد؟ قال: لا، وهو أحب إلي من بشر ابن حرب، وأبي هارون العبدي، وشهر بن حوشب، وعيسى الخياط، وداود الأوديّ، وليس مجالد بقوي في الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه مرة. وقال ابن عدي: له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة، وعن غير جابر، وعامة ما يرويه غير محفوظة. وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة أربع وأربعين ومائة في ذي الحجة. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه، وهو صدوق. وقال الدارقطني: يزيد بن أبي زياد أرجح منه، ومجالد لا يعتبر به. وقال الساجي: قال محمد بن المثنى: يحتمل حديثه؛ لصدقه. وقال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، إلا أن ابن مهدي كان يقول: أشعث بن سوار كان أقرأ منه. قال العجلي: بل مجالد أرفع من أشعث، وكان يحيى بن سعيد يقول: كان مجالد يُلَقِّن في الحديث إذا لُقِّن. وقال البخاري: صدوق. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. أخرج له الجماعة، إلا البخاريّ، وحديثه عند مسلم مقرون، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
4 -
(الشعبيّ) -بفتح الشين المعجمة- عامر بن شراحيل بن عبد، وقيل: عامر بن
عبد الله بن شَرَاحيل الشعبي الحميري، أبو عمرو الكوفي، من شعب هَمْدَان، ثقة مشهورٌ فقيه فاضل [3].
رَوَى عن علي، وسعد بن أبي وقاص، وعبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وأبي جحيفة السوائي، والنعمان بن بشير، وأبي ثعلبة الخشني، وجرير بن عبد الله البجلي، وغيرهم من الصحابة، والتابعين.
ورَوَى عنه أبو إسحاق السبيعي، وسعيد بن عمرو بن أشوع، وإسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، وأشعث بن سوار، وتوبة العنبري، وحصين بن عبد الرحمن، وداود بن أبي هند، وقتادة، ومجالد بن سعيد، وأبو حيان التيمي، وجماعات.
قال منصور الْغُدَاني عن الشعبي: أدركت خمسمائة من الصحابة. وقال أشعث بن سَوّار: نَعَى لنا الحسنُ الشعبيَّ، فقال: كان والله كثير العلم، عظيم الحلم، قديم السلم، من الإسلام بمكان. وقال عبد الملك بن عمير: مَرّ ابن عمر على الشعبي، وهو يحدث بالمغازي، فقال: لقد شهدت القوم، فلهو أحفظ لها، وأعلم بها. وقال مكحول: ما رأيت أفقه منه. وقال أبو مجلز: ما رأيت فيهم أفقه منه. وقال ابن عيينة: كانت الناس تقول بعد الصحابة ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وغير واحد: الشعبي ثقة. وقال العجلي: سمع من ثمانية وأربعين من الصحابة، وهو أكبر من أبي إسحاق بسنتين، وأبو إسحاق أكبر من عبد الملك بسنتين، ولا يكاد الشعبي يرسل إلا صحيحا. وقال أبو جعفر الطبري في "طبقات الفقهاء": كان ذا أدب وفقه وعلم، وكان يقول: ما حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر الناس إليه، ولا ضربت مملوكا لي قط، وما مات ذو قرابة لي، وعليه دين إلا قضيته عنه. وحكى ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن أبي حصين قال: ما رأيت أعلم من الشعبي، فقال له أبو بكر بن عياش: ولا شُريح؟ فقال: تريدني أن أكذب، ما رأيت أعلم من الشعبي. وقال أبو إسحاق الحبال: كان واحد زمانه في فنون العلم، قال ابن معين: قضى
الشعبي لعمر بن عبد العزيز.
قيل: مات سنة (3)، وقيل:(4)، وقيل:(5)، وقيل:(6)، وقيل:(7)، وقيل: عشرة ومائة. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد القطان: مات قبل الحسن بيسير، ومات الحسن بلا خلاف سنة (110)، واختلف في سنّه، فقيل:(77)، وقيل:(79)، وقيل:(82)، والمشهور أن مولده كان لست سنين خلت من خلافة عمر. فعلى القول الأخير في وفاته وعلى المشهور من مولده يكون بلغ تسعين سنة. وقد قال أبو سعد بن السمعاني: وُلد سنة عشرين، وقيل: سنة (31)، ومات سنة (109). وحكى ابن سعد عن الشعبي قال: وُلدت سنة جَلُولاء يعني سنة (19). وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان فقيها شاعرا، مولده سنة (20)، ومات سنة (109) على دُعابة فيه.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (60) حديثًا.
5 -
(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الخزرجي السَّلَمِيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جماعة من الصحابة.
رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي عبيدة، وطلحة، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وأبي بردة بن نيار، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد الله بن أنيس، وأبي حميد الساعدي، وأم شريك، وأم مالك، وأم مبشر من الصحابة، وأم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وهي من التابعين.
ورَوَى عنه أولاده: عبد الرحمن، وعقيل، ومحمد، وسعيد بن المسيب، ومحمود بن لبيد، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وأبو جعفر الباقر، وابن عمه محمد بن عمرو بن الحسن، ومحمد بن المنكدر، وأبو نضرة العبدي، ووهب بن كيسان، وسعيد بن ميناء، والحسن بن محمد ابن الحنفية، وسعيد بن الحارث، وسالم بن أبي الجعد، وأيمن الحبشي، والحسن البصري، وأبو صالح السمان، وسعيد بن أبي هلال، وسليمان بن عتيق، وعاصم بن عمر بن قتادة، والشعبي، وعبد الله، وعبد الرحمن: ابنا كعب بن مالك،
وأبو عبد الرحمن الحبلي، وعبد الله بن مقسم، وعطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والقعقاع بن حكيم، ويزيد الفقير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وخلق كثير.
وفي "الصحيح" عنه أنه كان مع من شَهِدَ العقبة. وروى البخاري في "تاريخه" بإسناد صحيح، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: كنتُ أميح أصحابي الماء يوم بدر. ومن طريق حجاج الصواف، حدثني أبو الزبير، أن جابرا حدثهم قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه، شهدت منها تسع عشرة غزوة. وأنكر الواقدي رواية أبي سفيان عن جابر المذكور (1).
وروى مسلم من طريق زكريا بن إسحاق، حدثنا أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، قال جابر: لم أشهد بدرًا، ولا أحدًا، منعني أبي، فلما قُتل لم أتخلف. وعن جابر قال: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمل خمسا وعشرين مرة. أخرجه أحمد وغيره، من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير عنه. وفي مصنف وكيع، عن هشام بن عروة: رأيت لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد، يؤخذ عنه العلم. وروى البغوي من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، قال: جاءنا جابر بن عبد الله، وقد أصيب بصره، وقد مَسّ رأسه ولحيته بشيء من صفرة. ومن طريق أبي هلال، عن قتادة قال: كان آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا بالمدينة جابرٌ. قال البغوي: هو وَهَمٌ، وآخرهم سهل بن سعد.
قال ابن سعد، والهيثم: مات سنة (73). وقال محمد بن يحيى بن حبان: مات سنة (77)، وكذا قال أبو نعيم، قال: ويقال: مات وهو ابن (94) سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة. وقال عمرو بن علي، ويحيى بن بكير، وغيرهما: مات سنة (78). وقيل: غير ذلك. وقال البخاري: صلى عليه الحجاج. وقال علي بن المديني: مات جابر بعد أن عُمّر، فأوصى ألا يصلي عليه الحجاج. أخرج له
(1) لكن الواقديّ ممن لا يُعتمد عليه، فلا التفات لإنكاره.
الجماعة، وله في هذا الكتاب (230) حديثًا (1). والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير مجالد، فضعيفٌ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين.
4 -
(ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، وهو من المعمّرين، آخر من مات بالمدينة من الصحابة، على قول بعضهم، كما سبق آنفًا في ترجمته. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَّ خَطًّا) أي خطًّا مستقيمًا (وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَطَّ خَطِّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ في الْخطِّ الْأَوْسَطِ) أي وهو الخطّ المستقيم (فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ الله) أي وقال للخطوط: "هذه سبُلُ الشيطان". يعني أن هذا الخطّ المستقيم مَثَل سبيلَه الموصل إليه، المقرّبة السالك فيه، والمراد بها الدين القويم، والصراط المستقيم، وهذه الخطوط المعوجّة مثل سبُل الشيطان، المعوّقة عن الوصول إلى الله تعالى، والمطلوب بالتمثيل توضيح حال السالك فيها، وأنه لا ينبغي له أدنى ميل عن الصراط المستقيم، فإنه بأدنى ميل يقع في سُبُل الضلال؛ لقربها، واشتباهها.
(ثُمَّ تَلَا) النبيّ صلى الله عليه وسلم (هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} قال القرطبيّ رحمه الله تعالى (2): هذه آية عظيمة، عَطَفَها على ما تقدم، فإنه لمّا نَهَى وأَمَر، حَذَّر هنا عن إتباع غير سبيله، فأمر فيها باتباع طريقه على ما نُبَيِّنه بالأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف.
(1) راجع "الإصابة" 1/ 546 - 547. و"تهذيب التهذيب"1/ 281 - 282.
(2)
راجع "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 137.
"وأنّ" في موضع نصب: أي وأَتْلُ أَنَّ هذا صراطي؛ عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضا: أي وصاكم به، وبأن هذا صراطي، وتقديرها عند الخليل وسيبويه: ولأن هذا صراطي، كما قال:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} الآية [الجن: 18]. وقرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي:{وإِنّ هذا} بكسر الهمزة على الاستئناف: أي الذي ذُكر في هذه الآيات صراطي مستقيمًا. وقرأ ابن أبي إسحاق، ويعقوب:"وأَنْ هذا" بالتخفيف، والمخففةُ مثل المشددة، إلا أن فيه ضمير القصة والشأن: أي وأنه هذا فهي في موضع رفع، ويجوز النصب، ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد، كما قال عز وجل:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} الآية [يوسف: 96]، والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام.
(مُسْتَقِيمًا) نُصِبَ على الحال، ومعناه: مستويًا قويمًا، لا اعوجاج فيه. وقوله:(فَاتَّبِعُوهُ) أَمْرٌ من الله تعالى باتباع طريقه الذي طَرَّقه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وشَرَعَه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طُرُقٌ، فمن سلك الجادّة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق، أفضت به إلى النار، كما أشار إليه بقوله:(وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) أي تميلُ بكم (عَنْ سَبِيلِهِ}) أي صراط الله تعالى المستقيم. وإنما وحد "سبيله"؛ لأن الحق واحد، ولهذا جمع السُّبُل؛ لتفرقها وتشعبها، كما قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257](1).
وهذه السبل تعم اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وسائر أهل الملل، وأهل البدع والضلالات، من أهل الأهواء، والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل، والخوض في الكلام، هذه كلها عُرْضَةٌ للزلل، ومظنة لسوء المعتقد، قاله ابن عطية. قال القرطبيّ: وهو الصحيح (2).
(1) المصدر السابق 2/ 198.
(2)
راجع "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 137 - 138.
وقال الإمام ابن جرير الطبري في "تفسيره" جـ: 8 ص: 87:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]:
يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الآيتين، من قوله:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وأمركم بالوفاء به، هو صراطه، يعني طريقه، ودينه الذي ارتضاه لعباده {مُستَقِيمًا} يعني قويمًا لا اعوجاج به عن الحق. {فَاتَّبِعُوهُ} يقول: فاعملوا به، واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه. {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يقول: ولا تسلكوا طريقا سواه، ولا تركبوا منهجا غيره، ولا تبغوا دينا خلافه، من اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل، فإنها بدع وضلالات. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} يقول: فيشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل، ولا طرق، ولا أديان اتباعكم عن سبيله، يعني عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه، وهو الإسلام الذي وصى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وصاكم به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يقول: لتتقوا الله في أنفسكم، فلا تهلكوها، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وفي قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء
والخصومات في دين الله، ونحو هذا قال مجاهد، وغير واحد. انتهى (1) .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده مُجالد بن سعيد، وهو ضعيف، كما سبق في ترجمته، [قلت]: إنما صحّ لأمرين:
[أحدهما]: أنه وإن كان الأكثرون على تضعيفه، فليس متّهمًا، ولا متروكًا، بل قال فيه ابن عديّ: له عن الشعبيّ، عن جابر أحاديث صالحة، وقال يعقوب بن سفيان: تكلّم فيه الناس، وهو صدوقٌ. وقال محمد بن المثنّى: يُحتَمَل حديثه؛ لصدقه. وقال البخاريّ: صدوقٌ. ووثقه النسائي في رواية عنه. فمن كان هذا حاله، فليس بشديد الضعف.
[الثاني]: أن لحديثه هذا شواهد، فقد صحّ من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، ومن حديث النوّاس بن سمعان رضي الله تعالى عنه:
فأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"، فقال: حدثنا الأسود بن عامر شاذان، حدثنا أبو بكر -هو ابن عياش- عن عاصم -هو ابن أبي النجود- عن أبي وائل، عن عبد الله -هو ابن مسعود رضي الله عنه، قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال:"هذا سبيل الله مستقيمًا"، وخط عن يمينه وشماله، ثم قال:"هذه السُّبُل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وكذا رواه الحاكم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي بكر بن عياش به،
(1)"تفسير ابن كثير" 2/ 199.
وقال: صحيح، ولم يخرجاه.
قال ابن كثير: وهكذا رواه أبو جعفر الوازي، وورقاء، وعمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، مرفوعا به نحوه. وكذا رواه يزيد بن هارون، ومسدد، والنسائي عن يحيى بن حبيب بن عربي، وابن حبان من حديث ابن وهب أربعتهم، عن حماد بن يزيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود به. وكذا رواه ابن جرير، عن المثنى، عن الحماني، عن حماد بن زيد به.
ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد به كذلك، وقال: صحيح ولم يخرجاه. وقد روى هذا الحديث النسائي، والحاكم من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله بن مسعود به مرفوعا. وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه، من حديث يحيى الحماني، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرِّ به. فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين.
قال الحافظ ابن كثير: ولعل هذا الحديث عن عاصم بن أبي النجود عن زِرّ، وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود به. والله أعلم.
وقد روي موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه، فقد أخرجه ابن جرير في "تفسيره من طريق: معمر، عن أبان، أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جَوَادّ، وعن يساره جَوَادّ، وثَمَّ رجال يدعون من مَرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ، انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الأنعام: 153].
وأما حديث النواس بن سمعان الكلابيّ رضي الله عنه، فقد أخرجه الإمام أحمد أيضًا من طريق الليث ابن سعد، عن معاوية بن صالح، أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه، عن أبيه، عن النَّوَّاس بن سمعان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا
مستقيمًا، وعن جنبي الصراط سُوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مُرْخَاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعًا، ولا تتفرّقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تَلِجْهُ، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط، واعظ الله في قلب كل مسلم". وهو حديث صحيح (1). والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف رحمه الله تعالى هنا- (1/ 11) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 3/ 379 عن عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، به.
و (عبد بن حميد) 1141 عن ابن أبي شيبة، به. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو اتّباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثل ما جاء به من السنّة بالخطّ المستقيم، ومثل خلاف السنة وهي البدع بالخطوط المنحرفة عن الجادّة، ثم بيّن أن هذا هو بيان هذه الآية الكريمة التي أوجبت على الناس اتّباع صراطه المستقيم، وحرّمت اتباع سبل الشيطان؛ لأنه لا يجتمع الحقّ والباطل، والهدى والضلال في آن واحد، فإذا اتّبع الإنسان أحدهما لا بدّ، وأن يكون بعيدًا عن الآخر كلّ البعد.
2 -
(ومنها): تحريم اتّباع الهوى، والبدع، والخرافات؛ لأنها هي السبل التي نهى الله تعالى عن اتّباعها، بقوله:{ولا تتبعوا السبل} .
(1) أخرجه أحمد 17685 والترمذيّ 2859 والحاكم في "المستدرك" 1/ 72.
3 -
(ومنها): مشروعيّة ضرب المثل إيضاحًا، وتقريبًا للأذهان.
4 -
(ومنها): بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم معنى الآية الكريمة؛ عملًا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44].
5 -
(ومنها): أن دين الإسلام طريق مستقيم، يوصل إلى الجنّة، وخلافه طريق معوجّ، يهوي بصاحبه إلى الهاوية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.