المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - (باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا وهو يرى أنه كذب) - مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه - جـ ١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌5 - (باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا وهو يرى أنه كذب)

‌5 - (باب من حدَّث عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا وهو يرى أنه كَذِب)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "حَدَّث" بالبناء للفاعل. وقوله: "يُرى" ضُبط بوجهين:

(أحدهما): بفتح أوله وثالثه، ومعناه يعتقد. (والثاني): بضم أوله، وفتح ثالثه، ومعناه يَظُنّ مبنيّا للفاعل، وسيأتي تمام البحث فيه في شرح الحديث، إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

38 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عِلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلي رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى أنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو عبد الله بن محمد المذكور قبل حديث في الباب الماضي.

2 -

(عِليُّ بْنُ هَاشِمٍ) بن البريد -بفتح الموحّدة، وكسر الراء، بعدها تحتانيّة ساكنة- الْبَرِيديّ العائذيّ مولاهم، أبو الحسن الكوفيّ الخزاز، صدوقٌ يتشيّع، من صغار [8].

رَوَى عن هشام بن عروة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي، والأعمش، وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، ويزيد بن كيسان، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو معاوية، وإسماعيل بن إبراهيم القَطِيعي، وأحمد بن منيع، وسعيد بن سليمان الواسطيّ، وآخرون.

قال حنبل عن أحمد: ليس به بأس. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما أرى به بأسًا. وقال ابن أبي خيثمة وغير واحد عن ابن معين: ثقة. وقال أبو الحسن بن البراء عن ابن المديني: كان صدوقًا، زاد الباغندي عن ابن المديني: وكان يتشيع، وقال غيره

ص: 472

عن علي: ثقة، وكذا قال يعقوب بن شيبة. وقال الجوزجاني: كان هو وأبوه غاليين في مذهبهما. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: كان يتشيع، ويُكتَب حديثه. وقال الآجري عن أبي داود: سئل عنه عيسى بن يونس، فقال: أهل بيت تشيع، وليس ثَمَّ كَذِب. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، ثم ذكره في "الضعفاء"، وقال: كان غاليا في التشيع، ورَوَى المناكير عن المشاهير. وقال ابن سعد: كان صالح الحديث صدوقًا. وقال ابن عديّ: حدّث عنه جماعة من الأئمة، ويَروِي في فضائل عليّ رضي الله عنه أشياء لا يرويها غيره، وهو -إن شاء الله- صدوق لا بأس به. ووثقه العجلي، وضعفه الدارقطني.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سمعت منه سنة تسع وسبعين ومائة أولَ سنةِ طلبتُ الحديثَ مجلسًا، ثم عدت إليه المجلس الآخر، وقد مات. وقال ابن المثنى: مات سنة (180)، وقال محمد بن عبد الله الحضرميّ، ويعقوب بن شيبة: سنة (181).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم قال اللالكائي: له عنده حديثان، والأربعة، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث برقم 38 و1342 و3737.

3 -

(ابن أبي ليلى) هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ الفقيه قاضي الكوفة، صدوقٌ سيّء الحفظ جدًّا [7].

رَوَى عن أخيه عيسى، وابن أخيه عبد الله بن عيسى، ونافع مولى ابن عمر، وأبي الزبير المكي، وعطاء بن أبي رباح، وعطيّة، وعمرو بن مرة، وغيرهم. ورَوَى عنه ابنه عمران، وقريبه عيسى بن المختار بن عبد الله بن عيسى، وزائدة، وابن جريج، وقيس ابن الربيع، وشعبة، والثوري، وأبو الأحوص، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان سيء الحفظ، مضطرب الحديث، كان فقهُ ابن أبي ليلى أحب إلينا من حديثه.

وقال مَرَّةً: ابنُ أبي ليلى ضعيف، وفي عطاء أكثر خطأ. وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة: ما رأيت أحدا أسوأ حفظا من ابن أبي ليلى. وقال روح عن شعبة: أفادني ابن أبي

ص: 473

ليلى أحاديث، فإذا هي مقلوبة. وقال الجوزجاني عن أحمد بن يونس: كان زائدة لا يحدث عنه، وكان قد ترك حديثه. وقال أبو حاتم عن أحمد بن يونس: ذكره زائدة، فقال: كان أفقه أهل الدنيا. وقال العجلي: كان فقيها صاحب سنة صدوقًا جائز الحديث، وكان عالما بالقرآن، وكان من أحسب الناس، وكان جَمِيلًا نَبِيلًا، وأول من استقضاه على الكوفة يوسف بن عمر الثقفي. وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال أبو زرعة: ليس بِأَقوَى ما يكون. وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيء الحفظ، شُغِل بالقضاء، فساء حفظه، لا يُتَّهَم بشيء من الكذب، إنما يُنكَر عليه كثرة الخطإ، يُكتب حديثه ولا يحتج به، وهو والحجاج بن أرطاة ما أقربهما. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان فاحش الخطإ، ردىء الحفظ، فكثرت المناكير في روايته، تركه أحمد ويحيى. وقال الدارقطني: كان رديء الحفظ، كثير الوهم. وقال ابن جرير الطبري: لا يحتج به. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة عدل في حديثه بعض المقال، لين الحديث عندهم. وقال صالح بن أحمد عن ابن المديني: كان سيء الحفظ، واهي الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: عامة أحاديثه مقلوبة. وقال الساجي: كان سيء الحفظ، لا يتعمد الكذب، فكان يُمدَح في قضائه، فأما في الحديث فلم يكن حجة، قال: وكان الثوري يقول: فقهاؤنا ابن أبي ليلى، وابن شبرمة. وقال ابن خزيمة: ليس بالحافظ، وإن كان فقيهًا عالمًا.

قال البخاري: مات سنة ثمان وأربعين ومائة.

أخرج له الأربعة، وله ذكر في "كتاب الأحكام" من "صحيح البخاري" قال: أول من سأل على كتاب القاضي البينةَ ابنُ أبي ليلى، وسَوّار. وله في هذا الكتاب (27) حديثًا.

4 -

(الحكم) بن عُتيبة -بالمثنّاة، ثم الموحّدة، مصغّرًا- الكنديّ مولاهم، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عمر الكوفيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، إلا أنه ربّما دلّس [5].

رَوَى عن أبي جحيفة، وزيد بن أرقم، وقيل: لم يسمع منه، وعبد الله بن أبي أوفى هؤلاء صحابة، وشُريح القاضي، وقيس بن أبي حازم، وموسى بن طلحة، ويزيد بن

ص: 474

شريك التيمي، وعائشة بنت سعد، وغيرهم.

ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، ومحمد بن جُحَادة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، وقتادة، وغيرهم من التابعين، وأبان بن صالح، وحجاج بن دينار، وسفيان بن حسين، والأوزاعي، ومسعر، وشعبة، وأبو عوانة، وعدة.

قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير وعبدة بن أبي لبابة: ما بين لابتيها أفقه من الحكم. وقال مجاهد بن رُوميّ: رأيت الحكم في مسجد الخيف، وعلماء الناس عيال عليه. وقال جرير عن مغيرة: كان الحكم إذا قدم المدينة أخلوا له سارية النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليها. وقال عباس الدُّوريّ: كان صاحب عبادة وفضل. وقال ابن عيينة: ما كان بالكوفة بعد إبراهيم والشعبي مثل الحكم وحماد. وقال ابن مهدي: الحكم بن عتيبة ثقة ثبت، ولكن يختلف معنى حديثه. وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أيُّ أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال: الحكم ومنصور، قلت: أيُّهما أحبّ إليك؟ قال ما أقربهما. وقال سعيد بن أبي سعيد الأنماطيّ الرازيّ: سُئل أحمد بن حنبل عن الحكم بن عتيبة، قال: ليس هو بدون عمرو بن مرة وأبي حصين. وقال أحمد أيضا: أثبت الناس في إبراهيم الحكم، ثم منصور. وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة، زاد النسائي: ثبت، وكذا قال العجلي، وزاد: وكان من فقهاء أصحاب إبراهيم، وكان صاحب سنة واتباع، وكان فيه تشيع إلا أن ذلك لم يظهر منه. وقال ابن سعد: كان ثقةً فقيهًا عالمًا رفيعًا كثير الحديث.

وقال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مِقسم، كتاب إلا خمسة أحاديث، وعدها يحيى القطان: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض، رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن علي بن المديني، عن يحيى. وقال البخاري في "التاريخ الكبير": قال القطان: قال شعبة: الحكم عن مجاهد كتاب إلا ما قال: سمعت. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يُدَلِّس، وكان سنه سنَّ إبراهيم النخعي.

ص: 475

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: نظمت الأحاديث الخمسة التي ذكرها القطّان، فقلت:

اعْلَمْ بِأَنَّ حَكَمًا قَدْ سمعَا

عَنْ مِقْسَمِ خَمْسًا فَقَطْ فَاسْتَمِعَا

حَدِيثَ وِتْرٍ وَقُنُوتٍ وَجَزَا

صَيْدٍ وَعَزْمَةَ الطَّلَاقِ أَنْجَزَا

وَرَجُلٌ جَامَعَ زَوْجًا حَائِضَا

ذَكرَهَا الْقَطَّانُ يَحْيَى الْمُرْتَضَى

أَوْرَدَهُ الحافِظُ في التَّهْذِيبِ

نَظْمْتُهُ حِرْصًا عَلَى التَّقْرِيبِ

ذكر ابن منجويه، وابن حبّان أنه وُلد سنة (50)، وقيل: إنه مات سنة (113).

وقال الواقدي: سنة (14). وقال عمرو بن علي وغيره: سنة (15). وأرخه ابن قانع سنة (47).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.

5 -

(عبدُ الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [2] 3/ 25.

6 -

(عليّ) بن أبي طالب الخليفة الراشد رضي الله عنه تقدّم في 2/ 20. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير محمد بن أبي ليلى، فمن رجال الأربعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الستة الشورى، وأول من أسلم من الصبيان، ذو المناقب الجمة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ (حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى) قال النوويّ رحمه الله تعالى: ضبطناه يُرَى بضم الياء. انتهى.

ص: 476

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد أنه مبنيّ للمفعول لفظًا، ولكن معناه معنى المبنيّ للفاعل؛ لأنه بمعنى يَظُنّ مبنيّا للفاعل. قال ابن منظور نقلًا عن "تهذيب الأزهريّ": قال الليث: يقال من الظنّ رِيتُ -بكسر الراء- فلانًا أخاك، ومن همز قال: رُؤِيتُ، فإذا قلت: أرى وأخواتها لم تهمز، قال: ومن قلب الهمز من رأى قال: راء، كقولك: نأى وناء. وقال ابن الأثير رُؤي فعل لم يُسمّ فاعله، من رأيتُ بمعنى ظننت، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: رأيت زيدًا عاقلًا، فإذا بنيته لما لم يُسمّ فاعله تعدّى إلى مفعول واحد، فقلت: رُؤي زيد عاقلًا. انتهى (1).

وهذا الذي ذكرنا من ضبط "يُرَى" بصيغة المبني للمفعول هو المشهور، وذكر بعض الأئمة جواز بفتح الياء من "يَرَى"، قال النووي رحمه الله تعالى: وهو ظاهر حسن، فأما من ضم الياء فمعناه: يَظُنُّ"، وأما من فتحها فظاهر، ومعناه: وهو يعلم، ويجوز أن يكون بمعنى يَظُنّ أيضا، فقد حُكِيَ رَأَى بمعنى ظَنّ.

وقَيّد بذلك؛ لأنه لا يأثم إلا بروايته ما يعلمه، أو يظنه كذبا، أما ما لا يعلمه، ولا يظنه، فلا إثم عليه في روايته، وإن ظنه غيره كذبا، أو عَلِمَهُ. انتهى (2).

وقال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله: "يرى" قيّدناه عن مشايخنا مبنيّا للفاعل والمفعول، فـ "يرى" بالفتح بمعنى يَعْلَم المتعدّيّة لمفعولين، و"أنّ" سَدَّت مسدّهما، وماضي "يرى" رأى مهموزًا، وإنما تركت العرب همز المضارع لكثرة الاستعمال، وقد نطقوا به على الأصل مهموزًا في قولهم:

أَلمْ تَرَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصُرُ

وَمَنْ يَتَمَنَّى الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ

وربّما تركوا همز الماضي في قولهم:

صَاح هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعِ

رَدَّ في الضَّرْعِ مَا قَرَا في الْحِلَابِ

(1)"لسان العرب" 14/ 304.

(2)

"شرح النووي" 1/ 64.

ص: 477

ويحتمل ما في الحديث أن يكون بمعنى الرأي، فيكون ظنّا من قولهم: رأيت كذا، أي ظهر لي، وعليهما يكون المقصود بالذمّ الذي في الحديث: المعتمد للكذب علمًا أو ظنّا.

وأما يُرَى بالضمّ فهو مبنيّ لما لم يُسَمّ فاعله، ومعناها الظنّ، وإن كان أصلها مُعَدّى بالهمزة من رأى إلا أن استعماله في الظنّ أكثر وأشهر. انتهى (1).

(أَنَّهُ كَذِبٌ) في تأويل المصدر مفعول ثان لـ "يُرى"، والأول ضمير "من"(فَهُوَ أَحَدُ الَكَاذِبِينَ) -بكسر الباء، وفتح النون- على الجمع، وهذا هو المشهور في ضبطه، قال النووي: قال القاضي عياض: الرواية فيه عندنا "الكاذِبِينَ" على الجمع. ورواه أبو نعيم الأصبهانى في كتابه "المستخرج على صحيح مسلم" في حديث سمرة "الكاذبِيَنِ" -بفتح الباء، وكسر النون- على التثنية، واحتج به على أن الراوي له يُشارِك البادىء بهذا الكذب، ثم رواه أبو نعيم من رواية المغيرة "الكاذِبَينِ" أو "الكاذِبِينَ" على الشك في التثنية والجمع. انتهى (2).

وقال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله: "أحد الكاذبين" رويناه بكسر الباء على الجمع، فيكون معناه أنه أحد الكذّابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قال الله تعالى في حقّهم:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} الآية [الزمر: 60]؛ لأن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب على الله تعالى. ورويناه أيضًا بفتح الباء على التثنية، ويكون معناه: أن المحدِّث والمحدَّث بما يَظنّان، أو يَعلمان كذبه كاذبان، هذا بما حدّث، والآخر بما تحمل من الكذب مع علمه، أو ظنّه لذلك (3). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)"المفهم" 1/ 111 - 112.

(2)

"شرح النوويّ" 1/ 64.

(3)

"المفهم" 1/ 112.

ص: 478

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عليّ رضي الله تعالى عنه هذا صحيح.

[فإن قلت]: كيف يصحّ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو متكلّم فيه، كما سبق في ترجمته؟.

[قلت]: لم ينفرد به هو، بل تابعه الأعمش عن الحكم كما سيأتي بعد حديث، وأيضَّا فإن الحديث صحيح مرويّ عن عدّة من الصحابة رضي الله عنه -كما سيأتي. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) بالسند المذكور هنا (5/ 38 و5/ 40) بالسند الآتي، وهو من أفراد المصنّف لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 595) و (عبد الله بن أحمد) في زياداته على "المسند"(1/ 112) و (البزّار) رقم (621)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): تغليظ الكذب، والتعرض له، وأن من غلب على ظنه كذب ما يَرويه، فرواه كان كاذبا، وكيف لا يكون كاذبا، وهو مُخبِر بما لم يكن.

قال أبو جعفر الطحاويّ رحمه الله تعالى في كتابه "مشكل الآثار" 1/ 375 بعد أن أورد هذا الحديث من رواية عليّ، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم: ما نصّه: فتأملنا هذا الحديث لنقف على المراد به منه ما هو؟ فوجدنا الله تعالى قد قال في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169]، فوجدناه تعالى قد أخبر أن ذوي الكتاب مأخوذ عليهم أن لا يقولوا على الله إلا الحق،

ص: 479

وكان ما يأخذونه عن الله تعالى هو ما يأخذونه عن رسله -صلوات الله عليهم- إليهم، فكان فيما أخذه الله تعالى عليهم أن لا يقولوا على الله إلا الحق، ودخل فيه أخذه عليهم أن لا يقولوا على رسله إلا الحقّ، كان الحق هاهنا كهو في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وكان من شهد بظن، فقد شهد بغير الحقّ، إذ كان الظن كما قد وصفه الله تعالى في قوله:{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36].

وفي ذلك إعلامه إيانا أن الظنّ غير الحقّ، وإذا كان من شهد بالظنّ شاهدًا بغير الحقّ كان مثله من حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لظنّ محدّثا عنه بغير الحقّ، والمحدث عنه بغير الحقّ محدث عنه بالباطل، والمحدّث عنه بالباطل كاذب عليه كأحد الكاذبين عليه الداخلين في قوله صلى الله عليه وسلم:"من كذب عليّ متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده من النار"، ونعوذ بالله تعالى من ذلك. انتهى كلام الطحاويّ (1).

2 -

(ومنها): تحريم رواية المنكر والموضوع من الأخبار. قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يفيد الحديث التحذير عن أن يُحدّث أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما تحقّق صدقه علمًا أو ظنّا، إلا أن يحدّث بذلك على جهة إظهار الكذب، فإنه لا يتناوله الحديث.

وفي كتاب الترمذيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اتّقوا الحديث عنّى إلا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه، فليتبوّأ مقعده من النار"، وقال: هذا حديث حسنٌ انتهى كلام القرطبيّ (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا

(1)"شرح مشكل الآثار" 1/ 374 - 375.

(2)

"المفهم" 1/ 112.

ص: 480

ضعيف؛ لأن في سنده سفيان بن وكيع، وهو ضعيف، وعبد الأعلى بن عامر الثعلبيّ ضعيف أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

39 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيع ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِب فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(محمد بن بشّار) بن عثمان العبديّ، أبو بكر بُنْدار البصريّ، ثقة حافظ [10] 1/ 6.

2 -

(وكيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسِيّ، أبو سفيان الكوفيّ ثقة حافظٌ عابدٌ، من كبار [9] 1/ 3.

3 -

(محمد بن جعفر) أبو عبد الله البصريّ المشهور بغُنْدَر، ثقة صحيح الكتاب [9] 1/ 6.

4 -

(سمرة بن جندب) بن هلال بن حُدَيج بن مُرَّة بن حَزْم بن عمرو بن جابر ابن ذي الرياستين (1) الْفَزَاريّ، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو سليمان، صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل البصرة. قال ابن إسحاق: كان حليف الأنصار، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي عُبيدة بن الجرّاح. ورَوَى عنه ابناه: سليمان، وسَعْد، وعبد الله بن بُريدة، وزيد بن عقبة، والرَّبِيع بن عَمِيلة، وهلال بن

(1) قال في "تهذيب التهذيب" 2/ 116: وذكر الرشاطي أن ابن عبد البر صَحّف في اسم ذي الرياستين قال: وصوابه ذي الرأسين، قال: وابن عبد البر إنما نقله من كتاب ابن السكن، وهو في كتاب ابن السكن على الصواب. انتهى.

ص: 481

يساف، وأبو رجاء العُطَاردي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو نضرة العبدي، وثعلبة بن عِبَاد (1) والحسن البصري وغيرهم.

قال ابن إسحاق: كان من حلفاء الأنصار، قدِمت به أمه بعد موت أبيه، فتزوّجها رجلٌ من الأنصار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعرِض غلمان الأنصار، فمرّ به غلامٌ، فأجازه في البعث، وعُرض عليه سمُرة فردّه، فقال: لقد أجزت هذا، ورددتني، ولو صارعته لصرعته، قال: فدونكه فصارعه، فصرعه سمُرة، فأجازه. وعن عبد الله بن بُريدة عن سمرة: كنت غلامًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أحفظ عنه (2).

وقال ابن عبد البر: سكن البصرة وكان زياد يَستخلفه عليها ستة أشهر، وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زياد استخلفه على البصرة، فأقره معاوية عاما أو نحوه، ثم عزله، وكان شديدًا على الحرورية، كان إذا أُتي بواحد منهم قتله، ولم يُقِله، ويقول: شرُّ قَتْلَى تحت أديم السماء، يُكَفِّرون المسلمين، ويَسفكون الدماء، فالحروريّة، ومن قاربهم يَطعَنون عليه، وينالون منه، وكان الحسن وابن سيرين، وفضلاء أهل البصرة يُثنون عليه. وقال ابن سيرين في رسالة سمرة إلى بَنِيه علم كثير. وقال أيضًا: كان عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحب الإسلام وأهله. قال ابن عبد البر: مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين، سقط في قِدْر مملوءة ماء حارّا، كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز شديد أصابه، فسقط في القدر الحارّة، فمات، فكان ذلك تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولأبي هريرة وثالث معهما -يعني أبا محذورة-:"آخرُكم موتا في النار". وقيل: مات آخر سنة (59) أو أول سنة ستين بالكوفة، وقيل: بالبصرة كذا قال ابن حبان في "الصحابة".

أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (123) حديثًا، اتفق الشيخان على حديثين، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بأربعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.

(1) هو -كما في "التقريب" -بكسر العين المهملة، وتخفيف الموحّدة.

(2)

"الإصابة" 3/ 150.

ص: 482

والباقون تقدّموا في السند الماضي. وأما شرح الحديث، فيُعلم مما سبق، وفيه مسألتان تتعلّقان به:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (5/ 39) بالسند المذكور، و (مسلم)(1/ 7) و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"، (1/ 38) و (أحمد) في "مسنده"(5/ 14 و19 و20) و (ابن حبّان) في "صحيحه" رقم (29)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" رقم (422) من طرق عن شعبة بهذا الإسناد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

40 -

(حَدَّثَنَا عُثْمانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَليٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن بن عثمان بن خُوَاستِي الْعَبْسيّ، أبو الحسن ابن أبي شيبة الكوفيّ، صاحب "المسند"، و"التفسير"، ثقة حافظ شهير، وله أوهام، وقيل: كان لا يحفظ القرآن [10].

رَوَى عن هشيم، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسيّ، وطلحة بن يحيى الزُّرَقي، وعبدة بن سليمان، وأبي حفص عمو بن عبد الرحمن الأبار، ومحمد بن فُضيل، وخلق كثير.

ورَوَى عنه الجماعة، سوى الترمذي، وسوى النسائي، فرَوَى في "اليوم والليلة" عن زكريا بن يحيى السِّجْزيّ عنه، وفي "مسند علي" عن أبي بكر المروزي عنه، وروى عنه ابنه محمد، وابن سعد ومات قبله، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وزياد بن أيوب

ص: 483

الطوسي، وعثمان بن خرزاذ، والذهلي، وخلق كثير.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ابن أبي شيبة ما تقول فيه؟ -أعني أبا بكر- فقال: ما علمت إلا خيرًا، وكأنه أنكر المسألة عنه، قلت لأبي عبد الله: فأخوه عثمان؟ فقال: وأخوه عثمان ما علمت إلا خيرًا، وأثنى عليه، وقال: عثمان رجل سليم، وقال فضلك الرازي: سألت ابن معين عن محمد بن حميد الرازي، فقال: ثقة وسألته عن عثمان بن أبي شيبة، فقال: ثقة، فقلت: من أحب إليك ابن حميد، أو عثمان؟ فقال: ثقتان أمينان مأمونان. وقال الحسين بن حيان عن يحيى: ابنا أبي شيبة: عثمان وعبد الله ثقتان صدوقان، ليس فيه شك. وقال أبو حاتم: سمعت رجلا يسأل محمد بن عبد الله بن نمير عن عثمان، فقال: سبحان الله، ومثله يسأل عنه، إنما يسأل هو عنّا. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كان عثمان أكبر من أبي بكر إلا أن أبا بكر صَنّف، قال: وقال أبي: هو صدوق. وقال العجلي: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ثقة، وأخوه عثمان ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره: مات في المحرم سنة (239). وقال السراج عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة: وُلد أبي سنة (56). أخرج له الجماعة، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري (53) ومسلم (135)(1)، وله في هذا الكتاب (46) حديثًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ رُمي بالتشيّع [9] تقدّم في 2/ 21.

3 -

(الأعمش) سليمان بن مِهران، أبو محمد الكوفيّ، ثقة ثبت إمام، لكنه يدلّس [5] تقدّم في 1/ 1، والباقون تقدّموا قبل حديث. وكذا شرح الحديث، والمسائل

(1) هكذا في "تهذيب التهذيب" جـ 3/ 78 والذي في برنامج الحديث (صخر) أن البخاريّ روى عنه (61) حديثًا، وأن مسلمًا روى عنه (117) حديثًا، ولعل الاختلاف حصل بالتكرار، أو لاختلاف النسخ، فالله أعلم.

ص: 484

المتعلّقة به، وهو حديث صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

41 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه، أَنْبَأَنَا الْحسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، عَنْ شُعْبَةَ، مِثْلَ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه) الظاهر (1) أنه "محمد بن عبد الله" بن المبارك القرشيّ المخَرِّميّ -بخاء معجمة مفتوحة، فراء مكسورة مشدّدة- أبو جعفر البغداديّ المدائنيّ، قاضي حلوان، ثقة حافظ من [11].

روى عن أبي معاوية الضرير، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي عامر العقدي، وأبي أسامة، وإسحاق بن يوسف الأزرق، والحسن بن موسى الأشيب، وغيرهم.

وروى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه -كما هو الظاهر من هذه الرواية، على ما سنحققه- وروى النسائي أيضًا عن أحمد بن علي المروزي عنه، وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي، ويعقوب بن سفيان، وابن خزيمة، وغيرهم.

أمر الإمام أحمد ابنه عبد الله بالكتابة عنه. وقال أبو بكر الباغندي: كان حافظًا متقنًا. وقال ابن عقدة: سمعت نصر بن أحمد بن نصر قال: كان محمد بن عبد الله المخرِّمي من الحفاظ المتقنين والمأمونين. وقال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي، وهو صدوق ثقة، سئل أبي عنه، فقال: ثقة ثقة. وقال النسائي: ثقة. وقال أيضًا في "مشيخته": كان أحد الثقات، ما رأينا بالعراق مثله. وقال ابن عديّ: كان حافظًا. وقال ابن ماكولا: كان ثبتًا عالمًا. وقال الْبَرْقَاني عن الدارقطني: ثقة جليل متقن. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال مسلمة بن قاسم: كان أحد الثقات، جليل القدر، توفي ببغداد سنة

(1) إنما رجّحت هذا لأنه المعروف بالرواية عن الحسن بن موسى الأشيب.

ص: 485

خمس وخمسين ومائتين. وقال ابن قانع: مات سنة أربع وخمسين ومائتين. وقال ابن حبان: مات سنة ستين ومائتين، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا وقع في النسخ المطبوعة محمد بن عبد الله، والظاهر أن المخرّميّ الذي ترجمته الآن، فإنه الذي يروي عن الحسن بن موسى الأشيب، ولا ينافيه عدم ذكر المصنّف في الرواة عنه "تهذيب الكمال"؛ لاحتمال تركه نسيانًا، وذلك لنُدْرَة رواية المصنف عنه، إذ ليس له إلا هذا الحديث، فتأمل.

ووقع في النسخة "الهنديّة": "محمد بن عبدك" وكتب في هامشها: ما نصّه: الكاف في "عبدك" علامة التصغير في اللغة الفارسية، وهذا لم أجد ترجمته. والله تعالى أعلم.

(تنبيهان):

[الأول]: أنه ذكر الأستاذ بشار بن عوّاد، وأشار أيضًا الشيخ علي بن حسن في تحقيقيهما لهذا الكتاب أن هذه الرواية مما زاده أبو الحسن ابن القطّان، ولم يذكرا على ذلك بينة، إلا أن الأول استدلّ له بعدم ذكر الحافظ المزيّ له في "تحفة الأشراف"، وعندي في هذا نظر؛ لأمرين:

(الأول): أنه لا يكفي عدم ذكر المزيّ في "تحفته" دليلا على عدم كونه من رواية المصنف؛ إذ قد وُجدت أحاديث لم يذكرها المزيّ فيه، إما نسيانًا، أو لغير ذلك، ومن أراد بيان ذلك فليراجع "الإطراف بأوهام الأطراف" للحافظ وليّ الدين العراقيّ، و"النكت الظراف" للحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى يجد الأمر واضحًا.

(الثاني): أن زيادات ابن القطّان على المصنّف متميّزة واضحة، حيث يصدّوها بقوله: قال أبو الحسن، ونحوه، كما مر برقم 22 ويأتي برقم 281 و252 و261 و302 و327 و362 و364 و380 و394 و407 و419 و466 و474 و524 و531 و601 و663، كله إلى آخر "كتاب الطهارة" فقط، ولو تتبعت إلى آخر الكتاب لوجدت ما قلته جليًّا واضحًا.

والحاصل أنه لا حجة مقنعة على أن هذه الرواية من زيادة ابن القطّان، فتأمل ذلك

ص: 486

بالإنصاف، ولا تسلك مسلك التقليد والاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[الثاني]: كتب الدكتور بشار عوّاد، في تحقيقه لهذا الكتاب، ما نصّه: هذا الإسناد من زيادات ابن القطّان، وقد كان في المطبوعة مُدْمجًا في الحديث السابق، ودليلنا على ذلك أن المزّيّ لم يذكره في "تحفة الأشراف" 4/ 80 حديث (4627).

وأيضًا فإن محمد بن عبد الله الذي يروى عن الحسن بن موسى الأشيب هو ابن المبارك المخَرِّميّ البغداديّ، لم يرقم المزيّ عليهّ برقم ابن ماجه حينما ترجمه في "تهذيب الكمال"(25/ 524).

وأيضًا فإنه لمّا ترجم للحسن بن موسى الأشيب لم يذكر فيمن روى عنه ممن يُسمّى محمد بن عبد الله سوى ابن المبارك المخَرّميّ البغداديّ، ولم يرقم عليه برقم ابن ماجه (6/ 329) بل اكتفى في الموضعين برقم البخاريّ في "خلق أفعال العباد". والله أعلم. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ادّعاه الدكتور المذكور من أن هذا من رواية ابن القطّان غير صحيح؛ لأن أبا الحسن ابن القطّان لا يروي عن المخرّميّ أصلًا؛ لأنه لم يَلْقَهُ، فإنه وُلد سنة (254 هـ) كما قاله الحافظ الذهبيّ في "سير أعلام النبلاء" جـ 15 ص 463 - 465 وكان موت المخرّميّ -كما في "تهذيب التهذيب" جـ 3 ص 614 - سنة بضع وخمسين ومائتين، قيل: سنة (254) أي في السنة التي وُلد فيها ابن القطان، وقيل: سنة (255). وقال ابن حبّان: مات سنة (260) أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. وعلى أيّ حال فلا يمكن أن يسمع ابن القطّان القزوينيّ من المخرّميّ البغداديّ بمثل هذه المدّة، وقد صرّح هنا بقوله:"حدّثنا محمد بن عبد الله".

فالحقّ عندي أنّ القائل: "حدّثنا" هو الإمامُ ابنُ ماجه، لا ابن القطان، ولا يَرِد على هذا عدم رمز أصحاب كتب الرجال لابن ماجه في ترجمة محمد بن عبد الله هذا؛

(1) انظر ما كتبه الدكتور بشّار عواد على "سنن ابن ماجه" جـ 1 ص 70 رقم الحديث (39).

ص: 487

لاحتمال أن يكون أغفلوه نسيانًا، وذلك لنُدْرة روايته عنه، حيث لم يرو عنه إلا في هذا الوضع، كما أسلفته قريبًا.

والحاصل أن محمد بن عبد الله المخرّميّ ليس من شيوخ ابن القطّان، وإنما هو من شيوخ المصنّف، فتأمّله بالإنصاف، ولا تسلك مسلك الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

2 -

(الحسن بن موسى الأشيب) بمعجمة، ثم تحتانيّة- أبو عليّ البغداديّ، قاضي طَبَرِستان، والموصل، وحمص، ثقة [9].

روى عن الحمادين، وشعبة، وسفيان، وجرير بن حازم، وزهير بن معاوية، وابن لهيعة، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وغيرهم.

وعنه أحمد بن حنبل، وحجاج بن الشاعر، وأحمد بن منيع، وأبو خيثمة، وابنا أبي شيبة، والفضل بن سهل الأعرج، وهارون الحمال، وغيرهم.

قال أحمد: هو من مُتَثَبِّتِي أهل بغداد. وقال ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو حاتم عن ابن المديني. وقال أبو حاتم، وصالح بن محمد، وابن خِرَاش: صدوق، زاد أبو حاتم: ثم مات بالريّ، وحضرت جنازته. وقال ابن سعد: كان ثقةً صدوقًا في الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره مسلم في رجال شعبة الثقات في الطبقة الثالثة. وقال عبد الله بن المديني عن أبيه: كان ببغداد كأنه ضعفه (1). وقال الخطيب: لا أعلم علةَ تضعيفه إياه. وقال الأعين: مات سنة ثمان. وقال ابن سعد والمطين: سنة تسع. وقال حنبل: سنة (9) أو عشر ومائتين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.

(1) قال الحافظ في "هدي الساري" ص (397): هذا ظنّ لا تقوم به حجّة، وقد كان أبو حاتم الرازيّ يقول: سمعت علي بن المدينيّ يقول: الحسن بن موسى الأشيب ثقة، فهذا التصريح الموافق لأقوال الجماعة أولى أن يُعمَل به من ذلك الظنّ. انتهى.

ص: 488

3 -

(شعبة) بن الحجاج المذكور قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

42 -

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شبِيب، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سفيان) بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أدّ بن طابخة على الصحيح، وقيل: هو من ثور همدان، الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، أحد الأئمة الأعلام، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، وربّما دلّس، من رءوس الطبقة [7].

رَوَى عن أبيه، وأبي إسحاق الشيباني، وأبي السحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير، وعبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، وإسماعيل بن أبي خالد، وسلمة بن كهيل، وطارق بن عبد الرحمن، والأسود بن قيس، وبيان بن بشر، وخلق كثير من أهل العراق، والحجاز، وغيرهم.

ورَوَى عنه خلق لا يحصون، منهم: جعفر بن برقان، وخصيف بن عبد الرحمن، وابن إسحاق، وغيرهم من شيوخه، وأبان بن تغلب، وزائدة، والأوزاعي، ومالك، وزهير بن معاوية، ومسعر وغيرهم من أقرانه، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وابن المبارك، وجرير، ووكيع، وعلي بن الجعد، وهو آخر من حدث عنه من الثقات، وغيرهم.

قال شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، وابن معين، وغير واحد من العلماء: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان. وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل من سفيان، فقال له رجل: يا

ص: 489

أبا عبد الله، رأيت سعيد بن جبير وغيره، وتقول هذا؟ فقال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان. وقال وكيع عن شعبة: سفيان أحفظ مني. وقال ابن مهدي: كان وُهَيْب يقدم سفيان في الحفظ على مالك. وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إليّ من شعبة، ولا يعد له أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان. وقال الدوري: رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان في زمانه أحدا في الفقه والحديث والزهد وكل شيء. وقال الآجري عن أبي داود: ليس يختلف سفيان وشعبة في شيء إلا يظفر سفيان. وقال أبو داود: بلغني عن ابن معين ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان. وقال العجلي: أحسن إسناد الكوفة سفيان عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله. وقال ابن المديني: لا أعلم سفيان صحف في شيء قط إلا في اسم امرأة أبي عبيد، كان يقول حفينة. وقال المروذي عن أحمد: لم يتقدمه في قلبي أحد. وقال عبد الله بن داود: ما رأيت أفقه من سفيان. وقال أبو قطن: قال لي شعبة: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم. وقال النسائي: هو أجل من أن يقال فيه: ثقة، وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماما. وقال الخطيب: كان الثوريّ إمامًا من أئمة المسلمين، وعَلَمًا من أعلام الدين، مجمعًا على إمامته، مع الإتقان والضبط والحفظ والمعرفة والزهد والورع.

قال أبو نعيم: خرج سفيان من الكوفة سنة خمسمين ومائة، ولم يرجع إليها، وقال العجلي وغيره: مولده سنة سبع وتسعين. وقال ابن سعد أجمعوا على أنه توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وفي بعض ذلك خلاف، والصحيح ما هنا. أخرج له الجماعة (1). وله في هذا الكتاب (215) حديثًا.

2 -

(حبيب) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار، الأسدي الكاهليّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة فقيه، جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس [3].

رَوَى عن زيد بن أرقم، وابن عبّاس، وابن عمر، وخلق من الصحابة والتابعين.

(1) راجع "الخلاصة" ص 145 و"التقريب" ص 128.

ص: 490

وروى عنه مسعر، والثوريّ، وشعبة، وأبو بكر النهشليّ، وخلق كثير.

وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ، والعجليّ. وقال أبو بكر بن عياش: كان بالكوفة ثلاثة ليس لهم رابع: حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحماد، وكانوا أصحاب الفتيا، ولم يكن أحد إلا ذلّ لحبيب. وقال ابن المدينيّ: له نحو مائتي حديث.

وقال العجلي: كوفي تابعيّ ثقة. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة، قيل له: ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين -قال: أظن يحيى يريد منكرين- حديث المستحاضة تصلي وإن قطر الدم على الحصير، وحديث القبلة للصائم. وقال أبو زرعة: لم يسمع من أم سلمة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، ولم يسمع حديث المستحاضة من عروة. وقال الترمذي عن البخاري: لم يسمع من عروة ابن الزبير شيئا. قال أبو بكر بن عياش وغيره: مات سنة (119)، وقيل: غير ذلك.

وقال ابن حبان في "الثقات": كان مدلسا. وقال ابن عدي: هو أشهر وأكثر حديثا من أن أحتاج أذكر من حديثه شيئا، وقد حدث عنه الأئمة، وهو ثقة حجة كما قال ابن معين. وقال العجلي: كان ثقة ثبتا في الحديث، سمع من ابن عمر غير شيء، ومن ابن عباس، وكان فقيه البدن، وكان مفتي الكوفة قبل الحكم وحماد. وذكره أبو جعفر الطبري في "طبقات الفقهاء"، وكان ذا فقه وعلم. وقال ابن خزيمة في "صحيحه": كان مدلسا، وقد سمع من ابن عمر.

مات سنة (119) وقيل: (122). أخرج له الجماعة (1). وله في هذا الكتاب (24) حديثًا.

3 -

(ميمون بن أبي شبيب) الرَّبَعِيُّ، أبو نصر الكوفيّ، ويقال: الرقّيّ، صدوقٌ، كثير الإرسال [3].

رَوَى عن معاذ بن جبل، وعمر، وعلي، وأبي ذر، والمقداد، وابن مسعود، وقيس

(1)"الخلاصة" ص 71. و"التقريب" ص 63 و"شرح النووي" 1/ 63.

ص: 491

بن سعد، والمغيرة بن شعبة، وعائشة، وسمرة بن جندب، وأبي عمرو الصِّينِيِّ.

ورَوَى عنه إبراهيم النخعي، وحبيب بن أبي ثابت، والحكم بن عتيبة، ومنصور ابن زاذان، والحسن بن الحُرّ، وإسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصُّفَيراء.

قال علي بن المديني: خفي علينا أمره. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال عمرو بن علي: كان رجلا تاجرا كان من أهل الخير، وليس يقول في شيء من حديثه: سمعت، ولم أُخْبَر أن أحدا يزعم أنه سمع من الصحابة. وقال أبو داود: ولم يدرك عائشة. وقال الحسن بن الحر عن ميمون بن أبي شبيب أردت الجمعة في زمان الحجاج، فذكر خبرا. قال أبو بكر بن أبي عاصم: مات سنة ثلاث وثمانين، وفيها أرخه ابن حبان، وزاد: قُتِل في الجماجم. وقال ابن معين: ضعيف.

وقال ابن خراش: لم يسمع من علي، وصحح له الترمذي روايته عن أبي ذر، لكن في بعض النسخ، وفي أكثرها قال: حسن فقط.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة (1)، وله في هذا الكتاب (3) أحاديث فقط برقم 41 و2240 و3557.

4 -

(المغيرة (2) بن شعبة) بن أبي عامر بن مسعود بن معقب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس الثقفي، أبو عيسى، أو أبو محمد. وقال الطبري: يكنى أبا عبد الله. قال: وكان ضخم القامة، عَبْلَ الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، أصهب الشعر جعده. وكان لا يَفرُقُه، أسلم قبل عمرة الحديبية، وشهدها، وبيعة الرضوان، وله فيها ذكر، وحَدَّثَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، رَوَى عنه أولاده: عروة، وعفار، وحمزة ومولاه ورّاد، وابن عم أبيه حسن بن حبة، ومن الصحابة الْمِسْوَر بن مخرمة، ومن المخضرمين فمن

(1)"الخلاصة" ص 394 و"التقريب"354.

(2)

"المغيرة" بضم الميم على المشهور، وحكى ابن السكّيت، وابن قتيبة، وغيرهما أنه يقال: بكسرها أيضًا. انتهى "شرح النووي" 1/ 63.

ص: 492

بعدهم، قيس بن أبي حازم، ومسروق، وقبيصة بن ذؤيب، ونافع بن جبير، وبكر بن عبد الله المزني، والأسود بن هلال، وزياد بن علاقة، وآخرون. قال ابن سعد: كان يقال له: مغيرة الرأي، وشهد اليمامة، وفتوح الشام والعراق، وقال الشعبي، كان من دُهاة العرب، وكذا ذكره الزهري. وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها، وولاه عمر البصرة، ففتح مِيسان، وهَمَذان، وعِدّة بلاد إلى أن عزله لا شهد عليه أبو بكرة ومن معه. قال البغوي: كان أول من وضع ديوان البصرة. وقال ابن حبان: كان أول من سُلِّم عليه بالإِمْرة (1)، ثم ولاه عمر الكوفة، وأقره عثمان، ثم عزله، فلما قُتل عثمان اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه، ثم ولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على إمرتها حتى مات سنة خمسين عند الأكثر، ونقل فيه الخطيب الإجماع، وقيل: مات قبلُ بسنة، وقيل بعدها بسنة. وقال الطبري: كان لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا، ولا يلتبس عليه أمران إلا ظهر الرأي في أحدهما.

وأخرج البغوي من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: استعمل عمر المغيرة على البحرين، فكرهوه، وشَكَوا منه، فعزله، فخافوا أن يعيده عليهم، فجمعوا مائة ألف، فأحضرها الدِّهْقان إلى عمر، فقال: إن المغيرة أختان هذه، فأودعها عندي، فدعاه، فسأله، فقال: كذب، إنما كانت مائتي ألف، فقال: وما حملك على ذلك، قال كثرة العيال، فسُقِطَ في يد الدّهقان، فحلف وأكد الأيمان أنه لم يودع عنده قليلا ولا كثيرا، فقال عمر للمغيرة: ما حمل على هذا؟، قال: إنه افترى عليّ، فأردت أن أُخزيه.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفي سنة تسع وأربعين، وهو أميرها، وقال ابن

(1) قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء" 3/ 28: يعني قول المؤذّن عند خروج الإمام إلى الصلاة: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته". انتهى.

ص: 493

سعد، وأبو حسان الزيادي، وغير واحد: مات سنة خمسين، ونقل الخطيب الإجماع من أهل العلم على ذلك، وفيها في شعبان أرخه ابن حبان. وقال ابن عبد البر: مات سنة إحدى وخمسين.

أخرج له الجماعة، وله (136) حديثًا، اتفق الشيخان على تسعة منها، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بحديثين (1). وله في هذا الكتاب (21) حديثًا. والباقيان تقدّما قبل حديثين. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، فميمون أخرج له مسلم في "المقدّمة" هذا الحديث.

4 -

(ومنها): أن سفيان فمن بعده هذا أول محلّ ذكرهم من الكتاب.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ. قال النووي رحمه الله تعالى: وهذا كثير، وقد يَروِي ثلاثة تابعيّون بعضهم عن بعض، وهو أيضًا كثير، لكنه دون الأول، وقد يروي أربعة تابعيون بعضهم عن بعض، وهذا قليل جدّا، وكذلك وقع مثل هذا في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، صحابي عن صحابي كثير، وثلاثة صحابة بعضهم عن بعض، وأربعة بعضهم عن بعض، وهو قليل جدّا، وقد جمعت أنا الرباعيات من الصحابة والتابعين في أول شرح "صحيح البخاري" بأسانيدها، وجمل من طُرفها. انتهى كلام النوويّ (2). والله تعالى أعلم.

(1) هكذا في "الخلاصة"، والذي في برنامج الحديث (صخر) أن في "صحيح مسلم"(31) حديثًا، وهذا مع المكرّرات، فلا تنافي بين العددين، والله تعالى أعلم.

(2)

"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 1/ 63.

ص: 494

وقد بيّن السيوطي رحمه الله تعالى أمثلة هذا النوع في كتابه "تدريب الراوي" 2/ 386، حيث قال:

النوع (السادس والسابع والسبعون): رواية الصحابة بعضهم عن بعض، والتابعين بعضهم عن بعض، هذان ذكرهما البلقيني في "محاسن الاصطلاح"، وقال: إنهما مُهِمّان؛ لأن الغالب رواية التابعين عن الصحابة، ورواية أتباع التابعين عن التابعين، فيحتاج إلى التنبيه على ما يخالف الغالب، قال:

ومن أمثلة الأول حديث اجتمع فيه أربعة صحابة، وهو حديث الزهري، عن السائب بن يزيد، عن حويطب بن عبد العزى، عن عبد الله بن السعدي، عن عمر بن الخطاب، مرفوعا:"ما جاءك الله به من هذا المال عن غير إشراف، ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك". وحديث خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن نعيم بن هبار، عن المقداد بن معدي كرب، عن أبي أيوب، عن عوف بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مرعوب، متغير اللون، فقال:"أطيعوني ما دمت فيكم، وعليكم بكتاب الله، فَأَحِلُّوا حلاله، وحرموا حرامه". وحديث اجتمع فيه أربع من نساء الصحابة، اثنتان من أمهات المؤمنين، وربيبتان للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أم سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة، عن أمها أم حبيبة، عن زينب بنت جحش، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، محمرا وجهه، وهو يقول:"لا إله إلا الله -ثلاث مرات- ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من رَدْمِ يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد عشرا"، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:"نعم إذا كثر الخبث". وقد أفرد بعضهم هذه الأحاديث الثلاثة في جزء.

قال السيوطي: وقع في بعض الأجزاء حديثٌ اجتمع فيه خمسة من الصحابة، ثم أخرج بسنده عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عثمان بن عفان، عن عمر بن الخطاب، عن أبي بكر الصديق،

ص: 495

عن بلال، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الموت كفارة لكل مسلم". انتهى كلام السيوطيّ ببعض اختصار، وقال في "ألفية الحديث" مشيرًا إلى هذا:

وَفِي الصِّحَابِ أَرْبَعٌ في سَنَدِ

وَخَمْسَةٌ وَبَعْدَهَا لَمْ يُوجَدِ

وقد علّق العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى فيما كتبه على "ألفية المصطلح" للسيوطي على الحديث المذكور أخيرًا: ما نصّه: هكذا نقله الناظم في "التدريب" عن بعض الأجزاء، ورواه بإسناده هو، ولم يتكلّم على إسناده من صحّة، أو ضعف، وقد نقل المتن في "الجامع الصغير"، ورمز له بأنه رواه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الشعب" من حديث أنس، وأطال القول فيه في "اللآلىء المصنوعة" 2/ 221 - 222 وكل طرقه التي ذكرها من حديث أنس، ولم يذكر أنه جاء من رواية بلال، وكذلك نسبه العجلوني في "كشف الخفا" 2/ 289 للبيهقي والقضاعي، ولم أجد له إسنادًا عن بلال إلا الذي رواه به الناظم، وهو إسناد يحتاج إلى نظر كثير. انتهى كلام أحمد شاكر، والله تعالى أعلم بالصواب.

وأما شرح الحديث فيُعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إعادته، ولنذكر هنا مسألتين تتعلّقان به:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه هذا صحيح.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (5/ 41) بالسند المذكور، و (مسلم) في "المقدّمة" (1/ 7) و (الترمذيّ) رقم (2662) وقال: حسن صحيح.

[تنبيه]: قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في "جامعه"(جـ: 5 ص: 36) -بعد أن أخرج حديث المغيرة رضي الله عنه هذا -: ما نصّه:

"وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وسمرة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ورَوَى شعبة عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا

ص: 496

الحديث، ورَوَى الأعمش، وابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة عند أهل الحديث أصحُّ.

قال: سألت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن، عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"من حَدَّث عَنِّي حديثًا، وهو يَرَى أنه كَذِبٌ فهو أحد الكاذبين". قلت له: مَن رَوَى حديثًا وهو يَعلَم أن إسناده خطأٌ أيُخافُ أن يكون قد دخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو إذا رَوَى الناس حديثا مرسلًا، فأسنده بعضهم، أو قَلَبَ إسنادَه يكون قد دخل في هذا الحديث؟ فقال: لا، إنما معنى هذا الحديث: إذا رَوَى الرجل حديثًا، ولا يُعرَف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلٌ، فحدَّث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث. انتهى كلام الترمذيّ (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره الإمام الترمذيّ عن الإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ رحمهما الله تعالى كلام كلام نفيس، وتحقيقٌ أنيسٌ.

وحاصله أنه لا يدخل في هذا الوعيد من يُحدّث بالأحاديث الواردة بالأسانيد المرسلة، والمنقطعة، أو الأحاديث التي دخل على بعض رواتها قلب، أو نحوه، إنما الذي يدخل فيه من يروي الأحاديث التي لا أصل لها من الموضوعات، والواهيات بالمرّة، فإن روايتها لا تحلّ إلا لبيان كونها غير ثابتة، وأما القسم الأول، فإن الأولى لمن يرويها أن يُبيّن ما فيها من العلل، وإن لم يُبين ذلك اتّكالًا على إيراد أسانيدها، فلا بأس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

(1) راجع "الجامع" للإمام الترمذيّ في "كتاب العلم" جـ 5/ ص 36 رقم (2662).

ص: 497