المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - (باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه) - مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه - جـ ١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌2 - (باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه)

‌2 - (بَابُ تَعظِيمِ حَدِيثِ رَسُولِ اللِه صلى الله عليه وسلم، والتَّغلِيظِ على مَن عَارَضَهُ)

أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على وجوب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل به، وتغليظ الوعيد على من عارضه بالمخالفة، والعصيان.

وقوله: والمعارضة: المقابلة، يقال: عارضت الشيء بالشيء: قابلته به، وعارضت فلانًا: فعلت مثل فعله. أفاده في "المصباح"، والمراد به هنا أن يفعل خلاف السنة، مع علمه بثبوتها. والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

12 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي الحسَنُ بْنُ جَابِرٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنكُمْ كِتَابُ الله عز وجل، مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ الله).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المتقدّم في 1/ 1.

2 -

(زيد بن الحُبَاب) -بضمّ المهملة، وموحّدتين- ابن الرَّيَّان، ويقال: رُومان التميمي، أبو الحسين الْعُكْلِيُّ -بضم المهملة، وسكون الكاف- أصله من خُرَاسان، وسكن الكوفة، ورحل في طلب الحديث، فأكثر منه، صدوقٌ، يُخطىء في الثوريّ [9].

رَوَى عن أيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار اليمامي، وإبراهيم بن نافع المكي، ومالك بن أنس، والثوري، وابن أبي ذئب، ومعاوية بن صالح، ويحيى بن أيوب، وخلق كثير.

ورَوَى عنه أحمد، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، وأبو كريب، وأحمد بن منيع، والحسن بن علي الخلال، وعلي بن المديني، ومحمد بن رافع النيسابوري، وهو من آخرهم، وقد حدث عنه عبد الله بن وهب، ويزيد بن هارون، وهما أكبر منه.

ص: 173

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان صاحب حديث، كَيِّسًا، قد رحل إلى مصر، وخراسان في الحديث، وما كان أصبره على الفقر، وقد ضَرَب في الحديث إلى الأندلس. قال الخطيب: رأى أحمد بن حنبل روايته عن معاوية بن صالح، وكان قاضي الأندلس، وأظنه سمع منه بمكة، فظن أن زيد بن الحباب رحل إلى الأندلس. وقال علي بن المديني، والعجلي: ثقة. وكذا قال عثمان عن ابن معين. وقال أبو حاتم: صدوق صالح. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: زيد بن حباب كان صدوقا، وكان يضبط الألفاظ عن معاوية بن صالح، لكن كان كثير الخطإ. وقال المفضل بن غسان الغلابي عن ابن معين: كان يقلب حديث الثوري، ولم يكن به بأس. وقال ابن زكريا في "تاريخ الموصل": حدثني الْحِمَّاني، عن عبيد الله القواريري قال: كان أبو الحسين العكلي ذَكِيّا حافظا عالما لما يسمع. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُخطىء يُعتبر حديثه إذا رَوَى عن المشاهير، وأما روايته عن المجاهيل ففيها المناكير. وقال ابن خلفون: وثقه أبو جعفر السِّبْتيّ، وأحمد بن صالح، وزاد: وكان معروفا بالحديث صدوقا. وقال ابن قانع: كوفي صالح. وقال الدارقطني، وابن ماكولا: ثقة. وقال ابن شاهين: وثقه عثمان بن أبي شيبة. وقال ابن يونس في "تاريخ الغرباء": كان جَوّالا في البلاد في طلب الحديث، وكان حسن الحديث. وقال ابن عدي: له حديث كثير، وهو من أثبات مشايخ الكوفة، ممن لا يُشَكّ في صدقه، والذي قاله ابن معين عن أحاديثه عن الثوري، إنما له أحاديث عن الثوري يُستغرَب بذلك الإسناد، وبعضها ينفرد برفعه، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها. قال أبو هشام الرفاعي وغيره: مات سنة ثلاث ومائتين. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة" والباقون، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.

3 -

(معاوية بن صالح) بن حُدير -بالمهملة، مصغّرًا- ابن سعيد بن سَعْد بن فِهْر الحضرميّ، أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الرحمن الحمصيّ، أحد الأعلام، وقاضي الأندلس، وقيل في نسبه: غير ذلك، صدوقٌ له أوهام [7].

رَوَى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن

ص: 174

ابن جبير بن نفير، ومكحول الشامي، وغيرهم.

ورَوَى عنه الثوري، والليث بن سعد، وابن وهب، ومعن بن عيسى، وزيد بن الحباب، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: خرج من حمص قديما، وكان ثقة. وقال جعفر الطيالسي عن ابن معين: ثقة، وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: ما كنا نأخذ عنه. قال علي: وكان عبد الرحمن بن مهدي يوثقه. وقال أبو صالح الفراء عن أبي إسحاق الفزاري: ما كان بأهل أن يُروَى عنه. وقال العجلي والنسائي: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة محدث. وقال ابن سعد: كان بالأندلس قاضيا لهم، وكان ثقة، كثير الحديث، حج مرة واحدة، فلقيه من لقيه من أهل العراق. وقال محمد بن عوف، عن يزيد بن عبد ربه: خرج من حمص سنة خمس وعشرين ومائة، فسار إلى الغرب، فَوَلِيَ قضاءهم، قال: وسمعت أبا صالح يقول: مرّ بنا معاوية بن صالح حاجا سنة أربع وخمسين، فكتب عنه أهل مصر، وأهل المدينة -يعني ومن بمكة-. وقال حميد بن زنجويه: قلت لعلي بن المديني: إنك تطلب الغرائب، فَأْتِ عبد الله بن صالح، فاكتب عنه كتاب معاوية بن صالح، تستفيد منه مائتي حديث. وقال يعقوب بن شيبة: قد حمل الناس عنه، ومنهم من يرى أنه وسط، ليس بالثبت، ولا بالضعيف، ومنهم من يضعفه. وقال ابن خِرَاش: صدوق. وقال ابن عمار: زعموا أنه لم يكن يدري أيّ شيء في الحديث. وقال ابن عديّ: له حديث صالح، وما أرى بحديثه بأسًا، وهو عندي صدوق، إلا أنه يقع في حديثه إفرادات. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن يونس: قدم مصر سنة خمس وعشرين، ثم دخل الأندلس، فلمّا مُلِّك عبد الرحمن بن معاوية الأندلس، اتصل به، فأرسله إلى الشام في بعض أمره، فلما رجع إليه ولاه قضاء الجماعة بالأندلس. وتُوفي سنة ثمان وخمسين ومائة، وأَرَّخ أبو مروان بن حبان، صاحب "تاريخ الأندلس" وفاته سنة اثنتين وسبعين ومائة، وحَكَى ذلك عن جماعة، واستغرب قول أحمد بن كامل: إنه توفي بالمشرق سنة نيف وخمسين. أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والباقون، وله

ص: 175

في هذا الكتاب (14) حديثًا.

4 -

(الحسن بن جابر) اللَّخْميّ، وقيل: الكندي، أبو عليّ، ويقال: أبو عبد الرحمن الحمصيّ، مقبول [3].

رَوَى عن معاوية، والمقدام بن معدي كرب، وأبي أمامة، وعبد الله بن بُسْر. ورَوَى عنه معاوية بن صالح، ومحمد بن الوليد الزُّبَيْدي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: تُوُفّي سنة (128)، وكذا قال ابن سعد وغيره.

تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، أخرجا له هذا الحديث فقط، وسيعيده المصنّف مختصرًا برقم (3193).

5 -

(المقدام بن معديكرب) بن عمرو بن يزيد بن معديكرب، أبو كريمة، وقيل: أبو يحيى الكندي، نزل حمص، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خالد بن الوليد، ومعاذ بن جبل، وأبي أيوب الأنصاري، وجماعة. وروى عنه ابنه يحيى، وابن ابنه صالح بن يحيى، وخالد بن معدان، وحبيب بن عبيد، ويحيى بن جابر الطائي، والشعبي، وشُريح بن عُبيد، وعبد الرحمن بن أبي عوف، وعبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي، وراشد بن سعد المقرائي، وأبو عامر الهوزني، ومحمد بن زياد الألهاني، وآخرون. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل الشام، وقال: مات سنة سبع وثمانين، وهو ابن إحدى وتسعين سنة، وكذا قال غير واحد في سنة وفاته، وقيل: مات سنة ثلاث، وقيل: مات سنة ست وثمانين. أخرج له البخاريّ، والأربعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير الحسن بن جابر، وهو مقبول، حيث يُتابع، وقد تابعه عبد الرحمن بن أبي عوف الْجُرَشيّ، وهو ثقة، كما سيأتي.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالحمصيين من الحسن، والباقيان كوفيّان، والباقون حمصيّون.

4 -

(ومنها): أن فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبالإفراد في موضع،

ص: 176

والعنعنة في موضعين، وقد تقدّم البحث في ذلك مُسْتَوْفىً. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمِقْدَامِ) -بكسر الميم، وسكون القاف، وتخفيف الدال المهملة، آخره ميم- (ابْنِ مَعْدِيكَرِبَ) -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر الدال المهملة، و"كرب" بفتح الكاف، وكسر الراء- وهو اسم مركّبٌ تركيب مزج، ولذا كُتبت الياء مع الاسم الثاني؛ إشارة إلى ذلك.

[فائدة]: قال في "القاموس": "مَعْدِيكَرِب" فيه لغات: رفع الباء ممنوعًا، والإضافة، مصروفًا، وممنوعًا. انتهى. وقال في "اللسان":"مَعْدِيْكَرِب": اسمان، فيه ثلاث لغات: معديكربُ برفع الباء، لا يُصرف، ومنهم من يقول: مَعْديكرِبٍ، يُضيف، ويصرف "كَرِبًا"، ومنهم من يقول:"معديكربَ" يُضيف، ولا يَصِرف "كربًا"، يجعله مؤنّثًا معرفةً، والياء من "معديكرب" ساكنة على كلّ حال، وإذا نَسبتَ إليه قلتَ: مَعْدِيّ، وكذلك النسب في كلّ اسمين جُعلَا واحدًا، مثلُ بَعْلَبَكّ، وخمسة عشر، وتَأَبَّطَ شَرًّا، تنسُبُ إلى الاسم الأول، تقول: بَعْلِيّ، وخَمْسيّ، وتَأَبَّطِيّ، وكذلك إذا صَغَّرتَ، تُصغّر الأول. انتهى (1).

(الْكِنْدِيِّ) بكسر الكاف، وسكون النون-: نسبة إلى كِنْدة قبيلة باليمن (2)(أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُوشِكُ) مضارع أوشك: إذا قَرُب: أي يَقْرُب. قال ابن مالك: هو أحد أفعالَ المقاربة، ويقتضي اسمًا مرفوعًا، وخبرًا يكون فعلًا مقرونًا بـ"أن"، ولا أعلم تجرّده من "أن" إلا في هذا الحديث، وفي بعض الأشعار. قال السيوطيّ: قلت: قد رواه

(1) راجع "القاموس" ص 120، و"لسان العرب" 1/ 715.

(2)

"لبّ اللباب" 2/ 215. وهي قبيلة مشهورة من اليمن، واسم كنْدة الذي تُنسب إليه القبيلة ثور بن مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وقيل: ثور بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ. انتهى. "اللباب" 3/ 115 - 116 "الأنساب" 5/ 104 - 105. "معجم البلدان" 4/ 482.

ص: 177

الحاكم بلفظ: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته يُحدَّثُ الخ". قال السنديّ: أراد السيوطيّ أن لفظ الحديث قد غيّره الرواة، وإلا فـ "أن" موجودة فيه في الأصل، كما في رواية الحاكم. انتهى.

وفي رواية أبي داود من طريق عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام رضي الله عنه:"ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان الخ".

وقوله: "ألا إني أوتيت": يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: أنه أوتي من الوحي الباطن، غير المتلوّ مثل ما أعطي من الظاهر المتلوّ. والثاني: أنه أوتي الكتاب وحيًا يُتلَى، وأوتي من البيان مثله: أي أُذن له أن يبيّن ما في الكتاب، فيعمّ، ويَخُصّ، وأن يزيد عليه، وينقص، فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم، ولزوم العمل به كالظاهر المتلوّ من القرآن. وقيل:"ومثله معه": أي أحكامًا، ومواعظ، وأمثالًا تمُاثل القرآن في كونها وحيًا، أو كونها واجبة القبول. وقد نزّه الله نطقَ رسوله صلى الله عليه وسلم عن الهوى، وأمر بمتابعته فيما يأمر وينهى، فقال عزّ من قائل:{وَمَا يَنْطِقُ عنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. أو المعنى: يماثله في المقدار، وقد ورد في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عند أبي داود ما يؤيّد هذا، ولفظه:"إنها لمثل القرآن، أو أكثر". لكنه حديث ضعيف (1).

[تنبيه]: ما أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم غير القرآن على أنواع: أحدها: الأحاديث القدسيّة التي أسندها إلى الله عز وجل. وثانيها: ما أُلْهِم. وثالثها: ما أري في المنام. ورابعها: ما نَفَثَ جبريل عليه السلام في رُوعه: أي في قلبه. قاله الطيبيّ. (2).

وقوله: ألا يوشك": أي أنبّهكم بأنه قريبٌ أن يقول رجل شبعان، وإنما وصفه

(1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيّ 1/ 629 - 631.

(2)

المصدر السابق 2/ 631.

ص: 178

بالشبعان؛ لأن الحامل له على هذا القول، إما البلادة، وسوء الفهم، ومن أسبابه الشبع، وشَرَهُ الطعام، وكثرة الأكل. وإما الْبَطَرُ والحماقَةُ، ومن موجباته التنعّم والغرور بالمال والجاه، والشبع يُكنى به عن ذلك.

(الرَّجُلُ مُتَكِئًا على أريكته) منصوب على الحال، أي حال كونه جالسًا على سريره المزيّن، والظاهر أنه حال من ضمير "يُحدَّث" الراجع إلى الرجل، وهو علي بناء المفعول، وجعله حالًا من الرجل بعيد معنىً. قاله السنديّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا بُعْد في كونه حالًا من الرجل، بل هو الأولى، وأما جعله حالًا من ضمير "يُحدّث"، فهو البعيد، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

والمتّكىء: اسم فاعل من "اتّكأ" بوزن افتعل، ويستعمل بمعنيين: أحدهما: الجلوس مع التمكّن. والثاني: القعود مع تمايلٍ، معتمِدًا على أحد الجانبين. قاله الفيّوميّ، في باب الألف، وقال في باب الواو: واتّكأ: جلس متمكّنا، وفي التنزيل:{وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف: 34]: أي يجلسون. وقال: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]: أي مجلسًا يَجلِسن عليه. قال ابن الأثير: والعامّة لا تَعرِف الاتّكاءَ إلا الميل في القعود، معتمدًا على أحد الشّقّين، وهو يُستعمل في المعنيين جميعًا، يقال: اتّكأ: إذا أسند ظهره، أو جنبه إلى شيء، معتمدًا عليه، وكلُّ من اعتمد على شيء، فقد اتّكأ عليه. وقال السَّرَقُسْطِيُّ أيضًا: اتّكأته: أعطيته ما يتّكىء عليه: أي ما يجلس عليه، والتاء مُبدَلةٌ من واو، والاسم التُّكأَةُ، مثالُ رُطَبَةٍ. انتهى (1).

(عَلَى أَرِيكَتِهِ) -بفتح الهمزة، وكسر الراء-: أي سريره المزيَّنِ. قال في "القاموس": "الأريكة" كسفينة: سريرٌ في حَجَلَة، أو كلُّ ما يُتّكأُ عليه، من سرير، ومِنَصّةٍ، وفِرَاشٍ، أو سريرٌ مُنَجَّدٌ، مُزيّنٌ في قبّة، أو بيتٍ، فإذا لم يكن فيه سريرٌ، فهو حَجَلَةٌ، جمعُهُ أَرِيكٌ، وأرَائِكُ. انتهى.

(1)"المصباح المنير" 1/ 76 و 2/ 671.

ص: 179

وهذا بيان لبلادته، وسوء فهمه، وحماقته، وسوء أدبه، كما هو دأب المتنعّمين المغرورين بالمال والجاه.

وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: وإنما أراد بهذه الصفة أصحاب الترفّه والدَّعَةِ الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم، ولم يغدُوا، ولم يَرُوحوا في طلبه في مظانّه، واقتباسه من أهله. انتهى (1).

(يُحَدَّثُ) بالبناء للمفعول (بِحَدِيثٍ) متعلّق بما قبله. وقوله: (مِنْ حَدِيثي) متعلّق بصفة لحديث (فَيَقُولُ) أي في ردّ ذلك الحديث، حيث لا يوافق هواه، أو مذهب إمامه الذي قلّده (بَيْنَنَا وَبَيْنكُمْ كِتَابُ الله عز وجل مبتدأ مؤخّرٌ، خبره الظرف قبله أي كتاب الله تعالى حاكم بيننا وبينكم، فلا نَقبل حكم غيره. ثم بيّن المراد بهذه الجملة، بقوله: (مَا وَجَدْنَا فِيهِ) أي في كتاب الله تعالى (مِنْ حَلَالٍ) بيان لما (اسْتَحْلَلْنَاهُ) أي اعتقدناه حلالًا، وفعلناه (وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ) أي اعتقدنا حرمته، فتركناه، أي وهذا الحديث زائد على ما في القرآن، فلا نأخذ به. وفي رواية أبي داود المذكورة:"عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال، فأحِلُّوه، وما وجدتم من حرام، فحرّموه".

وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: يُحذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك مخالفة السنن التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكرٌ، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تعلّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السنن التي قد ضُمِّنَتْ بيان الكتاب، فتحيّروا، وضلُّوا. انتهى (2).

(ألا) أداة استفتاح وتنبيه، يلقى بها للمخاطب تنبيهًا له، وإزالةً لغفلته.

قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: كلمة التنبيه مركّبة من همزة الاستفهام، و"لا" النافية، مُعْطِية معنى يُحقّق ما بعدها، ولكونها بهذه المثابة لا يكاد يقع ما بعدها إلا كانت مصدّرةً بما يُصدّر به جواب القسم، وشقيقتها "أما".

(1)"معالم السنن" 7/ 8.

(2)

"معالم السنن" 7/ 8.

ص: 180

وقوله: (وَإِنَّ) عطف على مقدّر: أي إن ما في كتاب الله عز وجل حقّ، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرّم الله.

و"إنّ" -بكسر الهمزة -؛ لأنه ابتداء كلام من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: يحتمل أن يكون من كلام الراوي، وهو بعيد. وصوّب الطيبيّ كونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله من باب التجريد، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ} الآية [الأعراف: 158]. وأما جعله من كلام الراوي تخلّل بين كلامي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعسّفٌ بعيدٌ من الفصاحة.

(مَا) موصولة، وصلتها قوله (حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) حُذف العائد، كما قال في "الخلاصة":

........................

وَالحذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

في عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ

وقوله: (مِثْلُ مَا حَرَّمَ الله) بالرفع خبر "إن": أي الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه مثلُ الذي حرّمه الله صلى الله عليه وسلم في كتابه.

قيل: وفي الاقتصار على التحريم إشارة إلى أن الأصل في الأشياء الإباحة. وقيل: هو من باب الاكتفاء، أي ما حرّم وأحلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلُ ما حرّم الله تعالى.

زاد في رواية أبي داود المذكورة: "ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه، فإن لم يَقْرُوه فله أن يُعْقِبَهم بمثل قِرَاه".

فقوله: "ألا لا يحلّ لكم الخ" بيان للقسم الذي يثبت بالسنّة، ولم يوجد له ذكرٌ في الكتاب. ومنه "ولا لقطة معاهد الخ"، ومعناه: لا يحلّ التقاط ما ضاع من شخص معاهد، وهو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد بأمان. وقوله:"إلا أن يستغني عنها صاحبها": أي يتركها لمن يأخذها؛ استغناء عنها. وقوله: "يقروه" بفتح الياء، وضم

ص: 181

الراء: أي يُضيفوه، من قريت الضيف: إذا أحسنت إليه. وقوله: "فله أن يُعقبهم: من الإعقاب: أي يجازيهم بأخذ مالهم عوضًا عما حَرَموه من القرى. قيل: هذا في المضطرّ. أو منسوخ.

والذي يظهر لى أنه على ظاهره، ولا دليل على ما ذُكر، وستكون عودة في المحلّ المناسب له، إن شاء الله تعالى.

قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: أما بيان النظم، فإنه صلى الله عليه وسلم قرّر أوّلًا بقوله. "ألا إني أوتيت الكتاب" أنه صلى الله عليه وسلم شرّع أيضًا أحكامًا في الدين سوى القرآن، وثنّى بتوبيخ من أنكر ذلك، وجعله متكبّرًا بَطِرًا طاغيًا، وثلّث بما يُشعر بالتعليل، وأن له أن يستقلّ بالأحكام، وربّع ببيان صور متعدّدة تحقيقًا للمطلوب، كما مرّ. وقوله:"ومن نزل بقوم الخ" أخرجه من سياق المبهمات، حيث لم يقل: لا يحلّ للمضيف أن لا يكرم ضيفه، وأبرزه في معرض الشرط والجزاء؛ دلالةً على أن ذلك ليس بمحرّم، ولكنه خارج عن سمة أهل المروءة، وهدي أهل الإيمان، وليتأهّل فاعله أن يخذّل، ويُستَهْجَن فعلُهُ، ويُجازى بكلّ قبيح. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ليس بمحرّم" فيه نظر لا يخفى، بل ظاهر في التحريم، ولولا ذلك لما أمر الضيف بالإعقاب، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي سنده الحسن بن جابر، يحتاج إلى متابعة؟.

[قلت]: تابعه عبد الرحمن بن أبي عوف، وهو ثقة، عند أبي داود، والله تعالى أعلم.

(1)"الكاشف عن السنن" 2/ 631 - 632.

ص: 182

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا - 1/ 12 - بهذا الإسناد، وسيعيده في "كتاب الذبائح" (3193) بنفس السند مختصرًا بلفظ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم أشياء حتى ذكر الحمر الإنسيّة". وأخرجه (أحمد) 4/ 132 و (الدارميّ)(592) و (أبو داود)(3804) و (4604) و (الترمذيّ)(2664)، و (ابن حبان) 12، و (الطبراني) 20/ حديث (649) و (البيهقيّ) في "السنن الكبرى" 7/ 76 و 9/ 331، و"دلائل النبوّة" 6/ 549، و (الحاكم) 1/ 109 وصححه، وأقرّه الذّهَبيّ. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه.

2 -

(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوّة، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر بما سيقع بعده، وحذّر منه، فوقع كما أخبر به.

3 -

(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله تعالى: في الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يُعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه. وأما ما رواه بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدعوه"، فإنه حديث باطلٌ، لا أصل له. وقد حَكَى زكريا بن يحيى الساجيّ عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة. قال الخطابيّ: وقد روي هذا من حديث الشاميين، عن يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث، عن ثوبان. ويزيد بن ربيعة هذا مجهول، ولا يُعرف له سماع من أبي الأشعث، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان، وإنما يروي عن أبي أسماء الرَّحَبيّ، عن ثوبان. انتهى كلام الخطابيّ (1).

4 -

(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله تعالى: [فإن قلت]: دلّت هذه الصور على

(1)"معالم السنن" 7/ 9.

ص: 183

المحرّمات، فأين ذكر ما أحلّه صلى الله عليه وسلم.

[قلت]: الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما خصّه الدليل؛ لقوله تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. فخُصّ منها أشياء بنصّ التنزيل، وبقي ما عداها في معرض التحليل، فخصّ منها بنصّ الحديث بعضٌ، فبقي سائرها على أصل الإباحة، وكأنه صلى الله عليه وسلم نصّ على تحليلها، فلا يزيد، ولا ينقص. انتهى كلام الطيبيّ (1).

5 -

(ومنها): قد تكرّرت كلمة التنبيه في هذا الحديث -يعني في رواية أبي داود- (2) ففيه توبيخٌ وتقريعٌ، نشأ من غضب عظيم على من ترك السنّة، والعمل بالحديث؛ استغناءً عنها بالكتاب، هذا مع الكتاب، فكيف بمن رجّح الرأي على الحديث؟ وإذا سمع حديثًا من الأحاديث الصحيحة قال: لا عليّ بأن أعمل بها، فإن لي مذهبًا أتّبعه. قاله الطيبيّ.

وقد أشرت إلى هذا المعنى في "ألفيّة العلل" حيث قلت:

وَبَعْضُهُم بُلِيَ بِالتَّعَصُّبِ

لمَذْهَبِ مُعَيَّنٍ وَاعَجَبِي

أَعْرَضَ كُلًّا عَنْ حَدِيثِ المُصْطَفَى

إِلَّا إِذَا مَذْهَبَهُ قَدْ حَالَفَا

فَإِنْ تَقُلْ قَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ

هَذَا الحدِيثَ قَالَ ذَا بُهْتَانِ

إِمَامُنَا أَحَقُّ أَنْ نَتَّبِعَهْ

إِذْ هُوَ أَعْلَمُ فَقُلْ مَا أَشْنَعَهْ

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 632.

(2)

أي لأنه ذكرت فيه مرّتين، حيث قال:"ألا يوشك رجل الخ"، وقال:"ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ"، ولفظ أبي داود: من طريق حَرِيز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه".

ص: 184

وَهَكَذَا ابْتُليَ أَهْلُ الأَثَر

بِمِثْلِ هَؤُلَاءِ عُمْي النَّظَرِ

جَهَلَةٍ مُخَالِفِي الأَئِمَّةِ

في هَدْيِهِمْ وَنُصْحِهِمْ لِلأُمَّةِ

فَإِنَّهُمْ أَوْصَوْا بِتَقْدِيمِ الأَثَرْ

عَلَى كَلَامِهِمْ فَنِعْمَ ذَا الأَثَرْ

ولقد أجاد الأمير الصنعانيّ رحمه الله تعالى في قصيدته التي مدح فيها أهل الحديث، وذمّ التلقيد والإعراض عن الحديث، متمسّكًا ببعض المذاهب، فقال:

سَلَامٌ عَلَى أَهْلِ الحدِيثِ فَإِنَّنِي

نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثِ مِنْ مَهْدِي

هُمُ بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدِ

وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايَةَ الجهْدِ

وَأَعْنِي بِهِمْ أَسْلَافَ أُمَّةِ أَحْمَدِ

أُولَئِكَ في بَيْتِ الْقَصِيدِ هُمُ قَصْدِي

أُولَئِكَ أَمْثَالُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمِ

وَأَحْمَدَ أَهْلِ الْجدِّ في الْعِلْمِ وَالجدِّ

بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنِ الجزْرِ إِنَّمَا

لهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنَ الله بِالْمدِّ

رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ

وَلَيْسَ لهُمْ تِلْكَ المذَاهِبُ مِنْ وِرْدِ

كَفَاهُمْ كتَابُ الله وَالسُّنَّةُ الَّتِي

كَفَتْ قَبْلَهُمْ صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي المجْدِ

أَأَنْتُمُ أَهْدَى أَمْ صَحَابَةُ أَحْمَدِ

وَأَهْلُ الْكِسَا هَيْهَاتَ مَا الشَّوْكُ كَالْوَرْدِ

أُولَئِكَ أَهْدَى في الطَّرِيقَةِ مِنْكُمُ

نَعَمْ قُدْوَتِي حَتَّى أُوَسَّدَ في لحدِي

وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ المُقَلِّدِ وَالُهدَى

وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بِالضِّدِّ

فَمَنْ قَلَّدَ النُّعمانَ أَصْبَحَ شَارِبًا

نَبِيذًا وَفِيهِ الْقَول لِلْبَعْضِ بِالحدِّ

وَمَنْ يَقْتَدِي أَضْحَى إِمَامَ مَعَارِفٍ

وَكَانَ أُوَيْسًا في الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ

فَمُقْتَدِيًا في الحقِّ كُنْ لَا مُقَلِّدًا

وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ في الأَسْرِ بِالْقِدّ

وَأَقْبَحُ مِنْ كُلِّ ابْتِدَاع سَمِعْتُهُ

وَأَنْكَاهُ لِلْقَلْبِ المُوَفَّقِ لِلرُّشدِ

مَذَاهِبُ مَنْ رَامَ الخلَافَ لِبَعْضِهَا

يُعَضُّ بِأَنيَابِ الأَسَاوِدِ وَالأُسْدِ

يُصَبُّ عَلَيْهِ سَوْطُ ذَمٍّ وَغِيبَة

وَيَجْفُوهُ مَنْ قَدْ كَانَ يَهْوَاهُ عَنْ عَمْدِ

وَيُعْزَى إِلَيْهِ كُلُّ مَا لَا يَقُولُهُ

لِتَنْصِيصِهِ عِنْدَ التِّهَامِيِّ وَالنَّجْدِي

ص: 185

فَيَرْمِيهِ أَهْلُ الرَّفْضِ بِالنَّصْبِ فِرْيَةً

وَيَرْمِيهِ أَهْلُ النَّصْبِ بِالرَّفْضِ وَالجحْدِ

وَلَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ سِوَى أَنهُ غَدَا

يُتَابعُ قَوْلَ الله في الحلِّ وَالْعَقْدِ

وَيَتْبَعُ أَقْوَالَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ

وَهَلْ غَيْرُهُ بِاللهِ في الشَّرْع مَنْ يَهْدِي

لَئِنْ عَدَّهُ الجهَّالُ ذَنْبًا فَحَبَّذَا

بِهِ حَبَّذَا يَوْمَ انْفِرَادِيَ في لحدِي

عَلَامَ جَعَلْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ دِينَنَا

لأَرْبَعَةٍ لَا شَكَّ في فَضْلِهِمْ عِنْدِي

هُمُ عُلَمَاءُ الدِّينِ شَرْقًا وَمَغْرِبًا

وَنُورُ عُيُونِ الْفَضْلِ وَالحقِّ وَالزُّهْدِ

وَلَكِنَّهُمْ كَالنَّاسِ لَيْسَ كَلَامُهُمْ

دَلِيلًا وَلَا تَقْلِيدُهُمْ في غَدٍ يُجدِي

وَلَا زَعَمُوا حَاشَاهُمُ أَنَّ قَوْلهُمْ

دَلِيلٌ فَيَسْتَهْدِي بِهِ كُلُّ مُسْتَهْدِي

بَلَى صَرَّحُوا أنِّا نُقَابِلُ قَوْلَهَمْ

إِذَا خَالَفَ المنْصُوصَ بِالْقَدْح وَالرَّدِّ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

13 -

(حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَليٍّ الجهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنةَ في بَيْتِهِ، أَنا سَأَلْتُهُ عَنْ سَالمٍ أَبِي النَّضْرِ، ثُمَّ مَرَّ في الحدِيثِ، قَالَ: أَوْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ أَبِي رَافِع، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا في كِتَابِ الله اتَّبَعْنَاهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(نصر بن عليّ) بن نصر بن عليّ بن صُهبان الأزديّ الجْهضميّ، أبو عمرو البصريّ الصغير، ثقة ثبت [10].

رَوَى عن أبيه ويزيد بن زريع، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعيسى بن يونس اليمامي، ووهب بن جرير بن حازم، ووكيع، ومعن بن عيسى، ومسلم بن إبراهيم، وخلق كثير.

ورَوَى عنه الجماعة، وروى النسائي أيضا عن زكريا السجزي، وأحمد بن علي

ص: 186

المروزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والذهلي، وبقي بن مخلد، وعبد الله بن أحمد، وعبدان الأهوازي، وإسماعيل القاضي، وابن أبي الدنيا، وابن خزيمة، وآخرون.

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عنه؟ فقال: ما به بأسٌ، ورَضِيَهُ. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن نصر بن علي، وأبي حفص الصيرفي، فقال: نصر أحب إلي وأوثق وأحفظ من أبي حفص، قلت: فما تقول في نصر؟ قال: ثقة. وقال النسائي، وابن خراش: ثقة. وقال عبيد الله بن محمد الفرهياني: نصر عندي من نبلاء الناس. وقال أبو علي بن الصواف، عن عبد الله بن أحمد: لمّا حدّث نصر بن علي بهذا الحديث -يعني حديث علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين، فقال: من أحبني وأحب هذين، وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة" (1)، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول له: هذا من أهل السنة، فلم يزل به حتى تركه. وقال الحسين بن إدريس الأنصاري: سئل محمد بن علي النيسابوري عن نصر بن علي؟ فقال: حجة. وقال أبو بكر بن أبي داود: كان المستعين بعث إلى نصر بن علي لِيُوَلِّيَهُ القضاء، فقال لأمير البصرة: أرجع فأستخير الله تعالى، فرجع إلى بيته، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، فنام فَنَبَّهُوه، فإذا هو ميت. قال البخاري: مات في ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين، وفيها أرخه غير واحد. وقيل: مات سنة إحدى وخمسين، وهو قول ابن جرير فيما حكاه مسلمة بن قاسم، وقال: هو ثقة عند جميعهم. وقال قاسم بن أصبغ: سمعت الْخُشَنِيَّ يقول: ما كتبت بالبصرة عن أحد أعقل من نصر بن علي روى عنه الجماعة، وله في هذا الكتاب (77) حديثًا.

2 -

(سفيان بن عيينة) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، سكن

(1) حديث ضعيف أخرجه أحمد، والترمذيّ. من حديث عليّ رضي الله عنه. راجع "ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى.

ص: 187

مكة، وقيل: إن أباه عيينة هو المكنيّ أبا عمران، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغيّر حفظه بآخره، وربما دلّس، لكن عن الثقات، من رءوس الطبقة [8].

رَوَى عن عبد الملك بن عمير، وأبي إسحاق السبيعي، وزياد بن علاقة، والأسود ابن قيس، وأبان بن تغلب، وبيان بن بشر، وجعفر الصادق، وجامع بن أبي راشد، وحميد الطويل، وسليمان التيمي، وسليمان الأحول، وسُمَيّ، وسُهيل، وشبيب بن غرقدة، وصالح بن كيسان، وعمرو بن دينار، والزهري، والعلاء بن عبد الرحمن، وخلق لا يحصون.

وروى عنه الأعمش، وابن جريج، وشعبة، والثوري، ومسعر، وهم من شيوخه، وأبو إسحاق الفزاري، وحماد بن زيد، والحسن بن حي، وهمام، وأبو الأحوص، وابن المبارك، وقيس بن الربيع، وأبو معاوية، ووكيع، ومعتمر بن سليمان، ويحيى بن أبي زائدة، وهم من أقرانه، وماتوا قبله، ومحمد بن إدريس الشافعي، وعبد الله ابن وهب، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبو أسامة، وروح بن عبادة، وجمّ غفير.

قال ابن المديني: وُلد سنة (107) وكذا قال عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، عن سفيان، وزاد للنصف من شعبان، وكُتِب عنه الحديثُ سنة (42) قبل موت الأعمش. وقال ابن عيينة: أول من أسندني إلى الإسطوانة مسعر، فقلت: إنّي حَدَثٌ، فقال: إن عندك الزهريِّ، وعمرَو بنَ دينار. وقال علي بن المديني: ما في أصحاب الزهري أتقن من ابن عيينة. وقال العجلي: كوفي ثقة ثبت في الحديث، وكان حسن الحديث، يُعَدُّ من حكماء أصحاب الحديث. وقال الشافعي: لولا مالك وسفيان، لذهب علم الحجاز. وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: مالك وسفيان القرينان، وقال ابن المديني: قال لي يحيى بن سعيد: ما بقي من معلميَّ أحد غير ابن عيينة، فقلت: يا أبا سعيد سفيان إمام في الحديث، قال: سفيان إمام منذ أربعين سنة.

قال ابن سعد: أخبرني الحسن بن عمران بن عيينة، أن سفيان قال له بجمع آخر حجة حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر

ص: 188

العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع، فتوفي في السنة الداخلة. وقال الواقدي: مات يوم السبت، أول يوم من رجب، سنة ثمان وتسعين ومائة. وقال ابن عمار: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: اشهدوا أن سفيان ابن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه في هذه السنة وبعدها، فسماعه لا شيء.

قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: أنا أستبعد هذا القول، وأجده غلطا من ابن عمار، فإن القطان مات أول سنة (98) عند رجوع الحجاج، وتحدثهم بأخبار الحجاز، فمتى يُمَكَّن من سماع هذا، حتى يتهيأ له أن يشهد به، ثم قال: فلعله بلغه ذلك في وسط السنة. انتهى. وهذا الذي لا يتجه غيره؛ لأن ابن عمار من الأثبات المتقنين، وما المانع أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من جماعة، ممن حج في تلك السنة، واعتمد قولهم، وكانوا كثيرا، فشهد على استفاضتهم، وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئا يصلح، أن يكون سببا لما نقله عنه ابن عمار في حق ابن عيينة، وذلك ما أورده أبو سعيد بن السمعاني، في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذن، من "ذيل تاريخ بغداد"، بسند له قويّ إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث، وتحدث اليوم وتزيد في إسناده، أو تنقص منه؟ فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت. وقد ذكر أبو معين الرازي، في زيادة "كتاب الإيمان" لأحمد: أن هارون بن معروف قال له: إن ابن عيينة تغير أمره بآخره.

وقال ابن حبان في "الثقات" كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع والدين. وقال اللالكائي: هو مستغن عن التزكية؛ لتثبته وإتقانه، وأجمع الحفاظ أنه أثبت الناس في عمرو بن دينار. وجزم ابن الصلاح في "علوم الحديث" بأنه مات سنة ثمان وتسعين ومائة. انتهى. وكان انتقاله من الكوفة إلى مكة سنة (63) فاستمر بها إلى أن مات.

روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (298) حديثًا.

3 -

(سالم أبو النضر) هو سالم بن أبي أميّة، مولى عمر بن عُبيد الله التيميّ المدنيّ،

ص: 189

ثقة ثبت، يرسل [5].

رَوَى عن أنس، والسائب بن يزيد، وعوف بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى كتابةً، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن أبي رافع، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه إبراهيم المعروف بِبَرَدَان بن أبي النضر، والسفيانان، ومالك، وعمرو بن الحارث، وموسى بن عقبة، وابن جريج، وابن إسحاق، وغيرهم.

قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: سالم أبو النضر عندك فوق سُمَيّ؟ قال: نعم. وقال أحمد، وابن معين، والعجلي، والنسائي: ثقة، زاد العجلي: رجل صالح، وكذا قال أبو حاتم، وزاد: حسن الحديث. وقال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث، مات في خلافة مروان بن محمد. وقال خليفة: مات سنة تسع وعشرين ومائة. وقال الجَنَديّ: سئل ابن عيينة عن سالم أبي النضر؟ فقال: كان ثقة، وكان يصفه بالفضل والعقل والعبادة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: له شأن، ما أكاد أُقَدِّم عليه كبير أحد، سمع أنسًا. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": سمعت أبي يقول: أبو النضر عن عثمان بن أبي العاص مرسل. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت. وقال ابن خلفون: وثقه ابن المديني، وابن نمير. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 13 و 498 و 934 و 935 و 1129 و 2498.

4 -

(زيد بن أسلم) العدويّ مولى عمر بن الخطاب، أبو عبد الله، ويقال: أبو أسامة المدنيّ، ثقة فقيه، يرسل [3].

رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر، وربيعة بن عباد الدِّيلي، وسلمة ابن الأكوع، وأنس، وأبي صالح السمان، وبسر بن سعيد، والأعرج، وغيرهم.

ورَوَى عنه أولاده الثلاثة: أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن، ومالك، وابن عجلان، وابن جريج، وأيوب السختياني،، والسفيانان، والدَّرَاوَرْديّ، وجماعة.

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: لم يسمع من جابر، ولا من أبي هريرة، وقال مالك

ص: 190

عن ابن عجلان: ما هِبْتُ أحدا قط هيبتي زيد بن أسلم. وقال العطاف بن خالد: حَدّث زيد بن أسلم بحديث، فقال له رجل: يا أبا أسامة عمّن هذا؟ فقال: يا ابن أخي ما كنا نجالس السفهاء. وقال أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن. وقال البخاري في "تاريخه": قال زكريا بن عدي: ثنا هشيم، عن محمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: كان علي بن الحسين يجلس إلى زيد بن أسلم، ويتخطى مجالس قومه، فقال له نافع ابن جبير بن مُطعِم: تتخطى مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب؟ فقال علي: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه. وقال حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر: لا أعلم به بأسا إلا أنه يفسر برأيه القرآن، ويكثر منه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال خليفة وغير واحد: مات سنة ست وثلاثين ومائة، زاد بعضهم في العشر الأول من ذي الحجة. وقيل: غير ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا.

5 -

(عبيد الله بن أبي رافع) المدنيّ مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان كاتب عليّ رضي الله عنه، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، وأمه سلمى، وعن علي، وكان كاتبه، وأبي هريرة، وشُقْران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى عنه أولاده: إبراهيم، وعبد الله، ومحمد، والمعتمر، والحسن بن محمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين بن علي، وسالم أبو النضر، وابن المنكدر، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وبُسْر بن سعيد، والحكم بن عتيبة، والأعرج، وعبد الله بن الفضل الهاشمي، وعاصم بن عبيد الله، وآخرون.

قال أبو حاتم، والخطيب: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات" أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث.

6 -

(أبوه) أبو رافع القبطيّ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: اسمه إبراهيم، وقيل:

ص: 191

أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز، وقيل: صالح. يقال: إنه كان للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعتقه لمّا بَشّره بإسلام العباس وكان إسلام أبي رافع قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد أحدًا، وما بعدها. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وعنه أولاده: الحسن، ورافع، وعبيد الله، والمعتمر، ويقال: المغيرة، وسلمى، وأحفاده: الحسن، وصالح، وعبيد الله، أولاد علي بن أبي رافع، وعلي بن الحسين بن علي، وأبو سعيد المقبري، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وأبو غَطَفَان بن طريف المُرّيّ، وعمرو بن الشريد بن سُويد الثقفي، وحُصين والد داود، وسعيد بن أبي سعيد، مولى ابن حزم، وشرحبيل بن سعد، وغيرهم. قال الواقدي: مات بالمدينة بعد قتل عثمان، وقيل: مات في خلافة علي. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة كلهم.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من سالم، وشيخه بصريّ، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عِليٍّ الجهْضَمِيُّ) -بفتح الجيم، وسكون الهاء، بعدها ضاد معجمة-: نسبة إلى الجهاضمة بطن من الأزد، والجهاضم محلّة لهم بالبصرة. (1) (حَدَّثنَا سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنةَ في بَيْتِهِ) متعلّق بـ "حدّثنا" قال نصر:(أَنَا سَألتُهُ) أي سألت سفيان (عَنْ سَالِمٍ) متعلّق بـ "حدّثنا" أيضًا، أو متعلّق بحال مقدّر: أي حال كونه روايًا عن سالم (أَبِي النَّضْرِ) بدل من "سالم"(ثُمَّ مَرَّ) أي استمرّ سفيان (في الحدِيثِ) أي في سوقه يعني أنه استمرّ فيه، ولم

(1)"لبّ اللباب" 1/ 225.

ص: 192

يقطعه (قَالَ) سفيان (أَوْ) للشكّ (زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) يعني أن سفيان شكّ فيمن حدّثه بهذا الحديث، هل هو سالم أبو النضر، أو زيد بن أسلم، وهذا الشكّ لا يضرّ بصحّة الحديث؛ لأن كلّا منهما ثقة، كما سيأتي تحقيقه في السائل، إن شاء الله تعالى (عَنْ عُبَيْدِ الله بْن أَبِي رَافِع، عَنْ أَبِيهِ) أبي رافع مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهيةَ (أُلْفِيَنَّ) -بضمّ الهمزة، بصيغة المتكلّم المؤكَّد بالنون الثقيلة، منَ ألفَيتُ الشيءَ: إذا وجدته، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم نهى نفسه عن أن يَجِدهم على هذه الحالة، والمراد به نهيهم عن أن يكونوا على هذه الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها يجدهم صلى الله عليه وسلم عليها. قاله السنديّ.

وقال الطيبيّ: هو كقولك: لا أَرَيَنَّك ههنا، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عن أن يجدهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على تلك الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها وجدهم صلى الله عليه وسلم كذلك، فهو من باب إطلاق السبّب على السبب، ومن الإيمائية. (1).

(أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ) أي سريره المزَيَّنِ في قُبّة، أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير، فهو حَجَلَة. وأراد بهذه الصفّة أصحاب الترفّه والدَّعَة الذين لزموا البيوت، وصُدّوا عن طلب العلم والحديث. ويحتمل أن يريد بهذا الوصف التكبّر والسلطنة. (2)

(يَأْتِيهِ الْأَمْرُ) زاد في رواية: "من أمري". والجملة في محلّ نصب على الحال، و"الأمر" بمعنى الشأن، فيعُمّ الأمر والنهي، فيوافق البيان بقوله (مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ) و"أمرت"، و"نهيت" بالبناء للفاعل (فَيَقُولُ) ذلك الأحد؛ إعراضًا عن ذلك الأمر (لَا أَدْرِي) هذا الأمر، أو لا أدري غير القرآن، ولا أتبع غيره. وقوله:(مَا وَجَدْنَا في كِتَابِ الله اتَّبَعْنَاهُ)"ما" موصولة مبتدأ، خبره جملة "اتّبعناه": أي وليس هذا منه، فلا نتّبعه. ويَحتمل أن تكون "ما" نافية، والجملة كالتأكيد لقوله:"لا أدري"، وجملة "اتّبعناه" حالٌ: أي وقد اتّبعنا كتاب الله، فلا نتّبع غيره (3).

(1)"الكاشف عن السنن" 2/ 628 - 629.

(2)

المصدر السابق.

(3)

"شرح السنديّ" 1/ 17.

ص: 193

وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: يجوز أن يُراد بقوله: "الأمر من أمري": الأمر الذي هو بمعنى الشأن، ويكون "مما أمرت به، أو نهيت عنه" بيانًا للأمر الذي هو الشأن؛ لأنه أعمّ من الأمر والنهي. وقوله: "فيقول: لا أدري" مرتّبٌ على "يأتيه"، والجملة كما هي حالٌ أخرى من المفعول، ويكون النهي منصبّا على المجموع: أي لا أُلفيَنّ أحدكم حالةَ أنه يتكىء، ويأتيه الأمر، فيقول: لا أدري. (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، و (أبو داود)(4605) عن أحمد بن محمد ابن حنبل، وعبد الله بن محمد النُّفيليّ، كلاهما عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه و (الترمذي)(2663) عن قتيبة، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، وسالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، وغيره رفعه. قال الترمذيّ: ورَوَى بعضُهم عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وسالمٍ أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث على الانفراد بَيّنَ حديث محمد بن المنكدر من حديث سالم أبي النضر، وإذا جمعهما روى هكذا. انتهى، و (الحميديّ) 551 عن سفيان به. قال الحميديّ: قال سفيان: وحدّثنا ابن المنكدر مرسلًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث. قال سفيان: وأنا لحديث ابن المنكدر أحفظ لأني سمعته أوّلًا، وقد حفظت هذا أيضًا، و (أحمد)(6/ 8) عن عليّ بن إسحاق، عن عبد الله، عن ابن لَهِيعة، عن سالم أبي النضر به،

(1)"الكاشف عن السنن" 2/ 629.

ص: 194

و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 17) ومن طريقه (الحاكم)(1/ 108) وصححه، ووافقه الذهبيّ و (البيهقيّ) في "السنن الكبرى"(7/ 76) وفي "دلائل النبوّة"(1/ 24) و (البغويّ) في "شرح السنّة"(101)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(13)، وفوائده تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

14 -

(حَدَّثَنَا أَبو مَرْوَانَ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثَمانَ الْعُثَمانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا، مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو مَرْوَانَ، مُحَمَّدُ بْنُ عُثَمانَ) بن خالد بن عُمر بن عبد الله بن الوليد بن عثمان ابن عفان القرشيّ الأمويّ الْعُثْمَانيُّ، نزيل مكة، صدوقٌ، يُخطىء [10].

رَوَى عن أبيه، وابن أبي الزناد، وابن أبي حازم، وإبراهيم بن سَعْد، والدَّرَاوَرْديّ، ومحمد بن ميمون، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن ماجه، ورَوَى النسائي في "خصائص علي" عن زكريا السِّجْزيّ عنه، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وموسى بن هارون، وغيرهم.

قال أبو حاتم: ثقة. وقال صالح بن محمد الأسدي: ثقة صدوق، إلا أنه يروي عن أبيه المناكير، قيل: ما حاله؟ قال: لا نعرفه -يعني أباه- لم أسمع أحدا يحدث عنه غير سلمة بن شبيب. قال الحاكم: وقد حدث عنه أهل المدينة، وغيرهم، وفي حديثه بعض المناكير. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، ويخالف مات بمكة في آخر سنة أربعين أو أول سنة إحدى وأربعين ومائتين. وقال موسى بن هارون: مات سنة إحدى وأربعين. تفرّد به المصنّف، والنسائي في "خصائص عليّ رضي الله عنه". وله في هذا الكتاب (39) حديثًا.

ص: 195

2 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة، تُكُلِّم فيه بلا قادحٍ [8].

رَوَى عن أبيه، وصالح بن كيسان، والزهري، وهشام بن عروة، وصفوان بن سُليم، ومحمد بن إسحاق، وشعبة، ويزيد بن الهاد، وخلق كثير.

ورَوَى عنه الليث، وقيس بن الربيع، وهما أكبر منه، ويزيد بن الهاد، وشعبة، وهما من شيوخه، والقعنبي، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وابناه: يعقوب، وسعد، وجماعة.

قال أحمد: ثقة. وقال أيضًا: أحاديثه مستقيمة. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: كان وكيع كَفَّ عن حديث إبراهيم بن سعد، ثم حدث عنه بعدُ، قلت: لم؟ قال: لا أدري، إبراهيم ثقة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة. وقال أيضًا: إبراهيم أحب إلي في الزهري من ابن أبي ذئب، وقال أيضًا: إبراهيم أثبت من الوليد بن كثير، ومن ابن إسحاق. وقال الدُّوريّ: قلت ليحيى: إبراهيم أحب إليك في الزهري أو الليث؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال ابن معين أيضًا، والعجلي، وأبو حاتم: ثقة. وقال مرة: ليس به بأس. وقال علي بن الجعد: سألت شعبة عن حديث لسعد بن إبراهيم، فقال لي: فأين أنت عن ابنه؟ قلت: وأين ذا؟ قال: نازل على عمارة بن حمزة، فأتيته، فحدثني. وقال البخاري: قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه. وقال صالح جزرة: حديثه عن الزهري ليس بذاك؛ لأنه كان صغيرا، حين سمع من الزهري. وقال الدُّوري عن ابن معين في حديث جمع القرآن: ليس أحد حدث به أحسن من إبراهيم بن سعد، وقد حدث مالك بطرف منه. وقال أبو داود: ولي بيت المال ببغداد. وقال ابن خِرَاش: صدوق.

وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أنه قدم بغداد سنة (84)، فأكرمه الرشيد، وفيها أرخ ابن أبي عاصم وفاته. قال الخطيب: حدث عنه يزيد بن الهاد، والحسين بن

ص: 196

سيار الحراني، وبين وفاتيهما مائة واثنتا عشرة سنة. وذكر ابن عدي في "الكامل" عن عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: ذُكر عند يحيى بن سعيد عُقَيل، وإبراهيم بن سعد، فجعل كأنه يضعفهما، يقول: عُقيل وإبراهيم، ثم قال أبي: أَيْشٍ ينفع هذا؟ هؤلاء ثقات، لم يَخْبُرْهما يحيى. وعن أبي داود السجستاني: سمعت أحمد سُئل عن حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أنس، مرفوعا:"الأئمة من قريش"؟، فقال: ليس هذا في كتب إبراهيم بن سعد، لا ينبغي أن يكون له أصل.

قال الحافظ: رواه جماعة عن إبراهيم، ونقل الخطيب أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالْعُود، وولي قضاء المدينة. وقال ابن عيينة: كنت عند ابن شهاب، فجاء إبراهيم بن سعد، فرفعه، وأكرمه، وقال: إن سعدا أوصاني بابنه، وسعدٌ سعدٌ. وقال ابن عدي: هو من ثقات المسلمين، حدث عنه جماعة من الأئمة، ولم يختلف أحد في الكتابة عنه، وقول من تكلم فيه تحامل، وله أحاديث صالحة، مستقيمة، عن الزهري وغيره.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول في إبراهيم ما تقدّم عن "التقريب" إنه ثقة حجة، تُكُلّم فيه بلا قادح، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

قال عبد الله بن أحمد: وُلد سنة (108) أخبرني بذلك بعض ولده. وقال أبو موسى: مات سنة (2) أو (183). وقال ابن سعد، وابن المديني، وخليفة، وابن أبي خيثمة، وغيرهم: مات سنة (83) زاد علي بن المديني: وهو ابن (73) سنة. وقال ابن سعد: وهو ابن (75) سنة. وقال سعيد بن عُفير، وأبو حسان الزيادي: مات سنة (84). وقال أبو مروان العثماني: سمعت من إبراهيم بن سعد سنة (85)، ومات بعد ذلك. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (30) حديثًا.

3 -

(أبوه) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق، ويقال: أبو إبراهيم، أمه أم كلثوم بنت سعد، وكان قاضي المدينة، والقاسم بن محمد حي، ثقة فاضلٌ عابدٌ [5].

رأى ابن عمر، وروى عن أبيه، وعميه: حميد، وأبي سلمة، وابن عم أبيه طلحة

ص: 197

ابن عبد الله بن عوف، وابن عمه عمر بن أبي سلمة، وأخيه المسور، وخاليه: إبراهيم وعامر ابني سعد، وعن أنس، وعبد الله بن جعفر، وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف، ونافع، والقاسم بن محمد وابن المنكدر، وجماعة.

ورَوَى عنه ابنه إبراهيم، وأخوه صالح، وعبد الله بن جعفر المخزومي، وعياض ابن عبد الله الْفِهْري، وابن عجلان، والزهري، وموسى بن عقبة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن عيينة، وغيرهم من أهل الحجاز، وأيوب السختياني، والحمادان، والثوري، وشعبة، ومسعر، وزكرياء بن أبي زائدة، وابن إسحاق، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وقال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة ولي قضاء المدينة، وكان فاضلًا. وقال عبد الله بن شعيب، عن ابن معين: ثقة لا يُشَكُّ فيه. وقال الدُّوري، وغير واحد، عن ابن معين: ثقة. وكذا قال العجلي، وأبو حاتم، والنسائي. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن المديني، وقيل له: سمع سعد بن إبراهيم من عبد الله بن جعفر؟ قال: ليس فيه سماع، ثم قال علي: لم يَلْقَ سعدُ بنُ إبراهيم أحدًا من الصحابة. وقال أبو حاتم عن ابن المديني: كان سعد لا يحدث بالمدينة، فلذلك لم يكتب عنه أهل المدينة، ومالك لم يكتب عنه، وإنما سمع منه شعبة، وسفيان بواسط، وابن عيينة سمع منه بمكة. وقال حجاج بن محمد: كان شعبة إذا ذكره قال: حدثني حبيبي سعد. وقال الساجي: ثقة أجمع أهل العلم على صدقه، والرواية عنه، إلا مالكًا، وقد رَوَى مالك عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، وصح باتفاقهم أنه حجة، وقال أحمد بن الْبَرْقِيّ: سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعد: إنه كان يرى القدر، وترك مالك الرواية عنه، فقال: لم يكن يرى القدر، وإنما ترك مالك الرواية عنه؛ لأنه تكلم في نسب مالك، فكان مالك لا يروي عنه، وهو ثبت، لا شك فيه. وقال ابن عيينة: قال ابن جريج أتيت الزهري بكتاب أَعْرِضُ عليه، فقلت: أعرض عليك؟ فقال: إني وعدت سعدا في ابنه، وسعدٌ سعدٌ، قال ابن جريج: فقلت: ما أشدَّ ما تَفْرَقُ منه. وذكره ابن المديني في الطبقة الثالثة من الرواة عن نافع.

ص: 198

وقال يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه: سرد سعد الصوم قبل أن يموت بأربعين سنة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول في سعد رحمه الله تعالى أنه ثقة ثبت حجة، ولا يلحقه شيء من الجرح، والله تعالى أعلم.

قال إبراهيم ابنه: مات سنة خمس وعشرين ومائة. وقال يعقوب بن إبراهيم: مات سنة (26)، وقال مرة: سنة (127)، وهو ابن (72) سنة. وقال خليفة وغير واحد: مات سنة (7)، وقال خليفة مرة: مات سنة (8). وأرخه ابن سعد، وابن حبان في "الثقات" سنة (27)، وحكى بن حبان الخلاف في وفاته أيضا. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.

4 -

(القاسم بن محمد) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن المدنيّ الفقيه، ثقة ثبت فاضلٌ، من كبار [3].

رَوَى عن أبيه، وعمته، عائشة، وعن العبادلة، وعبد الله بن جعفر، وأبي هريرة، وعبد الله بن خباب، ومعاوية، ورافع بن خَدِيج.

ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وهما من أقرانه، ويحيى وسعد ابنا سعيد الأنصاري، وابن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وعبيد الله بن عمر، وسعد بن إبراهيم، وآخرون.

قال ابن سعد: أمه أم ولد يقال لها: سودة، وذكر عن الواقديّ أنه قال: كان ثقة، رفيعًا عالمًا فقيها إماما ورعا كثير الحديث. وقال البخاري: قُتل أبوه، وبقي القاسم يتيما في حجر عائشة رضي الله عنها. وقال الزبير: ما رأيت أبا بكر وَلَد ولدا أشبه به من هذا الفتى. وقال عبد الله بن شَوْذَب عن يحيى بن سعيد: ما أدركنا بالمدينة أحدا نفضله على القاسم. وقال وهيب، عن أيوب: ما رأيت أفضل منه. وقال البخاري في "الصحيح": حدثنا علي، حدثنا ابن عيينة، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه. وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة منه،

ص: 199

ولا أَحَدَّ ذهنا. وقال جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، عن ابن معين: عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، ترجمة مُشَبّكَةٌ بالذهب. وقال ابن عون: كان القاسم، وابن سيرين، ورجاء بن حَيْوَة يحدثون بالحديث على حروفه. وقال خالد بن نزار، عن ابن عيينة: كان أعلم الناس بحدث عائشة ثلاثة: القاسم، وعروة، وعمرة. وقال مالك: كان قليل الحديث والفتيا. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلي، فجاء إليه أعرابي، فقال له: أيما أعلم أنت أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله، قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكيَ نفسه، وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذبَ، قال: وكان القاسم أعلمهما. وقال ابن وهب عن مالك: كان القاسم من فقهاء هذه الأمة، قال: وكان ابن سيرين يأمر من يحج أن ينظر إلى هدى القاسم، فيقتدي به. وقال مصعب الزبيري، والعجلي: كان من خيار التابعين. وقال العجلي أيضا: مدني تابعي ثقة، نَزِهٌ، رجل صالح. وقال ابن وهب: حدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول له: لو كان لي من هذا الأمر شيء ما عَصَّبْتُهُ إلا بالقاسم.

وقال يعقوب بن سفيان: كان قليل الحديث والفتيا. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان من سادات التابعين، من أفضل أهل زمانه علمًا وأدبًا وفقهًا، وكان صَمُوتًا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء أرادوا القاسم.

قال ضمرة عن رجاء بن جميل: مات بعد عمر بن عبد العزيز سنة إحدى، أو اثنتين ومائة. وقال عبد الله بن عمر: مات القاسم وسالم أحدهما سنة خمس، والآخر سنة ست. وقال خليفة: مات سنة ست، أو أول سنة سبع. وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين، وابن المديني: مات سنة ست ومائة. وكذا قال غير واحد، زاد بعضهم: وهو ابن سبعين سنة. وقال ابن سعد: مات سنة اثنتي عشرة ومائة. وقيل: غير ذلك.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.

ص: 200

5 -

(عائشة) بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مُرّة بن كعب بن لؤيّ القُرَشيِّةُ التَّيْميَّةُ، وأمها أم رومان بنت عامر ابن عُويمر الكنانية، وُلدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس، فقد ثبت في "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، وهي بنت ست، وقيل: سبع، ويجمع بأنها كانت أكملت السادسة، ودخلت في السابعة، ودخل بها وهي بنت تسع، وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى، كما أخرجه ابن سعد عن الواقدي، عن أبي الرجال، عن أبيه، عن أمه عمرة، عنها قالت: أُعرِس بي على رأس ثمانية أشهر. وقيل: في السنة الثانية من الهجرة. وقال الزبير بن بكار: تزوجها بعد موت خديجة، قيل: بثلاث سنين. قال أبو عمر: كانت تُذكَر لجبير بن مُطعم، وتسمى له. أخرجه ابن سعد من حديث ابن عباس بسند فيه الكلبي، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن نمير، عن الأجلح، عن ابن أبي مليكة، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلى أبي بكر، فقال: يا رسول الله إني كنت أعطيتها مُطعِمًا لابنه جبير، فدَعْني حتى أَسُلَّها منهم، فاستسلّها منهم، فطلّقها، فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي "الصحيح" من رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا بنت ست سنين، وبَنَى بي وأنا بنت تسع، وقُبِضَ وأنا بنت ثمان عشرة سنة، وفي "الصحيح" أيضا: لم يَنكِح بكرا غيرها، وهو متفق عليه بين أهل النقل. وكانت تكنى أم عبد الله، بابن أختها عبد الله بن الزبير، قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة، قال حدثتني الصادقة ابنة الصديق، حبيبة حبيب الله. وقال أبو الضحى، عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة، وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة. وقال أبو بردة ابن أبي موسى، عن أبيه: ما أشكل علينا أمر، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علمًا. وقال الزهري: لو جُمع

ص: 201

علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل.

وأسند الزبير بن بكار، عن أبي الزناد قال: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك!، فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا.

ماتت سنة ثمان وخمسين، في ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة خلت من رمضان عند الأكثر. وقيل: سنة سبع، ذكره علي بن المديني عن ابن عيينة، عن هشام بن عروة، ودُفنت بالبقيع (1). أخرج لها الجماعة، وروت (2210) أحاديث، اتفق الشيخان منها على (174) وانفرد البخاريّ (54) ومسلم (68) ولها في هذا الكتاب (386) حديثًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، وأخرج له النسائيّ في "الخصائص".

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه أيضًا، فإنه دمشقيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ: سعد، عن القاسم، ورواية الراوي عن عمّته: القاسم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها.

5 -

(ومنها): أن فيه القاسم بن محمد من الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، وقد تقدّموا.

6 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، ومن المشهورين بالفتوى. والله تعالى أعلم.

(1) راجع "الإصابة" 8/ 231 - 235. و"طبقات ابن سعد" 8/ 46 - 65. و"تهذيب التهذيب" 4/ 680 - 681.

ص: 202

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: مَنْ أَحْدَثَ) أي ابتدع، قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: حَدَثَ الشيءُ حدُوثًا، من باب قعد: تجدّد وجوده، فهو حادثٌ، وحَدِيثٌ، ومنه يقال: حدثَ به عيبٌ: إذا تجدّد، وكان معدومًا قبل ذلك، ويتعدّى بالألف، فيقال: أحدثته، ومنه "محدَثَات الأمور"، وهي التي ابتدعها أهل الأهواء. انتهى (1). وقال القرطبيّ: أي من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله، فهو مفسوخٌ، لا يعمل به، ولا يُلتفتُ إليه. انتهى (2).

(في أَمْرِنَا) أي في شأننا، فالأمر واحد الأمور، أو فيما أمرنا به، فالأمر واحد الأوامر، أُطلق على المأمور به، والمراد على الوجهين: الدين القيّم ووصف الأمر بقوله: (هَذَا) إشارةً إلى أن أمر الإسلام كَمُلَ واشتهر، وشاع، وظهر ظهور المحسوس، بحيث لا يخفى على كلّ ذي بصر وبصيرة، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، فمن رام الزيادة عليه فقد حاول أمرًا غير مرضيّ؛ لأنه من قصور فهمه رآه ناقصًا (مَا لَيْسَ مِنْهُ) "ما" موصولة مفعول "أحدث" أي أحدث الشيء الذي ليس منه: أي من أمر الدين، وأشار إلى أن إحداث ما له أصل في الكتاب والسنّة ليس بمردود، كأن يُجدّد سنة أُميتت، وتناساها الناس، أو أحدث شيئًا يشهد له الكتاب والسنّة، مما لا يشمله تعريف البدعة الشرعيّة، كجمع الصدّيق رضي الله عنه القرآن، وجمع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد في قيام رمضان (فَهُوَ) أي ذلك المحدث (رَدٌّ) -بفتح، فسكون- أي مرود، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خَلْق ومخلوق، ونَسْخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل، غير معتد به. قاله في "الفتح"(3).

(1)"المصباح المنير" 1/ 124.

(2)

"المفهم" 5/ 171.

(3)

"الفتح"5/ 642.

ص: 203

والمراد أن ذلك الأمر واجب الردّ، فيجب على الناس ردّه، ولا يجوز لأحد اتّباعه، والتقليد فيه. وقيل: ضمير "فهو" يعود إلى "من": أي فذلك الشخص مرود مطرود عن جملة أهل السنّة والجماعة، فيكون من الفرق الضالّة التي تفترق إليها هذه الأمة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه المصنّف في "كتاب الفتن"، كما سيأتي برقم (3982) بإسناد صحيح، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار"، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "الجماعة". (1).

وقال الطيبيّ في "الكاشف" قوله: "من أحدث في أمرنا": الأمر حقيقة في القول الطالب للفعل، مجاز في الفعل، والشأنِ، والطريقِ، وأُطلق هنا على الدين من حيث إنه طريقه، أو شأنه الذي يتعلّق به، وهو مهتمّ بشأنه، بحيث لا يخلو عن شيء من أقواله وأفعاله.

والمعنى أن من أحدث في الإسلام رأيًا لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر، أو خفيّ، ملفوظ، أو مستنبطٌ، فهو مرود عليه. قال: روى محيي السنّة عن يحيى بن سعيد، سمعت أبا عبيد رحمه الله تعالى يقول: جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو رد"، وجميع أمر الدنيا في كلمة:"إنما الأعمال بالنيّات". انتهى. (2).

(1) رواه المصنف في "كتاب الفتن" برقم 3992 وفي سنده عباد بن يوسف، روى عن جماعة، ووثّقه ابن حبان، وغيره، راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 285. وراجع "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 3/ 480 رقم 1492.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 603.

ص: 204

[تنبيه]: هذا الحديث فيه قصّة، أخرجها مسلم في "صحيحه" من طريق أبي عامر الْعَقَدِيّ، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يُجمَع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من عَمِلَ عَمَلًا، ليس عليه أمرنا، فهو رَدٌّ".

قال الحافظ رحمه الله تعالى: وقد رويناه في "كتاب السنّة" لأبي الحسين بن حامد من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الواحد، وفيه قصّة، قال:"عن سعد بن إبراهيم قال: كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب أوصى بوصية، فجعل بعضها صدقة، وبعضها ميراثًا، وخلط فيها، وأنا يومئذ على القضاء، فما دَرَيتُ كيف أقضي فيها؟ فصليت بجنب القاسم بن محمد، فسألته، فقال: أَجِزْ من ماله الثلث وصية، ورُدَّ سائر ذلك ميراثًا، فإن عائشة حدثتني"، فذكره بلفظ إبراهيم بن سعد.

قال: وفي هذه الرواية دلالة على أن قوله في رواية مسلم: "يُجمَع ذلك كله في مسكن واحد، هو بقية الوصية، وليس هو من كلام القاسم بن محمد، لكن صَرّح أبو عوانة في روايته بأنه كلام القاسم بن محمد، وهو مشكل جِدّا، فالذي أوصى بثلث كل مسكن أوصى بأمر جائز اتفاقًا، وأما إلزام القاسم بأن يُجمَع في مسكن واحد ففيه نظر؛ لاحتمال أن يكون بعض المساكن أغلى قيمةً من بعض، لكن يَحتَمِل أن تكون تلك المساكن متساويةً، فيكون الأولى أن تقع الوصية بمسكن واحد من الثلاثة، ولعله كان في الوصية شيء زائد على ذلك يوجب إنكارها، كما أشارت إليه رواية أبي الحسين بن حامد. قال: وقد استشكل القرطبيّ، شارح مسلم ما استشكلته، وأجاب عنه بالحمل على ما إذا أراد أحد الفريقين من الورثة، أو الموصَى لهم القسمةَ، وتمييز حقّه، وكانت المساكن بحيث يُضمّ بعضها إلى بعض في القسمة، فحينئذ تقوّم المساكن قيمة التعديل، ويُجمع نصيب الموصَى لهم في موضع واحد، ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك بحسب

ص: 205

مواريثهم. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ (1).

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: مراد القاسم أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله، وأنفع جائز، وقد حُكي هذا عن عطاء، وابن جريج. وربما يستدل بعض من ذهب إلى هذا بقوله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]، ولعله أخذ هذا من جمع العتق، فإنه صحّ أن رجلًا أعتق ستة مماليك عند موته، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجزّأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة. أخرجه مسلم.

وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث؛ لأن تكميل عتق العبد مهما أمكن فهو أولى من تشقيصه، ولهذا شُرعت السراية والسعاية، إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد، وقال صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق بعض عبده:"هذا هو عتيق كله ليس لله شريك"(2).

وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم، وأن وصية الموصي لا تُجمع، ويُتَّبع لفظه إلا في العتق خاصة؛ لأن المعنى الذي جُمع له فيه العتق موجود في بقية الأموال، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي.

وذهب طائفة من الفقهاء في العتق على أنه يَعْتِق من كل عبد ثلثه، ويُستسعون في الباقي، واتباع قضاء النبي صلى الله عليه وسلم أحق وأولي.

والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصَى له للورثة في المساكن كلها ضررا عليهم، فَيُدفع عنهم هذا الضرر، ويجمع الوصية في مسكن واحد، فإن الله شرط في الوصية عدم المضارة؛ لقوله:{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، فمن ضار في وصيته كان عمله مردودا عليه؛ لمخالفته ما شرط الله تعالى في الوصية.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه القاسم رحمه الله تعالى هو الوجيه؛ لوضوح حجته. والله تعالى أعلم.

(1)"الفتح" 5/ 642.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في"كتاب العتق" من "سننه" رقم (3933).

ص: 206

وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو أوصى بثلث مساكنه كلها، ثم تلف ثلثا المساكن، وبقي منها ثلث أنه يُعطَى كلها للموصَى له. وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة. وحُكي عن أبي يوسف ومحمد، ووافقهم القاضي أبو يعلى من الحنابلة خلافه، وبَنَوا ذلك على أن المساكن المشتركة تُقسم بين المشتركين فيها قسمة إجبار، كما هو قول مالك. وظاهر كلام ابن أبي موسى من الحنابلة، والمشهور عندهم أن المساكن المتعددة لا تقسم قسمة إجبار، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي رحمهما الله.

وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة، والموصى لهم طلب قسمة المساكن، فكانت متقاربة بحيث يُضم بعضها إلى بعض في القسمة، فإنه يجاب إلى قسمتها على قولهم، وهذا التأويل بعيد، مخالف للظاهر. انتهى كلام ابن رجب ببعض تصرّف (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد ابن رجب ببعض المالكية القرطبيّ، وقد سبق تأويله هذا، وعندي أنه لا بُعد في تأويله، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا (2/ 14) بهذا الإسناد فقط، و (البخاري) في "صحيحه"(3/ 214) عن يعقوب، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عنها. وفي "خلق أفعال العباد"(29) عن العلاء بن عبد الجبّار، عن عبد الله بن جعفر المخرمي، عن سعد بن إبراهيم به. و (مسلم)(5/ 132) عن محمد بن الصبّاح، وعبد

(1)"جامع العلوم والحكم" 1/ 124 - 125.

ص: 207

الله بن عون الهلالي جميعًا عن إبراهيم بن سعد به. وعن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد جميعًا عن أبي عامر العقديّ، عن عبد الله بن جعفر به. و (أبو داود)(4606) عن محمد بن الصبّاح، به. وعن محمد بن عيسى، عن عبد الله بن جعفر المخرميّ، وإبراهيم ابن سعد به. و (أحمد) 6/ 73 عن إسحاق بن عيسى، عن عبد الله بن جعفر به. و (6/ 146) عن محمد بن جعفر غندر، عن عبد الله بن جعفر المخرميّ و (6/ 240) عن يزيد بن هارون، عن إبرهيم بن سعد به. و (6/ 256) عن حماد بن خالد، عن عبد الله بن جعفر به. و (6/ 270) عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه به. و (الطيالسيّ)(1422) و (أبو عوانة)(4/ 18/ 19) و (ابن حبان) في "صحيحه"(26 و 27)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن هذا الحديث قاعدة عظيمة، من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.

2 -

(ومنها): أنه وقع في رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ".

ففي هذه الرواية ردّ على من قد يعاند من بعض الفاعلين في بدعة سُبق إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرواية الأولى، يقول: أنا ما أحدثت شيئًا، فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سُبق بإحداثها. قاله النوويّ رحمه الله تعالى (1).

وقال في "الفتح": واللفظ الثاني -وهو قوله: "من عَمِلَ"- أعم من اللفظ الأول -وهو قوله: "من أحدث"- فيُحتَجُّ به في إبطال جميع العقود المنهية، وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه ردُّ المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها

(1)"شرح مسلم" 12/ 242.

ص: 208

ليست من أمر الدين، فيجب ردّها. انتهى (1).

3 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله: "ليس عليه أمرنا"، والمراد به أمر الدين.

4 -

(ومنها): أن الصلح الفاسد مُنتَقَضٌ، والمأخوذ عليه مُستحق الرد.

5 -

(ومنها): أن هذا الحديث دليلٌ لمن يقول من الأصوليين: إن النهي يقتضي الفساد، ومن قال: لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد، ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة. قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا جواب فاسد.

وقال القرطبيّ: فيه حجةً على أن النهي يدلّ على الفساد، وهو قول جمهور الفقهاء. وذهب بعض المالكيّة، وأكثر المتكلّمين إلى أنه لا يدل على الفساد، وإنما مدلوله المنع من إدخال المنهيّ عنه في الوجود فقط، وأما حكمه إذا وقع من فساد أو صحّة، فالنهي لا يدلّ عليه، ويُنظر دليل ذلك من خارج النهي. وقد اختلف حال المنهيّات، فبعضها يصحّ إذا وقع، كالطلاق في الحيض، وبعضها لا يصحّ، كبيع الملاقيح والمضمامين، وبعضها يَختلف فيه الفقهاء، كالبيع عند النداء. قاله القرطبيّ (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ هو ما عليه جمهور الفقهاء من أن النهي يقتضي الفساد، وهذا فيما إذا لم يدلّ دليل على خلافه، كالنهي عن تلقّي الجلب، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تَلَقَّوُا الجلب، فمن تلقاه، فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"، فقد خير صلى الله عليه وسلم صاحبه بعد النهي بين أن يجيز البيع، وبين أن يُبطله، فدلّ على أن النهي ليس للفساد، ومثله النهي عن التصرية، فقد أخرج مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين، بعد أن يَحْلُبها، فإن رضيها أمسكها، وإن

(1)"الفتح" 5/ 642.

(2)

"المفهم" 5/ 171.

ص: 209

سخطها رَدّها، وصاعا من تمر". فقد خيّر صلى الله عليه وسلم المشتري بين الرضا، وبين الردّ مع صاع من تمر، فدلّ على أن النهي ليس للفساد، وكذا كلّ نهي دلّ النصّ على عدم اقتضائه الفساد، وما عدا ذلك كلّه على الفساد. والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أن هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله، فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه، واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك. وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يُسمَّى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم، أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يُقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى، ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذًا حديث الباب نصف أدلة الشرع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قد كتب الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه "جامع العلوم والحكم" بحثًا نفيسًا في هذا الحديث، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، قال رحمه الله:

هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، كما أن حديث:"الأعمالُ بالنيات" ميزان للأعمال في باطنها، وهو ميزان للأعمال في ظاهرها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله تعالى

ص: 210

ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء.

قال: فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره، فهو غير مردود، والمراد بأمره ههنا دينه وشرعه، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد"، فالمعنى إذًا أنّ من كان عمله خارجا عن الشرع، ليس متقيدا بالشرع، فهو مردود. وقوله:"ليس عليه أمرنا" إشارةٌ إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها، بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة، موافقا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجا عن ذلك فهو مردود، فأما العبادات فما كان منها خارجا عن حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالكلية فهو مردود على عامله، وعاملُه يدخل تحت قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} [الشورى: 21]، فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية (1).

وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية. وليس ما كان قربة في عبادة، يكون قربة في غيرها مطلقًا، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قائما في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنه نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد، ويستظل، وأن يتم صومه (2).

فلم يجعل قيامه، وبروزه في الشمس قربة يوفي بنذرهما. وقد رُوي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر، فنذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا

(1)"المكاء": صفير الطير. و"التصدية": التصويت بالتصفيق وغيره.

(2)

أخرجه البخاريّ في "صحيحه" 13/ 446 "كتاب الأيمان والنذور".

ص: 211

يستظل، ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إعظاما لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم (1)، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربةً يُوفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أُخَر، كالصلاة، والأذان، والدعاء بعرفة، والبروزُ للشمس قربةٌ للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن، يكون قربة في كل المواطن، وإنما يُتبع في ذلك كلِّه ما وردت به الشريعة في مواضعها. وكذلك من تقرب بعبادة، نُهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد، أو صلى وقت النهي.

وأما من عَمِلَ عملا أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أَخَلّ فيه بمشروع، فهذا أيضا مخالف للشريعة، بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أو لا؟ فهذا لا يُطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه، فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل، أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع أو بالسجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمل مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضًا. وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطًا، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص.

وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله، فيكون مردودًا، كمن زاد ركعة عمدا في صلاته مثلًا، وتارة لا يبطله، ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعًا أربعًا، أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه. وقد يبدل ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا قد اختلف العلماء فيه، هل عمله مردود من أصله، أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عُهْدة الواجب، وأكثر الفقهاء

(1) أخرجه الطبرانيّ في "الكبير" 11/ 320 رقم (320).

ص: 212

على أنه ليس بمردود من أصله، وقد حَكَى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام، يقال لهم: الشمرية، أصحاب أبي شمر أنهم يقولون: إنه من صلى في ثوب كان في ثمنه درهم حرام أن عليه إعادة صلاته، وقال: ما سمعت قولا أخبث من قولهم، نسأل الله العافية. وعبد الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث، المطلعين على مقالات السلف، وقد استنكر هذا القول، وجعله بدعة، فدل على أنه لم يعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا،، ويُشبه هذا الحجُّ بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت (1). وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟.

وقريبٌ من ذلك الذبح بآلة محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك. ومنهم من قال: هي محرمة. وكذا الخلاف في ذبح المحرم الصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه بعينه، فلهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو إلى غير القبلة يبطلها؛ لاختصاص النهي بالصلاة، بخلاف الصلاة في الغضب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نُهي عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نُهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام، كالكذب والغيبة عند الجمهور. وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نُهي عنه في الإحرام، وهو الجماع، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر. وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نُهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسُّكْر عند

(1) أخرجه البزّار 2/ 6 "كشف" رقم (1079) وقال البزّار: فيه الضعف بيّن على أحاديث سليمان، ولا يتابعه أحدٌ، وهو ليس بالقويّ. وذكره الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 3/ 212 - 213 وقال: رواه البزّار، وفيه سليمان بن داود اليماميّ، وهو ضعيف. انتهى.

ص: 213

الأكثرين؛ لنهي السكران عن قربان المسجد، ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أن المراد مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عند كثير من العلماء.

وقد خالف في ذلك طائفة من السلف منهم: عطاء، والزهري، والثوري، ومالك، وحكي عن غيرهم أيضا المعاملات.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه بعض السلف هو الظاهر. والله تعالى أعلم.

وأما المعاملات، كالعقود، والفسوخ، ونحوهما، فما كان منها مغير الأوضاع الشرعية، كجعل حد الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفا (1) على فلان، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"المائة الشاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك مائة جلدة، وتغريب عام"(2).

وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه، أوعليه، أو لكون العقد يَشغَل عن ذكر الله عز وجل الواجبِ عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية، لا يَنتقِل به الملك أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه اضطرابا كثيرا، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يفيده، فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك.

والأقرب -إن شاء الله تعالى- أنه إن كان النهي عنه لحق الله تعالى، لا يفيد الملك بالكلية، ومعنى أن يكون الحق لله أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه، وإن كان النهي

(1)"العسيف" كالأجير وزنًا ومعنىً.

(2)

متّفقٌ عليه.

ص: 214

عنه لحق آدمي معين، بحيث يسقط برضاه به، فإنه يقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد، واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ، فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق، فلا عبرة برضاه ولا بسخطه، وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة؛ لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لم يبطل بذلك عمله.

فأما الأول: فله صور كثيرة:

(منها): نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضى باسقاطه، كنكاج المعتدة والمحرمة، والنكاح بغير ولي، ونحو ذلك. وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم فَرّق بين رجل وامرأة، تزوجها وهي حبلي، فردّ النكاح؛ لوقوعه في العدة (1).

(ومنها): عقود الربا، فلا يفيد الملك، ويؤمر بردّها. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من باع صاع تمر بصاعين أن يرده (2).

(ومنها): بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، والكلب، وسائر ما نهي عن بيعه مما لا يجوز بيعه.

وأما الثاني: فله صور عديدة:

(منها): إنكاح الولي مالا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها، لا بغير إذنها، وقد ردّ النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة ثيب، زوّجها أبوها، وهي كارهة (3).

وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه خير امرأة زُوِّجَت بغير إذنها (4).

(1) حديث ضعيف، أخرجه أبو داود في "سننه" 2/ 241 - 242 رقم 2131 و 2132.

(2)

أخرجه مسلم 6/ 25 "شرح النووي" رقم 79/ 1594.

(3)

أخرجه البخاريّ 10/ 244 رقم (5138).

(4)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (2098) والمصنّف، ويأتي برقم (1875) وأحمد 1/ 273.

ص: 215

وفي إبطال هذا النكاح، أو وقوفه على الإجازة، روايتان عن أحمد. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه، لم يكن تصرفه باطلًا من أصله، بل يَقِفُ على إجازته، فإن أجازه جاز، وإن ردّه بطل.

واستدلُّوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي صلى الله عليه وسلم شاتين، وإنما كان أمَرَهُ بأن يشتري شاة واحدة، ثم باع إحداهما، وقَبِلَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وخَصَّ ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان يتصرف لغيره في ماله بإذن، إذا خالف الإذن.

(ومنها): تصرف المريض في ماله كله، هل يقع باطلًا من أصله، أم يوقف تصرفه في الثلث على إجازة الورثة، فيه اختلاف مشهور للفقهاء، والخلاف في مذهب أحمد وغيره. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفِع إليه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لا مال له غيرهم، فدعا بهم، فجزّأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعة، وقال له قولا شديدًا (1). ولعل الورثة لم يجيزوا إعتاق الجميع. والله أعلم.

(ومنها): بيع المدلَّس ونحوه، كالمصراة، وبيع النجش، وتلقى الركبان، ونحو ذلك، وفي صحته كله اختلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد. وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه وردِّه، والصحيح أنه يصح، ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصراة بالخيار، وأنه جعل للركبان الخيار، إذا هبطوا السوق (2)، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله.

وقد أُورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة، فلم يذكر عنه جوابًا.

وأما بيع الحاضر للبادي: فمن صححه جعله من هذا القبيل، ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم، وهم غير منحصرين، فلا يتصور إسقاط حقوقهم، فصار

(1) أخرجه مسلم 6/ 154 "شرح النوويّ"، وأبو داود (3958) والترمذيّ (1364) والنسائيّ (1958) والمصنّف (2345).

(2)

متّفقٌ عليه.

ص: 216

كحق الله عز وجل.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ لعدم ورود نصّ يدلّ على صحته، كما ورد في المصرّاة، ونحوه. والله تعالى أعلم.

(ومنها): لو باع رقيقًا، يَحرُم التفريق بينهم، وفرق بينهم، كالأم وولدها، فهل يقع باطلا مردودا، أم يقف على رضاهم بذلك؟. وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد هذا البيع (1). ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم، ولو رضوا بذلك. وذهبت طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم، منهم النخعي، وعبيد الله بن الحسن العَنْبَريّ، فعلى هذا يتوجه أن يصح، ويقف على الرضا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ للحديث المذكور. والله تعالى أعلم.

(ومنها): لو خَصَّ بعض أولاده بالعطية دون بعض، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشير بن سَعْد لمّا خص ولده النعمان بالعطية أن يرده إليه، ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد، فإن هذه العطية تصح، وتقع مراعاةً، فإن ساوى بين الأولاد في العطية، أو استرد ما أعطي الولد جاز، وإن مات ولم يفعل شيئًا من ذلك، فقال مجاهد: هو ميراث. وحُكي عن أحمد نحوه، وأن العطية تبطل، والجمهور على أنها لا تبطل، وهل للورثة الرجوع فيها أم لا؟ فيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالبطلان هو الظاهر؛ لظاهر الحديث. والله تعالى أعلم.

(ومنها): الطلاق المنهي عنه، كالطلاق في زمن الحيض، فإنه قد قيل: إنه قد نُهي عنه لحق الزوج، حيث كانُ يخشَى عليه أن يعقبه فيه الندم، ومن نُهي عن شيء رِفقًا به،

(1) أخرجه أبو داود برقم (2696)، وفيه انقطاعٌ، وحسّنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، راجع "صحيح أبي داود" 2/ 514.

ص: 217

فلم يَنتَهِ عنه، بل فعله، وتجشم مشقته، فإنه لا يحكم ببطلان ما آلى به، كمن صام في المرض، أو السفر، أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله، وجلس يتكفف الناس، أو صلى قائما مع تضرره بالقيام للمرض، أو اغتسل، وهو يخشى على نفسه الضرر والتلف، ولم يتيمم، أو صام الدهر ولم يفطر، أو قام الليل ولم ينم، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه.

وقيل: إنما نُهي عن طلاق الحائض؛ لحق المرأة؛ لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة، ولو رضيت بذلك، بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض، فهل يزول بذلك تحريمه، فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهور من مذهب الشافعية والحنبليّة أنه يزول التحريم بذلك. وإن قيل: إن التحريم فيه لحق الزوج خاصة، فإذا أقدم عليه، فقد أسقط حقه فسقط، وإن عُلِّل بأنه لحق المرأة لم يمنع نفوذه، ووقوعه أيضا، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر؛ لوقوعه عند جميع المسلمين، لم يخالف فيه سوى شِرْذِمة يسيرة من الروافض ونحوهم، كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر، ولو تضرر به، ولكن إذا تضررت المرأة بذلك، وكان قد بقي شيء من طلاقها أُمر الزوج بارتجاعها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بارتجاع زوجته؛ تلافيا منه لضررها، وتلافيا منه لما وقع منه من الطلاق المحرم، حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرم، وليتمكن من طلاقها على وجه مباح، فتحصل إبانتها على هذا الوجه.

وقد رُوي عن أبي الزبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه، ولم يرها شيئًا. وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم، مثل ابنه سالم، ومولاه نافع، وأنس، وابن سيرين، وطاوس، ويونس بن جبير، وعبد الله بن دينار، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وغيرهم.

وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير، من المحدثين، والفقهاء، وقالوا: إنه تفرد بما خالف الثقات، فلا يقبل تفرده، فإن في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب عليه الطلقة، من وجوه كثيرة، وكان ابن عمر يقول لمن

ص: 218

سأله عن طلاق المرأة في الحيض: إن كنت طلقت واحدة أو اثنتين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بذلك، يعني بارتجاع المرأة، وإن كنت طلقتها ثلاثا، فقد عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.

وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى، لم يتايع عليها، وهو قوله: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1]، ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن ابن عمر، وإنما رَوَى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته للحديث، وهذا هو الصحيح.

وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثًا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رَدّها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روى ذلك عن أبي الزبير أيضا، من رواية معاوية بن عمار الدُّهْنِيّ عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقّا، فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه.

ورَوَى ابنُ لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير، فقال عن جابر: إن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليراجعها، فإنها امرأته"، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرد بقوله:"فإنها امرأته"، وهي لا تدُلُّ على عدم وقوع الطلاق، إلا على تقدير أن يكون ثلاثًا، فقد اختُلِفَ في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحابُ ابن عمر الثقاتُ الحفاظُ العارفون به الملازمون له لم يُختَلف عليهم فيه.

فرَوَى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا، وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم، ولا أعرف الحديث، حتى لقيت أبا غلاب، يونسَ بنَ جبير، وكان ذا ثَبْتٍ، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلقها واحدة. أخرجه مسلم (1). وفي رواية قال ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجهًا، ولا أفهمه.

وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات، من غير أهل الفقه والعلم، أن طلاق

(1)"صحيح مسلم" 5/ 319 - 320 بشرح النوويّ.

ص: 219

ابن عمر كان ثلاثًا، ولعل أبا الزبير من هذا القبيل، ولذلك كان نافع يُسأل كثيرًا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثًا أو واحدة؟، ولما قَدِمَ نافع مكة، أرسلوا إليه من مجلس عطاء، يسألونه عن ذلك؛ لهذه الشبهة. واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يَعرِف قائلا معتبرا، يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له.

قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أُمر به، فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر، وأنه احتسب بطلاقه في الحيض.

وقال أبو عبيدة: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار، حجازهم، وتهامهم، ويمنهم، وشأمهم، وعراقهم، ومصرهم. وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يُحفَظ قوله، من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع، لا يُعتَدُّ بهم.

وأما ما حكاه ابن حزم عن ابن عمر، أنه لا يقع الطلاق في الحيض، مُستنِدًا إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الْخُشَنِيّ الأندلسي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، في الرجل يُطَلِّق امرأته، وهي حائض، قال: لا تعتد بها. وبإسناده عن خِلَاس نحوه، فإن هذا الأثر قد سقطت من آخره لفظةٌ، وهي قال: لا يعتد بتلك الحيضة، كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة، في كتابه عن عبد الوهاب الثقفي، وكذا رواه يحيى بن معين، عن عبد الوهاب أيضا، قال: هو غريب لا يحدث به إلا عبد الوهاب.

ومراد ابن عمر: أن الحيضة التي تُطلق فيها المرأة لا تَعْتَدُّ بها المرأة قُرْءًا، وهذا هو مراد خِلاس وغيره.

وقد رُوي ذلك أيضا عن جماعة من السلف منهم: زيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم، كما وهم ابن حزم، فحكوا عن بعض من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع، وهذا سبب وهمهم. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ

ص: 220

ابن رجب رحمه الله تعالى (1)، وهو تحقيق نفيسٌ جدّا، وسنعود لتكميله في محلّه من كتاب الطلاق، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

15 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الُمهَاجِرِ المصْرِيُّ، أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنصَارِ، خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، في شِرَاجِ الحَّرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بها النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُّمَّ أَرْسِلِ الماءَ إِلَى جَارِكَ"، فَغَضِبَ الْأَنصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: "يَا زُبَيْرُ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسِ الماءَ حَتَّى يَرْجعَ إِلَى الجدْرِ"، قَالَ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَالله إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذه الْآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(محمد بن رُمْح بن المهاجر) بن المحرر بن سالم التُّجِيبيّ مولاهم، أبو عبد الله المصري الحافظ، ثقة ثبت [10].

رَوَى عن مسلمة بن علي الْخُشَنِيّ، وابن لَهيعة، والليث، ومفضل بن فضالة، ونعيم بن حماد، وجماعة.

ورَوَى عنه مسلم، وابن ماجه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وبَقِيّ ابن مَخْلَد، وأبو الربيع سليمان بن داود المُهْري، وغيرهم.

قال ابن الجنيد: كان أوثق من ابن زُغْبَة. وقال أبو داود: ثقة ولم أكتب عنه شيئًا.

(1)"جامع العلوم والحكم" جـ 1 ص 176 - 192.

ص: 221

وقال النسائي: ما أخطأ في حديث واحد، ولو كان كتب عن مالك لأثبته في الطبقة الأولي من أصحابه. وقال ابن ماكولا: كان ثقة مأمونا. وقال ابن يونس: ثقة ثبت في الحديث، وكان أعلم الناس بأخبار البلد ووقفه، وكان إذا شهد في دار عَلِمَ أهلُ البلد أنها طيبة الأصل. وذكر ابن السمعاني في "الأنساب" أن البخاري روى عنه. وقال محمد بن وَضّاح: لقيته بمصر، وكان نِعْمَ الشيخُ. وقال مسلمة: أنا عنه غير واحد، وهو ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وكذا أرّخه ابن أبي عاصم. وقال البخاري وابن قُدَيد: مات في شوال سنة (42).

تفرّد به مسلم، والمصنّف، وفي "الزهرة": روى عنه مسلم مائة حديث، وإحدى وستين حديثا. انتهى. وله عند المصنّف في هذا الكتاب (101) حديثًا.

2 -

(الليث بن سعد) بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث الإمام المصريّ، ثقة ثبتٌ، فقيهٌ إمام مشهور [7].

قال يحيى بن بكير: سَعْدٌ أبو الليث مولى قريش، وإنما افترضوا في فهم، فنسب إليهم، وأصلهم من أصبهان، وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس من أصبهان، قال ابن يونس: وليس لما قالوه من ذلك عندنا صحة، وُلد بِقَرْقَشَنْدَةَ على نحو أربعة فراسخ من الفسطاط.

ورَوَى عن نافع، وابن أبي ملكية، ويزيد بن أبي حبيب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأخيه عبد ربه بن سعيد، وابن عجلان، والزهري، وهشام بن عرورة، وعطاء بن أبي رباح، وبكير بن الأشج، والحارث بن يعقوب، وجماعة من أقرانه، ومن هو أصغر منه.

ورَوَى عنه شعيب، ومحمد بن عجلان، وهشام بن سعد، وهما من شيوخه، وابن لهيعة، وهشيم بن بشير، وقيس بن الربيع، وعطاف بن خالد، وهم من أقرانه، وابن المبارك، وابن وهب، ومروان بن محمد، ومحمد بن المهاجر، وغيرهم، وعيسى بن حماد ابن زُغبَة، وهو آخر من حدث عنه من الثقات، وآخرون.

ص: 222

قال ابن سعد: كان قد اشتغل بالفتوى في زمانه، وكان ثقة كثير الحديث صحيحه، وكان سَرِيّا من الرجال، نبيلًا سخيّا. وقال أحمد بن سعد الزهري عن أحمد: الليث ثقة ثبت. وقال حنبل عن أحمد: الليث أحب إلي منهم فيما يروي عن المقبري. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أصح الناس حديثا عن المقبري الليث، كان يُفَصّل ما روى عن أبي هريرة، وما روى عن أبيه عن أبي هريرة، وقال ابن المديني: الليث ثقة ثبت. وقال العجلي: مصري ثقة. وقال النسائي: ثقة.

وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: ما فاتني أحد، فأَسِفتُ عليه ما أسفت على الليث وابن أبي ذئب. وقال ابن أخي ابن وهب: سمعت الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الليث أتبع للأثر من مالك. وقال أبو زرعة: سمعت ابن بكير يقول: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الْحُظْوَة لمالك.

وقال محمد بن صالح الأشج، عن قتيبة بن سعيد: قدم منصور بن عمار على الليث، فوصله بألف دينار، واحترق بيت ابن لهيعة، فوصله بألف دينار، ووصل مالك ابن أنس بألف دينار، وكساني قميص سُنْدُس فهو عندي. وقال أبو العباس السراج عن قتيبة: قَفَلْنا مع الليث من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن، فسفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه. وقال محمد بن رمح: وقال ابن وهب: كتب مالك إلى الليث إني أريد أن أُدخل ابنتي على زوجها، فأُحب أن تبعث إلي بشيء من عصفر، فبعث إليه ثلاثين حِمْلًا من عصفر، فصبغ لأهله، ثم باع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده. وكان دخل الليث كل سنة ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله عليه زكاة. وقال إسماعيل سَمّويه: ثنا عبد الله بن صالح قال: صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس.

وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه فقهًا وورعًا وعلمًا وفضلًا وسخاءً. وقال ابن أبي مريم: ما رأيت أحدا من خلق الله أفضل من ليث، وما

ص: 223

كانت خصلة يُتقرَّب بها إلى الله إلا كانت تلك الخصلة في الليث. وقال أبو يعلى الخليلي: كان إمام وقته بلا مدافعة.

وقال يعقوب بن سفيان عن بن بكير: وُلد الليث سنة (94) ومات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وكذا قال ابن أبي مريم وغير واحد في تاريخ وفاته.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (122).

3 -

(ابن شهاب) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زُهْرة بن كِلاب بن مُرّة القُرَشيّ الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ، أحد الأئمة الاعلام، وعالم الحجاز والشام، الثقة الثبت المتّفقٌ على جلالته وإتقانه، من رءوس الطبقة [4].

رَوَى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن جعفر، وربيعة بن عباد، والمسور بن مَخْرمة، وعبد الرحمن بن أزهر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وسهل بن سعد، وأنس، وجابر، وأبي الطفيل، والسائب بن يزيد، وخلق كثير.

ورَوى عنه عطاء بن أبي رباح، وأبو الزبير المكي، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو ابن دينار، وصالح بن كيسان، وأبان بن صالح، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وإبراهيم ابن أبي عَبْلَة، وأيوب السختياني، وهشيم، وسفيان بن عيينة، وخلق كثير.

قال ابن سعد: وكان الزهري ثقة، كثير الحديث والعلم والرواية فقيها جامعًا. وقال أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كلما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس، وقال ابن مهدي: سمعت مالكا يقول: قال الزهري: ما استفهمت عالما قط، ولا رددت على عالم شيئا قط. وقال عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري: ما استعدت حديثا قط، وقال الليث عن جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك: مَن أفقه أهل المدينة، فذكر سعيد بن المسيب، وعروة، وعُبيد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب؛ لأنه جمع علمهم إلى علمه،

ص: 224

وقال أبو صالح عن الليث: ما رأيت عالما أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علما منه، لو سمعته يحدث في الترغيب، لقلت لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الأنساب لقلت لا يعرف إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة، كان حديثه نوعا جامعًا.

وقال إبراهيم بن سعد بن إبراهيم: قلت لأبي بم فاقكم ابن شهاب؟ قال: كان يأتي المجالس من صدورها، ولا يلقى في المجلس كهلا إلا ساءله، ولا شابا إلا ساءله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يلقى شابا إلا ساءله، ولا كهلا ولا عجوزا ولا كهلة إلَّا ساءلها حتى يحاول ربات الْحِجَال. وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يُملي على بعض ولده، فدعا بكاتب، فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم إن هشاما قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب، فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول، فما غادر حرفا.

قال أبو داود، عن أحمد بن صالح: يقولون: إن مولده سنة خمسين، وقال خليفة: وُلد سنة إحدى وخمسين. وقال يحيى بن بكير سنة ست. وقال الواقدي: سنة ثمان. وكان وفاته سنة ثلاث وعشرين، قاله ضمرة بن ربيعة. وقال القطان وغير واحد: مات سنة ثلاث أو أربع. وقال أبو عبيدة، وابن المديني، وعمرو بن علي في آخر سنة أربع، زاد الزبير بن بكار: في رمضان، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال ابن يونس وغيره: مات في رمضان سنة خمس وعشرين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (296) حديثًا.

4 -

(عروة بن الزبير) بن العوّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة فقيهٌ مشهور [3].

رَوَى عن أبيه، وأخيه عبد الله، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأسامة بن زيد، وأبي أيوب، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة والتابعين.

ص: 225

ورَوَى عنه أولاده: عبد الله، وعثمان، وهشام، ومحمد، ويحيى، وابن ابنه عمر بن عبد الله بن عروة، وابن أخيه محمد بن جعفر بن الزبير، وأبو الأسود، وخلق كثير.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث فقيهًا عالمًا ثبتًا مأمونًا. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، وكان رجلا صالحًا، لم يدخل في شيء من الفتن، وقال هشام عن أبيه: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حِجَحٍ، أو خمس حجج، وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما نَدِمتُ على حديث عندها إلا وقد وعيته، وقال قبيصة ابن ذؤيب: كان عروة يغلبنا بدخوله على عائشة، وكانت عائشة أعلم الناس. وعَدَّهُ أبو الزناد في فقهاء المدينة السبعة، مع مشيخة سواهم، من أهل فقه وفضل.

وقال ضمرة عن ابن شوْذَب: وقعت في رجله الآكلة، فنشرت، وكان يقرأ ربع القرآن نظرًا في المصحف، ثم يقوم به الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله. وقال ابن عيينة عن هشام: خرج عروة إلى الوليد، فخرجت برجله آكلةٌ، فقطعها، وسقط ابن له عن ظهر بيت له، فوقع تحت أرجل الدواب فوطئته، فقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، اللهم إن كنت أخذت لقد أعطيت، وإن كنت ابتليت قد عافيت، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم.

قال خليفة: في آخر خلافة عمر سنة (23) يقال: وُلِد عروة بن الزبير. قال ابن المديني: مات عروة سنة إحدى أو اثنتين وتسعين، وعنه سنة اثنتين، وعنه سنة (3) وفيها أرخه أبو نعيم، وابن يونس، وغيرهما. وذكره ابن زَبْر فيمن مات في سنة (2) ثم في سنة (4) وقال: هذا أثبت من الأول، وكذا أرخه ابن سعد، وعمرو بن علي، وغير واحد. وقال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين في تسمية تابعي أهل المدينة، ومحدثيهم: أبو بكر بن عبد الرحمن مات سنة (94) وعروة بن الزبير، وسعيد، وعلي بن الحسين، وكان يقال لها: سنة الفقهاء. وقال ابن أبي خيثمة: كان يوم الجمل ابن ثلاث عشرة سنة، فاستصغر، ومات سنة أربع، أو خمس وتسعين، وقال يحيى بن بكير: مات سنة (5). وقال هارون بن محمد: مات سنة (99) أو مائة، أو إحدى ومائة. وقال

ص: 226

مصعب، والزبير بن بكار: مات وهو ابن (67) سنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (165) حديثًا.

5 -

(عبد الله بن الزبير) بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي القرشي الأسدي، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وُلد عام الهجرة، وحَفِظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صغير، وحدّث عنه بجملة من الحديث، وعن أبيه، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالته عائشة، وسفيان بن أبي زهير، وغيرهم، وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وأحد من ولي الخلافة منهم، يكنى أبا بكر، ثم قيل له: أبو حُبيب بولده، وبويع بالخلافة سنه أربع وستين، عقب موت يزيد بن معاوية، ولم يتخلف عنه إلا بعض أهل الشام، وهو أول مولود وُلد للمهاجرين بعد الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم، وسماه باسم جده، وكناه بكنيته، وزعم الواقدي أنه وُلد في السنة الثانية، والأصح الأول.

وقُتل رضي الله عنه بعد محاصرة الحجّاج له في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وهذا قول الجمهور، وهو الأصح،

وله من الأحاديث (33) حديثًا، اتّفَقَ الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بستة، ومسلم بحديثين، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة، إلا شيخ المصنّف، فانفرد به هو ومسلم.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، والليث، فمصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه، أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، وقد أذهب الله به مزاعم اليهود، حيث قالوا: نحن سحرناهم، فلا يولد لهم ولد، فأبطل الله تعالى ذلك،

ص: 227

وفرح المسلمون به فرحًا شديدًا، وأن أول ما ولج بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث حنّكه، وأنه شرب دمه صلى الله عليه وسلم، فكان من أقوى الناس، وأشجعهم رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) وفي رواة للبخاريّ من طريق ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عروة أنه حدّثه (أَنَّ) أخاه (عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ) قال الحافظ رحمه الله تعالى: هذا هو المشهور من رواية الليث بن سعد، عن ابن شهاب، وقد رواه ابن وهب، عن الليث ويونس جميعًا، عن ابن شهاب، أن عروة حدثه، عن أخيه عبد الله بن الزبير، عن الزبير بن العوام. أخرجه النسائي، وابن الجارود، والإسماعيلي. وكأن ابن وهب حَمَل رواية الليث، على رواية يونس، وإلا فرواية الليث ليس فيها ذكر الزبير. والله أعلم.

وأخرجه البخاريّ في "الصلح" من طريق شعيب، عن ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن الزبير بغير ذكر عبد الله. وقد أخرجه البخاريّ في الباب الذي يليه من طريق معمر، عن ابن شهاب، عن عروة مرسلًا، وأعاده في "التفسير" من وجه آخر عن معمر، وكذا أخرجه الطبري، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، حدثنا ابن شهاب، وأخرجه البخاريّ من رواية ابن جريج كذلك بالإرسال، لكن أخرجه الإسماعيلي، من وجه آخر عن ابن جريج كرواية شعيب التي ليس فيها "عن عبد الله".

وذكر الدارقطني في "العلل" أن ابن أبي عَتِيق، وعُمر بن سَعْد وافقا شعيبا وابن جريج، على قولهما:"عروة عن الزبير"، قال: وكذلك قال أحمد بن صالح، وحرملة، عن ابن وهب، قال: وكذلك قال شبيب بن سعيد، عن يونس، قال وهو المحفوظ.

قال الحافظ: وإنما صححه البخاري مع هذا الاختلاف؛ اعتمادا على صحة سماع عروة من أبيه، وعلى صحة سماع عبد الله بن الزبير، من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيفما دار فهو على ثقة، ثم الحديث ورد في شيء يتعلق بالزبير، فداعية ولده متوفرة على ضبطه، وقد وافقه مسلم على تصحيح طريق الليث، التي ليس فيها ذكر الزبير.

ص: 228

وزعم الحميدي في "جمعه" أن الشيخين أخرجاه من طريق عروة، عن أخيه عبد الله، عن أبيه، وليس كما قال، فإنه بهذا السياق في رواية يونس المذكورة، ولم يخرجها من أصحاب الكتب الستة إلا النسائي، وأشار إليها الترمذي خاصة.

وقد جاءت هذه القصة من وجه آخر، أخرجها الطبري، والطبراني، من حديث أم سلمة، وهي عند الزهري أيضا، من مرسل سعيد بن المسيب، كما سيأتي بيانه. انتهى (1).

(أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) زاد في رواية شعيب: "قد شهد بدرًا"، وفي رواية عبد الرحمن ابن إسحاق، عن الزهري، عند الطبري، في هذا الحديث: أنه من بني أمية بن زيد، وهم بطن من الأوس. ووقع في رواية يزيد بن خالد، عن الليث، عن الزهري، عند ابن المقري في "معجمه" في هذا الحديث: أن اسمه حميد. قال أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة": لهذا الحديث طُرُقٌ، لا أعلم في شيء منها ذكر حميد، إلا في هذا الطريق. انتهى.

وليس في البدريين من الأنصار من اسمه حميد. وحَكَى ابن بشكوال في "مبهماته" عن شيخه أبي الحسن بن مُغِيث، أنه ثابت بن قيس بن شَمّاس، قال: ولم يأت على ذلك بشاهد.

قال الحافظ: وليس ثابت بدريّا. وحَكَى الواحدي أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]، ولم يذكر مستنده، وليس بدريا أيضا، نعم ذكر ابن إسحاق في البدريين ثعلبة بن حاطب، وهو من بني أمية بن زيد، وهو عندي غير الذي قبله؛ لأن هذا ذكر ابن الكلبي أنه استُشهِد بأُحُد، وذاك عاش إلى خلافة عثمان. وحَكَى الواحدي أيضًا، وشيخه الثعلبي، والمهدوي: أنه حاطب بن أبي بلتعة. وتُعُقّب بأن حاطبا، وإن كان بدريا، لكنه من المهاجرين، لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى

(1)"الفتح" 5/ 307 - 308.

ص: 229

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65] قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء

الحديث، وإسناده قوي مع إرساله، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير، فيكون موصولًا، وعلى هذا فيُؤَوّل قوله:"من الأنصار" على إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك في حق غير واحد، كعبد الله بن حُذَافة.

وأما قول الكرماني بأن حاطبا كان حليفا للأنصار، ففيه نظر. وأما قوله:"من بني أمية بن زيد"، فلعله كان مسكنه هناك، كعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وذكر الثعلبي بغير سند: أن الزبير وحاطبا لمّا خرجا مَرّا بالمقداد، قال. لمن كان القضاء؟ فقال حاطب: قَضَى لابن عمته، ولوى شِدْقه، فَفَطَنَ له يهودي، فقال: قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنه رسول الله، ويتهمونه. وفي صحة هذ انظر. ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام، من بني أسد، وكأنه كان مجاورا للزبير. والله أعلم.

وأما قول الداودي، وأبي إسحاق الزجاج، وغيرهما: إن خصم الزبير كان منافقا، فقد وجهه القرطبي بأن قول من قال: إنه كان من الأنصار، يعني نسبًا، لا دينًا، قال: وهذا هو الظاهر من حاله. ويحتمل أنه لم يكن منافقًا، ولكن أصدر ذلك منه بادرةُ نفس، وزلّة شيطان، كما قد اتّفق لحاطب بن أبي بَلْتعة، ولحسّان، ومِسْطَح، وحَمْنَة في قضيّة الإفك، وغيرهم ممن بدرت منهم بوادر شيطانيّة، وأهواء نفسانيّة، لكن لُطِف بهم حتى رجعوا عن الزلّة، وصحّت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالْحَوْبة (1).

وقَوَّى هذا شارح المصابيح التوربشتيُّ، وَوَهَّى ما عداه، وقال: لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح، ولو شاركهم في النسب، قال: بل هي زلة من الشيطان، تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. انتهى.

وقد قال الداودي بعد جزمه بأنه كان منافقًا: وقيل: كان بدريّا، فإن صح فقد

(1)"المفهم" 6/ 153 - 154.

ص: 230

وقع ذلك قبل شهودها؛ لانتفاء النفاق عمن شهدها. انتهى.

وقد عرفتَ أنه لا ملازمة بين صدور هذه القضية منه، وبين النفاق.

وقال ابن التين: إن كان بدريا، فمعنى قوله:{لَا يُؤمِنُونَ} لا يستكملون الإيمان. انتهى (1).

(خَاصَمَ الزُّبَيْرَ) وفي رواية معمر عند البخارىّ: "خاصم الزبيرُ رجلًا". والمخاصمة: مفاعلة من الجانبين، فكل منهما مخاصم للآخر. (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-في شِرَاجِ الحرَّةِ)"الشِّرَاج" -بكسر المعجمة، وبالجيم-: جمع شَرْج -بفتح أوله، وسكون الراء- مثل بَحْر وبِحَار ويجمع على شُرُوج أيضا. وحكى ابن دُريد شَرَج -بفتح الراء-. وحكى القرطبي شَرَجَة. والمراد بها هنا: مَسِيلُ الماء، وإنما أضيفت إلى الحرة؛ لكونها فيها. و"الحرّة": موضع معروف بالمدينة، وهي في خمسة مواضع، المشهور منها اثنتان: حَرّة واقم، وحَرّةُ ليلى. وقال الداوديّ: هو نهر عند الحرة بالمدينة، فأغرب، وليس بالمدينة نهر. قال أبو عبيد: كان بالمدينة واديان يسيلان بماء المطر، فيتنافس الناس فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعلى فالأعلى. (الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ) وفي رواية شعيب عند البخاريّ:"كانا يسقيان بها كلاهما". (فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ) أي للزبير (سَرِّحِ الماءَ) فعل أمر من التسريح: أي أطلقه. وقوله: (يَمُرُّ) جملة في محلّ نصب على الحال من "الماء"، أي حال كونه مارّا. وإنما قال له ذلك؛ لأن الماء كان يمرّ بأرض الزبير، قبل أرض الأنصاري، فيحبسه؛ لإكمال سقي أرضه، ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك (فَأبَى عَلَيْهِ) أي فامتنع الزبير من التسريح قبل إكمال سقي أرضه (فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) مشيرًا إلى الصلح، قبل القضاء (اسْقِ يَا زُبَيْرُ) بوصل الهمزة، وقطعها، يقال: سقاه، وأسقاه، قال الله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]،

(1)"فتح" 5/ 308 - 309.

ص: 231

وقال تعالى: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16].

وزاد في رواية البخاريّ: "فأمره بالمعروف"، وهي جملة معترضة من كلام الراوي، وقد أوضحه شعيب في روايته، حيث قال في آخره:"وكان قد أشار على الزبير برأي، فيه سعة له وللأنصاري"، وضبطه الكرماني:"فأَمِرَّهُ" -بكسر الميم، وتشديد الراء- على أنه فعل أمر من الإمرار، وهو محتمل.

(ثُمَّ أَرْسِلِ الماءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ) -بفتح همزة "أَنْ"- وهي للتعليل، كأنه قال: حكمت له بالتقديم؛ لأجل أنه ابن عمتك، أي لأن أم الزبير: هي صفية بنت عبد المطلب، عمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال البيضاوي: يُحذف حرف الجر من "أَنْ" كثيرًا" تخفيفًا، والتقدير: لأن كان، أو بأن كان، ونحوهُ: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14]: أي لا تطعه لأجل ذلك. وحكى القرطبي تبعا لعياض أن همزة "أن" ممدودة، قال: لأنه استفهام على جهة إنكار. قال الحافظ: ولم يقع لنا في الرواية مَدٌّ، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام. وحكى الكرماني: "إِنْ كان" -بكسر الهمزة- على أنها شرطية، والجواب محذوف. قال الحافظ: ولا أعرف هذه الرواية، نعم وقع في رواية عبد الرحمن بن إسحاق: فقال: "اعدِل يا رسول الله، وإن كان ابن عمتك"، والظاهر "أَنْ" هذه بالكسر، و"ابْنَ" بالنصب على الخبرية، ووقع في رواية معمر عند البخاريّ: "أنه ابن عمتك". قال ابن مالك: يجوز في "أنه" -بفتح الهمزة، وكسرها-؛ لأنها وقعت بعد كلام تام، معلل بمضمون ما صُدِّر بها، فإذا كُسرت قدر ما قبلها الفاءُ، وإذا فتحت قُدّر ما قبلها اللامُ، وبعضهم يقدر بعد الكلام المصدر بالمكسورة، مثل ما قبلها مقرونا بالفاء، فيقول في قوله مثلا: اضربه إنه مسيِء: اضربه إنه مسيء، فاضربه، ومن شواهده:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ولم يُقرأ هنا إلا بالكسر، وإن جاز الفتح في العربية، وقد ثبت الوجهان في قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] قرأ نافع، والكسائي:{إِنَّهُ} بالفتح، والباقون بالكسر. انتهى.

ص: 232

(فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) أي تغير، وهو كناية عن الغضب، زاد عبد الرحمن بن إسحاق في روايته:"حتى عرفنا أن قد ساءه ما قال". والمعني أن وجهه صلى الله عليه وسلم تغيّر من شدّة الغضب؛ لانتهاك حرمات النبوة، وقبح كلام هذا الإنسان.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا زُبَيْرُ اسْقِ) بالضبطين المتقدّمين (ثُمَّ احْبِسِ الماءَ) بكسر الباء الموحّدة: أمر من الحبس: أي أمسكه (حَتَّى يَرْجعَ إِلَى الجدْر) أي يصير إليه. قال النوويّ رحمه الله تعالى: أما الجدر فبفتح الجيم وكسرها، وبالدال المهملة، وهو: الجدار، وجمع الجدار جُدُر ككتاب وكتب، وجمع الْجَدْر جُدُور، كفلس وفلوس.

ومعنى يرجع التي الجدر: أي يصير اليه، والمراد بالجدر أصل الحائط. وقيل أصول الشجر، والصحيح الأول. وقدره العلماء أن يرتفع الماء في الأرض كلها حتى يبتل كعب رِجْلِ الإنسان، فلصاحب الأرض الأولى التي تلي الماء أن يحبس الماء في الأرض إلى هذا الحد، ثم يرسله إلى جاره الذي وراءه، وكان الزبير صاحب الأرض الأولى، فَأَدَلّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك": أي اسق شيئا يسيرًا، دون قدر حقك، ثم أرسله إلى جارك؛ إدلالًا على الزبير، ولعلمه بأنه يرضى بذلك، ويؤثر الإحسان إلى جاره، فلما قال الجار ما قال، أمره أن يأخذ جميع حقه. انتهى (1).

وقال في "الفتح": "الجدر" -بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة- هو المُسَنّاة، وهو: ما وضع بين شَرَبَات النخل، كالجدار. وقيل: المراد الحواجز التي تَحْبِس الماء، وجزم به السهيلي. ويُروَى "الْجُدُر" بضم الدال، حكاه أبو موسى، وهو جمع جِدار. وقال ابن التين: ضُبِط في أكثر الروايات بفتح الدال، وفي بعضها بالسكون، وهو الذي في اللغة، وهو أصل الحائط. وقال القرطبي: لم يقع في الرواية إلا بالسكون، والمعنى أن يصل الماء إلى أصول النخل. قال: ويُروَى -بكسر الجيم-: وهو الجدار، والمراد به جُدران الشَّرَبَات التي في أصول النخل، فإنها تُرفَعُ، حتى تصير تشبه الجدار.

(1)"شرح مسلم" للنوويّ رحمه الله تعالى 11/ 108.

ص: 233

و"الشَّرَبَات"-بمعجمة، وفتحات: هي الْحُفَرُ التي تُحفَر في أصول النخل. وحكى الخطابي "الجذر" بسكون الذال المعجمة، وهو جذر الحساب، والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب.

قال الكرماني: المراد بقوله: "أمسك" أي أمسك نفسك عن السقي، ولو كان المراد أمسك الماء، لقال بعد ذلك: أرسل الماء إلى جارك.

وتُعُقّب بأنه ثبت التصريح به في هذه الرواية، حيث قال:"احبس الماء"، وفي رواية معمر عند البخاريّ في "التفسير" قال:"ثم أرسل الماء إلى جارك".

والحاصل أن أمره بإرسال الماء كان قبل اعتراض الأنصاري، وأمره بحبسه كان بعد ذلك.

وقال في "المفهم": والمخاصمة: إنما كانت في السقي بالماء الذي يَسيل فيها، وكان الزبير يتقدّم شَرْبُهُ على شَرْب الأنصاريّ، فكان الزبير يُمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاريّ أن يُسرّحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم معهما مسلك الصلح، فقال له:"اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك: أي تساهل في سقيك، وعَجِّلْ في إرسال الماء إلى جارك، يَحُضُّه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاريّ بهذا لم يَرْضَ بذلك، وغَضِبَ لأنه كان يُريد أن لا يُمسك الماء أصلًا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلِكة الفاقرة، فقال: آن كان ابن عمّتك؟ بمدّ همزة "أن" المفتوحة، لأنه استفهام على جهة الإنكار: أي أتحكم له عليّ؛ لأجل أنه من قرابتك؟ وعند ذلك تلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا، وتألمًا من كلمته، ثم إنه بعد ذلك حكم للزبير باستيفاء حقّه، فقال: "اسق يا زبير، ثم أمسك الماء حتى يرجع إلى الجدر". وفي غير هذه الرواية (1):"فاستوعى للزبير حقّه". انتهى (2).

(1) هي رواية البخاريّ برقم (2362).

(2)

"المفهم" 6/ 154.

ص: 234

[تنبيه]: ذكر البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" بعد سوقه الحديث من طريق ابن جريج، عن الزهريّ: ما نصّه: فقال لي ابن شهاب: فقدّرت الأنصار والناس قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اسق، ثم احبس حتى يرجع إلى الجدر، وكان ذلك إلى الكعبين". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: فقال لي ابن شهاب "القائل هو ابن جريج، راوي الحديث. وقوله: "وكان ذلك إلى الكعبين" يعني أنهم لمّا رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر، قاسوا ما وقعت فيه القصّة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا لاستحقاق الأول، فالأول.

والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته. وقال بعض المتأخرين من الشافعيّة: المراد من لم يتقدمه أحد في الغِرَاس بطريق الإحياء، والذي يليه من أحيا بعده، وهَلُمِّ جّرّا. قال: وظاهر الخبر أن الأول من يكون أقرب إلى مجرى الماء، وليس هو المرادَ.

وقال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يُمْسك إلى الكعبين، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزروع فإلى الشِّرَاك. وقال الطبري: الأراضي مختلفة، فيمسك لكل أرض ما يكفيها؛ لأن الذي في قصة الزبير واقعة عين. واختلف أصحاب مالك، هل يرسل الأول بعد استيفائه جميع الماء، أو يرسل منه ما زاد على الكعبين، والأول أظهر. ومحله إذا لم يبق له به حاجة. والله أعلم.

وقد وقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر في "الموطإ": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مسيل مَهْزور، ومُّذَينب أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل". و"مهزور" -بفتح أوله، وسكون الهاء، وضم الزاي، وسكون الواو، بعدها راء. و"مُذينب" -بذال معجمة، ونون بالتصغير-: واديان معروفان بالمدينة وله إسناد موصول في غرائب مالك للدارقطني، من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه والطبري من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإسناد كل منهما حسن. وأخرج عبد، الرزاق هذا الحديث المرسل، بإسناد آخر

ص: 235

موصول، ثم رَوَى عن معمر، عن الزهري قال: نظرنا في قوله: "احبس الماء حتى يبلغ الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين. انتهى. وقد رَوَى البيهقي من رواية ابن المبارك، عن معمر قال: سمعت غير الزهري يقول: نظروا في قوله: "حتى يرجع إلى الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين، وكأن معمرا سمع ذلك من ابن جريج، فأرسله في رواية عبد الرزاق، وقد بين ابن جريج أنه سمعه من الزهري. ووقع في راوية عبد الرحمن بن إسحاق: احبس الماء إلى الجدر، أو إلى الكعبين"، وهو شك منه، والصواب ما رواه ابن جريج. وذكر الشاشي من الشافعية أن معنى قوله: "إلى الجدر": أي إلى الكعبين، وكأنه أشار إلى هذا التقدير، وإلا فليس الجدر مرادفا للكعب. انتهى (1).

(قَالَ) عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما (فَقَالَ الزُّبَيْرُ) رضي الله تعالى عنه (وَاللهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في ذَلِكَ) قال في "الفتح": ووقع في رواية ابن جريج: "فقال الزبير: والله إن هذه الآية أنزلت في ذلك"، وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق: "ونزلت: {فَلَا وَرَبِّكَ} الآية [النساء: 65].

والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك لكن. وقع في رواية أم سلمة عند الطبري، والطبراني، الجزم بذلك، وأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه، وكذا في مرسل سعيد بن المسيب، الذي تقدمت الإشارة إليه. وجزم مجاهد، والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الآية [النساء: 60]. فرَوَى إسحاق ابن راهويه في "تفسيره" بإسناد صحيح، عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود، ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه على علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حُكّامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا

(1)"فتح" 5/ 313 - 314.

ص: 236

تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد نحوه. وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس: أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلميّ قبل أن يُسْلِم، ويَصْحَبَ. ورَوَى بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد: أنه كعب بن الأشرف. وقد رَوَى الكلبي في "تفسيره" عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية، في رجل من المنافقين، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف، فذكر القصة، وفيه: أن عمر قتل المنافق، وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات، وتَسميةِ عمر الفاروقَ، وهذا الإسناد، وإن كان ضعيفا، لكن تقوى بطريق مجاهد، ولا يضره الاختلاف، لإمكان التعدد. وأفاد الواحدي بإسناد صحيح، عن سعيد، عن قتادة، أن اسم الأنصاري المذكور قيس.

ورجح الطبري في "تفسيره" وعزاه إلى أهل التأويل في "تهذيبه" أن سبب نزولها هذه القصة؛ ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد، قال: ولم يَعرِض بينها ما يقتضي خلاف ذلك، ثم قال: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك، فيتناولها عموم الآية (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الطبريّ رحمه الله تعالى حسنٌ جدًّا؛ جمعًا بين الآثار المذكورة، وإلا فما في "الصحيح" أصحّ. والله تعالى أعلم.

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره": يُقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدّسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّمَ الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به، فهو الحقّ الذي يجب الإنقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال {ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] أي إذا حكّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حَرَجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيُسلّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير

(1) راجع "الفتح" 5/ 310 - 311.

ص: 237

ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة. انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، و (البخاريّ) في "الشِّرْب" عن عبد الله ابن يوسف، عن الليث، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير حدّثه الخ. و (مسلم) في "فضائل النبي صلى الله عليه وسلم عن قتيبة، ومحمد بن رُمح، كلاهما عن الليث به. و (أبو داود) في "القضايا" عن أبي الوليد الطيالسيّ، عن الليث به. و (الترمذيّ) في "الأحكام"، و"التفسير"عن قتيبة"، عن الليث به، و (النسائيّ) في "القضاء" و"التفسير" عن قتيبة به، و (أحمد)(4/ 4) عن هاشم بن القاسم، عن الليث به و (عبد ابن حميد)(519) عن أبي الوليد، عن الليث به. و "الطبريّ" في "تفسيره" 9912 و 9913. و (ابن حبّان) في "صحيحه" (24) و (الحاكم) 3/ 364. و (البيهقيّ)(6/ 153 و 10/ 106) و"البغويّ) في "شرح السنّة" (2194)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه.

2 -

(ومنها): أن للحاكم أن يشير بالصلح بين الخصمين، ويأمر به، ويرشد إليه، ولا يُلزِمه به إلا إذا رضي، وأن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه، إذا لم يتراضيا، وأن يحكم بالحق لمن توجه له، ولو لم يسأله صاحب الحق.

(1)"تفسير ابن كثير" 1/ 532.

ص: 238

3 -

(ومنها): أن الأولى بالماء الجاري هو الأول، فالأول حتى يستوفي حاجته. قال القرطبيّ: وهذا ما لم يكن أصله ملكًا للأسفل، مختصّا به، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا، وإن كان يمرّ عليه.

4 -

(ومنها): أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول التي لا تُملَك، فهو أحق به، لكن ليس له إذا استغنى أن يَحبِس الماء عن الذي يليه.

5 -

(ومنها): الصفح والعفو عن جفاء الخصوم، ما لم يؤدّ إلى هتك حرمة الشرع، والاستهانة بأحكامه، فإن أدّى إلى ذلك أُدّب المرتكب، وهذا هو الذي صدر من خصم الزبير، فقد آذى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يقتله؛ لعظيم حلمه، وكريم صفحه؛ امتثالًا لأمر الله عز وجل له بقوله:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، وقوله:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ولئلا يكون قتله منفّرًا لغيره عن الدخول في دين الإسلام. قال القرطبي رحمه الله تعالى في "المفهم": فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لقُتل قِتْلَةَ زنديق. انتهى (1).

وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": قال العلماء: فلو صدر مثل هذا الكلام الذي تكلم به الأنصاري اليوم من إنسان، من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى هوى، كان كفرًا، وجرت على قائله أحكام المرتدين، فيجب قتله بشرطه، قالوا: وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس، ويَدْفَع بالتي هي أحسن، ويصبر على أذى المنافقين، ومن في قلبه مرض، ويقول: يَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تنفروا"، ويقول: "لا يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه"، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]. انتهى (2).

(1)"الفهم" 6/ 157.

(2)

"شرح مسلم" 15/ 108.

ص: 239

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ: أن فيه الاكتفاء من الخصوم بما يُفهم عنه مقصودهم، وأن لا يكلّفوا النصّ على الدعاوي، ولا تحديد المدّعى فيه، ولا حصره بجميع صفاته، كما قد تنطّع في ذلك قُضاة الشافعيّة. انتهى (1).

7 -

(ومنها): أن القدر الذي يستحقّ الأعلى من الماء كفايته، وغاية ذلك أن يبلُغ الماء إلى الجدر، وقد سبق أن العلماء قدّروه بأن يرتفع الماء في الأرض كلّها، حتى يبتلّ كعب الإنسان.

8 -

(ومنها): ما حكاه الخطابي أن فيه دليلا على جواز فسخ الحاكم حكمه، قال: لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأي الأمرين شاء، فقدم الأسهل إيثارًا لحسن الجوار، فلما جَهِلَ الخصم موضع حقه، رجع عن حكمه الأول، وحكم بالثاني؛ ليكون ذلك أبلغ في زجره. وتُعُقّب بأنه لم يثبت الحكم أوّلا كما تقدم بيانه.

قال: وقيل: بل الحكم كان ما أَمَرَ به أوّلا، فلما لم يقبل الخصم ذلك عاقبه بما حَكَم عليه به ثانيًا على ما بدر منه، وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال انتهى. وقد وافق ابن الصباغ من الشافعية على هذا الأخير.

وفيه نظر، وسياق طُرُق الحديث يأبى ذلك، كما ترى لا سيما قوله:"واستَوْعَى للزبير حقه، في صريح الحكم"، فمجموع الطُّرُق دال على أنه أَمَرَ الزبير أوّلا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه. قاله في "الفتح"(2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

16 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله، أَنْ يُصَلِّينَ

(1)"المفهم" 6/ 156.

(2)

"فتح" 5/ 313.

ص: 240

في المُسْجِدِ"، فَقَالَ ابْن لَهُ: إِنَّا لنَمْنَعُهُنَّ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَقُولُ: إِنَّا لنَمْنَعُهُنَّ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(محمد يحيى) بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذُّهْليّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقة حافظٌ جليلٌ إمام [11].

رَوَى عن عبد الرحمن بن مهدي، وبشر بن عمر الزهراني، ومحمد بن بكر البرساني، ووهب بن جرير بن حازم، وأزهر بن سعد السمان، وعبد الرزاق، وخلق كثير.

ورَوَى عنه الجماعة، سوى مسلم، ولم يصرح البخاري به، بل يقول تارة: ثنا محمد، وتارة: ثنا محمد بن عبد الله، وتارة: محمد بن خالد، ولم يقل في موضع: ثنا محمد ابن يحيى، وابنه يحيى بن محمد بن يحيى، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، وخلق كثير.

قال محمد بن سهل بن عسكر: كنا عند أحمد بن حنبل، فدخل الذهلي، فقام إليه أحمد، فتعجب الناس منه، ثم قال لبنيه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله، واكتبوا عنه، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: محمد بن يحيى إمام زمانه، قال: وكتب عنه أبي بالري، وهو ثقة صدوق، إمام من أئمة المسلمين، سئل أبي عنه؟ فقال: ثقة. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال ابن أبي داود: حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، وكان أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن عقدة، عن ابن خِراش: كان محمد بن يحيى من أئمة العلم. وقال الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ المتقنين، والثقات المأمونين، صنَّفَ حديث الزهري، وجَوَّده، وقال النسائي في "مشيخته": ثقة ثبت أحد الأئمة في الحديث. وقال ابن خزيمة: ثنا محمد بن يحيى الذهلي، إمام أهل عصره بلا مدافعة، وقال الذهلي: قال لي علي بن المديني: أنت وارث الزهري.

وقال ابن قانع: مات سنة اثنتين، وقيل: سنة ست وخمسين ومائتين. وقال أبو بكر بن زياد: مات سنة سبع. وقال أبو حامد بن الشرقي، وأبو عبد الله بن الأخرم، وغير واحد: مات سنة ثمان وخمسين ومائتين. قال الخطيب: وهو الصواب، وبلغني أن

ص: 241

وفاته في أحد الربيعين منها، وبلغ ستا وثمانين سنة.

روى عنه الجماعة، سوى مسلم، وله في هذا الكتاب (218) حديثًا.

2 -

(عبد الرزّاق) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ مصنّف شهير، عَمِي في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9].

رَوَى عن أبيه، وعمه وهب، ومعمر، وعبيد الله بن عمر العمري، وأخيه عبد الله ابن عمر العمري، وأيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك، والسفيانين، وخلق كثير.

ورَوَى عنه ابن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وهما من شيوخه، ووكيع، وأبو أسامة، وهما من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى، وأبو خيثمة، وأحمد بن صالح، وإبراهيم بن موسى، وعبد الله بن محمد المسندي، وخلق كثير.

قال الأثرم: سمعت أحمد يُسأل عن حديث: "النارُ جُبَارٌ"، فقالا: ومن يحدث به عن عبد الرزاق؟ قلت: حدثني أحمد بن شبويه، قال: هؤلاء سمعوا بعدما عَمِيَ، كان يُلَقِّن، فَلُقِّنَهُ، وليس هو في كتبه، كان يلقنها بعد ما عَمِي. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: نحو ذلك، وزاد من سمع من الكتب فهو أصح. وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأحمد: من أثبت في ابن جريج، عبد الرزاق أو البرساني؟ قال: عبد الرزاق. وقال أيضا: أخبرني أحمد، أنا عبد الرزاق قبل المائتين، وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع. وقال عباس الدُّوري عن ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر، من هشام بن يوسف، وكان هشام في ابن جريج، أقرأ للكتب. وقال يعقوب بن شيبة عن علي بن المديني: قال لي هشام بن يوسف: وكان محمد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. "قال يعقوب: وكلاهما ثقة ثبت. وقال الحسن بن جرير الصوري، عن علي بن هاشم، عن عبد الرزاق: كتبت عن ثلاثة، لا أبالي أن لا أكتب عن غيرهم، كتبت عن ابن الشاذكوني، وهو من أحفظ الناس، وكتبت عن يحيى بن معين، وهو من أعرف الناس بالرجال، وكتبت عن أحمد بن حنبل، وهو من أثبت الناس. وقال جعفر

ص: 242

الطيالسي: سمعت ابن معين، قال: سمعت من عبد الرزاق كلاما، استدللت به على ما ذُكر عنه من المذهب، فقلت له: إن أستأذيك الذين أخذت عنهم ثقات، كلهم أصحاب سنة: معمر، ومالك، وابن جريج، والثوري، والأوزاعي، فعمن أخذت هذا المذهب؟ قال: قدم علينا جعفر بن سليمان، فرأيته فاضلًا، حسن الهدي، فأخذت هذا عنه. وقال محمد بن أبي بكر المُقَدَّميّ: وجدت عبد الرزاق ما أفسد جعفرا غيره، يعني في التشيع. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين، وقيل له: قال أحمد إن عبيد الله بن موسى يُرَدّ حديثه للتشيع، فقال: كان عبد الرزاق -والله الذي لا إله إلا هو- أغلى في ذلك منه مائة ضعف، ولقاء سمعت من عبد الرزاق إضعاف ما سمعت من عبيد الله. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي، هل كان عبد الرزاق يتشيع ويُفرط في التشيع؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت سلمة بن شبيب يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر، رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان، من لم يحبهم فما هو مؤمن، وقال: أوثق أعمالي حبي إياهم. وقال أبو الأزهر: سمعت عبد الرزاق يقول: أفضل الشيخين بتفضيل علي إياهما على نفسه، ولو لم يفضلهما ما فضلتهما، كَفَى بي ازدراءً أن أحب عليا، ثم أخالف قوله. وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بآخره، كتب عنه أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يُحتج به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ممن يخطىء إذا حدث من حفظه، على تشيع فيه، وكان ممن جَمَع، وصَنّف، وحفظ، وذاكر. وقال الآجري عن أبي داود: الفريابي أحب إلينا منه، وعبد الرزاق ثقة. وقال أبو داود: سمعت الحسن بن علي الحلواني يقول: سمعت عبد الرزاق، وسئل أتزعم عليا كان على الهدى في حروبه؟ قال: لا ها الله، إذًا يزعم على أنها فتنة، وأتقلدها له هذا. قال أبو داود: وكان عبد الرزاق يُعَرِّض بمعاوية. وقال محمد بن إسماعيل الفزاري: بلغني ونحن بصنعاء، أن أحمد ويحيى تركا حديث عبد الرزاق، فدخلنا غَمٌّ شديدٌ، فوافيت ابن معين في الموسم، فذكرت له، فقال: يا أبا صالح لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا

ص: 243

حديثه. ورُوي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام، لا يجيئني أصحاب الحديث، فتعلقت بالكعبة، وقلت: يا رب مالي، أكذاب أنا، أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت، فجاؤوني. وقال العجلي: ثقة يتشيع، وكذا قال البزار. وقال الذهلي: كان عبد الرزاق أيقظهم في الحديث، وكان يحفظ. وقال إبراهيم بن عباد الدَّبَريّ: كان عبد الرزاق يحفظ نحوا من سبع عشرة ألف حديث. وقال ابن عدي: ولعبد الرزاق أصنافٌ وحديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم، وكتبوا عنه، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وقد روى أحاديث في الفضائل، لم يتابع عليها، فهذا أعظم ما ذَمُّوه من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم، وأما في باب الصدق، فأرجو أنه لا بأس به.

قال أحمد وغيره: مولده سنة ست وعشرين ومائة. وقال البخاري وغير واحد: مات سنة إحدى عشرة ومائتين، زاد ابن سعد في شوال. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (76) حديثًا.

3 -

(معمر) بن راشد الأزديّ الحُدّانيّ مولاهم، أبو عُروة بن أبي عمرو البصريّ، نزيل اليمن، شَهِدَ جنازة الحسن البصري، ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حدّث به بالبصرة، من كبار [7].

رَوَى عن ثابت البناني، وقتادة، والزهري، وعاصم الأحول، وأيوب، والجعد أبي عثمان، وزيد بن أسلم، وصالح بن كيسان، وعبد الله بن طاوس، وجعفر بن بُرْقان، والحكم بن أبان، وخلق كثير.

ورَوَى عنه شيخه يحيى بن أبي كثير، وأبو إسحاق السبيعي، وأيوب، وعمرو بن دينار، وهم من شيوخه، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان العطار، وابن جريج، وعمران القطان، وهشام الدستوائي، وعبد الرزّاق، وخلق كثير.

قال عبد الرزاق عن معمر: طلبت العلم سنة مات الحسن، وعنه قال: جلست إلي قتادة، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فما سمعت منه حديثا إلا كأنه يُنقش في صدري،

ص: 244

وعَدّه علي بن المديني، وأبو حاتم فيمن دار الإسناد عليهم. وقال الميموني عن أحمد: ما نَضُمّ أحدا إلى معمر إلا وجدت معمرا يتقدمه في الطلب، كان من أطلب أهل زمانه للعلم، وكذا قال أبو طالب، والفضل بن زياد عن أحمد نحوه. وقال الدُّوري عن ابن معين: أثبت الناس في الزهري مالك، ومعمر، ثم عَدَّ جماعة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: معمر أثبت في الزهري من ابن عيينة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: معمر أحب إليك في الزهري أو ابن عيينة، أو صالح بن كيسان، أو يونس؟ فقال: في كل ذلك معمر. وقال الغلابي: سمعت ابن معين يُقَدِّم مالك بن أنس على أصحاب الزهري، ثم معمرا، قال: ومعمر عن ثابت ضعيف. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة. وقال عمرو بن علي: كان من أصدق الناس. وقال العجلي: بصري سكن اليمن ثقة، رجل صالح. قال: ولما دخل صنعاء كرهوا أن يخرج من بين أظهرهم، فقال لهم رجل: قيدوه، فزوجوه. وقال أبو حاتم: ما حدث معمر بالبصرة فيه أغاليط، وهو صالح الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: معمر ثقة، وصالح ثبتٌ عن الزهري. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق، عن ابن جريج: عليكم بهذا الرجل، فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه، يعني معمرا. وقال ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل اليمن: كان معمر رجلا له قَدْرٌ ونُبْلٌ في نفسه، ولمّا خرج إلى اليمن شيعه أيوب حدثنا عبد الرحمن بن يونس، سمعت ابن عيينة يَسأل عبد الرزاق، فقال: أخبرني عما يقول الناس في معمر: إنه فُقِد، ما عندكم فيه؟ فقال: مات معمر عندنا، وحضرنا موته، وخلف على امرأته قاضينا مُطَرِّف بن مازن. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا حدثك معمر عن العراقيين، فخالفه إلا عن الزهري، وابن طاوس، فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة، وأهل البصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئًا، قال يحيى: وحديث معمر عن ثابت، وعاصم بن أبي النجود، وهشام بن عروة، وهذا الضرب مضطرب، كثير الأوهام. وقال الخليليّ: أثنى عليه الشافعي، ورَوَى ابن المبارك في "الرقاق" عن معمر، عن سعيد المقبري حديثًا، فقال

ص: 245

الحاكم: صحيح إن كان معمر سمع من سعيد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان، فقيها حافظا متقنا ورعا، مات في رمضان سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة.

قال الواقدي وجماعة: مات سنة ثلاث. وقال أحمد، ويحيى، وعلي، مات سنة أربع، زاد أحمد: وهو ابن ثمان وخمسين. وقال الطبراني: كان معه بن راشد، وسَلْمَ بن أبي الذَّيّال فُقِدا، فلم يُرَ لهما أثر. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (71) حديثًا.

4 -

(الزهري) محمد بن مسلم الإمام الحافط الثبت الحجة، رأس الطبقة [4] تقدّم 2/ 4.

5 -

(سالم) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، ثقة ثبت عابد فاضلٌ، كان يُشبّه بأبيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3].

رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي رافع، وأبي أيوب، وعن زيد بن الخطاب (1)، وأبي لبابة على خلاف فيه، وغيرهم.

وروى عنه أبنه أبو بكر، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، والزهري، وصالح بن كيسان، وحنظلة بن أبي سفيان، وعبيد الله بن عمر بن حفص، وغيرهم.

قال ابن المسيب: كَان عبد الله أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به.

وقال مالك: لم يكن أحد في زمان سالم بن عبد الله أشبه من مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه. وقال الأصمعي عن ابن أبي الزناد كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى نشأ فيهم القراء السادة: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علمًا وتُقًى وعبادة وورعًا، فَرَغِبَ الناس حينئذ في السراري. وقال علي بن الحسن العسقلاني عن ابن

(1) قال الحافظ: رواية سالم عن عم أبيه زيد بن الخطاب منقطعة قطعًا. والله أعلم. انتهى "تهذيب التهذيب" 1/ 677.

ص: 246

المبارك: كان فقهاء أهل المدينة سبعة، فذكره فيهم، قال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعًا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيَصْدُرون. وقال مالك: كان ابن عمر يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل زمانه. وقال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، أصح الأسانيد: الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقال الدُّوري عن ابن معين: سالم، والقاسم، حديثهما قريب من السواء، وسعيد بن المسيب قريب منهما، وإبراهيم أعجب إلي مرسلًا منهم. وقال البخاري: لم يسمع من عائشة. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، عاليا من الرجال. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يشبه أباه في السَّمْت والْهَدْي. وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا أدري سالم عن أبي رافع صحيح أم لا؟. وقال غيره: لمّا قَدِمَ سبي فارس على عمر، كان فيه بنات يَزدَجْردَ، فقُوِّمن، فأخذهن علي، فأعطى واحدة لابن عمر، فولدت له سالمًا، وأعطى أختها لولده الحسين، فولدت له عليًّا، وأعطى أختها لمحمد ابن أبي بكر، فولدت له القاسم.

وقال أبو نعيم وجماعة: مات سنة ست ومائة، في ذي القعدة، أو ذي الحجة.

وقال خليفة: سنة (7)، وقال الهيثم بن عدي: سنة (8)، وقال الأصمعي: سنة (5)، والأول أصح أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (54) حديثًا.

6 -

(ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، تقدّم 1/ 4 والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها). أن رجاله كلهم رجال الجماعة إلا شيخه، فما أخرج له مسلم.

3 -

(ومنها). أنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، وشيخه نيسابوريّ، والباقيان يمنيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ.

ص: 247

5 -

(ومنها): أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، وهو من المشهورين بالفتوى. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها (تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله) بكسر الهمزة: جمع أمة. قال في "المصباح": "الأمة": محذوفة اللام، وهي واو، والأصل: أَمَوَةٌ، ولهذا تردّ في التصغير، فيقال: أُميّةٌ، والأصل أُمَيْوَةٌ، وبالمصغّر سُمّي الرجل، والتثنية أَمَتَان على لغة المفرد، والجمعُ: آمٍ وِزَانُ قاضٍ، وإِمَاءٌ وِزَان كِتَابٍ، وإمْوَانٌ وِزانُ إِسْلام. وقد تُجمع على أَمَوَاتٍ، مثلُ سَنَوَاتٍ. انتهى (1).

والتعبير بإماء الله أوقع في النفس من التعبير بالنساء، إذ فيه مناسبة تقتضي الإباحة، حيث عُلّق الحكم على الوصف المناسب، كأنه قيل: لا تمنعوا هؤلاء المملوكات عن بيوت مالكهنّ. أفاده بعض المحقّقين (2).

(أَنْ يُصَلِّينَ في المسْجِدِ)"أن" بفتح الهمزة، وتخفيف النون مصدريّة، والفعل في تأويل المصدر مفعول ثان لمنع؛ لأنه يتعدّى بنفسه إلى مفعولين، يقال: منعته الأمرَ، ويتعدّى أيضًا إلى الثاني بـ "من"، فيقال: منعته من الأمر. قال في "المصباح": منعه الأمرَ، ومن الأمر مَنْعًا، فهو ممنوع منه: محروم. انتهى (فَقَالَ ابْنٌ لَهُ) أي لابن عمر رضي الله تعالى عنهما، واختَلفت الروايات في تسمية ابنه هذا، ففي رواية لمسلم تسميته بلالا، فقد أخرجه من طريق كعب بن علقمة، عن بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه بلفظ: "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد، إذا استأذنّكم، فقال بلال. والله لنمنعهن

" الحديث. وللطبراني من طريق عبد الله بن هُبيرة، عن بلال بن عبد الله نحوه، وفيه:

(1)"المصباح المنير" 1/ 25.

(2)

راجع "العدّة حاشية العمدة" للعلامة الصنعاني 2/ 143 - 144.

ص: 248

"فقلت: أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فلْيُسَرِّح أهله". وفي رواية يونس، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، في هذا الحديث قال: فقال بلال بن عبد الله: "والله لنمنعهن"، ومثله في رواية عُقَيل عند أحمد، وعنده في رواية شعبة، عن الأعمش فقال سالم، أو بعض بنيه: "والله لا ندعهن يتخذنه دَغَلًا

" الحديث. وفي رواية لمسلم من طريق عمرو بن دينار، عن مجاهد: فقال له ابن له، يقال له: واقد: إذًا يَتَّخِذنه دَغَلًا، قال: فضرب في صدره، وقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا.

قال الحافظ رحمه الله تعالى: والراجح من هذا أن صاحب القصة بلال؛ لورود ذلك من روايته نفسه، ومن رواية أخيه سالم، ولم يُختلف عليهما في ذلك، وأما هذه الرواية الأخيرة فمرجوحة؛ لوقوع الشك فيها، ولم أره مع ذلك في شيء من الروايات عن الأعمش مسمى، ولا عن شيخه مجاهد، فقد أخرجه أحمد من رواية إبراهيم بن مهاجر، وابن أبي نجيح، وليث بن أبي سُليم، كلهم عن مجاهد، ولم يسمه أحد منهم، فإن كانت رواية عمرو بن دينار، عن مجاهد محفوظة في تسميته واقدًا، فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك، إما في مجلس، أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلا منهما بجواب يليق به. ويقويه اختلاف النَّقَلَة في جواب ابن عمر، ففي رواية بلال عند مسلم:"فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبا سيئا، ما سمعته يسبه مثله قط"، وفسر عبد الله ابن هُبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات. وفي رواية زائدة، عن الأعمش:"فانتهره، وقال: أُفّ لك"، وله عن ابن نمير، عن الأعمش:"فعل الله بك، وفعل"، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس. ولمسلم من رواية أبي معاوية:"فزبره". ولأبي داود من رواية جرير: "فسبّه، وغضب".

فيحتمل أن يكون بلال البادئ، فلذلك أجابه بالسب المفسر باللعن، وأن يكون واقد بدأه فلذلك أجابه بالسب المفسر بالتأفيف، مع الدفع في صدره، وكأن السر في ذلك أن بلالا عارض الخبر برأيه، ولم يذكر علة الخالفة، ووافقه واقد، لكن ذكرها بقوله:"يتخذنه دَغَلًا"، وهو -بفتح المهملة، ثم المعجمة- وأصله الشجر الملْتَفّ، ثم

ص: 249

استعمل في المخادعة؛ لكون المخادع يَلُفّ في ضميره أمرا، ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لا رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك الغيرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، هالا فلو قال مثلا: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره، لكان يظهر أن لا ينكر عليه.

(إِنَّا لنَمْنَعُهُنِّ) أي نمنع النساء حضور المساجد (فَغَضِبَ) ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على ابنه هذا (غَضَبًا شَدِيدًا) لمعارضته السنّة، كما بيّنه بقوله (وَقَالَ) أي اين عمر (أُحَدِّثُكَ عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وتَقُولُ: إِنَّا لنَمْنَعُهُنَّ) معارضًا للنصّ، وفي رواية لأحمد بن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما كلّمه عبد الله حتى مات" .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا من طريق سالم، عنه، و (الشافعي)(1/ 127)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّقه"(5107)، و (الحميديّ) في "مسنده"(612)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 2/ 383، و (أحمد) في "مسنده" 2/ 7 و 9 و 57 و140 و 143 و151 و 156 و (الدارمي) في "سننه"(448)، و (البخاريّ) 1/ 219 و 220 و 7/ 49 و (مسلم) 2/ 32 و (النسائي) 2/ 42 و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1677) و (أبو عوانة) 2/ 56 و 57 و (البيهقيّ) في "الكبرى"3/ 132 و (البغويّ) في "شرح السنّة"(862).

وأخرجه من طريق نافع، عنه (أحمد) 2/ 16/ و 36 و45 و151، و (البخاريّ) 2/ 7 و (مسلم) 2/ 33 و (أبو داود)(568)، و (ابن خزيمة)(1678) و (أبو عوانة) 2/ 59، و (ابن حبان)(2208) و (2209).

وأخرجه من طريق مجاهد، عنه (عبد الرزاق)(5108) و (الطيالسيّ)(1892)،

ص: 250

و (أحمد) 2/ 36 و 43 و 49 و 98 و 127 و143و145و (عبد بن حميد)(805)، و (البخاري) 2/ 7 و (مسلم) 2/ 33 و (أبو داود)(568) و (الترمذيّ)(570) و (ابن حبان)(2210) و (أبو عوانة) 2/ 57 - 58 و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13471) و (13472) و (13565) و (13570) و (البيهقي) في "الكبرى" 3/ 132.

وأخرجه من طريق حبيب ابن أبي ثابت، عنه (أحمد) 2/ 76 و (أبو داود)(567) و (ابن خزيمة)(1684) و (البيهقيّ) 3/ 131 و (البغويّ) في "شرح السنة"(864).

وأخرجه من طريق عمرو بن دينار، عنه (الطيالسيّ)(1903) و (أبو عوانة) 2/ 58.

وأخرجه من طريق بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه (أحمد) 2/ 90 و (مسلم) 2/ 33 و (أبو عوانة) 2/ 57.

وأخرجه من طريق محمد بن علي بن الحسين الباقر، عنه (الطبرانيّ)(13255).

والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث رُوي عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنهما.

فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرجه (الشافعي) 1/ 127 و (عبد الرزّاق)(5121) و (الحميديّ)(978) و (ابن أبي شيبة) 2/ 383 و (أحمد) 2/ 438 و475 و 528، و (أبو داود)(565) و (الدارميّ)(1282) و (1283) و (ابن خزيمة (1679) و (ابن حبان)(2214)، وغيرهم.

وأما حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، فأخرجه (أحمد) 5/ 192 و193، و (ابن حبان)(2211) و (الطبرانيّ)(5239) و (5240) و (البزاز)(445) بإسناد حسن، كما قال الحافط الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 2/ 32 - 33، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان وجوب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه، ووجه ذلك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما

ص: 251

غضب على ولده غضبًا شديدًا لمّا خالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): أن فيه جواز خروج النساء إلى مسجد الجماعة؛ لأنه لو كان ممنوعًا لم يؤمر الرجال بالإذن لهنّ إذا استأذنّ، ولكنه مشروط بالشروط الآتية.

واختلف العلماء في شهودها الجماعة، هل هو مندوبٌ، أو مباحٌ فقط؟ فقال محمد بن جرير الطبريّ: إن إطلاق الخروج لهنّ إلى المساجد إباحة، لا ندب، ولا فرض.

وفرق بعضهم بين الشابّة والعجوز. ذكره وليّ الدين (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالإباحة هو الأرجح؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "وبيوتهنّ خير لهنّ". أخرجه أبو داود (2)، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن الزوج لا يجوز له أن يمنعها من المساجد إذا استأذنته، إذا استوفت الشروط، قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: الحديث عامّ في النساء، ولكن الفقهاء قد خصّوه بشروط، وحالات، منها: أن لا يتطيّبن، وهذا الشرط مذكور في الحديث، ففي بعض الروايات:"وليَخرُجن تَفِلات"(3). وفي بعضها: "إذا شهدت إحداكنّ المسجد، فلا تمسّ طيبًا"(4). وفي بعضها: "إذا شهدت إحداكنّ العشاء، فلا تطيّب تلك الليلة". فيُلحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما مُنع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال، وشهوتهم، وربما يكون سببًا لتحريك شهوة المرأة أيضًا، فما أوجب هذا المعنى التحق به. وقد صحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرأة أصابت بَخُورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة". أخرجه مسلم. ويُلحق به أيضًا حسن الملابس، ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة.

(1)"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 314 - 315.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "الصلاة" برقم (566).

(3)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود.

(4)

أخرجه مسلم.

ص: 252

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في إلحاق هذه الأشياء بالمنصوص عليه نظر لا يخفى؛ إذ هذه الأشياء كانت موجودة وقت ورود النصّ، فخصّ بعض الأشياء، كالطيب، وسكت عن غيره، فإلحاقه به محلّ نظر. والله تعالى أعلم.

قال: ومما خصّ به بعضهم هذا الحديث أن منع الخروج إلى المسجد للمرأة الجميلة المشهورة جائز.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا أيضًا غير صحيح؛ لأن النصّ عامّ، وقد أخرج الترمذيّ، والنسائيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدّم حتى يكون في الصفّ الأول حتى لا يراها، ويتأخّر بعضهم حتى يكون في الصفّ الأخير حتى يراها، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24](1).

ومحلّ الشاهد كون المرأة الجميلة كانت تحضر الصلاة في المسجد، ولم تمنع من ذلك، وإن ذُمّ من يقصد النظر إليها. والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): مشروعيّة صلاة الجماعة للنساء، وإن كان صلاتهنّ في البيوت أفضل لهن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وبيوتهنّ خير لهنّ". روه أبو داود.

5 -

(ومنها): أنه يجوز للرجل أن يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه.

6 -

(ومنها): أنه يؤخذ من إنكار عبد الله رضي الله عنه على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، والعامل بهواه.

7 -

(ومنها): تأديب الرجل ولده، وإن كان كبيرًا، وتأديب العالم من يتعلّم عنده إذا تكلم بما لا ينبغي.

(1) حديث صحيح، انظر "صحيح الترمذيّ" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى في "تفسير سورة الحجر" رقم (2497) و"السلسلة الصحيحة" له رقم (2472).

ص: 253

8 -

(ومنها): جواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد عند أحمد:"فما كلّمه عبد الله حتى مات". وهذا -إن كان محفوظا- يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير. قاله في "الفتح"(1). وبقيّة مباحث الحديث ستأتي في "كتاب الصلاة"، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

17 -

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الجحْدَرِيُّ، وَأَبُو عَمرٍو حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مُغَفّل، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا إِلَى جَنْبِهِ ابْنُ أَخ لَهُ، فَخَذَفَ، فَنَهَاهُ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْها، وَقَالَ: "إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنْكي عَدُوًّا، وَإِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ العَيْنَ"، قَالَ فَعَادَ ابْنُ أَخِيهِ، فَخَذَفَ، فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْها، ثُمَّ عُدْتَ تَخْذِفُ، لَا أُكلِّمُك أَبدًا).

وحال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أحمد بن ثابت الجُحدريّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10].

رَوَى عن سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفي، وغندر، والقطان، وغيرهم.

ورَوَى عنه المصنّف، والبخاري في "التاريخ"، وابن صاعد، وأبو عروبة، وعمر ابن بجير، وابن خزيمة، وأبو بكر بن أبي داود، وغيرهم. كان حيا في سنة (250).

قال ابن حبان في "الثقات": كان مستقيم الأمر في الحديث. وذكره أبو علي الغساني في شيوخ أبي داود وقال: إنه روى عنه في "كتاب بدء الوحي "له. رَوَى عنه المصنّف في هذا الكتاب أربعة عشر حديثًا.

2 -

(أبو عَمْرو حفص بن عَمْرو) بن ربَال -بفتح الراء، والموحّدة- ابن إبراهيم ابن عجلان الرَّبَاليّ الرَّقَاشيّ، أبو عُمَر، ويقال: أبو عَمْرو البصريّ، ثقة عابد [10].

(1)"فتح" 2/ 622.

ص: 254

رَوَى عن أبي بحر البكراوي، وأبي بكر الحنفي، وعبد الوهاب الثقفي، وابن علية، وأبي عاصم، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو داود في "فضائل الأنصار"، وابن ماجه، وإبراهيم الحربي، والْبُجَيري، وابن خزيمة، وابن ناجية، وموسى بن هارون، وابن أبي داود، والبغوي، وابن صاعد، والمحاملي، وابن مخلد، والحسين بن يحيى بن عياش، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: أدركته، ولم أسمع منه، وهو صدوق. وقال الدارقطني، وابن قانع: ثقة مأمون. قلت وقال ابن خزيمة في "صحيحه": كان من العباد. وقال ابن كيسان، راوي النسائي: سمعت عبد الصمد البخاري يقول: هو ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونسبه هو، والسمعاني مجاشعيا. وقال ابن قانع: مات سنة (258). روى عنه المصنف في هذا الكتاب أربعة عشر حديثًا.

[تنبيه]: وقع في بعض النسخ "حفص بن عُمَر" بضم العين، وهو غلطٌ، والصواب "ابن عَمْرو" بالفتح، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

3 -

(عبد الوهّاب) بن عبد المجيد بن الصَّلْت بن عبيد الله بن الحكم بن أبي العاص الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8].

رَوَى عن حميد الطويل، وأيوب السختياني، وابن عون، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، وغيرهم.

ورَوَى عنه الشافعي، وأحمد، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة، وبندار، وأبو موسى، ومسدد، وآخرون.

قال عفان عن وهب: لمّا مات عبد المجيد قال لنا أيوب: الزموا هذا الفتى عبد الوهاب. وعده ابن مهدي فيمن كان يحدث من كتب الناس، ولا يحفظ ذلك الحفظ. وقال أحمد: الثقفي أثبت من عبد الأعلى الشامي. وقال عثمان: سألت يحيى بن معين، قلت: ما حال وهيب في أيوب؟ فقال: ثقة، قلت: هو أحب إليك، أو عبد الوهاب؟ قال: ثقة وثقة. وقال الدُّوري عن أَبن معين: اختلط بآخره. وقال عقبة بن مُكْرَم:

ص: 255

اختلط قبل موته بثلاث سنين، أو أربع سنين. وقال علي بن المديني: ليس في الدنيا كتاب عن يحيى -يعني بن سعيد الأنصاري- أصح من كتاب عبد الوهاب، وكل كتاب عن يحيى فهو عليه كَلٌّ. وقال الترمذي: سمعت قتيبة يقول: ما رأيت مثل هؤلاء الأربعة: مالك، والليث، وعبد الوهاب الثقفي، وعباد بن عباد. وقال العجلي: بصري ثقة. وقال عمرو بن علي: اختلط حتى كان لا يعقل، وسمعته وهو مختلط يقول: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، باختلاطٍ شديد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (84) وقيل: سنة (94). وقال محمد بن سعد: كان ثقة، وفيه ضعف، وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة. وقال أحمد: كان مولده سنة (8). وقال الفلاس: وُلد سنة (110)، ومات سنة (94). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.

4 -

(أيوب) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ -بفتح المهملة، بعدها معجمة، ثم مثنّاة، ثم تحتانيّة، وبعد الألف نون- أبو بكر، ويقال: أبو عثمان البصريّ، مولى عنزة، ويقال: مولى جهينة، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد [5].

رَأَى أنس بن مالك، وروى عن عمرو بن سَلِمَة الجرمي، وحميد بن هلال، وأبي قلابة، والقاسم بن محمد، والأعرج، وعمرو بن دينار، وغيرهم.

ورَوَى عنه الأعمش من أقرانه، وقتادة، وهو من شيوخه، والحمادان، والسفيانان، وشعبة، وعبد الوارث، ومالك، وخلق كثير.

قال علي بن المديني: له نحو ثمانمائة حديث، وأما ابن علية فكان يقول: حديثه ألفا حديث، فما أقل ما ذهب علي منها. وقال ميمون، أبو عبد الله عن الحسن، وقد رأى أيوب: هذا سيد الفتيان. وقال الجعد أبو عثمان: سمعت الحسن يقول: أيوب سيد شباب أهل البصرة. وقال أبو الوليد عن شعبة: حدثني أيوب، وكان سيد الفقهاء. وقال ابن الطباع، عن حماد بن زيد: كان أيوب عندي أفضل من جالسته، وأشده اتباعا للسنة. وقال الحميدي عن ابن عيينة: ما لقيت مثل أيوب. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أيوب عن نافع أحب إليك، أو عبيد الله؟ قال: كلاهما، ولم يفضل. وقال

ص: 256

ابن أبي خيثمة عنه: ثقة، وهو أثبت من ابن عون. وقال أبو حاتم: سئل ابن المديني، من أثبت أصحاب نافع؟ قال: أيوب وفَضلُهُ، ومالك وإتقانه، وعبيد الله وحفظه. وقال ابن البراء عن ابن المديني: أيوب في ابن سيرين أثبت من خالد الحذاء. وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا في الحديث، جامعًا، كثير العلم، حجة عدلًا. وقال أبو حاتم: هو أحب إلي في كل شيء من خالد الحذاء، وهو ثقة، لا يسأل عن مثله، وهو أكبر من سليمان. وقال النسائي: ثقة ثبت.

ورُوي أن شعبة سأله عن حديث، فقال: أشك فيه، فقال له: شكك أحب إلي من يقين غيرك. وقال مالك: كان من العالمين العاملين الخاشعين، وقال أيضا: كتبت عنه لما رأيت من إجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن علية: وُلد أيوب سنة (66). وقال غيره سنة (68). وقال البخاري عن ابن المديني: مات سنة (131) زاد غيره: وهو ابن ثلاث وستين. ويقال: مات سنة (25) وقيل: قبلها بسنة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (55) حديثًا.

5 -

(سعيد بن جبير) بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه [3].

رَوَى عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأنس، وعمرو بن ميمون، وعائشة، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابناه: عبد الملك، وعبد الله، ويعلى بن حكيم، ويعلى بن مسلم، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير المكي، وابن شهاب، وثابت بن عجلان، وغيرهم.

قال يعقوب الْقُمِّيُّ عن جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدَّهْمَاء -يعني سعيد بن جبير-. وقال عمرو بن ميمون عن أبيه: لقد مات سعيد بن جبير، وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. وكان سفيان يقدم سعيدا على إبراهيم في العلم، وكان أعلم من مجاهد وطاووس. وقال عثمان بن بوذويه: كنت مع وهب بن منبه، وسعيد بن جبير يوم عرفة،

ص: 257

فقال وهب لسعيد: أبا عبد الله كم لك منذ خِفت من الحجاج؟ قال: خرجت عن امرأتي، وهي حامل، فجاءني الذي في بطنها، وقد خَرَجَ وجهه. وقال هشيم: حدثني عتبة مولى الحجاج، قال: حضرت سعيد بن جبير، حين أُتِي به الحجاج بواسط، فجعل الحجاج يقول له: ألم أفعل بك؟، ألم أفعل بك؟ فيقول: بلى، قال: فما حملك على ما صنعت من خروجك علينا؟ قال: بيعة كانت عليّ، قال: فغضب الحجاج، وصفق بيديه، وقال: فبيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى، وأمر به، فضُربت عنقه. وقال ابن حبان في "الثقات": كان فقيها عابدًا فاضلا ورعًا، وكان يكتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود، حيث كان على قضاء الكوفة، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى، ثم خرج مع ابن الأشعث في جملة القراء، فلما هُزِم ابن الأشعث، هَرَب سعيد بن جبير إلى مكة، فأخذه خالد الْقَسْريّ بعد مدة، وبعث به إلى الحجاج، فقتله الحجاج سنة (95) وهو ابن (49) لسنة، ثم مات الحجاج بعده بأيام، وكان مولد الحجاج سنة (40). انتهى. وقيل: إن قتله كان في آخر سنة (94)، وقال عمر بن سعيد بن أبي حسين: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دُعي ليُقتَل، فجعل ابنه يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟. وقال أبو قاسم الطبري: هو ثقة إمام حجة على المسلمين، قُتل في شعبان سنة خمس وتسعين، وهو ابن (49) سنة. وقال أبو الشيخ: قتله الحجاج صبرا سنة (95).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (50) حديثًا.

6 -

(عبد الله بن مغفّل) بمعجمة، وفاء مشدّدة- ابن عبد غَنْم، وقيل: عبد بن نَهْم -بفتح النون، وسكون الهاء- ابن عَفِيف بن أسحم بن ربيعة بن عدي بن ثعلبة بن ذؤيب، وقيل: دُويد بن سعد بن عَدّاء بن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة المزنيّ، أبو سعيد، وأبو زياد. ونقل البخاري عن يحيى بن معين أنه كان يُكنَى أبا زياد. وعن بعض ولده أنه كان يكنى بهما (1)، وأنه كان له عدة أولاد منهم: سعيد، وزياد، من مشاهير

(1) وفي "تهذيب التهذيب": ويقال: أبو عبد الرحمن.

ص: 258

الصحابة. قال البخاري: له صحبة، سكن البصرة، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك، وشهد بيعة الشجرة، ثبت ذلك في "الصحيح"، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعثمان، وعبد الله بن سالم. ورَوَى عنه حميد بن هلال، وثابت البناني، ومطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير، ومعاوية بن قرة، وعقبة بن صُهْبان، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن بريدة، وابن له غير مُسَمّى، يقال: اسمه يزيد، وغيرهم، وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقهوا الناس بالبصرة، وهو أول من دخل من باب مدينة تُسْتَر، ومات بالبصرة سنة تسع وخمسين، قاله مسدد. وقيل: سنة ستين، فأوصى أن يصلى عليه أبو برزة الأسلمي، فصلى عليه، ومات سنة إحدى وستين (1).

أخرج له الجماعة، روى (43) حديثًا، اتفق الشيخان على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بآخر، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا شيخيه، فقد تفرّد بهما.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير سعيد بن جبير، فكوفيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن عبد الله بن مغفّل منفرد بهذا الاسم، فلا يوجد في الكتب الستة من يُسمّى بهذا الاسم غيره، قال السيوطيّ في "ألفية الحديث".

وَالِدُ عَبْدِ الله قُلْ مُغَفَّلُ

مُنفَرِدٌ وَمَن سِواهُ مَعْقِلُ

والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن عَبْدِ الله بْنِ مُغَفَّلٍ) بصيغة اسم المفعول المضعّف رضي الله عنه (أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا إِلَى

(1)"الإصابة" 4/ 206 - 207.

ص: 259

جَنْبِهِ ابْنُ أَخٍ لَهُ) لم يعرف اسمه، كما قاله في "الفتح"(فَخَذَفَ) بالخاء، والذال المعجمتين -يقال: خذفت الحصاة ونحوها خَذْفًا، من باب ضرب: إذا رميتها بطرفي الإبهام والسبّابة. قاله في "المصباح". وقال في "الفتح": ما حاصله: الخذف بخاء معجمة، وآخره فاء: أن يرمي بحصاة، أو نواة بين سبّابتيه، أو بين الإبهام والسبّابة، أو على ظاهر الوسطى، وباطن الإبهام. وقال ابن فارس: خذفت الحصاةَ: رميتها بين إصبعيك. وقيل: في حصى الخذف أن يجعل الحصاة بين السبّابة من اليمنى والإبهام من اليسرى، ثم يقذفها بالسبّابة من اليمين. وقال ابن سِيدَهْ: خذف بالشيء يخذِفُ فارسيّ، وخصّ بعضهم به الحصى، قال: والمِخْذَفة: التي يوضع فيها الحجر، ويُرمَى بها الطير، ويُطلق على المِقْلاع أيضًا. قاله في "الصحاح"(1).

(فَنَهَاهُ) أي نهى عبد الله رضي الله عنه ابنَ أخيه عن الخذف (وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا) أنّث الضمير بتأويله بالخذفة: أي نهى عن هذه الخذفة، وفي رواية لمسلم:"فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف"، وفي رواية للشيخين:"فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف"، أو "كان يكره الخذف"(وقَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا) أي لا تقتله، يقال: صاد الصيد يصيده ويصاده: إذا أخذه. أفاده في "اللسان". وفي "المصباح": صاد الرجل الطيرَ وغيره يَصيده صَيْدًا، فالطير مَصِيد، والرجل صائدٌ، وصَيّادٌ. قال ابن الأعرابيّ: يقال: صاد يَصَادُ، وبات يباتُ، وعاف يَعاف، وخالَ الغيثَ يخاله لغة في يفعِلُ بالكسر في الكلّ. وسُمّي ما يُصادُ صَيدًا، إما بمعنى مفعول، وإما تسميةً بالمصدر، والجمع صُيُود. انتهى (2).

وقال في "الفتح" قال المهلّب: أباح الله الصيد على صفة، فقال:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك، وإنما هو وَقِيذٌ،

(1) راجع "الفتح" 11/ 30.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 353.

ص: 260

وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به؛ لأنه ليس من المُجْهِزَات، وقد اتفق العلماء إلا من شَذّ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر. انتهى. وإنما كان كذلك؛ لأنه يقتل الصيد بقوة راميه، لا بحده.

(وَلَا تَنْكِي عَدُوًّا) بفتح التاء، وكسر الكاف، مضارع نَكَى، يقال: نكيت في العدوّ من باب رمى، والاسم النِّكايةُ بالكسر: إذا قتلتَ وأثخنتَ، ويقال: نكأت نكئًا، من باب نفع أيضًا لغة فيه، ويقال: نكأتُ الْقَرْحَة أنكؤها مهموز بفتحتين: قشرتها. أفاده في "المصباح".

وقال في "الفتح": قال عياض: الرواية -بفتح الكاف، وبهمزة في آخره- وهي لغة، والأشهر بكسر الكاف بغير همز. وقال في "شرح مسلم":"لا ينكأ" بفتح الكاف مهموز، ورُوي "لا يَنكي" بكسر الكاف، وسكون التحتانية، وهو أوجه؛ لأن المهموز إنما هو من نكأت الْقَرْحة، وليس هذا موضعه، فإنه من النكاية. لكن قال في "العين": نكأت لغة في نكيت، فعلى هذا تتوجه هذه الرواية. قال: ومعناه المبالغة في الأذى. وقال ابن سِيدَهْ: نكأ العدوَّ نِكاية: أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم، فظهر أن الرواية صحيحة المعنى، ولا معنى لتخطئتها. وأغرب ابن التين: فلم يُعَرِّج على الرواية التي بالهمز أصلًا، بل شرحه على التي بكسر الكاف، بغير همز، ثم قال: ونكأت الْقَرْحة بالهمز. انتهى.

(وَإِنَّهَا) أي الخذفة (تَكْسِرُ) بكسر السين المهملة، من باب ضرب (السِّنَّ) أطلقه، فشمل سنّ المرميّ، وغيره من الآدميين وغيرهم، ومثله يقال في العين في قوله:(وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ) بفتح التاء، وسكون الفاء، وقاف، آخره همزة: أي تشقّها، قال الفيّوميّ: فقأت العين أَفْقَؤُها مهموزٌ -بفتحتين-: بَخَصْتُها (1)، وفقأت الْبَثْرَةَ: شققتها، فانفقأت، وتفقّأت: تشققت. انتهى.

(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه سعيد بن جبير (فَعَادَ) أي رجع (ابْنُ أَخِيهِ، فَخَذَفَ)

(1) بخصت العين بالصاد، وبخستها بالسين: خَسَفتها، والصاد أجود. أفاده في "المصباح".

ص: 261

أي رمى بالحصاة، ونحوها (فَقَالَ) أي عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه (أُحَدِّثُكَ) بالرفع على الاستئناف (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا) أي عن الخذفة (ثُمَّ عُدْتَ) أي رجعت (تَخْذِفُ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا) أي هَجْرًا؛ لمخالفتك السنّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا 2/ 17 وفي "كتاب الصيد"(2/ 1075، 3336 و 3227) و (البخاريّ)(6/ 170 و 7/ 112و 8/ 60) و (مسلم)(6/ 72 و 72) و (أبو داود)(5270) و (النسائيّ) 8/ 47، و (الطيالسيّ)(919) و (الحميديّ)(887) و (أحمد) 4/ 54 و 57 و 4/ 87 و5/ 55 و 56، و (الدارميّ)(446) و (ابن حبان)(5949)(والحاكم) 4/ 283، و (البيهقي) 9/ 248، و (البغوي)(2574). والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من خالفه.

2 -

(ومنها): النهي عن الخذف؛ لأنه لا مصلحة فيه، بل يُخاف مفسدته، ويَلتحق به كلّ ما شاركه في هذا.

3 -

(ومنها): أن ما كان فيه مصلحة، أو حاجة في قتال العدوّ، وتحصيل الصيد فهو جائز.

4 -

(ومنها): جواز هِجْران أهل البدع والفسوق، ومنابذي السنّة مع العلم، وأنه يجوز هجرانهم دائمًا، ولا تعارض بين هذا، وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"، متّفقٌ عليه؛ لأن هذا فيمن هجر لحظ نفسه، ومعايش الدنيا،

ص: 262

وأما أهل البدع والفسق، فهجرانهم يكون دائمًا إلى أن يتوبوا، فقد هجر النبيّ صلى الله عليه وسلم كعب ابن مالك وصاحبيه الذين خُلّفوا، وأمر بهجرانهم إلى أن نزل قبول توبتهم، وكان ذلك خمسين يومًا، كما هو مشهور في قصّتهم في "الصحيحين"، وغيرهما. والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه تغيير المنكر، ومنع الرمي بالبندقة؛ لأنه إذا نَفَى الشارع أنه لا يصيد، فلا معنى للرمي به، بل فيه تعريض للحيوان بالتلف لغير مالكه، وقد ورد النهي عن ذلك. نعم قد يُدرِك ذكاة ما رُمي بالبندقة، فيحل أكله، ومن ثم اختُلف في جوازه، فصّرح مجلي في "الذخائر" بمنعه، وبه أفتي ابن عبد السلام. وجزم النووي بحله؛ لأنه طريق إلى الاصطياد، والتحقيق التفصيل، فإن كان الأغلب من حال الرمي ما ذُكِرَ في الحديث امتنع، وإن كان عكسه جاز، ولا سيما إن كان المرْميّ مما لا يَصِل إليه الرمي إلا بذلك، ثم لا يقتله غالبًا. وقد نُقل عن الحسن في كراهية رمى البندقة في القرى والأمصار، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل مدار النهي على خشية إدخال الضرر على أحد من الناس. قاله في "الفتح"(1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول بالمنع هو الأظهر؛ لظاهر النصّ.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

18 -

(حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي بُرْدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ إِسْحَقَ ابْنِ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيَّ النَّقِيبَ، صَاحِبَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ، وَهُمْ يَتَبَايَعُونَ كِسَرَ الذَّهَبِ بِالَدَّنَانِيرِ، وَكِسَرَ الْفِضَّةِ بِالدَّرَاهمِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ الرِّبَا، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا تَبْتَاعُوا الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، لَا زِيَادَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَا نَظِرَةً"، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ لَا أَرَى الرِّبَا في هَذَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ نَظِرَةٍ، فَقَال

(1) راجع "الفتح" 11/ 31.

ص: 263

عُبَادَةُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ، لَئِنْ أَخْرَجَنِي الله، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ لَكَ عَلَيَّ فِيهَا إِمْرَةٌ، فَلمَّاَ قَفَلَ لحِقَ بِالمدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَبا الْوَليدِ، فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، وَمَا قَالَ مِنْ مُسَاكنَتِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبا الْوَليدِ إِلَى أَرْضِكَ، فَقَبحَ الله أَرْضًا لَسْتَ فِيهَا وَأَمْثَالُكَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: لَا إِمْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ، وَاحْمِلِ النَّاسَ عَلَى مَا قَالَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هشام بن عمّار) الدمشقيّ الخطيب، صدوق، كبر، فصار يتلقّن، من كبار [10] تقدّم في 1/ 5.

2 -

(يحيى بن حمزة) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقة، رُمي بالقدر [8] 1/ 7.

3 -

(بُرْد بن سِنَان) أبو العلاء الدمشقيّ، نزيل البصرة، مولى قريش، صدوقٌ، رُمي بالقدر [5].

رَوَى عن واثلة، وإسحاق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وبُديل بن ميسرة الْعُقيلي، وبكير بن فيروز، وعبادة بن نسي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن علية، والسفيانان، والحمادان، وحفص بن غياث، والأوزاعي، وسعيد بن أبي عروبة، وابنه العلاء بن برد، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وغيرهم.

ذكره النسائي في الطبقة السادسة من أصحاب نافع. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث. وقال ابن معين: ثقة. وقال دحيم، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بحديثه بأس، وكان شاميا. وقال ابن الجنيد عنه نحو ذلك، وقال أيضا: هرب من الشام من أجل قتل الوليد بن يزيد، فلأجل ذلك سمع منه أهل البصرة. وقال يزيد بن زريع: ما رأيت شاميا أوثق من بُرْد. وقال يعقوب بن سفيان: سألت عبد الرحمن بن إبراهيم: أيُّ أصحاب مكحول أعلى؟ فقال وذكر جماعة، ثم قال: ولكن زيد بن واقد، وبرد بن سنان من كبارهم. وقال النسائي مرة: ليس به

ص: 264

بأس. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أيضا: كان صدوقا في الحديث. وقال أبو حاتم: كان صدوقا قدريا. وقال أيضا: ليس بالمتين، وقال مرة: كان صدوقا في الحديث. وقال الدارمي عن علي بن المديني: برد بن سنان ضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو داود: كان يرى القدر. قال عمرو بن علي، وخليفة: مات سنة (135). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، برقم 18 و 1344 و 4207.

4 -

(إسحاق بن قبيصة) بن ذُؤَيب الخُزَاعيّ الشاميّ، صدوقٌ، يرسل [6].

رَوَى عن عمر مرسلا، وعن أبيه قبيصة، وكعب الأحبار. ورَوى عنه برد بن سنان، وعبادة بن نُسَيّ، وأسامة بن زيد الليثي، وغيرهم.

قال أبو زرعة الدمشقي: كان عامل هشام على الأُرْدُنّ. وقال ابن سُمَيع: كان على ديوان الزَّمْنَى في أيام الوليد. وذكره ابن حبان في "الثقات". تفرّد به المصنف بهذا الحديث فقط.

5 -

(أبوه) قبيصة بن ذؤيب -بالمعجمة، مصغّرًا- ابن حَلْحَة -بمهملتين، مفتوحتين، بينهما لام ساكنة- الْخُزاعيّ، أبو سعيد، ويقال: أبو إسحاق المدنيّ، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة، وُلِدَ عام الفتح، وله رؤية [2].

أرسل عن أبي بكر، ورَوَى عن عمر بن الخطاب، ويقال: مرسل. وعن بلال، وعثمان بن عفان، وحذيفة، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه إسحاق، والزهري، ورجاء بن حيوة، وعثمان بن إسحاق بن خرشة، وعبد الله بن موهب، وآخرون.

قال ابن سعد كان على خاتم عبد الملك، وكان آثر الناسِ عنده، وكان البريد إليه، وكان ثقة مأمونًا، كثير الحديث. وقال ابن لهيعة عن ابن شهاب: كان من علماء هذه الأمة. وذكره أبو الزناد في الفقهاء. وقال محمد بن راشد عن مكحول: ما رأيت أحدًا

ص: 265

أعلم منه. وقال مغيرة عن الشعبي: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. وقال الغلابي عن ابن معين: أُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو له بالبركة. وقال الهيثم عن عبد الله بن عياش: ذهبت عينه يوم الحرّة، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: كان من فقهاء أهل المدينة، وصالحيهم. وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": ولِد في أول سنة من الهجرة، وكان له فقه وعلم. وقال ابن قانع: يقال: له رؤية. وقال أبو موسى المديني في "الذيل": أورده العسكري في "الصحابة". وقال جعفر: لا يصح سماعه؛ لأنه وُلد يوم الفتح، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث مراسيل.

وقال خليفة، وغير واحد: مات سنة ست وثمانين. وقال ابن سعد: مات سنة ست أو سبع. وقال ابن معين: مات سنة (7). وقيل: مات سنة (8). وقيل: مات سنة (89) في خلافة عبد الملك بن مروان. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 18 و 1444 و 2084 و 2714.

6 -

(عبادة بن الصامت) بن قيس بن أَصْرم بن فِهر بن قيس بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عَمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجيّ، أبو الوليد، قال خليفة بن خياط: وأمه قُرّة العين بنت عبادة بن نَضْلَة بن العجلان، شهد بدرا. وقال ابن سعد: كان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول الله رضي الله عنه بينه وبين أبي مَرْثَد الْغَنَوِيّ، وشَهِد المشاهد كلها بعد بدر. وقال ابن يونس: شَهِد فتح مصر، وكان أمير ربع المُدَد. وفي "الصحيحين" عن الصنابحي، عن عبادة قال: أنا من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة"

الحديث. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا.

وروى عنه أبناؤه: الوليد، وداود، وعبيد الله، وحفيداه: يحيى، وعبادة ابنا الوليد، واسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة، ولم يدركه، ومن أقرانه أبو أيوب الأنصاري، وأنس ابن مالك، وجابر بن عبد الله، ورفاعة بن رافع، وشُرَحبيل بن حسنة، وخلق كثير.

قال عبد الصمد بن سعيد في "تاريخ حمص"، هو أول من ولي قضاء فلسطين. ومن مناقبه ما ذُكِرَ في "المغازي" لابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن عبادة

ص: 266

ابن الصامت قال: لما حارب بنو قينقاع بسبب ما أمرهم عبد الله بن أُبَيّ، وكانوا حلفاءه، فمشى عبادة بن الصامت، وكان له حِلْف مثل الذي لعبد الله بن أُبيّ، فخلعهم، وتبرأ إلي الله ورسوله من حِلْفهم، فنزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} الآية [المائدة: 51]. وذكر خليفة أن أبا عبيدة ولّاه إِمْرَة حمص، ثم صرفه، ووَلَّي عبد الله بن قُرْط. وروى ابن سعد في ترجمته من طريق محمد بن كعب القرظي، أنه ممن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أورده البخاري في "التاريخ" من وجه آخر عن محمد بن كعب، وزاد: فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر، قد احتاج أهل الشام إلي من يُعَلِّمهم القرآن، ويفقههم، فأرسل معاذا وعبادة وأبا الدرداء، فأقام عبادة بفلسطين. وقال السراج في"تاريخه" حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن جنادة: دخلت على عبادة، وكان قد تفقه في دين الله، هذا سند صحيح. وفي مسند إسحاق بن راهويه، و"الأوسط" للطبراني من طريق عيسى بن سنان، عن يعلى بن شداد، قال: ذكر معاوية الفرار من الطاعون، فذكر قصة له مع عبادة، فقام معاوية عند المنبر، بعد صلاة العصر، فقال: الحديث كما حدثني عبادة، فاقتبِسُوا منه، فهو أفقه مني. ولعبادة قصص متعددة مع معاوية، وإنكاره عليه أشياء، وفي بعضها رجوع معاوية له، وفي بعضها شكواه إلى عثمان منه، تدل على قوته في دين الله، وقيامه في الأمر بالمعروف. ورَوَى ابن سعد في ترجمته أنه كان طِوَالا جميلا جسيما، ومات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وكذا ذكره المدائني، وفيها أرّخه خليفة بن خياط، وآخرون منهم من قال: مات ببيت المقدس. وأورد ابن عساكر في ترجمته أخبارا له مع معاوية، تدل على أنه عاش بعد ولاية معاوية الخلافة، وبذلك جزم الهيثم بن عديّ، وقيل: إنه عاش إلي سنة خمس وأربعين. قاله في "الإصابة"(1).

وفي "تهذيب التهذيب": قال ابن سعد، عن الواقدي، عن يعقوب بن مجاهدة،

(1)"الإصابة" 3/ 505 - 507.

ص: 267

عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه: مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن (72) سنة. قال ابن سعد: وسمعت من يقول: إنه بقي حتى توفي في خلافة معاوية، وكذا قال الهيثم بن عدي. وقال دُحَيم: توفي ببيت المقدس. وقال ابن حبان: هو أول من ولي القضاء بفلسطين. وقال سعيد بن عُفَير: كان طوله عشرة أشبار (1).

أخرج الجماعة، وله (181) حديثًا، اتفق الشيخان على ستة، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بحديثين، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير برد بن سنان، فإنه من رجال الأربعة، وهو ثقة، وغير إسحاق بن قبيصة، فإنه من أفراده، وفيه انقطاع؛ لأن قبيصة لم يلق عبادة رضي الله عنه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَقَ بْنِ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ) قبيصة بن ذؤيب (أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ الْأَنصَارِيَّ النَّقِيبَ) بفتح النون، وكسر القاف: فعيل بمعنى فاعل، يقال: نَقَبَ على القوم، من باب قَتَلَ، نِقَابة بالكسر، فهو نقيب: أي عَرِيف، والجمع نُقَباء. قاله في "المصباح"(صَاحِبَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أُميّة الأمويّ، أبي عبد الرحمن الخليفة، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات رضي الله عنه سنة ستّين، وقد قارب الثمانين (أَرْضَ الرُّومِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ، وَهُمْ يَتبَايَعُونَ كِسَرَ الذَّهَبِ بِالدَّنَانِيرِ)"الكسَر" -بكسر الكاف، وفتح السين المهملة-: جمع كِسْرة -بكسر،

(1)"تهذيب التهذيب" 2/ 285 - 268.

ص: 268

فسكون- كقِطع وقطعة وزنًا ومعنىً، والمراد أنهم يتبايعونها عددًا (وَكِسَرَ الْفِضَّةِ بِالدَّرَاهِمِ، فَقَالَ) أي عبادة رضي الله عنه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ الرِّبَا) أي لأنهم يتباعون الجنس بالجنس دون معرفة الوزن (سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَبْتَاعُوا) أي لا تشتروا، أو لا تبيعوا، لأن هذه المادّة تستعمل لهما، قالَ في "القاموس": باعه يبيعه بيعًا ومَبِيعًا: إذا باعه، وإذا اشتراه، ضدّ. انتهى. وقال في "المصباح": ابتاع زيد الدار: بمعنى اشتراها، وابتاعها لغيره: اشتراها له، وباع عليه القاضي: أي من غير رضاه. انتهى. (الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) أي إلا متماثلين وزنًا (لَا زِيادَةَ بَيْنَهُمَا) أي لا تفضيل لأحدهما على الآخر (وَلَا نَظِرَةً) بفتح، فكسر: أي لا انتظار، ولا تأخير من أحد الطرفين (فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان (يَا أَبَا الْوَليدِ) كنية عبادة رضي الله عنه (لَا أَرَى الرِّبَا في هَذَا) أي لا أعتقد وجود الربا في هذا الذي يتعامل فيه الناس من بيع كسر الذهب بالدنانير، وكسر الفضّة بالدراهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى ما ذكره عبادة رضي الله عنه في قوله:"لا تبتاعوا الذهب بالذهب الخ (إِلَّا مَا كَانَ مِنْ نَظِرَةٍ) أي نسيئة، يعني أنه لا يرى الربا إلا في النسيئة، ولعل معاوية رضي الله عنه سمع حديث: "لا ربا إلا في النسيئة"، كما كان ابن عباس يرى ذلك، فقد أخرج الشيخان (1) من طريق عمرو بن دينار عن أبي صالح الزيات، أنه أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم"، قال: فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد سألته، فقلت: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولكن أخبرني أسامة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا إلا في النسيئة".

(فَقَالَ عُبَادَةُ) رضي الله عنه منكرًا على معاوية رضي الله عنه لمّا خالف رأيه الحديث (أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ، لَئِنْ أَخْرَجَني الله) أي من أرض العدوّ، وهي الروم

(1) وسيأتي للمصنّف في "كتاب التجارات" برقم (2248).

ص: 269

(لَا أُسَاكِنُكَ) أي لا أسكن معك (بِأَرْضٍ لَكَ عَلَيَّ فِيها إِمْرَةٌ) بكسر الهمزة، وسكون الميم: أي ولاية (فَلَمَّا قَفَلَ) بقاف، ففاء، آخره لام، يقال: قَفَلَ من سفره قُفولًا، من باب قعد: إذا رجع. بقاف، ففاء مفتوحتين: أي رجع من تلك الغزوة (لَحِقَ بِالمدِينةِ) بكسر الحاء المهملة، يقال: لحق به، كسمِعَ، ولَحِقه لحقًا بفتح، فسكون، ولَحَاقًا بفتحتين: إذا أدركه، أفاده في "القاموس"، والمراد هنا أنه ذهب إلى المدينة تاركًا الشام (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ ابْنُ الخطَّابِ) رضي الله تعالى عنه مستفسرًا سبب قدومه (مَا) اسم استفهام (أَقدَمَكَ يَا أَبا الوليدِ) أي أيّ شيء حملك على القدوم إلى المدينة بعد أن سكنت الشام، وأهلها محتاجون إلى علمك (فَقَصَّ عَلَيْهِ القِصَّةَ) أي التي جرت بينه وبين معاوية رضي الله تعالى عنهما في شأن بيع الذهب بالذهب، والفضّة بالفضّة نسيئة (وَمَا قَالَ مِنْ مُسَاكَنَتِهِ) أي وما قال عبادة لمعاوية أنه لا يساكنه بأرض له فيها عليه إمرة (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (ارْجِعْ يَا أَبا الْوَليدِ إِلَى أَرْضِكَ) يريد الشام؛ لأنها كانت مسكنه، حيث أرسله عمر رضي الله عنه إلى فلسطين يعلّم أهلها القرآن، كما سبق في ترجمته رضي الله عنه (فقَبَحَ الله أَرْضًا) أي أبعدها عن الخير، يقال: قبحه الله بتخفيف الباء الموحّدة، يقبحه، من باب منع: نحّاه عن الخير، فهو مقبوحٌ، وفي التنزيل العزيز:{هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] أي المبعَدين عن الفوز، ويجوز: قبّحه بالتثقيل مبالغة. أفاده الفيّوميّ (لَسْتَ فيِهَا وَأَمْثَالُكَ) بالرفع عطفًا على اسم "ليس"، وفيه العطف على الضمير المرفوع المتّصل بدون تأكيد بالضمير المنفصل، وهو جائزٌ؛ لوقوع الفصل بينهما بالجارّ والمجرور قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعِ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

في النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

والنصب على المعيّة بعيد معنًى. قاله السنديّ.

والمعنى: الذين يشابهونك في العلم، والعمل، والدعوة إلى السنّة، ومجانبة من يخالفها (وَكتَبَ) أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إِلَى معَاوِيَةَ) رضي الله عنه (لَا إِمْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ) أي لا يكون لك ولاية على عبادة رضي الله عنه (وَاحْمِلِ) بكسر الميم: أمر من الحمل (النَّاسَ عَلَى مَا قَال)

ص: 270

أي ألزم الناس بما قاله عبادة رضي الله عنه (فَإِنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ) الفاء للتعليل: أي لأن ما قاله هو الأمر الحقّ الموافق للشرع، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه هذا صحيحٌ.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه انقطاع، حيث إن قبيصة بن ذؤيب لم يلقَ عبادة رضي الله عنه، كما نصّ عليه الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 4/ 256؟.

[قلت]: إنما صححناه؛ لأنه يشهد له ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من طريق أيوب السختياني، عن ابن قلابة، قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم، غزونا غَزَاةً، وعلى الناس معاوية، فغَنِمْنَا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت، فقام، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد، فقد أربى"، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية، فقام خطيبا، فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث، قد كنا نشهده، ونصحبه، فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصة، ثم قال: لَنُحَدِّثَنَّ بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية، أو قال: وإن رَغِمَ، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء (1).

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل -يعني ابن أبي خالد-

(1) راجع "صحيح مسلم" بشرح النوويّ 11/ 12 - 14.

ص: 271

حدثنا حكيم بن جابر، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلا بمثل، حتى خص الملح"، فقال معاوية: إن هذا لا يقول شيئا لعبادة، فقال عبادة: لا أبالي أن لا أكون بأرض يكون فيها معاوية، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد صحيح، إلا أن البخاريّ أعلّه بالانقطاع -كما نقله في "تهذيب التهذيب" 1/ 472 - حيث قال حكيم: أُخبرت عن عبادة في الصرف. انتهى. لكنه يصلح للشواهد.

والحاصل أن الحديث صحيح، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا (2/ 18) بهذا الإسناد فقط، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه.

2 -

(ومنها): بيان تحريم بيع الذهب بالذهب، أو الفضّة بالفضّة، إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه من "كتاب التجارات"، إن شاء الله تعالى.

3 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من شدّة تعظيم حديثه صلى الله عليه وسلم، فقد غضب عبادة رضي الله عنه لمّا خالف معاوية رضي الله عنه ما حدّثه به، مع أنه لم يخالفه إلا بالتأويل.

4 -

(ومنها): مقاطعة من خالف الحديث لرأي رآه، أو لتقليد إمام من الأئمة، وإن كان له عذر بالتأويل.

5 -

(ومنها): أن فيه منقبةً عظيمة لعبادة رضي الله عنه حيث وفى بما التزم به من مبايعة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يخاف في الله لومة لائم، فقد أخرج الشيخان، وغيرهما عنه رضي الله عنه، أنه قال: بايعنا

ص: 272

رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في النشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم، أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

19 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الخلَّادِ الْبَاهِليُّ، حَدَّثَنَا يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، أَنْبَأَنَا عَوْنُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِذَا حَدَّثْتكُمْ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَظنوا بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الذِي هُوَ أَهْنَاهُ، وَأَهْدَاهُ، وَأَتْقَاهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ الخلَّادِ الْبَاهِليُّ) محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقة [10].

رَوَى عن الدراورديّ، وعبد الوهاب الثقفي، والوليد بن مسلم، وابن عيينة، والقطان، وابن مهدي، وبهز بن أسد، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، ورَوَى النسائي عن زكريا السجزي عنه، وأبو حاتم الرازي، وعبد الله بن أحمد، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وإبراهيم الحربي، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: أبو بكر بن خلاد عرفته معرفة قديمة، لقيناه أيام المعتمر بالبصرة وببغداد، وكان ملازما ليحيى بن سعيد. وقال أبو بكر الأعين: سمعت مسددا يقول: أبو بكر بن خلاد ثقة، ولكنه صَلِف (1)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال معاوية بن عبد الكريم الزيادي: أدركت البصرة، والناس يقولون: ما بها أعقل من أبي الوليد، وبعده أبو بكر بن خلاد، وبعده عباس العنبري. وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة. قال ابن أبي عاصم: مات سنة أربعين ومائتين. وقيل: مات سنة (39). وقيل:

(1) ذكر في "القاموس" من معنى الصَّلف التكلّم بما يكرهه صاحبك، والتمدّح بما ليس عندك، أو مجاوزة قدر الظرف، والادعاء فوق ذلك تكبّرًا، ولا أدري أيّ المعاني أراد به هنا. والله تعالى أعلم.

ص: 273

سنة تسع وأربعين. وقيل: سنة (57).

روى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.

2 -

(يَحْيىَ بْنُ سَعِيدٍ) بن فرّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة- التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ الأحول، ثقة متقن حافظٌ إمام، قدوة، من كبار [9].

رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبيد الله بن عمر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعكرمة بن عمار، ويزيد بن أبي عبيد، وأبان بن صمعة، وبهز بن حكيم، وخلق كثير.

ورَوَى عنه ابنه محمد بن يحيى بن سعيد، وحفيده أحمد بن محمد، وأحمد، وإسحاق، وعلي ابن المديني، ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، ومسدد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة، وبشر بن الحكم، وصدقة بن الفضل، وأبو قدامة السرخسي، وخلق كثير.

قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: اختلفت إلى شعبة عشرين سنة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: اختلفوا يوما مع شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حَكَمًا، فقال: قد رضيت بالأحول -يعني يحيى بن سعيد القطان-، وقال عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد: ما اجمعت أنا وخالد بن الحارث، ومعاذ بن معاذ، إلا قَدَّماني. وقال القواريري عن ابن مهدي: ما رأيت أحسن أخذا للحديث، ولا أحسن طلبا له من يحيى القطان، وسفيان بن حبيب، وقال الأثرم: سمعته يقول: رحم الله تعالى يحيى القطان ما كان أضبطه، وأشد تفقّده، كان محدّثًا، وأثنى عليه، فأحسن الثناء، وقال ابن خزيمة عن بندار: ثنا يحيى بن سعيد، إمام أهل زمانه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب بن الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند، فيقف بين يديه علي ابن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والشاذكوني، وعمرو بن علي، يسألونه عن الحديث، وهم قيام، هيبةً له، وقال أبو داود عن يحيى بن معين: أقام يحيى القطان

ص: 274

عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا رفيعًا حجة. وقال النسائي: ثقة ثبت مرضي. وقال العجلي: بصري ثقة في الحديث، كان لا يحدث إلا عن ثقة. وقال أبو زرعة: كان من الثقات الحفاظ. وقال أبو حاتم: حجة حافظ. وقال أيضًا: كان من سادات أهل زمانه حفظا وورعا وفهما فضلا ودينا وعلما، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات، وترك الضعفاء، وزاد ابن حبان: ومنه تعلم أحمد ويحيى وعلي وسائر أئمتنا، وقال الخليلي: هو إمام بلا مدافعة، وهو أجل أصحاب مالك بالبصرة، وكان الثوري يتعجب من حفظه، واحتج به الأئمة كلهم، وقالوا من تركه يحيى تركناه.

قال عمرو بن علي: سمعت بن سعيد يقول: وُلدت سنة عشرين ومائة في أولها، ومات في سنة ثمان وتسعين ومائة، وفيها أرخه غير واحد، زاد علي بن المديني: في صفر. وقال الدُّوري عن ابن معين، عن عفان بن مسلم: رأى رجل ليحيى بن سعيد قبل موته بعشرين سنة: بَشِّرْ يحيى بن سعيد بأمان من الله تعالى يوم القيامة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (79).

3 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت [7] تقدّم في 1/ 6.

4 -

(ابن عجلان) هو محمد بن عجلان القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة ابن ربيعة، أبو عبد الله المدنيّ، أحد العلماء العاملين، صدوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديت أبي هريرة رضي الله عنه[5].

رَوَى عن أبيه، وأنس بن مالك، وسلمان أبي حازم الأشجعي، وسمي مولى أبي بكر ابن عبد الرحمن، وعامر بن عبد الله بن الزبير، والأعرج، وأبي الزناد، وعكرمة، وغيرهم.

ورَوَى عنه صالح بن كيسان، وهو أكبر منه، وعبد الوهاب بن بُخْت، ومات قبله، وإبراهيم بن أبي عبلة، وهو من أقرانه، ومالك، ومنصور، وشعبة، وزياد بن سعد، والسفيانان، والليث، وسليمان بن بلال، ويحيى القطان، وخلق كثير.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سمعت ابن

ص: 275

عيينة يقول: حدثنا محمد بن عجلان، وكان ثقة. وقال أيضا: سألت أبي عن محمد بن عجلان، وموسى بن عقبة؟ فقال: جميعا ثقة، وما أقربهما. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقدمه على داود بن قيس الفراء. وقال الدُّوري عن ابن معين: ثقة، أوثق من محمد بن عمرو، وما يشك في هذا أحد. كان داود بن قيس: يجلس إلى ابن عجلان يتحفظ عنه، وكان يقول: إنها اختلطت على ابن عجلان -يعني أحاديث سعيد المقبري-. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق وسط. وقال أبو زرعة: ابن عجلان من الثقات. وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان عابدا ناسكا فقيها، وكانت له حلقة في المسجد، وكان يفتي. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال الساجي: هو من أهل الصدق، لم يحدث عنه مالك إلا يسيرا. وقال ابن عيينة: كان ثقة عالمًا. وقال يحيى القطان عن ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبي هريرة، وعن أبيه عن أبي هريرة، وعن رجل عن أبي هريرة، فاختلطت عليه، فجعلها كلها عن أبي هريرة. ولمّا ذكر ابن حبان في كتاب "الثقات" هذه القصة قال: ليس هذا بِوَهْنٍ يُوَهَّنُ الإنسانُ به؛ لأن الصحيفة كلها في نفسها صحيحة، وربما قال ابن عجلان: عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، فهذا مما حُمل عنه قديما قبل اختلاط صحيفته، فلا يجب الاحتجاج إلا بما يروي عنه الثقات. وقال العقيلي: يضطرب في حديث نافع. وقال الواقدي: سمعت عبد الله بن محمد بن عجلان يقول: حُمِل بأبي أكثر من ثلاث سنين، قال: وقد رأيته، وسمعت منه، ومات سنة ثمان أو تسع وأربعين ومائة، وكان ثقة، كثير الحديث.

علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم في المتابعات، ولم يحتج به، وأخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا.

4 -

(عون بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الْهُذَليّ، أبو عبد الله الكوفيّ الزاهد، ثقة عابد [4].

رَوَى عن أبيه وعم أبيه عبد الله بن مسعود مرسلًا، وأخيه عبيد الله، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، ويوسف بن عبد الله بن سلام، والشعبي، وسعيد بن علاقة،

ص: 276

وأبي بردة بن أبي موسى، وأم الدرداء، وجماعة، ويقال: إن روايته عن الصحابة مرسلة. ورَوَى عنه أخوه حمزة، والمسعودي، وأبو العميس، ومحمد بن عجلان، والزهري، وغيرهم.

قال أحمد، ويحيى بن معين، والعجلي، والنسائي: ثقة. وقال ابن المديني: قال عون: صليت خلف أبي هريرة. وذكر الدارقطني أن روايته عن ابن مسعود مرسلة. وقال ابن سعد: لمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، رحل إليه عون بن عبد الله، وعُمر ابن ذَرّ، وأبو الصباح موسى بن أبي كثير، فناظروه في الإرجاء، فزعموا أنه وافقهم، وكان عون ثقة كثير الإرسال. وقال الأصمعي عن أبي نَوْف الهذلي، عن أبيه: كان من آدب أهل المدينة، وأوفقهم، وكان مرجئا، ثم رجع عن ذلك، وقال أبياتا في ذلك منها [من الوافر]:

لأَوَّلُ مَا نُفَارِقُ غَيْرَ شَكٍّ

نُفَارِقُ مَا يَقُولُ المُرْجِئُونَا

ثم خرج مع ابن الأشعث، ثم هرب، وصحب عمر بن عبد العزيز في خلافته، وفيهم يقول جرير [من البسيط]:

يَا أَيُّهَا الْقَارِئُ المُرْخِي عِمامَتَهُ

هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي

وقال العجلي: كان يَرَى الإرجاء، ثم تركه. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان من عباد أهل الكوفة، وقرائهم، يروي عن أبي هريرة، إن كان سمع منه، وقد أدرك أبا جحيفة. قال البخاري: سمع أبا هريرة، وابن عمرو. وقال ابن عيينة عن أبي هارون، موسى بن أبي عيسى: كان عون يحدثنا، ولحيته ترتش بالدموع. ذكره البخاري فيمن مات بين عشر ومائة إلى عشرين ومائة. أخرج الجماعة، إلا البخاريّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 19 و880 و 896 و 3799 و 4187.

5 -

(عبد الله بن مسعود) بن غافل -بمعجمة، وفاء- ابن حبيب بن شَمْخ بن فار ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار الْهُذَلي، أبو عبد الرحمن، حَلِيف بني زهرة، وكان أبوه حالف عبد الحارث بن زهرة. أمه أم عبد الله بنت عبد وَدّ بن سواءة، أسلمت، وصحبت. أحد

ص: 277

السابقين الأولين، أسلم قديمًا، وهاجر، الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير، وعن عمر، وسعد بن معاذ، وروى عنه ابناه: عبد الرحمن، وأبو عبيدة وابن أخيه عبد الله بن عتبة، وامرأته زينب الثقفية، ومن الصحابة: العبادلة، وأبو موسى، وأبو رافع، وأبو شُرَيح، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وأبو جُحَيفة، وأبو أمامة، وأبو الطفيل، ومن التابعين: علقمة، والأسود، ومسروق، والربيع بن خثيم، وشريح القاضي، وأبو وائل، وزيد ابن وهب، وزِرّ بن حُبيش، وأبو عمرو الشيباني، وعَبِيدة بن عمرو السلماني، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عثمان النَّهدي، والحارث بن سُويد، ورِبْعي بن حِرَاش، وآخرون.

وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزبير، وبعد الهجرة بينه وبين سعد بن معاذ، وقال له في أول الإسلام:"إنك لغلام مُعَلَّم". وأخرج البغوي من طريق القاسم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: قال عبد الله: لقد رأيتني سادس ستة، وما على الأرض مسلم غيرنا. وبسند صحيح عن ابن عباس قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أنس وابن مسعود. وقال أبو نعيم: كان سادس من أسلم، وكان يقول: أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة. أخرجه البخاري. وهو أول من جهز بالقرآن بمكة. ذكره ابن إسحاق عن يحيى بن عروة، عن أبيه (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من سره أن يقرأ القرآن غَضّا، كما نزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عبد"(2). وكان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل نعليه. وقال علقمة: قال لي أبو الدرداء: أليس فيكم صاحب النعلين والسواك والوساد -يعني عبد الله-. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذْنُكَ عَلَيَّ أن ترفع الحجاب، وتسمع سوادي حتى أنهاك". أخرجهما أصحاب الصحيح، وعن عبد الله بن مسعود قال:

(1) أخرجه ابن هشام في "السيرة" 1/ 314 مطولًا، ورجاله ثقات.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 7 - 36 والبيهقيّ في "الكبري" 1/ 452.

ص: 278

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمسكوا بعهد ابن أم عبد". أخرجه الترمذي في أثناء حديث (1). وأخرج الترمذي أيضا من طريق الأسود بن يزيد، عن أبي موسى قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم. وعند البخاري في "التاريخ" بسند صحيح عن حُريث بن ظُهير: جاء نعي عبد الله بن مسعود إلى أبي الدرداء، فقال: ما ترك بعده مثله. وقال البخاري: مات قبل قتل عثمان. وقال أبو نعيم وغيره: مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. وقيل: مات سنة ثلاث. وقيل: مات بالكوفة، والأول أثبت.

أخرج له الجماعة، وروى (848) حديثًا، اتفق الشيخان على (64)، وانفرد البخاريّ بـ (21)، ومسلم بـ (35) حديثًا، وله في هذا الكتاب (131) حديثًا، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح (2)، إلا أن فيه انقطاعًا؛ لأن عون ابن عبد الله لم يُدرك ابن مسعود رضي الله عنه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وابن عجلان مدنيّ، والباقيان كوفيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه روية تابعي عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعودٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُم) ووقع في "تحفة الأشراف" 7/ 132: "إذا حُدِّثتم" بالبناء للمفعول (عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَظُنُّوا) أي اعتقدوا

(1) أخرجه أحمد 5/ 385 والترمذيّ رقم 3810 والحاكم 3/ 75 وصححه، ووافقه الذهبيّ.

(2)

وابن عجلان علّق له البخاريّ، وأخرج له مسلم متابعة.

ص: 279

(بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُوَ (1) أَهْنَاهُ) أي الذي هو أوفق به من غيره، و"أهنأ" في الأصل بالهمزة اسم تفضيل من هنُأ الطعام بالهمزة: إذا ساغ، أو جاء بلا تَعَب، ولم يَعقُبه بلاءٌ، لكن قُلبت همزته ألفًا للازدواج والمشاكلة (وَأَهْدَاهُ) أي أليق بكمال هداه (وَأَتْقَاهُ) أي أنسب بكمال تقواه، وهو أن قوله صوابٌ، ونُصْحٌ، واجب العمل به؛ لكونه جاء به من عند الله تعالى، وبلّغه الناسَ بلا زيادة ولا نقصان.

و"أتقى" اسم تفضيل من الاتقاء على الشذوذ؛ لأن القياس بناء اسم التفضيل من الثلاثيّ المجرد، وهو مبنيّ على توهّم أن التاء حرف أصليّ. قاله السنديّ (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "من الاتّقاء على الشذوذ الخ" محلّ نظر؛ لأنه يقال: تَقَاه يَتْقِيه، كقَضَاه يَقْضِيه ثلاثيّا، قال في "القاموس": واتّقيتُ الشيءَ، وتَقَيْتُهُ أَتَّقِيهِ، وأَتْقِيهِ تُقًى وَتَقِيّةً، وتِقَاءً ككساءٍ: حذِرْتُهُ، والاسم التّقْوَى. انتهى.

فعلى هذا يكون أتقى اسم تفضيل قياسيّا، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.

وقال في "إنجاح الحاجة": قوله: "فظنّوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الخ": أي فاقبلوه، واعزموا عليه، فإن الوجوه الممكنة في فعل من أفعاله، أو قول من أقواله متعدّدةٌ، أحسنها ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، واستقرّ أمر الصحابة عليه. وتوضيح المقام أن الشارع ربّما يتكلّم بكلام يحتمل المعاني والوجوه، إما لعمومه، أو لاشتراكه، أو إجماله، أو مجازه (3)، فالذي في قلبه زيغٌ يتّبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله. مثلًا ورد {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]: أي كيف شئتم، فأحلّ الغبيّ الإتيان في الأدبار، وما تأمّل النهي الوارد عنه.

(1) سقط من "تحفة الأشراف" قوله: "الذي هو"، ولفظه:"فظنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم أهناه وأهداه وأتقاه".

(2)

راجع "شرح السنديّ" 1/ 20 - 21.

(3)

هكذا في النسخة، ولعل الأولى "ومجازيّته".

ص: 280

وكذلك حمل حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر في المدينة بلا خوف، ولا مطر"، مع احتمال الجمع الصوريّ على الجمع الحقيقي؛ مخالفة لإجماع الأمة، والنصّ الناطق:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وهكذا كلّ من خالف الإجماع من أهل الأهواء بظاهر النصوص من الْفِرَق الضّالّة، فهذا الحديث منطبقٌ عليه؛ لأنه أَوَّلَ النصّ على مراده، واللازم أن يُحمَل على الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو مناسبٌ لورعه وتقواه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمل حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا على الجمع الصوريّ غير صحيح، ودعوى الإجماع على هذا باطلة؛ لأن حمله على الجمع الحقيقيّ مذهب بعض السلف، ومنهم ابن عبّاس الراوي له، فالحقّ جوازه لمن لا يتّخذه عادة، وقد حقّقت القول في ذلك فيما كتبته على النسائيّ، فراجعه تستفد. والله تعالى وليّ التوفيق.

قال: أو "فظُنُّوا" برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يَليق بشأنه من الهدى والتقى، فإنه لا يأمرنا إلا بالخير، وإن كان بعض الأمور مخالفًا للطبع والعادة؛ فإن النفس مجبولة على الشرّ، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 216]. انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلقّ بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا ضعيف؛ للانقطاع بين عون ابن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنه، كما سبق بيانه، وهو صحيحٌ من حديث عليّ رضي الله عنه الآتي بعده، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (2/ 19) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسند

(1)"إنجاح الحاجة" للشيخ عبد الغنيّ المجدّديّ الدهلويّ المدنيّ المتوفّى سنة (1295 هـ).

ص: 281

المكثرين" (3463 و 3744) و (الدارميّ) في "المقدّمة" (591) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان وجوب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): أن الواجب على المسلم إذا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُجلّه، ويعتقد فيه الخير كلّ الخير، ويرى الشرّ كلَّ الشرّ في مخالفته.

3 -

(ومنها): أن الواجب عليه أن يعتقد في النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يليق بعظيم رتبته، وجسيم مكانته، من الهدى، والبرّ، والتقوى، ولا يراه كأحد من الناس.

4 -

(ومنها): أنه لا ينبغي أن يحمِل حديثه صلى الله عليه وسلم إلا على المحامل الحسنة الموافقة لما جاء به من الهداية والإرشاد، فلا يسيء ظنه به، وإن كان ظاهره لا يوافق هواه؛ لأن الخير كلّ الخير فيما جاء به، لا فيما تهواه نفسه؛ لأنها أمّارة بالسوء، ففي التنزيل العزيز:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، والحديث وإن كان فيه كلام، إلا أن الحديث المتّفق عليه، يؤيّده، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده، والناس أجمعين". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

20 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: "إِذَا حَدَّثْتُكُمْ (1) عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْنَاهُ، وَأَهْدَاهُ، وَأَتْقَاهُ").

(1) هكذا نسخ "ابن ماجه"، ووقع في "تحفة الأشراف" 7/ 402 رقم (10177):"إذا حُدِّثتم".

ص: 282

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محمد بن بشّار) العبديّ، أبو بكر البصريّ، المعروف ببندار، ثقة حافظ [10] 1/ 6.

2 -

(يحيى بن سعيد) القطّان الإمام الحجة المذكور في السند الماضي.

3 -

(شعبة) بن الحجّاج البصريّ الإمام الثقة الثبت الحجة [7] 1/ 6.

4 -

(عمرو بن مُرّة) بن عبد الله بن طارق بن الحارث بن سلمة بن كعب بن وائل ابن جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد الْجَمَليّ -بفتح الجيم والميم- المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقة عابد، كان لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء [5].

رَوَى عن عبد الله بن أبي أوفى، وأبي وائل، ومرة الطيب، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وعبد الله بن الحارث النجراني، وعمرو بن ميمون الأودي، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الله، وأبو إسحاق السبيعي، وهو أكبر منه، والأعمش، ومنصور، وزيد بن أبي أنيسة، ومسعر، والعلاء بن المسيب، وإدريس بن يزيد الأودي، والأوزاعي، والمسعودي، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم،

قال البخاري عن علي: له نحو مائتي حديث. وقال سعيد الأُرَاطيّ (1): زَكّاه أحمد ابن حنبل. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، كان يرى الإرجاء. وقال حفص بن غياث: ما سمعت الأعمش يُثني على أحد إلا على عمرو بن مرة، فإنه كان يقول: كان مأمونا على ما عنده. وقال بقية عن شعبة: كان أكثرهم علمًا. وقال معاذ بن معاذ عن شعبة: ما رأيت أحدًا من أصحاب الحديث إلا يدلس إلا ابن عون، وعمرو ابن مرة. وقال قُرَاد عن شعبة: ما رأيت عمرو بن مرة في صلاة قط، إلا ظننت أنه لا ينفتل حتى يستجاب له. وقال عبد الملك بن ميسرة في جنازته: إني لأحسبه خير أهل

(1) قال في "القاموس": وذو أُراط كغُراب: موضعان. انتهى.

ص: 283

الأرض. وقال مسعر: لم يكن بالكوفة أحب إلي، ولا أفضل منه. وقال ابن عيينة عن مسعر: كان عمرو من معادن الصدق. وقال عبد الرحمن بن مهدي: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم، فهو يخطىء، منهم: عمرو بن مرة. وقال جرير عن مغيرة: لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو في الإرجاء، فتهافت الناس فيه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُكنى أبا عبد الرحمن، وكان مرجئًا. ووثقه ابن نمير، ويعقوب بن سفيان. وقال أبو نعيم، وأحمد بن حنبل: مات سنة (116)، وقيل: مات سنة (118). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا.

5 -

(أبو الْبَخْتَريّ) -بفتح الموحّدة، والمثنّاة، بينهما خاء معجمة ساكنة- سعيد بن فيروز ابن أبي عمران الطائيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، فيه تشيّعٌ قليل، كثير الإرسال [3].

رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي كبشة، وأبي برزة، ويعلى بن مرة، وأبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه عمرو بن مرة، وعبد الأعلى بن عامر، وعطاء بن السائب، وسلمة بن كهيل، ويونس بن خَبّاب، وخبيب بن أبي ثابت، ويزيد بن أبي زياد، وغيرهم.

قال عبد الله بن شعيب عن ابن معين: أبو البختري الطائي اسمه: سعيد، وهو ثبت، ولم يسمع من علي شيئًا. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وكذا قال أبو زرعة. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال أبو داود: لم يسمع من أبي سعيد. وقال فطر ابن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت: اجتمعت أنا وسعيد بن جبير، وأبو البختري، فكان الطائي أعلمنا وأفقهنا. وقال هلال بن خباب: كان من أفاضل أهل الكوفة. قال أبو نعيم مات في الجماجم سنة (83). وقال ابن سعد: قُتل بدُجَيل مع ابن الأشعث سنة (83)، وكان كثير الحديث يُرسل حديثه، ويَروي عن الصحابة، ولم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سماعًا، فهو حسن، وما كان غيره فهو ضعيف. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن أبيه: لم يدرك أبا ذر، ولا أبا سعيد، ولا زيد بن ثابت، ولا رافع

ص: 284

ابن خديج، وهو عن عائشة مرسل. وقال أبو زرعة: هو عن عمر مرسل. وذكره ابن حبان في "الثقات"، فقال: سعيد بن فيروز، ويقال: سعيد بن عمران، وقيل: غير ذلك. وقال العجلي: تابعي ثقة، فيه تشيع. ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقال أبو أحمد الحاكم في "الكنى": ليس بالقوي عندهم، كذا قال، وهو سهو. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، برقم 20 و 1822 و2301 و2875 و 3998.

6 -

(أبو عبد الرحمن السُّلَميّ)(1) عبد الله بن حبيب بن رُبَيعة -بضم الراء، وفتح الموحّدة، وتشديد الياء المكسورة، مصغّرًا- الكوفيّ المقرىء، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقة ثبتٌ [2].

رَوَى عن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وخالد بن الوليد، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله عنهم. ورَوَى عنه إبراهيم النخعي، وعلقمة بن مرثد، وسعد بن عبيدة، وأبو إسحاق السبيعي، وسعيد ابن جبير، وأبو الحصين الأسدي، وعطاء بن السائب، وعبد الأعلى بن عامر، وعبد الملك بن أعين، ومسلم البطين، وأبو البختري الطائي، وعاصم بن بهدلة، وغيرهم.

قال أبو إسحاق السبيعي: أقرأ القرآن في المسجد أربعين سنة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. وقال أبو داود: كان أعمى. وقال النسائي: ثقة. وقال حجاج بن محمد عن شعبة: لم يسمع من ابن مسعود، ولا من عثمان، ولكن سمع من علي. وقال ابن سعد: توفي زمن بشر بن مروان. وقيل: مات سنة (72). وقيل: سبعين. وقال ابن قانع: مات سنة خمس وثمانين، وهو ابن (90) سنة. وقال عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن: صمت لله ثمانين رمضان. وذكره البخاري في "الأوسط" في فصل من مات بين السبعين إلى الثمانين، وقال: روى عن أبيه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ليس تثبت

(1)"السُّلَمِيّ" بضم السين المهملة، وفتح اللام-: نسبة إلى سُلَيم قبيلة مشهورة. قاله في "لبّ اللباب" 2/ 23.

ص: 285

روايته عن علي، فقيل له: سمع من عثمان؟ قال: روى عنه، ولم يذكر سماعًا. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: لم يسمع من عمر، وقال البخاري في "تاريخه الكبير": سمع عليا، وعثمان، وابن مسعود. وقال بن سعد: قال محمد بن عمر: كان ثقة، كثير الحديث. وقال غيره عن الواقدي: شهد مع علي صِفِّين، ثم صار عثمانيا، ومات في سلطان الوليد بن عبد الملك، وكان من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن عبد البر: هو عند جميعهم ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث، برقم 20 و75 و 207و208 و 800 و2080و3429 و 3653.

7 -

(عليّ بن أبي طالب) واسم أبيه عبد مناف -على المشهور- ابن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو الحسن، أول الناس إسلاما، في قول كثير من أهل العلم، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أول هاشميّة وَلَدت هاشميًّا، أسلمت، وهاجرت إلى المدينة، وتُوفّيت في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصلّى عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونزل قبرها رضي الله عنها.

وُلد عليّ رضي الله عنه قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فرُبِّي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة:"ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، وزوجه بنته فاطمة، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولمّا آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له:"أنت أخي"، ومناقبه كثيرة، حتى قال الإمام أحمد: لم يُنقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي. وقال غيره: وكان سبب ذلك بغض بني أمية له، فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته، وكلما أرادوا إخماده، وهدّدوا من حدث بمناقبه لا يزداد إلا انتشارًا. وقد وَلَّدَ له الرافضة مناقب موضوعة، هو غنى عنها، وتتبع النسائي ما خُصّ به من دون الصحابة، فجمع من ذلك شيئا كثيرًا، بأسانيد أكثرها جياد. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وروى عنه من الصحابة ولداه: الحسن والحسين، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عباس، وأبو رافع، وابن عمر، وأبو سعيد، وصهيب، وزيد بن أرقم، وجرير، وأبو أمامة، وأبو

ص: 286

جحيفة، والبراء بن عازب، وأبو الطفيل، وآخرون.

ومن التابعين من المخضرمين أو من له رؤية: عبد الله بن شداد بن الهاد، وطارق ابن شهاب، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، ومسعود بن الحكم، ومروان بن الحكم، وآخرون.

وكان قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والإقدام، وكان أحد الشورى الذين نَصَّ عليهم عمر، فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف، وشرط عليه شروطا، امتنع من بعضها، فعدل عنه إلى عثمان، فقبلها فولاه، وسَلَّمَ علي، وبايع عثمان، ولم يزل بعد النبي صلى الله عليه وسلم متصديًا لنشر العلم والفتيا، فلما قُتل عثمان بايعه الناس، ثم كان من قيام جماعة من الصحابة منهم: طلحة، والزبير، وعائشة، في طلب دم عثمان، فكان من وقعة الجمل ما اشتهر، ثم قام معاوية في أهل الشام، وكان أميرها لعثمان، ولعمر من قبله، فدعا إلى الطلب بدم عثمان، فكان من وقعة صِفِّين ما كان، وكان رأى عليّ أنهم يدخلون في الطاعة، ثم يقوم ولي دم عثمان، فيدعى به عنده، ثم يعمل معه ما يوجبه حكم الشريعة المطهرة، وكان من خالفه يقول له: تتبعهم، واقتلهم، فيرى أن القصاص بغير دعوى، ولا إقامة بينة لا يتجه، وكُلٌّ من الفريقين مجتهد. وكان من الصحابة فريق لم يدخلوا في شيء من القتال، وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي، واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم، ولله الحمد.

وكان قتل علي في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، ومدة خلافته خمس سنين، إلا ثلاثة أشهر ونصف شهر؛ لأنه بويع بعد قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت وقعة الجمل في جمادى سنة ست وثلاثين، ووقعة صفين في سنة سبع وثلاثين، ووقعة النهروان مع الخوارج في سنة ثمان وثلاثين، ثم أقام سنتين يُحَرِّض على قتال البغاة، فلم يتهيأ ذلك إلى أن مات رضي الله عنه (1). أخرج له الجماعة،

(1) راجع "الإصابة" 4/ 464 - 468.

ص: 287

وروى (586) حديثًا، اتفق الشيخان على (20) وانفرد البخاريّ بـ (9) ومسلم بـ (15) حديثًا، وله في هذا الكتاب (109) أحاديث. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقون كوفيّون.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: عمرو، عن أبي الْبَخْتَريّ، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض، وأحد السابقين إلى الإسلام، وابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، وأقضى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهو المشهور بلقب أبي تراب، لقبّه به النبيّ صلى الله عليه وسلم، لمّا وجده نائمًا في المسجد، وقد سقط رداؤه، وأصابه التراب، والقصّة مشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما، وأنه أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة، وهو أبو السبطين، وأول هاشميّ وُلد بين هاشميين، وأول خليفة من بني هاشم، وأحد العلماء الربانيين، وأحد الشجعان المشهورين، والزهّاد المذكورين، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، إلا تبوك، كما تقدّم.

وأما شرح الحديث، وبيان فوائده فقد تقدّما في الحديث الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادتهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

ص: 288

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (2/ 20) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه أحمد في "مسنده العشرة"(938 و 988 و 1027 و 1038)(الدارميّ) في "المقدّمة"(592).

وقال الحافظ البوصيريّ رحمه الله تعالى في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد صحيح، رجاله محتجّ بهم في "الصحيحين"، ورواه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن شعبة بإسناده ومتنه. ورواه مسدّد في "مسنده" عن يحيى، عن مسعر، عن عمرو بن مرّة، فذكره بإسناده ومتنه. ورواه أحمد بن منيع في "مسنده": حدثنا أبو قَطَن، قال: حدّثنا شعبة، فذكره، وزاد: "فخرج إلينا حين يوم (كذا (1)) المؤذّن، فقال: أين السائل عن الوتر؟، هذا حينُ وترٍ حسن. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

21 -

(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، حَدَّثَنَا المقْبُرِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَعْرِفَنَّ مَا يُحَدَّثُ أَحَدُكُمْ عَنِّي الحدِيثَ، وَهُوَ مُتِّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: اقْرَأْ قُرْآنًا، مَا قِيلَ مِنْ قَوْلٍ حَسَنٍ، فَأَنَا قُلْتُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عليّ بن المنذر) بن زيد الأوديّ، ويقال: الأسديّ، أبو الحسن الكوفيّ الطَّرِيقيّ -بفتح الطاء المهملة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم قاف- الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [10].

رَوَى عن أبيه، وابن عيينة، وابن فضيل، وابن نمير، ووكيع، والوليد بن مسلم وإسحاق بن منصور السلولي، وأبي غسان النهدي، وجماعة. وروى عنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومطين، ومحمد بن يحيى بن منده، وزكرياء السجزي، وغيرهم.

(1) هكذا النسخة والظاهر أنه كان بياض فكتب مكانه (كذا) والله أعلم.

ص: 289

قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو صدوق ثقة، سئل عنه أبي؟ فقال: محله الصدق. وقال ابن نمير: هو ثقة صدوق. وقال النسائي: شيعي محض ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الإسماعيلي: في القلب منه شيء، لَسْتُ أَخْبُرُهُ. وقال ابن ماجه: سمعته يقول: حججت ثمانيا وخمسين حجة، أكثرها راجلًا (1). وذكر ابن السمعاني أنه قيل له:"الطَّرِيقيّ"، لأنه وُلد بالطريق. وقال الدارقطني: لا بأس به، وكذا قال مسلمة بن قاسم، وزاد: كان يتشيع. وقال مطين: مات في ربيع الآخر سنة ست وخمسين ومائتين. تفرّد به الترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثمانية عشر حديثًا.

2 -

(محمد بن الفضيل) بن غَزْوان -بفتح المعجمة، وسكون الزاي- ابن جرير الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، عارفٌ، رُمي بالتشيّع [9].

رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، والمختار بن فلفل، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي مالك الأشجعي، وخلق كثير.

وروى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأحمد ابن إشكاب الصفار، وأحمد بن عمر الوكيعي، وأبو خيثمة، وقتيبة، وغيرهم.

قال حرب عن أحمد: كان يتشيع، وكان حسن الحديث. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: كان شيعيا محترقًا. ذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال: كان يغلو في التشيع.

وقال ابن سعد: كان ثقة، صدوقًا، كثير الحديث، متشيعا، وبعضهم لا يحتج به. وقال العجلي: كوفي ثقة شيعي. وكان أبوه ثقة، وكان عثمانيا. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال علي بن المديني: كان ثقة ثبتا في الحديث. وقال الدارقطني: كان ثبتا في

(1) سيأتي هذا الكلام في"كتاب الصيد" برقم (3199) إن شاء الله تعالى.

ص: 290

الحديث، إلا أنه كان منحرفا عن عثمان. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة شيعي. وقال أبو هاشم الرفاعي: سمعت ابن فضيل يقول: رَحِمَ الله عثمان، ولا رَحِمَ من لا يترحم عليه. قال: وسمعته يحلف بالله أنه صاحب سنة، رأيت على خفه أثر المسح، وصليت خلفه ما لا يحصى، فلم أسمعه يجهر يعني بالبسملة. وقال الحافظ: صَنّفَ مصنفات في العلم، وقرأ القراءات على حمزة الزيات.

قال ابن سعد، وأبو داود: توفي سنة أربع وتسعين، زاد أبو داود: في أولها. وقال البخاري، وغير واحد: مات سنة خمس وتسعين ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (61) حديثًا.

3 -

(المقبريّ) هو عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد كيسان، أبو عبّاد الليثيّ مولاهم المدني، متروك [7].

رَوَى عن أبيه، وجده، وعبد الله بن أبي قتادة. ورَوَى عنه حفص بن غياث، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، ومُعارك بن عباد، وهشيم، ومروان بن معاوية، ووهب ابن إسماعيل الأسدي، ومحمد بن فضيل، وغيرهم.

قال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد، لا يحدثان عنه. وقال أبو قدامة عن يحيى بن سعيد: جلست إليه مجلسًا، فعرفت فيه -يعني الكذب-. قال أبو طالب عن أحمد: منكر الحديث متروك الحديث وكذا قال عمرو بن علي. وقال عباس الدوري عن ابن معين: ضعيف، وقال الدارمي عن ابن معين: ليس بشيء. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى: لا يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، لا يوقف منه على شيء. وقال أبو: حاتم: ليس بقوي وقال البخاري. تركوه. وقال النسائي: ليس بثقة، تركه يحيى، وعبد الرحمن. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن عدي: وعامة ما يرويه الضعفُ عليه بَيِّنٌ وضعفه ابن الْبَرْقِيّ، ويعقوب بن سفيان، وأبو داود، والساجي، وقال الدارقطني: متروك، ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار، حتى يَسْبِقَ إلى القلب أنه المُتَعِّمد لها. وقال البزار:

ص: 291

فيه لين. تفرّد به الترمذيّ (1)، والمصنّف، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 21 و 256 و 958 و 1422 و 1636 و 2439 و 2584 و3311.

4 -

(جدّه) كيسان، أبو سعيد المقبريّ المدنيّ، صاحب العباء، مولى أم شَرِيك، ثقة ثبتٌ [2].

رَوَى عن عمر، وعلي، وعبد الله بن سلام، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة، وأبي شريح الخزاعي، وأبي سعيد الخدري، وعقبة بن عامر، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه سعيد، وابن ابنه عبد الله بن سعيد، وعبد الملك بن نوفل بن مُساحق، وأبو صخر، حميد بن زياد.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة. وقال الواقدي: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة مائة. وقال ابن سعد: توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك. وقال النسائي: لا بأس به. وقال إبراهيم الحربي: كان ينزل المقابر، فسمي بذلك. وقيل: إن عمر جعله على حَفْرِ القبور، فسمي المقبري، وجعل نُعيمًا على إجمار المسجد، فسمي المجمر. قال الحافظ: هذا بعيد من الصواب، وما أظن نعيما أدرك عمر. وقال البخاري في "صحيحه": قال إسماعيل بن أبي أويس: إنما سُمِّي المقبري؛ لأنه كان ينزل ناحية المقابر. وزعم الطحاوي في "بيان المشكل" أنه مات سنة خمس وعشرين ومائة، وهو وهم منه، فإن ذلك تاريخ وفاة ابنه سعيد، وحاول الطحاوي بذلك إنكار سماعه من أبي رافع، ومن الحسن بن علي، ولا إنكار في ذلك؛ لأن البخاري قد جزم بأن أبا سعيد سمع من عمر، ولو صح ما قال الطحاوي، لكان عمر أبي سعيد أكثر من مائة وعشر سنين، وهذا لم يقله أحد، وقد صرح أبو داود في روايته لحديث أبي سعيد، عن أبي رافع بالسماع. وفرق ابن حبان في "الثقات" بين كيسان صاحب العباء، رَوَى عن عمر، وعنه

(1) ذكر في "تهذيب التهذيب" 2/ 346 أن له عند الترمذيّ حديث واحد في المغازي، وعند النسائي في الاستعاذة من الجوع، لكنه كنى عنه، ولم يسمه، أخرج له في "المجتبى" 8/ 263.

ص: 292

أبو صخر، وبين كيسان مولى أم شريك، يكنى أبا سعيد، وهو المعروف بالمقبري؛ لأن منزله كان بالقرب من المقابر. فالله أعلم. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 21 و 256 و 1087 و 1636 و 1679 و 1848 و 3439 و 3311.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدّم في أول الباب 1/ 1، والله تعالى أعلم (1).

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قَالَ: "لَا أَعْرِفَنَّ) من المعرفة، و"لا" نافية، والنون المشدّدة نون التوكيد: أي لا أعلمنّ، ولا أجدنّ، وهو نظير قوله:"لا أُلفيَنّ"، وقد تقدّم تمام البحث فيه قرييبًا (مَا يُحَدَّثُ أَحَدُكُمْ عَنِّي الحدِيثَ)"ما" مصدريّة، و"يُحدّث" بالبناء للمفعول، وهو في تأويل المصدر مفعول "أعرفنّ": أي لا أعرفنّ تحديث أحدكم (وَهُوَ مُتَّكِئٌ) جملة في محلّ نصب على الحال أي حال كونه متكئًا: أي متوسّدًا (عَلَى أَرِيكَتِهِ) متعلّق بـ "متكىء": أي سريره المزيّن (فَيَقُولُ) ردّا على حديثي (اقْرَأْ قُرْآنا) فعل أمر من القراءة: أي يقول لراوي الحديث اقرأ قرآنًا حتى نعرف به صدق هذا الحديث من كذبه. ويحتمل أن يكون "أَقْرَأُ قرآنًا" بصيغة المضارع للمتكلّم: أي أنا اقرأ القرآن، فإن وجدته موافقًا لحديثك قبلته، وإلا رددته. وإنما نكّر القرآن؛ لأن مراده بعض آياته الذي بقراءته يظهر الأمر بزعمه الباطل. ويحتمل أن يكون المراد بقوله:"اقرأ قرآنًا"، النهي عن الحديث أصلًا، فكأنه يقول له: اترك حديثك، فإني لا أقبل إلا القرآن، نظير ما تقدّم في قوله:"فما وجدنا في كتاب الله من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام، حرّمناه"، وقوله:"ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه".

(مَا) مصولٌ اسميٌّ: أي الذي (قِيلَ) أي ذُكر، ونُقل (مِنْ قَوْلٍ حَسَنٍ، فَأَنا قُلْتُهُ) هذا من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكره ردّا على المتّكىء الذي يزعم أنه لا يقبل إلا القرآن، والمعنى

(1) لم أذكره لطائف الإسناد؛ لأنه ضعيف، لأن فيه متروكًا، فتنبّه.

ص: 293

أن ما نقل عني بسند صحيح من القول الحسن الذي لا يتعارض مع النصوص الصحيحة، فإنه صلى الله عليه وسلم قاله، وهو كلام حسنٌ لا يصحّ ردّه بما زعمه المتكىء. قال السنديّ رحمه الله تعالى: أو هو من كلام المتّكىء، ذكره افتخارًا بمقاله، وإعجابًا برأيه، وأن مقاله مما ينبغي للناس الرجوع إليه. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كونه من كلام المتّكىء بعيدٌ، فالوجه الأول هو الصواب. . والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم هذا ضعيف جدّا؛ لأن في سنده المقبريّ، وهو متروك، كما سبق في ترجمته آنفًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (2/ 21) بهذا السند فقط، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(2/ 367) و (483) وفي "باقي مسند المكثرين"(8446 و9880) و (البزّار)(126) من طريق أبي معشر نَجيح بن عبد الرحمن، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبو معشر ضعيف. وهذا الحديث لم يذكره البوصيريّ في "مصباح الزجاجة" مع أنه من شرطه؛ إذ هو مما انفرد به المصّنف، فكان عليه أن يذكره، فيُستدرك عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:

22 -

(حَدَّثَنَا مُحمَّدُ بن عَبَّادِ بْنِ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح وحَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيَمْانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ أَخِي إِذَا حَدَّثْتُكَ عَنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حدِيثًا، فَلا تَضْرِبْ لَهُ الأَمْثَالَ.

ص: 294

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن عبّاد بن آدم) الْهُذَليّ، أبو عبد الله البصريّ، مقبول [10].

رَوَى عن أبيه، وأبي أحمد الزبيري، وعبد الوهاب الثقفي، وابن أبي عدي، وغندر، ومروان بن معاوية، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم. ورَوَى عنه النسائي، وابن ماجه، وعمرو بن محمد بن بجير، والحسن بن علي الفسوي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن صدقة، ومحمد بن أبان الأصبهاني، ومحمد بن أحمد بن سهل البركاني، وأبو عروبة، وأبو بكر بن أبي داود وآخرون. ذكر الْقَراب في تاريخه بإسناد له أنه توفي في رمضان سنة ثمان وستين ومائتين، تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا 2/ 22 وفي "كتاب الجنائز" حديث رقم (1547).

2 -

(أبوه) عبّاد بن آدم الْهُذَليّ البصريّ، رَوَى عن شعبة، وحماد بن سلمة، وعنه ابنه محمد فقط، مجهول [9]، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(هنّاد بن السريّ) -بفتح السين المهملة، وكسر الراء الخفيفة- ابن مصعب بن أبي بكر بن شَبْر بن صَعْفُوق بن عَمْرو بن زُرَارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميميّ الدارميّ، أبو السَّرِيّ الكوفيّ، ثقة [10].

رَوَى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهشيم، وأبي بكر بن عياش، وعبد الله بن إدريس، وأبي الأحوص، وحفص بن غياث، وعبدة بن سليمان، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاري في "خلق أفعال العباد"، والباقون، وابن بن أخيه محمد بن السري بن يحيى بن السري، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد بن منصور الرمادي، ومحمد ابن عبد الملك الدقيقي، ومطين، وعبدان الأهوازي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم.

قال أحمد بن حنبل: عليكم بهناد. وقال أبو حاتم. صدوق. وقال قتيبة: ما رأيت وكيعا يُعَظّم أحدا تعظيمه لهناد. "وقال النسانّي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال السراج: قال هناد بن السري: وُلدت سنة اثنتين وخمسين ومائة، قال: ومات في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.

ص: 295

4 -

(عبدة بن سليمان) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن بن سليمان بن حاجب بن زُرَارة بن عبد الرحمن بن صُرَد بن سُمَير بن مليل بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، أدرك صُرَد الإسلامَ، وأسلم، ثقة ثبتٌ [8].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعاصم الأحول، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وأبو إسحاق، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، والثوري، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغيرهم. ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وابنا أبي شيبة، وإبراهيم بن موسى الرازي، وعمرو الناقد، وأبو الشعثاء علي بن الحسن، ومحمد بن سلام البيكندي، وأبو كريب محمد بن العلاء، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وهناد بن السري، وأبو سعيد الأشج، وإبراهيم بن مُجَشّر، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة، وزيادة مع صلاح في بدنه، وكان شديد الفقر. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أبو أسامة أحب إليك، أو عبدة بن سليمان؟ قال: ما منهما إلا ثقة. وقال العجلي: ثقة رجل صالح، صاحب قرآن يُقْرِىء. وقال الميموني عن أحمد: قدمت الكوفة سنة (188) وقد مات عبدة سنة سبع وثمانين ومائة قبل قدومي بسنة. وقال ابن سعد: كان ثقة، مات في رجب سنة (88)، وكذا أرخه ابن نمير، لكنه قال في جمادى الثانية. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث جدّا، مات في رجب سنة (7). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي وأبو زرعة، عن عبدة، ويونس بن بكير، وسلمة بن الفضل، أيهم أحب إليكم في ابن إسحاق؟ فقال: عبدة بن سليمان. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: ثقة، مسلم صدوق. وقال الدارقطني: ثقة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (50) حديثًا.

5 -

(شعبة) بن الحجاج الإمام الحافظ الحجة المشهور البصريّ [7] 1/ 6.

6 -

(محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقّاص، أبو عبد الله، ويقال: أبو الحسن

ص: 296

الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6].

رَوَى عن أبيه، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعَبيدة بن سفيان، وسعيد بن الحارث، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، ودينار أبي عبد الله القراظ، وغيرهم.

ورَوَى عنه موسى بن عقبة، ومات قبله، وابن عمه عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص، وشعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وأبو معشر المدني، ويزيد بن زريع، وغيرهم.

قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد، وسئل عن سهيل، ومحمد بن عمرو، فقال: محمد أعلى منه، قال علي: قلت ليحيى: محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: تريد العفو، أو تَشَدَّد، قال: لا، بل أُشَدّد، قال: ليس هو ممن تريد، وكان يقول: حدثنا أشياخنا: أبو سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال يحيى: وسألت مالكا عنه، فقال فيه نحو ما قلت لك، قال علي: وسمعت يحيى يقول: محمد بن عمرو أحب إلي من ابن أبي حرملة. وقال إسحاق بن حكيم عن يحيى القطان: محمد بن عمرو رجل صالح، ليس بأحفظ الناس للحديث. وقال إسحاق بن منصور: سئل يحيى بن معين عن محمد ابن عمرو، ومحمد بن إسحاق، أيهما يُقَدَّم؟ فقال: محمد بن عمرو. وقال ابن خيثمة: سئل ابن معين عن محمد بن عمرو، فقال: ما زال الناس يتّقون حديثه، قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقال الجوزجاني: ليس بقوي الحديث، ويُشتَهَى حديثه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه، وهو شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة. وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن ابن معين: سهيل، والعلاء، وابن عَقِيل حديثهم ليس بحجة، ومحمد بن عمرو فوقهم. وقال يعقوب بن شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو؟. وقال الحاكم: قال ابن المبارك: لم يكن به بأس. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، يُسْتَضعف. وقال ابن معين: ابن عجلان أوثق من محمد بن عمرو، ومحمد بن عمرو أحب إلي من محمد بن إسحاق.

ص: 297

حكاه العقيلي وقال ابن عدي: له حديث صالح، وقد حدّث عنه جماعة من الثقات، كل واحد يتفرد عنه بنسخة، ويُغْرب بعضهم على بعض. وروى عنه مالك في "الموطإ"، وأرجو أنه لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ. قال الواقدي: توفي سنة أربع وأربعين ومائة. وقال عمرو بن علي: مات سنة خمس وأربعين. روى له البخاري مقرونا بغيره، ومسلم في المتابعات، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (50) حديثًا.

7 -

(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته، ثقة مُكثر [3].

رَوَى عن أبيه، وعثمان بن عفان، وطلحة، وعبادة بن الصامت، وقيل: لم يسمع منهما، وأبي قتادة، وأبي الدرداء، وابن أبي أَسيد، وأسامة بن زيد، وحسان بن ثابت، ورافع بن خديج، وثوبان، ونافع بن عبد الحارث، وعبد الله بن سلام، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وفاطمة بنت قيس، وخلق كثير من الصحابة والتابعين.

ورَوَى عنه أبنه عمر، وأولاد إخوته: سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، وعبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن، وزرارة بن مصعب بن عبد الرحمن، والأعرج، وعمرو بن الحكم بن ثوبان، وعروة بن الزبير، والزهري، ومحمد بن عمرو بن علقمة وخلق كثير.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المدنيين، وقال: كان ثقة فقيهًا، كثير الحديث، وأمه تُمَاضِر بنت الأصبع الكلبية يقال: إنها أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: مات سنة أربع وتسعين. وقال الواقدي: سنة أربع ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال مالك ابن أنس: كان عندنا رجال من أهل العلم، اسم أحدهم كنيته، منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال معمر عن الزهري: أربعة من قريش وجدتهم بُحورًا: ابن المسيب، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: وكان أبو سلمة كثيرًا ما يخالف ابن عباس، فَحُرِم لذلك من ابن عباس علمًا كثيرًا. وقال عقيل

ص: 298

عن الزهري: قال لي إبراهيم بن عبد الله بن قارظ -وأنا بمصر-: لقد تركت رجلين من قومك، لا أعلم أكثر حديثا منهما: عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال أبو زرعة: ثقة إمام. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات قريش مات سنة أربع وتسعين. وقيل: أربع ومائة. وجزم ابن سعد والزبير بن بكار بأن اسمه عبد الله. وقال ابن عبد البر: هو الأصح عند أهل النسب. وقال الْجِعَابي اختلفوا في اسمه، فقالوا: عبد الله. وهكذا قال الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. قال: وقيل: اسمه إسماعيل. زاد ابن سعد: ولمّا ولي سعيد بن العاص لمعاوية المرة الأولى، استقْضَى أبا سلمة على المدينة. ورُوي عن الشعبي قال: قَدِم علينا أبو سلمة، فمشى بيني وبين أبي بردة، فقلنا له: مَن وافقه من خَلَّفتَ ببلادك؟ فقال: رجل بينكما. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (141) حديثًا.

8 -

(أبو هريرة) رضي الله تعالى عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى بالنسبة للإسناد الأول، ومن خماسياته بالنسبة للثاني.

2 -

(ومنها): أن رجال الثاني كلهم رجال الصحيح، ومحمد بن عمرو أخرج له البخاريّ مقرونا، ومسلم في المتابعات.

3 -

(ومنها): أنه مسلس بالمدنيين من محمد بن عمرو.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

6 -

(ومنها) فيه كتابة (ح) إشارة إلي إسناد آخر، وقد اختُلف قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" 1/ 38: وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من الإسناد إلى إسناد (ح) وهي حاء مهملة مفردة، والمختار أنها مأخوذة من

ص: 299

التحوّل؛ لتحوّله من الإسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارىء إذا انتهى إليها (ح) ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حَالَ بين الشيئين: إذا حجز؛ لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله: الحديث، وأن أهل الغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. وقد كَتَبَ جماعة من الحفاظ موضعها "صح"، فيشعر بأنها رمز "صح"، وحسنت ههنا كتابة "صح"؛ لئلا يُتوهّم أنه سقط متن الإسناد الأول، ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرًا، وهي كثيرة في "صحيح مسلم"، قليلة في "صحيح البخاري". انتهى كلام النوويّ (1).

وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَكَتَبُوا (ح) عِنْدَ تَكْرِيرِ سَنَدْ

فَقِيلَ مِنْ صَحَّ وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ

مِنَ الحدِيثِ أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ

أَوْ حَائِلٍ وَقَوْلهُا لَفْظاَ أَسَدْ

والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (أَنَّ أبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ لِرَجُلٍ) هو ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، كما سيأتي التصريح به في "كتاب الطهارة"(485)، ولفظه:"عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "توضّئوا مما غيّرت النار"، فقال ابن عباس: أتوضّأ من الحميم؟

أراد ابن عباس بهذا أنه ينبغي على مقتضى هذا الحديث أن الإنسان إذا توضّأ بالماء الحارّ، يلزمه أن يتوضّأ بالماء البارد؛ لأنه مسّ ما غيّرته النار، فردّ عليه أبو هريرة رضي الله عنه، بأن هذا ليس مراد الحديث، فقال له:(يَا ابْنَ أَخِي) أراد به أخوّة الإسلام؛ لأنه لا نسب بين أبي هريرة والعباس بن عبد المطّلب رضي الله تعالى عنهما، وإنما هو على قوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] (إِذَا

(1)"شرح مسلم" 1/ 38.

ص: 300

حَدثْتُكَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ) أي لا تعارضه بمثل هذه المعارضات المدفوعة بالنظر فيما أريد بالحديث، فإن المراد به أن أكل ما مسّته النار يوجب الوضوء، لا مسّه .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه كل هذا حسنٌ، من أجل الكلام في محمد بن عمرو؛ لأنه وإن أخرج عنه الشيخان، إلا أن البخاريّ أخرج له مقرونًا بغيره، ومسلم في المتابعات، فهو حسن الحديث، والله تعالى أعلم.

[فإن قلت]: في سنده محمد بن عبّاد مقبولٌ، وأبوه مجهول، فكيف يُحَسّن؟.

[قلت]: تحسينه بالسند الثاني، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه.

2 -

(ومنها): حسن التلطّف في الردّ على من خالف النصّ، متأوّلًا؛ ليكون أدعى إلى الرجوع إليه، فإن أبا هريرة رضي الله عنه خاطب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله:"يا ابن أخي"، رفقًا به؛ ليحمله على أن يتدبّر خطر ما عارض به النصّ، فلو أغلظ له القول ربّما حمله ذلك على التمادي في المعارضة، وهكذا ينبغي أن يكون الداعي إلى الحقّ يسلك مسلك الحكمة؛ امتثالًا لقوله جلّ وعلا:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الآية [النحل: 125].

3 -

(ومنها): عدم جواز معارضة النصوص لرأي ظهر له، بل يستسلم للحقّ أوّل ما يقرع سمعه، هان كان مخالفًا لرأيه، أو مذهبه، فإن الخير كلَّ الخير فيما قاله الشارع، لا فيما يظهر للعقول القاصرة، فقد ضمن الله تعالى الفلاح لمن اتّبعه صلى الله عليه وسلم، فقال

ص: 301

تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وشرط الهداية لطاعته، فقال عز وجل:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} الآية [النور: 54]، ونفى الإيمان عمن لم يحكّم شرعه، فقال جلّ وعلا:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. اللهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(قَالَ أَبو الحسَنِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الله الْكَرَابِيسيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجُعْدِ، عَنْ شُعْبِةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، مِثلَ حَدِيثِ عِليٍّ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كان حقّ هذا الإسناد أن يُذكر قبل حديثي أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأنه تابع لحديث عليّ رضي الله عنه الماضي، ولعله من تصرّف بعض النسّاخ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: الغرض من ذكر هذا الإسناد بيان علوّ سند أبي الحسن القطّان من هذا الطريق على طريق ابن ماجه الماضية، فقد وصل إلى شعبة هنا بواسطتين، وهما يحيى بن عبد الله، وعليّ بن الجعد، بخلاف طريق ابن ماجه، فإنه وصل إليه بثلاث وسائط: ابن ماجه، ومحمد بن بشّار، ويحيى بن سعيد القطّان. والله تعالى أعلم.

و"أبو الحسن": هو الحافظ عليّ بن إبراهيم بن سَلَمَة بَن بَحْر الْقَزْوينيّ القطّان، عالم قزوين، وُلد سنة (254) وتوفّي سنة (345)(1).

و"يحيى بن عبد الله الكرابيسيّ" لم أجد ترجمته.

و"عليّ بن الجعد": هو ابن عُبيد الْجَوْهريّ، أبو الحسن البغداديّ، مولى بني هاشم، ثقة ثبت، رُمي بالتشيّع، من صغار [9].

رَوَى عن حَرِيز بن عثمان، وشعبة، والثوري، ومالك، وابن أبي ذئب، وغيرهم.

(1) راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 15/ 463 - 465.

ص: 302

ورَوى عنه البخاري، وأبو داود، وأحمد، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم.

قال علي بن الجعد: رأيت الأعمش، ولم أكتب عنه، وقدمت البصرة، وكان بن أبي عروبة حيا، وعن موسى بن داود قال: ما رأيت أحفظ من علي بن الجعد، كنا عند ابن أبي ذئب، فأملى علينا عشرين حديثا فحفظها، وأملاها علينا. وقال خلف بن سالم: سِرْت أنا وأحمد ويحيى إلى علي بن الجعد، فأخرج إلينا كتبه، وألقاها بين أيدينا، وذهب فلم نجد فيها إلا خطأ واحدا، فلما فرغنا من الطعام، قال هاتوا، فحدث بكل شيء كتبناه حفظًا. وقال ابن معين في سنة (225) كتبت عن علي بن الجعد منذ أكثر من ثلاثين سنة. وقال صالح بن محمد الأسدي: كان علي بن الجعد يُحَدّث بثلاثة أحاديث لكل إنسان عن شعبة، وكان عنده عن مالك ثلاثة أحاديث، كان يقول: إنه سمعها من مالك في ثلاثة أعوام، كان يقول فيها: أخبرنا مالك، كان مالك حَدَّثه. وقال عبدوس: ما أعلم أني لقيت أحفظ منه. قال المحاملي: فقلت له: كان يُتَّهَم بالجهم؟ قال: قد قيل هذا، ولم يكن كما قالوا، إلا أن ابنه الحسن كان على قضاء بغداد، وكان يقول بقول جهم، وكان عند عليّ نحو من ألف ومائتي حديث عن شعبة، وكان قد لقي المشايخ. وقال أبو الحسن السُّوسِيّ: سمعت النُّفَيلي يقول: لا ينبغي أن يكتب عنه قليل ولا كثير، وضَعَّفَ أمره جدّا. وقال الجوزجاني: متشبث بغير بدعة، زائغ عن الحق. وقال أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي: قلت لعلي بن الجعد: بلغني أنك قلت: ابن عمر ذاك الصبي، قال: لم أقل، ولكن معاوية ما أكره أن يعذبه الله. وقال الآجري عن أبي داود: عمرو بن مرزوق أعلى من علي بن الجعد، ويُتَّهَم بِمُتَّهَم سوء، قال: ما يسوءني أن يعذب الله معاوية. وقال هارون بن سفيان المستملي: كنت عند علي بن الجعد، فذكر عثمان، فقال: أخذ من بيت المال مائة ألف درهم بغير حق. وقال العقيلي: قلت لعبد الله بن أحمد: لم لم تكتب عن علي بن الجعد؟ قال: نهاني أبي، وكان يبلغه عنه أنه يتناول الصحابة. وقال زياد بن أيوب: كنت عند علي بن الجعد، فسألوه عن القرآن؟ فقال. القرآن كتاب الله، ومن قال: مخلوق لم أُعَنِّفه، فقال: ذكرت ذلك لأحمد، فقال: ما بلغني عنه أشد من هذا. وقال

ص: 303

زياد بن أيوب أيضا: سأل رجل أحمد عن علي بن الجعد، فقال الهيثم: ومثله يسأل عنه؟ فقال أحمد: أمسك، قال: فذكره رجل بشرّ، فقال أحمد: ويقع في الصحابة. وقال أبو زرعة: كان أحمد لا يرى الكتابه عنه، ورأيته مضروبا عليه في كتابه. وقال ابن معين: ثقة صدوق. قال جعفر الطيالسي عن ابن معين: علي بن الجعد أثبت البغداديين في شعبة، قلت له: فأبو النضر؟ فقال: وأبو النضر. وقال الحسين بن فهم: سمعت ابن معين في جنازة علي بن الجعد يقول: ما روى عن شعبة -أراه يعني من البغداديين- أثبت من هذا، يعني علي بن الجعد، فقال له رجل: ولا أبو النضر؟ قال: ولا أبو النضر، قال: ولا شبابة؟ قال خَرّب الله بيت أمه إن كان مثل شبابة، قال ابن فهم: فعجبنا منه. وعن ابن معين قال: كان علي بن الجعد رباني العلم. وقال أبو زرعة: كان صدوقا في الحديث. وقال أبو حاتم: كان متقنا صدوقا، ولم أر من المحدثين من يحفظ، ويأتي بالحديث على لفظ واحد، لا يغيره سوى قبيصة، وأبي نعيم في حديث الثوري، ويحيى الحماني في حديث شريك، وعلي بن الجعد في حديثه. وقال صالح بن محمد: ثقة. وقال النسائي: صدوق. وقال حنبل بن إسحاق: وُلد سن (132)، ومات سنة ثلاثين ومائتين، وفيها أرخه غير واحد. وقال البغوي أُخبرت عن إسحاق بن أبي إسرائيل أنه قال في جنازة علي بن الجعد: أخبرني أنه منذ نحو ستين سنة يصوم يوما ويفطر يوما. وقال ابن سعد: علي بن الجعد وُلد في أول خلافة بني العباس سن (136)، ومات في سنة (230)، وله يوم توفي ست وتسعون سنة وستة أشهر. قال الحافظ: هذا وَهَمٌ بَيِّنٌ في موضعين: الأول أنَّ أول خلافة بني العباس سنة اثنتين وثلاثين، لا سنة ست، الثاني أن من يولد سن (6) ويموت سنة (30) لا يوفي عمره ستا وتسعين، بل يكون (94) فقط فتأمله. وقال الدارقطني: ثقة مأمون. وحكى العقيلي عن ابن المديني: ما يقتضي وهنه عنده، ولفظه: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني بعض أصحابنا عن علي بن المديني قال: وممن تُرك حديثه عن شعبة علي بن الجعد، وعَدَّدَ جماعة، فقالوا: وعلي بن الجعد ما له؟ قال: رأيت ألفاظه عن شعبة تختلف. قال الحافظ: فإن ثبت هذا فلعله كان في أول الحال لم

ص: 304

يُثْبِت، فضَبَط كما قال أبو حاتم فيما تقدم. وقال عبد الله بن أحمد: ما رأيت عنده في الجامع إلا بعض صبيان. وقال ابن قانع: ثقة ثبت. وقال مطين: ثقة. وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسا، ولم أر في رواياته إذا حدث عن ثقة حديثا منكرًا، والبخاري مع شدة استقصائه يروي عنه في "صحيحه". تفرّد به البخاريّ، وأبو داود، وفي هامش "الزهرة" بخط ابن الطاهر: روى عنه البخاري ثلاثة عشر حديثا. وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الوضع من زيادة أبي الحسن القطّان. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[خاتمة]: نختم بها هذا الباب:

قد كتب الإمام الحافظ السيوطيّ رحمه الله رسالةً مفيدةً تجمع معظم ما يتعلّق بهذا الباب من الأحاديث والآثار الواردة عن السلف رضي الله عنه، سمّاها "مفتاح الجنّة في الاحتجاج بالسنة" أحببت إيرادها بنصّها تتميمًا للفوائد، وتكميلًا للعوائد.

قال رحمه الله تعالى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله، وبه ثقتي، وسلام على عباده الذين اصطفى.

اعلموا يرحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وأن مما فاح ريحه في هذا الزمان، وكان دارسا -بحمد الله تعالى- منذ أزمان، وهو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه، أن السنة النبوية، والأحاديث المروية -زادها الله علوا وشرفا- لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث:"ما جاءكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلا، فخذوا به، وإلا فردوه"(1)، وهكذا سمعت هذا الكلام بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيري، فمنهم من لا يُلقي لذلك بالًا، ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء،

(1) قال القيليّ: ليس له إسناد يصحّ، وقال الصغانيّ: موضوع، وقال الخطابيّ: وضعته الزنادقة. انظر الفوائد المجموعة للشوكاني 278 - 291.

ص: 305

فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه، وأنه من أعظم المهالك.

فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قولا كان أو فعلًا بشرطه المعروف في الأصول حجةً كفر، وخرج عن دائرة الإسلام، وحُشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فِرَق الكفرة. روى الإمام الشافعي رضي الله عنه يوما حديثا، وقال: إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله، فاضطرب، وقال، يا هذا أرأيتني نصرانيا؟ أرأيتني خارجا من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زُنَّارًا، أروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أقول به.

وأصل هذا الرأي الفاسد أن الزنادقة، وطائفة من غلاة الرافضة، ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة، والاقتصار على القرآن، وهم في ذلك مختلفوا القاصد: فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلي، وأن جبريل عليه السلام أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ومنهم من أقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة، ولكن قال: إن الخلافة كانت حقا لعلي، فلما عَدَل بها الصحابة عنه إلى أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، قال هؤلاء المخذولون -لعنهم الله-: كَفَرُوا، حيث جاروا، وعدلوا بالحق عن مستحقه، وكَفَّروا -لعنهم الله- عليا رضي الله عنه أيضًا؟ لعدم طلبه حقه، فبنوا على ذلك رَدَّ الأحاديث كلها؛ لأنها عندهم بزعمهم من رواية قوم كفار، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذه آراء ما كنتُ أستحل حكايتها، لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار. وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، فمن بعدهم، وتصدى الأئمة الأربعة، وأصحابهم في دروسهم، ومناظراتهم، وتصانيفهم للرد عليهم، وسأسوق إن شاء الله تعالى جملة من ذلك. والله الموفق (1).

(1) هكذا عبارة السيوطيّ، ويحتاج إلى ثبوت إطلاق لفظ "الموفق" على الله، اللهم إلا أن يقال: إن باب الإخبار أوسع من باب التسمية، وبالجملة فلو قال: والله ولي في التوفيق، =

ص: 306

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الرسالة"، ونقله عنه البيهقي في "المدخل" قد وضع الله رسوله صلى الله عليه وسلم، من دينه وفرضه وكتابه الموضعَ الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله عَلَمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحَرّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن بين الإيمان برسوله مع الإيمان به، فقال تبارك وتعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]، وقال عز وجل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [النور: 62]، فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي سواه تبع له، الإيمانَ بالله، ثم برسوله معه. قال الشافعي: ففرض الله على الناس أتباع وحيه، وسنن رسوله، فقال في كتابه:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] مع آي سواها، ذ كر فيهن الكتاب والحكمة. قال الشافعي: فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضاه من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، فقال بعضهم أهل العلم:{وَأُولِي الْأَمْرِ} : أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} يعني اختلفتم في شيء، يعني -والله تعالى أعلم- هم وأمراؤهم الذين أُمروا بطاعتهم {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يعني -والله تعالى أعلم- إلى ما قال الله والرسول، ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأعلمهم أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعته، فقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وأحتج أيضا في فرض

= أو "وبالله التوفيق، لكان أولى فتنبّه.

ص: 307

اتباع أمره بقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وغيرها من الآيات التي دلت على اتباع أمره، ولزوم طاعته، فلا يسع أحدًا رد أمره لفرض الله طاعة نبيه.

قال البيهقي بعد إحكامه هذا الفصل: ولولا ثبوت الحجة بالسنة، لما قال صلى الله عليه وسلم في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم:"ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مُبَلَّغ أوعى من سامع"(1)، ثم أورد حديث:"نضر الله امرءا سمع منا حديثا، فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع"(2) وهذا الحديث متواتر كما سأبينه.

قال الشافعي: فلما نَدَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته، وحفظها، وأدائها، دل على أنه لا يأمر أن يؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أُدِّى إليه؛ لأنه إنما يُؤَدَّى عنه حلال يُؤتَى، وحرام يُجتَنَبُ، وحَدٌّ يقام، ومال يؤخذ ويُعطَى، ونصيحة في دين ودنيا.

ثم أورد البيهقي من حديث أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أُلفينّ أحدَكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه، يقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعنا"، أخرجه أبو داود، والحاكم (3). ومن حديث المقدام ابن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم أشياء يوم خيبر، منها الحمار الأهلي وغيره، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته، يحدَّث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، ألا وإن ما

(1) متّفقٌ عليه.

(2)

حديث صحيح، سيأتي للمصنّف برقم (232) وسنذكر تخريجه هناك مفصلا، إن شاء الله تعالى.

(3)

تقدّم للمصنّف برقم (13) وتقدّم تخريجه هناك.

ص: 308

حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلُ ما حَرَّم الله" (1). قال البيهقي: وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يكون بعده من رَدّ المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعده. ثم أخرج البيهقي بسنده عن شَبيب بن أبي فَضَالة المكي، أن عمران بن حصين رضي الله عنهما ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نُجَيد، إنكم تحدّثونا بأحاديث، لم نجد لها أصلًا في القرآن، فغضب عمران، وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعًا؟ ووجدت المغرب ثلاثًا؟ والغداة ركعتين؟ والظهر أربعًا؟ والعصر أربعًا؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه من كل أربعين شاةً شاةٌ، وفي كل كذا بعيرًا كذا، وفي كل كذا درهمًا كذا؟ قال: لا، قال: فعن من أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟، وقال: أوجدتم في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، أوجدتم فيه: فطوفوا سبعًا، واركعوا ركعتين خلف المقام، أو وجدتم في القرآن: "لا جَلَبَ، ولا جَنَبَ، ولا شِغَار في الإسلام" (2)، أما سمعتم الله قال في كتابه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء، ليس لكم بها علم.

ثم قال البيهقي: والحديث الذي رُوي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن. انتهى كلام البيهقي "المدخل الصغير"، وهو "المدخل إلى دلائل النبوة". وقد ذكر المسألة في "المدخل الكبير"، وهو "المدخل إلى السنن" بأبسط من هذا، فقال:"باب تعليم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرض اتباعها"، قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] إلى قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}

(1) حديث صحيح، تقدّم للمصنّف برقم (12).

(2)

حديث صحيح أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ.

ص: 309

[آل عمران: 164]، قال الشافعي: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخرج بأسانيده عن الحسن، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير أنهم قالوا: الحكمة في هذه الآية: السنة. ثم أورد بسنده عن المقدام بن يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه، ألا إتي أوتيت القرآن ومثله، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة مال معاهد

" الحديث (1).

ثم أورد من طريق آخر عن المقدام بن معدي كرب، قال: حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء يوم خيبر، من الحمار الأهلي وغيره، فقال صلى الله عليه وسلم:"يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يُحَّدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله"(2).

وقال البيهقي بإسناد صحيح أخرجه أبو داود في "سننه" قلت (3): وأخرجه أيضا الحاكم. ثم أورد البيهقي أيضا بسنده، عن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني قد خَلَّفتُ فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما أبدًا. كتاب الله، وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4). وأورد بسنده عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب الناس في حجة الوداع، فقال:"يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله وسنتي". أخرجه الحاكم أيضًا (5).

(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 131، وأبو داود رقم 4580 والدارقطني 4/ 287 وابن حبان في "صحيحه" 1/ 107.

(2)

صحيح، تقدّم تخريجه.

(3)

القائل السيوطيّ.

(4)

"المستدرك" 1/ 93 أحمد 3/ 59 الترمذي (3788) وهو حديث صحيح.

(5)

صحيح سبق تخريجه.

ص: 310

وأورده بسنده أيضا عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم، خطب في حجة الوداع، فقال:"إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدًا أمرين اثنين: كتاب الله وسنة نبيكم، أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم، تعيشوا به". وأخرج بسنده عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: ألزم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "أمران تركتهما فيكم، لن تضلوا ما تمسكم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم". وأخرج بسنده عن الْعِرْبَاض بن سارية، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعَظَنا مَوْعظةً بليغةً، ذَرَفَت منها العيون، ووَجِلَت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مُوَدِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعه، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأنّ رأسه زبيبة، فإنه من يَعِش منكم بعدي، فسيرىَ اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم في "مستدركه"(1).

وأخرج بسنده عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ستة لعنهم الله، وكل نبي مجاب الدعوة. الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، المتسلط بالجبروت ليذل بذلك من أعز الله، ويعز من أذل الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي". قلت: أخرجه أيضا الطبراني، والحاكم وصححه (2). وأخرج بسنده عن ابن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن لكل عمل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك، فقد هلك"(3). وأخرج بسنده عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا سنتي، فقد أحبني، ومن أحبني كان

(1) حديث صحيح، يأتي للمصنّف برقم 42 وأخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 126 - 127 وأبو داود 4583 و"الترمذيّ" رقم 2815 والحاكم 1/ 97.

(2)

صححه ابن حبان، والحاكم، وقال الشيخ الألباني: إسناده حسن، لولا أنه أُعلّ بالإرسال.

(3)

صحيح أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 188 - 210.

ص: 311

معي في الجنة" (1). قلت أخرجه أيضا الترمذي. وأخرج بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "القائم بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد" (2).

قلت أخرجه أيضا الطبراني.

ثم قال البيهقي في "باب بيان وجوه السنة": قال الشافعي رضي الله عنه: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه: [أحدها]: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل نص الكتاب. [والثاني]: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فَبَيَّنَ عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عامّا أو خاصا؟ وكيف أراد أن يأتي به العباد؟. [والثالث]: ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما ليس فيه نصّ كتاب. فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته، كتبيين عدد الصلاة، وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن في البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله -تعالى ذكره- قال:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقال:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فما أحل وحرم، فإنما بَيَّنَ فيه عن الله، كما بين في الصلاة. ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله تعالى. ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعِهِ كلّ ما سَنَّ، وسنته الحكمة التي أُلقيت في رُوْعه عن الله تعالى. انتهى بلفظه.

ثم أخرج البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب، أنه قال على المنبر:"يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف"(3). وأخرج بسنده عن الشعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالقضاء،

(1) ضعيف أخرجه الترمذيّ رقم 2818.

(2)

ضعيف أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية".

(3)

رواه أبو داود برقم 3569 وفيه انقطاعٌ؛ لأن الزهريّ لم يُدرك عمر رضي الله عنه قاله المنذريّ.

ص: 312

وينزل القرآن بغير ما قضى، فيستقبل حكم القرآن، ولا يرد قضاءه الأول.

واحتج من ذهب إلى أنه لم يَسُنّ إلا بأمر الله، إما بوحي ينزله عليه، فيتلى على الناس، أو برسالة ثابتة عن الله، أن افعل كذا بقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الشيخان في قصة الزاني:"لأقضين بينكم بكتاب الله"(1)، ثم قضى بالجلد والتغريب، وليس التغريب في القرآن. وبما أخرجه الشيخان عن يعلى بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة، فجاءه رجل، عليه جبة، متضمخ بطيب، وقد أحرم بعمرة، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة، بعد ما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سكت، فجاءه الوحي، فأنزل الله:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ثم سُرِّى عنه، فقال:"أين الذي سألني عن العمرة آنفًا؟ أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك"(2). ثم أخرج البيهقي بسنده عن طاوس: أن عنده كتابا من العقول نزل به الوحي، وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقة وعقول، فإنما نزل به الوحي. وأخرج بسنده عن حسان بن عطية قال:"كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها، كما يعلمه القرآن". أخرجه الدارمي. وأخرج بسنده من طريق القاسم بن مُخَيمِرة، عن طلحة بن فضيلة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عامِ سنةٍ: سَعِّرْ لنا يا رسول الله، قال:"لا يسألني الله عن سُنَّةٍ أحدثتها فيكم لم يأمرني بها، ولكن اسألوا الله من فضله"(3). وأخرج بسنده عن المطلب بن حنطب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئا مما أمركم الله به، إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه، إلا وقد نهيتكم عنه، وأن

(1) متفق عليه، وسيأتي للمصنّف برقم (2549).

(2)

متّفقٌ عليه.

(3)

راوه أحمد 3/ 286 والدارمي 2/ 249 وأبو داود رقم 3433 - 3434 والترمذيّ رقم 1328 ويأتي للمصنف رقم (2200) وقال الترمذيّ: حسن صحيح.

ص: 313

الروح الأمين قد نَفَثَ في رُوعِي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب" (1). قال الشافعي: وليس تَعْدُو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وضعت باختلاف من حكيتُ عنه من أهل العلم، وكل ما سَنَّ فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يَعذِر بها خلقا، ولم يجعل له من اتباع سنن نبيه مخرجا.

ثم قال البيهقي: "باب ما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والبيان أن طاعته طاعته" قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، وقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. قال الشافعي رضي الله عنه: فأعلمهم أن بيعة رسوله بيعته، وأن طاعته طاعته، فقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] قال الشافعي: -فيما بلغنا، والله تعالى أعلم- نزلت هذه الآية في رجل خاصم الزبير في أرض، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بها للزبير، وهذا القضاء سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حكم منصوص في القرآن. أخرج الشيخان عن عبد الله بن الزبير: أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شِرَاج الحَرَّة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يَمُرُّ، فأبى عليه الزبير، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتَلَوَّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا زبير اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"، فقال الزبير: والله إني لأحسب أن هذه

(1) أخرجه الحاكم، وابن حبان في "صحيحه"، وهو مرسل رجاله ثقات، وله شواهد يصحّ بها، وسيأتي للمصنف في"كتاب التجارات" برقم (2144) موصولًا من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 314

الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله (1). وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله، قال: "جاءت ملائكة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بَنَى دارًا، وجعل فيها مَأْدبَةً، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أَوِّلُوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فَرْقُ بين الناس" (2). وأخرج البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي"، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال:"من أطاعني دخل الجنة، ومن عصانى فقد أبي"(3). قال الشافعي رحمه الله: وقال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] إلى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وأخرج البيهقي عن سفيان في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَة} ، قال: يطبع الله على قلوبهم،

(1) أخرجه البخاريّ في "كتاب الجهاد" 6/ 116 ومسلم في "الإمارة" 12/ 223، وسيأتي للمصنف برقم (2895).

(2)

رواه البخاريّ في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" 13/ 249 نسخة "الفتح"، وأحمد في "مسنده" 6/ 57.

(3)

"صحيح البخاريّ" 13/ 249 نسخة "الفتح".

ص: 315

قال الشافعي: وأَمَرَهم بأخذ ما آتاهم، والانتهاء عما نهاهم عنه، فقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. أخرج الشيخان عن ابن مسعود، أنه قال: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله تعالى، فبلغ ذلك امرأة يقال لها: أم يعقوب، فجاءت، فقالت: إنه بلغني أنك قلت: كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟ قالت: بلى، قال: فإنه نهى عنه. قال الشافعي: وأبان أنه يَهدي إلى صراط مستقيم، فقال:{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. قال الشافعي: وكان فرضه على من عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده إلى يوم القيامة واحدًا في أن على كل طاعته. ثم أخرج البيهقي بسنده عن ميمون بن مِهْران في قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، قالوا: الردّ إلى الله إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا قبض إلى سنته. ثم أورد البيهقي من حديث أبي داود، عن أبي رافع قال: قال رسول الله:"لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"(1).

قال الشافعي: وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعلامهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا فيه نصا في كتاب الله. ثم أورد البيهقي حديث أبي داود أيضًا عن العرباض بن سارية، قال: نزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحبُ

خيبر رجلا مارِدًا منكرًا، فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا،

(1) حديث صحيح، سبق تخريجه.

ص: 316

وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"يا ابن عوف اركب فرسك، ثم نَادِ أن اجتمعوا للصلاة"، فاجتمعوا، فصلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قام فقال:"أيحسب أحدكم متكئا على أريكته، لا يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن، ألا إني والله قد أمرت، ووعظت، ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن، أو أكثر، وإن الله عز وجل لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم".

ثم قال البيهقي: "باب بيان بطلان ما يَحتجّ به بعضُ من رد الأخبار، من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن".

قال الشافعي: احتج عَلَيَّ بعضُ من ردّ الأخبار بما رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ما جاءكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله"(1). فقلت له: ما رَوَى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وإنما هي رواية منقطعة، عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء. قال البيهقي أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه دعا اليهود فسألهم، فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، فخطب الناس، فقال: إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني. قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي، فالحديث منقطع. وقال الشافعي: وليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين معنى ما أراد خاصا وعاما، وناسخا ومنسوخًا، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قَبِلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل. قال البيهقي: وقد رُوي الحديث من أوجه أخر كلها ضعيفة. ثم أخرج من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الأصبغ بن محمد بن أبي منصور، أنه بلغه أن رسول الله قال:

(1) سبق أنه حديث لا يثبت، بل قيل: إنه من وضع الزنادقة.

ص: 317

الحديث على ثلاث: فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله فاقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون القرآن موضعه، ولا تعرفون موضعه فلا تقبلوه، وأيما حديث بلغكم عني تَقْشَعِرُّ منه جلودكم، وتشمئزّ منه قلوبكم، وتجدون في القرآن خلافه فردوه". قال البيهقي: وهذه رواية منقطعة عن رجل مجهول. ثم أخرج بسنده من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زِرّ بن حُبيش، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها تكون بعدي رُواة يروون عنى الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فحدثوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به". قال البيهقي: قال الدارقطني: هذا وَهَمٌ، والصواب عن عاصم، عن زيد بن علي منقطعًا. قال بسنده من طريق بشر بن نمير، عن حسين بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه سيأتي ناس يحدثون عني حديثًا، فمن حدثكم حديثا يُضارع القرآن فأنا قلته، ومن حدثكم حديثا لا يضارع القرآن فلم أقله". قال، البيهقي: هذا إسناد ضعيف، لا يحتج بمثله، حسين بن عبد الله بن ضميرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وبشر بن نمير ليس بثقة. ثم أخرج بسنده من طريق صالح بن موسى، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيأتيكم مني أحاديث مختلفة، فما أتاكم! موافقا لكتاب الله وسنتي فهو مني، وما أتاكم مخالفا لكتاب الله وسنتي فليس مني". قال البيهقي: تفرد به صالح بن موسى الطلحي، وهو ضعيف، لا يحتج بحديثه. قلت:(1) ومع ذلك فالحديث لنا لا علينا، ألا ترى إلى قوله:"موافقا لكتاب الله وسنتي". ثم أخرج البيهقي من طريق يحيى بن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حُدّثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه، قلته أو لم أقله فصدقوا به، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه، فلا تصدقوا به، فإني لا أقول ما يُنكَر ولا

(1) القائل هو السيوطيّ.

ص: 318

يُعرَف". قال البيهقي: قال ابن خزيمة: في صحة هذا الحديث مقال، لم نَرَ في شرق الأرض ولا غربها أحدا يعرف خبر ابن أبي ذئب، من غير رواية يحيى بن آدم، ولا رأيت أحدا من علماء الحديث يُثبت هذا عن أبي هريرة. قال البيهقي: وهو مختلف على يحيى ابن آدم في إسناده ومتنه اختلافا كثيرا، يوجب الاضطراب، مفهم من يذكر أبا هريرة، ومنهم من لا يذكره ويرسل الحديث، ومنهم من يقول في متنه: "إذا رويتم الحديث عني فاعرضوه على كتاب إلله". وقال البخاري في "تاريخه": ذكر أبي هريرة فيه وَهَمٌ. ثم أخرج البيهقي من طريق الحارث بن نَبْهان، عن محمد بن عبد الله العرزمي، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بلغكم عني من حديث حسن لم أقله، فأنا قلته". قال البيهقي: هذا باطل، والحارث، والعرزمي متروكان (1)، وعبد الله بن سعيد عن أبي هريرة مرسل فاحش. قال: وقد رُوي عن أبي هريرة ما يضادّ بعض هذا، ثم أخرج من طريق أبي معشر السندي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الحديث من حديثي، فيقول: اتل عليّ قرآنًا، ما آتاكم من خير عني، قلته أو لم أقله فأنا أقوله، وما أتاكم عني من شر، فإني لا أقول الشر". قال البيهقي: صدر هذا الحديث موافق للأحاديث الصحيحة في قبول الأخبار، وقوله:"قلته أو لم أقله" في هذه الأحاديث ما لا يليق بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشبه المقبول. ثم أخرج من طريق عبد الرحمن ابن سلمان بن عمرو مولى المطلب، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حُدّثتم عني مما تعرفون فصدقوا، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر، وليس مني". قال البيهقي: وهذا منقطع، قال: وأمثل إسناد رُوَي في هذا المعنى ما رواه ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد، أو أبي أُسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم،

(1) وكذا عبد الله سعيد بن أبي سعيد متروك أيضًا. انظر "تقريب التهذيب" في ترجمته.

ص: 319

وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه" (1). ثم أخرج من طريق بكير، عن عبد الملك بن سعيد، عن ابن عباس بن سهل، عن أُبَيّ، قال: إذا بلغكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُعرف، وتلين له الجلود، فقد يقول النبي صلى الله عليه وسلم الخير، ولا يقول إلا الخير". قال البيهقي: قال البخاري: وهذا أصح -يعني أصح من رواية من رواه عن أبي حميد، أو أبي أسيد-. وقد رواه ابن لهيعة عن بكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد، عن القاسم بن سهيل، عن أبي بن كعب، قال ذلك بمعناه، فصار الحديث المسند معلولًا، وعلى الأحوال كلها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه قريب من العقول، موافق للأصول، لا ينكره عَقْلُ من عَقَلَ عن الله الموضعَ الذي وُضِع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دينه، وما افتُرِض على الناس من طاعته، ولا يَنفِر منه قلب من اعتقد تصديقه فيما قال، واتباعه فيما حَكَم به، وكما هو جميلٌ حسنٌ من حيث الشرع، جميل في الأخلاق، حسن عند أولي الألباب. هذا هو المراد بما عسى يصح من ألفاظ هذه الأخبار.

ثم أخرج بسنده عن ابن عباس قال: إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تجدوا تصديقه في الكتاب، أو هو حسن في أخلاق الناس، فأنا به كاذب. وأخرج عن علي: فإذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فظُنُّوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنأ، والذي هو أتقى (2). قلت (3): والمعول عليه في معنى الحديث المورد أن تثبت ما أشار إليه الإمام الشافعي مما سبق أن السنة الثابتة ليست منافرة للقرآن، بل معاضدة له،

(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 3/ 497 و5/ 425. قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 1/ 149: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وحسّنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم 732.

(2)

صحيح تقدّم للمصنّف برقم (20).

(3)

القائل السيوطيّ.

ص: 320

وإن لم يكن فيه نص صريح بلفظها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يفهم من القرآن ما لا يفهمه غيره. وقد قال لما سئل عن الحمر:"ما أُنزل فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] (1). فانظر أخذ حكمها من أين؟. وقال ابن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم: ما من شيء إلا بُيِّنَ لنا في القرآن، ولكن فهمنا يقصر عن إدراكه، فلذلك قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فانظر هذا الكلام من ابن مسعود أحد أجلاء الصحابة، وأقدمهم إسلاما. قال بعضهم: السنة شرح للقرآن. وقد ألف ابن بُرَّجَان (2) كتابا في معاضدة السنة للقرآن. أخرج الشافعي والبيهقي من طريق طاوس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه". قال الشافعي: وهذا منقطع، وكذلك صَنَعَ صلى الله عليه وسلم، وبذلك أُمِر، وافتُرض عليه أن يتبع ما أُوحى إليه، ونشهد أن قد اتبعه، وما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله في الوحي اتباع سنته، فمن قَبِل عنه فإنما قبل بفرض الله، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. قال البيهقي: وقوله: "في كتابه" -إن صحت هذه اللفظة- فإنما أراد فيما أُوحي إليه، ثم ما أُوحي إليه نوعان: أحدهما وحي يُتلَى، والآخر وحي لا يتلى. وقد احتج ابن مسعود من الآية التي احتج بها الشافعي بمثل ما احتج به في أن مَنْ قَبِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكتاب الله قبله، فإن حكمه في وجوب اتباعه حكم ما ورد به الكتاب، ثم أورد الحديث السابق في لعن الواشمات.

ثم قال البيهقي: "باب فيما ورد عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة من

(1) متّفقٌ عليه.

(2)

هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخميّ الإشبيليّ، أبو الحكم، متصوّف، من مشاهير الصالحين، له كتاب في التفسير، وشرح أسماء الله الحسنى. توفي بمراكش سنة (536 هـ). انظر "فوات الوفيات" 1/ 274.

ص: 321

الرجوع إلى خبره".

أخرج فيه عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدّة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه لتسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما أعلم لك في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال، فأنفذه لها أبو بكر (1). وأخرج عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابيّ من ديته، فرجع إليه عمر (2). أخرجه أبو داود. وأخرج عن طاوس أن عمر قال: أُذَكِّرُ الله امرءا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئًا، فقام حَمَلُ بن مالك بن النابغة قال: كنت بين جارتين لي -يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغُرّة، فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، إن كِدْنَا نقضي فيه برأينا (3). وقال البيهقي: قال الشافعي: قد رجع عمر عما كان يقضي فيه بحديث الضحاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لقضى بغيره، وقال: إن كدنا نقضي فيه برأينا. وأخرج الشيخان من طريق ابن شهاب، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أن عمر خرج إلى الشام، فلما جاء سَرْغَ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه،

(1) أخرجه الترمذيّ رقم (2983) وقال: حسن صحيح، قلت: الإسناد صحيح، إلا أنه مرسل؛ لأن قبيصة بن ذؤيب لا يصح سماعه من الصديق، ولا يمكن شهوده القصّة.

وضعفه الشيخ الألباني في "الإرواء" رقم (1680).

(2)

صحيح رواه أبو داود، والترمذيّ، وسيأتي للمصنف في "كتاب الديات" رقم (2642).

(3)

صحيح، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وسيأتي للمصنّف برقم (2641).

ص: 322

وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا"، فرجع عمر من سرغ. قال ابن شهاب: وأخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن عمر إنما انصرف بالناس من حديث عبد الرحمن ابن عوف. وأخرج البخاري عن عائشة قالت: لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وأخرج البيهقي عن زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفُريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها، أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله، أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبُد له أَبَقُوا، حتى إذا كان بطرف الْقَدُوم (1) لَحِقَهم، فقتلوه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليّ، فسألني عن ذلك، فأخبرته فاتبعه، وقضى به (2). وأخرج عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته، وأنه حدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد موقن يذنب ذنبًا، فيتطهر، فيحسن الطهور، ويستغفر الله إلا غفر له". أخرجه أحمد (3).

وأخرج الشيخان عن ابن عباس أن زيد بن ثابت قال له: أتفتي أن تَصدُر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: إما لا فسأل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت. قال الشافعي: فسمع زيد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أفتى ابن عباس بالصدر

(1) بفتح القاف، وتخفيف الدال المهملة: اسم موضع على ستة أميال من المدينة.

(2)

صحيح، رواه أبو داود 2283 والترمذيّ 1216 وقال: حسن صحيح، وسيأتي للمصنّف برقم 2031.

(3)

حديث حسنٌ، رواه أحمد 1/ 10. والترمذي رقم (1395) وقال: عحسن.

ص: 323

أنكره عليه، فلما أُخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه حقّا أن يرجع عن خلاف ابن عباس.

وأخرج الشيخان عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا الْبِكَالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى بني إسرائيل، فقال: كَذَبَ عَدُوُّ الله، أخبرني أُبَيّ ابن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث موسى والخضر. قال الشافعي: ابن عباس مع فقهه وورعه كَذَّب امرأً من المسلمين، ونسبه إلى عداوة الله لما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلاف قوله. وأخرج البيهقي والحاكم عن هشام بن جبير قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اترُكهما، فقال: ما أَدَعُهما، فقال ابن عباس: فإنه قد نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر، ولا أدري أتعذب أم تؤجر؟؛ لأنَّ الله قال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36]. قال الشافعي: فَرَأيَ ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودَلَّه بتلاوة كتاب الله عز وجل على أن فرضا عليه أن لا يكون له الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمرًا. وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: كنا نُخَابِر، ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك. قال الشافعي: فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابرة، ويراها حلالًا، ولم يتوسع إذ أخبره الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عنها أن يخابر بعد خبره. وأخرج البيهقي عن عطاء بن يسار، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مثل هذا، إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أُخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبرني عن رأيه، لا أُساكنك بأرض أنت بها (1). قال الشافعي: فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، فلما لم ير معاويةُ ذلك فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها؛ إعظامًا؛ لأنه ترك خبر ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: وأُخْبِرنا أن أبا سعيد الخدري لقي رجلًا، فأخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فخالفه، فقال أبو سعيد: والله لا

(1) صحيح، أخرجه النسائيّ 2/ 322 مختصرًا.

ص: 324

آواني وإياك سقف بيت أبدًا. قال الشافعي: فرأى أن ضيقًا على المخبر أن لا يقبل خبره.

وأخرج الشيخان عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تمنعوا النساء بالليل من المساجد"، فقال بعض بني عبد الله بن عمر: والله لا نَدَعُهُنّ يتخذنه دَغَلًا، فضرب ابن عمر صدره، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول ما تقول (1). وأخرج الشيخان عن عبد الله بن بريدة، أن عبد الله بن مغفل، رأى رجلًا يَخْذِف فنهاه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال:"إنه لا يرد الصيد، ولا ينكأ العدو، ولكنه قد يكسر السن، ويفقأ العين"، قال: فرآه بعد ذلك يخذف، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تخذف، والله لا أكلمك أبدًا (2). وأخرج الشيخان عن عمران بن حصين أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء خير كله"، فقال بُشَير بن كعب: إنا نجد في بعض الكتاب أن منه سكينة ووقارًا، ومنه ضعفًا، فغضب عمران بن حصين حتى احمرت عيناه، وقال: أُحَدِّثُك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعارض فيه، وفي رواية: وتحدثني عن صُحُفك. وأخرج البيهقي والحاكم عن الحسن قال: بينما عمران بن الحصين يحدث عن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ قال له رجل: يا أبا نُجيد، حَدِّثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك تقرءون القرآن، أكنت تحدثني عن الصلاة وما فيها وحدودها، أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال، ولكن قد شهدتُ، وغبت أنت، ثم قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني أحياك الله، قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين (3). قال الشافعي: ولا أعلم من الصحابة، ولا من التابعين أحدًا أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قُبِل خبره، وانتُهِيَ إليه، وأُثبت ذلك سنة. ثم أخرج عن سالم بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب نَهَى عن الطيب قبل زيارة البيت، وبعد الجمرة، قال سالم: فقالت عائشة: طَيَّبْتُ رسولَ الله

(1) متّفقٌ عليه، وتقدّم للمصنف برقم (16).

(2)

متّفق عليه، وتقدّم للمصنف برقم (17).

(3)

أخرجه الحاكم في "مستدركه" 1/ 109، وصححه.

ص: 325

-صلى الله عليه وسلم بيدي لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ. قال الشافعي: فترك سالم قول جدّه عمر في إمامته، وعَمِل بخبر عائشة، وأعلم من حدّثه أنه سنة، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ، وذلك الذي يجب عليه. قال الشافعي: وصنع ذلك الذين بعد التابعين، والذين لقيناهم كلهم يُثبت الأخبار، ويجعلها سنةً، يُحمَد من تبعها، ويعاب من خالفها، فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم إلي اليوم، وكان من أهل الجهالة. انتهى.

قلت (1): هذا الذي سقته من أول الكتاب إلى هنا كله تحرير الإمام الشافعي رضي الله عنه كلامًا واستدلالًا بالأحاديث، ولقد أتقنه رضي الله عنه وأطنب فيه؛ لداعية الحاجة إليه في زمنه، لما كان يناظره من الزنادقة والرافضة الرادين للأخبار، ونقله البيهقي في كتابه، فزاده محاسن كما تقدم بيانه، وبقيت آثار ذكرها البيهقي مفرقة في كتابه، فها أنا أذكرها، ثم أزيد عليها بما لم يقع في كلامه، ولا في كلام الشافعي رضي الله عنه.

وأخرج البيهقي بسنده عن أيوب السختياني قال: إذأ حَدَّثْتَ الرجل بسنة، فقال: دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن، فاعلم أنه ضال. قال الأوزاعي: وذلك أن السنة جاءت قاضية على الكتاب، ولم يجئ الكتاب قاضيا على السنة.

وأخرج عن أيوب قال: قال رجل عند مُطَرِّف بن عبد الله: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال مطرف: إنا والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا. وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عليا وعثمان بين مكة والمدينة، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يُجمَعَ بينهما، فلما رأى ذلك عليٌّ أَهَلَّ بهما جميعا، فقال: لبيك بحجة وعمرة معًا، فقال عثمان: تراني أنهي الناس عن شيء، وأنت تفعله؟ فمّال: ما كنت لأدع سنة رسول الله لقول أحد من الناس. وأخرج مسلم عن سليمان بن يسار، أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف تذاكروا المتوفى عنها

(1) القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى.

ص: 326

الحامل تضع عند وفاة زوجها، فقال ابن عباس: تعتدُّ آخر الأجلين، وقال أبو سلمة: بل تَحِلُّ حين تضع، قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: قد وضعت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بيسير، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تتزوج. وأخرج البيهقي عن البراء قال: ليس كلنا كان يسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضَيْعَةٌ وأشغال، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون، فيحدث الشاهد الغائب. وأخرج عن قتادة أن إنسانا حدث بحديث، فقال له رجل: أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، أو حَدَّثني من لم يكذب والله، ما كنا نكذب، ولا كنا ندري ما الكذب؟ (1). وأخرج من طريق مالك أن رجاء حدثه، أن عبد الله بن عمر كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثاره، وحاله، ويهتم به حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك. وأخرج عن الحسن، عن سمرة قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة السورة، فكتب عمران بن حصين في ذلك إلى أُبيّ بن كعب، فكتب يُصَدِّق سمرة، ويقول: إن سمرة حفظ الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وأخرج عن محمد بن سيرين أن ابن عباس لمّا أمر بزكاة الفطر، أنكر الناس ذلك عليه، فأرسل إلى سمرة، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر بها؟ فقال: بلى، قال: فما منعك أن تعلم أهل البلد؟. قال البيهقي: فابن عباس عاتب سمرة على ترك إعلام أهل البلد، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر. وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بَلِّغُوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عني ولا تكذبوا علي، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وأخرج البيهقي عن ابن المبارك قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة،

(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 127، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ.

(2)

أخرجه أحمد في 5/ 7 و 15 و 20و23 والترمذيّ، وقال: حسنٌ، وسيأتي للمصنّف، برقم (844).

ص: 327

فقال: إني سمعت هذه الكتب -يعني الرأي- فمن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: فممن كان عدلا في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: ومن أتى السلطان طائعًا، حتى انقادت له العامة، فهذا لا ينبغي أن يكون من أئمة المسلمين. قلت (1) هذا الكلام من الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الشيعة وِفَاق ما قدمته في الخطبة. وأخرج البيهقي عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة. وأخرج عن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أسمعه منه، فابتعت بعيرًا، فشددت عليه رحلي، ثم سِرْت إليه شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري، فأتيته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه، فخشيت أن أموت، أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُحشَر الناس عراة غُرْلًا بُهْمًا"، قلنا: وما البهم؟ قال: "ليس معهم شيء، فيناديهم نداء يَسمَعُهُ من بَعُدَ كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة"، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة غُرْلًا بُهْمًا؟، قال:"بالحسنات والسيئات". أخرجه أحمد والطبراني (2). وأخرج البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه منه غيره، فلما قَدِمَ أتى منزل مسلمة بن مُخَلَّد الأنصاري، وهو أمير مصر، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟، قال: حديث سمعتَهُ من رسول

(1) القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى.

(2)

صحيح، رواه أحمد 1/ 229 وابن حبان في "صحيحه" 9211 - 212. وأورده الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7899).

ص: 328

الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن، فقال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من ستر مؤمنا في الدنيا على كربته، ستره الله يوم القيامة". ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلا المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة إلا بعَرِيش مصر (1). وأخرج الشيخان من طريق صالح بن حي، قال: كنت عند الشعبي، فقال له رجل من أهل خرسان: إنا نقول بخرسان: إن الرجل إذا أعتق أم ولده، ثم تزوجها فهو كالذي يُهدِي البدنة ثم يركبها، قال الشعبي: أخبرني أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل كانت له أمة فعلمها، فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، وأعتقها فتزوجها، فله أجران، والعبد يؤدي حق الله وحق سيده، وهو من أهل الكتاب"(2)، ثم قال الشعبي للرجل: قد أعطيناكها بغير شيء، وقد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة. وأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: إن كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد. وأخرج عن الزهري قال: قيل لعروة ابن الزبير في قصة ذكرها: كذبت، قال عروة: ما كذبت، ولا أكذب، وإن أكذب الكاذبين لمن كَذّب الصادقين. وأخرج عن عثمان بن نُفيل قال: قلت لأحمد بن حنبل:

(1) صحيح، أخرجه أحمد 4/ 159 وأصل الحديث دون القصّة، متّفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي للمصنف برقم (221) و (كتاب الحدود)(2534) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

هكذا نصّ الرسالة، وفيه نقصٌ، ونصّ البخاريّ في "كتاب العلم" من "صحيحه": 95 - أخبرنا محمد، هو ابن سلام، حدثنا المحاربي، قال: حدثنا صالح بن حيان، قال: قال عامر الشعبي: حدثني أبو بردة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران"، ثم قال عامر: أعطيناكها بغير شيء، قد كان يُركب فيما دونها إلى المدينة.

ص: 329

إن فلانا يتكلم في وكيع، وعيسى بن يونس، وابن المبارك، فقال: من كَذّب أهل الصدق فهو الكذاب. وأخرج مسلم عن ابن سيرين قال: لقد أتى على الناس زمان، وما يُسأل عن إسناد حديث، فلما وقعت الفتنة، سئل عن إسناد الحديث، فنُظر من كان من أهل السنة أُخذ من حديثه، ومن كان من أهل البدع تُرك حديثه. وأخرج البيهقي عن مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر من بعده سننا الآخذ بها تصديق كتاب الله، واستكثار لطاعة الله، وقوة على دين الله، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، والله تعالى يقول:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وأخرج بسنده عن المزنى، أو الربيع قال: كنا يوما عند الشافعي، إذ جاء شيخ عليه جبة صوف، وعمامة صوف، وأزرار صوف، وفي يده عُكّاز، فقام الشافعي، وسَوّى عليه ثيابه، واستوى جالسًا، وسلم الشيخ، وجلس، وأخذ الشافعي ينظر إلى الشيخ هيبة له، إذ قال له للشيخ: سل، قال: إيش الحجة في دين الله؟ قال: كتاب الله، قال: وماذا؟ قال: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله؟، قال: فتدبر الشافعي ساعة، فقال للشافعي: قد أجلتك ثلاثة أيام ولياليها، فإن جئت بحجة من كتاب الله في الاتفاق، وإلا تب إلى الله، فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب، فلم يخرج إلا بعد ثلاثة أيام ولياليهن، قال: فخرج إلينا من اليوم الثالث، وقد انتفخ وجهه ويداه ورجلاه، وهو مِسْتقَام، فجلس، فلم يكن بأسرع، إذ جاء الشيخ، وسلم وجلس، فقال: حاجتي، فقال الشافعي: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، لا يُصلِيه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض، فقال: صدقت، وقام فذهب، فلما ذهب الرجل، قال الشافعي: قرأت القرآن كل يوم وليلة ثلاث مرات،

ص: 330

حتى وقعت عليه.

وأخرج البيهقي والدارمي عن معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال لي:"كيف تقضي إن عرض عليك قضاء؟ "، قلت: أقضى بما في كتاب الله، قال:"فإن لم يكن في كتاب الله؟ "، قلت: أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم يكن قضى به الرسول؟ "، قلت: أجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب صدري، وقال:"الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله؟ "، لِمَا يُرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأخرجا أيضا والحاكم عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن عباس إذا سئل عن الشيء، فإذا كان في كتاب الله قال به، فإن لم يكن في كتاب الله، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال به، وإن لم يكن في كتاب كتاب الله، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر وعمر قال به، وإن لم يكن في كتاب الله، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه. وأخرج البيهقي عن مالك قال: قال ربيعة: أنزل الله كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك فيه موضعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا، وترك فيها موضعا للرأي. وأخرج عن مسروق قال: قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه تُرَدُّ الناس. من الجهالات إلى السنة. وأخرج الشيخان (1) يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وقد أَمِنَ الناسُ، فقال عمر: عَجِبتُ مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"صدقةٌ تصدّق بها الله عليكم، فاقبلوا صدقته".

قال العلماء: فَهِمُوا من الآية أنه إذا عُدِم الخوف كان الأمر في القصر بخلافه، حتى أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة في الحالين معًا. "وأخرج البيهقي عن أمية بن عبد الله ابن خالد، أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر، وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال ابن عمر: يا ابن أخي، إن الله بعث

(1) فيه نظر، فإنه مما أخرجه أخرجه مسلم 5/ 196 في "كتاب صلاة المسافرين"، وأما عزوه إلى البخاريّ، فلا أظنّه صحيحًا.

ص: 331

إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم شيئًا، فإنما نفعل كما رأينا محمدًا صلى الله عليه وسلم يفعل. وأخرج البيهقي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحاديثي ينسخ بعضها بعضا، كنسخ القرآن بعضه بعضًا"(1). وأخرج عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول القول، ثم يلبث حينا، ثم ينسخه بقول آخر كما ينسخ القرآن بعضه بعضًا (2). وأخرج عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. أخرجه سعيد بن منصور. وأخرج عن يحيى بن أبي كثير قال: السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب قاضيًا على السنة. أخرجه الدارمي، وسعيد بن منصور، قال البيهقي: ومعنى ذلك أن السنة مع الكتاب أقيمت مقام البيان عن الله، كما قال الله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، لا أن شيئًا من السنن يخالف الكتاب.

قلت (3): والحاصل أن معنى احتياج القرآن إلى السنة أنها مبينة له، ومُفَصِّلة لمجملاته؛ لأن فيه لِوَجَازته كنوزًا تحتاج إلى من يَعرِف خفايا خباياها فيبرزها، وذلك هو المُنْزَل عليه صلى الله عليه وسلم، وهو معنى كون السنة قاضية عليه، وليس القرآن مبينا للسنة، ولا قاضيا عليها؛ لأنها بَيِّنَةٌ بنفسها، إذ لم تصل إلى حَدّ القرآن في الإعجاز والإيجاز؛ لأنها شرح له، وشأن الشرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح. والله أعلم.

وأخرج البيهقي عن هشام بن يحيى المخزومي، أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب، فسأل عن امرأة حاضت، وقد كانت زارت البيت، ألها أن تَنْفِر قبل أن تطهر؟ فقال: لا، فقال له الثقفي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أَفْتَيتَ، فقام إليه عمر، فضربه بالدِّرَّة، ويقول: لم تستفتوني في شيء أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن ابن خزيمة قال: ليس لأحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر. وأخرج عن يحيى

(1) موضوع، أخرجه الدارقطنيّ في "سننه" 4/ 145 وهو مسلسل بالمتروكين.

(2)

في سنده ابن لهيعة، وفيه مقال مشهور.

(3)

القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى.

ص: 332

ابن آدم قال: لا يُحتاج مع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد، إنما كان يقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر؛ ليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عليها. وأخرج عن مجاهد قال: ليسن أحد إلا يؤخذ من قوله ويُترك من قوله إلا النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن ابن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم. وأخرج مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القرآن سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرةً". وأخرج عن أبي البحتري قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخبرنا عن ابن مسعود، قال: عَلِمَ القرآن والسنة، ثم انتهى، وكفى به علمًا. وأخرج عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة منّي ماضية، فإن لم يكن سنة منّي فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة"(1). وأخرج عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مرّ على قاصّ يقصّ (2)، قال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال علي: هلكت وأهلكت. وأخرج مثله عن ابن عباس. قال البيهقي: قال الشافعي: ولا يُستدَلّ على الناسخ والمنسوخ في القرآن إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر، فيعلم أن الآخر هو الناسخ، أو بقول من سمع الحديث أو الإجماع. قال: وأكثر الناسخ في كتاب الله إنما عُرف بدلالة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن ابن المبارك أنه قيل له: متى يُفتي الرجل؟ فقال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرًا بالرأي. وأخرج عن جُندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم:

(1) موضوع، أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب المسند" 1/ 86 وذكره الديلمي في "الفردوس" 6497 وأورده الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم 61.

(2)

ووقع في بعض النسخ "على قاض يقضي" بالضاد، ولعل الصواب بالصاد.

ص: 333

"من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"(1). وأخرج عن إبراهيم التيمي قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة، وكتابها واحد، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن، فقرأناه، وعلمناه فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن، ولا يعرفون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(2).

قلت (3): فعرف من هذا وجوب احتياج الناظر في القرآن إلى معرفة أسباب نزوله، وأسباب النزول إنما تؤخذ من الأحاديث. والله أعلم.

وأخرج البيهقي والدارمي عن الشعبي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى شُريح: إذا حضرك أمر لا بد منه، فانظر ما في كتاب الله فاقض به، فإن لم يكن فبما قضى به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون، وأئمة العدل، فإن لم يكن فاجتهد رأيك (4). وأخرجا أيضا عن ابن مسعود أنه قال: من ابتلى منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فليقض بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فليجتهد رأيه. وأخرجا أيضا عن ابن عباس قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله،

(1) ضعيف أخرجه أبو داود رقم 3635. والترمذيّ رقم 4024 وقال: حديث غريب.

انظر "ضعيف الجامع" للشيخ الألبانيّ رقم 5748.

(2)

منقطعٌ؛ لأن إبراهيم التيميّ لم يلق عمر، ولا سمع من ابن عباس رضي الله تعالى عنهم. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 1/ 92.

(3)

القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى.

(4)

منقطع؛ لأن الشعبيّ لم يدرك عمر رضي الله عنه؛ لأنه وُلد على الأصحّ لست سنين خلت من خلافته، وقيل:(19) وقيل: (20) وقيل: (31). انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 265.

ص: 334

ولم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"(1). وأخرج البيهقي واللالكائي في "السنة" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. وأخرج البخاري عن أبي وائل قال: لما قدم سهل بن حُنيف من صِفِّين أتيناه لنستخبره، فقال: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا في أمر يُفظعنا إلا سهل بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما سددنا عنه خُصْمًا إلا انفجر علينا خُصْمٌ، ما ندري كيف نأتي إليه؟. وأخرج البيهقي وأبو يعلى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أردُّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادًا، فو الله ما آلوا عن الحق، وذلك يوم أبي جندل، والكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، فقال:"اكتبوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، فقالوا: ترانا قد صدقناك بما تقول، ولكنك تكتب كما كنت تكتب:"باسمك اللهم"، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبيت عليهم حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تراني أرضي، وتأبى أنت، فرضيت". وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما. وأخرج عن ابن عمر قال: لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر. وأخرج عن عروة قال: اتباع السنن قوام الدين. وأخرج عن عامر قال: إنما هلكتم في حين تركتم الآثار. وأخرج عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: ما دام على الأثر فهو على الطريق. وأخرج عن شُريح قال: أنا أقتفي الأثر، يعني آثار النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن الأوزاعي قال: إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول

(1) ضعّفه الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في "جامع العلوم والحكم"، من أجل نعيم بن حمّاد، وقد تقدّم تحقيقه.

ص: 335

الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغا عن الله تعالى. وأخرج عن سفيان الثوري قال: إنما العلم كله العلم بالآثار. وأخرج عن عثمان بن عمر قال: جاء رجل إلى مالك، فسأله في مسألة، فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت، فقال مالك:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وأخرج عن ابن وهب قال: قال مالك: لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم: لم قلت هذا، كانوا يكتفون بالرواية، ويرضون بها. وأخرج عن إسحاق بن عيسى قال: سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نردّ ما جاء به جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن ابن المبارك قال: لِيَكُن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث.

وأخرج عن يحيى بن ضريس قال: شهدت سفيان، وأتاه رجل فقال: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قد سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وابن المسيب، وعدّد رجالًا، فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا. وأخرج عن الربيع قال: روى الشافعي يوما حديثًا، فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله، فقال: متى ما رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحًا، فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وأخرج عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودَعُوا ما قلت. وأخرج عن مجاهد في قوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} [النساء: 59] قال: إلى كتاب الله {وَالرَّسُولِ} قال: إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج البيهقي والدارمي عن أبي ذر قال: أَمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نُغلَب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن. وأخرج عن عمر ابن الخطاب قال: تعلموا السنن والفرائض واللحن، كما تعلمون القرآن.

ص: 336

وأخرج عن ابن مسعود أنه قال: أيها الناس عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، فإن من رفعه أن يُقبض أصحابه، وإياكم والتبدُّع والتنطع، وعليكم بالعتيق، فإنه سيكون في آخر هذه الأمة أقوام يزعمون أنهم يَدْعُون إلى كتاب الله، وقد تركوه وراء ظهورهم. أخرجه الدارمي. وأخرج عن سليمان التيمي قال: كنت أنا وأبو عثمان، وأبو نضرة، وأبو مجلز، وخالد الأشج نتذاكر الحديث والسنة، فقال بعضهم: لو قرأنا سورة من القرآن كان أفضل، فقال أبو نضرة: كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: مذاكرة الحديث أفضل من قراءة القرآن. قلت: وهذا كما قال الشافعي رضي الله عنه: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة؛ لأن قراءة القرآن نافلة، وحفظ الحديث فرض كفاية. والله أعلم. وأخرج عن سفيان الثوري قال: لا أعلم شيئا من الأعمال أفضل من طلب الحديث لمن حسنت فيه نيته. وأخرج عن ابن المبارك قال: ما أعلم شيئا أفضل من طلب الحديث لمن أراد به الله عز وجل. وأخرج عن خالد بن يزيد قال: حرمة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كحرمة كتاب الله.

قال البيهقي: وإنما أراد في معرفة حقها وتعظيم حرمتها وفرض اتباعها. وأخرج عن الشافعي قال: كلما رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأنما رأيت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن إسماعيل بن أبي أويس قال: كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسَرّح لحيته، وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة وحَدَّث، فقيل له في ذلك: فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث إلا على طهارة متمكنًا، وكان يكره أن يحدث في الطريق، أو وهو قائم، أو مستعجل، وقال أُحِبّ أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج عن مالك أن رجلا جاء إلى سعيد بن المسيب، وهو مريض فسأله عن حديث، وهو مضطجع، فجلس فحدثه، فقال له الرجل: وددت أنك لم تتعنّ، فقال له: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مضطجع. وأخرج عن الأعمش، أنه

ص: 337

كان إذا أراد أن يحدث على غير طهر تيمم. وقال الأعمش عن ضرار بن مرة قال: كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير طهر. وأخرج عن قتادة قال: لقد كان يستحب أن لا نقرأ الأحاديث التي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة. وأخرج عن بشر بن الحارث قال: سأل رجل ابن المبارك عن حديث، وهو يمشي، فقال: ليس هذا من توقير العلم. وأخرج عن ابن المبارك قال: كنت عند مالك، وهو يحدث، فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرة، ومالك يتغير لونه، ويتصبر ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من المجلس، وتفرق الناس، قلت له: لقد رأيت منك عجبًا قال: نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الرضى والغضب، قال: فأمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده، ما خرج منه إلا حق"، وأشار بيده إلى فمه. أخرجه الدارمي والحاكم (1). وأخرج عن أبي هريرة أن رجلًا من الأنصار شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أسمع منك الحديث، ولا أحفظه، فقال:"استعن بيمينك"، وأومأ بيده للخط. أخرجه الترمذي (2). وأخرج البيهقي والدارمي عن عبد الله بن دينار، أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية فاكتبه، فإني قد خفت درس العلم وذهاب أهله. وأخرجا أيضا عن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة.

قال السيوطيّ رحمه الله تعالى: هذا ما لخصته من كتاب البيهقي من الأحاديث

(1) صحيح، أخرجه أبو داود رقم 3629 والحاكم 1/ 106 والدارميّ 1/ 125.

(2)

ضعيف، أخرجه الترمذيّ رقم 3803.

ص: 338

والآثار الدالة على وجوب الاعتصام بالسنة، وفرض اتباعها، وهذه أحاديث، وآثار لم تقع في كتابه: أخرج الشيخان عن أنس وابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني". "وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم خلفائي"، قلنا: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي، يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس" (1). وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدى إلى أمتي حديثا تقام به سنة، أو تثلم به بدعة، فله الجنة"(2). وأخرج أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليّ متعمدًا، أو ردّ شيئا أمرت به، فليتبوأ بيتا في جهنم". وأخرج أحمد والبزار والطبراني عن زيد بن أرقم قال: بعث إليَّ عبيد الله بن زياد، فأتيته فقال: ما أحاديث تحدث بها، وترويها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نجدها في كتاب الله؟، تحدث أن له حوضا في الجنة، قال: قد حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدناه، وأخرج الطبراني في الكبير عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ بيتا في النار، ومن رد حديثا بلغه عني فأنا مخاصمه يوم القيامة، فإذا بلغكم عني حديث فلم تعرفوه، فقولوا: الله أعلم". وأخرج في "الأوسط" عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بلغه عني حديث، فكذّبه فقد كذّب ثلاثًا: الله، ورسوله، والذي حدث به". وأخرج أبو يعلى والطبراني في"الأوسط" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بلغه

(1) أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد": وفيه أحمد بن عيسى الهاشميّ، قال الدارقطنيّ: كذّاب. وأورده الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (1269) وقال: موضوع.

(2)

في سنده عبد الرحمن بن حبيب، قال الذهبي: متّهم بالوضع، وإسماعيل بن يحيى، قال الذهبيّ: كذاب. وأورده الشيخ اللألباني في "ضعيف الجامع" رقم (5372)، وحكم عليه بالوضع.

ص: 339

عن الله فضيلة فلم يصدق بها لم ينلها" (1). وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عسى أن يكذبني رجل منكم، وهو متكئ على أريكته، يبلغه الحديث عني، فيقول: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، دَعْ هذا، وهات ما في القرآن". هذه طريقة خامسة للحديث، فقد تقدم من حديث أبي رافع، والمقدام، والعرباض بن سارية، وأبي هريرة.

وله طريق سادسة، أخرج الطبراني في "الكبير" عن خالد بن الوليد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد أَذِّن في الناس الصلاة"، ثم خرج، فصلى الهاجرة، ثم قام في الناس فقال:"ما أُحِلّ أموال المعاهدين بغير حقها، يمسي الرجل منكم يقول: وهو متكئ على أريكته: ما وجدنا في كتاب الله من حلال أحللناه، وما وجدنا من حرام حرمناه، ألا وأني أحرم عليكم أموال المعاهدين بغير حقها".

وطريق سابعة، أخرج السلفي في "المنتفي" من حديث أبي طاهر الحنائي، من طريق حماد بن زيد، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمسي رجل يكذبني، وهو متكئ يقول: ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وأخرج الطبراني عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، أنه كان في مجلس قومه، وهو يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقبل على بعض يتحدثون، فغضب، ثم قال: انظر إليهم، أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقبل على بعض، أما والله لأخرجن من بين أظهركم، ولا أرجع إليكم أبدًا، قلت: له أين تذهب؟ قال: أذهب فأجاهد في سبيل الله. وأخرج أبو يعلى بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير ما يعلم، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار". وأخرج الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مشى إلى سلطان الله في الأرض

(1) ضعيف، بل قال الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (5504): موضوع.

(2)

في سنده أبو هارون العبديّ، واسمه عمارة بن جُوَين، شيعيّ متروك، ومنهم من كذّبه.

ص: 340

ليذله، أذل الله رقبته، مع ما يدخر له في الآخرة" (1).

قال مسدد: وسلطان الله في الأرض كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأخرج في "الأوسط" عن ابن عمر قال: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري. وأخرج أيضا عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاث: درهم حلال، أو أخ يستأنس به، أو سنة يُعمَل بها. وأخرج أحمد عن عمران بن حصين قال: نزل القرآن، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن، ثم قال: اتبعونا، فوالله إن لم تفعلوا تضلوا. وأخرج أحمد والبزار عن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر في سفر، فمرّ بمكان، فحاد عنه، فسئل لم فعلت؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت.

وأخرج أحمد عن أنس بن سيرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات، فلما أفاض أفضت معه، حتى انتهى إلى الضيق، دون المأزمين، فأناخ فأنخنا، ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته. وأخرج البزار عن ابن عمر، أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة، فيقيل تحتها، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. وأخرج هو وأبو يعلى عن زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر محلول الأزرار، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم محلول الأزرار. وأخرج الطبراني في "الكبير" عن عمرو بن شعواء اليافعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة لعنتهم، وكلُّ نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله،

(1) رواه الطبراني في "الكبير" رقم (11534). وفي سنده حسين بن قيس أبو عليّ الرحبيّ، ضعفه البخاريّ، وأحمد، وجماعة. وأورده الألباني في "صحيح الجامع" 2/ 1054 بلفظ:"من أهان سلطان الله في الأرض أهان الله". وقال: رواه الترمذيّ، والإمام أحمد، والطبرانيّ في "الصغير"، ثم قال: حديث حسن.

ص: 341

والتارك لسنتي، والمستأثر بألفيء، والمتجبر بسلطانه ليعز ما أذل الله، ويذل ما أعز الله" (1). وأخرج في "الكبير" عن ابن عباس قال: قال علي يا رسول الله، أرأيت إن عَرَض لنا أمر لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه سنة منك؟ قال:"تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين، ولا تقضونه برأي خاصة". وأخرج في "الأوسط" بسند صحيح عن علي رضي الله عنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي، فما تأمرنا؟ فقال:"تشاورون الفقهاء والعابدين، ولا تجعلونه برأي خاصة"(2).

وأخرج في "الأوسط" عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر ما أتخوف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن، يضعه على غير مواضعه"(3). وأخرج أحمد والطبراني عن غُضيف بن الحرث الثمالي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رُفع مثلها من السنة"(4).

وأخرج البخاري في "تاريخه"، والطبراني عن ابن عباس قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن (5). وأخرج عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مشى إلى صاحب بدعة ليوقره، فقد

(1) أخرجه الترمذيّ في "القدر" 2/ 22 - 23 والحاكم في "المستدرك" 1/ 36 وقال: صحيح الإسناد، ولا أعرف له علّة، ووافقه الذهبيّ، وأعلّه الترمذيّ بالإرسال، وقال: إنه أصحّ.

(2)

أورده الألباني في "السلسلة الضعيفة" 1/ 286 وقال: حديث معضل؛ لأن أبا سلمة، واسمه سليمان بن سليم الكلبي الشاميّ من أتباع التابعين، وقد رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(3)

قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 187: فيه إسماعيل بن قيس الأنصاريّ، وهو متروك الحديث.

(4)

رواه أحمد في "مسنده" 4/ 105 قال الحافظ الهيثمي في "المجمع" 1/ 188: فيه أبو بكر ابن عبد الله بن أبي مريم، وهو من منكر الحديث.

(5)

قال في "مجمع الزوائد" 1/ 188: موقوف على ابن عباس، رواه الطبراني في "الكبير"، ورجاله موثوقون.

ص: 342

أعان على هدم الإسلام" (1). وأخرج عن الحكم بن عمير الثمالي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأمر المفظع، والحمل المضلع، والشر الذي لا ينقطع، إظهار البدع" (2). وأخرج في "الصغير" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة"، قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"(3). وأخرج الحاكم من حديث ابن عمرو مثله. وأخرج الدارمي في "مسنده" عن عبد الله بن الديلمي قال: بلغني أن أول الدين تركًا السنةُ. وأخرج ابن مسعود أنه قال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله، نعلمه أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرناكم به، ولا طاقة لنا بما أخذتم". وأخرج عن أبي سلمة مرسلًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمر يحدث، ليس في كتاب الله، ولا سنته؟ قال:"ينظر فيه العابدون من المؤمنين". قال: وأخرج الدارمي واللالكائي في "السنة" عن عمر بن الخطاب قال: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. وأخرج اللالكائي "السنة" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سيأتي قوم يجادلونكم، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. وأخرج ابن سعد في "الطبقات" من طريق عكرمة، عن ابن عباس، أن علي بن أبي طالب أرسله إلى الخوارج، فقال: أذهب إليهم، فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة. وأخرج من وجه آخر أن ابن عباس قال: يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكن القرآن حَمّال ذو وجوه، نقول ويقولون، ولكن حاجِّهِم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا، فخرج إليهم فحاجهم

(1) قال في "المجمع": فيه بقيّة، وهو ضعيف.

(2)

قال في "المجمع": فيه بقية ضعيف. وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة"(756): ضعيف جدًّا.

(3)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 332 والترمذيّ (2778) وقال: حسن صحيح.

ص: 343

بالسنن، فلم يبق بأيديهم حجة. وأخرج سعيد بن منصور عن عمران بن حصين، أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا، وجيؤنا بكتاب الله، فقال عمر: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرةً، أتجد في كتاب الله الصيام مفسرًا، إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره. وأخرج الدارمي عن المسيب بن رافع قال: كانوا إذا نزلت بهم القضية التي ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا، فالحق فيما رأوا.

وأخرج الدارمي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رضي الله عنه، إذا ورد عليه الخصم، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج، فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء، فربما اجتمع إليه النفر كلهم، يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا ديننا. وأخرج عن أبي نضرة قال: لمّا قَدِم أبو سلمة البصرة أتيته أنا والحسن، فقال للحسن: أنت الحسن بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تُفْتِ برأيك إلا أن تكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كتاب منزل. وأخرج عن جابر بن زيد، أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تفت إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت. وأخرج عن شُريح قال: إنك لن تضل ما أخذت بالأثر. وأخرج عن الحسن قال: إن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي الذين لم يذهبوا مع أهل الأتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم. وأخرج عن ابن مسعود قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة. أخرجه الحاكم. وأخرج الدارمي عن عطاء في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قال: أولو العلم والفقه، فطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة.

ص: 344

وأخرج عن أبي هريرة قال: إني لأُجَزِّئ الليل ثلاثة أجزاء: ثلث أنام، وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأخرج عن ابن عباس قال: أما تخافون أن تُعَذَّبوا، ويُخْسَف بكم أن تقولوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فلان. وأخرج عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: لا رأي لأحد في كتاب الله، ولا في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما رأى الأمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلا يصلي بعد العصر الركعتين يكثر، فقال له: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك الله بخلاف السنة. وأخرج عن خِرَاش بن جبير قال: رأيت في المسجد فتى يخذف، فقال له شيخ: لا تخذف، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، فخذف، فقال له الشيخ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تخذف، والله لا أشهد لك جنازة، ولا أعودك في مرضك، ولا أكلمك أبدًا (1). وأخرج عن قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلًا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: قال فلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أُحَدِّثك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول: قال فلان، والله لا أكلمك أبدًا. ثم قال الدارمي:"باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، فلم يعظمه، ولم يوقره": وأخرج فيه من طريق ابن عجلان، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يتبختر في بُرْدين خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة"، فقال له فتى، وهو في حلة له يا أبا هريرة، أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خُسف به، ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد ينكسر منها، فقال أبو هريرة: للمنخرين والفم، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. وأخرج عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يُوَدِّعه لحج أو عمرة، فقال له: لا تخرج حتى تصلي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق"، فقال: إن أصحابي بالحرة، فخرج، فلم يزل سعيد مولعا بذكره، حتى أُخبر أنه وقع من راحلته، فانكسر فخذه. وأخرج

(1) متّفقٌ عليه من حديث عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه، وقد تقدّم تخريجه.

ص: 345

البخاري (1) عن أبي ذَرّ أنه قال: لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أُنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها. وأخرج الدارمي عن بشر بن عبد الله قال: إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه. وأخرج عن سعيد بن جبير، أنه حدث يوما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: في كتاب الله ما يحالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرض فيه بكتاب الله، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك. هذا ما انتقيته من "مسند الدارمي"(2).

وهذه جملة منتقاه من كتاب "السنة" للالكائي في هذا المعنى، أخرج بسنده عن أُبيّ بن كعب قال: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في خلاف سنة. وأخرج عن أبي الدرداء مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إليها، وينهى عن البدعة عبادة. وأخرج عن ابن عباس قال: والله ما أظن على وجه الأرض اليوم أحد أحب إلى الشيطان هلاكًا مني، قيل: ولمَ؟ قال: إنه ليُحدِث البدعةَ في مشرق أو مغرب، فيحملها الرجل إليّ، فإذا انتهت إليّ، قمعتها بالسنة، فترد إليه كما أخرجها. وأخرج عن أبي العالية قال: عليكم بسنة نبيكم، والذي كان عليه أصحابه. وأخرج عن الحسن قال: لا يصلح قول إلا بعمل، ولا يصلح قول وعمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل ونية إلا بالسنة. وأخرج عن سعيد بن جبير قال: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. وأخرج عن الحسن قال: يا أهل السنة تفرقوا، فإنكم من أقل الناس. وأخرج عن يونس بن عبيد قال: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من لا يعرفها. وأخرج عن أيوب قال: إني أُخبَرُ بموت الرجل من أهل السنة، فكأني أفقد بعض أعضائي. وأخرج عنه قال: إن من سعادة الحدَث والأعجمي أن يوفقهما الله للعالم بالسنة. وأخرج عن ابن شوذب قال: أول نعمة الله على الشاب إذا نَسَكَ أن

(1) فيه نظر؛ لأنه ما أخرجه، وإنما أورده معلّقًا، ووصله الدارمي من طريق الأوزاعي عن أبي كثير عن أبيه عنه.

(2)

الكلام للسيوطيّ رحمه الله تعالى.

ص: 346

يؤاخي صاحب سنة، يحمله عليها. وأخرج عن حماد بن زيد قال: أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث، فيرى ذلك فيه، ويبلغه موت الرجل يذكر بعبادة فما يرى ذلك فيه. وأخرج عن أيوب قال: إن الذين يتمنون موت أهل السنة، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. وأخرج عن ابن عوف قال: ثلاث أحبهن لنفسي ولأصحابي: قراءة القرآن، والسنة، ورجل أقبل على نفسه ولهى عن الناس إلا من خير. وأخرج عن الأوزاعي: ندور مع السنة حيثما دارت. وأخرج. عنه قال: كان يقال: خمس كان عليها أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، وأتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله. وأخرج عن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء. وأخرج عن الفضيل بن عياض قال: إن لله عبادا يحيى بهم البلاد، وهم أصحاب السنة. وأخرج عن أبي بكر بن عياش قال: السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان. وأخرج عن ابن عوف قال: من مات على الإسلام والسنه فله بشير بكل خير. وأخرج عن الحسن في قوله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، قال: فكان علامة حبهم إياه إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} قال: وجوه أهل السنة، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قال: وجوه أهل البدع. وأخرج عن العلاء بمن المسيب عن أبيه قال: قال عبد الله: إنا نفتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر. وأخرج عن شاذ بن يحيى قال: ليس طريق أقصد إلى الجنة من طريق من سلك الآثار وأخرج عن الفضيل بن عياض قال: طوبى لمن مات على الإسلام والسنة، وإذا كان كذلك فليكثر من قول ما شاء الله كان. وأخرج عن أحمد بن حنبل قال: السنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسير القرآن، وهي دلائل القرآن.

وأخرج عن بعض أصحاب الحديث أنه أنشد [من الكامل]:

دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ أَخبَارُ

نِعْمَ المُطِيَّةُ لِلْفَتَى آثَارُ

لَا تَعْدِلَنَّ عَنِ الحدِيثِ وَأَهْلِهِ

فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالحدِيثُ نَهَار

وَلَرُبِّمَا غَلِطَ الْفَتَى أَثَرَ الهُدَى

وَالشَّمْسُ بَازِغَةٌ لَها أَنوارُ

ص: 347

وهذه جملة منتقاة من كتاب "الحجة على تارك المحجة" للشيخ نصر المقدسي:

أخرج بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا أو راح في طلب سنة، مخافة أن تَدْرُس كان كمن غدا أو راح في سبيل الله، ومن كتم علمًا علمه الله إياه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نارا"(1). وأخرج عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ظهرت البِدَعُ في أمتي، وشُتِم أصحابي، فليظهر العالم علمه، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"(2). قيل للوليد بن مسلم: ما إظهار العلم؟ قال: إظهار السنة. وأخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا فيما ينفعهم في أمر دينهم، بُعث يوم القيامة من العلماء"(3). قلت (4): هذا الحديث له طرق كثيرة. وأخرج من وجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من روى عني أربعين حديثا من السنة، حُشر يوم القيامة في زمرة الأنبياء".

وأخرج عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه، أو يعلمهما غيره فينتفع بهما، كان خيرا من عبادة ستين سنة". وأخرج عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء"، قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: "الذين يحيون سنتي من بعدي، ويعلمونها عباد الله"(5). وأخرج من هذا الطريق مرفوعا: "من أحي سنة من سنتي قد أُميتت بعدي، كان له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص

(1) صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 3/ 440، وابن حبان في "صحيحه" 1/ 154 والحاكم في "المستدرك" 1/ 102.

(2)

ضعيف أخرجه ابن عساكر. انظر "ضعيف الجامع" للشيخ الألباني ص 84 رقم (589).

(3)

ضعيف، قال البيهقي في "الشعب" مشهور فيما بين الناس، وليس له إسناد صحيح.

وله طرق استقصاها ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 1/ 128 ثم نقل عن الدارقطنيّ أنه قال: لا يثبت منها شيء.

(4)

القائل السيوطيّ رحمه الله تعالى.

(5)

أخرجه أحمد 2/ 389 وابن ماجه رقم 3987 وأخرجه مسلم دون قوله: "ومن الغرباء الخ".

ص: 348

من أجرهم شيئًا" (1). وأخرج عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها، بعثه الله يوم القيامة فقيها، وكنت له شافعا وشهيدًا" (2). وأخرج عن أبي الدرداء مرفوعا مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة، كنت له شفيعا يوم القيامة"(3). وأخرج عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على الخلفاء مني، ومن أصحابي، ومن الأنبياء قبلي، هم حملة القرآن والأحاديث عني في الله ولله"(4). وأخرج عن علي رضي الله عنه قال: "ما من شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن رأي الرجل يعجز عنه".

وأخرج عن الجنيد قال: الطريق مسدود على خلق الله، إلا على المتبعين أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقتدين بآثاره، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].

وأخرج عن عبد الرحمن بن مهدي قال: الرجل إلى الحديث أحوج منه إلى الأكل والشرب؛ لأن الحديث يفسر القرآن. وأخرج عن رجل من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في آخر أمتي قوما يُعطَون من الأجر مثل ما لأولهم، ينكرون المنكر، ويقاتلون أهل الفتن"، فقيل لإبراهيم بن موسى: من هم؟ قال: أهل الحديث، يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا كذا. وأخرج عن أحمد بن حنبل أنه قيل له: هل لله أبدال في الأرض؟ قال: نعم، قيل: من هم؟ قال: إن لم يكن أصحاب لحديث هم الأبدال، فلا أعرف لله أبدالًا. وأخرج عن ابن المبارك، أنه ذكر حديث:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من ناوأهم، حتى تقوم الساعة". قال ابن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث. وأخرج عن ابن المديني أنه قال في

(1) ضعيف، لأن في سنده كثير بن عبد الله ضعيف.

(2)

تقدّم أنه ضعيف بجميع طرقه.

(3)

تقدم أنه ضعيف.

(4)

عزاه الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" ص 317 إلى السجزيّ في "الإبانة"، وقال موضوع.

ص: 349

حديث: "لا تزال طائفة" هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذبون عن العلم، لولاهم لأهلك الناس المعتزلة، والرافضة، والجهمية، وأهل الأرجاء والرأي. وأخرج عن ابن مسعود وأبي ذر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ورائكم أيامُ صَبْرٍ، فالتمسك بما أنتم عليه له أجر خمسين"، قالوا: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: "منكم"(1).

وأخرج مثله من حديث ابن عمر وأخرج عن أبي الجلد قال: يُرسَل على الناس على رأس كل أربعين سنة شيطان يقال له: القمقم، فيبتدع لهم بدعة. وأخرج عن الإمام البخاري قال: كنا ثلاثة أو أربعة على باب ابن عبد الله (2)، فقال. إني لأرجو أن تأويل هذا الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أنتم، لأن التجار قد شغلوا أنفسهم بالتجارات، وأهل الصنعة قد شغلوا أنفسهم بالصناعات، والملوك قد شغلوا أنفسهم بالمملكة، وأنتم تُحيون سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرج عن ابن وهب قال: قال لي مالك بن أنس: لا تعارضوا السنة، وسلموا لها. وأخرج عن كهمس الهمداني قال: من لم يتحقق أن أهل السنة حفظةُ الدين، فإنه يُعَدّ في ضعفاء المساكين، الذين لا يدينون الله بدين، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثني جبريل عن الله. وأخرج عن سفيان الثوري قال: الملائكة حُرّاس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض. وأخرج عن وكيع قال: لو أن الرجل لم يصب في الحديث شيئًا، إلا أنه يمنعه من الهوى، كان قد أصاب فيه. وأخرج عن أحمد بن سنان قال: كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدًا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني؟

(1) صحيح، أخرجه الترمذي رقم5051 وقال: حسن غريب، وسيأتي للمصنف برقم 4014. انظر "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني 812 رقم (494).

(2)

وفي نسخة: "أبي عبد الله"، فليُحرّر.

ص: 350

قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحق معهم. وأخرج أحمد في "الزهد: عن قتادة قال: والله ما رغب أحد عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلا هلك، فعليكم بالسنة وإياكم والبدعة، وعليكم بالفقه، وإياكم والشبهة. وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن عبد الرحمن بن أبزي قال: لما وقع الناس في عثمان، قلت لأبي بن كعب: ما المخرج من هذا؟ قال: كتاب الله وسنة نبيه، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه. وأخرج الحاكم أيضا عن علي بن أبي طالب، أن أناسا أتوه، فأثنوا على ابن مسعود، فقال: أقول فيه ما قالوا، وأفضل، قرأَ القرآنَ، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة. وأخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، أما إني لم أقله، ولكن الله قاله.

وهذه جملة منتقاة من "رسالة القشيري" من كلام أهل الطريق في ذلك:

قال ذو النون المصري: من علامه المحب لله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه. قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة. وقال أحمد بن أبي الحواري: من عمل عملا بلا اتباع سنة، فباطل عمله. قال أبو حفص عمر بن سالم الحداد: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتّهِم خواطره، فلا تعدوه في ديوان الرجال. وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: من لم يحفط القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة. وقال أيضا: مذهبنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عثمان الحيري: الصحبة مع الله بحسن الأدب، ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، ولزوم ظاهر العلم. وقال: من أَمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة،

ص: 351

قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. ولما احتُضر أبو عثمان مَزّق ابنه أبو بكر قميصه، ففتح أبو عثمان عينه، وقال: خلاف السنة يا بُنَيّ في الظاهر علامة رياء في الباطن. قال أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني: من غَضّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة. وقال أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء الأدمي من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب، في أوامره وأفعاله وأخلاقه. وقال أبو حمزة البغدادي: من علم طريق الحق سهل سلوكه عليه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله وأفعاله وأقواله. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن داود الدقّي: علامة محبة الله إيثار طاعته، ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر الطمستاني: الطريق واضح، والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا، وفضل الصحابة معلوم، لسبقهم إلى الهجرة، ولصحبتهم، فمن صحب هذا الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله، فهو الصادق المصيب. وقال أبو القاسم النصراباذي: أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال سهل بن عبد الله: الفتوة اتباع السنة. قال أبو علي الدقاق: قصد أبو يزيد البسطامي بعض من يوصف بالولاية، فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه، فخرج الرجل، وتنخم في المسجد، فانصرف أبو يزيد، ولم يسلم عليه، وقال: هذا الرجل غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون أمينا على أسرار الحق. قال أبو حفص: أحسن ما يَتوسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه الحلال. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن سهل بن عبد الله: قال: أصولنا ستة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسول

ص: 352

الله، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق. وأخرج عنه قال: من كان اقتداؤه بالنبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن في قلبه اختيار لشيء من الأشياء.

[خاتمة]: أخرج الدِّينَوَرِيُّ في "المجالسة" عن عبد الرحمن بن عبد الله الخرقي قال: كان بدأ الرافضة، أن قوما من الزنادقة اجتمعوا، فقالوا: نشتم نبيهم، فقال كبيرهم: إذًا نقتل، فقالوا: نشتم أحباءه، فإنه يقال: إذا أردت أن تؤذي جارك فاضرب كلبه، ثم نعتزل فنكفرهم، فقالوا: الصحابة كلهم في النار إلا علي، ثم قال: كان علي هو النبي فأخطأ جبريل. قال البخاري في "تاريخه" عن ابن مسعود قال: بعث الله نوحا فما أهلك أمته إلا الزنادقة، ثم نبى فنبى، والله لا يهلك هذه الأمة إلا الزنادقه.

ورأيت بعض من صنّف في الملل والنحل قسم فرق الرافضة إلى اثنتي عشرة فرقة، فسمى الفرقة الأولى: القائلة بنبوة علي العلوية، وذكر أنهم يقولون عليّ النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون في أذانهم: أشهد أن عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثانية: الأموية، قالوا: إن عليا شريك النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة.

والثالثة: الشاعية، قالوا: إن عليا وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه من بعده، وأن الصحابة هزأت به، وردت أمر الله ورسوله، حين تركوا وصيته، وبايعوا غيره. كذب هؤلاء لعنهم الله، ورضي الله عن الصحابة. وهذه هي الفرقة الثانية التي أشرت إليها في الخطبة، ونقلنا في أثناء الكتاب كلام أبي حنيفة رضي الله عنه، والعجب من هؤلاء حيث ضللّوا الصحابة، وردوا الأحاديث؛ لأنها من رواياتهم، وذلك يلزمهم في القرآن أيضًا؛ لأن الصحابة الذين رووا لنا الحديث، هم الذين رووا لنا القرآن، فإن قبلوه لزمهم قبول الأحاديث، إذ الناقل واحد.

والرابعة: الإسحاقية، قالوا: النبوة متصلة من لدن آدم إلى يوم القيامة، ومن يعلم علم أهل البيت والكتاب فهو نبي.

والخامسة: الناوسية، قالوا: من فضل أبا بكر وعمر علي علي فقد كفر.

ص: 353

والسادسة: الإمامية، قالوا: لا تخلو الأرض من إمام من ولد الحسين، إما ظاهر مكشوف، أو باطن موصوف، ولا يتعلم العلم من أحد، بل يعلمه جبريل، فإذا مات بدل مكانه مثله.

والسابعة: الزيدية، قالوا: ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فما دام يوجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم.

والثامنة: الرجعية، قالوا: إن عليا وأصحابه كلهم يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائه، ويُسَوَّى لهم الملك في الدنيا ما لم يسو لأحد، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا.

والتاسعة: اللاعنة، يتدينون بلعن الصحابة، لعن الله هذه الفرقة، ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

العاشرة: السبأية، قالوا: بإلهية علي تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرًا.

[والحادية عشرة]: الناسخة، قالوا: بتناسخ الأرواح.

[والثانية عشرة]: المتربصة، يقيمون لهم في كل عصر رجلا ينسبون له الأمر، ويزعمونه المهدي، وأن من خالفه كفر. وقد أوسع صاحب هذا الكتاب، وهو من مشايخ الحافظ أبي الفضل بن ناصر من الرد على كل فرقة فرقة من الكتاب والسنة. وروى فيه بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها. وأخرج بسنده عن ابن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس نتذاكر السنة، فقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غَرِق.

والأثر الذي أشرنا إليه في الخطبة عن الشافعي رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن الحميدي قال: كنت بمصر، فحدّث محمد بن إدريس الشافعي بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أتأخذ بهذا؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة، ترى عليّ زنارا حتى لا أقول به. وأخرج عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل

ص: 354

الشافعي عن حديث؟ فقال: هو صحيح، فقال له الرجل: فما تقول؟ فارتعد وانتفض، وقال: أَيُّ سماء تظلني، وأيُّ أرض تُقِلُّني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت بغيره. وأخرج عن الربيع قال: ذَكَر الشافعي حديثًا، فقال له رجل: أتأخذ بالحديث؟ فقال: اشهدوا أني إذا صح عندي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم آخذ به، فإنّ عقلي قد ذهب. وأخرج عن ابن الوليد بن أبي الجارود، قال الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت قولًا، فأنا راجع عن قولي، وقائل بذلك. وأخرج عن الزعفراني قال: قال الشافعي: إذا وجدتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد. انتهى، والله أعلم.

انتهت رسالة الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى بنصّها، مشتملةً على غرر الفوائد، ودرر العوائد، نسأل الله تعالى التمسّك بالسنّن، ومجانبة البدع والفتن، اللهم أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

ص: 355