الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رائد الإبداع طيب الأثر إشارات وعبر من سيرة ومؤلفات الشيخ بكر
محمد بن عبد الله الذياب
الشيخ د. بكر أبو زيد رحمه الله عَلَمٌ بارز ومؤلف متميز، وفقيه مبرِّز، كان غيوراً على التوحيد، غيوراً على الحرمات، غيوراً على أعراض المسلمين، غيوراً على نساء وبنات المسلمين، غيوراً على لغة القرآن، غيوراً على طلبة العلم من التخبُّط، غيوراً على أهل العلم من الانجرار وراء الألقاب والتسميات التغريبية، غيوراً على ناشئة المسلمين من التربِّي في أحضان المدارس العالمية، غيوراً على ألسنة المسلمين من التفوُّه بما لا يجوز ولا يليق، غيوراً على منهج السلف، غيوراً على الأمة من التحزب والتفرق، غيوراً على أعراض العلماء والدعاة.
كان الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله مجموعة من التخصصات اجتمعت في رجل؛ فهو الفقيه، والأصولي، واللغوي، والنّسَّابة، والمحدِّث، والأديب، والمؤلف المعتز بعربيته (لغة القرآن) المدافع عن التوحيد والسُّنة.
كان الشيخ بكر رحمه الله صاحب مواقف عظيمة؛ فلم يدع مجالاً يهم المسلمين وأهل العلم وطلبته - صغاراً وكباراً - إلا طرقه مؤلِّفاً وموجِّهاً وصادعاً بالحق ومبيِّناً الصواب - كما يراه - ومحذِّراً من المخاطر بنظرة العالم الخبير المشفق الحريص على دينه وأمّته ولغته وناشئة المسلمين وأعراض المسلمات وأعراض أهل العلم؛ فجاءت مؤلفاته شاملة حاوية لعدد من العلوم مراعياً فيها حاجة وواقع المسلمين ونوازل الأمة.
بين الإمام ابن القيم والشيخ بكر أبو زيد رحمهما الله:
لمَّا كان شيخ الإسلام الثاني والإمام الرباني ابن قيم الجوزية صاحب تآليف متميزة، وأساليب مشرقة، وأطروحات مبرِّزة، عاش الشيخ بكر رحمه الله معه في كتبه ردحاً من الزمن متأمّلاً، ودارساً، ومحقّقاً، ومنقّباً، ومقرّباً لعلومه - فعالم كابن القيم يستحق دراسات متعددة ومتنوعة - فعاش معه الشيخ رحمه الله سنين عدداً. قال الشيخ متحدّثاً عن ذلك في كتابه (تقريب علوم ابن القيم ص 11):(وقد عشت مع ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - زمناً مديداً بقراءة عامّة مؤلَّفاته المطبوعة البالغ عددها فيما وصل إليّ علمه: اثنين وثلاثين مؤلفاً منها ما يتكوّن من مجلدات، ومنها الرسالة في عدد من الملازم، ومنها ما بين ذلك. وقد منّ الله عليّ بقراءتها جميعها في زمن متصل، ومنها ما سبقت قراءته في أوائل الطلب) ا. هـ.
ثم تخصّص به وتخرّج على مؤلفاته بعد معيشته معه سنوات أخرى في (العالمية) فأخرج مؤلَّفاً متميزاً جَمَعَه من كلام ابن القيم سمّاه (الحدود والتعزيرات عند ابن القيم) ولم يكتف بذلك، وكيف لمن علت همته وتطلّعت للمعالي نفسه أن يقف عند حد في طلب العلم الشرعي؟ بل عاش سنوات أخرى مع ابن القيم حتى أخرج دُرّة نفيسة وسَمَها بـ (أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية) فنال بها - ما يحب أن يُطلَق عليه بعيداً عن بهرجة الألقاب وتغريبها - درجة (العالمية العالية) وهي ما تُعرف في الأوساط الأكاديمية بالدكتوراه، وغدا الشيخ بكر رحمه الله متخصّصاً في ابن القيم؛ حيث قام بتقريب علومه بدرّته البديعة (تقريب علوم ابن القيم) وألّف عنه مؤلَّفاً متميزاً جميع فيه شذرات ودرراً من سيرته، وحصر مؤلفاته، فكثير ممن جاء بعده يحيلون على ما كتبه الشيخ بكر عن ابن القيم، وهذا من إنصافهم جزاهم الله خيراً، ووسم كتابه بـ (ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده). وهو صادر عن دار العاصمة، ووعد الشيخ بأنه سيخرجه في طبعة جديدة تكون ضمن مشروع) آثار ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال) وذلك في الطبعة القادمة لوجود زيادات وإضافات عنده على الطبعة الأولى.
معالم في مؤلفات وشخصية الشيخ:
لقد كان الشيخ بكر رحمه الله يتمتع ويتميز بمجموعة من الصفات في مؤلّفاته وشخصيته، وقفنا عليها من خلال ترجمته اليسيرة، وما سمعناه وقرأناه عنه قبل وبعد وفاته، فمن تلك المعالم والصفات البارزة في مؤلفات الشيخ:
التميّز: أخذ الشيخ بكر على نفسه أن يكون متميزاً في طرحه ومؤلّفاته. ومن جوانب التميّز عند الشيخ: تميّزه في المقدمات التي يكتبها لبعض المؤلّفات أو التحقيقات التي يطلب أصحابها من الشيخ كتابة تقديم لها؛ لمكانته العلمية عند أهل العلم؛ حيث قام الشيخ بالتقديم لعدد ليس بالقليل من الكتب، وأذكر منها:
1 -
تقديمه لـ (تفسير السعدي) طبعة دار ابن الجوزي، بعناية سعد الصميل.
2 -
تقديمه (للموافقات) تحقيق الشيخ مشهور سلمان.
ومن الفوائد التي تهم القارئ في هذا الباب (التقديم للكتب) ما حدثني به الأستاذ سعد الصميل (صاحب دار ابن الجوزي، والمعتني بتفسير السعدي الذي طبعته الدار) حيث قال: بعد الفراغ من تحقيق الكتاب أعطيت الشيخ بكر نسخة من الكتاب - قبل طباعته - لينظر فيه ويقوم بكتابة مقدمة له، فمكث عنده فترة طويلة، ولمَّا كلمته في ذلك، قال لي:(إن مسألة التقديم والكتابة لأي كتاب - عندي - ليست بالأمر الهيّن؛ فإن من يريد أن يقدم لكتاب ما لا بد أن يأتي بشيء جديد يفيد القارئ وإلا فلا يُتعب نفسه).
وأُحيل القارئ الكريم على مقدمات الكتب التالية مما دبّجه الشيخ - عليه رحمة الله -: كتقديمه الرائع لكتاب (الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية) المطبوع ضمن مجموعة (مؤلفات وآثار شيخ الإسلام ابن تيمية) وهو مجلد كبير حوى تراجم من كتب مطبوعة ومخطوطة عن شيخ الإسلام، فقدّم الشيخ للكتاب بمقدمة بلغت نحو ثلاثين صفحة. ومنها ما كتبه مقدِّماً لكتاب (الموافقات) للشاطبي الطبعة التي حقّقها الشيخ مشهور سلمان وطُبعت في ستة مجلدات، فجاءت مقدمة الشيخ مدخلاً حافلاً يليق بالكتاب والعمل الذي بذل فيه المحقق جهداً مباركاً.
التميز في الأسلوب الراقي في الكتابة:
يقول عنه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب الشيخ بكر (حلية طالب العلم) الشريط الأول: (
…
إن كلامه في غالب كتبه كلام يدل على تضلّعه في اللغة العربية، والذي يظهر أنه لا يتكلف ذلك؛ لأن الكلام سلس ومستقيم؛ وهذا يدل على أن الله - تعالى - أعطاه غريزة في اللغة العربية لم ينلها كثير من العلماء في وقتنا، حتى إنك لتكاد تقول: هذه الفصول كمقامات الحريري وهي معروفة
…
) ا. هـ.
والشيخ ابن باز أيضاً قُرِئ عليه عدد من كتب الشيخ بكر ويثني على أسلوبه في الكتابة (1)، فقد قال الشيخ (محمد الموسى) مدير مكتب بيت الشيخ ابن باز رحمه الله -:
…
وكان يَعجَب كثيراً من أساليب صاحب المعالي العلَاّمة الشيخ بكر أبو زيد، وكان يقول متعجباً: من أين يأتي الشيخ بكر بهذه الأساليب والتراكيب؟) (2) من المعالم المتميزة والبارزة في كتابات الشيخ بكر رحمه الله (جانب الغَيْرة) ونميِّز فيه:
(1) قال الشيخ (محمد الموسى مدير مكتب بيت الشيخ ابن باز رحمه الله: ( .. ومن الكتب التي قرأتها على الشيخ - من كتب الشيخ بكر أبو زيد -: (الإبطال، درء الفتنة، بدعة اليوبيل، بطاقة الائتمان، أدب الهاتف، حد الثوب والإزرة، تصنيف الناس .. ).
(2)
جوانب من سيرة الشيخ ابن باز لمحمد الحمد، ص 263.
أولاً: الغيرة على القرآن: إن غيرته على لغة القرآن (اللغة العربية) بارزة وظاهرة في طريقته وأسلوبه ومحافظته على الألفاظ والصياغات التي يكاد ينفرد بها، كذلك حرصه على تحذير أهل العلم من الانجرار خلف الألقاب المستوردة كلقب) الماجستير والدكتوراه) (1)، والرمز بحرف (د) قبل الاسم على طرَّة الكتب والمؤلفات والمقالات؛ كذلك ألَّف رسالته الفريدة «تغريب الألقاب العلمية).
ثانياً: غيرته على أعراض المسلمين ونسائهم على وجه الخصوص؛ حيث ألف واحداً من أروع وأوسع مؤلفاته قَبولاً وانتشاراً، وهو كتاب (حراسة الفضيلة) الذي طُبع منه حتى طبعته الرابعة 500 ألف نسخة، كما ذكر ذلك الشيخ نفسه في مقدمته للطبعة الخامسة التي طبعتها دار العاصمة عام 1421 هـ.
ثالثاً: غيرته على أعراض العلماء والدعاة، فقد تصدّى رحمه الله لتلك الفتنة بمؤلَّفه:(تصنيف الناس بين الظن واليقين) ومن براعة الشيخ وورعه أنه لم يتعرض لأحد باسمه، بل نَقَد المسلك والطريقة، وحذّر منهما بأسلوب رفيع نفع الله به.
ومن المعالم البارزة عند الشيخ: جانب التواضع:
التواضع من صفات العلماء الراسخين في العلم، وقد حصل الشيخ بكر على مراتب علمية أكاديمية متقدمة، فحصل على لقب:(العالمية) و (العالمية العالية) كما يُحب أن يُطلق عليهما في كتاباته، وهما في المصطلح العلمي المعاصر (الماجستير) و (الدكتوراه)، ومع هذا لم يكن يصف نفسه بها ولا يقدّم تلك الألقاب أمام اسمه عند طباعة كتبه، ولا يضع لفظة (الدكتور) ولا يرمز باختصارها (حرف الدال) وقد سبق أن له رسالة في علاج ونقد هذه الظاهرة وهي:) تغريب الألقاب العلمية (
ومما يدل على تواضعه، بل دقّته - عليه رحمة الله -: أنه كان يكتب على مؤلفاته العبارات التالية: بعضها عبارة:) تأليف
…
(وهو ما قام بتأليفه، مثل: كتاب) تصحيح الدعاء) وكتاب (طبقات النسّابين (.
وبعضها عبارة:) قرأه) كما في كتاب) الجدّ الحثيث في بيان ما ليس بحديث) ولعله يريد رحمه الله أنها مَنْزِلة أقل من) تحقيق، أو حقّقه) وقد ذكر فوائد في ذلك انظرها للفائدة في (ص 6) من الكتاب نفسه، طبع دار الراية ط (1) 1412 هـ.
من المعالم البارزة في شخصيته: علو الهمة في الترقّي في مدارج العلم:
بدأ الشيخ دراسته الشرعية النظامية في كلية الشريعة فتخرج فيها، ثم عُيّن قاضياً في محكمة المدينة النبوية، ولم يقف عند هذا الحد مع ما في عمل القضاء من متاعب وصعوبات، إلا أن ذلك لم يثنه، بل واصل دراسته وحصل على ما يحب أن يطلق عليه في كتاباته: درجة (العالمية) الماجستير) وقدّم أطروحته في جانب الرجل الذي أحبّه وتخصّص به الإمام (ابن قيم الجوزية) وكان عنوان تلك الدراسة:) الحدود والتعزيرات عند ابن قيم الجوزية؛ دراسة موازنة) طُبِعَ في دار العاصمة عام 1415 هـ في مجلد واحد.
(1) تنبيه هام: قال الشيخ بكر في كتابه: (تغريب الألقاب العلمية (ص 41 (، وأخيراً، فلا يحسبن أحد أنني بهذا أدعو إلى التأخر عن نيل مثل هذه الرتب العلمية، لا وكلا، بل أرى ما فوق ذلك وهو أن يجدّ الطالب في الترقي إلى أقصى درجات الطلب وأن يهب حياته ويتفانى في سبيل العلم وخدمته، ولكن لا ينبغي لنا بحال أن نتعلق بالشكليات، وزُخرف الألقاب فقيّم الناس على حسب ألقابهم؛ فإن هذا من خَطَل الرأي المنتج لإسناد الأمر إلى غير أهله؛ إذ الأمور مرهونة بحقائقها، فالعبرة بجوهر الإنسان ومعناه لا بزخرف لفظه ومبناه؛ وبهذا نَسْلم من الدخول في قالب سجناء الألفاظ) ا. هـ
وتعالت همّة الشيخ مع علوّها وتسامت مع سموّها مكتسبة من ابن القيم قدوة، وانبعثت الآمال لمواصلة المسيرة في المجال نفسه؛ كما أفصح في مقدمة كتابه الذي عنون له بـ:(أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية؛ دراسة موازنة) صدر عن مؤسسة الرسالة ط (1 1416 هـ)
وواصل الشيخ بحوثه وإبداعاته في نشر العلم ما بين تأليف، وتحقيق، وعناية، وإخراج لبعض الكتب في جوانب مختلفة من علوم الشريعة في مخاطبة شرائح المجتمع بمختلف طبقاته (عامة، طلبة علم، مثقفين، علماء، متخصصين
…
) وإن الناظر في مسرد مؤلفات الشيخ يأخذه العجب من تلك الشمولية والتنوع في فنون متنوعة حباه الله إياها.
ولم يقف عند هذا بل واصل في مجال خدمة العلم وتوجيه الطلاب عن طريق الإشراف على الرسائل العلمية (الماجستير والدكتوراه) فقد أشرف الشيخ على عدد من الرسائل وطبع شيئاً منها وقدَّم لها (1). قال الدكتور عبد الرحمن الأطرم في مقدمة رسالته للدكتوراه (الوساطة التجارية) التي أشرف عليه فيها الشيخ بكر أبو زيد، قال عنه ص 17: (
…
فهو الذي وضع يدي على هذا الموضوع وأشار عليّ به وأرشدني إلى جملة من مظانه، وقَبِل الإشراف عليه بصدر رحب، وكان كلما وجد مسألة تتصل بهذا البحث زوَّدَني بها، فاكتسبت من مجالسته العلم والأدب والتوجيه والإرشاد وعرفت منه النصح والغيرة فَشَكَر الله له وأعظم أجره)
وواصل خدمته للعلم وأهله في مجال آخر؛ وهو الإشراف على المشاريع العلمية القيّمة التي أخرجها مَجْمَع الفقه الإسلامي، بتمويل من مؤسسة سليمان الراجحي الخيرية - جزاهما الله خيراً - فكان الشيخ بكر مشرفاً على تلك المشروعات ومتابعاً وموجّهاً لمن يقومون بالعناية والتحقيق لتلك المجاميع العلمية المباركة، مع التقديم والمشاركة فيها أيضاً، وقد صدر منها الآتي:
1 -
آثار شيخ الإسلام وما لحقها من أعمال) وطُبع في أحد عشر مجلداً، وشارك الشيخ في هذه المجموعة بمؤلَّف - يُعتبر من آخر ما كتبه قبل مرضه الذي أقعده عن كثير من الأعمال - سمَّاه:(المدخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال) في مجلد صغير.
2 -
آثار ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال) المطبوع في ثمانية عشر مجلداً، وقد قدّم الشيخ بكر لذلك المشروع بمقدّمة ضافية مفيدة حول هذا المشروع، تهم طالب العلم كما في المجلد الأول من (بدائع الفوائد) ضمن تلك السلسلة.
3 -
آثار العلَاّمة محمد الأمين الشنقيطي) وطُبع في تسعة عشر مجلداً حوى آثار ومؤلفات ذلك العَلَم الذي أراد الشيخ بكر أن يرد له شيئاً من جميل ما حباه به من علم وأدب ووقت وإفادات حصّلها وتلقّاها على يديه مدة ملازمته التامة له؛ عندما كان قاضياً في المدينة النبوية ما يقارب عشر سنوات، فبرّ التلميذُ بشيخه، عليهما رحمة الله.
(1) من ذلك كتاب: (التأخير وأحكامه في الفقه الإسلامي) رسالة دكتوراه تأليف د. محمد العيسى مطبوعة في مجلدين. وكتاب (الوساطة التجارية في المعاملات المالية) رسالة دكتوراه تأليف د. عبد الرحمن بن صالح الأطرم.
ونأمل من مجمع الفقه الإسلامي الذي رأسه الشيخ بكر قرابة خمسة وعشرين عاماً، والذي تبنّى طباعة تلك المشروعات العلمية التي أشرنا إليها؛ لأنها من ضمن الأهداف التي قام من أجلها المجَمْع، وكذلك نأمل من مؤسسة سليمان الراجحي الخيرية التي قامت - مشكورة - بتمويل تلك المشروعات، نأمل منهما أن يقدّما لأهل العلم وللشيخ بكر رحمه الله بعد وفاته خدمة وشكراً عمليين مقابل جهوده في المَجْمَع والمؤسسة؛ يمدّ في أجره، ويسهّل على الباحثين والمحبين والراغبين في مطالعة إرث الشيخ العلمي؛ فيقوموا - فضلاً لا أمراً - بتبنّي مشروع (مؤلفات وآثار العلَّامة بكر أبو زيد) لتكون ضمن هذه السلسلة، وذلك لما تحمله مؤلفاته من فائدة وعلم وأصالة شهد له بها أهل العلم، والقبول والانتشار الواسع لها.
من المعالم البارزة في شخصية الشيخ: صبره وجَلَده على تلقِّي العلم وتحصيله:
إن الجمع - في تحصيل العلم - بين الدراسة النظامية في الكليات الشرعية وبين ملازمة المشايخ في حِلَق العلم في دروسهم وفي المساجد، قلّ من يستطيعه، وقد كان الشيخ بكر رحمه الله ممن أخذ في هذا الباب وضرب فيه بحظ وافر؛ إذ عُرف واشتُهر عنه ملازمته لشيخه محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، فلم ينقطع عنه ولم يتخلف عن دروسه. يقول عنه د. عبد الرحمن السديس في كتابه (ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان) (ص215) معدّداً تلاميذ الشيخ:(الشيخ بكر أبو زيد: صاحب التصانيف الكثيرة، الباحث المحقق، لازم الشيخ رحمه الله عشر سنين، ودرس عليه بعض مذكراته في الأصول وآداب البحث والمناظرة دروساً خاصة في المسجد وفي منزله رحمه الله ودرس عليه كتابَيّ ابن عبد البر (القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم وأول من تكلم بالعربية من الأمم) و (الإنباه على قبائل الرواة) وقيّد عليهما بعض التحريرات من دروس الشيخ والنكات والضوابط العلمية)
ويقول الشيخ السديس أيضاً: حدثني عبد الله ابن الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله أن أباه قال للشيخ بكر: (ما أخذ عني علم الأنساب في هذه البلاد غيرك).
وحدثني - القائل د. السديس - الشيخ الدكتور محمد الحبيب، قال:(لقد شاهدت الشيخ بكر أبو زيد يحضر حلقة الشيخ في التفسير في رمضان لم يتخلف يوماً واحداً) ا. هـ.
من المعالم البارزة في شخصية الشيخ: المعايشة والتفاعل مع الأحداث والواقع:
كان الشيخ بكر ابن عصره ورجل واقعه، ومراقب أحداثه، فلم يكن بعيداً ولا منعزلاً عن تلك الأحداث والنوازل التي تُطل برأسها حيناً بعد آخر؛ فكانت له مشاركات متنوعة ووقفات راشدة وسَبْر وتحليل لِما يمرّ بالمجتمع، مع ما عرف عنه من عزلة وعدم رغبة في كثرة مخالطة الناس؛ لا ترفعاً ولا تعالياً حاشاه، لكنه اختار طريقاً رآه أنفع؛ يجد نفسه فيه وينفع من خلاله، وقد حصل له ما أراد، بل كانت عنده قناعات شخصية تُحترم وجهة نظره فيها، ومن ذلك أنه عُرض عليه المشاركة في البرامج التي تُقدَّم في إذاعة القرآن الكريم، وفي برنامج (نور على الدرب) حيث عرض عليه الشيخ ابن باز رحمه الله المشاركة، ثم عرضها عليه الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وكان الشيخ يعتذر عن المشاركة، بل حتى في مرضه لم يكن يحب أن يتوافد الناس عليه وتكثر الجموع عنده في بيته أو في المستشفى؛ كل ذلك فراراً من الشهرة والأضواء، بل قيل عنه:(إنه كان عدو الشهرة) يرفضها ويدفعها ويهرب منها.
وعَوْداً على ما ذكرنا من أن الشيخ كان يعيش عصره وواقعه رغم انشغاله بأعماله العلمية الرسمية والشخصية وبالعلم، والتأليف، والتحقيق، والقراءة، رغم ذلك لم يكن غائباً؛ لا تحرّك فيه النوازل والأحداث التي تمر ببلده أو بالمسلمين شيئاً؛ بل كان كثير من مؤلفاته انعكاساً وأثراً لحدث أو مناسبة أو ظاهرة تحتاج منه وقفة وكلمة. فعلى (1) سبيل المثال لمَّا قامت الحملة الجائرة على طلبة العلم والدعاة؛ تصنيفاً وتجريحاً وتبديعاً وتفسيقاً، تصدّى لها بكتابه (تصنيف الناس بين الظن واليقين) ولما رفع دعاة تحرير المرأة عقيرتهم وأجلبوا بخيلهم ورجلهم في كلام على المرأة ووضعها في بلاد الحرمين، قام الشيخ قومة الشجاع النِّحْرير صادعاً بالحق ورادّاً على أهل الباطل بمؤلَّفه القيِّم (حراسة الفضيلة) حتى أُطلق على الشيخ في حياته وفيما كُتب عنه بعد مماته - نثراً وشعراً - (حارس الفضيلة) وما ذاك إلا لِما تركه كتابه من أثر نفع الله به نفعاً كبيراً. ولمَّا كَثُر التجنّي على بلاد الحرمين وضرب التغريب أطنابه ورُميت عن قوس واحدة، وأصبحت العولمة - أو كما أطلق عليها الشيخ في بعض كتبه: الشوملة والكوكبة - على الأبواب، قام الشيخ في الأمة بمؤلَّفه الرائع (خصائص جزيرة العرب) ذاكراً الضمانات الهامة لحفظ هذه الجزيرة من الأخطار المتنوعة.
ولمَّا رأى الخلط والتلبيس في الشرائع والدعاوى الجائرة على عقيدة التوحيد، وشريعة الإسلام وتكلم المنهزمون ودعاة التقريب بين الأديان، وقف سداً منيعاً جاهراً بما يدين الله به مما هو الحق وسواه باطل، وأبطل تلك النظرية بصاعقته المرسلة وشهابه الثاقب كتاب "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان "
ولمَّا رأى - وذلك في بدايات بروزه في مجال التأليف - التخبّط والعِثار الذي أصاب بعض طلبة العلم وعدم وضوح الرؤية أو المنهج العلمي، ألَّف رسالته (حلية طالب العلم) موجّهاً ومربّياً وناصحاً ومرشداً.
ولمّا رأى الانبهار بالألقاب العلمية التغريبية والركض خلف تلك المسميات، أخرج رسالته (تغريب الألقاب العلمية)
ولمّا خشي على الألسنة من المحرَّم والمكروه، ورأى أن هذه الجارحة الخطيرة دبّ إليها المحرَّم وفاهت بالمكروه واستمرأت التساهل، وظهرت الأسماء والمصطلحات غير اللائقة، أخرج واحداً من أجمل وأبرز مؤلّفاته وهو (معجم المناهي اللفظية)
وأما في مجال التخصّص الفقهي - وهو مجال الشيخ الرّحب - فقد كان مؤسِّساً ومؤصِّلاً ومشاركاً في نوازل الأمة بكتابه (فقه النوازل) الذي دَرَس فيه عدداً من المسائل النازلة.
وفي واحد من المجالات الخطيرة والهامة التي تحتاج شجاعة وعلماً وفقهاً وطول تتبع واحتساباً وأمانة علمية، كان سداً منيعاً في وجه المحرِّفين والعابثين والمعتدين على كتب التراث.
فجُمعت جهوده في هذا الباب في مؤلَّف كبير حوى عدداً من الكتب سمَّاه (الردود) والواقف عليه يرى فيه دقة وشمولية وطول نَفَس وغَيرة.
وخاتمة المقال ومِسْكه: أن المؤلَّف الذي يصح أن يقال عنه (كل الصيد في جوف الفَرَا)(2) من بين مؤلّفات الشيخ في تقديري، والذي أوضح جوانب متنوعة في شخصيته وأفرز خبرته وعلمه وعقليته وطول باعه وسعة اطلاعه وتَمكُّنه من المذهب الحنبلي هو كتابه:(المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد) ومتمِّمُه كتاب (علماء الحنابلة من الإمام أحمد المتوفى سنة 241 وحتى وفيات عام 1420 هـ).
ختاماً:
(1) هذه الفكرة، والعرض استفدتهما من د. وليد الرشودي - جزاه الله خيراً - في حديثه عن الشيخ بكر رحمه الله في يوم وفاته عندما عرضت عنه حلقة خاصة في قناة المجد في برنامج خبر وتعليق.
(2)
الفَرَا: حمار الوحش.
في الكلام على هذا المعْلَم وهو تميّز الشيخ في جانب التأليف والتحقيق أقول:
لقد ترك الشيخ بكر رحمه الله للأمة إرثاً عظيماً، وثروة قوامها خمسون كتاباً تقريباً، كتبها بعصارة جهده، وأفرغ فيها خبرته وتجاربه، وأوسعها علماً وفقهاً وأدباً وبحثاً، وفوائد نادرة، وطول باع وسعة اطلاع وتبحُّراً قلَّ أن يأتي مثله في زمان ضعفت فيه الهمم، فحري بمعاشر طلبة العلم ومحبي الشيخ ومنهج السلف أن يشمّروا تشميرين:
الأول: في تقصّي وتتبُّع وجَمْع هذه المؤلَّفات؛ وهي مبذولة موجودة في دور النشر، وغيرها مما لم يُطبع، ولعل الله أن ييسر خروجها؛ فقد أشار الشيخ في كتابه (النظائر)(ص 13 - 16) إلى عدد من الكتب التي لم تر النور.
والتشمير الثاني: تشمير الجادّين الشادّين في قراءتها وتدريسها والإفادة منها في طريقة الشيخ وأسلوبه في التأليف وتميّزه ومنهجيته العلمية بحثاً وتأصيلاً ودقّة وأدباً وحُسن عرض وإشراقة بيان.
لقد كان الشيخ - وأرجو أن لا أكون مبالغاً - مدرسة علّمت الكثير؛ بسيرته وكتبه وكتاباته ومواقفه، وما زالت، وستبقى - بإذن الله - فلعل الفائدة المرجوَّة لم تأت وتتكامل بعد. ولعله بعد وفاته يُعرف أكثر وتُعرف قيمة مؤلفاته والمنهج الذي سار عليه ورسمه، فتتم الإفادة من علمه من قِبَل طلبة العلم وناشئة المسلمين، والمؤلفين وغيرهم
…
عليه رحمة الله.
المصدر: مجلة البيان