المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - (باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه - جـ ١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌4 - (باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

‌4 - (بابُ التَّغليظ في تَعمُّدِ الكَذبِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

-)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "التغليظ": مصدر غلّظ، يقال: غَلَّظ عليه في اليمين تغليظًا: إذا شدّد عليه، وأكّد، وغلّظت اليمينَ تغليظًا أيضًا: إذا قوّيتها، وأكّدتها. قاله الفيّوميّ (1).

و"التعمّد" مبالغة في العمد.

و"الكذب" بفتح، فكسر مصدر كَذَب يَكذِب، من باب ضرب، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وفتحها، مع سكون الذال فيهما، وهو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء فيه العمد والخطأ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنّة، والإثم يَتْبعُ العمد. وأكذب نفسه، وكذّبها: بمعنى اعترف بأنه كَذَبَ في قوله السابق، وأكذبت زيدًا بالألف وجدتُهُ كاذبًا، وكذّبته تكذيبًا: نسبتُهُ إلى الكذب، أو قلتُ له: كَذَبْتَ. قاله الفيوميّ (2).

وقال في "عمدة القاري": الكذب خلاف الصدق. قال الصغانيّ: تركيب الكذب يدلّ على خلاف الصدق، وتلخيصه أنه لا يبلغ نهاية الكلام في الصدق. والكذب عند الأشعريّة الإخبار عن الأمر على خلاف ما هو عليه عمدًا أو سهوًا، خلافًا للمعتزلة في اشتراطهم العمديّة. ويقال: فيه ثلاثة مذاهب: المذهب الحقّ أن الكذب عدم مطابقة الواقع، والصدق مطابقته. والثاني: أنهما مطابقة الاعتقاد، أو لا مطابقته. والثالث: مطابقة الواقع مع اعتقاد المطابقة، ولا مطابقته مع اعتقاد لا مطابقته، وعلى الأخيرين يكون بينهما الواسطة. انتهى (3)، والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)"المصباح المنير" 2/ 451.

(2)

"المصباح" 2/ 528.

(3)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" 2/ 107 - 108.

ص: 404

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

30 -

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الَرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقة ثبت حافظ [10] 1/ 1.

2 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيد) بن سهل بن شَهْريار الْهَرَويّ الأصل، أبو محمد الْحَدَثَاني -بفتح المهملة، والمثلّثة- ويقال له: الأنباريّ -بنون، ثم موحّدة- سَكَنَ الحدِيثة، تحت عانة وفوق الأنبار، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِى، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، وأفحش فيه ابن معين القول، من قُدَماء [10].

رَوَى عن مالك، وحفص بن ميسرة، ومسلم بن ميسرة، ومسلم بن خالد الزنجي، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد: عَرَضتُ على أبي أحاديث سُويد عن ضِمَام بن إسماعيل، فقال لي: اكتبها كلها، فإنه صالح، أو قال ثقة. وقال الميموني عن أحمد: ما عَلِمتُ إلا خيرا. وقال البغوي: كان من الحفاظ، وكان أحمد ينتقي عليه لولديه، فيسمعان منه. وقال أبو داود عن أحمد: أرجو أن يكون صدوقًا، لا بأس به. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا، وكان يدلس ويكثر. وقال البخاري: كان قد عَمِي فتَلَقّن ما ليس من حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، مضطرب الحفظ، ولا سيما بعدما عَمِيَ. وقال صالح ابن محمد: صدوق إلا أنه كان عَمِي، فكان يُلَقِّن أحاديث ليس من حديثه. وقال الْبَرْذَعِيّ: رأيت أبا زرعة يُسيىء القول فيه، فقلت له: فَأَيْشٍ حاله؟. قال: أما كُتُبه

ص: 405

فصحاح، وكنت أتتبع أصوله فأكتب منها، فأما إذا حدَّث من حفظه فلا. قال: وسمعت أبا زرعة يقول: قلنا لابن معين: إن سُويدا يحدِّث عن ابن أبي الرجال عن ابن أبي رَوّاد، عن نافع، عن ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في ديننا برأيه فاقتلوه"، فقال يحيى: ينبغي أن يُبْدَأ بسويد فيُقتَل. وقيل لأبي زرعة: إن سويدا يحُدث بهذا عن إسحاق بن نَجِيح، فقال: نعم، هذا حديث إسحاق، إلا أن سُويدا أَتَى به عن ابن أبي الرجال، قلت: فقد رواه لغيرك عن إسحاق؟ فقال: عَسَى، قيل له: فرجع. وقال الحاكم أبو أحمد: عَمِي في آخر عمره، فربما لُقِّن ما ليس من حديثه، فمن سَمِع منه وهو بصير فحديثه عنه حسن. وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون، أخبرني سليمان بن الأشعث، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: سويد بن سعيد حلال الدم. وقال محمد ابن يحيى الْخَزّاز: سألت ابن معين عنه، فقال: ما حدثك فاكتب عنه، وما حدث به تلقينا فلا. وقال عبد الله بن علي بن المديني: سئل أبي عنه، فحرك رأسه، وقال. ليس بشيء. وقال أبو بكر الأعين: هو سِدَادٌ من عيش، هو شيخ. وقال أبو بكر الإسماعيلي: في القلب من سُويد شيء، من جهة التدليس، وما ذُكِر عنه في حديث عيسى بن يونس الذي كان يقال: تفرد به نعيم بن حماد. وقال حمزة بن يوسف السهمي: سألت الدارقطني عن سويد، فقال: تكلم فيه يحيى بن معين، وقال حَدَّث عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، رَفَعَه:"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". قال ابن معين: وهذا باطل عن أبي معاوية. قال الدارقطني: فلم يَزَل يُظَنّ أن هذا كما قال يحيى، وأنّ سُويدًا أَتى أمرًا عظيمًا في روايته هذا الحديث، حتى دخلت مصر في سنة سبع وخمسين -يعني وثلاثمائة- فوجدت هذا الحديث في "مسند" أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي المُنْجَنِيقِيّ، وكان ثقة، رواه عن أبي كريب، عن أبي معاوية، كما قال سويد سواءً، وتَخَلَّص سويد، وصحّ الحديث عن أبي معاوية. وقال العجليّ: ثقة، من أروى الناس عن علي بن مسهر. وقال ابن حبان: كان أتى عن الثقات بالمعضلات، رَوَى عن أبي مسهر -يعني عن أبي يحيى القتات- عن مجاهد، عن ابن

ص: 406

عباس، رَفَعَه:"مَنْ عَشِقَ وكَتَم وعَفَّ ومات مات شهيدًا". قال: ومَن رَوَى مثل هذا الخبر عن أبي مسهر تجب مجانبة رواياته، هذا إلى ما لا يُحصَى من الآثار، ونقل الأخبار. وقال فيه يحيى بن معين: لو كان لي فرس ورمح لكنت أعْزوه، قاله لمّا رَوَى سُوَيد هذا الحديث. وكذا قال الحاكم: إن ابن معين قال هذا في هذا الحديث. قال أبو داود: سمعت يحيى بن معين، وقال له الفضل بن سهل الأعرج: يا أبا زكريا، سويد عن مالك، عن الزهري، عن أنس، عن أبي بكر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى فرسا لأبي جهل"، فقال يحيى: لو أن عندي فرسا خَرجتُ أغزوه. وقال سلمة في "تاريخه" سويد ثقة ثقة، رَوَى عنه أبو داود. وقال إبراهيم بن أبي طالب: قيل لمسلم: كيف استجزتَ الرواية عن سويد في "الصحيح"؟ فقال: ومن أين كنت آتي بنسخة حفص بن ميسرة؟.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أعدل ما قيل في سويد هذا عندي: ما قاله أبو زرعة: إن كتب صحاح، وأما حفظه فلا يُعتمد عليه؛ لأنه كان يتلقّن، والله تعالى أعلم.

قال البخاري: مات سنة أربعين ومائتين أول شوال بالْحَدِيثة، وفيها أَرَّخه البغوي، وقال: وكان قد بلغ مائة سنة. أخرج له مسلم، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (85) حديثًا.

3 -

(عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ) الحضرمي مولاهم، أبو محمد الكوفي، صدوقٌ [10].

رَوَى عن أَبيه، وعن أبي بكر بن عياش، وعلي بن مسهر، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وعبد الرحيم بن سليمان، ومُعَلَّى بن هلال، ومحمد بن فضيل، وعَبِيدة بن حُمَيد، وشَريك بن عبد الله، وغيرهم. ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وأبن ماجه، وبَقيّ بن مَخْلَد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وعبد الله بن أحمد، ومحمد بن صالح بن ذريح، وأبو بكر بن أبي عاصم، والحسن بن علي المعْمَريّ، وعبدان الأهوازيّ، والحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث.

قال محمد بن عبد الله الحضرمي: مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. وفي "الزهرة": رَوَى

ص: 407

عنه مسلم حديثين، أو ثلاثة. انتهى. وله في هذا الكتاب (21) حديثًا.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى) الْفَزَاريّ، أبو محمد، ويقال: أبو إسحاق الكوفي، نَسِيب السُّدّيّ، أو ابن بنته، أو ابن أخته، صدوقٌ يُخطىء، ورُمي بالرفض [10].

رَوَى عن مالك، وإبراهيم بن سعد، وابن أبي الزناد، وابن عيينة، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري في "كتاب خلق أفعال العباد"، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وابن خزيمة، والساجي، وأبو يعلى، وأبو عروبة، ومُطيَّن، وبَقِيّ بن مخْلَد، وطائفة.

قال أبو حاتم: سألته عن قرابته من السُّدّيّ، فأنكر أن يكون ابن ابنته، وإذا قرابته منه بعيدة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صدوق. وقال مُطَيَّن: كان صدوقا. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن حبان في "الثقات": يُخطىء (1). وقال عبدان: أَنْكَر علينا أبو بكر بن أبي شيبة، أو هناد بن السري ذهابنا إليه، وقال: ذاك الفاسق يَشتِم السلف. وقال ابن عديّ: وصل عن مالك حديثين، وتفرد عن شريك بأحاديث، وإنما أنكروا عليه الغلو في التشيع. وقال الآجري عن أبي داود: صدوق في الحديث، وكان يتشيع. وجزم البخاري ومسلم في "الكنى"، وابن سعد، والنسائي، وغيرهم بأنه ابن بنت السديّ. والله أعلم. وقال أبو علي الجياني "في رجال أبي داود": وهو ابن أخت السدي. قال البخاري وغيره: مات سنة 245. (2). وله في هذا الكتاب (23) حديثًا.

5 -

(شريك) بن عبد الله النخعي الكوفيّ القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوقٌ يُخطىء كثيرًا، وتغيّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلًا فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8] تقدّم في 1/ 1.

(1) قال الحافظ في "تهذيب التهذيب"-1/ 170 - : لم أر في النسخة التي بخط الحافظ أبي علي البكري من "ثقات ابن حبان" قوله: "يُخطىء". انتهى.

(2)

راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 169 - 170.

ص: 408

6 -

(سماك) -بكسر أوله، وتخفيف الميم- ابن حرب بن أوس بن خالد بن نِزار ابن معاوية بن حارثة الذهلي البكريّ، أبو المغيرة الكوفي، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربةٌ، وقد تغيّر بآخره، فكان ربّما يُلقّن [4].

رَوَى عن جابر بن سمرة، والنعمان بن بشير، وأنس بن مالك، والضحاك بن قيس، وثعلبة بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وطارق بن شهاب، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وغيرهم. ورَوى عنه ابنه سعيد، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وداود بن أبي هند، وحماد بن سلمة، وشعبة، والثوري، وشريك، وغيرهم.

قال حماد بن سلمة عنه: أدركت ثمانين من الصحابة. وقال عبد الرزاق عن الثوري: ما سقط لسماك حديث.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نقله الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال"، واعترضه الحافظ، فقال: إنما قال الثوري هذا في سماك بن الفضل اليماني، وأما سماك بن حرب فالمعروف عن الثوري أنه ضعفه (1). والله تعالى أعلم.

وقال صالح بن أحمد عن أبيه: سماك أصح حديثا من عبد الملك بن عمير. وقال أبو طالب عن أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة. قال: وكان شعبة يُضَعِّفه، وكان يقول في التفسير: عكرمة، ولو شئت أن أقول له ابن عباس: لقاله. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت ابن معين سُئل عنه، ما الذي عابه؟ قال: أسند أحاديث لم يُسندها غيره، وهو ثقة. وقال ابن عمار: يقولون: إنه كان يَغلَط، ويختلفون في حديثه. وقال العجلي: بكري جائز الحديث، إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف، ولم يَرْغَب عنه أحد، وكان فصيحًا، عالما بالشعر وأيام الناس. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وهو كما قال أحمد. وقال يعقوب بن

(1) راجع "تهذيب التهذيب" 2/ 115.

ص: 409

شيبة: قلت لابن المديني: رواية سماك عن عكرمة؟ فقال: مضطربة. وقال زكريا بن عدي عن ابن المبارك. سماك ضعيف في الحديث. وقال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين، ومن سمع منه قديمًا، مثل شعبة وسفيان، فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قاله ابن المبارك إنما نَرَى أنه فيمن سمع منه بآخره. وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء. وقال أيضًا: كان ربما لُقِّن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يُلَقَّن فيتلقن. وقال صالح جزرة: يُضَعَّف. وقال ابن خِرَاش: في حديثه لين. وقال ابن حبان في "الثقات": يخطىء كثيرًا، مات في آخر ولاية هشام بن عبد الملك حين ولي يوسف بن عمر على العراق. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": سئل أبو زرعة هل سمع سماك من مسروق شيئًا؟ فقال: لا. وقال البزار في "مسنده" كان رجلًا مشهورًا، لا أعلم أحدًا تركه، وكان قد تغير قبل موته. وقال جرير بن عبد الحميد: أتيته فرأيته يبول قائمًا، فرجعت ولم أسأله عن شيء، قلت: قد خَرِفَ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: البول قائمًا لا يكون سببًا لتضعيف الشخص؛ لأنه جائز شرعًا، ولعل جريرًا قام عنده من القرينة ما يدلّ على خَوَف سماك، فتحاشاه لذلك، لا لمجرّد البول قائمًا، فليُتأمّل والله تعالى أعلم.

وقال ابن عدي: ولسماك حديث كثير مستقيم -إن شاء الله- وهو من كبار تابعي أهل الكوفة، وأحاديثه حسان، وهو صدوق لا بأس به. وقال ابن قانع: مات سنة 123.

أخرج له البخاري في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (44) حديثًا.

7 -

(عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَليّ الكوفي، ثقة، من صغار [2].

رَوَى عن أبيه، وعلي بن أبي طالب، والأشعث بن قيس، وأبي بردة بن نيار إن كان محفوظا، ومسروق بن الأجدع. وروى عنه ابناه: القاسم، ومعن، وسماك بن

ص: 410

حرب، والحسن بن سعد، وعباد الملك بن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم.

قال يعقوب بن شيبة. كان ثقة قليل الحديث، وقد تكلموا في روايته عن أبيه، وكان صغيرا، فأما علي بن المديني فقال: قد لقي أباه. وقال ابن معين: عبد الرحمن وأبو عبيدة لم يسمعا من أبيهما. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد: مات عبد الله، وعبد الرحمن ابن ست سنين أو نحوها. وقال أحمد: أما سفيان الثوري وشريك فإنهما يقولان: سمع وأما إسرائيل فإنه يقول في حديث الضب: سمعت. وقال العجلي: يقال: إنه لم يَسمع من أبيه إلا حرفا واحدا: "مُحرم الحلال كمستحل الحرام". وقال، إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: سمع من أبيه، ومن علي. وقال أبو حاتم: صالح. ورَوَى البخاري في "التاريخ الصغير" بإسناد لا بأس به، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: لما حضر عبد الله الوفاةُ قال له ابنه عبد الرحمن: يا أبت أوصني، قال: ابك من خطيئتك. ورَوَى البخاري في "التاريخ الكبير"، وفي"الأوسط" من طريق ابن خُثَيم عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: إني مع أبي

فذكر الحديث في تأخير الصلاة، وزاد في"الأوسط": قال شعبة: لم يسمع من أبيه، وحديث ابن خثيم أولى عندي. وقال ابن المديني في "العلل": سمع من أبيه حديثين: حديث الضب، وحديث تأخير الوليد للصلاة. وقال العجلي: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وأسند حديثه: "مُحِّرم الحلال

" من طريق سماك عنه. وقال أبو حاتم: سمع من أبيه، وهو ثقة. وقال الحاكم: اتفق مشايخ أهل الحديث أنه لم يسمع من أبيه. انتهى.

قال الحافظ: وهو نقلٌ غير مستقيم. وقال خليفة بن خياط: مات مَقْدَمَ الحجاج العراق سنة 79.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تلخّص مما سبق أن الراجح أنه سمع من أبيه، والله تعالى أعلم.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط.

ص: 411

8 -

(أبوه) عبد الله بن مسعود الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم في 2/ 19. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله موثقون.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ) شرطيّة (كَذَبَ عليّ) بفتح الذال المعجمة، يقال: كَذَب يَكْذِب من باب ضرب، كَذِبًا بفتح، فكسر، ويجوز التخفيف بكسر الكاف (1) مع سكون الذال.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم": الكذب لغة هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، غير أن المحرّم شرعًا المستقبح عادةً هو العمد المقصود إلا ما استثني على ما يأتي، ويقال: كذب بمعنى أخطأ، وأصل الكذب في الماضي، {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، ويقال: كذب الرجل بفتح العين (2) يكذب بكسرها كِذْبًا بكسر الكاف، وسكون الذال، وكَذِبًا بفتح الكاف، وكسر الذال، فأما كِذَّابٌ المشدّدُ، فأحد مصادر كذّب بالتشديد. انتهى كلام القرطبيّ (3).

وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": وأما الكذب فهو عند المتكلّمين من أصحابنا الإخبارُ عن الشيء على خلاف ما هو، عمدًا كان أو سهوًا، هذا مذهب أهل

(1) ويجوز أيضًا فتحها مع سكون الذال.

(2)

أي بفتح عين الكلمة، وهو الذال.

(3)

"المفهم" 1/ 107.

ص: 412

السنّة. وقالت المعتزلة: شرطه العمدية، ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا، فإنه صلى الله عليه وسلم قيّده بالعمد لكونه قد يكون عمدًا، وقد يكون سهوًا، مع أن الإجماع، والنصوص المشهورة في الكتاب والسنّة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسي والغالط، فلو أطلق صلى الله عليه وسلم الكذب لتُوهّم أنه يأثم الناسي أيضًا، فقيّده، وأما الروايات المطلقة فمحمولة على المقيّدة بالعمد. والله تعالى أعلم. انتهى (1).

(مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوَّأْ) أي فليتّخذ (مَقْعَدَهُ) بفتح الميم، وسكون القاف، وفتح العين المهملة: أي محلّ قعوده، والمراد منزله (مِنَ النَّارِ) بيان لمعقده، متعلّق بحال محذوف: أي حال كون ذلك المقعد كائنًا من النار.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "فليتبوّأ الخ": أي ليتّخذ فيها منزلًا، فإنها مقرّه، ومسكنه، يقال: تبوّأت منزلًا: أي اتّخذته، ونزلته، وبوّأت الرجل منزلًا: أي هيّأته له، ومصدره باءة، ومباءة، وهذه صيغة أمر، والمراد بها التهديد، والوعيد. وقيل: معناها الدعاء: أي بوّأه الله ذلك. وقيل: معناها الإخبار بوقوع العذاب به في نار جهنّم، وكذلك القول في حديث عليّ رضي الله عنه الذي قال فيه:"يلج النار".

وقد روى أبو بكر البزّار هذا الحديث، وزاد: ليُضلّ به"، وقد اغترّ بهذه الزيادة ممن يقصد الخير، ولا يعرفه، فظنّ أن هذا الوعيد إنما يتناول من قصد الإضلال بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما من قصد الترغيب في الأعمال الصالحة، وتقوية مذاهب أهل السنّة، فلا يتناوله، فوضع الأحاديث لذلك، وهذه جهالة؛ لأن هذه الزيادة تُروى عن الأعمش، ولا تصحّ عنه، وليست معروفة عند نَقَلَة ذلك الحديث مع شهرته، وقد رواها أبو عبد الله الحاكم المعروف بابن الْبَيّع من طرق كثيرة، وقال: إنها واهية، لا يصحّ منها شيء. ولو صحّت لما كان لها دليل خطاب، وإنما تكون تأكيدًا لقوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}

(1)"شرح النووي" 1/ 69.

ص: 413

[الأنعام: 144]، وافتراء الكذب علي الله محرّم مطلقًا، قُصد به الإضلال، أو لم يُقصد. قاله الطحاويّ. ولأن وضعَ الخبر الذي يُقصد به الترغيب كذب على الله تعالى في وضع الأحكام، فإن المندوب قسم من أقسام الأحكام الشرعيّة، وإخبار عن أن الله تعالى وَعَدَ على ذلك العمل بذلك الثواب، فكلّ ذلك كذبٌ، وافتراء على الله تعالى، فيتناوله عموم قوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144].

وقد استجاز بعض فقهاء العراق نسبةَ الحكم الذي دلّ عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة قوليّة، وحكاية نقليّةً، فيقول في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ولذلك ترى كتبهم مشحونةً بأحاديث مرفوعة، تشهد متونها بأنها موضوعة؟ لأنها تُشبه فتاوى الفقهاء، ولا تَليق بجزالة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم مع أنهم لا يُقيمون لها صحيح سند، ولا يُسندونها من أئمة النقل إلى كبير أحد، فهؤلاء قد خالفوا ذلك النهي الأكيد، وشملهم ذلك الذمّ والوعيد، ولا شكّ في أن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرٌ، وأما الكذب عليه، فإن كان ذلك الكاذب مستحلّا لذلك، فهو كافر، وإن كان غير مستحلّ، فهو مرتكب كبيرة، وهل يَكفُرُ أم لا؟ اختُلف فيه، انتهى كلام القرطبيّ. رحمه الله تعالى. انتهى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا صحيحٌ.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي، وقد تكلّموا فيه -كما سبق بيانه في ترجمته-؟.

[قلت]: لم ينفرد شريك به، بل تابعه عليه غيره، فقد أخرجه الحميديّ في

(1)"المفهم" 1/ 115.

ص: 414

"مسنده" رقم (88)، والترمذيّ رقم (2658) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه رضي الله عنه، وأيضًا فمتن الحديث متواترٌ كما سيأتي بيان ذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في بيان موضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه:

أخرجه (المصنف) هنا (4/ 30) بالسند المذكور، وأخرجه (أبو داود)(5118) عن محمد بن بشار، عن أبي عامر العقديّ، عن سفيان الثوريّ- و (الترمذيّ)(2257) عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة- و (النسائيّ) في "الكبرى"(1) عن عمرو بن عليّ الفلّاس، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، عن سفيان- كلهم سماك ابن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه.

وأخرجه (أحمد) 1/ 389 و 393 و401 و 436 و449، وابن أبي شيبة في "مصنّفه" 8/ 759 والطحاويّ 1/ 213. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو التغليظ في تعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه فاحشة عظيمة، وموبقة كبيرة، واختُلف هل يكفر به أم لا؟

وسيأتي تحقيق القول في ذلك، إن شاء الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن فيه تثبيت القاعدة السابقة، وهي أن الكذب يتناول إخبار العامد والساهي عن الشيء بخلاف ما هو، وأن الوعيد إنما يتعلق بالعمد فقط.

3 -

(ومنها): أنه لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام، وما كان في غير الأحكام، كالترغيب، والترهيب، والمواعظ، وغير ذلك، فكلّه حرام من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يُعتد بهم في الإجماع، وخالف في ذلك الكرّاميّة الطائفة المبتدعة في زعمهم الباطل أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب

(1) أخرجه في "كتاب الزينة" 5/ 511 رقم 9828.

ص: 415

والترهيب، وسيأتي تفنيد هذا الزعم الباطل قريبًا، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان عِظَم هذا الحديث، وقوّة درجته:

(اعلم): أن هذا الحديث حديث عظيم في نهاية من الصحّة، وقيل: إنه متواتر، ذكر أبو بكر البزار في "مسنده" أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو من أربعين نفسا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وحكى الإمام أبو بكر الصيرفي في "شرحه لرسالة الشافعيّ" رحمهما الله أنه رُوي عن أكثر من ستين صحابيا مرفوعا. وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن منده عدد من رواه، فبلغ بهم سبعة وثمانين، ثم قال: وغيرهم. وذكر بعض الحفاظ أنه رُوي عن اثنين وستين صحابيا، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، قال: ولا يُعرف حديث اجتمع على روايته العشرة إلا هذا، ولا حديث يُروَى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا، وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة، ثم لم يزل في ازدياد. وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في "صحيحهما" من حديث عليّ، والزبير، وأنس، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وأما إيراد أبي عبد الله الحميدى صاحب "الجمع بين الصحيحين" حديث أنس رضي الله عنه في أفراد مسلم فليس بصواب، فقد اتفقا عليه. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ولا يُعرف حديث اجتمع عليه العشرة الخ" هذا فيه نظر، فقد ردّه جماعة من العلماء، منهم الحافظ العراقيّ، قال: وليس كذلك، فقد ذكر الحاكم والبيهقيّ أن حديث رفع اليدين في الصلاة رواه العشرة، وقالا: ليس حديثٌ رواه العشرة غيره، وذكر أبو القاسم بن منده أن حديث المسح على الخفّين رواه العشرة أيضًا. وإلى هذا أشرت في نظمي "الجليس الأمين" بقولي:

وَمَن يَقُلْ مَا اجْتَمَعَ الْعَشَرَةُ

إِلَّا عَلَى ذَا رَدَّهُ جَمَاعَةُ

إِذْ عَنْهُمُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ وَارِدُ

كَذَاكَ مَسْحُ الخُفِّ خُذْ يَا رَاشِدُ

وقوله: "رواه مائتان" تعقّبه الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى، وقال: وأنا أستبعد

ص: 416

وقوع ذلك. وقال الحافظ السخاويّ رحمه الله تعالى: ولعله سبق قلم من مائة.

قال العراقيّ: وليس التواتر في هذا المتن بعينه، وإنما هو في مطلق الكذب، والخاصّ بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيّا، ثم ساقهم، فقال: العشرة المشهود لهم بالجنة، أسامة (قا)، أنس بن مالك (خ م)، أوس بن أوس (طب)، البراء بن عازب (طب)، بريدة (عد)، جابر بن حابس، (مع) جابر بن عبد الله (م)، حذيفة بن أسد (طب)، حذيفة بن اليمان (طب)، خالد بن عرفُطَة (حم)، رافع بن خديج (طب)، زيد ابن أرقم (حم)، زيد بن ثابت (خل)، السائب بن يزيد (طب)، سعد بن المدحاس (خل)، سفينة (عد)، سليمان بن خالد الخزاعي (قط)، سلمان الفارسي (قط)، سلمة بن الأكوع (خ)، صهيب بن سنان (طب)، عبد الله بن أبي أوفى (قا)، عبد الله بن زغب (نع)، ابن الزبير (قط)، ابن عباس (طب)، ابن عمر (حم)، ابن عمرو (خ)، ابن مسعود (ت ن)، عتبة بن غزوان (طب)، الْعُرْس بن عَمِيرة (طب)، عفان بن حبيب (ك)، عقبة بن عامر (حم)، عمار بن ياسر (طب)، عمران بن حصين (ن)، عمرو بن حريث (طب)، عمرو بن عبسة (طب)، عمرو بن عوف (طب)، عمرو بن مرّة الجهني (طب)، قيس بن سعد بن عبادة (حم)، كعب بن قطبة (خل)، معاذ بن جبل (طب)، معاوية بن حيدة (خل)، معاوية بن أبي سفيان (حم)، المغيرة بن شعبة (نع)، المنقع التميمي (خل)، نبيط بن شريط (طب)، واثلة ابن الأسقع (عد)، يزيد بن أسد (قط)، يعلى بن مرة (مي)، أبو أمامة (طب)، أبو الحمراء (طب)، أبو ذر (قط)، أبو رمثة (قط)، أبو سعيد الخدري (حم)، أبو قتادة (هـ)، أبو قرصافة (عد)، أبو كبشة الأنماري (خل)، أبو موسى الأشعري (طب)، أبو موسى الغافقي (حم)، أبو ميمون الكردي (طب)، أبو هريرة (هـ)، والدأبي العشراء الدارمي (خل)، والدأبي مالك الأشجعي (بز)، عائشة (قط)، أم أيمن (قط).

قال: وقد أعلمت على كل واحد رمز من أخرج حديثه من الأئمة "حم" لأحمد في "مسنده"، و"طب" للطبراني و"قط" للدارقطني، و"عد" لابن عدي في "الكامل"،

ص: 417

و"بز" لمسند البزار، و"قا" لابن قانع في "معجمه"، و"خل" للحافظ يوسف بن خليل في كتابه الذي جمع فيه طرق هذا الحديث، و"نع" لأبي نعيم، و"مي" لمسند الدارمي، و"ك" لمستدرك الحاكم، و"ت" للترمذي، و"ن" للنسائي، و"خ م " للبخاري ومسلم. انتهى.

وقد ذكر ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى أنه روي عن ثمانية وتسعين من الصحابة، وقد نظمت ما قاله ابن الجوزيّ في كتابي "تذكرة الطالبين"، فقلت:

وَقَدْ تَوَاتَرَ حَدِيثُ مَنْ كَذَبْ

عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الصِّحَابِ تُنْتَخَبْ

وَوَلَدُ الجوْزِيِّ عَنْ تِسْعِينَ جَا

مَعَ الثَّمانِيَةِ نِعْمَ مَنْهَجَا

فَمِنْهُمُ الْعَشَرَةُ الْبَرَرَةُ

وَنَجْلُ مَسْعُودٍ صُهَيْبٌ عُقْبَةُ

سَلْمَانُ وَالمِقْدَادُ وَابْنُ عُمَر

عَمْرُو بْنُ عَبْسَةَ وَعُتْبَةُ السَّرِي

عُتْبَةُ عَمَّارٌ مُعَاذٌ جُنْدَبُ

أَبُو قَتَادَةَ أُبَيٌّ يَصْحَبُ

وَابْنُ الْيَمانِ جَابرُ (1) بْنُ سَمُرَهْ

وَجَابِرُ بْنُ عَابِسٍ قَدْ ذَكَرَهْ

وَابْنُ أُسَيْدٍ وَابْنُ عَمْرٍ وَالْبَرَا

أَبُو هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانُ يُرَى

وَرَافِعٌ سَفِينَةٌ مُغِيرَةُ

زَيْدٌ وَزَيْدٌ (2) أَنَسٌ سَلَمَةُ

أَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا

عَمْرٌو وَسَائِبٌ أسَامَةُ احْتَذَا

وَنَجْلُ حَيْدَةَ وَنَجْلُ صَخْرِ

عَمْرٌو وَجَهْجَاهٌ بُرَيْدَةُ ادْرِ

وَجُنْدَعٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَاثِلَهْ

كَذَا أَبُو كَبْشَةَ قَيْسٌ نَافِلَهْ

وَابْنُ أَبِي أَوْفَى وَعَمْرٌو أَوْسُ

أَبُو أُمَامَةَ وَسَعْدٌ عُرْسُ

وَالأَشعَرِي وَالْغَافِقِي وَالخطْمِي

كَذَا أَبُو رَافِعِهِمْ وَالتَّيْمِي

(1) الأول زيد بن ثابت، والثاني زيد بن أرقم.

(2)

أي زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم.

ص: 418

جَنْدَرَةٌ وَخَالِدٌ وَطَارِقٌ

عَمْرٌ وَكَعْبٌ وَنُبَيْطٌ لَاحِقُ

يَعْلَى وَمُرَّةُ كَذَا نَجْلُ صُرَدْ

عَفَّانُ عَبْدُ الله نِعْمَ المُسْتَنَدْ

يَزِيدُ وَالمُنْقَعُ وَابْنُ خَالِدِ

وَابْنُ جَرَادٍ ثُمَّ الازْدِي يَقْتَدِي

وَرَجُلٌ مِنْ أَسْلَمِ مَعْ آخَرَا

قَدْ صَحِبَا النَّبِيَّ نِعْمَ مَتْجَرَا

عَائِشَةٌ وَحَفْصَةٌ قَدْ رَوَتَا

لأُمِّ أَيْمَنَ كَذَاكَ ثَبَتَا

وَوَلَدُ الجوْزِيِّ قَدْ أَسْنَدَ مَا

لِهُؤلاءِ مِنْ أَحَادِيثَ انْتَمَى

وَقَالَ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مَالِكُ

سَهْلٌ مُعَاذٌ وَحَبِيبٌ سَالِكُ

كَذَا أَبُو بَكْرَةَ سَهْلٌ سَبْرَةُ

كَذَا أَبُو هِنْدٍ رَوَى وَخَوْلَةُ

النَّوَوِي عَنْ مِائَتَيْنِ وَارِدُ

عَبْدُ الرَّحِيمِ قَالَ ذَا مُسْتَبْعَدُ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في حكم الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم حرام بالإجماع مطلقًا (1)، وأنه فاحشة عظيمة، وموبقة كبيرة، ولكن لا يكفر بهذا الكذب، إلا أن يستحله، هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف، وقال الشيخ أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين أبي المعالى، من أئمة الشافعية يكفر بتعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، حكى إمام الحرمين عن والده هذا المذهب، وأنه كان يقول في درسه كثيرا: من كَذَب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا كفر، وأريق دمه، وضعف إمام الحرمين هذا القول، وقال: إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وإنه هفوة عظيمة، والصواب ما قدمناه عن الجمهور. ذكره النوويّ في "شرحه" لهذا الكتاب (2).

وقال الإمام النوويّ أيضًا: لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه، كالترغيب والترهيب، والمواعظ، وغير ذلك، فكله حرام

(1) أي سواء كان في التحليل والتحريم، أو في الفضائل والترغيب والترهيب، أو في غيرها.

(2)

"شرح مسلم" 1/ 69.

ص: 419

من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين، الذين يُعتَدُّ بهم في الإجماع، خلافا للكرامية الطائفة المبتدعة، في زعمهم الباطل أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب والترهيب، وتابعهم على هذا كثيرون من الجهلة، الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد، أو ينسبهم جهلة مثلهم، وشُبهةُ زعمهم الباطل أنه جاء في رواية:"من كذب عليّ متعمدا -ليضل به الناس- فليتبوأ مقعده من النار"، وزعم بعضهم أن هذا كَذِبٌ له عليه الصلاة والسلام، لا كذب عليه، وهذا الذي انتحلوه، وفعلوه واستدلوا به غاية الجهالة، ونهاية الغفلة، وأدل الدلائل على بُعْدِهم من معرفة شيء من قواعد الشرع، وقد جمعوا فيه جُمَلًا من الأغاليط اللائقة بعقولهم السخيفة، وأذهانهم البعيدة الفاسدة، فخالفوا قول الله عز وجل:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة، والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور، وخالفوا إجماع أهل الْحَلّ والْعَقْد، وغير ذلك من الدلائل القطعيات، في تحريم الكذب على آحاد الناس، فكيف بمن قوله شرعٌ، وكلامه وَحْيٌ، وإذا نُظِر في قولهم وُجِد كذبا على الله تعالى، قال الله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].

ومن أعجب الأشياء قولهم: هذا كذب له، وهذا جهل منهم بلسان العرب، وخطاب الشرع، فإن كل ذلك عندهم كذب عليه.

وأما الحديث الذي تعلقوا به، فأجاب العلماء عنه بأجوبة:

أحسنها، وأخصرها، أن قوله:"ليضل الناس" زيادة باطلة، اتفق الحفاظ على إبطالها، وأنها لا تعرف صحيحة بحال.

الثاني: جواب أبي جعفر الطحاوى أنها لو صحت لكانت للتأكيد، كقول الله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} [الأنعام: 144].

الثالث: أن اللام في "ليضل" ليست لام التعليل، بل هي لام الصيرورة والعاقبة، معناه أن عاقبة كذبه، ومصيره إلى الإضلال به، كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ

ص: 420

آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، ونظائره في القرآن، وكلام العرب أكثر من أن يُحصَر، وعلى هذا يكون معناه: فقد يصير أمر كذبه إضلالًا.

وعلى الجملة مذهبهم أَرَكّ من أن يُعتنَى بإيراده، وأبعد من أن يُهتَمَّ بإبعاده، وأفسدُ من أن يُحتاج إلى إفساده. قاله النوويّ رحمه الله تعالى (1).

وقال العلّامة ابن عراق رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون -كما قال النوويّ رحمه الله تعالى- الذين يُعتد بهم على تحريم تعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أنه من الكبائر؛ لخبر:"من كذب عليّ، متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده من النار"، بل بالغ الشيخ أبو محمد الجوينيّ، فكفّر به. ونقل الحافظ ابن كثير عن أبي الفضل الهمدانيّ، شيخ ابن عقيل من الحنابلة أنه وافق الجوينيّ على هذه المقالة. وقال الحافظ الذهبيّ في "كتاب الكبائر" له: ولا ريب أن تعمّد الكذب على الله تعالى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم حلال، أو تحليل حرام كفر محض، وإنما الشأن في الكذب عليهما فيما سوى ذلك. والله تعالى أعلم.

وقد جَوّزت الكرّاميّة، وبعض المتصوّفة، كما قال الحافظ ابن حجر الكذب، قال الغزاليّ: وهذا من نزغات الشيطان، ففي الصدق مندوحة عن الكذب، وفيما ذكر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم غُنية عن الاختراع في الوعظ.

وقد أولوا حديث: "من كذب عليّ، متعمدًا الخ" بتأويلات باطلة:

[أحدها]: أن ذلك إنما ورد في رجل معيّن، ذهب إلى قوم، وادّعى أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، يحكم في دمائهم، وأموالهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله، وقال: "من كذب عليّ

" الحديث (2).

(1)"شرح صحيح مسلم" 1/ 70 - 71.

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه أنه بعث أبا بكر وعمر ليقتلاه، فإن وجداه قد مات فليحرّقاه بالنار، فوجداه قد مات من لدغة حيّة، فحرقاه بالنار. وروى ابن عديّ في "الكامل" عن بُريدة، قال: كان حيّ من بني ليث =

ص: 421

[الثاني]: أنه في حقّ من كذب عليه يقصد به عيبه، أو شين الإسلام، وتعلّقوا في ذلك بما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كذب عليّ، متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده بين عيني جهنم"، قال: فشقّ ذلك على أصحابه، حتى عرف في وجوههم، وقالوا: يا رسول الله، قلت هذا، ونحن نسمع منك الحديث، فنزيد، وننقص، ونقدّم، ونؤخّر، فقال: لم أعنِ ذلك، ولكن عنَيتُ من كذب عليّ، يريد عيبي، وشين الإسلام.

[الثالث]: أنه إذا كان الكذب في الترغيب والترهيب، فإنه كذب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لا عليه.

[الرابع]: أنه ورد في بعض طرق الحديث: "من كذب عليّ متعمّدًا؛ ليضلّ به الناس، فليتبوّأ مقعده من النار"، فتُحمل الروايات المطلقة عليه.

[والجواب عن هذه الشُّبَه ما يلي]:

أما شبهتهم الأولى، فجوابها أن السبب المذكور لم يثبت إسناده، وبتقدير ثبوته، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

وأما الشبهة الثانية: فجوابها أن الحديث باطل، كما قاله الحاكم، ففي إسناده محمد ابن الفضل بن عطيّة، اتّفقوا على تكذيبه، وقال صالح جزرة: كان يضع الحديث.

وأما الشبهة الثالثة: فجوابها أنه كذب عليه في وضع الأحكام، فإن المندوب قسم

= على ميل من المدينة، وكان رجل خطب منهم في الجاهليّة، فلم يزوّجوه، فأتاهم، وعليه حلّة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه، وأمرني أن أحكم في أموالكم، ودمائكم، ثم نزل علي تلك المرأة التي كان خطبها، فأرسل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كذب عدوّ الله، ثم أرسل رجلًا، فقال: إن وجدته حيّا فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتًا، فاحرقه، فجاء، فوجده قد لدغته أفعى، فمات، فحرقه بالنار، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليّ متعمدًا

" الحديث.

ص: 422

منها، وفيه الإخبار عن الله عز وجل في الوعد على ذلك العمل بذلك الثواب.

وأما الشبهة الرابعة: فجوابها أن أئمة الحديث اتّفقوا على أن زيادة: "ليضلّ به الناس" ضعيفة، وبتقدير صحتها لا تعلّق لهم بها؛ لأن اللام في قوله:"ليضلّ" لام العاقبة، لا لام التعليل، أو هي للتأكيد، ولا مفهوم لها، وعلى هذين الوجهين خُرّج قوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144] الآية؛ لأن افتراء الكذب على الله تعالى محرّم مطلقًا، سواء قُصد به الإضلال أم لا. انتهى كلام ابن عراق رحمه الله تعالى (1).

وإلى هذا كلّه أشرت في منظومتي "تذكرة الطالبين"، فقلت:

وَرَابِعُ الأَصْنَافِ قَوْمٌ نُسِبُوا

للِزُّهْدِ جَاهِلِينَ ذَاكَ ارْتَكَبُوا

قَدْ وَضَعُوا الحدِيثَ في التَّرغيبِ

لِلنَّاسِ في الخيْرِ وَللتَّرْهِيبِ

وَمَنْ يَرَى جَوَازَ ذَا فَإِنَّهُ

قَدْ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ مُرْدِيًا فَانْبِذَنَّهُ

لأَنَّ في السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ

غِنًى عَنِ اخْتِلاقِ ذَا الْكَذَّابِ

وَخَالَفْوا إِجْمَاعَ أَهْلِ المْلَّةِ

في حُرْمَةِ الْكِذْبِ عَلَى ذِي السُّنَّةِ

وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي

تُرْدِي بِأَهْلِهَا إِلَى الهاوِيَةِ

وَبَالَغَ الشَّيخُ أَبُو مُحَمِّدِ

مُكَفِّرًا بِهِ لِهَذَ المُعْتَدِي

وَالهمَذَانِيُّ لَهُ مُوَافِقُ

وَالذَّهَبِيُّ لهُمَا يُرَافِقُ

إِنْ حَرَّمَ الحلَالَ أَوْ بِضِدِّهِ

وَإِنَّمَا الشَّأْنُ يِجِي في غَيْرهِ

وَمَنْ يَقُلْ مُؤِّلًا لـ "مَنْ كَذَبْ"

في رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَقَدْ كَذَبْ

أَوْ حَقِّ مَنْ قَدِ افتَرَى يَقْصِدُ بِهْ

عَيبًا لَهُ أَوْ شَيْنَ الإسْلَامِ النَّبِهْ

فَكُلُّ مَا قَالُوهُ فَهْوَ بَاطلُ

وَلَوْ تُرَى صِحَّته يُؤَوَّلُ

(1) راجع "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" 1/ 12 - 13.

ص: 423

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في قبول توبة من كذب في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم:

(اعلم): أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا في حديث واحد فَسَقَ، ورُدّت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب، وحسنت توبته، فقد قال جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي، شيخ البخاري، وصاحب الشافعي، وأبو بكر الصيرفي من فقهاء الشافعية، وأصحاب الوجوه منهم، ومتقدميهم في الأصول والفروع: لا تؤثر توبته في ذلك، ولا تُقبل روايته أبدا، بل يُحتم جرحه دائما، وأطلق الصيرفي، وقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك، قال: وذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة. ولم أر دليلا لمذهب هؤلاء، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا، وزجرا بليغا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم؛ لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة، ليست عامة.

قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحته توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها، إذا صحت توبته بشروطها المعروفة، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الكتاب.

وقال في "التدريب شرح التقريب" 1/ 330: تقبل رواية التائب من الفسق، ومن الكذب في غير الحديث النبوي، كشهادته؛ للآيات، والأحاديث الدالة على ذلك، إلا الكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تقبل رواية التائب منه أبدا، وإن حسنت

ص: 424

طريقته، كذا قاله أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري، وأبو بكر الصيرفي الشافعي، بل قال الصيرفي، زيادة على ذلك في "شرح الرسالة": كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه، لم نَعُد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفناه لم نُقَوِّهَ بعده، بخلاف الشهادة، قال النوويّ: ويجوز أن يُوَجَّهَ بأن ذلك جُعِل تغليظا عليه، وزجرا بليغا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم؛ لِعِظَم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره، والشهادةِ، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة. وقال أبو المظفر السمعاني: مَنْ كَذَبَ في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه، قال ابن الصلاح: وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي، قال النوويّ: هذا كله مخالف لقاعدة مذهبنا، ومذهب غيرنا، ولا نُقَوِّى الفرقَ بينه وبين الشهادة، وكذا قال في شرح مسلم: المختار القطع بصحة توبته، وقبول روايته كشهادته، كالكافر إذا أسلم.

قال السيوطيّ: وأنا أقول: إن كانت الإشارة في قوله: "هذا كله" لقول أحمد، والصيرفي، والسمعاني، فلا -والله- ما هو بمخالف، ولا بعيد، والحق ما قاله الإمام أحمد؛ تغليظا وزجرا، وإن كانت لقول الصيرفي بناءً على أن قوله:"بكذب" عامٌّ في الكذب في الحديث وغيره، فقد أجاب عنه العراقي بأن مراد الصيرفي ما قاله أحمد، أي في الحديث، لا مطلقا، بدليل قوله:"من أهل النقل"، وتقييده بالمحدِّث في قوله أيضا في "شرح الرسالة": وليس يُطعَن على المحدث، إلا أن يقول: تعمدت الكذب، فهو كاذب في الأول، ولا يقبل خبره بعد ذلك. انتهى. وقولُهُ: ومن ضعفناه، أي بالكذب، فانتظم مع قول أحمد.

وقد وجدتُّ في الفقه فرعين يشهدان لما قاله الصيرفي والسمعاني، فذكروا في "باب اللعان" أن الزاني إذا تاب، وحسنت توبته لا يعود محصنا، ولا يُحَدُّ قاذفه بعد ذلك؛ لبقاء ثلمة عرضه، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا، وذكروا أنه لو قُذِفَ، ثم زنى بعد القذف قبل أن يُحَدَّ القاذف لم يُحَدّ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يَفضَح أحدا من أول مرة، فالظاهر تقدُّمُ زناه قبل ذلك، فلم يحد له القاذف، وكذلك نقول

ص: 425

فيمن تبين كذبه: الظاهر تكرر ذلك منه، حتى ظهر لنا، ولم يتعين لنا ذلك فيما رَوَى من حديثه، فوجب إسقاط الكل، وهذا واضح بلا شك، ولم أَرَ أحدا تنبّه لما حررته -ولله الحمد-.

وإلى هذا أشار السيوطي رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث" بقوله:

وَمَنْ يَتُبْ عَنْ فِسْقِهِ فَلْيُقْبَلِ

أَوْ كَذِبِ الحدِيثِ فَابْنُ حَنْبلِ

وَالصَّيْرَفيُّ وَالحُمَيدِيُّ أَبوْا

قَبُولَهُ مُؤَبَّدًا ثُمَّ نَأَوْا

عنْ كُلِّ مَا مِن قَبْلِ ذَا رَوَاهُ

وَالنَّوَوِيُّ كُلَّ ذَا أباهُ

وَمَا رَآهُ الأَوَّلُونَ أَرْجَحُ

دَلِيلُهُ في شَرْحِنَا مُوَضَّحُ

انتهى كلام السيوطيّ رحمه الله تعالى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قرره السيوطيّ رحمه الله تعالى من ترجيح قول ما ذهب إليه أحمد، والحميديّ، والصيرفيّ، والسمعانيّ من عدم قبول توبة الكاذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تغليظًا، وزجرًا هو الصواب عنديّ، لوضوح حجته، كما حققه هو رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في حكم رواية الحديث الموضوع:

قال في "تدريب الراوي": ما حاصله: تحرم رواية الموضوع مع العلم بوضعه، وكذا مع الظنّ مطلقًا، في أي معنى كان، سواء الأحكام، والقِصص، والترغيب، وغيرها، إلا مقرونًا ببيان وضعه، لما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من حدّث عنّي بحديث يُرى أنه كذبٌ، فهو أحد الكاذبين". وقوله: "يُرى" بضم الياء بمعنى يظنّ، وفي "الكاذبين" روايتان، فتح الموحدة، على إرادة التثنية، وكسرها على إرادة الجمع.

(1) راجع "التدريب" 1/ 329 - 331.

ص: 426

وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا، أو غلب على ظنه وضعه، فمن رَوَى حديثا عَلِم، أو ظن وضعه، ولم يُبَيِّن حال روايته وضعه، فهو داخل في هذا الوعيد، مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل أيضا الحديث السابق:"من حدث عنى بحديث يُرَى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". انتهى (1).

وإلى هذا أشرت في منظومتي المذكورة، حيث قلت:

وَالخبَرُ الموْضُوعُ يَحْرُمُ لِمَنْ

يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أنَّهُ وهَنْ

بِسَنَدٍ أَوْ لَا لأيِّ مَعْنَى

إِلَّا إِذَا بَيَّنَهُ فَأَغْنَى

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في كيفيّة رواية الحديث:

(اعلم): أنه ينبغي -كما قال العلماء رحمهم الله تعالى- لمن أراد رواية حديث، أو ذكره أن ينظر، فإن كان صحيحا أو حسنا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعله، أو نحو ذلك من صيغ الجزم، وإن كان ضعيفا، فلا يَقُل: قال، أو فعل، أو أمر، أو نهى، وشِبْهَ ذلك من صيغ الجزم، بل يقول: رُوي عنه كذا، أو جاء عنه كذا، أو يُروَى، أو يُذكَر، أو يُحكَى، أو يقال، أو بلغنا، وما أشبه ذلك. قاله النووي رحمه الله تعالي في "شرحه"(2).

وإلى هذه القاعدة أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الحديث"، حيث، قال:

ومَنْ رَوَى مَتْنًا صَحِيحًا يَجزِمُ

أَوْ وَاهيًا أَوْ حَالُهُ لَا يُعْلمْ

مِن غَيْرِ مَا إِسنَادِهِ يُمَرِّضُ

وَتَرْكَهُ بَيَانَ ضُعْفٍ قدْ رَضُوا

في الْوَعْظِ أَوْ فَضَائِلِ الأَعْمَالِ

لَا الْعَقْدِ وَالحرَامِ والحلَالِ

(1)"شرح مسلم" 1/ 71.

(2)

"شرح مسلم" 1/ 71.

ص: 427

وَلَا إِذَا يَشْتَدُّ ضُعْفٌ ثُمَّ مَنْ

ضُعْفًا رَأَى في سَنَدٍ وَرَامَ أَنْ

يَقُولَ في المتْنِ صَحِيحٌ قَيَّدَا

بِسَنَدٍ خَوْفَ مَجِيءِ أَجْوَدَا

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): فيما يلزم الحديثيّ من تعلّم علم النحو ونحوه:

(اعلم): أنه ينبغي لقاريء الحديث أن يعرف من النحو، واللغة، وأسماء الرجال، ما يسلم به من قوله ما لم يُقَل، وإذا صح في الرواية ما يَعلَم أنه خطأ، فالصواب الذي علي الجماهير من السلف والخلف، أنه يرويه على الصواب، ولا يغيره في الكتاب، لكن يكتب في الحاشية، أنه وقع في الرواية كذا، وأن الصواب خلافه كذا، ويقول عند الرواية: كذا وقع في هذا الحديث، أو في روايتنا، والصواب كذا، فهذا أجمعُ للمصلحة، فقد يعتقده خطأ، ويكون له وجه يَعرِفه غيره، ولو فُتِح باب تغير الكتاب، لتجاسر علي غير أهله. قاله النوويّ رحمه الله تعالى.

وقال في "التدريب": ينبغي للشيخ أن لا يروي حديثه بقراءة لحان أو مصحف، فقد قال الأصمعي: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم:"من كَذَب علي فليتبوأ مقعده من النار"؛ لأنه لم يكن يَلحَن، فمهما رَوَيتَ عنه، ولحنت فيه كذبت عليه. وشكا سيبويه حمادَ بنَ سلمة إلى الخليل، فقال له: سألته عن حديث هشام بن عروة، عن أبيه، في رجل رَعُف، فانتهرني، وقال أخطأت إنما هو رَعَف -بفتح العين- فقال الخليل: صدق، أتلقى بهذا الكلام أبا أسامة؟.

وعلى طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يسلم به من اللحن والتصحيف، رَوَى الخطيب عن شعبة، قال: من طلب الحديث، ولم يبصر العربية، كمثل رجل عليه بُرْنُس، وليس له رأس. ورَوَى أيضا عن حماد بن سلمة قال: مثلُ الذي يطلب الحديث، ولا يعرف النحو مثل الحمار، عليه مِخْلاة ولا شعير فيها. ورَوَى الخليلي في "الإرشاد" عن العباس بن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: جاء عبد العزيز الدراوردي في جماعة إلى أبي ليَعْرِضُوا عليه كتابا، فقرأ لهم الدراورديُّ، وكان

ص: 428

رديء اللسان يَلْحَن، فقال أبي: ويحك يا دراوردي، أنت كنت إلى إصلاح لسانك قبل النظر في هذا الشأن أحوج منك إلى غير ذلك.

وطريقه في السلامة من التصحيف الأخذُ من أفواه أهل المعرفة والتحقيق، والضبط عنهم، لا من بطون الكتب.

وإذا وقع في روايته لحن أو تحريف، فقد قال ابن سيرين، وعبد الله بن سخبرة، وأبو معمر، وأبو عبيد القاسم بن سلام، فيما رواه البيهقي عنهما: يرويه على الخطأ كما سمعه، قال ابن الصلاح: وهذا غُلُوّ في اتباع اللفظ، والمنع من الرواية بالمعنى، والصواب، وهو قول الأكثرين، منهم ابن المبارك، والأوزاعي، والشعبي، والقاسم بن محمد، وعطاء، وهمّام، والنضر بن شُميل أنه يرويه على الصواب، لا سيما في اللحن الذي لا يختلف المعنى به، واختار ابن عبد السلام تركَ الخطأ والصواب أيضا، حكاه عنه ابن دقيق العيد، أما الصواب فإنه لم يسمع كذلك، وأما الخطأ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَقُلْه كذلك.

وأما إصلاحه في الكتاب، وتغيير ما وقع فيه، فجوزه بعضهم أيضا، والصواب تقريره في الأصل على حاله، مع التضبيب عليه، وبيان الصواب في الحاشية، فإن ذلك أجمع للمصلحة، وأنفى للمفسدة، وقد يأتي من يَظهَرُ له وجه صحته، ولو فتح باب التغيير لجسر عليه من ليس بأهل، ثم الأولى عند السماع، أن يقرأه أوّلًا على الصواب، ثم يقول: وقع في روايتنا، أو عند شيخنا، أو من طريق فلان كذا، وله أن يقرأ ما في الأصل أوّلًا، ثم يذكر الصواب، وإنما كان الأوّلُ أَوْلَى، كيلا يتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وأحسن الإصلاح أن يكون بما جاء في رواية أخرى، أو حديث آخر، فإن ذكره أمن من التقول المذكور.

وإن كان الإصلاح بزيادة الساقط من الأصل، فإن لم يغاير معنى الأصل، فلا بأس بإلحاقه في الأصل من غير تنبيه على سقوطه، بأن يعلم أنه سقط في الكتابة، كلفظة "ابن" في النسب، وكحرف لا يختلف المعنى به، وقد سأل أبو داود أحمدَ بن حنبل،

ص: 429

فقال: وجدت في كتابي حجاج "عن جريج" يجوز لي أن أصلحه ابن جريج؟ قال: أرجو أن يكون هذا لا بأس به. وقيل لمالك: أرأيت حديث النبي صلى الله عليه وسلم يزاد فيه الواو والألف، والمعنى واحد؟ فقال: أرجو أن يكون خفيفا.

وإن غاير الساقط معنى ما وقع في الأصل، تأكد الحكم بذكر الأصل، مقرونا بالبيان لما سقط، فإن علم أن بعض الرواة له أسقطه وحده، وأن من فوقه من الرواة أَتَى به فله أيضا أن يُلحقه في نفس الكتاب، مع كلمة "يعني" قبله، كما فعل الخطيب، إذ رَوَى عن أبي عمر بن مهدي، عن المحاملي بسنده إلى عروة، عن عمرة -يعنى عن عائشة- قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدني إليّ رأسه، فأرجله "قال الخطيب: كان في أصل ابن مهدي "عن عمرة قالت: كان"، فألحقنا فيه ذكر عائشة، إذ لم يكن منه بُدّ، وعلمنا أن المحاملي كذلك رواه، وإنما سقط من كتاب شيخنا، وقلنا له ما فيه "يعني"؛ لأن ابن مهدي لم يقل لنا ذلك، قال: وهكذا رأيت غير واحد من شيوخنا يفعل في مثل هذا، ثم رَوَى عن وكيع، قال: أنا أستعين في الحديث بـ "يعني"، هذا إذا عُلم أن شيخه رواه له على الخطأ، فأما إن رواه في كتاب نفسه، وغلب على ظنه أن السقط من كتابه، لا من شيخه، فيتجه حينئذ إصلاحه في كتابه، وفي روايته عند تحديثه كما تقدم عن أبي داود.

كما إذا دَرَسَ من كتابه بعضُ الإسناد، أو المتن، بتقطع، أو بَلَلٍ، ونحوه، فإنه يجوز له استدراكه من كتاب غيره، إذا عَرَفَ صحتَهُ، ووثِقَ به، بأن يكون أخذه عن شيخه، وهو ثقة، وسكَنَت نفسه إلى أن ذلك هو الساقط، كذا قال أهل التحقيق، وممن فعله نُعيم بن حماد، ومنعه بعضهم، وإن كان معروفا محفوظا، نقله الخطيب عن أبي محمد بن ماسي، وبيانه حال الرواية أولى، قاله الخطيب.

وهكذا الحكم في استثبات الحافظ ما شك فيه، من كتاب غيره من الثقات، أو حفظه، كما رُوي عن أبي عوانة، وأحمد، وغيرهما، ويحسن أن يبين مرتبته، كما فعل يزيد ابن هارون وغيره، ففي "مسند أحمد": حدثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم بالكوفة، فلم أكتبه، فسمعت شعبة يحدث به، فعرفته به، عن عاصم، عن عبد الله بن سَرْجِسَ، أن

ص: 430

رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا سافر قال:"اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر"، وغير "المسند" عن يزيد: أنا عاصم، وثبتني فيه شعبة.

فإن بَيّن أصل التثبت من دون من ثَبته فلا بأس، فَعَلَه أبو داود في "سننه" عقب حديث الحكم بن حزن، قال ثَبّتني في شيء منه بعض أصحابنا.

وإن وَجَدَ في كتابه كلمةً من غريب العربية، غير مضبوطة، أَشكَلَت عليه، جاز أن يسأل عنها العلماء بها، ويرويها على ما يُخبرونه به، فَعَلَ ذلك أحمد، وإسحق، وغيرهما. ورَوَى الخطيب عن عفّان بن سلمة، أنه كان يجيء إلى الأخفش، وأصحاب النحو، يَعْرِض عليهم نحو الحديث، يُعْرِبه. انتهى ما في "التدريب" ببعض تصرّف. (1).

وإلى ما تقدّم كلّه أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَاحْذَرْ مِنَ اللَّحْنِ أَوِ التَّصْحِيفِ

خَوْفًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ

فَالنَّحْوُ وَاللُّغَاتُ حَقُّ مَنْ طَلَبْ

وَخُذْ مِنَ الأَفوَاهِ لَا مِنَ الْكُتُبْ

في خَطَإٍ وَلحنِ أَصْل يُرْوَى

عَلَى الصَّوَابِ مُعْرَبًا في الأَقْوَى

ثَالِثُها تَرْكُ كِلَيهَما وَلَا

تَمْحُ مِنَ الأَصْلِ عَلَى مَا انْتُخِلَا

تَقْرَأهُ قَدِّمْ مُصْلَحًا في الأَوْلَى

وَالأَخْذُ مِنْ مَتْنٍ سِوَاهُ أَوْلَى

وَإِنْ يَكُ السَّاقِطُ لَا يُغَيِّر

كَابْنٍ وَحْرْفٍ زِدْ وَلَا تَعَسَّرُ

كَذَاكَ مَا غَايَرَ حَيْثُ يُعْلَمُ

إِتْيَانُهُ مِمَّنْ عَلَا وَأَلْزَمُوا

"يَعْنِي" وَمَا يَدْرُسُ في الْكِتَابِ

مِنْ غَير يُلْحَقُ في الصَّوَابِ

كَمَا إِذَا يَشُكُّ وَاسْتَتَثْبَتَ مِنْ

مُعْتَمَدٍ وَفِيهِمَا نَدْبًا أَبِنْ

وَمْنْ عَلَيْهِ كَلَماتٌ تُشْكِلُ

يَرْوِيَ عَلَى مَا أَوْضَحُوا إِذْ يَسْألُ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) راجع "تدريب الراوي على تقريب النواوي" 2/ 105 - 111.

ص: 431

(المسألة العاشرة): في بيان أدب من يروي الحديث بالمعنى، أو اشتبهت عليه لفظة في الحديث:

(اعلم): أنه ينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقبه: "أو كما قال"، "أو نحوه"، "أو شبهه"، أو ما أشبه هذا من الألفاظ، وقد كان قوم من الصحابة يفعلون ذلك، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام، خوفا من الزلل؛ لمعرفتهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر، فقد روى أحمد، وابن ماجه، والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يوما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغر ورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، ثم قال: أو مثله، أو نحوه، أو شبيه به. وفي "مسند الدارمي"، و"الكفاية" للخطيب، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أو نحوه"، "أو شبهه". وروى أحمد، وابن ماجه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرغ قال:"أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وإذا اشتبهت على القارئ لفظةٌ، فحَسَنٌ أن يقول بعد قراءتها على الشك:"أو كما قال"؛ لتضمنه إجازة من الشيخ، وإذنا في رواية صوابها عنه إذا بان، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى بقوله:

وَقُلْ أَخِيرًا "أَوْ كَمَا قَالَ" وَمَا

أَشْبَهَهُ كَالشَّكِّ فِيمَا أُبْهِمَا

والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

31 -

(حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى قَالَا: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَيَّ يُولجُ النَّارَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(منصور) بن المعتمر بن عبد الله بن رُبَيِّعة، وقيل: المعتمر بن عَتّاب بن فرقد السُّلَميّ، أبو عَتَّاب الكوفيّ، ثقة ثبت، لا يُدلّس [6].

رَوَى عن أبي وائل، وزيد بن وهب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري،

ص: 432

وربعي بن حِرَاش، وتميم بن سلمة، وخلقٍ كثير.

ورَوَى عنه أيوب، وحصين بن عبد الرحمن، والأعمش، وسليمان التيمي، وهم من أقرانه، والثوري، وشعبة، ومسعر، وشيبان، وزائدة، وشريك النخعيّ، وخلقٌ كثير.

قال الآجري عن أبي داود: كان منصور لا يروي إلا عن ثقة. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين -وأبي حاضرٌ - يقول: إذا اجتمع منصور والأعمش، فقَدَّمْ منصورًا. وقال أيضا: سمعت يحيى يقول: منصور أثبت من الحكم، ومنصور من أثبت الناس. وقال أيضا: رأيت في كتاب علي بن المديني -وسئل أيُّ أصحاب إبراهيم أعجب إليك؟ - قال: إذا حدثك عن منصور ثقة، فقد ملأت يديك، ولا تريد غيره. وقال عبدان: سمعت أبا حمزة يقول: دخلت إلى بغداد، فرأيت جميع من بها يُثنِي على منصور. وقال وكيع عن سفيان: إذا جاءت المذاكرة جئنا بكل، وإذا جاء التحصيل جئنا بمنصور. وقال عبد الرزاق: حدث سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، فقال: هذا الشرف على الكرسي. وقال أبو زرعة عن إبراهيم بن موسى: أثبت أهل الكوفة منصور، ثم مسعر. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن منصور؟ فقال: ثقة. قال: وسئل أبي عن الأعمش ومنصور؟ فقال: الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصور أتقن لا يخلط ولا يدلس. وقال العجلي: كوفي ثقة ثبت في الحديث، كان أثبت أهل الكوفة، وكأن حديثه القَدَحُ، لا يَختَلِف فيه أحد، متعبدٌ، رجل صالح، أُكرِه على القضاء شهرين، وكان فيه تشيع قليل، ولم يكن بغال، وكان قد عَمِشَ من البكاء، وصام ستين سنة وقامها، وقالت فتاة لأبيها: يا أبت الأسطُوانة التي كانت في دار منصور ما فعلت؟ قال: يا بُنية ذاكِ منصور، يصلي باليل فمات.

قال ابن سعد، وخليفة في آخرين: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (56) حديثًا.

2 -

(رِبْعيّ -بكسر الراء، وسكون الموحّدة- ابن حِرَاش) -بكسر الحاء المهملة،

ص: 433

والراء، آخره شين معجمة -ابن جَحْش -بفتح الجيم، وسكون الراء المهملة، آخره شين معجمة- ابن عمرو بن عبد الله بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بَغِيض ابن رَيث بن غطفان بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر الغطفانيّ العبسيّ -بالموحّدة- أبو مريم الكوفي الأعور العابد الورع، ثقة عابد مخضرم [2].

قَدِمَ الشام، وسمع خطبة عمر بالجابية، وروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وعمران بن حصين، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم من الصحابة، والتابعين. ورَوَى عنه عبد الملك بن عمير وأبو مالك الأشجعي، والشعبي، ونعيم بن أبي هند، ومنصور المعتمر، وغيرهم.

قال ابن المديني: بنو حِرَاش ثلاثة: ربعي، وربيع، ومسعود، ولم يُرْوَ عن مسعود شيء، سوى كلامه بعد الموت. يقال: لم يَكذِب كَذْبة قط، وكان له ابنان عاصيان على الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب قطّ، لو أرسلتَ إليه فسألته عنهما، فأرسل إليه، فقال: هما في البيت، فقال: قد عفونا عنهما لصدقك. وحلف أن لا يضحك حتى يعرِف أين مصيره إلى الجنة أو إلى النار؟ فما ضَحِكَ إلا بعد موته. وله أخوان: مسعود، وهو الذي تكلّم بعد الموت، وربيع، وهو أيضًا حلف أن لا يضحك حتى يعرِف أفي الجنّة أم لا، فقال غاسله: إنه لم يزل مبتسمًا على سريره حتى فرغنا. وقال العجلي: تابعي ثقة، من خيار الناس، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من عباد أهل الكوفة.

قال ابن سعد: تُوُفِّي بعد الجماجم في ولاية الحجاج بن يوسف، وليس له عَقِب. وقال أبو نعيم، وغير واحد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال أبو عبيد: مات سنة مائة. وقال ابن نمير: سنة 101. وقال ابن معين وغيره: سنة 104.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

3 -

(عليّ) بن أبي طالب رضي الله عنه تقدم في 2/ 20، والباقون تقدموا في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

ص: 434

لطائف هذا الإسناد.

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فمن رجال الأربعة غير النسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ على قول من جعل منصورًا من التابعين.

5 -

(ومنها): أن ربعي بن حِرَاش، بالحاء المهملة لا يوجد في الأسماء بهذا الضبط غيره، وغير حِرَاش بن مالك، ومن عداهما، فإنه خِراش بالشين المعجمة، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفية المصطلح" بقوله:

حِرَاشٌ ابْنُ مَالِكٍ كَوَالِدِ

رِبْعِيٍّ اهْمِلْهُ بِغَيْرِ زَائِدِ

و"حراش بن مالك" هذا كان معاصرًا لشعبة، وليست له رواية في الكتب الستّة، وقد اختُلف في ضبطه، فقيل: بالمهملة، وقيل: بالمعجمة، وقيل:"خراش بن بمهملة، وتشديد راء، آخره سين مهملة. ومن اختلف في ضبطه أيضًا "خراش بن أمية" الكعبيّ الخزاعيّ الصحابيّ، فقيل: بالمهملة، وقيل: بالمعجمة. قاله ابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه" (1).

6 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، وأبو السبطين، ولقّبه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأبي تراب رضي الله عنه والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن عَلِيٍّ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُوُل الله صلى الله عليه وسلم "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله

(1)"توضيح المشتبه" 1/ 160 - 161.

ص: 435

(تَكْذِبُوا عَلَيَّ) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: صدر هذا الحديث نهيٌ، وعجزه وعيد وشديدٌ. وقال في "الفتح": هو عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسُبُوا الكذب إليّ، ولا مفهوم لقوله:"عليّ"؛ لأنه لا يُتَصَوَّر أن يُكذَب له؛ لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة، فوَضعُوا أحاديث في الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دَرَوا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى؛ لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما، وهو الحرام والمكروه، ولا يُعْتَدُّ بمن يُخالَف ذلك من الكَرّامية، حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب، في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة، واحتجوا بأن كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت، وهي ما أخرجه البزار، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ:"من كذب عليّ ليضل به الناس" الحديث، وقد اختُلِف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، أخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مُرّة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة، بل للصيرورة، كما فُسّر به قوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} الآية [الأنعام: 144]، والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، فلا مفهوم له، كقوله تعالى:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية [آل عمران: 130]، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} الآية [الأنعام: 151]، فإن قتل الأولاد، ومضاعفة الربا، والإضلال، في هذه الآيات، إنما هو لتأكيد الأمر فيها، لا لاختصاص الحكم. انتهى (1).

(فَإِنَّ) الفاء للتعليل، لأن (الْكَذِبَ عَلَيَّ يُولجُ النَّارَ) أي يدخل النارَ، برفع الفعل، والجملة خبر "إن"، وهو من وَلَجَ يَلِج وُلُوجًا وِلِجَةً من باب وعَدَ يَعِدُ: إذا دخل.

(1)"فتح" 1/ 264.

ص: 436

وانتصاب "النار" بتقدير "في"؛ لأن الفعل لازم، وهو من قبيل قولك: دخلتُ الدارَ، والتقدير: دخلت في الدار؛ لأن دخل لازم، واللازم لا يَنصب إلا بالصلة. (1).

وفي رواية البخاريّ: "فإنه من كذَبَ عليّ فليج النار". قال في "الفتح": قوله: "فليلج النار" جَعَلَ الأمر بالولوج مسببا عن الكذب؛ لأن لازم الأمر الإلزامُ، والإلزامُ بولوج النار سببه الكذب عليه، أو هو بلفظ الأمر، ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة، بلفظ:"من يكذب على يلج النار" انتهى (2).

قال النوويّ رحمه الله تعالى: معنى الحديث أن هذا جزاؤه، وقد يُجازَى به، وقد يعفو الله الكريم عنه، ولا يُقطَع عليه بدخول النار، وهكذا سبيل كل ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر، فكلها يقال فيها: هذا جزاؤه، وقد يجازى، وقد يُعفَى عنه، ثم إن جوزى، وأدخل النار فلا يخلد فيها، بل لابد من خروجه منها بفضل الله تعالى ورحمته، ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة. انتهى (3).

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا وعيدٌ شديدٌ عامٌّ في كلّ كاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطلق في أنواع الكذب، ولمّا كان كذلك هاب قوم من السلف الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعمر، والزبير بن العوّام، وأنس بن مالك، وابن هرمز رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإن هؤلاء سمعوا كثيرًا، وحدّثوا قليلًا، كما صرّح الزبير رضي الله عنه بذلك لمّا قال له ابنه عبد الله رضي الله عنه: إني لا أسمعك تُحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدّث فلان وفلان؟ فقال: أما إني لم أكن أفارقه، ولكنّي سمعته يقول:"من كذب عليّ، فليتبوّأ مقعده من النار"(4). وقال أنس رضي الله عنه: "إنه ليمنعني أن أُحدّثكم حديثًا

(1) راجع "عمدة القاري" 2/ 110.

(2)

"فتح" 1/ 264.

(3)

"شرح النوويّ" 1/ 68 - 69.

(4)

راوه البخاريّ برقم (107) وأبو داود برقم (3651).

ص: 437

كثيرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب عليّ "الحديث (1). ومنهم من سمع، وسكت، كعبد الملك بن إياس، وكأن هؤلاء تخوّفوا من إكثار الحديث الوقوعَ في الكذب والغلط، فقلّلوا، أو سكتوا، غير أن الجمهور خصّصوا عموم هذا الحديث، وقيّدوا مُطلقه بالأحاديث التي ذُكر فيها "متعمدًا"، فإنه يُفهم منها أن ذلك الوعيد الشديد إنما يتوجّه لمن تعمّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الطريقة هي المرضيّة، فإنها تجمع بين مختلفات الأحاديث؛ إذ هي تخصيص العموم، وحملُ المطلق على المقيّد مع اتّحاد الموجَب والموجَب، كما قَرَّرناه في الأصول.

هذا مع أن القاعدة الشرعيّة القطعيّة تقتضي أن المخطىء والناسي غير آثمين، ولا مؤاخذين، لا سيّما بعد التحرّز والحذر. انتهى كلام القرطبيّ (2)، وهو بحث نفيس جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (4/ 31) عن عبد الله بن عامر بن زُرارة، وإسماعيل بن موسى، جميعًا عن شريك، عن منصور، عن ربعيّ بن حراش، عنه، و (البخاريّ) في (العلم)(1/ 38 رقم 103) عن عليّ بن الجعد، عن شعبة، عن منصور به. و (مسلم) في "المقدمة"(1/ 7) عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن شعبة ح وعن محمد بن المثنى وابن بشار كلاهما عن غندر، عن شعبة به. و (الترمذيّ) في "العلم"(2660) عن إسماعيل بن موسى الفزاريّ، عن شريك بن عبد الله، عن منصور به. و (3715) عن

(1) رواه مسلم (2) والترمذيّ (2663).

(2)

"المفهم" 1/ 113.

ص: 438

سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن شريك به. والنسائيّ في "الكبرى" في "العلم"(44/ 5911) عن إسماعيل بن منصور، عن خالد الهجيميّ، عن شعبة -وعن محمد بن بشار، عن يحيى القطان، عن شعبة، قال: حدثني منصور، قال: سمعت ربعيّا، سمعت عليّا يقول .... و (أحمد) في "مسند العشرة" 1/ 83 (629) و1/ (1000) عن يحيى القطان، عن شعبة و (1/ 83) عن حسين، عن شعبة به. و (1/ 123) عن حجاج، عن شعبة و (1/ 123) و (1/ 150) عن محمد بن جعفر، عن شعبة به. وأخرجه عبد الله ابن أحمد في زياداته على "المسند"(1/ 130) عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليّ رضي الله عنه، وسيأتي برقم (38).

وأما فوائده فقد تقدّمت في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولله الحمد والمنّة، ومنه التوفيق والعصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المّتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

32 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ المِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كَذَبَ عَلَيَّ -حَسِبْتُهُ قَالَ-: مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْن رُمْحٍ المِصْرِيُّ) التُّجِيبيّ موهم، ثقة ثبتٌ [10] تقدّم في 2/ 15.

2 -

(الليث بن سعد) بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [7] تقدم في 2/ 15.

3 -

(ابن شهاب) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ الحجة المتّفق على جلالته، من رءوس [4] تقدّم 2/ 15.

4 -

(أنس بن مالك) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الخادم الشهير رضي الله عنه تقدّم في 3/ 24. والله تعالى أعلم.

ص: 439

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد، أنه من رباعيّات المصنّف، وأن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة، غير شيخه، فقد تفرّد به هو ومسلم، وأن فيه مدنيّان، ومصريّان، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو من المعمّرين، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنه بالبصرة، مات سنة (2) أو (93) وقد جاوز مائة سنة، والله تعالى أعلم.

وأما شرح الحديث فقد تقدّم في أول الباب، وفيه:

مسألتان تتعلّقان به:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (-4/ 32) بالسند المذكور، وأخرجه (أحمد)(3/ 223) و (الترمذيّ) رقم (2661) و (ابن حبان) في "صحيحه" رقم (31) من هذا الوجه. وأخرجه (أحمد) 3/ 98 و (البخاريّ) 1/ 38 و (مسلم) في "المقدّمة" 1/ 7 و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 457) رقم (5913) من طريق عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه (ابن أبي شيبة) 8/ 763 و (أحمد) 3/ 116 و 166 و (الدارميّ) رقم (242) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته على "المسند" 3/ 278 و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 458) رقم (5914) من طريق سليمان التيميّ، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه (أحمد) 3/ 172 و 203 و 209 و (الدارميّ) رقم (241 و 242) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته 3/ 278 و 279 من طريق حمّاد بن أبي سليمان، وعبد العزيز بن رُفيع، وعَتّاب مولى ابن أزهر، وسليمان التيميّ، وقتادة، خمستهم عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه (أحمد) 3/ 113 من طريق عاصم الأحول، عن أنس رضي الله عنه. و (الدارميّ)(244) من طريق محمد بن بشر (1) عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه (أحمد) 3/ 280 من طريق

(1) هكذا وقع في نسخة "سنن الدارميّ""محمد بن بشر"، ولعله "محمد بن سرين"، فليُحرّر.

ص: 440

عيسى بن طهمان، عن أنس رضي الله عنه. والله تعالى وليّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

33 -

حَدَّثَنَا أَبو خَيْثَمَةَ، زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" *

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبو خَيْثَمَةَ، زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد الحَرَشيّ (1) النسائيّ، نزيل بغداد، مولى بني الحَرِيش بن كعب، وكان اسم جده أشتال، فَعُرِّب شدادا، الحافظ الثقة الثبت.

رَوَى عن عبد الله بن إدريس، وابن عيينة، وحفص بن غياث، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسِيُّ، وجرير بن عبد الحميد، وابن علية، وعبد الله بن نمير، وعبد الرزاق، وعبدة بن سليمان، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، ورَوَى له النسائي بواسطة أحمد بن علي بن سعيد المروزي، وابنُهُ أبو بكر بن أبي خيثمة، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وإبراهيم الحربي، وموسى بن هارون، وغيرهم.

قال معاوية بن صالح عن ابن معين: ثقة. وقال علي بن الجنيد عن ابن معين: يكفي قبيلةً. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال يعقوب بن شيبة: زهير أثبت من عبد الله ابن أبي شيبة، وكان في عبد الله تهاون بالحديث، لم يكن يفصل هذه الأشياء -يعني الألفاظ-. وقال جعفر الفريابي: قلت لابن نمير: أيهما أحب إليك؟ فقال: أبو خيثمة، وجعل يُطريه، ويَضَع من أبي بكر. وقال الآجري: قلت لأبي داود: كان أبو خيثمة حجة في الرجال؟ قال: ما كان أحسن علمه. وقال النسائي ثقة مأمون. وقال الحسين ابن فهم: ثقة ثبت. وقال أبو بكر الخطيب: كان ثقة، ثبتا، حافظا، متقنا. وقال أبو

(1)"الحَرَشيّ" -بفتحتين، ومعجمة: نسبة إلى بني الْحَرِيش بن كعب. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 242.

ص: 441

القاسم البغوي: كتبت عنه. وقال ابن قانع: كان ثقة تبتا، وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": سُئل أبي عنه؟ فقال: ثقة صدوق. وقال ابن وضاح: ثقة من الثقات، لقيته ببغداد. وقال ابن حبان في "الثقات": كان متقنا، ضابطا، من أقران أحمد، ويحيى بن معين.

قال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره: مات سنة (234). وقال ابنه أبو بكر: وُلِد أبي سنة (160)، ومات ليلة الخميس لسبع خلون من شعبان، وهو ابن (74) سنة. وحكى الخطيب عن أبي غالب علي بن أحمد بن النصر: أنه توفي سنة (32) قال الخطيب: هذا وَهَمٌ، والصواب سنة (4). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث أنس رضي الله عنه رقم (1900):"شهدت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وليمة ما فيها لحم ولا خبز".

2 -

(هشيم) -بالتصغير- ابن بَشير -بالفتح بوزن عَظِيم- ابن القاسم بن دينار -السلميّ، أبو معاوية ابن أبي خازم -بمعجمتين- الواسطيّ، قيل: إنه بخاري الأصل الحافظ الثقة الثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7].

رَوَى عن أبيه، وخاله القاسم بن مِهْران، وعبد الملك بن عُمير، ويعلى بن عطاء، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعمرو بن دينار، وأبي الزبير، وعاصم الأحول، والأعمش، وخلق كثير.

ورَوَى عنه مالك بن أنس، وشعبة، والثوري، وهم أكبر منه، وابنه سعيد بن هشيم، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل، وعمرو بن عوف، وزهير بن حرب، وآخرون.

قال الفضل بن زياد: سألت أحمد أين كَتَبَ هشيم عن الزهري؟ قال: بمكة.

وقال عمرو بن عون عن هشيم: سمعت من الزهري نحوًا من مائة حديث، فلم أكتبها. وقال الحسين بن محمد بن فهم: أخبرني الهروي، أن هشيما كَتَبَ عن الزهري صحيفة بمكة، فجاءت الريح، فحملت الصحيفة، فطرحتها؛ فلم يجدوها، وحفظ

ص: 442

هُشيم منها تسعة. وقال أبو القاسم البغوي عن يحيى بن، أيوب المقابري: سمعت أبا عبيدة الحداد يقول: قدم علينا، هشيم البصرة، فذكرنا لشعبة، فقال: إن حدثكم عن ابن عباس وابن عمر، فصدّقوه. وقال علي بن معبد الرَّقّيّ: جاء رجل من أهل العراق، فذاكر مالكا بحديث، فقال: وهل بالعراق أحد يُحسن الحديث إلا ذاك الواسطي -يعني هشيما-. وقال عمرو بن عوف: سمعت حماد بن زيد يقول: ما رأيت في المحدثين أنبل من هشيم، وقال محمد بن عيسى بن الطباع. قال عبد الرحمن بن مهدي: كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري، قال: وسمعت وكيعا يقول: نَحُّوا عنّي هشيما، وهاتوا من شتم -يعني في المذاكرة-. وقال الحارث بن سُرَيج البقال: سمعت يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي يقولان: هشيم في حصين أثبت من سفيان وشعبة. وفي رواية عن ابن مهدي: هشيم أثبت منهما، إلا أن يجتمعا. وقال أبو داود: قال أحمد: ليس أحد أصح حديثا عن حصين من هشيم، وقال العجليّ: هُشيم واسطي ثقة، وكان يدلس. وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن هشيم ويزيد بن هارون؟ فقال: هشيم أحفظهما، وقال: وسألت أبي هشيم؟ فقال: ثقة، وهو أحفظ من أبي عوانة، قال: وسئل أبو زرعة عن هشيم وجرير؟ فقال: هشيم أحفظ. وقال ابن سعد. كان ثقة كثير الحديث، ثبتا يدلس كثيرا، فما قال في حديثه: أنا فهو حجة، وما لم يَقُل فليس بشيء.

وقال نصر بن حماد: سألت هشيما متى ولدت؟ قال: في سنة أربع ومائة. وقال ابن سعد: أخبرني إبنه سعيد أنه وُلد في سنة خمس، وقال ابن سعد: ومات في شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائة، وفيها أرخه غير واحد. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (37) حديثًا.

3 -

(أبو الزبير) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس -بفتح المثناة، وسكون الدال المهملة، وضمّ الراء- الأسدي مولاهم المكي، صدوق، إلا أنه يُدلّس [4].

رَوَى عن العبادلة الأربعة، وعن عائشة، وجابر، وأبي الطفيل، وسعيد بن جبير،

ص: 443

وعكرمة، وطاووس، وخلق كثير.

ورَوَى عنه عطاء، وهو من شيوخه، والزهري، وأيوب، وأيمن بن نابل، وابن عون، والأعمش، وسلمة بن كهيل، وهُشيم، وخلق كثير.

قال ابن عيينة عن أبي الزبير: كان عطاء يُقَدِّمني إلى جابر أحفظ لهم الحديث. ويُروَى عن يعلى بن عطاء قال: حدثني أبو الزبير، وكان أكمل الناس عقلا وأحفظهم. وقال حرب بن إسماعيل: سُئل أحمد عن أبي الزبير، فقال: قد احتمله الناس، وأبو الزبير أحب إلي من سفيان؛ لأنه أعلم بالحديث منه، وأبو الزبير ليس به بأس. وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: كان أيوب يقول: حدثنا أبو الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير، قلت لأبي: يضعفه؟ قال: نعم. وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن عيينة يقول: حدثنا أبو الزبير، وهو أبو الزبير، أي كأنه يضعفه. وقال هشام بن عمار عن سويد بن عبد العزيز: قال لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير، وهو لا يحسن أن يصلي. وقال نعيم بن حماد: سمعت هشيما يقول: سمعت من أبي الزبير، فأخذ شعبة كتابي فمزقه. وقال محمود بن غيلان عن أبي داود: قال شعبة: ما كان أحد أحب إلي أن ألقاه بمكة من أبي الزبير، حتى لقيته، ثم سكت. وقال محمد بن جعفر المدائني عن ورقاء: قلت لشعبة: ما لك تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يَزِن ويسترجح في الميزان، وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: أبو الزبير يحتاج إلى دعامة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح الحديث. وقال مرة: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: أبو الزبير أحب إلي من سفيان. وقال أيضا عن يحيى: لم يسمع من ابن عمر ولم يره. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق، وإلى الضعف ما هو؟ وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي الزبير، فقال: يُكتَب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إلي من سفيان. قال: وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير، فقال: رَوَى عنه الناس، قلت: يُحتَجّ بحديثه؟ قال: إنما يُحتَجّ بحديث الثقات. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن عدى: رَوَى مالك عن أبي الزبير أحاديث، وكفى بأبي الزبير صدقا أن يحدث عنه مالك، فإن مالكا

ص: 444

لا يروي إلا عن ثقة. وقال لا أعلم أحدا من الثقات تخلف عن أبي الزبير، إلا وقد كتب عنه، وهو نفسه ثقة، إلا إِنْ رَوَى عنه بعضُ الضعفاء، فيكون ذلك من جهة الضعيف. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: لم يُنصِف من قَدَح فيه؛ لأن من استرجح في الوزن لنفسه لم يَستَحِقَّ الترك لأجله. وقال ابن أبي مريم عن الليث: قدمت مكة، فجئت أبا الزبير، فدفع إلي كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو عاودته فسألته هل سمع هذا كله من جابر؟ فقال: منه ما سمعت، ومنه ما حُدِّثت عنه، فقلت له: أَعْلِم لي على ما سمعت، فأَعْلِم لي على هذا الذي عندي.

وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت ابن المديني عنه، فقال: ثقة ثبت. وقال هشيم عن حجاج، وابن أبي ليلى، عن عطاء: كنا نكون عند جابر، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه، فكان أبو الزبير أحفظنا. وقال ابن عون: ثنا أبو الزبير وما كان بدون عطاء (1). وقال عثمان الدارمي: قلت ليحيى: فأبو الزبير؟ قال: ثقة، قلت: محمد بن المنكدر أحب إليك أو أبو الزبير، قال: كلاهما ثقتان. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، إلا أن شعبة تركه لشيء زعم أنه رآه فعله في معاملة. وقال الساجي: صدوق حجة في الأحكام، قد روى عنه أهل النقل وقبلوه واحتجوا به، قال: وبلغني عن يحيى ابن معين أنه قال: استحلف ليث أبا الزبير بين الركن والمقام أنك سمعت هذه الأحاديث من جابر؟ فقال: والله إني سمعتها من جابر، يقول ثلاثا. وقال ابن عيينة: كان أبو الزبير عندنا بمنزلة خبز الشعير، إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه.

قال البخاري عن علي بن المديني: مات قبل عمرو بن دينار. وقال عمرو بن علي، والترمذي: مات سنة ست وعشرين ومائة. أخرج له الجماعة، وحديثه عند البخاري مقرون بغيره، وله في هذا الكتاب (95) حديثًا.

(1) كان في نسخة "تت": "حدثنا أبو الزبير" بدون عطاء"، وهو كلام ركيك، فأصلحته مما في "سير النبلاء" للذهبيّ، ونصّه: قال ابن عون: ما أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح. انتهى.

ص: 445

4 -

(جابر) تقدّم في 1/ 11. والله تعالى أعلم.

وشرح الحديث يُعلم مما سبق، وفيه مسألتان تتعلّقان به:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر رضي الله عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة هُشيم، وأبي الزبير، وهما مدلّسان؟.

[قلت: إنما يصحّ بشواهده، فإن أحاديث الباب تشهد له، وهي صحاح، بل متواترة، كما سبق بيان ذلك مستوفىً. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (4/ 33) بهذا السند، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(3/ 303) و (الدارميّ) في "مسنده" رقم (237). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

34 -

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْن عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا أَقُلْ، فَلْيَتبَّوأْ مَقعَدهُ مِنَ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفي واسطيّ الأصل، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10] 1/ 1.

2 -

(مُحَّمدُ بْنُ بِشرٍ) بن الفَرَافِصَة بن المختار الحافظ العَبْدي، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [9].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر العمري، ويزيد بن زياد بن أبي الجعد، والأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، والثوري، وشعبة، وغيرهم.

ص: 446

ورَوَى عنه علي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو كريب، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وموسى بن حزام الترمذي، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: هو أحفظ من كان بالكوفة. وقال الكديمي عن أبي نعيم: لما خرجنا في جنازة مسعر جعلت أتطاول، فقلت يجيئوني، فيسألوني عن حديت مسعر، فذاكرني محمد بن بشر العبدي بحديث مسعر، فأغرب علي سبعين حديثا لم يكن عندي منها إلا حديث واحد. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وفي "المراسيل": قال ابن معين: والله ما سمع محمد ابن بشر من مجاهد بن رومي شيئًا، ولكنه مرسل. وقال النسائي وابن قانع: ثقة. وقال ابن الجنيد عن ابن معين: لم يكن به بأس، وقيل له: هو أحب إليك أو أبو أسامة؟ فقال: إبو أسامة، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: محمد بن بشر ثقة ثبت، إذا حدث من كتابه. ووثقه ابن سعد، ويعقوب بن شيبة، وذكره ابن حبّان في "الثقات".

قال البخاري وابن حبان: مات سنة ثلاث ومائتين، وفيها أرخه يعقوب بن شيبة، ومحمد بن سعد، وزاد في جمادى الأولى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (46) حديثًا.

3 -

(محمد بن عمرو) بن علقمة 2/ 22.

4 -

(أبو سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف [3] 2/ 22.

5 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدّم في1/ 1، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، بل من رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه ليس في الكتب الستة من اسمه محمد بن بشر غير هذا، إلا محمد ابن بشر بن بشير الأسلميّ الكوفيّ عند النسائيّ أخرج له حديثًا واحدًا خولف فيه،

ص: 447

حديث عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ شيئًا أخذه بيمينه

" الحديث.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ" أي افترى عليّ، يقال: تقوّل الرجل على زيد ما لم يَقُل ادّعىَ عليه ما لا حقيقة له. قاله في "المصباح"(1). وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه عند البخاريّ: "من يقُل"، وأصله:"يقول" وإنما جزم بالشرط (مَا لَمْ أَقُلْ)"ما" اسم موصولٌ مفعول "تقوّل": أي شيئا لم أقله، فحذف العائد، وهو جائز، كما أشار إليه في "الخلاصة":

...........................

وَالحذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

في عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفْعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ

وإنما ذكر القول؛ لأنه الأكثر، وإلا فحكم الفعل كذلك؛ لاشتراكهما في علة الامتناع، وقد دخل الفعل في عموم حديث "من كذب عليّ"، فلا فرق في ذلك بين أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وفعل كذا، إذا لم يكن قاله أو فعله.

وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى، وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغيير الحكم، مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. أفاده في "الفتح"(2).

(فَلْيَتبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) قال في "عمدة القاري": "فليتبوّأ" -بكسر اللام-: هو

(1)"المصباح المنير" 2/ 520.

(2)

"فتح" 1/ 267.

ص: 448

الأصل، وبالسكون هو المشهور، وهو أمر من التبوّء، وهو اتّخاذ المبَاءة: أي المنزل، يقال: تبوّأ الرجل المكان: إذا اتّخذه موضعًا لمقامِهِ، وقال الجوهريّ: تبوّأتُ منزلًا: أي نزلته. وقال الخطّابيّ: تبوّأت بالمكان أصله من مباءة الإبل، وهي أعطانها.

وقال الخطابيّ أيضًا: ظاهره أمر، ومعناه خبرٌ، يريد أن الله تعالى يبوّئه مقعده من النار. وقال الطيبيّ: الأمر بالتبوّؤ تهكّم وتغليظٌ، إذ لو قيل: كان مقعده في النار لم يكن كذلك، وأيضًا فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه: أي كما أنه قصد في الكذب التعمّد فليقصد في جزائه التبوّء. وقال الكرمانيّ: يجوز أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى: من كذب فليأمر نفسه بالتبوّء. وقال العينيّ: الأولى أن يكون أمر تهديد، أو يكون دعاء على معنى بوّأه الله. انتهى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، بلفظ (2):"من كذب عليّ متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده من النار". والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا -4/ 34 بهذا الإسناد، وأخرجه (أحمد)(2/ 501) و (ابن حبّان) رقم (28) من هذا الوجه. و (أحمد) 2/ 413 و (الدارميّ) رقم (599) من طريق عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. و (أحمد) 1/ 400 و 2/ 410 و463 و 469 و 519 و (البخاريّ) 1/ 38 و 8/ 54 و (مسلم) في "المقدّمة" 1/ 7

(1)"عمدة القاري" 2/ 113.

(2)

وأما بلفظ: "من تقوّل عليّ ما لم أقل الخ" فتفرّد به محمد بن عمرو، وهو وإن قال الذهبيّ: حسن الحديث، إلا أن أحاديث الباب تشهد له، فيصحّ. والله تعالى أعلم.

ص: 449

و (الترمذيّ) في "الشمائل"(407) و (النسائيّ) في "الكبرى" 3/ 458 رقم (5915) من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه (ابن أبي شيبة) 8/ 762 و (أحمد) 2/ 321 و365 و (أبو داود) رقم (3657) و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(259) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" رقم (411) من طريق مسلم بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

35 -

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى التَّيْمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسحَقَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: -عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ- "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الحدِيثِ عَنِّي، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ، فَلْيَقُلْ حَقًّا "أَوْ" صِدْقًا، وَمَنْ تَقَوَّلَ عَلَيّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد المذكور في السند الماضي.

2 -

(يَحْيَى بْنُ يَعْلَى) بن حرملة التيميّ أبو المُحَيّاة -بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد التحتانيّة، آخره هاء- الكوفي [8].

رَوَى عن أبيه، وعبد الملك بن عمير، وسلمة بن كهيل، ومنصور، وهشام بن حسان، ومحمد بن إسحاق، وليث بن أبي سُليم، وغيرهم. ورَوَى عنه أسود بن عامر شاذان، وإبراهيم بن موسى الفراء، ومنصور بن أبي مزاحم، وعلي بن سعيد بن مسروق، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وهناد بن السري، ومحمد ابن حسان التيمي، وعباد بن يعقوب، وغيرهم.

قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وذكره بن حبان في "الثقات". قال مطين: مات سنة ثمانين ومائة، وهو ابن ست وتسعين سنة فيما أُخْبِرتُ. وهو قول ابن سعد في الطبقات، أخرج له مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (4)

ص: 450

أحاديث فقط برقم 35 و2239 و1711 و3724.

3 -

(محمد بن إسحاق) بن يسار بن خيار ويقال: كومان المدني أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله المطلبي مولاهم، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوقٌ يُدلّس، ورُمي بالتشيّع والقدر، من صغار [5].

رأى أنسًا، وابن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، ورَوَى عن أبيه، وعميه عبد الرحمن، وموسى، والأعرج، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر، وغيرهم.

ورَوَى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن أبي حبيب، وهما من شيوخه، وجرير بن حازم، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وابن عون، وإبراهيم بن سعيد، والحمادان، وشعبة، والسفيانان، وغيرهم.

قال سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق: رأيت أنس بن مالك عليه عمامه سوداء.

وقال المفضل الغلابي: سألت ابن معين عنه، فقال: كان ثقة، وكان حسن الحديث: فقلت: إنهم يزعمون أنه رأى ابن المسيب، فقال: إنه لقديم. وقال الدُّوري عن ابن معين: قد سمع محمد بن إسحاق من أبان بن عثمان، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وعطاء، وقال علي بن المديني: مدار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة فذكرهم، ثم قال: فصار عِلمُ الستة عند اثني عشر، فذكر ابن إسحاق فيهم. وقال ابن عيينة: رأيت الزهري قال لمحمد بن إسحاق. أين كنت؟ فقال: هل يَصِلُ إليك أحد، قال: فدعا حاجبه، وقال: لا تحجبه إذا جاء. وقال ابن المديني: سمعت سفيان قال: قال ابن شهاب -وسئل عن مفاريده-: فقال: هذا أعلم الناس بها. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما بقي ابن إسحاق. وقال ابن أبي خيثمة عن هارون بن معروف: سمعت أبا معاوية يقول: كان ابن إسحاق من أحفظ الناس، فكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر جاء، فاستودعها ابن إسحاق. وقال النفيلي عن عبد الله بن فائد: كنا إذا جلسنا إلى ابن إسحاق، فأخذ في فن من العلم قضي مجلسه في ذلك الفن. وقال الميموني: ثنا أبو عبد الله بحديث استحسنته

ص: 451

عن ابن إسحاق، فقلت له: يا أبا عبد الله ما أحسن هذه القصص التي يجيء بها ابن إسحاق، فتبسم إليّ متعجبا. وقال صالح بن أحمد عن علي بن المديني عن ابن عيينة قال: جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة، وما يتهمه أحد من أهل المدينة، ولا يقول فيه شيئا، قلت لسفيان: كان ابن إسحاق جالس فاطمة بنت المنذر، فقال أخبرني: ابن إسحاق أنها حدثته، وأنه دخل عليها. وقال عبد الله ابن أحمد: ثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت هشام بن عروة يقول: يحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، والله إن رآها قط، قال عبد الله: فحدثنا أبي بذلك، فقال: ولِمَ يُنكِرُ هشام؟ لعله جاء فاستاذن عليها، فأذنت له أحسبه قال: ولم يعلم.

وذكر في "الميزان" عن أبي قلابة الرقاشيّ، حدثني أبو داود سليمان بن داود، قال: قال يحيى القطّان: أشهد أن محمد بن إسحاق كذّاب، قلت: وما يُدريك؟ قال: قال لي وُهيب، فقلت لوهيب: وما يُدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس، فقلت لمالك: وما يُدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة، قال: قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حدّث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأُدخلت عليّ وهي بنت تسع، وما رآها رجلٌ حتى لقيت الله تعالى.

قال الحافظ الذهبيّ: قد أجبنا عن هذا، والرجل فما قال: إنه رآها، أفبمثل هذا يُعتمد على تكذيب رجل من أهل العلم، هذا مردود، ثم قد روى عنها محمد بن سُوقة، ولها رواية عن أم سلمة، وجدّتها أسماء، ثم ما قيل من أنها أُدخلت عليه وهي بنت تسع غلطٌ بَيِّنٌ، ما أدري ممن وقع من رواة الحكاية، فإنها أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة، ولعلها ما زُفّت إليه إلا وقد قاربت بضعًا وعشرين سنة، وأخذ عنها ابن إسحاق، وهي بنت بضع وخمسين سنة، أو أكثر. انتهى (1).

(1)"ميزان الاعتدال" 3/ 471.

ص: 452

وقال في "سير أعلام النبلاء" بعد ذكره الحكاية: ما نصّه: قلت: معاذ الله أن يكون يحيى وهؤلاء بَدَا منهم هذا بناءً على أصل فاسد واهٍ، ولكنّ هذه الخرافة من صَنْعَة سليمان، وهو الشاذكونيّ -لا صبّحه الله بخير- فإنه مع تقدّمه في الحفظ متّهمٌ بالكذب، وانظر كيف قد سلسل الحكاية، ويُبيّن لك بطلانها أن فاطمة بنت المنذر لما كانت بنت تسع سنين لم يكن زوجها هشام خُلِق بعدُ، فهي أكبر منه ببضع عشرة سنة، وأسنده منه، فإنها روت كما ذكرنا عن أسماء بنت أبي بكر، وصحّ أن ابن إسحاق سمع منها، وما عرف بذلك هشام، أفبمثل هذا القول الواهي يُكذّب الصادق؟ كلا والله، نعوذ بالله من الهوى والمكابرة، ولكن صَدَق القاضي أبو يوسف إذ يقول: من تتبّع غريب الحديث كُذِّب، وهذا من أكبر ذنوب ابن إسحاق، فإنه كان يكتب عن كلّ أحد، ولا يتورّع سامحه الله. انتهى كلام الذهبيّ (1).

وقال الأثرم عن أحمد: هو حسن الحديث. وقال مالك: دجال من الدجاجلة. وقال البخاري: رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق، قال: وقال علي: ما رأيت أحدا يَتَّهِم ابن إسحاق، قال: وقال لي إبراهيم بن المنذر: ثنا عمر بن عثمان أن الزهري كان يتلقف المغازي من ابن إسحاق فيما يحدثه عن عاصم بن عمر بن قتادة، والذي يُذكَر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يَتبَيَّنُ، وكان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع من رأينا لمالك، أخرج إليّ كتب ابن إسحاق عن أبيه في المغازي وغيرها، فانتخبت منها كثيرًا، قال: وقال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن بن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثا في زمانه، قال: ولو صح عن مالك تناوله من ابن إسحاق، فلربما تكلم الإنسان، فيرمي صاحبه بشيء، ولا يتهمه في الأمور كلها، قال: وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في

(1)"سير أعلام النبلاء" 7/ 49 - 50.

ص: 453

"الموطإ"، وهما ممن يحتج بهما، قال: ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تَسقُط عدالتهم إلا ببرهان وحجة، قال: وقال عبيد بن يعيش: ثنا يونس بن بكير، سمعت شعبة يقول: ابن إسحاق أمير المؤمنين لحفظه، قال: وقال لي علي بن عبد الله: نظرت في كتب ابن إسحاق، فما وجدت عليه إلا في حديثين، ويمكن أن يكونا صحيحين، قال: وقال لي بعض أهل المدينة: إن الذي يُذكَر عن هشام بن عروة قال: كيف يدخل ابن إسحاق على امرأتي، لو صح عن هشام جائز أن تكتب إليه، فإن أهل المدينة يَرَون الكتاب جائزًا، وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب، إلى هنا عن البخاري. وقال البخاري أيضًا: محمد بن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها. وقال إبراهيم الحربي: حدثني مصعب قال: كانوا يطعنون عليه بشيء من غير جنس الحديث. وقال أبو زرعة الدمشقي: وابن إسحاق رجلٌ قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقًا وخيرًا مَع مِدْحَة ابن شهاب له، وقد ذاكرت دُحيما قولَ مالك فيه، فرأى أن ذلك ليس للحديث، إنما هو لأنه اتّهمه بالقدر. وقال الزبيري عن الدراوردي: وجُلِد ابن إسحاق -يعني في القدر-. وقال الجوزجاني: الناس يشتهون حديثه، وكان يُرمَى بغير نوع من البدع. وقال موسى بن هارون: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير يقول: كان محمد بن إسحاق يُرمَى بالقدر، وكان أبعد الناس منه. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن نمير يقول: إذا حدث عن من سمع منه من المعروفين، فهو حسن الحديث صدوق، وإنما أُتِي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة. قال يعقوب: وسألت ابن المديني كيف حديث ابن إسحاق عندك؟ فقال: صحيح، قلت له: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه، ثم قال عليّ: أَيَّ شيء حدث بالمدينة، قلت له: وهشام بن عروة قد تكلم فيه، قال عليّ: الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها، قال: وسمعت عليا يقول: إن حديث ابن إسحاق لَيَتبَيَّنُ فيه الصدق،

ص: 454

يروي مرة حدثني أبو الزناد، ومرة ذكر أبو الزناد، وهو من أروى الناس عن سالم أبي النضر، ورَوَى عن رجل عنه، وهو من أروى الناس عن عمرو بن شعيب، وروى عن رجل عن أيوب عنه. وقال يعقوب بن سفيان: قال علي: لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نَعَس أحدكم يوم الجمعة"، والزهري عن عروة عن زيد بن خالد:"إذا مسّ أحدكم فرجه"، والباقي يعني المناكير في حديثه يقول: ذَكَرَ فلان، ولكن هذا فيه حَدَّثنا، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت عليا عنه، فقال: صالح وسط. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال العجلي: مدني ثقة. وقال ابن يونس: قدم الإسكندرية سنة (199) ورَوَى عن جماعة من أهل مصر أحاديث لم يروها عنهم غيره فيما علمت. وقال ابن عيينة: سمعت شعبة يقول: محمد ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث، وفي رواية عن شعبة فقيل له: لِمَ؟ قال: لحفظه. وفي رواية عنه: لو سُوِّد أحدٌ في الحديث لسُوِّد محمد بن إسحاق. وقال ابن سعد: كان ثقة، ومن الناس من يتكلم فيه، وكان خرج من المدينة قديما، فأتى الكوفة، والجزيرة، والري، وبغداد، فأقام بها حتى مات بها سنة (51)، وقال في موضع آخر: ورواته من أهل البلدان أكثر من رواته من أهل المدينة، لم يرو عنه منهم غير إبراهيم بن سعد. وقال ابن عدي: ولمحمد بن إسحاق حديث كثير، وقد رَوَى عنه أئمة الناس، ولو لم يكن له من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكُتُب لا يحصل منها شيء إلى الاشتغال بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبعثه، ومبدأ الخلق لكانت هذه فضيلةً سَبَق إليها، وقد صنفها بعده قوم، فلم يبلغوا مبلغه، وقد فَتَّشْتُ أحاديثَهُ الكثير فلم أجد فيها ما يتهيأُ أن يُقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم في الشيء بعد الشيء كما يخطىء غيره، وهو لا بأس به. وذكره النسائي في الطبقة الخامسة من أصحاب الزهري. وقال ابن المديني: ثقة لم يضعه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب.

قال الحافظ: وكذبه سليمان التيمي، ويحيى القطان، ووهيب بن خالد، فأما وهيب والقطان فقلدا فيه هشام بن عروة ومالكا، وأما سليمان التيمي فلم يتبين لي لأي

ص: 455

شيء تكلم فيه، والظاهر أنه لأمر غير الحديث؛ لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل.

قال ابن حبان في "الثقات" تكلم فيه رجلان: هشام ومالك، فأما قول هشام فليس مما يجرح به الإنسان، وذلك أن التابعين سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها، وكذلك ابن إسحاق كان سمع من فاطمة، والستر بينهما مُسْبَل، وأما مالك فإن ذلك كان منه مرة واحدة، ثم عادله إلى ما يُحبّ، ولم يكن يقدح فيه من أجل الحديث، إنما كان ينكر تتبعه غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا، وحفظوا قصة خيبر وغيرها، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا منهم من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن. ولما سئل ابن المبارك قال: إنا وجدناه صدوقا ثلاث مرات. قال ابن حبان: ولم يكُن أحدٌ بالمدينة يقارب ابن إسحاق في علمه، ولا يوازيه في جمعه، وهو من أحسن الناس سياقا للأخبار إلى أن قال: وكان يكتب عمن فوقه ومثله ودونه، فلو كان ممن يستحل الكذب لم يحتج إلى النزول، فهذا يدلك على صدقه، سمعت محمد ابن نصر الفراء يقول: سمعت يحيى بن يحيى، وذُكِرَ عنده محمد بن إسحاق فوثقه. وقال الدارقطني: اختلف الأئمة فيه، وليس بحجة إنما يُعتَبر به. وقال أبو يعلى الخليلي: محمد ابن إسحاق عالم كبير، وإنما لم يخرجه البخاري من أجل روايته المطولات، وقد استشهد به، وأكثر عنه فيما يَحكِي في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحواله وفي التواريخ، وهو عالم واسع الرواية والعلم ثقة. وقال ابن الْبَرْقِيّ: لم أر أهل الحديث يختلفون في ثقته وحسن حديثه وروايته، وفي حديثه عن نافع بعض الشيء. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال الحاكم: قال محمد بن يحيى: هو حسن الحديث، عنده غرائب. ورَوَى عن الزهري، فأحسن الرواية. قال الحاكم: وذُكِر عن البوشنجي أنه قال: هو عندنا ثقة ثقة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الوسط في ابن إسحاق، هو ما قاله الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى في "الميزان" -بعد ما ساق أقوال المعدّلين والجارحين له-:

ص: 456

فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوقٌ، وما انفرد به ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئًا، وقد احتجّ به أئمة، فالله تعالى أعلم انتهى (1).

قال الجامع: ويزاد على قوله: "حسن الحديث": "إن صرّح بالتحديث؛ لكونه مدلّسًا"، والله تعالى أعلم.

قال عمرو بن علي: مات سنة خمسين. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة إحدى.

وقال ابن معين وابن المديني: مات سنة اثنتين. وقال خليفه بن خياط: مات سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة.

روى له مسلم سبعة أحاديث في المتابعات (2) وعلق له البخاري، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب (80) حديثًا.

4 -

(مَعبَد بن كعب) بن مالك الأنصاري السلمي المدني، كان أصغر الإخوة، السَّلَميّ، صدوق (3)[3].

رَوَى عن أبي قتادة، وجابر، وعن أخويه عبد الله وعبيد الله، ورَوَى عنه وهب بن كيسان، ومحمد بن عمرو بن حلحلة، والعلاء بن عبد الرحمن، والوليد بن كثير، وابن إسحاق، وأسامة بن زيد الليثي، وعيسى بن معاوية، وعُقَيل بن خالد. ذكره بن حبان في "الثقات"، أخرج له البخاري حديثا واحدًا (4) ومسلم (5)، وأبو داود في "الناسخ

(1)"ميزان الاعتدال" 3/ 475.

(2)

وذكر "ميزان الاعتدال" 3/ 475 أنها خمسة أحاديث، وما هنا من برنامج الحديث "صخر" وهي برقم 480 و830 و873 و1173 و1199 و1656 و1703.

ترقيم محمد عبد الباقي.

(3)

وما قاله في "ت" من أنه "مقبول" ففيه نظر لا يخفى؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان وله في البخاريّ حديث واحد، وأخرج له مسلم، فالأولى أنه صدوق. والله تعالى أعلم.

(4)

هو حديث رقم 6512: "مستريح ومستراح منه

" الحديث، وأعاده بعده رقم 6513.

(5)

له عنه ثلاثة أحاديث برقم 137 و950 و1607.

ص: 457

والمنسوخ"، والنسائي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط: هذا، وحديث رقم (2200) "إياكم وكثرة الحلف

" الحديث.

5 -

(أبو قتادة) الأنصاري السَّلَمِيّ فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه الحارث بن رِبْعيّ -بكسر الراء، وسكون الموحّدة، بعدها عين مهملة-، وقيل: النعمان، وقيل: عمرو، وقيل: عون، وقيل، مراوح، والمشهور الحارث بن ربعي بن بُلْدُمَة -بضم الموحّدة والمهملة، بينهما لام ساكنة-ابن خُناس -بضم المعجمة، وتخفيف النون، وآخره مهملة- ابن سنان بن عُبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سَلَمَة السَّلَمي -بفتحتين- المدني. وأمه كبشة بنت مُطَهَّر بن حرام بن سَوَاد بن غَنْم.

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن معاذ بن جبل، وعمر بن الخطاب، وعنه ولداه ثابت وعبد الله، ومولاه أبو محمد نافع بن عباس بن الأقرع، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن رباح الأنصاري، ومعبد بن كعب بن مالك، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن سليم الزرقي، وآخرون. قال ابن سعد شهد أُحُدًا وما بعدها. وقال الحاكم أبو أحمد يقال: كان بدريا ولا يصح. وأخرج مسلم في "صحيحه" عن إياس بن سلمة عن أبيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة ابن الأكوع". وأخرج مسلم أيضًا عن أبي قتادة في قصة طويلة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ مال عن راحلته، قال: فدعمته، فاستقيظ

فذكر الحديث، وفيه:"حفِظَك الله كما حفِظت نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم". وقال أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة. وقال الواقدي: توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، ويقال: ابن سبعين، ولم أَرَ بين علمائنا اختلافا في ذاك، قال: وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة، وعلي بها، وصلى عليه. وحكى خليفة أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين، وهو شاذّ، والأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين. ومما يؤيد ذلك أن البخاري ذكره في "الأوسط" في "فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين"، ثم

ص: 458

روى بإسناده أن مروان بن الحكم لما كان واليا على المدينة من قِبَل معاوية أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانطلق معه فأراه. وقال ابن عبد البر: رُوي من وجوه عن موسى بن عبد الله والشعبي أنهما قالا: صلى عليٌّ على أبي قتادة، وكبر عليه سبعًا، قال الشعبي: وكان بدريا، ورجح هذا ابن القطان، ولكن قال البيهقي: رواية موسى والشعبي غلط؛ لإجماع أهل التاريخ على أن أبا قتادة بقي إلى بعد الخمسين. قال الحافظ: ولأن أحدا لم يوافق الشعبي على أنه شهد بدرًا، والظاهر أن الغلط فيه ممن دون الشعبي. والله تعالى أعلم. انتهى (1).

والحاصل أن الأصحّ في وقت وفاته ما قاله الواقديّ.

أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (170) حديثًا، اتفقا على على (11) وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بثمانية، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، فإن ابن إسحاق علّق له البخاريّ، واستشهد به مسلم، كما سبق بيانه في ترجمته.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، ويحيى، فكوفيّان. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الحارث بن ربعيّ الأنصاريّ الصحابي رضي الله عنه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: -عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ-) يريد منبر المدينة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة (إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحدِيثِ عَنِّي) أي باعدوا أنفسكم عن كثرة

(1) راجع "الإصابة" 7/ 272 - 274. و"تهذيب التهذيب" 4/ 574.

ص: 459

الحديث عنّي، وهذا التركيب هو الذي يُسمّى في علم النحو بـ "التحذير"، وهو تنبيه المخاطب على أمر يجب الاحتراز منه، نحو:"إياك والشرّ"، وهو منصوب بفعل محذوف وجوبًا، فقيل: التقدير: اتّقوا أنفسكم وكثرة الحديث، وقيل: باعدوا أنفسكم من كثرة الحديث، وكثرة الحديث منكم، وقيل: احذروا تلاقي أنفسكم وكثرة الحديث.

وإلى هذا أشار ابن مالك في "خلاصته" حيث قال:

إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ

مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ

وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ وَمَا

سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا

إِلَّا مَعَ الْعَطْفِ أَوِ التَّكرَارِ

كَالضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي

وَكَمُحَذَّرٍ بِلَا إِيَّا اجْعَلَا

مُغْرًى بِهِ في كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا

وراجع تفاصيل المسألة في شروح "الخلاصة"، وحواشيها في "باب التحذير والإغراء". والله تعالى أعلم.

(فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ) أي أراد نسبة القول إليّ (فَلْيَقُلْ حَقًّا أَوْ صِدْقًا)"أو" للشكّ من الراوي (وَمَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ) أي افترى عليّ، ونسب إليّ ما لم أقله (فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ") أي هذا جزاؤه، وقد تقدّم أنه يحتمل أن يكون إخبارًا، وأن يكون دعاء عليه، وفي كلا الحالتين وعيد شديد؛ لأن إخباره صلى الله عليه وسلم واقع حقّا وصدقًا، ودعاءه لمن يستحقّ مستجاب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلّسٌ، كما سبق في ترجمته؟.

[قلت]: ثبت تصريحه عند الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، ونصّه:

ص: 460

حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد -يعني ابن إسحاق- حدثني ابن لكعب بن مالك، عن أبي قتادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: "يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث عني، من قال عليّ، فلا يقولنّ إلا حقا أو صدقا، فمن قال عليّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار". فبهذا زال ما يُخشَى من تهمة التدليس، ولله الحمد.

فتبيّن بهذا أن قول الحافظ البوصيريّ رحمه الله تعالى في "الزوائد": وهذا إسناد ضعيف؛ لتدليس ابن إسحاق، غير صحيح؛ لتصريحه بالتحديث المذكور آنفًا، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (4/ 35) بالسند المذكور، وهو من أفراد المصنّف لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (أحمد)(5/ 297 و310) و (الدارميّ) رقم (243) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" رقم (413 و414) والله تعالى وليّ التوفيق، وله الحمد والنعمة، ومنه الفضل والعصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

36 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، أَبِي صَخْرَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: مَا ليَ لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كَمَا أَسْمَعُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَفُلَانًا وَفُلَانًا؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَؤَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ")

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بن عثمان العبديّ، أبو بكر بُندار البصرىّ، ثقة حافظٌ [10] 1/ 6.

3 -

(غندر محمد بن جعفر) الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة صحيح

ص: 461

الكتاب [9] 1/ 6.

4 -

(شعبة) بن الحجّاج الإمام الحجة المشهور، أبو بسطام البصريّ [7] 1/ 6.

5 -

(جامع بن شدّاد أبو صخرة) الكوفيّ، ثقة [5].

رَوَى عن صفوان بن محُرِز وطارق بن عبد الله المحاربي، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي بردة بن أبي موسى، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وجماعة.

ورَوَى عنه الأعمش، ومسعر، وشعبة، والثوري، والمسعودي، وأبو العميس، وغيرهم.

قال البخاري عن علي: له نحو عشرين حديثًا. وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة متقن. وقال العجلي: شيخ عالٍ ثقةٌ، من قدماء شيوخ الثوري. وقال، أبو نعيم: مات سنة 18، وقال ابن سعد: مات سنة 128، وقال في موضع آخر: سنة 27.

وفي كتاب "الطبقات" لابن سعد: أخبرنا طلق بن غنام: سمعت قيس بن الربيع يقول: مات جامع بن شداد ليلة الجمعة لليلة بقيت من رمضان سنة 118 وكذا ذكر ابن حبان في "الثقات" وفاته، ثم قال: وقيل: سنة 27. وفيها أرخه خليفة بن خياط. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (6) أحاديث برقم 36 و452 و 1575 و 2660 و3021 و4212.

6 -

(عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، أبو الحارث المدنيّ، وأمه حَنْتَمَةُ بنت عبد الرحمن بن هشام، ثقة عابدٌ [4].

رَوَى عن أبيه، وخاله أبي بكر بن عبد الرحمن، وأنس، وعمرو بن سُلَيم الزُّرَقيّ، وعوف بن الحارث رضيع عائشة، وصالح بن خَوّات بن جبير.

ورَوَى عنه أخوه عمر، وابن أخيه مصعب بن ثابت، وابن ابن عمه عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، وغيرهم.

ص: 462

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة من أوثق الناس. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح، وقال ابن سعد: كان عابدا فاضلًا، وكان ثقة مأمونًا، وله أحاديث يسيرة. وقال الخليلي: أحاديثه كلها يُحتَجّ بها. وقال العجلي: مدني تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات": وقال: كان عالمًا فاضلًا، مات سنة (121). وقال الواقدي: مات قبل هشام أو بعده بقليل، قال: ومات هشام، سنة أربع وعشرين ومائة. والصحيح أنه مات سنة (5).

أخرج له الجماعة، وله عند الترمذيّ حديث واحد في الأمر بتحية المسجد، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط، برقم 36 و1003 و4182 و4233.

7 -

(أبوه) عبد الله بن الزبير بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خُبيب، أول مولود في الإسلام بالمدينة للمهاجرين، ولي الخلافة تسع سنين، وقتل في ذي الحجة سنة (73) تقدّم في 2/ 15.

8 -

(الزبير بن العوّام) بن خُويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قُصيّ بن كلاب، أبو عبد الله القرشيّ الأسديّ، أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، قُتل سنة (36) بعد منصرفه من وقعة الجمل، تقدّم في 2/ 15. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

3 -

(ومنها): أن شيخه محمد بن بشار أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابي، وروية الابن عن أبيه، عن جدّه.

5 -

(ومنها): أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأول مولود للمهاجرين بعد الهجرة، وقد فرح المسلمون بولادته، حيث إن المنافقين كانوا

ص: 463

يزعمون أنه لا يولد لهم؛ لأن اليهود سحرتهم، فأبطل الله عز وجل ذلك الزعم الباطل بسببه.

6 -

(ومنها): أن الزبير رضي الله عنه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض، وحواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ ابْنِ الْعَوَّامِ) رضي الله عنه (مَا لِيَ)"ما" استفهاميّة: أي أيُّ شيء ثبت (لَا) نافية (أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم) جملة "تُحدّث" في محلّ نصب على الحال من المفعول (كَمَا أَسْمَعُ ابْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (وَفُلَانًا وَفُلَانًا؟) لم يُعرف اسمهما (قَالَ) أي الزبير رضي الله عنه (أَمَا) بتخفيف الميم: أداة استفتاح وتنبيه، بمنزلة "ألا"(إنِّي) بكسر الهمزة، لوقوعها بعد أداة الاستفتاح (لَمْ أُفَارِقهُ) أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم (مُنْذُ أَسْلَمْتُ) أراد به أغلب الأوقات، وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حال هجرته إلى المدينة، وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال؛ لأن لازم الملازمة السماعُ، ولازمه عادةً التحديثُ، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذي ذكره، ولهذا أتى بقوله:"لكن"، وقد أخرجه الزبير بن بَكّار في "كتاب النسب" من وجه آخر عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال:"عناني ذلك" يعني قلة رواية الزبير، "فسألته" أي عن ذلك، "فقال يا بُنَيّ كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمتَ، وعمته أمي، وزوجته خديجة عمتي، وأمه آمنة بنت وهب، وجدتي هالة بنت وهب ابني وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعندي أمك، وأختمها عائشة عنده، ولكني سمعته يقول

".

(وَلَكِنِّي) قال العينيّ رحمه الله تعالى: فإن قلت: شرط "لكن" أن تتوسّط بين كلامين متغايرين، فما هما هنا؟. قلت: لازم عدم المفارقة السماع، ولازم السماع التحديث عادةً، ولازم التحديث الذي ذكره في الجواب عدم التحديث، فبين الكلامين

ص: 464

منافاة فضلًا عن المغايرة. انتهى (1)(سَمِعْتُ مِنْهُ كلِمَةً يَقُولُ) إنما عدل عن "قال"، وإن كان هو المناسب لـ"سمعت" حتّى يتوافقا مضيّا استحضارًا لصورة القول للحاضرين والحكاية عنها كأنه يُريهم أنه قال به الآن. (2)(مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا) هكذا في رواية المصنّف بزيادة "متعمّدًا"، وكذا للإسماعيلي من طريق معاذ، عن شعبة، ووقع في رواية البخاري بدونه، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة وكذا في رواية الزبير بن بكار المذكورة، قال الحافظ: والاختلاف فيه على شعبة، وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى، عن عبد الله بن الزبير بلفظ:"من حدث عني كذبا"، ولم يذكر العمد.

وفي تمسك الزبير رضي الله عنه بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدا أم خطأً، والمخطيء وإن كان غير مأثوم بالإجماع، لكن الزبير خَشِي من الإكثار أن يقع في الخطإ، وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطإ لكن قد يأثم بالإكثار؛ إذ الإكثار مظنة الخطإ، والثقة إذا حدث بالخطإ، فحمل عنه، وهو لا يشعر أنه خطأ يُعمَل به على الدوام؛ للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقُله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطإ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثَمِّ توقف الزبير وغيره من الصحابة رضي الله عنهم عن الإكثار من التحديث، وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبيت، أو طالت أعمارهم، فاحتيج إلى ما عندهم، فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان رضي الله عنهم. قاله في "الفتح"(3).

(فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي فليتخذ لنفسه منزلًا، يقال: تبوأ الرجل المكانَ: إذا اتخذه سَكَنًا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضًا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء

(1)"عمدة القاري" 2/ 113.

(2)

راجع "عمدة القاري" 2/ 113.

(3)

"الفتح" 1/ 265 - 266.

ص: 465

على فاعل ذلك: أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى: مَن كَذَب فليأمر نفسه بالتبوء، ويلزم عليه، كذا قال، وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ:"بُنِي له بيت في النار".

قال الطيبي فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد، فليقصد بجزائه التبوء. انتهى (1). والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث الزبير بن العوّام رضي الله عنه هذا أخرجه البخاريّ.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف رحمه الله هنا (4/ 36) بالسند المذكور، و (البخاريّ)(1/ 38) و (أبو داود) رقم (3651) و (النسائيّ) في "الكبرى""العلم"(3/ 457) رقم (5912) و (أحمد) في "مسنده"(1/ 165 و166) من هذا الوجه. وأخرجه (الدارميّ) في "سننه" رقم (239) من طريق عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير. وأخرجه (ابن حبّان) في "صحيحه" رقم (6982) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير عنه. وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، والله تعالى وليّ التوفيق، وله الحمد والنعمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

37 -

حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتبَوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ").

(1) المصدر السابق.

ص: 466

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سهل الهرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ -بفتح المهملة، والمثلّثة- ويقال له الأنباريّ، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِي فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، وأفحش فيه القول ابنُ معين، من قدماء [10] تقدّم أول الباب برقم 30.

2 -

(عِليُّ بْنُ مُسْهِرٍ) -بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ الحافظ، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد ما أضرّ [8] 52/ 66.

رَوَى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وموسى الجهني، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو بكر، وعثمان ابنا أبي شيبة، وخالد بن مخلد، وإسماعيل بن الخليل، وبشر بن آدم، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح الحديث، أثبت من أبي معاوية. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: هو أحب إليك أو أبو خالد الأحمر؟ فقال: ابن مسهر، فقلت ابن مسهر أو إسحاق بن الأزرق؟ قال: ابن مسهر، قلت: ابن مسهر أو يحيى بن أبي زائدة؟ فقال: كلاهما ثقة. وقال يحيى بن معين: قال: ابن نمير: كان قد دَفَن كتبه، قال يحيى: وهو أثبت من ابن نمير. وقال العجلي: قرشي من أنفسهم، كان ممن جَمَع الحديث والفقه ثقة. وقال أبو زرعة: صدوق ثقة. وقال النسائي: ثقة.

وقال العجلي أيضا: صاحب سنة، ثقة في الحديث ثبت فيه، صالح الكتاب، كثير الرواية عن الكوفيين. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. وقال العُقيليّ: قال أبو عبد الله -يعني أحمد-: لما سئل عنه، لا أدري كيف أقول؟ قال: كان قد ذهب بصره فكان يحدثهم من حفظه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وثمانين ومائة. وعن يحيى بن معين: أنه وَلِيَ قضاءَ أرمينية، فاشتكى عينه، فَدَسَّ القاضي الذي كان بأرمينية إليه طبيبا فكحله، فذهبت عينه، فرجع إلى الكوفة أعمى. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (45) حديثًا.

3 -

(مطرف) -بضمّ أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء المكسورة- ابن طَرِيف الحارثيّ،

ص: 467

ويقال: الخارفيّ، أبو بكر، يقال: أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة فاضلٌ، من صغار [6].

رَوَى عن الشعبي، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وحبيب بن أبي ثابت، وسليمان بن الجهم، وسلمة بن كهيل، وعطية العوفي، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو عوانة، وهشيم، وأبو جعفر الرازي، وعليّ مسهر، وغيرهم.

قال أحمد وأبو حاتم: ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: قلت لأحمد: أصحابُ الشعبي مَنْ أحبهم إليك؟ قال: ليس عندي فيهم مثل إسماعيل بن أبي خالد، قلت: ثُمّ مَنْ؟ قال: مطرف، وقال في موضع آخر: الشيبانيُّ، ومطرف، وحصين، هؤلاء ثقات. وقال مرة عن أبي داود: بَيَانٌ فوق مُطَرِّف، ومطرف ثقة، وابن أبي السَّفَر دونه، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الشافعي قال: ما كان ابن عيينة بأحد أشد إعجابا منه بمطرف. وقال علي ابن المديني: حدثنا سفيان، حدثنا مُطَرِّف، وكان ثقة. وقال محمد بن عمرو الباهلي عن ابن عيينة قال مطرف: ما يُسرُّني أني كذبت كذبةً، وأن لي الدنيا وما فيها. وقال داود بن عُلْبَة ما أعرف عربيا ولا عجميا أفضل من مُطَرِّف بن طَرِيف. وقال العجليّ: صالح الكتاب، ثقة ثبت في الحديث، ما يُذكر عنه إلا الخير في المذهب. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة صدوق، وليس بثبت. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت.

قال ابن حبان: مات سنة ثلاث وثلاثين، وقد قيل: سنة اثنتين وأربعين. وقال البخاري: قال عبد الله بن الأسود، عن أبي عبد الله البَجَليّ: مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. وقال عمرو بن علي: مات سنة ثلاث وأربعين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 37 و1693 و2559 و2648.

4 -

(عطية) بن سَعْد بفتح، فسكون -ابن جُنّادة -بضمّ الجيم، بعدها نون خفيفة -الْعَوْفيّ الْجَدَليّ -بفتح الجيم والمهملة- الْقَيسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء كثيرًا، كان شيعيّا مُدلّسًا [3].

رَوَى عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن أرقم،

ص: 468

وعكرمة، وعدي بن ثابت، وعبد الرحمن بن جندب، وغيرهم. ورَوَى عنه ابناه: الحسن وعمر، والأعمش، والحجاج بن أرطاة، ومطرف بن طريف، وغيرهم.

قال البخاري: قال لي علي عن يحيى: عطية، وأبو هارون، وبشر بن حرب عندي سواءٌ، وكان هشيم يتكلم فيه. وقال مسلم بن الحجاج: قال أحمد -وذكر عطية العوفي- فقال: هو ضعيف الحديث، ثم قال: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبيّ، ويسأله عن التفسير، وكان يَكْنِيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبو سعيد، وكان هشيم يضعف حديث عطية، قال أحمد: وحدثنا أبو أحمد الزبيري، سمعت الكلبيّ يقول: كناني عطية أبا سعيد. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: صالح. وقال أبو زرعة: لَيِّن. وقال أبو حاتم: ضعيف يُكتب حديثه، وأبو نضرة أحب إِلَيّ منه. وقال الجوزجاني: مائل. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عديّ: قد رَوَى عن جماعة من الثقات، ولعطية عن أبي سعيد أحاديث عِدَّة، وعن غير أبي سعيد، وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وكان يُعَدّ مع شيعة أهل الكوفة.

وقال ابن حبان في "الضعفاء": بعد أن حكى قصته مع الكلبيّ بلفظ مُستغرب، فقال: سمع من أبي سعيد أحاديث، فلما مات جعل يُجالس الكلبيّ، ويَحضُر قِصَصَه، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، ويروي عنه، فإذا قيل له: مَنْ حدّثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبيّ، قال: لا يَحِلّ كَتْبُ حديثه إلا على التعجب، ثم أسند إلى أبي خالد الأحمر قال: قال لي الكلبيّ: قال لي عطية: كَنَيتك بأبي سعيد، فأنا أقول: حدثنا أبو سعيد.

وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا فضيل، عن عطية قال: لمّا وُلدت أَتَى بي أبي عليا ففرض لي في مائة. وقال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث، فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يَعْرِضَه على سبّ عليّ، فإن لم يَفعل فاضربه أربعمائة سوط، واحلِقْ لحيته، فاستدعاه فأبى أن يسبّ، فأمضى حكم الحجاج فيه، ثم خرج إلى خراسان، فلم يزل بها حتى ولي عُمر بن هُبَيرة العراق، فقَدِمها، فلم يزل بها إلى أن توفي

ص: 469

سنة (11) وكان ثقة -إن شاء الله- وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به. وقال أبو داود: ليس بالذي يُعتمد عليه. قال أبو بكر البزار: كان يَغلُو في التشيع، رَوَى عنه جِلَّة الناس. وقال الساجي: ليس بحجة، وكان يُقَدِّم عليا على الكل.

قال محمد بن عبد الله الحضرميّ: تُوفي سنة إحدى عشرة ومائة. وقيل: مات سنة (27) ذكره ابن قانع والقراب. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخص مما سبق أن عطيّة الْعَوفيّ ضعيف، وأما توثيق ابن سعد له مخالفًا للجمهور فمما لا يُلتفت إليه. والله تعالى أعلم.

5 -

(أبو سعيد) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد بن ثَعْلَبة بن عُبيد بن الأبجر -وهو خُدْرَة- ابن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، أبو سعيد الخدري، مشهورٌ بكنيته، استُصغِر يوم أحد، واستُشهد أبوه بها، وغزا هو بعد ذلك اثتتي عشرة غزوة، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير، وعن أبيه، وأخيه لأمه قتادة بن النعمان، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي قتادة الأنصاري، وعبد الله بن سلام، وأُسيد بن حُضير، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، ومعاوية، وجابر بن عبد الله. ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، وزوجته زينب بنت كعب بن عجرة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وزيد بن ثابت، وأبو أمامة بن سهل، ومحمود بن لبيد، وابن المسيب، وطارق بن شهاب، وأبو الطفيل، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وعطاء بن يزيد، وخلق كثير.

قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفقه من أبي سعيد. وقال الخطيب: كان من أفاضل الصحابة، وحفظ حديثا كثيرًا. ورَوَى الهيثم بن كُليب في "مسنده" من طريق عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبو ذر، وعبادة بن الصامت، ومحمد بن مسلمة، وأبو سعيد الخدري، وسادس على ألا تأخذنا في الله لومة لائم، فاستقال

ص: 470

السادس فأقاله (1).

قال الواقدي وابن نمير وابن بكير: مات سنة (74). وقيل: مات سنة (64) وهو ابن (74) سنة، وفيه نظر. وقال أبو الحسن المدائني: مات سنة (63). وقال العسكري: مات سنة (65) أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (1170) حديثًا، اتفقا على (43) وانفرد البخاريّ بـ (26) ومسلم بـ (52) حديثًا، وله في هذا الكتاب (158) حديثًا. والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما شرح الحديث، فقد تقدّم قريبًا، وهو بهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف عطيّة الْعَوْفيّ، كما سبق في ترجمته، لكن متن الحديث صحيح، بل متواتر كما سبق بيان ذلك. وقال الحافظ أبو بكر البوصيريّ رحمه الله تعالى: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف عطيّة، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" عن أسباط بن محمد، عن مطرف. انتهى. والله تعالى وليّ التوفيق، وله الحمد والنعمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

(1) في سنده عبد المهيمن ضعيف.

ص: 471