الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شذرات عطرة من سيرة المرأة المسلمة
لقد اتصفت المرأة المسلمة في صدر الإسلام بجملة من الصفات، أهلتها لتشارك بفاعلية في الحياة العامة، فقد كان لها من قوة الشخصية، والقدرة العقلية وفصاحة اللسان وحسن الفهم والبيان، والقدرة على الصبر والثبات ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يحث على تكريمها ورفع شأنها، وإعطائها المكانة التي تليق بما في المجتمع، فها هو معلم البشرية الأول عليه الصلاة والسلام يعلم زوجاته بنفسه.
فقد مر على زوجته جويرية بنت الحارث، وقد كانت عابده قانتة لله تعالى، فقال لها:"ألا أعلمك كلمات تقوليهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" رواه مسلم.
ولقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها فقيهة محدثة تنظم الشعر أيضا، ويروي الشعبي، فيقول: قيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين هذا القرآن تلقيته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الحلال والحرام، وهذا الشعر والنسب والأخبار سمعتها عن أبيك وغيره، فما بال الطب؟ قالت:"كانت الوفود تأتي رسول صلي الله عليه وسلم، فلا يزال الرجل يشكو علته، فيسأل عن دوائها فيخبره بذلك، فحفظت ما كان يصفه وفهمته".
وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما. رواه الترمذي.
وقد بلغ مسندها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث، وقال الزهري: لو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين، لكانت عائشة أوسعهم علما. رواه الحاكم.
وقد ذكر البلاذري في (فتوح البلدان): "أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب كانت تتعلم الكتابة في الجاهلية على يد امرأة كاتبة تدعى الشفاء العدوية، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه و سلم طلب إلى الشفاء أن تعلمها تحسين الخط، وتزيينه كما علمتها أصل الكتابة".
وهذه أم الدرداء الصغرى (هجينة بنت يحيى الوصابية) روت علما جما عن زوجها أبي الدرداء، وعن سلمان الفارسي، وعن عائشة، وعن أبي هريرة؛ وعرضت القرآن علي أبي الدرداء، واشتهرت بالعلم والعمل، وكانت تقية زاهدة؛ عاشت طويلا حتى أدركت خلافة عبد الملك بن مروان، وكان مرة جالسا في صخرة بيت المقدس، وأم الدرداء جالسة معه حين نودي لصلاة المغرب، فقام وقامت تتوكأ عليه حتى دخل بها المسجد، وكانت عالمة فقيهة يجلس إليها الرجال، فيقرأون عليها، وكان عبد الملك بن مروان يستمع إليها. وهذه فاطمة بنت علاء الدين السمرقندي الحنفي صاحب كتاب (تحفة الفقهاء) حفظت التحفة، فكانت فقيهة، طلبها كثير من الرجال، فلم يزوجها والدها، وعندما صنف أبو بكر الكاساني كتابه (بدائع الصنائع) وهو شرح التحفة عرضه على شيخه - أبوها - ففرح به كثيرا، وزوجه ابنته، وجعل مهرها منه ذلك، فقالوا: شرح تحفته فزوجه ابنته.
وكانت الفتوى تأتي، فتخرج وعليها خطها وخط أبيها، فلما تزوجت صاحب البدائع كانت تخرج وعليها خطها وخط أبيها وخط زوجها.
وهذه خولة بنت ثعلبة أنزل الله فيها قرآنا عندما أخذت تشتكي زوجها، وتقول:"يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له ما في بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني. اللهم إني أشكو إليك. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهار زوجها منها، فقال لها: حرمت عليه. فأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] ".
ويأخذ رسول الله البيعة من النساء فيقول: "تبايعن على ألا تشركن بالله شيئا. قالت هند زوج أبي سفيان - وكانت متخفية لم يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد - إنك - والله - لتأخذ علينا ما لا تأخذ على الرجال، فسنؤتيكه. قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأحببت من مال أبي سفيان الهنة والهنة. فقال أبو سفيان - وكان حاضرا -: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهند؟ قالت: أنا
هند، فاعفو عما سلف عفا الله عنك - وكانت قد لاكت كبد عمه حمزة بعد استشهاده في أحد -.
قال: ولا تزنين. قالت: وهل تزني الحرة؟ قال: ولا تقتلن أولادكن. قالت: ربيناهم صغارا، وقتلتهم في بدر كبارا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر حتى استلقي. قال: ولا تأتين ببهتان تفتريته بين أيديكن وأرجلكن، قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف. قالت: ما جلسنا هذا المجلس، ونحن نريد أن تعصيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن الله".
فها هو القائد الأول، ومعلم البشرية يصغي لهند، ولا ينهرها، ولا يعنفها، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على مدى احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأي المرأة، وحقها في المناقشة والحوار.
وقد روت كتب السيرة عن فصاحة وبلاغة المرأة شيئا كثيرا، فقد روي أن عمر بن الخطاب قد ساءه مغالاة الناس في مهور بناتهم، فصعد المنبر وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: لا أعرف من زاد في الصداق على أربع مائة درهم؟ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصداق فيما بينهم أربع مائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله، أو مكرمة لما سبقتموهم إليها، ثم نزل المنبر، فاعترضته امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين: نهيت الناس أن يزيدوا في صدقاتهم على أربع مائة؟ قال: نعم. قالت: أما سمعت الله يقول في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ قالت: قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] قال عمر: اللهم اغفر، كل الناس أفقه من عمر. وقال - قولته المشهورة -: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
فهذا أمير المؤمنين رغم مكانته وهيبته عند المسلمين يصغي إلى نصح امرأة ويعترف بخطأه وبصحة قولها، وهذا من تمام العقل والحكمة، ويدل على مدى الاحترام والتقدير الذي كانت تحظى به المرأة في صدر الإسلام.
وحكت كتب السير والتاريخ عن قدرة المرأة العقلية، وذكائها، فهذه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وكان معه أبو بكر الصديق، فحمل معه جميع ماله، تقول أسماء: فأتاني جدي أبو قحافة - وقد عمي - فقال: إن هذا فجعكم بماله ونفسه. فقلت: كلا! قد ترك لنا خيرا كثيرا، فعمدت إلى أحجار، فجعلتها في كوة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده ووضعتها على الثوب، فقلت: هذا ما تركه لنا، فقال: أما إذا ترك لكم هذا، فنعم.
وشاركت المرأة الرجل عبر التاريخ الإسلامي ميادين الجهاد، فهذه أم عمارة - نسيبة المازنية - تقول:" لقد رأيتني، وقد انكشف الناس عن رسول الله، وما بقي إلا نفر يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه تذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلا موليا معه ترس، فقال لصاحب الترس: ألق ترسك لمن يقاتل. فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أتترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل على فرس، فضربني فتترست له، فلم يصنع سيفه شيئا، وولي، وأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا أم عمارة أمامك. قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب المنية".
وهذه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق قالت: أنا أول امرأة قتلت رجلا، فقد كان حسان بن ثابت معنا، فمر بنا يهودي يطوف بالحصن، فقلت لحسان: مثل هذا لا آمنه على أن يدل على عوراتنا، فقم فاقتله قال: يغفر الله لك لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فاحتجزت - شدت وسطها - وأخذت عمودا ونزلت، فضربته حتى قتلته.
وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام" رواه مسلم. وكانت رفيدة الأنصارية تحرج للمعركة لتداوي الجرحى، وتسقي العطشي، فكان لها خيمة تداوي فيها الجرحى، وتحتسب ذلك عند ربها، وعندما أصيب سعد بن معاذ في معركة الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب".
وقد شاركت المرأة المسلمة في صدر الإسلام بالحدث السياسي، فهذه زينب بنت رسول الله، أسلمت قبل زوجها، وفرق الإسلام بينها وبينه، وعندما حصلت معركة بدر كان أبو العاص بن الربيع في صف قريش ضد المسلمين، فوقع في الأسر، ولما علمت زينب بذلك بعثت بقلادة لها لتفتدي بها زوجها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرف أنها لزينب، فرق لها وقال:"إن أردتم أن تطلقوا لها أسيرها. فأطلقوه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتيه بزينب من مكة، وحاول أهل زوجها منعها من ذلك، ولكنها استطاعت أخيرا أن تلحق بأبيها مع زيد بن حارثة، وبقي زوجها العاص بن الربيع بمكة حتى خرج مرة تاجرا إلى بلاد الشام، فلقيته سرية للرسول صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وقفل هاربا حتى دخل على زينب تحت جنح الليل، فاستجار بها، فأجارته، وجاء في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الصبح، فكبر و كبر الناس صرخت زينب من صفة النساء، وأخذت تقول: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. قال: فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، أقبل على الناس فقال: أيها الناس؛ هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم أنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له. وخرج إلى المسلمين، فقال لهم: إن أردتم أن تردوا عليه ماله أو أن تأخذوه، فهو فيء الله، وأنتم أحق به. فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، ثم قفل راجعا إلى مكة، وأدى إلى كل ذي مال حقه، ثم قال: يا معشر قريش هل بقي لأحد عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا! فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما قال: أما أنا، فأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول الله يطلب زوجته فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه"
وقد أجارت أم هانئ بنت أبي طالب عام الفتح رجلا، وقد أراد أخوها علي بن أبي طالب أن يقتله، فجاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: زعم ابن أبي وأمي علي
أنه قاتل رجلا أجرته - فلان بن هبيرة - فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". رواه البخاري ومسلم.
وقد تصدت المرأة بشجاعة وجرأة للحكام، فوقفت في وجوههم لتقول الحق، فهذه أسماء بنت أبي بكر يدخل عليها الحجاج عندما قتل ولدها عبد الله بن الزبير، فيقول لها: إن ولدك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به ما فعل. فقالت له: كذبت والله لقد كان بارا بوالديه صواما قواما فلقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه سيخرج من ثقيف كذابان، الآخر منهم شر من الأول وهو مبير". أما الكذاب، فقد رأيناه وأما المبير، فلا أخالك إلا إياه، فلقد أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
وقد كان رسولنا الكريم يرفع من شأن النساء سواء كن زوجاته أم بناته أم نساء المؤمنين عامة، فقد كان الأب الحاني، والزوج الرفيق بزوجاته، والقائد الحكيم المتواضع، وقد سار أصحابه من بعده على نهجه في إعلاء شأن النساء.