الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - (بابُ التَّوَقِّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
-)
أي هذا باب ذكر الأحاديث الدّالّة على الحَذَر في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا من أن يدخل الخطأ فيه، فيقع في محذور الكذب عليه صلى الله عليه وسلم.
و"التوقّي": مصدر توقّى، يقال: توقّيت الشيء أتَوَقّاهُ: إذا حَذِرْتَهُ. أفاده في "اللسان"، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
23 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْبَطِينُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ، إِلا أتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ بِشَيْءٍ قَطُّ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله قَالَ صلى الله عليه وسلم، فَنكَسَ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ، مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، قَالَ: أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسيّ الكوفيّ، ثقة ثبتىت [10] تقدّم في 1/ 1.
2 -
(معاذ بن معاذ) بن نصر بن حسّان بن الحارث بن مالك بن الخشخاش العنبريّ، أبو المثنى التميمي الحافظ البصريّ القاضي، ثقة متقنٌ، من كبار [9].
رَوَى عن سليمان التيمي، وحميد الطويل، وابن عون، وأبي يونس حاتم بن أبي صغيرة، وبهز بن حكيم، وعاصم بن محمد بن زيد، وفرج بن فَضَالة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابناه: عبيد الله، والمثنى، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، وآخرون.
قال المروزي عن أحمد: معاذ بن معاذ قرة عين في الحديث، وقال في موضع آخر: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال ابن سعد: كان ثقة، ولي
قضاء البصرة لهارون، ثم عُزِل، وتوفي في ربيع الآخر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان فقيها عالما متقنا. قال عمرو بن علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: وُلدت في سنة عشرين ومائة في أولها، ووُلد معاذ في سنة تسع عشرة في آخرها، كان أكبر مني بشهرين. وقال ابنه عبيد الله بن معاذ وغيره: مات سنة ست وتسعين ومائة. وقال ابن أبي خيثمة: مات معاذ بن نصر، وابنه معاذ مولود سنة تسع عشرة، ومات لليلة بقيت من ربيع الآخر سنة ست. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث برقم 23 و 24 و1218و 1869 و 3116و3881.
3 -
(ابن عون) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطَبان المزني مولاهم، أبو عون الْخَزّار البصري، ثقة ثبتٌ، فاضل، من أقران أيوب في العلم، والعمل، والسنّ [5](1).
رأى أنس بن مالك، وروى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، وأنس بن سيرين، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وزياد بن جُبير بن حية، والحسن البصري، والشعبي، وغيرهم. ورَوى عنه الأعمش، وداود بن أبي هند، والثوري، وشعبة، والقطان، وابن المبارك، ومعاذ بن معاذ، وغيرهم.
قال ابن المديني: جُمِع لابن عون من الإسناد ما لا يُجْمَع لأحد من أصحابه، سمع بالمدينة من القاسم، وسالم، وبالبصرة من الحسن، وابن سيرين، وبالكوفة من الشعبي، والنخعي، وبمكة من عطاء، ومجاهد، وبالشام من مكحول، ورجاء بن حيوة، وقال الثوري: ما رأيت أربعة اجتمعوا في مصر مثل هؤلاء: أيوب، ويونس، والتيمي، وابن عون. وقال وهيب: دار أمر البصرة على أربعة، فذكر هؤلاء. وقال أبو داود عن شعبة: ما رأيت مثلهم، وقال ابن المبارك: ما رأيت أحدا ذُكِر لي قبل أن ألقاه، ثم لقيته إلا وهو على دون ما ذُكر لي إلا ابن عون وحيوة، وسفيان، فأما ابن عون فلوددت أني لزمته
(1) وجعله في "التقريب" من السادسة، وما هنا أولى؛ لأنه ثبت أنه لقى أنس بن مالك رضي الله عنه، فيكون من الخامسة، كأيوب، والأعمش، ونحوهما. والله تعالى أعلم.
حتى أموت أو يموت. وقال ابن مهدي: ما كان بالعراق أحد أعلم بالسنة منه، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وكان عثمانيا، وكان كثير الحديث، ورعًا، وقال النسائي في "الكنى": ثقة مأمون. وقال في موضع آخر: ثقة ثبت. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه عبادةً، وفضلًا، وورعًا، ونسكًا، وصلابة في السنه، وشدةً على أهل البدع. وقال أبو بكر البزار: كان على غاية من التوقي. وقال عثمان بن أبي شيبة: ثقة، صحيح الكتاب. وقال العجلي: بصري ثقة، رجل صالح. وقال قرة: كنا نتعجب من ورع ابن سيرين، فأنساناه ابن عون. ومناقبه كثيرة جدّا. قال عمرو بن علي وغير واحد: مولده سنة (66). ومات سنة (151). وقيل: مات سنة خمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، والأول أصح. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
4 -
(مسلم البطين) هو: مسلم بن عمران، ويقال: ابن أبي عمران، أبو عبد الله الكوفي، ثقة [6].
روى عن عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي وائل، وإبراهيم التيمي، وغيرهم. وروى عنه سلمة بن كهيل، وأبو إسحاق السبيعي، وسليمان الأعمش، وعبد الله بن عون، وغيرهم. قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، زاد أبو حاتم: لم يدركه شعبة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث برقم 23 و 813 و 1717 و 1748.
5 -
(إبراهيم التيميّ) هو: إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، تيم الرباب، أبو أسماء الكوفي، كان من العباد، ثقة، يرسل، ويدلّس [5].
روى عن أنس، وأبيه، والحارث بن سويد، وعمرو بن ميمون، وأرسل عن عائشة.
وروى عنه بيان بن بشر، والحكم بن عتيبة، وزبيد بن الحارث، ومسلم البطين، ويونس بن عبيد، وجماعة.
قال ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة، مرجئ، قتله الحجاج بن يوسف. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال الأعمش: كان إبراهيم إذا سجد، تجيء العصافير،
فتنقر ظهره. وقالت الكرابيسي: حدث عن زيد بن وهب قليلًا، أكثرها مُدَلَّسَةٌ. وقال الدارقطني: لم يسمع من حفصة، ولا من عائشة، ولا أدرك زمانهما. وقال أحمد: لم يلق أبا ذر. وقال ابن حبان في "الثقات": كان عابدًا صابرًا على الجوع الدائم. وقال أبو داود في "كتاب الطهارة" من "سننه": لم يسمع من عائشة، وكذا قال الترمذي. وقال ابن المديني: لم يسمع من علي، ولا من ابن عباس. وقال القطان في رواية إبراهيم التيمي، عن أنس في القبلة للصائم: لا شيء، لم يسمعه. نقله الضياء الحافظ. قال أبو داود: مات ولم يبلغ أربعين سنة. وقال غيره: مات سنة (92). وقال الواقدي: مات سنة (94). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 23 و 546 و 547 و745 و 2976.
6 -
(أبوه) يزيد بن شريك بن طارق التيمي الكوفي، ثقة [2].
روى عن عمر، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وأبي مسعود، وحذيفة، وأبي معمر. وروى عنه ابنه إبراهيم، وإبراهيم النخعي، وجَوّاب التيمي، والحكم بن عتيبة، وهمام بن عبد الله التيمي الكوفيون. قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: كان ثقةً، وكان عَرِيفَ قومه، وله أحاديث. وقال أبو موسى المديني في "الذيل": يقال: إنه أدرك الجاهلية. أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث برقم 23 و745 و 2976.
7 -
(عمرو بن ميمون) الأَوْديّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو يحيى الكوفي، أدرك الجاهلية، ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، ثقة عابدٌ، مخضرمٌ، مشهور [2].
روى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وأبي مسعود البدري، وسعد بن أبي وقاص، ومعقل بن يسار، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم.
وروى عنه سعيد بن جبير، والربيع بن خُثَيم، وأبو إسحاق السبيعي، ويزيد بن شريك، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وأبوه، وغيرهم.
قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرضون بعمرو بن ميمون، وقال يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه:
كان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد، فرُؤي ذُكِر الله. وقال الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون: قدم علينا معاذ اليمن رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الشِّحر، رافعا صوته بالتكبير، أجش الصوت، فأُلقيت عليه محبتي
…
الحديث. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"، فقال: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وصَدَّقَ إليه، وكان مسلما في حياته. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. قال أبو نعيم، وغير واحد: مات سنة أربع وسبعين. ويقال: سنة (75).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث.
8 -
(ابن مسعود) عبد الله الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، تقدّم في 2/ 19. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من ثمانيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير معاذ، وابن عون، ومسلم، فبصريون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو، ورواية الأخيرين من رواية الأقران.
6 -
(ومنها): أن رواية ابن عون عن مسلم البطين من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن ابن عون من الخامسة، ومسلمًا من السادسة. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) الأوديّ، أنه (قَالَ: مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله تعالى عنه: أي ما فاتني لقاؤه، يقال: أخطأه السهم: إذا تجاوزه، ولم يُصبه. (عَشِيَّةَ خَمِيسٍ) بنصب "عشيّة" ظرفًا لأخطأني (إِلَّا أَتَيْتُهُ) قال السنديّ رحمه الله تعالى: الاستثناء من أعمّ الأحوال بتقدير "قد". قال: وهذا الاستثناء من قبيل: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] معلوم أنه لا يفوته
الملاقاة حال إتيانه إيّاه، فهذا تأكيد للزوم الملاقاة في عشيّة كلّ خميس. ويحتمل أن يكون أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يجيئه، فإن كان ما جاءه يومًا أتاه هو فيه. انتهى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأخير بعيدٌ من سياق الكلام، فلا يُلتفت إليه. والله تعالى أعلم.
(فِيهِ) أي في عشيّة الخميس، وإنما ذكّر الضمير؛ لتأويله بالوقت، ويحتمل أن يكون لاكتسابه التذكير من المضاف إليه، وهو "خميس"، كما أشار إليه في "الخلاصة":
وَرُبَّمَا أَكْسَبَ ثَانٍ أَوَّلَا
…
تَأْنِيثًا إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُوهَلَا
أي وتذكيرًا. (وقَالَ) عمرو (فَمَا سَمِعْتُهُ) أي ابن مسعود رضي الله عنه (يَقُولُ بِشَيْءٍ) هكذا النسخ بالباء الموحّدة، فالباء سببيّة: أي بسبب ذكر شيء، أو بمعنى "في": أي في حال ذكر شيء، ووقع في "تحفة الأشراف" 7/ 121:"لشيء" باللام: أي لأجل ذكر شيء (قَطُّ) بفتح القاف، وتشديد الطاء: أي في الزمان الماضي. قاله الفيّوميّ. وذكر في "القاموس": ما: يدلّ على أن "قطّ" التي بمعنى الزمان تكون مثلّثة الطاء، مشدّدةً، ومضمومة الطاء مخفّفة، ومرفوعة. قال: وتختصّ بالنفي ماضيًا، وتقول العامّة: لا أفعله قطّ، وفي مواضع من "صحيح البخاريّ" جاء بعد المُثْبَتِ، منها في "الكسوف":"أطول صلاة صلّيتها قطّ"، وفي "سنن أبي داود":"توضّأ ثلاثًا قطّ". وأثبته ابن مالك في "الشواهد" لغةً، قال: وهي مما خَفِي على كثير من النحاة. انتهى.
وقوله: (قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) مقول "يقول": أي ما سمعته قائلًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ) بنصب "ذات" على أنها خبر "كان"، واسمها ضمير يعود إلى الزمن المفهوم من المقام. أو برفعها على الفاعليّة، و"كان" تامّة. ولفظ "ذات" مقحم. قاله السنديّ في "شرحه" هنا. وقال في "شرحه" على "سنن النسائيّ" عند قوله: "فلما كان ذات ليلة": يمكن رفعه على أنه اسم "كان"، ونصبه على أنه خبر "كان": أي كان
(1)"شرح السنديّ" 1/ 22 - 23.
الزمان، أو الوقت ذات ليلة. وقيل: يجوز نصبه على الظرفيّة: أي كان الأمر في ذات ليلة. ثم "ذات ليلة" قيل: معناه: ساعة من ليلة. وقيل: معناه ليلة من الليالي، و"ذات" مقحمة. انتهى (1). وقال في "الفتح":"ذات" مقحمة، وقيل: بل هي من إضافة الشيء لنفسه، على رأي من يُجيزه. انتهى (2).
(قَالَ) أي ابن مسعود رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَنكَسَ) بالبناء للفاعل، والكاف مخفّفة، من باب نصر: أي طأطأ رأسه، وخفضه، ويحتمل أن تشدّد الكاف للمبالغة. (قَالَ) عمرو بن ميمون (فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ) أي ابن مسعود رضي الله عنه (فَهُوَ قَائِمٌ، مُحَلَّلَةً) بفتح اللام الأولى، بصيغة اسم المفعول، ونصبه على الحاليّة. وقوله:(أَزْرَارُ قَمِيصِهِ) بالرفع على أنه نائب فاعل "محلّلة". و"الأزرار" بفتح الهمزة: جمع زِرّ بالكسر، وتشديد الراء: وهو شيء كالْحَبّة يُدخَل في عروة القميص (3).
(قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ) أي دمعتا، كأنهما غَرِقَا في دمعهما. قاله في "القاموس". وهو افْعَوْعَل، من غَرِق، كاخشَوْشَن، من خَشُن للمبالغة (وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ) بالفتح: جمع وَدَج. قال الفيّوميّ: "الْوَدَجُ بفتح الدال، والكسرُ لغةٌ: عِرْقُ الأَخْدَع الذي يقطعه الذابح، فلا يبقى معه حياةٌ. ويقال: في الجسد عِرْقٌ واحدٌ حيثما قُطِع مات صاحبه، وله في كلّ عضو اسمٌ، فهو في العنق الْوَدَجُ، والْوَرِيد أيضًا، وفي الظهر النِّيَاطُ، وهو عِرْقٌ مُمتدّ فيه، الأَبْهَرُ، وهو عِرْقٌ مُستبطن الصُّلْب، والقلبُ متّصلٌ به، والْوَتِين في البطن، والنسا في الفخذ، والأبجل في الرجل، والأَكحَلُ في اليد، والصافن في الساق. وقال في "المجرَّد" أيضًا: الوريد عِرْقٌ كبير يدور في البدن، وذكر معنى ما تقدّم، لكنه خالف في بعضه، ثم قال: والودجان: عرقان غليظان، يكتنفان ثُغْرَة النحر يمينًا ويسارًا، والجمع
(1)"شرح السندي" 7/ 108.
(2)
"فتح الباري" 11/ 391.
(3)
راجع "المعجم الوسيط" 1/ 391.
أوداج، مثلُ سبب وأسباب. انتهى (1). وقد نظمت ما سبق بقولي:
يُقَالُ في الْجسَدِ عِرْقٌ حَيْثُمَا
…
قُطِعَ صَاحِبُهُ ماتَ أَلمَا
لَهُ تَشَعُّبٌ بِأَعْضَاءِ الْجسَدْ
…
في كُلِّ عُضْوٍ خُصَّ بِاسْمِ انْفَرَدْ
فَخُصَّ في الْعُنُقِ بِالْوَرِيدِ
…
كَذَلِكَ الْوَدَجُ ذُو تَسْدِيدِ
في الظَّهْرِ بِالنِّيَاطِ يُدْعَى وَالِّذِي
…
اسْتَبْطَنَ الصُّلْبَ بِأَبْهَر خُذِ
وَذَا بِهِ الْقَلْبُ غَدَا يَتِّصِلُ
…
في الْبَطْنِ بِالْوَتِينِ صَارَ يُعْقَلُ
وَبِالنَّسا في الْفَخْذِ وَالأَبْجَلُ في
…
رِجْلٍ وَبِالأَكْحَلِ في الْيَدِ يَفِي
في السِّاقِ بِالصِّافِنِ يُدْعَى وَانْتَهَى
…
نَظْمِي لَمِنْ يَرْغَبُ مِنْ ذَوِي النُّهَى
(قَالَ) أي ابن مسعود رضي الله عنه (أَوْ دُونَ ذَلِكَ) أي دون ما ذكره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ)"أو" في الجميع للتنويع، لا للشكّ، وإنما قال هذا كلّه خشية أن يكون رواه بالمعنى، فزاد فيه، أو نقص منه .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
أثر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (3/ 23) وهو من زوائده على الكتب الخمسة، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(4321) و (الدارميّ)(276)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 111) و (البخاري) في "التاريخ"(4/ 216) و (الخطيب) في "الجامع"(2/ 8)، والله تعالى أعلم.
(1)"المصباح المنير" 2/ 652.
[تنبيه]: قال الحافظ البوصيريّ في "مصباح الزجاجة"(ص 35 - 36): هذا إسناد صحيح، احتجّ الشيخان بجميع رواته، رواه الحاكم من طريق ابن عون، وفي آخره: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وقد اختُلف فيه على مسلم بن عمران البطين اختلافًا كثيرًا، فقيل: عنه، عن أبي عَمْرو الشيبانيّ. وقيل: عنه، عن أبي عُبيدة بن عبد الله ابن مسعود. وقيل: عنه، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ. وقيل: عنه، عن إبراهيم التيميّ، عن عمرو بن ميمون. وقيل: عنه، عن عمرو بن ميمون، كلهم عن ابن مسعود. انتهى. قال البيهقيّ في "المدخل": ورواية ابن عون أكملها إسنادًا ومتنًا، وأحفظها. والله تعالى أعلم (1).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان التوقّي، والتحفّظ في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدّة خطره.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث بلغ به الورع إلى أن يتحفّظ عن الإكثار من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان كثير المجالسة له، من منذ أن أسلم في أوئل من أسلم من المهاجرين إلى أن تُوفي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقلّل الرواية تورّعًا، واحتياطًا، لشدّة خوفه من الزيادة والنقص في حديثه صلى الله عليه وسلم.
3 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): أنه ينبغي للمحدّث إذا خاف أن يشتبه عليه بعض ألفاظ الحديث، فرواه بمعناه أن يقول: أو كما قال صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك، مما يُفهم أنه رواه بالمعنى. قال الحافظ السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الأثر":
وَقُلْ أَخِيرًا "أَوْ كَمَا قَال" وَمَا
…
أَشْبَهَهُ كَالشَّكِّ فَيمَا أَبْهَمَا
(1) انظر ما كتبه بشار عواد على هذا الكتاب 1/ 59.
5 -
(ومنها): ما كان عليه السلف من شدّة الحرص على ملازمة مجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليأخذوا عنهم السنن، والهدي النبويّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:
24 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: كَانَ أَنسُ بْنُ مَالِكٍ، إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَفَرَغَ مِنْهُ، قَالَ: أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسيّ الكوفي، ثقة حافظ [10] 1/ 1.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ المذكور في السند الماضي.
3 -
(ابن عون): هو عبد الله بن عون بن أرطبان المذكور في السند الماضي.
4 -
(محمد بن سيرين) الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقة ثبتٌ، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3].
رَوَى عن مولاه أنس بن مالك، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وروى عنه الشعبي، وثابت، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، وابن عون، وخلق كثير.
قال ابن عون: كان ابن سيرين يحدث بالحديث على حروفه. وقال عون بن عمارة، عن هشام بن حسان: حدثني أصدق من أدركته من البشر، محمد ابن سيرين. وقال أبو طالب عن أحمد: من الثقات. وقال ابن معين: ثقة، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وهو من أروى الناس عن شُريح وعَبيدة، وإنما تأدب بالكوفيين أصحاب عبد الله. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا عاليا، رفيعا فقيها، إماما كثير العلم ورعا،
وكان به صمم. وقال حماد بن زيد عن عاصم الأحول: سمعت مُوَرِّقا يقول: ما رأيت رجلا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه، من محمد بن سيرين. قال: وقال أبو قلابة: اصْرِفُوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعا، وأملككم لنفسه. وقال معتمر عن ابن عون: كان من أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدهم إِزْراءً على نفسه، وكان كاتب أنس بن مالك بفارس. وقال ابن سعد: سألت محمد بن عبد الله الأنصاري عن السبب الذي حُبِس محمد لأجله؟ فقال: كان اشترى طعاما بأربعين ألفًا، فأُخبر عن أصله بشيء كرهه، فتصدق به، وبقي المال عليه، فحُبِسَ، حَبَسَته امرأة، وعن ثابت البناني قال: قال لي محمد بن سيرين: كنت أمتنع من مجالستكم مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى أُخِذ بلحيتي، وأقمت على المِصْطَبَّة (1)، وقيل: هذا محمد بن سيرين أكل أموال الناس، ويُرْوَى في سبب حبسه غير ذلك.
قال حماد بن زيد: مات الحسن أول يوم من رجب سنة عشرة ومائة، وصليت عليه، ومات محمد لتسع مضين من شوال منها. وقال ابن حبان: كان محمد بن سيرين من أورع أهل البصرة، وكان فقيها فاضلًا حافظًا متقنا يعبر الرؤيا، مات وهو ابن (77) سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (41) حديثًا.
5 -
(أنس بن مالك) بن النضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حَرَام بن جُندَب بن عامر ابن غَنْم بن عديّ بن النجار الأنصاري، أبو حمزة، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزيل البصرة، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن رواحة، وجماعة آخرين، وروى عنه جلّ التابعين.
قال الزهري، عن أنس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن عشر سنين، وكنّ
(1)"الْمِصْطَبّة" بكسر الميم، وتشديد الموحدة: كالدكّان للجلوس عليه. اهـ "القاموس" ص 98.
أُمّهاتي يَحْثُثْنني على خدمته (1) .. وقال جعفر بن سليمان الضُّبَعي عن ثابت، عن أنس، جاءت بي أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام، فقالت: يا رسول الله، أنيس ادع الله له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة"(2)، قال فقد رأيت اثنتين، وأنا أرجو الثالثة، وقال أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، وعمرته، والحج، والفتح، وحنينا، والطائف. وقال علي بن الجعد، عن شعبة، عن ثالت: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم سليم، وقال جعفر، عن ثابت: كنت مع أنس، فجاء قهرمانه، فقال: يا أبا حمزة عطشت أرضنا، قال: فقام أنس: فتوضأ، وخرج إلى البرية، فصلى ركعتين، ثم دعا، فرأيت السحاب يلتئم، قال: ثم مَطَرَت، حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض، أهله، فقال: انظر أين بلغت السماء، فنظر، فلم تَعْدُ أرضه إلا يسيرا، وذلك في الصيف. وقال الأنصاري: ثنا ابن عون، عن موسى بن أنس، أن أبا بكر لما استُخْلِف بَعَثَ إلى أنس بن مالك ليوجهه إلى البحرين علي السعاية، قال فدخل عليه عمر، فقال: إني أردت أن أبعث هذا إلى البحرين على السعاية، وهو فتى شاب، فقال ابعثه، فإنه لبيب كاتب، قال: فبعثه، وقال علي بن المديني: آخر من بقي بالبصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس. وقال الأنصاري: مات وهو ابن مائة وسبع سنين. وقال وهب بن جرير، عن أبيه: مات أنس سنة (90)، وكذا قال شعيب بن الحبحاب. وقال همام عن قتادة: سنة (91)، وقال معن ابن عيسى عن بعض ولد أنس: سنة (92)، وقال ابن علية، وأبو نعيم، وخليفة، وغيرهم: مات سنة (93).
وقد تعقّب الحافظ قول الأنصاري: إن أنسا عاش مائة وسبع سنين، فقال: فيه نظر؛ لأن أكثر ما قيل في سنه إذ قدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وأقرب ما قيل في وفاته سنة
(1) رواه مسلم (2029).
(2)
رواه بنحوه البخاريّ في "الأدب المفرد"(653).
(93)
فعلى هذا غاية ما يكون عمره مائة سنة وثلاث سنين، وقد نَصّ على ذلك خليفة ابن خياط في "تاريخه"، فقال: مات سنة (93) وهو ابن (103) سنة، وأعجب من قول الأنصاري قول الواقدي: إنه مات سنة (92) وله (99) سنة، وكذا قال معتمر عن حميد، إلا أنه جزم بأنه مات سنة (91)، فهذا أشبه، وقول خليفة أصح، وحكى الحذاء في رجال "الموطإ" أنه يكنى أبا النضر. أخرج له الجماعة. وله في هذا الكتاب (279) حديثًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، إلا شيخه، فكوفيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعي، فإن ابن عون قد رأى أنسًا رضي الله عنه.
5 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أشهر من خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين رضي الله عنه.
6 -
(ومنها): أنه كان يُكْنَى أبا حمزة، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببَقْلَة كان يَجتنيها، قال الأزهريّ: الْبَقْلة التي جناها أنس كان في طعمها لذعٌ، فسُمّيت حَمْزة بفعلها، يقال: رُمّانة حامزة: أي فيها حُمُوضة، ذكره ابن الملقّن رحمه الله (1).
7 -
(ومنها): أنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
8 -
(ومنها): أنه آخر من مات من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالبصرة، مات، سنة (92) أو (93).
9 -
(ومنها): أنه من المعمّرين، مات، وقد جاوز مائة سنة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (إِذَا
(1)"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 1/ 422.
حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَفَرَغَ مِنْهُ) أي انتهى من التحديث به (قَالَ: أَوْ كَما قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) أي قَال أنس رضي الله عنه هذا اللفظ، فقوله:"أو كمال" مقول "قال"، فقول السنديّ: عَطف على مقول "قال" الخ فيه نظر لا يخفى، فتبصّر. والكاف زائدة، كما قال السنديّ. وإنما قال ذلك تنبيهًا على أن ما ذكره مما رواه بالمعنى، وأما اللفظ، فيحتمل أن يكون هذا اللفظ المذكور، ويحتمل أن يكون لفظًا آخر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أنس رضي الله عنه هذا صحيح، قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد احتجّا بجميع رواته، وقد روينا عن جماعة من الصحابة نحو ما فعله أنس من الحذر والاحتياط، منهم: ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى. والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا فقط، و (الدارميّ) في "المقدّمة"(276) عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن ابن عون به، و (277) عن عثمان بن محمد، عن إسماعيل، عن أيوب به. وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:
25 -
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: حَدِّثْنَا عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كَبِرْنَا، وَنَسِينَا، وَالحدِيثُ عَنْ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم شَدِيدٌ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أبو بكر بن أبي شيبة) هو: عبد الله بن محمد المذكور في السند الماضي.
2 -
(محمد بن بشّار) العبديّ، أبو بكر البصريّ الحافظ الثبت المعروف بـ "بُنْدار"[10] 1/ 6.
3 -
(غُنْدَر) -بضم الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، آخره راء- محمد بن جعفر البصريّ الحافظ الثقة ربيب شعبة [9] تقدّم في 1/ 6.
4 -
(عبد الرحمن بن مهديّ) بن حسان العنبريّ، وقيل: الأزدي مولاهم، أبو سعيد البصريّ اللؤلؤي الحافظ الإمام العلم الثقة الثبت، من [9].
رَوَى عن أيمن بن نابل، وجرير بن حازم، وعكرمة بن عمار، ومالك، وشعبة، والسفيانين والحمادين، وإسرائيل، وخلق كثير.
وروى عنه ابن المبارك، من شيوخه، وابن وهب، وهو أكبر منه، وأحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى بن معين، وخلق كثير.
قال حنبل عن أبي عبد الله: ما رأيت بالبصرة مثل يحيى بن سعيد، وبعده عبد الرحمن، وعبد الرحمن أفاقه الرجلين. وقال أيضا: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن، فعبد الرحمن أثبت؛ لأنه أقرب عهدا بالكتاب، وقال أحمد بن سنان: سمعت علي بن المديني يقول: كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس، قالها مرارًا. وقال ابن أبي صفوان: سمعت علي بن المديني يقول: لو حُلِّفتُ بين الركن والمقام لحلفت بالله إني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي وقال علي بن نصر عن علي بن المديني: كان يحيى بن سعد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شَبَّهت علم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسحر. وقال القواريري عن يحيى بن سعيد: ما سمع عبد الرحمن من سفيان، عن الأعمش، أحب إلي مما سمعتُ أنا من الأعمش. وقال إسماعيل ابن إسحاق القاضي: سمعت علي بن المديني يقول: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن ابن مهدي، قال: وكان يعرف حديثه وحديث غيره، وكان يُذْكَر له الحديث عن الرجل، فيقوك خطأ، ثم يقول: ينبغي أن يكون أُتِي هذا الشيخ من حديث كذا من وجه كذا، فنجده كما قال. وقال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب حماد بن زيد، وهو إمام، ثقة،
أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان يعرض حديثه على الثوري. وقال ابن المديني: كان ورد عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن. وقال الأثرم عن أحمد: إذا حدث عبد الرحمن عن رجل، فهو حجة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حَفِظَ، وجمع، وتفقه، وصنف، وحدث، وأَبَى الرواية إلا عن الثقات. وقال الخليلي: هو إمام بلا مدافعة، ومات الثوري في داره. وقال الشافعي: لا أعرف له نظيرا في الدنيا. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، في جمادى الآخرة، وهو ابن (63) سنة. وكذا قال ابن المديني، وغير واحد في سنة وفاته.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (74) حديثًا.
5 -
(شعبة) بن الحجاج الإمام الحجة الثبت من [7] تقدّم 1/ 6.
6 -
(عمرو بن مُرّة) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقة عابدٌ، كان لا يُدلّس، ورُمي بالإرجاء، من [5] تقدّم في 2/ 20.
7 -
(عبد الرحمن بن أبي ليلى) واسمه يسار، ويقال: بلال، ويقال: داود بن بلال ابن بُلَيل بن أُحَيحة بن الْجُلاح الحَرِيش بن جَحْجَبَا بن كُلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن أوس الأنصاري الأوسي، أبو عيسى المدنيّ، ثمّ الكوفي، والد محمد، ولد لست بقين من خلافة عمر رضي الله عنه، ثقة [2].
رَوَى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وحذيفة، ومعاذ بن جبل، وخلق كثير.
وروى عنه ابنه عيسى، وابن ابنه عبد الله بن عيسى، وعمرو بن ميمون الأودي، وهو أكبر منه، والشعبي، وعمرو بن مرة، وخلق كثير.
قال عطاء بن السائب عن عبد الرحمن: أدركت عشرين ومائة من الأنصار صحابة. وقال عبد الملك بن عمير: لقد رأيت عبد الرحمن في حلقة فيها نفر من الصحابة، فيهم البراء يسمعون لحديثه، وينصتون له. وقال عبد الله بن الحارث بن
نوفل: ما ظننت أن النساء ولدن مثله. وقال الدوري عن ابن معين: لم ير عمر، قال: فقلت له: فالحديث الذي يُروَى كنا مع عمر نَتَرَاءى الهلال؟ فقال: ليس بشيء. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وقال الخليلي في "الإرشاد": الحفاظ لا يُثبتون سماعه من عمر، وقال حفص بن غياث، عن الأعمش: سمعت عبد الرحمن يقول: أقامني الْحَجّاج، فقال: العن الكاذبين، فقلت: لعن الله الكاذبين، آه، ثم يسكت، عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عُبيد، قال حفص: وأهل الشام حَمِيرٌ، يظنون أنه يوقعها عليهم، وقد أخرجهم منها، ورفعهم.
ذكر أبو عبيد أنه أصيب سنة (71)، وهو وَهَمٌ. ثم قال أبو عبيد: وأخبرني يحيى ابن سعيد، عن سفيان، أن ابن شداد، وابن أبي ليلى فُقِدا بالجماجم، وقد اتفقوا على أن الجماجم كانت سنة (82)، وفيها أرّخه خليفة، وأبو موسى، وغير واحد. ويقال: إنه غَرِقَ بدُجَيل. والله أعلم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.
8 -
(زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، مختلف في كنيته، قيل: أبو عمر، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو عمارة، وقيل: أبو أُنيسة، وقيل: أبو حمزة، وقيل: أبو سعد، ويقال: أبو سعيد. واستُصْغِر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق. وقيل: المُرَيسيع، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، ثبت ذلك في "الصحيح"، وله حديث كثير، ورواية أيضا عن علي، رَوَى عنه أنس مكاتبةً، وأبو الطفيل، وأبو عثمان النَّهْدي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد خير، وطاوس. وله قصة في نزول "سورة المنافقين" في "الصحيح"، وشهد صِفّين مع علي، وكان من خواصّه، ومات بالكوفة أيام المختار سنة ست وستين، وقيل: سنة ثمان وستين. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض قومه، عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة، فخرج بي معه مردفي يعني إلى مؤتة، فذكر الحديث، وهو الذي سمع عبد الله بن أبي يقول:{لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}
[المنافقون:8]، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عبدَ الله، فأنكر، فأنزل الله تصديق زيد ثبت ذلك في "الصحيحين"، وفيه: فقال: "إن الله قد صدّقك يا زيد". وقال أبو المنهال: سألت البراء عن الصرف؟ فقال: سل زيد بن أرقم، فإنه خير مني، وأعلم (1).
أخرج له الجماعة، روى من الأحاديث (90) حديثًا، اتفق الشيخان منها على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بستّة أحاديث. وله عند ابن ماجه في هذا الكتاب ثمانية أحاديث برقم 25 و 142 و 292 و1300 و 1494 و 3339 و 3118 و 3458. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، سوى شيخه أبي بكر، فكوفيّ، ومسلسلٌ بالكوفيين بعد شعبة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن شيخه الثاني أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من أفاضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد نزلت في تصديقه سورة المنافقون.
7 -
(ومنها): أن ابن مهديّ، وابن أبي ليلى، وزيدًا هذا أول محل ذكرهم من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف في هذا الكتاب لابن مهديّ (74) ولابن أبي ليلى (28) ولزيد بن أرقم رضي الله عنه (8)، والله تعالى أعلم.
(1) راجع "الإصابة" 2/ 487 - 488. و"تهذيب التهذيب" 1/ 658.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيلى) الأنصاريّ رحمه الله، أنه (قَالَ: قُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) رضي الله تعالى عنه (حَدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم (قَالَ) زيد رضي الله عنه (كَبرْنَا) بكسر الباء الموحّدة، قال المجد في "القاموس": كبر كفرِح كِبَرًا، كعِنَب، ومَكْبِرًا كمنزِلٍ: طعن في السنّ. وكبُرَ ككرُم، كِبَرًا كعِنَب، وكُبْرًا بالضم، وكَبَارَةً بالفتح: نقيض صَغُرَ. انتهى.
قال الشارح المرتضى: فعُرف من أن فعل الْكِبَر بمعنى العظمة ككُرم، وبمعنى الطعن في السنّ كفرِح، ولا يجوز استعمال أحدهما في الآخر اتّفاقًا، وهذا قد يَغْلَطُ فيه الخاصّة، فضلًا عن العامّة. انتهى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المناسب هنا كفرح؛ لأن مراد زيد كبر سنّه؛ لأنه الذي يُخشى منه عدم ضبط الحديث، لا عظم جسمه. فكأنه يقول: وصلنا إلى سنّ يختلّ فيه الضبط، وتضعف فيه قوى الذاكرة. والله تعالى أعلم.
(وَنَسِينَا) بكسر السين المهملة، قال في "القاموس" نَسِيه نِسْيًا، ونسيانًا، ونسيانة -بالكسر فيهنّ- ونَسوةً -بالفتح-: ضد حفظه. انتهى. وقال في "المصباح": ونسيتُ الشيءَ أنساه نِسيانًا مشترك بين معنيين، أحدهما: ترك الشيء على ذهول، وغفلة، وذلك خلاف الذكر له. والثاني: الترك على تعمّد، وعليه:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] أي لا تقصدوا الترك والإهمال. انتهى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه المناسب هنا من المعنيين المذكورين هو المعنى الأول. والله تعالى أعلم.
(وَالحدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَدِيدٌ) أي قويّ يحتاج إلى قوة الحفظ، فـ "الحديث" مبتدأٌ، والجارّ والمجرور متعلّق به، و"شديد" خبر المبتدإ.
(1) راجع "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 514.
(2)
"القاموس" ص 1204. و"المصباح المنير" 2/ 604.
وحاصل ما أشار إليه زيد رضي الله عنه في كلامه هذا أنه لا ينبغي للمحدّث أن يحدّث إلا إذا تأكّد حفظه، وضبطه، وأما إذا خشي عدم ذلك، بأن تقادم سنّه، وضعفت ذاكرته، فينبغي له أن يتوقّاه؛ لئلا يدخل غفلةً في وعيد الكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الذي إراده المصنّف رحمه الله تعالى في إيراده في هذا الباب، وهو "باب التوقّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (3/ 25) بهذا الإسناد، وهو من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه أحمد في "مسند الكوفيين"(4/ 370 و372) رقم (18499)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:
26 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ سَنَةً، كما سَمِعتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْن نُمَيْرٍ) الهَمْدانيّ -بسكون الميم- الكوفيّ، أبو عبد الرحمن، ثقة حافظ فاضل من [10] تقدّم في 1/ 4.
2 -
(أبو النضر) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ الحافظ خراسىاني الأصل الملقّب قيصر، ثقة ثبت، من [9].
رَوَى عن عكرمة بن عمار، وحَرِيز بن عثمان، وورقاء بن عمر، وسمع من شعبة جميع ما أملى ببغداد، وهو أربعة آلاف حديث، وغيرهم.
وروى عنه ابنه، أو حفيده أبو بكر بن أبي النضر، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وابن معين، وغيرهم.
قال الحارث بن أبي أسامة: كان أحمد بن حنبل يقول: أبو النضر شيخنا من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر. وقال أبو بكر بن أبي عتاب عن أبي حميد: أبو النضر من مُتَثَبِّتي بغداد. وقال مهنا عن أحمد: أبو النضر أثبت من شاذان. وحكى أحمد ابن منصور الرَّمَادي عن أحمد بن حنبل ترجيحه على وهب بن جرير. وقال ابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وأبو حاتم: ثقة. وقال ابن قانع: ثقة. وقال ابن عبد البر: اتفقوا على أنه صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الحاكم: حافظ ثبت في الحديث. وقال العجلي: بغدادي، صاحب سنة، وكان أهل بغداد يفخرون به. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: قال أبو النضر: وُلِدت سنة أربع وثلاثين ومائة. وقال ابن حبان: مات في ذي القعدة سنة خمس أو سبع ومائتين. وقال الحارث، ومُطَيَّن: مات سنة سبع، وفيها جزم ابن سعد. أخرج له الجماعة. وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث.
3 -
(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت [7] تقدّم في 1/ 6.
4 -
(عبد الله بن أبي السفر) -بفتح الفاء- واسمه سعيد بن يحمد، ويقال: أحمد الْهَمْداني الثوريّ الكوفيّ، ثقة من [6].
رَوَى عن أبيه، وأبي بردة بن أبي موسى، وعامر الشعبي، ومصعب بن شيبة، وغيرهم. وروى عنه شعبة، وعمر بن أبي زائدة، ويونس بن أبي إسحاق، وعيسى بن يونس، والثوري، وشريك، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، وليس بكثير الحديث. وقال العجلي كوفي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن سعد: مات في خلافة مروان بن محمد. أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي،
والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
5 -
(الشعبيّ) -بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة- عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة فقيه فاضل مشهور، من [3] تقدّم في 1/ 11، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيّن، غير أبي النضر، فبغداديّ، وشعبة، فبصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وهما من صيغ الاتصال، على الأصحّ في "عن" من غير المدلس. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي السَّفَرِ) سعيد بن يُحْمِد، ويقال: أحمد، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ) عامر بن شَرَاحيل (يَقُولُ: جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ) هو عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما، تقدّمت ترجمته في 1/ 4 (سَنَةً) هكذا في رواية المصنّف، ووقع في رواية الشيخين من طريق شعبة، عن توبة العنبريّ، قال: قال لي الشعبيّ: "أرأيت حديث الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقاعدت ابن عمر قريبًا من سنتين أو سنة ونصف
…
" الحديث. والجمع بين الروايتين أن يقال: كانت مدّة مجالسته سنة وكسرًا، فألغى الكسر تارةً، وجبره أخرى. وكان الشعبيّ جاور بالمدينة، أو بمكة، وإلا فهو كوفيّ، وابن عمر لم تكن له إقامة بالكوفة. أفاده في "الفتح" (1).
(فَمَا سَمِعْته يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم شَيْئًا) أي توقّيًا من تكثير الحديث حتى لا يدخل عليه كذبٌ خطأً.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث ساقه المصنّف مقتصرًا على محلّ
(1)"فتح الباري" 13/ 300 رقم الحديث 7267.
الترجمة، وقد ساقه الشيخان في "صحيحيهما" مطوّلًا، ولفظ البخاري في "كتاب أخبار الآحاد":
حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن توبة العنبري، قال: قال لي الشعبي: أرأيت حديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاعدت ابن عمر قريبا من سنتين، أو سنة ونصف، فلم أسمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا، قال: كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم، فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنه لحم ضب فأمسكوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلوا، أو اطعموا، فإنه حلال"، أو قال:"لا بأس به" شك فيه، ولكنه ليس من طعامي.
قال في"الفتح": قوله: "أرأيت حديث الحسن": أي البصري، والرؤيا هنا بصرية، والاستفهام للإنكار، كان الشعبي يُنكر على من يُرسل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارةً إلى أن الحامل لفاعل ذلك طلب الإكثار من التحديث عنه، وإلا لكان يكتفي بما سمعه موصولًا. وقال الكرماني: مراد الشعبي أن الحسن مع كونه تابعيا، كان يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر مع كونه صحابيا يحتاط، ويُقِلّ من ذلك مهما أمكن. قال الحافظ: وكأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك، فإنه كان يَحُضُّ على قلة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين، أحدهما: خشية الاشتغال عن تعلم القرآن، وتفهم معانيه. والثاني: خشية أن يُحَدَّث عنه بما لم يقله؛ لأنهم لم يكونوا يكتبون، فإذا طال العهد لم يُؤمن النسيان. وقد أخرج سعيد بن منصور بسند آخر صحيح، عن الشعبي، عن قَرَظَةَ بن كعب، عن عمر رضي الله عنه قال: "أَقِلُّوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم. انتهى. (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)"فتح" 13/ 299 "كتاب أخبار الآحاد" رقم 7267، وسيأتي الحديث عند المصنف برقم (28).
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
أثر الشعبيّ رحمه الله تعالى هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ)(9/ 112) و (مسلم)(6/ 67) و (أحمد) في "مسنده"(2/ 84 و137 و157) وفوائد الحديث واضحة من السابق واللاحق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:
27 -
(حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنبرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاقِ، أنبَأنا مَعْمَرٌ، عنِ ابْن طَاوُسٍ، عَن أَبِيهِ، قَال: سمعتُ ابْنَ عبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّا كُنَّا نَحْفَظُ الحدِيثَ، وَالحدِيثُ يُحْفَظُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا إِذَا رَكبتُمَ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ فَهَيْهاتَ).
رجال هذا الإسناد: ستة.
1 -
(الْعَبّاسُ بن عبد الْعَظيم) بن إسماعيل بن تَوْبةَ الْعَنْبَرِيُّ، أبو الفضل البصريّ، ثقة حافظُ، من كبار [11].
رَوَى عن عبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وسعيد بن عامر الضبعي، وأبي داود الطيالسي، وخلق كثير. وروى عنه الجماعة، لكن البخاري تعليقا، وبقي بن مَخْلَد، وأبو بكر الأثرم، وابن خزيمة، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي،: ثقة مأمون. وقال محمد بن المثنى السمسار: كنا عند بشر بن الحارث، وعنده العباس بن عبد العظيم، وكان من سادات المسلمين. وقال معاوية بن عبد الكريم الزيادي: أدركت الناس، وهم يقولون: ما جاءنا بالبصرة أعقل من أبي الوليد، وبعده أبو بكر بن خلاد، وبعده عباس بن عبد العظيم. وقال مسلمة: بصري ثقة. قال البخاري، والنسائي: مات سنة ست وأربعين
ومائتين. وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
2 -
(عبد الرزاق) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّفٌ مشهور، عمي في آخره، فتغيّر حفظه، وكان يتشيّع، من [9] تقدّم في 2/ 16.
3 -
(معمر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبتٌ، فاضل، من [7] تقدّم في 2/ 16.
4 -
(ابن طاوس) هو عبد الله بن طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو محمد الأبْنَاويّ، ثقة فاضلٌ، عابدٌ، من [6].
رَوَى عن أبيه، وعطاء، وعمرو بن شعيب، وغيرهم. وروى عنه ابناه: طاوس، ومحمد، وعمرو بن دينار، وهو أكبر منه، وأيوب السختياني، وهو من أقرانه، وابن إسحاق، ومعمر، وغيرهم.
قال أبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال عبد الرزاق عن معمر: قال لي أيوب: إن كنت راحلا إلى أحد، فعليك بابن طاوس، فهذه رحلتي إليه. وقال أيضا عن معمر: ما رأيت ابن فقيه مثل ابن طاوس، فقلت له: ولا هشام بن عروة؟ فقال: حسبك بهشام، ولكن لم أر مثل هذا، وكان من أعلم الناس بالعربية، وأحسنهم خُلُقًا. وقال النسائي في "الكنى: ثقة مأمون. وكذا قال الدارقطني في "الجرح والتعديل". وقال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد أيوب بسنة، وكان من خيار عباد الله فضلًا، ونُسُكًا، ودينًا، وتكلم فيه بعض الرافضة.
قال ابن سعد عن الهيثم بن عدي: مات في خلافة أبي العباس. وقال ابن عيينة: مات سنة (132). وأرخه ابن قانع سنة إحدى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث.
5 -
(أبوه) طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرحمن الحِمْيريّ مولاهم الفارسيّ الجنَدِيُّ، مولى بَحِير بن رَيْسَان، من أبناء الفرس، كان ينزل الجْنَد. وقيل: هو مولى
هَمْدَان. وقال ابن حبان: كانت أمه من فارس، وأبوه من النَّمِر بن قاسط. وقيل: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة فقيه، فاضلٌ، من [3].
رَوَى عن العبادلة الأربعة، وأبي هريرة، وعائشة، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وسراقة بن مالك، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وجابر، وغيرهم، وأرسل عن معاذ بن حنبل.
وروى عنه ابنه عبد الله، ووهب بن مُنبَّه، وسليمان التيمي، وسليمان الأحول، وأبو الزبير، وغيرهم.
قال عبد الملك بن ميسرة عنه: أدركت خمسين من الصحابة. وقال ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس: إني لأظن طاوسا من أهل الجنة. وقال ليث بن أبي سليم: كان طاوس يَعُدُّ الحديث حرفا حرفا. وقال قيس بن سعد: كان فينا مثل ابن سيرين بالبصرة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: طاوس أحب إليك أم سعيد بن جبير؟ فلم يُخَيِّر. وقال إسحاق ابن منصور عن ابن معين: ثقة. وكذا قال أبو زرعة.
وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": كتب إليّ عبد الله بن أحمد، قال: قلت لابن معين: سمع طاوس من عائشة؟ قال: لا أراه. وقال الآجري عن أبي داود: ما أعلمه سمع منها. وقال أبو زرعة، ويعقوب بن شيبة: حديثه عن عمر، وعن علي مرسل.
وقال أبو حاتم: حديثه عن عثمان مرسل. وقال الزهري: لو رأيتَ طاوسا علمتَ أنه لا يكذب. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أعفّ عما في أيدي الناس من طاوس. وقال ابن عيينة: متجنبوا السلطان ثلاثة: أبو ذر في زمانه، وطاووس في زمانه، والثوري في زمانه. وقال ابن حبان: كان من عباد أهل اليمن، ومن سادات التابعين، وكان قد حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة، مات سنة إحدى، وقيل: سنة ست ومائة. وقال ضمرة عن ابن شَوْذَب: شهدت جنازة طاوس بمكة سنة مائة، فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن حج أربعين حجة. وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة ست ومائة. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة بضع عشرة ومائة.
أخرج له الجماعة، ولد في هذا الكتاب (41) حديثًا.
6 -
(ابن عبّاس) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقال له: الْحَبْر والْبَحْر؛ لكثرة علمه. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وأمه أم الفضل، وأخيه الفضل، وخالته ميمونة؛ وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن ابن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وتميم الداري، وخالد بن الوليد، وهو ابن خالته، وأسامة بن زيد، وجماعة.
وروى عنه ابناه: علي ومحمد، وابن ابنه محمد بن علي، وأخوه كَثِير بن العباس، وابن أخيه عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وابن أخيه الآخر، عبد الله بن معبد بن عباس، ومن الصحابة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وثعلبة بن الحكم الليثي، والمسور ابن مخرمة، وأبو الطفيل، وغيرهم من الصحابة، وخلق كثير من التابعين.
دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين، وقال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وقال ابن مسعود أيضًا: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد. ورَوَى ابن أبي خيثمة بسند فيه جابر الجعفي أن ابن عمر كان يقول: ابنُ عباس أعلم أمة محمد بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وروى ابن سعد بسند صحيح أن أبا هريرة قال -لما مات زيد بن ثابت-: مات اليوم حبر الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا. وقال ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت مثل ابن عباس قط. وقال يزيد بن الأصمّ: خرج معاوية حاجا، وخرج ابن عباس حاجا، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس ممن يطلب العلم موكب. وقالت عائشة: هو أعلم الناس بالحج. وروى الزبير بن بكار في كتاب "الأنساب" بسند له فيه ضعف عن ابن عمر قال: كان عمر يدعو ابن عباس، ويُقَرِّبه، ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاك يومًا، فمسح رأسك، وتفل في فيك، وقال:"اللهم فَقِّهه في الدين، وعلمه التأويل". ورَوَى أحمد هذا المتن بسند لا بأس به، من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، وبعضه في "الصحيح". ورواه الطبرانيّ بمعناه من طريق ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس نحوه.
وعند أبي نعيم بسند له عن عبد الله بن بُريدة، عن ابن عباس قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل، فقال له جبريل: إنه كائن حبرَ هذه الأمة، فاستوصِ به خيرًا.
[فائدة]: رُوي عن غُندَر أن ابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا تسعة أحاديث. وعن يحيى القطان: عشرة. وقال الغزالي في "المستصفى": أربعة. وفيه نظر، ففي "الصحيحين" عن ابن عباس مما صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة، وفيهما مما شَهِدَ فعله نحوُ ذلك، وفيهما مما له حُكمُ الصريح نحوُ ذلك، فضلًا عما ليس في "الصحيحين".
ورَوَى سعيد بن جبير عنه قال: قُبض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة. وعنه قال: وأنا خَتِين. وعنه قال: ابن عشر سنين. وعنه قال: وأنا ابن خمس عشرة، وصوبه أحمد بن حنبل. وصحح ابنُ عبد البر ما قاله أهل السير أنه كان له عند موت النبي صلى الله عليه وسلم (13) سنة.
وقال أبو نعيم في آخرين: مات سنة ثمان وستين، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة. وكان موته بالطائف. وقيل: مات سنة (69)، وقيل سنة سبعين.
أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (1696) حديثًا، اتفق الشيخان على (75) حديثًا، وانفرد البخاريّ بـ (28) ومسلم بـ (49) حديثًا، وله في هذا الكتاب (344) حديثًا. والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
2 -
(ومنها). أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل باليمنيين، غير شيخه، فبصريّ، وابن عبّاس رضي الله عنهما، فمدنيّ، ثم بصريّ، ثم مكيّ، ثم طائفيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والإنباء، والعنعنة، وكلها من صيغ الاتصال، على الأصح في "عن" من غير المدلّس إذا ثبت السماع، واكتفى مسلم بالمعاصرة.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوى، والملقّب بالحبر والبحر، وآخر من مات من الصحابة بالطائف، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله (ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ) طاوس، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: إِنَّا كُنَّا نَحْفَظُ الحدِيثَ) بالبناء للفاعل: أي نأخذه من الناس، ونحفظه اعتمادًا على صدقهم (وَالحدِيثُ يُحْفَظُ) ببناء الفعل للمفعول، أي هو حقيقٌ بأن يُعتنى به. والجملة في محلّ نصب على الحال من "الحديث". وقوله:(عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "يُحفَظ"(فَأَمَّا إِذَا) هكذا في رواية المصنّف "إذا" بألف بعد الذال، ووقَع في رواية مسلم في "المقدّمة""إذ" بسكون الذال، والمعنى متقارب؛ لأن "إذا" ظرف مُستقبل، كما أن "إذ" ظرف ماضٍ، وكلاهما صالح هنا. والله تعالى أعلم (رَكبْتُمُ) بكسر الكاف، من باب علم (الصَّعْبَ) -بفتح الصاد المهملة، وسكون العين المهملة-: صفة مشبّهة من صَعُبَ الشيءُ صُعُوبَةً، فهو صَعْبٌ، والجمع صِعَابٌ، مثلُ سَهْمٍ وسِهَام. قاله الفيّوميّ.
(وَالذَّلُولَ) بفتح الذال المعجمة: صفة مشبّهة من ذَلّت الدابّة ذِلّا بالكسر: إذا سَهُلَت، وانقادت، فهي ذَلُولٌ، والجمع ذُلُلٌ بضمّتين، مثلُ رَسُول ورُسُلٍ، وذَلّلتها بالتثقيل في التعدية. قاله الفيّوميّ.
والكلام كناية عن الإفراط والتفريط في النقل، بحيث ما بقي الاعتماد على نقلهم.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا مثلٌ، وأصله في الإبل، ومعناه أن الناس تسامحوا في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجترؤوا عليه، فتحدّثوا بالمرضيّ عنه
الذي مثّله بالذّلول من الإبل، وبالمنكر منه الممثل بالصعب من الإبل. انتهى (1).
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: هو مثالٌ حسنٌ، وأصل الصعب والذلول في الإبل، فالصعب الْعَسِرُ المرغوب عنه، والذَّلُول السَّهْلُ الطيّب المحبوب المرغوب فيه. فالمعنى: سلك الناس كلَّ مَسْلَك مما يُحمد ويُذمّ. انتهى (2).
وقوله: (فَهَيْهَاتَ) جواب "إذا": أي بَعُد أن نقبل أحاديثكم، ونحفظ اعتمادًا عليكم. وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أي ما أبعد استقامة أمركم، أو فما أبعد أن نثق بحديثكم، ونسمع منكم، ونُعَوِّل على روايتكم. انتهى (3).
وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": قوله: "فهيهات": أي بَعُدت استقامتكم، أو بَعُد أن نثق بحديثكم.
و"هيهات": موضوعة لاستبعاد الشيء، واليأس منه. قال الإمام أبو الحسن الواحديّ:"هيهات": اسم سُمِّي به الفعل، وهو بَعُدَ في الخبر، لا في الأمر، قال: ومعنى "هيهات": بَعُدَ، وليس له اشتقاق، لأنه بمنزلة الأصوات، قال: وفيه زيادة معنى ليست في بَعُدَ، وهو أن المتكلم يخبر عن اعتقاده استبعاد ذلك الذي يخبر عن بعده، فكأنه بمنزلة قوله: بَعُد جِدّا، وما أبعده، لا على أن يعلم المخاطب مكان ذلك الشيء في البعد، ففي "هيهات" زيادة على "بَعُد"، وان كنا نفسره به، ويقال: هيهات ما قلتُ، وهيهات لِمَا قلتُ، وهيهات لك، وهيهات أنت.
وقال الواحدي: وفي معنى هيهات ثلاثة أقوال:
[أحدها]: أنه بمنزلة بَعُدَ، كما ذكرناه أولا، وهو قول أبي علي الفارسي، وغيره من حذاق النحويين.
(1)"المفهم" 1/ 124.
(2)
"شرح مسلم" 1/ 80.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 121.
[والثانى]: بمنزلة بعيد، وهو قول الفراء.
[والثالث]: بمنزلة البعد، وهو قول الزجاج، وابن الأنباري، فالأول نجعله بمنزلة الفعل، والثاني بمنزلة الصفة، والثالث بمنزلة المصدر. وفي "هيهات": ثلاث عشرة لغة، ذكرهن الواحديّ:"هيهات" -بفتح التاء، وكسرها، وضمها، مع التنوين فيهن، وبحذفه، فهذه ست لغات، و"أيهات" بالألف بدل الهاء الأولى، وفيها اللغات الست أيضا. والثالثة عشرة:"أيها" بحذف التاء من غير تنوين. وزاد غير الواحدى: "أيئات" بهمزتين بدل الهاءين، والفصيح المستعمل من هذه اللغات استعمالًا فاشيًّا "هيهات" بفتح التاء بلا تنوين. قال الأزهريّ: واتفق أهل اللغة على أن تاء هيهات ليست أصلية، واختلفوا في الوقف عليها، فقال أبو عمرو، والكسائيّ: يوقف بالهاء. وقال الفراء: بالتاء. انتهى كلام النوويّ (1).
وقال السنديّ في "شرحه": ويحتمل أن المعنى: إنا كنا نحفظ الحديث على الناس بالإلقاء عليهم، والرواية لهم، وحيث ظهرت فيهم الخيانة، فبعيد أن نروي لهم. وفيه أن كذب الناس يمنع من الأخذ، لا من تعليمهم، بل ينبغي أن يكون علّة لتعليمهم عقلًا، فإن الجهل يوجب الإكثار من الكذب، إلا أن يقال: إنهم كانوا يغيرون في النقل؛ لأنهم يَضَعُون الحديث، ومثل هذا إذا تُرك تعليمه لا يَنقُل، فلا يُغيّر. انتهى (2).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الذي ذكره السنديّ بعيد من سياق كلام ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما جدّا، كما يتبيّن من قصّته مع بُشير بن كعب الآتية في التنبيه التالي، ففيه قوله: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم.
(1)"شرح مسلم" 1/ 80 - 81 وقد أشبع النووي رحمه الله تعالى البحث في "هيهات" في كتابه النافع "تهذيب الأسماء واللغات" بما لا تراه في غيره، فطالعه 4/ 185 - 188. تزدد علمًا.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 24 - 25.
[تنبيه]: جرت قصّةٌ لابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما مع بُشير بن كعب، أخرجها الإمام مسلم رحمه الله تعالى في "المقدّمة" من طريق هشام بن حُجَير، عن طاوس، قال: جاء هذا إلى ابن عباس -يعني بُشير بن كعب- فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عُد لحديث كذا وكذا، فعاد له، ثم حدثه، فقال له: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: ما أدري أعرفت حديثي كله، وأنكرت هذا، أم أنكرت حديثي كله، وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس: إنا كنا نُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يُكْذَب عليه، فلما رَكِب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه.
وأخرج أيضًا من طريق قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: جاء بُشير الْعَدوي إلى ابن عباس، فجعل يُحَدِّث، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يَأْذَن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أُحَدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف، انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
أثر ابن عباس رضي الله عنهما هذا صحيح.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (مسلم) في "المقدّمة"(2/ 19 - 20) و (النسائيّ) في "السنن الكبرى" في "العلم"(1)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1) راجع "تحفة الأشراف" 5/ 14 حديث (5717).
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو التوقّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه دلالة هذا الأثر عليه أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اتّقى أحاديث الناس حذرًا من أن ينقل عنهم ما ليس من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حيث كانوا يحفظون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤدّونها كما سمعوا.
3 -
(ومنها): بيان تغير حال الناس في أواخر عهد الصحابة حيث نشأ أناس يُحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلّ من دبّ ودرج، من غير توقّ، فلذلك توقّى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أن يأخذ عنهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:
28 -
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدةَ، حَدَّثَنَا حَمَادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: بَعَثنَا عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَشَيَّعَنَا، فَمَشَى مَعَنَا إِلَى مَوْضِعٍ، يُقَالُ لَهُ: صِرَارٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: لحِقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلحِقِّ الْأَنْصَارِ، قَالَ. لَكِنِّي مَشَيْتُ مَعَكُمْ لحِدِيثٍ، أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لمِمْشَايَ مَعَكُمْ، إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ، لِلْقُرْآنِ في صُدُورِهِمْ هَزِيزٌ كهَزِيزِ المِرْجَلِ، فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنا شَرِيكُكُمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أحمد بن عبدة) بن موسى الضّبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [10].
رَوَى عن حماد بن زيد، ويزيد بن زُريع، وفضيل بن عياض، وابن عيينة، وغيرهم.
وروى عنه الجماعة إلا البخاري، ورَوَى عنه في غير "الجامع"، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال: ثقة، وابن خزيمة، وأبو القاسم البغوي، وعِدّة.
قال النسائي: ثقة. وفي موضع آخر: لا بأس به. وتكلم فيه ابن خراش، فلم
يَلتَفِت إليه أحد للمذهب. وذكر ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في رمضان سنة (245). وله في هذا الكتاب (45) حديثًا.
2 -
(حماد بن زيد) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ الأزرق، مولى آل جرير بن حازم، ثقة ثبت فقيه، من كبار [8].
رَوَى عن ثابت البناني، وأنس بن سيرين، وعبد العزيز بن صهيب، وخلق كثير.
وروى عنه ابن المبارك، وابن مهدي، وابن وهب، والقطان، وابن عيينة، وهو من أقرانه، والثوري وهو أكبر منه، وإبراهيم بن أبي عبلة، وهو في عداد شيوخه، وخلق كثير. قال رسته: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة. وقال ابن مهدي: ما رأيت أعلم من هؤلاء: فذكرهم سوى الأوزاعي. وقال فطر بن حماد: دخلت على مالك، فلم يسألني عن أحد من أهل البصرة إلا عن حماد بن زيد. وقال ابن مهدي: لم أر أحدا قط أعلم بالسنة، ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد. وقال أبو حاتم: قاك ابن مهدي: ما رأيت بالبصرة أفقه من حماد بن زيد. وقال محمد بن المنهال الضرير: سمعت يزيد بن زريع، وسئل ما تقول في حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، أيهما أثبت؟ قال: حماد بن زيد، وكان الآخر رجلا صالحا. وقال وكيع، وقيل له: أيهما أحفظ؟ فقال: حماد بن زيد، ما كنا نشبهه إلا بمسعر. وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: ما رأيت أحفظ منه. وقال أحمد بن حنبل: حماد بن زيد أحب إلينا من عبد الوارث، حماد من أئمة المسلمين، من أهل الدين والإسلام، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة. وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث، وابن علية، والثقفي، وابن عيينة. وقال أيضا: ليس أحد أثبت في أيوب منه. وقال أيضا: من خالفه من الناس جميعا فالقول قوله في أيوب. وقال أبو زرعة: حماد بن زيد أثبت من حماد بن سلمة بكثير، وأصح حديثا وأتقن. وقال أبو عاصم: مات حماد يوم مات، ولا أعلم له في الإسلام نظيرا في هيئته ودَلِّه. وقال خالد بن خداش: كان من عقلاء الناس، وذوي
الألباب. وقال يزيد بن زريع يوم مات: اليوم مات سيد المسلمين. وقال محمد بن سعد: كان عثمانيا، وكان ثقة ثبتا حجة كثير الحديث. وقال أبو زرعة: سمعت أبا الوليد يقول: ترون حماد بن زيد دون شعبة في الحديث؟ وقال عبد الله بن معاوية الجمحي: حدثنا حماد بن سلمة بن دينار، وحماد بن زيد بن درهم، وفضلُ ابنِ سلمة على ابن زيد، كفضل الدينار على الدرهم. وقال ابن منجويه، وابن حبان: كان ضريرا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا يردّه ما روأه ابن أبي خيثمة، قال: سأل إنسان عبيد الله بن عمر: كان حماد أميا؟ قال: أنا رأيته، وأتيته يوم مطر، فرأيته يكتب، ثم ينفخ فيه ليجف، قال: وسمعت يحيى يقول: لم يكن أحد يكتب عند أَبواب إلا حماد، إلا أن يُجاب -كما قال الحافظ- بأن العمى طرأ عليه. والله تعالى أعلم.
وقال ابن حبان في "الثقات": وقد وهم من زعم أن بينهما كما بين الدينار والدرهم، إلا أن يكون القائل أراد فضل ما بينهما مثل الدينار والدرهم في الفضل والدين؛ لأن حماد بن سلمة كان أفضل، وأدين، وأورع من حماد بن زيد. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه، رضيه الأئمة، قال: والمعتمد في حديث يرويه حماد، ويخالفه غيره عليه، والرجوع إليه. قال خالد بن خداش: وُلد سنة (98). وقال عارم وجماعة: مات في رمضان سنة (179).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (57) حديثًا.
3 -
(مجالد) -بضم الميم، وتخفيف الجيم- ابن سعيد بن عمير الْهَمْدَانيّ الكوفي، ضعيف، من صغار [6] تقدم في 1/ 11.
4 -
(الشعبيّ) عامر بن شَرَاحيل المذكور قبل حديث.
5 -
(قَرَظة (1) بن كعب) بن ثعلبة بن عمرو بن كعب بن الإطنابة الأنصاري الخزرجيّ، حليف بني عبد الأشهل. ويقال: قرظة بن عمرو بن كعب بن عمرو بن
(1) بفتحتين، وظاء مشالة.
عائذ بن زيد مناة بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، هكذا نسبه ابن الكلبيّ وغيره. وقال ابن السكن: يُكنى أبا عمرو، قال البخاريّ: له صحبة وقال البغويّ: سكن الكوفة. وقال ابن سعد: أمه خُليدة بنت ثابت بن سنان، وهو أخو عبد الله بن أُنيس لأمه. وشهد قَرَظة أحدًا وما بعدها، وهو أحد العشرة الذين وجههم عمر إلى الكوفة من الأنصار يفقّهون الناس، وعلى يده كان فتح الرّيّ، وولاه عليّ الكوفةَ، وتُوُفّي بها في ولايته، وقيل: في إِمْرَة المغيرة بن شعبة. وقال ابن أبي حاتم: يقال له صحبة، سكن الكوفة، وابتنى بها دارًا، وكنيته أبو عمرو، مات في خلافة عليّ، فصلّى عليه.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وروى عنه عامر الشعبي، وعامر بن سعد البجلي، قال سعيد بن عبيد الطائي عن علي بن ربيعة: أوّلُ من نِيح عليه بالكوفة قَرَظة بن كعب، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من نِيح عليه يعذب"، رواه مسلم، والترمذيّ.
قال في "تهذيب التهذيب": رجح الحافظ المزّيّ أنه مات في إمارة المغيرة، مستدلا بهذا الحديث، وليست فيه دلالة لاحتمال أن يكون المغيرة قال ذلك عند موته، ولم يكن حينئذ أميرا. وقد جزم أبو حاتم الرازي، وابن سعد، وابن حبان، وابن عبد البر بأنه مات في ولاية علي، وأن عليا صلى عليه، لكن في "صحيح مسلم" في هذه القصة عن علي بن ربيعة: أتيت المسجد، والمغيرة أمير الكوفة، وفي روايه له:"أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب". وفي رواية الترمذي: مات رجل من الأنصار يقال له: قرظة بن كعب، فنيح عليه، فجاء المغيرة، فصعد المنبر، فهذا يُقَوّي قول من قال: إنه مات في إمارة المغيرة، وكانت إمارته على الكوفة في عشر الخمسين. انتهى.
وقال في "الإصابة" بعد أن أورد حديث مسلم المذكور: ما نصّه: وهذا يقتضي أن يكون قرظة مات في خلافة معاوية حين كان المغيرة على الكوفة؛ لأن المغيرة كان في مدة الاختلاف بين عليّ ومعاوية مقيمًا بالطائف، فقدِم بعد موت عليّ، فولّاه معاوية الكوفة
بعد أن سلّم له الحسن الخلافة، وبذلك جزم ابن سعد، وقال: مات بالكوفة، والمغيرة والٍ عليها. وكذا قال ابن السكن، وزاد: وهو الذي قتل ابن النوّاحة، صاحب مسيلمة في ولاية ابن مسعود بالكوفة، وفتح الريّ سنة ثلاث وعشرين، وأسند ما تقدّم في خلافة عليّ عن عليّ بن المدينيّ، ووقع التصريح بأن المغيرة كان يومئذ أمير الكوفة في رواية لمسلم. وفي رواية الترمذيّ:"فجاء المغيرة، فصعِد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: ما بال النَّوْح في الإسلام؟ "، ثم ذكر الحديث. وفي "كتاب العلم" من "صحيح البخاريّ" ما يدلّ على أن المغيرة مات وهو أمير الكوفة في خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهم انتهى (1).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح أن قرظة مات في إمرة المغيرة في خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط. وله عند النسائيّ حديث واحد، رقم (3383)"رُخّص لنا في اللهو عند العرس".
6 -
(عمر بن الخطاب) بن نفيل بن عبد العُزَّى بن رِيَاح -بالتحتانية- ابن عبد الله ابن قرط بن رزاح -بمهملة، ومعجمة، وآخره مهملة- ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي، أبو حفص، أمير المؤمنين، وأمه حَنْتَمَة بنت هاشم بن المغيرة المخزومية، كذا قال ابن الزبير. وروى أبو نعيم من طريق ابن إسحاق أنها بنت هشام، أخت أبي جهل. جاء عنه أنه وُلد بعد الفجار الأعظم بأربع سنين، وذلك قبل المبعث النبوي بثلاثين سنة، وقيل بدون. وذكر خليفة بسند له أنه وُلد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة. وكان إليه السفارة في الجاهلية. وكان عند المبعث شديدًا على المسلمين، ثم أسلم فكان إسلامه فتحا على المسلمين، وفرجا لهم من الضيق. قال عبد الله بن مسعود: وما عبدنا الله جهرة حتى أسلم عمر. وأخرج ابن أبي الدنيا بسند صحيح، عن أبي رجاء
(1)"راجع الإصابة" 5/ 328 - 330.
العطاردي، قال: كان عمر طويلًا، جسيمًا، أصلع، أشعر، شديد الحمرة، كثير السَّبَلَة (1) في أطرافها صهوبة، وفي عارضيه خِفَّة. وروى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" بسند جيد إلى زِرّ بن حُبَيش قال: رأيت عمر أعسر أصلع آدم، قد فَرعَ الناسَ، كأنه على دابة، قال: فذكرت هذه القصة لبعض ولد عمر، فقال: سمعنا أشياخنا يذكرون أن عمر كان أبيض، فلما كان عام الرَّمَادة، وهي سنة المجاعة، ترك أكل اللحم والسمن، وأدمن أكل الزيت حتى تغير لونه، وكان قد احمرّ، فشحب لونه، وأخرج ابن سعد بسند جيد من طريق سماك بن حرب، أخبرني هلال بن عبد الله قال: رأيت عمر جسيمًا، كأنه من رجال بني سدوس، وأخرج يونس بن بُكير في زيادات المغازي، عن أبي عمر الجزار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب"، فأصبح عمر، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج أبو يعلى من طريق أبي عامر العقدي، عن خارجة، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك، بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام"، وكان أحبهما إلى الله عمر بن الخطاب. وأخرجه عبد بن حميد، عن أبي عامر، عن خارجة بن عبد الله الأنصاري به.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (78) حديثا. والله تعالى أعلم.
شرح الأثر:
(عَنْ قَرَظَةَ) بفتحتين (ابْنِ كَعْب) الأنصاريّ الخزرجيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: بَعَثنَا عُمَرُ ابْنُ الخطَابِ) رضي الله تعالى عنه (إِلَى الْكُوفَةِ) ليُقرءوا الناس القرآن، ويُفقّهوهم في الدين.
[فائدة]: "الكوفة" -بضم الكاف-: مدينة مشهورة بالعراق، قيل: سُمّيت كُوفةً؛ لاستدارة بنائها؛ لأنه يقال: تكوّف القوم: إذا اجتمعوا، واستداروا. قاله
(1) السَّبَلَة بالتحريك: الشارب، جمعه سِبال.
الفيّوميّ.
وقال في "القاموس" وشرحه: الْكُوفة بالضمّ: الرَّمْلة الحمراء المجتمعة. وقيل: المستديرة. أو كلُّ رملة تُخالطها حصباء، أو الرملة ما كانت. والكوفة: مدينة بالعراق الكبرى، وهي قبّة الإسلام، ودار هجرة المسلمين. قيل: مصّرها سعد بن أبي وقّاص، وكان قبل ذلك منزل نوح عليه السلام، وبنى مسجدها الأعظم. واختُلف في سبب تسميتها، فقيل: سُمّيت لاستدارتها، وقيل: بسبب اجتماع الناس بها، وقيل: لكونها كانت رملة حمراء، أو لاختلاط ترابها بالحصى. ويقال لها أيضًا كُوفان بالضمّ، ويُفتح، وكُوفَة الجند؛ لأنه اختُطّت فيها خِطَطُ العرب أيام عثمان رضي الله عنه، خططها السائب بن الأقرع الثقفيّ رضي الله عنه. أو سُمّيت بكُوفان، وهو جُبَيلٌ صغير، فَسَهّلوه، واختطّوا عليه. أو من الكَيْف، وهو القطع؛ لأن أَبْرَوِيز أقطعه لِبَهْرَامَ، أو لأنها قطعة من البلاد، والأصلُ كُيفَةٌ، فلما سَكَنَتِ الياء، وانضمّ ما قبلها جُعلت واوًا، أو هي من قولهم: هم في كُوفَانٍ بالضمّ، ويُفتح، وكَوَّفَانٍ مُحرّكةً ممشدّدةَ الواو: أي في عِزّ ومَنَعَة، أو لأن جَبَل سَاتِيدما محيطٌ بها كالكاف، أو لأن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه لمّا أراد أن يبني الكوفة، وارتاد هذه المنزلة للمسلمين، قال لهم: تكوّفوا في هذا المكان: "أي اجتمعوا فيه، أو لأنه قال: كَوِّفُوا هذه الرملةَ: أي نَحُّوها، وانزلوا. قال والمسافة ما بين الكوفة والمدينة نحو عشرين مرحلة. انتهى باختصار (1).
(وَشَيَّعَنَا) أي خرج معنا للتوديع، قال في "المصباح": شيّعتُ الضيفَ: إذا خرجتَ معه عند رَحِيله؛ إكرامًا له، وهو التوديع انتهى (2).
(فَمَشَى) عمر رضي الله عنه (مَعَنَا إِلَى مَوْضِع، يُقَال لَه: صِرَارٌ) قال في "القاموس"، و"شرحه": الصِّرَارُ بالكسر، ككتاب: موضع بقرب المدينة، وهو ماء محُتفر، جاهليّ،
(1)" تاج العروس من جواهر القاموس" 6/ 240.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 329.
على سمت العراق، وقيل: أُطُمٌ لبني عبد الأشهل. انتهى (1).
وزاد الحاكم في روايته الوضوء، ولفظه: "فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صِرَار، فتوضّأ
…
".
(فَقَالَ: أَتَدْرُونَ) أي أتعلمون (لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ قَالَ) قوظة (قُلْنَا) أي قال المبعوثون إلى الكوفة (لَحِقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) متعلّق بمقدّر أي مشيت معنا لحقّ الخ (وَلَحِقِّ الْأَنْصَارِ) -بفتح الألف، وسكون النون، وفتح الصاد المهملة، وفي آخرها الراء- هم جماعة من أهل المدينة من الصحابة من أولاد الأوس والخزرج، قيل لهم الأنصار؛ لنصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} الآية [الأنفال: 74]، وقال عزّ من قائل:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]، وقال الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وفيهم كثرة وشهرة على اختلاف بطونها، وأفخاذها، ومن أولادهم إلى الساعة جماعة يُنسبون إليهم. ذكره أبو سَعْد السمعانيّ في كتابه "الأنساب"(2).
والمعنى: أنك مشيت معنا أيضًا للحقّ الذي جعله الله تعالى للأنصار، من وجوب احترامهم، والقيام بمهمّاتهم؛ لنصرهم الإلسلام، وإيوائهم أهله، فلهم بذلك حقّ على كلّ مسلم، ولهذا أوصى النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم ولاة الأمور بعده، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، بِمِلْحَفة، قد عَصَبَ بِعِصَابة دَسْمَاء حتى جلس على المنبر،
(1)"تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 330.
(2)
"الأنساب" 1/ 228.
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعدُ، فإن الناس يكثرون، وَيقِلّ الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن وَلِيَ منكم شيئا، يضُرّ فيه قومًا، وينفع فيه آخرين، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، فكان آخر مجلس جلس به النبي صلى الله عليه وسلم (1).
(قَالَ) عمر رضي الله عنه (لَكِنِّي) استدراك من مقدّر أي هذا الذي ذكرتموه، وإن كان مما يُمشَى من أجله، لكنه الآن ليس هو وحده حاملًا لمشيي معكم، وإنما (مَشَيْتُ مَعَكُمْ لَحِدِيثٍ) أي لأجل بيان حديث (أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لَمِمْشَايَ مَعَكُمْ) يحتمل أن يكون "ممشى" مصدرًا ميميّا، ويحتمل أن يكون ظرفًا زمانيّا، أو مكانيّا: أي وقت مشيي، أو مكان مشيي.
والمعنى: إنما مشيت معكم ليكون ممشاي هذا حاملًا لكم، وباعثًا إياكم على أن تحفظوا ما أُحدّثكم به؛ لأنهم إذا تذكّروا مشيه معهم مكانًا بعيدًا، مع كبر سنّه، ووجاهته، وكونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حملهم ذلك كله على أن يعتنوا بحفظ ما يُحدّثهم به، والعمل بمقتضاه.
ثم بيّن الحديث الذي يريد أن يحدّثهم به، بقوله:(إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ) بفتح الدال، من باب تَعِبَ (عَلَى قَوْمٍ، لِلْقُرْآنِ) بكسر اللام، وهي لام الجرّ، والجار والمجرور خبر مقدّم لقوله" "هزيز" (في صُدُورِهِمْ) متعلّق بحال مقدّر (هَزِيزٌ كَهَزِيزِ الْمِرْجَلِ) "الهزيز" -بفتح الهاء، وكسر الزاي-: صوت غَلَيَان القِدْر، وتردُّد صوت الرعد. قاله في "القاموس". وقال في "اللسان": هَزِيز الريح: دَويّها عند هزّها الشجر. قال امرؤ القيس [من الطويل]:
إِذَا مَا جَرَى شَأْوَيْنِ وَابْتَلَّ عِطْفُهُ
…
تَقُولُ هَزِيزُ الرِّيحِ مَرَّتْ بِأَثْأَبِ (2)
و"الْمِرْجَل" -بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الجيم-: قِدرٌ من نُحاس، وقيل
(1) انظر "صحيح البخاريّ" في "كتاب المناقب" رقم (3628). ترقيم "الفتح".
(2)
"الأثأب": شجرٌ ينبت في بطون الأودية بالبادية. قاله في "اللسان".
يُطلقُ على كلّ قِدْرٍ يُطبخ فيها. قاله في "المصباح". وقال في "النهاية": "الْمِرجل" بالكسر: هو الإناء الذي يُغلى فيه الماء، وسواء كان من حديد، أو صُفر، أو حجارة، أو خَزَف، والميم زائدة، قيل: لأنه إذا نُصب كأنه أُقيم على أرجل. انتهى (1).
ولفظ الحاكم: "قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تبدونهم بالأحاديث، فيشغلونكم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامضوا وأنا شريككم، فلما قدِم قَرَظة قالوا: حدّثنا، قال: نهانا عمر بن الخطّاب".
و"دويّ النحل" -بفتح الدال المهملة- صوتها.
(فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ) أي للأخذ عنكم، وتسليما للأمر إليكم، وتحكيمًا لكم (وَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ) خبر لمبتدإ محذوف: أي هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون فاعلا لفعل محذوف: أي جاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) أي لا تكثروا رواية أحاديثه صلى الله عليه وسلم لهم نظرًا إلى كثرة طلبهم، وشوقهم في الأخذ عنكم؛ تعظيمًا لأمر الرواية عنه صلى الله عليه وسلم، أو لئلا يُشغلوا بذلك عن قراءة القرآن، والاحتمال الأول هو الذي فهمه المصنّف رحمه الله تعالى، حيث أورد الحديث في "باب التوقّي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والاحتمال الثاني هو الذي يؤيّده السياق، حيث إن عمر رضي الله عنه قال لهم:"إنكم تَقْدَمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز الخ"، فإنه يدلّ على أن أمره لهم بالإقلال من الرواية لئلا يشغلهم كثرة الحديث عن قراءة القرآن. وأوضح منه ما سبق آنفًا من رواية الحاكم. والله تعالى أعلم. وقوله:(وَأَنَا شَرِيكُكُمْ) أي في الأجر بسبب أنه الدالّ لهم على الخير، والباعث لهم عليه؛ لأن الدالّ على الخير كفاعله، فقد أخرج أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير، فله مثل أجر فاعله" .. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)"النهاية" 4/ 315.
مسائل تتعلقُ بهذا الأثر:
(المسألة الأولى): في درجته:
أثر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.
[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، كما سبق؟.
[قلت]: لم ينفرد به، بل تابعه عليه بيان بن بشر الأحمسيّ، وهو ثفة ثبت، فقد رواه أبو عبد الله الحاكم في "المستدرك"(1/ 102) عن محمد بن يعقوب الأصمّ، عن محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن ابن عُيينة، عن بيان، عن الشعبيّ به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وله طرق تُجمَع، ويُذاكر بها. قال: وقَرَظَة بن كعب صحابيّ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأما رواته فقد احتجّا بهم، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف رحمه الله هنا بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (الحاكم) في "المستدرك" كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ترجم له المصنّف، على ما فهمه هو، وإن كان ظاهر سياق الأثر يدلّ على أن أمر عمر رضي الله عنه بإقلال الرواية خوفًا من الاشتغال به عن القرآن، لا خوفًا من الزيادة والنقصان، كما هو ظاهر تبويب المصنّف. والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): مدح عمر رضي الله عنه لأهل الكوفة الذين كانوا في عهده، قبل أن ينشأ فيهم أصحاب الأهواء الباطلة، فإن الكوفة معروفة بالتشيّع وغيره من الأهواء، ولكن هذا متأخر عن عهده رضي الله عنه.
3 -
(ومنها): بيان تواضع عمر رضي الله عنه حيث يخرج بنفسه ليودّع أهل العلم؛ إذ خرجوا لنشر علمهم، وتفقيه الأمة، ودعوتها إلى السنة المطهّرة.
4 -
(ومنها): الحثّ على ملازمة القرآن، وعدم الاشتغال بغيره، وهذا إذا كان يخشى أن ينساه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم
الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:
29 -
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى ابْنِ سَعِيدٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(محمد بن بشّار) بُندَار الحافظ الثبت المذكور قبل ثلاثة أسانيد.
2 -
(عبد الرحمن) بن مهديّ الإمام الحجة المذكور قبل ثلاثة أسانيد أيضًا.
3 -
(حماد بن زيد) بن درهم الإمام الحافظ المذكور في السند الماضي.
4 -
(يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، ويقال: يحيى بن سعيد بن قيس بن قَهْد، ولا يصح، قاله البخاري، الأنصاريُّ النجاريُّ أبو سعيد المدني القاضي، ثقة ثبت [5].
رَوَى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ومحمد بن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، وغيرهم. ورَوَى عنه الزهري، ويزيد بن الهاد، وابن عجلان، ومالك، وشعبة، والسفيانان، وحماد بن زيد، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، حجة ثبتا. وقال جرير بن عبد الحميد: لم أر أنبل منه. وقال حماد بن زيد: قدم أيوب من المدينة، فقال: ما تركت بها أحدا أفقه من يحيى بن سعيد. وقال سعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحي: ما رأيت أقرب شبها بالزهري من يحيى بن سعيد، ولولاهما لذهب كثير من السنن. وقال ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وأبي الزناد، وبكير بن الأشج. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: يحيى بن سعيد يوازي الزهري. وقال الثوري: كان أجل عند أهل المدينة من الزهري. وقال الليث: لم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، وعده الثوريّ في الحفاظ، وابن عيينة في محدثي الحجاز الذين يجيئون بالحديث على وجهه،
وابن المديني في أصحاب صحة الحديث وثقاته، ممن ليس في النفس من حديثهم شيء، وابن عمار في موازين أصحاب الحديث، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، له فقه، وكان رجلا صالحا، وكان قاضيا على الحيرة، وثَمَّ لقيه يزيد بن هارون، وقال أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة: ثقة. وقال أحمد بن سعيد الدارمي: سمعت أصحابنا يحكون عن مالك، قال: ما خرج منا أحد إلى العراق إلا تغير غير يحيى بن سعيد.
قال ابن سعد، وغير واحد: مات سنة ثلاث. وقال يزيد بن هارون، وعمرو بن علي: مات سنة أربع وأربعين ومائة. وقيل: مات سنة ست وأربعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (43) حديثًا.
5 -
(السائب بن يزيد) بن سعيد بن ثمامة بن الأسود الكندي، ويقال: الأسدي، أو الليثي، أو الْهُذَليُّ وقال الزهري: هو من الأزد، عداده في كنانة، وهو ابن أخت النمر، لا يُعْرَفُون إلا بذلك، له ولأبيه صحبة. قال محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد: حَجَّ بي أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن سبع سنين. روى عن صلى الله عليه وسلم، وعن حويطب بن عبد العزى، وعمر، وعثمان، وعبد الله بن السعدي، وأبيه يزيد، وخاله العلاء بن الحضرمي، وطلحة بن عبيد الله، وسعد، وسفيان بن أبي زهير، وعبد الرحمن بن عبد القاري، ومعاوية، وعائشة، وغيرهم.
وروى عنه ابنه عبد الله، والجعد بن عبد الرحمن، وإبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، ويحيى بن سعيد، والزهريّ، وغيرهم. وقال ابن عبد البر: كان عاملا لعمر على سوق المدينة. وقال أبو نعيم: تُوفي سنة اثنتين وثمانين. وذكره البخاري في "فصل من مات ما بين التسعين إلى المائة". وقال ابن أبي داود: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الواقدي: تُوفي بالمدينة سنة إحدى وتسعين. وقال غيره: سنة (6) وقيل: سنة (88). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث برقم (29) و (509) و (1063) و (1125) و (1333) و (2796) و (3197).
6 -
(سعد بن مالك) هو سعد بن أبي وقّاص مالك بن أُهيب، ويقال له: ابن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب القرشي الزهري، أبو إسحاق، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم موتا. وأمه حَمْنة بنت سفيان بن أمية، بنت عم أبي سفيان ابن حرب بن أمية. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، وروى عنه بنوه: إبراهيم، وعامر، ومصعب، وعمر، ومحمد، وعائشة، ومن الصحابة عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن سمرة، ومن كبار التابعين سعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، وعلقمة، والأحنف، وآخرون. وكان أحد الفرسان، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أحد الستة أهل الشورى. وقال عمر رضي الله عنه في وصيته: إن أصابت الإمرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به الذي يلي الأمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وكان عمر أَمّره على الكوفة سنة إحدى وعشرين، ثم لما ولي عثمان أمّره عليها، ثم عزله بالوليد بن عقبة سنة خمس وعشرين. وكان رأس من فتح العراق، ووَلِي الكوفة لعمر، وهو الذي بناها، ثم عُزِل، ووليها لعثمان، وكان مجاب الدعوة، مشهورا بذلك. مات سنة إحدى وخمسين. وقيل: ست. وقيل: سبع. وقيل: ثمان. والثاني أشهر. وقد قيل: إنه مات سنة خمس. وقيل: سنة أربع. وقع في "صحيح البخاري" عنه أنه قال: لقد مكثت سبعة أيام، وإني لَثُلُث الإسلام. وقال إبراهيم بن المنذر: كان هو وطلحة، والزبير، وعليّ عِذَار عام واحد، أي كان سنهم واحدا. ورَوَى الترمذي من حديث جابر قال: أقبل سعد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا خالي، فليرني امرؤ خاله".
مات سعد بالعقيق، وحُمل إلى المدينة، فصُلي عليه في المسجد. وقال الواقدي: أثبت ما قيل في وقت وفاته: إنها سنة خمس وخمسين. وقال أبو نعيم: مات سنة ثمان وخمسين.
أخرج له الجماعة، وله (271) حديثًا، اتفق الشيخان على (15) حديثًا، وانفرد البخاريّ بخمسة أحاديث، ومسلم بثمانية عشر حديثًا، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذي اتفق على الرواية عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.
6 -
(ومنها): أن سعدًا رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم موتا، وكان أحد الفرسان، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أحد الستة أهل الشورى، وكان مجاب الدعوة. والله تعالى أعلم.
شرح الأثر:
(عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ) هو ابن أبي وقّاص رضي الله عنه (مِنَ المدِينةِ إِلَى مَكَةَ) وفي رواية الدارميّ: "قال: خرجت مع سعد إلى مكة"(فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ) زاد في رواية الدارمي: "حتى رجعنا إلى المدينة". وأخرج البخاري في "الجهاد والسير" من "صحيحه" من طريق محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، قال:"صحبت طلحة بن عبيد الله، وسعدًا، والمقداد بن الأسود، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد".
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: كان كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية المزيد والنقصان (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه
(1) راجع "الفتح" 6/ 46.
المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الأثر:
(المسألة الأولى): في درجته:
أثر سعد بن مالك رضي الله تعالى عنه هذا صحيح، وقال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح، موقوف. انتهى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا وهو بهذا السياق من أفراده، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره.
وأخرجه (البخاريّ) في "الجهاد"، و"المغازي" من وجه آخر عن السائب، وقد سبق لفظه آنفًا. و (الدارميّ) في "المقدمة"(281) والبيهقيّ في "كتاب الزكاة""سننه"(4/ 106) من طريق ابن لهيعة، عن يحيى بن سعيد، وفيه زيادة، ولفظه: قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: صحبت سعد بن أبي وقّاص زمانًا، فلم أسمعه يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا واحدًا، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يُفرّق بين مجتمع، ولا يُجمَع بين متفرّق في الصدقة، والخليطان ما اجتمع على الفحل، والراعي، والحوض. انتهى.
واستدلال المصنّف بهذا الأثر على ترجمته واضحٌ لأنه يدلّ على شدّة توقّي سعد رضي الله عنه عن التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية من الزيادة والنقصان، والتصحيف، والتحريف، فيدخل في الوعيد الشديد لمن كذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ الكذب لا يشترط فيه التعمّد، بل يوجد خطأ ونسيانًا؛ لأن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدًا، أم خطأ، والمخطىء والناسي وإن كانا غير آثمين بالإجماع، لكن قد يأثم بالإكثار، إذ الإكثار مظنّة الخطأ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.